الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/نوابغ العصر

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/نوابغ العصر

بتاريخ: 1 - 12 - 1913


أحمد بك شوقي

2

تكلمانا في العدد الماضي - وكنا بصدد من اعرية شاعرنا النابغة أحمد بك شوقي_عن الشاعر ومكانه من الجماعة، وجئنا بكلمة طيبة في ذلك لكاتب شاعر من خيرة كتاب المغرب الشعراء، ولما كنا قد اعتزمنا أن نكتب فصولاً عدة في شاعرية أمر الشعراء ونبوغه وآرائه وشعره وأدبه مما ليس في مكنتنا أن نلم به في فصل أو فصلين، رأينا من الفائدة أن نبدأ بفصل في الشعر وماهيته وتاريخ تطوره، وموازنة الشعر العربي بالشعر الغربي، وتقدير الأمم قدر شعرائها، حتى ينبسط لنا الكلام في موضوعنا الذي اجتمع رأينا على الاستفاضة فيه وتناوله من أجزائه وصميمه.

الشعر هو ذلك الفن الوجداني الذي يصور أدق شعور النفس، ويمثل كامن مشاعرها، وعظيم وجداناتها، ويبسط أحوال العالم بمظاهره الكامنة، ومعالمه الظاهرة، ويمرح بالفكر بين وادي الحس ووادي الخيالن ويظهر للعيان أرواح العصور والأجيال، بين أنة يصعدها موجع، ودمعة يذرفها محزون، ونغمة يصدح بها مبتهج، وشكاة يبديها مظلوم، وكلمة كبيرة يصدرها حكيم، وضحكة ظهرها طروب، ولوعة يجدها عاشق.

ولا تجد في تاريخ الإنسانية عصراً خلا من شعر له، فإن المخيلة أبداً تعملن ومشاعر النفس أبداً تنفّس عنها بالظهور، مما يثبت أن الإنسان خلق بطبيعته شاعراًن وأن الشاعرية كامنة فيه كمون النار في الصفاة، لا يعوزها للظهور إلا ما يعوز صاحب الجرس الحلو من توازن النبراتن وانتظام النغم، وخفة التقطيع وطيب الأوزان. ومن المعاني المستنبطة من توليد القريحة وابتكار المخيلة، والإفتنان في التعبير بما يقع من المجاز والكناية، فإن في انتظام النبرات ما في أغاريد الهزار وخرير الأمواه وحمحمة الجياد من تأثير، كما أن في بواكر المعاني أثراً غريباً في النفس، شأن كل جديد غير مرتقبز وكذلك فإن في أساليب الإستعارة والمجاز والكناية أعمالاً للفكر ينطبع له المعنى في الذهن بأشد مما لو كان صريحاً لا يحتاج الفكر في فهمه إلى شيء.

وقد تبع الشعر سنة التطورن وكان تطوره من التماثل إلى التباين، فقد كان الش والموسيقى والرقص أجزاء لشيء واحد، فصارت على ممر العصور كما نراها الآن منفصلة بعضها عن بعض، وأصبح كل منها فناً قائماً بذاته، وأنك لتجدها حتى اليوم متماثلة متحدة بن القبائل المتوحشة، فإن رقص الهمجيين لا بد من أن يصحبه نشيد متشاكل النغم، وتصفيق بالأيدي وقرع الدفوف، أي أن هناك حركات موزونة وكلمات موزونة ونغمات موزونة، ومن نظر إلى تاريخ الشعوب القديمة الأثرية رأى هذه جميعاً متحدة في الأعياد الدينية، وقد جاء في المدونات العبرية أن نشيد النصر الذي نظمه موسى في هزيمته للمصريين تغنوا به على الرقص وقع الطبول. وكان بنو اسرائيل ينشدون ويرقصون ويتغنون يوم اتخاذهم العجل الذهبي.

ولما كانوا قد أخذوا العجل الذهبي عن (آبيس) معبود المصريين فلا جرم أن المصريين كانوا يفعلون فعلهم في الحفلات الدينية، وكذلك كان اليونان في أعياد آلهتهم وأبطالهم، وكان للرومان أعياد دينية يقيمونها رقصاً وإنشاداً وغناء، وفي بعض الشعوب المسيحية التي جاءت بعد هؤلاء كان الأهلون يقيمون حفلة راقصة منشدة تبركاً بالقديس، وقد بدأت هذه الفنون تنفصل بعضها عن بعض، ثم تنفصل عن الدين في عهد اليونان، فقد اتخذوها بعد ذلك في حروبهم، وابتدأ الشعر والموسيقى مجتمعين ينفصلان عن الرقص.

وأنشأ الشاعر ينظم القصيدة فإن كانت مطولة ألقاها إلقاء، وإن كانت قصيرة غناها.

وكان الشعر مع ذلك يتطور في نفسه ويتدرج تبعاً لتطور العالم وارتقائه، فقد كانت اشعار الإنسان بل الشاعر الأول أناشيد روحانية تدور حول الخالق والخلق. وكان العالم قفراً يباباً، وكان فكر الإنسان مذهولاً متلدداً بين السماء والأرض، فلما زادت الخيرات وخرج الإنسان عن أنانيته وحيوانيته فأصبح حيواناً اجتماعياً، وامتدت حدود الاجتماع فصارت العشيرة قبيلة وصارت القبيلة أمة، وتطورت جماعات المدينة إلى جماعات الأقليم، وتطورت جماعات الأقليم إلى جماعة الشعب، وشرع الكاهن والملك يلعبان دورهما في تاريخ الأنسلية، فأنشئت الأمارات وقامت الممالك، ثم بدأ العالم من جراء التكاثر يزدحم، وراح كل شعب يصطدم بجيرانه، فوقعت من ذلك الحروب والغارات، وولدت الحروب أمثال هوميروس، فكان الشعر هو مرآة لكل تلك الأمور، وانتقل من حد بيان الخواطر والمشاعر إلى وصف الحوادث وتصويرها، فكان منه التاريخ، وتدوين الوقائع، وتسطير الحكايات والخرافات، ثم دخل العالم بعد ذلك في حال جديدة فتوارت الآلهة أمام العقائد الصحيحة، ووضعت آساس المدنية الحقة، فتحولت أخلاق الإنسان وتهذبت مداركه وأصبح الشعر بعد ذلك أقرب إلى الحقائق وأدنى إلى المعقول.

وكأنما العالم راح بعد ذلك منهوك القوى من أثر المدنيات الأولى، فأقبلت عليه العصور المظلمة، وأرخت عليه سدولها، فنام الشاعر وسكنت أغاريده وتنوسى هوميروس وإلياذته، وفرجيل وإينيادته، وهوراس وشاعريته، وتتابعت عشرة قرون خرس كما يقول كارليل، حتى أنبتت أرض إيطالية دانتي، فأنشأ (الكوميديا المقدسة) وكان في منحاه صدى لفرجيل، وجاء بعده بترارك فنظم ملحمته (أفريقيا) وبوكاسيو وجيوتو ونكولر بيزانو، فكانوا جميعاً طلائع الشعر الغربي، ومرددي الشعر الروماني واليوناني، وتقوضت بهم حكومات الإقطاعاتن وبدأت عبادة جديدة للجمال، وأخرى للعلمن وثالثة للسياسة والمُلك، وأحدثت الآراء الجديدة في الإنسان والحياة ومقاصدها وحقوقها وواجباتها، ومباهجها وآلامها، وفي الدين والعلم وما إليهما مما له مساس بتاريخ الإنسانية، فنشأ من تلكم الآراء الإصلاح الديني الذي قام به مارتن لوثر وكالفن وجون نوكس واراسماس، ونجم عنها النظريات والآراء التي أضرمت نار الثورة الفرنسية الكبرى، ولا يزال أثر هؤلاء الشعراء باقياً في آداب الغربيين حتى يومنا هذا.

وعن هؤلاء أخذ شعراء الانجليز والفرنسيين، واقتفوا آثارهم وآثار الشعر الروماني واليوناني اللذين أخذ عنهما هؤلاء الطليان. وكان معاصراً لهم أول شعراء الانجليز شوسر، فكان له من الأدب الطلياني عالم جديد سمت فيه شاعريته إلى أوجها، وتعلم من جحيم دانتي كيف تكون الروح الشعرية، وتلقن من مقطعات بترارك صناعته، وأخذ عن قصص بوكاسيو وإبداعه في السرد، وكان شوسر يأخذ عناوين قصائد هؤلاء فينسج على منوالها، في أحسن قالب ومكانة شوسر عند الانكليز مكانة امرئ القيس عند العرب، بل أن روحيهما تكادان تتفقان من أغلب الوجوه.

فأنت ترى من ذلك أن الشعر الغربي يرجع مصدره إلى الشعر اليوناني والشعر الروماني. ولم يكن لشعراء الغرب في بادئة أمرهم إلا نوعان من الشعر أخذوهما عن اليونانية أيضاً، وهما الشعر القصصي، وهو ما يعبر عنه في الانجليزية بلفظة والشعر الغنائي، وهو ما يعبر عنه بلفظة والكلمتان مأخوذتان من اليونانية أيضاً، ومرمى النوع الأول التعبير عن مشاعر الناس وأحوالهم ومرمى النوع الثاني التعبير عن مشاعر النفس، ولكل من هذين أنواع وأقسام. فمنها الشعر الروائي واسمه في الانجليزية كقصيدة شارل هارولد أودون جوان للشاعر بيرون، والشعر الديني كقصائد ملتن، والشعر الفلسفي مثل قصيدة (الأوكسترا) للشاعر ديفس وفيها يصف العالم ويشبهه بالمرقص، وقصائده التي عنوانها أعرف نفسك وقصيدة خلود الروح. والشعر التهكمي كأشعار الشاعر سبنسر، والشعر الصوفي مثل قصيدة إبراهيم كولي عن نفسي والشعر الوطني مثل قصائد درايتون ودانيل وصامويل، والشعر الغرامي كقصيدة امورتي للشاعر درايتون، وأغنية لودج في روسالين، والشعر الحربي كقصيدة موقعة البالطيك للشاعر كامبل، والشعر السياسي كتلك الأشعار التي كانت تنظم في أيام الثورة الانكليزية، والشعر الأخلاقي مثل قصيدة الواجب للشاعر كوبر، والشعر الثوري كشعر روبرت سونى - الشاعر الحمي الأنف الأسم_في الثورة الفرنسيةن وشعر اليأس والحزن مثل قصائد الشاعر القنوط كولوريدج. وجملة القول لم يدع شعراء الغرب فرعاً من فروع الحياة إلا وجالت فيه ناضجة قرائحهمن ومرحت فيه مريعة مخيلاتهم.

ثم أدخلوا على هذين البابين وفروعهما باباً ثالثاً سموه الدراما ومعناه الشعر التمثيلي. ولهذا الباب أقسام وهي الكوميديا ومعناها الروايات المفرحة أو المضحكة. وكان يصحبها في بادئ الامر الرقص والغناء، والتراجيديا وهي الروايات المحزنة، والهستوريك أي الروايات التاريخية.

ولم تكن الدراما أواخر القرن الثالث عشر في شيء من هذه الأقسام بل بدأت في انجلترة بنوع يسمى وهذا النوع يدور حول تمثيل حوادث التوراة والانجيل وأعمال المسيح، وكانوا يمثلونها غالباً في الكنيسة أو بجوارها. ولم يكن الممثلون إلا الكهنة، ثم أخذوا بعد ذلك يمثلونها في القرى، ثم توسعوا في هذا النوع وتصرفوا فيه وسموه وأدخلوا عليه تمثيل بعض قصص عن قديس أو شهيد وكانوا يمثلون هذه جميعاً في يوم عيد الميلاد والأعياد الدينية الأخرى.

وتطور هذان النوعان المرتبطان بعد ذلك حتى كان عهد أدوارد الثالث بين 1327 و 1377 فأنشأوا نوعاً أخلاقياً جديداً سموه

وأشخاص الروايات التي من هذا النوع هي الفضائل والرذائل مثل الثبات والإرادة والكذب والنميمة وغيرها، ثم أضافوا بعد ذلك أشخاصاً أخرى مثل الغني والفقير والموت، وكان المؤلفون يربطون هذه جميعاً ويصوغونها في قصة بسيطة تنتهي بفوز إحدى الفضائل. ثم توسعوا في ذلك فجعلوا يمثلون هذه في أبطال اشتهروا بها، فيجعلون مثلاً لتشخيص العدل أريستايديس اليوناني المشهور وللقوة هيركيوليس وللفصاحة ديموستنيس وأمثال ذلك، فأنشأوا بذلك مبادئ الدراما الحقيقية.

ثم أشأوا لملهاة الجمهور قطعاً مضحكة يمثلون بها الحياة العامة وسموها ومنها تفرع النوع الهزلي الذي نشاهده في قهاوي الرقص اليوم، ويسمونه

وقد يجمعون كل هذه الأنواع في رواية واحدة، كما جمع شكسبير فروع الشعر القصصي والشعر الغنائي في رواياته التمثيلية.

ثم بدأت الدراما الأصلية، وكانت تنظم شعراً مقفي، يتخللها قطع نثرية، ثم بدأ الشاعر الانجليزي مارلو نظمها شعراً مرسلاً وجاء بعده ويليم شكسبير أنبغ نوابغ الشعر التمثيلي فأفتن في ذلك.

وسما الشعر التمثيلي في انجلترة بشكسبير كما سما في ألمانية بجيث وشيلر وضعفت مكانته بوفاته، وجعل الشعراء بعده يقلدون بدائعه فلم يظفروا. حتى كان عهد ويليم الثالث بعد كرومويل ورجوع الملكية فأخذ مؤلفو الدراما ذلك أسلوب كابرناد وسكوديري من رجالات القرن السابع عشر واقترضوا روايات كورني وراسين مزاحمه وصاحب رواية الأدعياء وموليير أشعر شعراء الكوميديا، وأخذوا عن كورني أسلوبه المسمى بالإرتباطات الثلاث وهي المكان والزمان والحدوث ومعناها أن المناظر يجب أن تكون في مكان واحد، وأن حوادث الرواية يجب أن لا تحدث في أكثر من يوم واحد، وأن لا يدخل في الرواية مالا يختص بإظهار خاتمتها. وتركوا الشعر المرسل ونظموا رواياتهم شعراً مقفى. ولكن الشاعر دريدن وهو أشعر شعراء الملكية في انجلترة عاد فاستعمله.

ولم يشتهر في انجلترة من لروايات بعد ذلك إلا رواية كاتو في عام 1713 وكان مؤلفها الكاتب المشهور ادين وقد امتدحها فولتير وأثنى عليها خيراً وقال أنها أول تراجيديا فلسفية.

واشتهر القرن التاسع عشر بنوع جديد سموه (الأوبرا) تلازم فيه الموسيقى التمثيل. وتفننوا فيه فاستعملوا نوعاً معروفاً عندهم باسم يتتابع فيه الكلام والغناء والنشيد. ونوعاً آخر اسمه اوبرابوف وهو نوع من الكوميديا.

ومن الذين اشتهروا (بالأوبرات) أمثال فردي وأشهر رواياته ارناني وعائدة وترافياتا. وكانت وفاته عام 1901 وولد سنة 1813 ولذلك عمل له في هذا العام التذكار المئيني. وجو نود ودوزنتي وبرليوز وكثيرين.

هذا ما وسعنا اليوم وسنعود في العدد القادم فنكتب في الموازنة بين الشعر العربي والشعر الغربي ثم نأخذ في موضوعنا الذي اعتزمنا إن شاء الله.