مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/فكاهات
→ الحرية | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 14 فكاهات [[مؤلف:|]] |
اعترافات سكير ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1913 |
التذكرة الصفراء
بقلم أحد كبار روائي الانكليز العصريين
منظر القصة في موسكو هناك عند ملتقى الشارع الكبير بميدان تفرسكايةز هناك حيث تمثال بوشكن قائم وعلى ميمنته الدير الكبير.
تلكم هي البقعة الطيبة، والممرح السهل، يخرج إليه عصافيره، ويختلف إليه مع الظلام أطياره، في حسن ريش، وجمال مظهر، يتراوحن في الشارع، على أنوار الحوانيت، ثم يخترقنه دافعات إلى الشارع الكبير، كأشباح تخرج من الظلمات إلى النور ثم تعود.
ذات ليلة في بكرة الشتاء وإبانه، شتاء عام 1912، كانت تروح بين هؤلاء فتاة قاصرة في ثوب دافئ بسيط، كأثواب الريفيات. مشت ممدودة الطرف إلى السابلة، منهومة العين بالمارة، كأترابها عصافير الليل، تمشي الهوينا مشيهن، وتسير متباطئة سيرهن، وإن لم يكن الوقت وقت الهوينا، ولا الحين حين بطء.
بكر الشتاء الأشهب في مقدمه. وأقبل في غير مقتبله. حتى لقد كان الهواء في نوفمبر يقذف بالجليد هذا والكواكب تتألق في صحيفة السماء. هذا والنجوم تستطع في أديم القبة الزرقاء.
ولم ينشب أن أقبل في الشارع فتى نشأ، يمشي مسرعاً مهطعاً. حتى إذا جاءها وقع البصر على صفحة وجه الفتاة وعينيها. وهي تخطرأزاء نافذة حانوت.
فاستوقفه مرآها وأقبل عليها يسأل. هل تنظرين واحداً؟
فأجابته في سكون - لا أنظر واحداً معيناً.
فعاد يسألها مبتهجاً طروباً. وهل ترضيني؟
فرنت بنظرها إليه ثم أطرقت راضية.
على أن قبولها غير في الحال هيأته. فوقف لديها لحظة حيران متردداً. ومد إليها يده. كأنما يريد أن يأخذ بذراعها. على أنه قبضها وهو يقول. يحزنني أن أكون مضطراً إلى تناول العشاء الليلة مع قوم من عشيرتي. ولقد تأخرت ولكن يجب أن ألقاك. يجب أن نتعدز فإني لم أر حسناً مثل حسنك. وأنا لا أستطيع أن أقضي الليلة معك. يجب أن أذهب الآن. فلا مناص من موعدي. فهل تقبلين أن نلتقي مساء الغد؟ فهزت الفتاة رأسها مترددة؟
قال متعجباً: ولمه. أني والله أريدك. فقد وجدت لي فيك فتنة. وأنا أريد أن أعرف كل أمرك فعديني أنك ستذهبين الآن إلى بيتك ثم نلتقي ليلة الغد. فعادت تهز رأسها وتقول. لا أستطيع أن أعدك. قال ولماذا ل تستطيعين. أتقبلين أن أدفع إليك ثمن هذه الليلة.
ثم فك أزرار معطفه وأخرج بعض أوراق مالية. فلما رأته الفتاة ارتدت عنه وتراجعت تقول كلا لا أسألك عليه مالاً.
فأجابها كيف لا تطلبين مالاً. حسبك حماقة وسخفاً. وماذا غير المال أتى بك إلى موقفك. هذه عشرة روبلات فاذهبي إلى منزلك وسألقاك غداً الساعة السابعة ونصف من المساء.
فهزت برأسها. ولكنه أمسك بيدها ودفع بالورقة في راحتهاز ثم قال: أنني ذاهب واثقاً من لقائك هنا غداً ولا أظنك. وأنت بهذه السنز تخدعين.
وانطلق مفلتاً ولم تلتفت إليه الفتاة بل وقفت برهة مترددة. ثم أخرجت كيساً لها ودفعت بالورقة في أثنائه وواصلت مشيتها. فتارة تلحظ السابلة. وتارة تقف بخلاعة مصطنعة وخلابة متكلفة. أزاء نافذة حانوت. في باهر الأضواء وساطع الأنوار. ثم لا تلبث أن تتابع مشيتها.
ومضت برهة وإذا برجل آخر يسألها: ماذا تصنعين؟ فرفعت إلى الرجل بصرها وأجابت: لا شيء.
فاسترسل يسألها وهي يماشيها إلى نور الحانوت. ما اسمك؟
قالت وهي تنظر إليه (ربكة)
فأجابها: أنت والله يهودية؟ قد كان يحق لي أن أتوسم يهوديتك في لونك وعينيك النجلاوين. على أن ليس في مظهرك ما يدل على يهوديتك وهذا الأنف الأقنى وأنت لعمري حديثة عهد بهذه الصناعة. أليس كذلك؟
فتقابل النظران
قالت بلى
فسألها هل تأتين لنتعشى سوياً؟
فأطرقت ملبية. قال: وهل أنت خالية الليلة؟ فأطرقت ثانية. قال إذن فتعالي إلى عشاء طيب وسمر.
ولم تمض لحظة أخرى حى استوقف مركبة يجرها جواد أدهم. وساعد الفتاة على أن تنأخذ مكانها منها. ثم أهاب بالسائق إلى دار الرهبنة. وانطلقت بهما المركبة.
ودار الرهبنة هذه فندق مستجمع شروط الرفاهة والراحة فيه نحو مائتي نوع من الحجرات تتراوح أجورها بين خمس روبلات وبين خمسين في الليلة الواحدة. وتختلف درجاتها من حجرة ذات سرير وأدوات الزينة اللازمة إلى طابق فيه قاعة للجلوس وحجرة للنوم وحمام رحيب. ولهذه الدار ستة عشر مدخلاً لتقل فرصة لقاء من لا تود لقاءه.
وكان الرجل تاجراً ناعم الحال طيب المرتزق. ولذلك تخير طابقاً فخماً. وبينما هما يسيران في أثر الغلام إلى البهو إذ بهما يسمعان دق جرس صغير واستمر في دقه حتى احتوتهما قاعة الجلوس ثم سكت الجرس.
فسألت الفتاة رفيقهاز ما أمر هذا الجرس؟ فأجابها الرجل وهو ينزع عن يديه قفازاته ويبتسم للخادم تلك إحدى عادات هذا المكان. أليس كذلك يا أيفان. إن الجرس يدق ليلفت الزوار إلى أن لا يتركوا حجراتهم حتى يستقر الأضياف الجدد في أماكنهم ولئلا يرى الزائر في طرقات الدار وممشيها ناساً لا يحب أن يراهم. والحق أقول لك. ن كل شيء في دار الرهبنة على أبدع نظام.
فأطرقت الفتاة برأسها مبتسمة ووقفت في بهرة لقاعة. وأمر الرجل متعجلاً كأنه من (زبائن) الدار. بتهيئة الطعام. ولم يكد الخادم يترك الحجرة حتى التفت إليها متعجباً وهو يقول كيف ذلك ألم تنزعي بعد قبعتك. وربطتك؟ وتقدم نحوها كأنما ليعينها.
وأسرعت هي إلى مرآة هناك ورفعت القبعة عن رأسها وأخذت تنظم شعرها. ثم جعلت تنضو عنها ربطتها في رفق. ثم طبقتها بعناية. ووضعتها على المقعد.
وشرع الرجل في الحديث قال. إن لقائي بك الليلة لنعمة عين. فلقد كنت هذا المساء في حيرة من أمري. حتى اهتدى بصري إلى وجهك الجميل فكم سنك يا ربكة؟
قالت ست عشرة.
قال لقد كنت أظن أنك في الربيع التاسع عشر. على أنكن اليهوديات تفرعن أكثر منا نحن الروس. أليس كذلك؟ فهزت الفتاة منكبيها وأجابت أني لاأظن ذلك.
وقطع عليهما الحديث دخول الخادم بالعشاء. فلم يتكلما إلا قليلاًز فبدئ الطعام باللحم ثم أعقب بالسمك كعادة الروس في موائدهم. فلما انتهيا من السمك. وكانت شهوة الرجل إلى الطعام قد هدأت قليلاًك لاحظ أن الفتاة لم تمس الطعام بعد.
قال: يجب أن تأكلي.
فأجابته لا استطيع فأني لا أشعر بجوع.
قال وهو يصر. ليس هذا بسبب معقول. نحن الناس نعيش بالأكل. ويجب أن تشربي أيضاً. فهل تحبين خمرة الشمبانيا؟
قال ذلك وملأ كأساً منها. ولكن الفتاة قالت بعد أن جرعت منها أن طعمها لشديد ولقد تصاعدت رائحتها إلى أنفي. ولم أر هذه الخمر من قبل.
فقال متعجباًز إذن فأنت قريبة عهد بهذه الصنعة. ومتى كان نزولك بموسكو؟
فبدأ على الفتاة التردد والحيرة ونظرت إليه ثم أطرقت.
قال لا حاجة بك إلى اخباري إذا كنت لا ترغبين.
وقاطعهما الخادم ثانية. ومضت بضع دقائ. ورفعت المائدة. واشعل الرجل لفافة تبغ. وترك الخادم الحجرة لأخر مرة واختلى الإثنان.
وبدأت المداعبة بينهما والمغازلة والمماجنة.
قال الرجل أخيراً. ألا حدثيني متى نزلت بهذه المدينة؟
وكانت الفتاة واقفة إزاءه مشتبكة اليدين كأنها من فتيات المدارس وبدأ عليها أنها قد جمعت أمرها على الكلام.
قالت (في هذا المساء)
فسألها: ماذا تقولين. وللمرة الأولى؟
أجابت: نعم. وللمرة الأولى.
قال: وأين تقيمين؟
فأجابت: هنا
فسألها: وماذا تقصدين؟ قالت وقد فصلت ديها عن بعضهما ثم شبكتهما. إن لي قصة طويلة وحديثاً عجباً.
قال قصيها. فلا يزال لدينا من الوقت سعة. وأحب أن أعلمها بحذافيرها.
وأدناها منه وشرعت تقص قصتها: قالت جئت من مدينة جورود في القطار والقصة طويلة وكنت أريد من رحيلي من جورود إلى موسكو أن أدخل الجامعةن ولم يسمح بالسفر من جورود إلى هذه العاصمة إلا لثلاث من اليهوديات، وكانت اليهوديات الثلاث اللاتي أُذن لهن قد لازمن الدرس منذ أعوامن وكانت صغراهن في الثلاثين أو تزيد، ولا يؤذن إلا لثلاث على حين أن في جورود آلافاً من الفتيات اليهوديات. وكنت أنا الرابعة، فكان لزاماً عليّ أن أمكث عاماً أو أكثر من عام، ولما كانت والدتي امرأة أرملة، جعلت أحتال عليها واغريها، حتى دفعت إليَّ المال الذي سألت وأذنت لي في السفر إلى موسكو للمذاكرة وطلب العلم.
فسألها الرجل: ولم تطلبين المذاكرة، ولم ترغبين في التحصيل؟ وما فائدة الكتب، وما نفع الأسفار؟ والله ليس في الكتب إلا تعب لساجيات العيون ومريض الألحاظ.
فحدقت الفتاة بصرها في الرجل عجباً ودهشة، إذ لم تتوقع مثل هذا السؤال، فجعلت تفكر في الجواب ثم شرعت تقول: أريد أن أعلم من العلم كثيراً، أريد أن أكون من لدات عظيمات النساء اللاتي أحدثن في العالم أموراً كبرى، ولا أدري ماذا يجول في خاطري من حلو الأمانيّ، وإنما أعلم أن الجهل في هذه الأيام أمر منكر معيب.
قال: وهكذا جئت إلى موسكو؟
فاسترسلت تحدثه بحديثها قالت أجل. في هذا المساء. وكان الليل قد بدأيرخي على العالم سدوله، فذهبت إلى فندق واتخذت حجرة ولوازمها، ولكن قبل أن يرسل أهل الفندق غلمانهم إلى المحطة ليأتوا بحقيبتي وجعبي، جعلوا يسألونني عن جواز سفري (الباسبورت)، فلما أنبأتهم أن ليس في يدي من جواز، تغير رأيهم وقالوا أن ليس لي حجرة عندهم وخير لي أن أذهب. . . فذهبت إلى نزل أرخص أجرة وأريتهم ما لدي يميني من مال، ولكن ما كادوا يعلمون أن ليس لدي جواز السفر حتى لفظوني من نزلهم، وطاردوني إلى بهرة الطريق. . . . فحرت في أمري ولم أدر ماذا أعمل، فأقبلت على سيدة أكلمها. فنهرتني وعاملتني كما تعامل السائلين، وانتهى بي أمري إلى أن كلمت امرأة من أولئك اللاتي يخطرن في الطرق ويمرحن، فرقت لحالي، ورثت لأمري، وأنبأتني أني لن أجد في موسكو طولاً ولا عرضاً، مقاماً من غير الجواز، ولما علمت مني أني يهودية أيضاً، حدبت عليّ وعطفت وقالت أني في سوء حال. وأني لن استطيع أن أحصل على (جواز السفر) لأن الشرطة لا تحب اليهوديات، وليس لي من وسيلة إلا أن استخلص (تذكرة صفراء) وهي كما تعلم رخصة البغايا والمومسات.
وقالت لي أنها تستطيع أن تصحبني إلى إدارة الشرطة إذ لا يزال هناك وقت. فلما كنا في الطريق قالت ليس في موسكو شيء أسهل من استخلاص تذكرة صفراء. ولا يتطلب ذلك إلا أن أدخل غير متخاذلة إلى إدارة الشرطة وأدفع خمسة عشر روبلاً وأسألهم تذكرة صفراء ثم أتولى عنهم، وبهذه الرخصة أجد آلافاً من الدور والفنادق تفتح لي أبوابها. وترضى بمقامي بين أهلها. وبدونها أُترك في الطرق إلى برد الشتاء وجليده.
وتوقفت الفتاة إلى الحديث ونظرت إليه ثم تابعته كأنها تحدث نفسها. يرحب بالبغيّ. ولا يؤهل باليهودية في موسكو. في موسكو المسيحية!
فضحك الرجل من قولها وطوق خصرها بذراعيه. ثم قال وهو ضاحك السن. يالك من فاتنة. ثم ماذا حدث لك بعد ذلك؟
فاسترسلت تقول: ذهبت إلى إدارة البوليس وسألت شرطياً هناك عن مكان الحصول على التذكرة الصفراء، فحاول أن ينال قبلة مني. ثم أدخلني حجرة المفتش وجاء المفتش فجعل يسألني عدة أسئلة. فلما قلت أني لم أصل موسكو إلا في المساء حاول أن يقبلني. فأبيت عليه ذلك. ولكنه قال أنه لن يعطيني التذكرة الصفراء إلا إذا سمحت له بقبلة. فسمحت له ولكنه طلب مني أن. . . .
فتوليت هاربة من المكان. من غير التذكرة الصفراء. فوجدت أن صاحبتي قد ذهبت. ولم ألبث أن التقيت ببغيّ أخرى. فحدثتها بما حدث وقال أنها لا ترى وسيلة أحسن من أن أذهب مع رجل إلى خلوة لنا واسأله أن يصحبني ضحى إلى إدارة الشرطة. فأُعطى التذكرة الصفراء في الحال. ثم أردفت ذلك بقولها: وإذا كنت تستطيعين أن تدفعي مالاً. فكل شيء في موسكو على حبل الذراع. وكل لبانة في موسكو سهلة ذلول.
ثم استطردت تقول في سكون. كأنما التذكرة الصفراء جائزة تنال على الخلوة.
قال الرجل غير مكترث. استطيع أن أضمن لك التذكرة الصفراء. ولكن أصدقيني الخبر. هل أنت حقاً بالبغاء حديثة العهد؟
فأطرقت الفتاة.
وراح يسألها. . وهل تريدين أن لا تعودي إلى هذه الصناعة؟
فأطرقت ثانية. ولكن في هذه المرة بسرعة وشوق فمد إليها ذراعيه وهو يقولك يا لها من قصة عجب! أنت يا ربكة سعيدة الحظ بوقوعك في أيد طاهرة وأنا بأمرك في شغل. ولكن من غريب أمري أني لا أميل إلى تقبيل من لا تميل إلى تقبيلي. أليس في ذلك غرابة؟
قال: كلا. با أنها لتبدو لي أمراً طبيعياً. فأجابها مبتسماً. ذلك لأنك لا تزالين بعد صبية. إن ذلك ليس بطبيعي عند سواد الناس. وهل تريدين أن تدخلي هذه الحجرة وتنامي حتى الصباح وحدك؟ وماذا تريدين بي أن أصنع؟ هل أتركك تنامين وحدك. حتى إذا تنفس الصبح أعنتك على نيل التذكرة الصفراء؟ أم تريدين أن أدخل الحجرة معك؟. . .
قال ذلك وهو يشير إلى حجرة النوم.
قال: كلا، ولكن أين تنام أنت؟
أجاب وهو يشير إلى غرفة هناك، أنام هنا، لطالما نمت في مضاجع أسوأ حالاً، وأنبي فراشاً، سأقرأ الصحف التي أتيت بها في جيب معطفي. ولك أن تذهبي فتلزمي سريرك.
قال قوله كأنما يطردها. وأما الفتاة فتقدمت إلى باب الحجرة مترددة. فلما بلغته أنثنت فرنت إليه. فأطرق مبتسماً. ولوّح بيده إليها.
قال: ليكن ذلك. وليهنك النوم.
ولك تلبث أن اختفت في الحجرة وأقفلت الباب ومكث الرجل برهة ينظر إلى باب المخدع وهو يبتسم. ثم تقدم إلى معطفه فأخرج بعض الصحف اليومية. وأشعل لفافة تبغ. وجلس في مقعده يتصفحها.
ومضت ساعة. فساد السكون. وأما الرجل فنضا عنه سترتهن وخلع نعليه. واشتمل في معطفه الكثيف. ثم تقدم إلى باب المخدع وتسمع. فإذا الحجرة في سكون.
ثم وقف برهة ولكنه لم يلبث أن تولى إلى النمرقة فاضطجع. وما مضت بضع دقائق حتى ضرب الله على أذنيه. فإذا هو في سبات عميق.
واستيقظ الرجل عند الساعة الثامنة. فقام إلى النوافذ ففتحها. ثم دق الجرس. وطلب طعام الفطور. ثم تولى إلى الحمام فاغتسل. وخرج من الدار مسرعاً. في حين أن الخادم يهيء المائدة.
ومضت ساعة فعاد. وعند ذلك تقدم فطرق باب مخدعها. وسمع في الحل صوتها. فدخل الحجرة. فإذا هي إزاءه في كل أثوابها.
فسألها: هل كان نومك الليلة هادئاً؟
فأطرقت ثم رنت بعينيها النجلاوين وقال: أشكر لك مبرتك.
فقال: وهل استيقظت باكرة؟
فأجابت: استيقظت منذ ساعتين.
قال: ياللطائر الباكر في صحوه! ألا تعالي إلى طعام الفطور. فأني آتيك الساعة بنبأ غريب.
ومد إليها يده. فأقبلت عليه طوعاً. وأدنت رأسها الجميل إلى رأسه. فقبلته.
قال: تلك قبلة خير من قبلاتك الأولى. يالله. لقد علمت في أربع وعشرين ساعة كيف تجيدين التقبيل.
فأجابت بجرأة. ما أسهل ذلك وما أهون. إذا علم القلب الشفتين.
فسألها إذن فأنت تحبينني؟
فاستقر لحظها عليه. وأجابت موجزة: أجل. وكأنما أراد أن يتخلص من باعث يتلجلج في صدره. إذ استوى واقفاً. وقال في صوت عادي:
لقد خرجت من الدار أحاول أن أنفعك بشيء
ثم أخرج محفظته وأوراقه فوضعها على المائدة.
واسترسل في حديثه يقول: لقد همتني حالك ليلة الأمس. فأردت خدمتك وأقبلت عليك. وودت لو تميلين إليّ بقلبك. ولا أعلم السبب.
فجاءت إليه ووقفت بجانبه ثم قالت: والله أنها لمكرمة منك. ولكنك تعلم أني إليك أميل؟
فطوق خصرها بذراعيه. وقال: كان ذلك يخطر في بالي. فأردت أن تكوني في هذا البلد طليقة سراح. لا يعسفك من عسفها عاسف. ولذلك خرجت فعمدتك. يا يهوديتي الصغيرة.
بإسم غير اسمك.
وأخذ في يديه وجهها المشرق الوسيم. فقبلها في شفتيها.
واسترسل يقول. فلست الآن ربكة. بل أنت من هذه الساعة (فره نوفيكوف) فأخذتها الدهشة. ورددت الأسم الجديد.
فأخرج ورقة من بين ثنايا محفظته وقال: أجل. كل شيء في موسكو يشترى بالمال. ولقد ذهبت إلى إدارة الشرطة لأبتاع جواز سفر لك. وقد استخلصته باسم فره نوفيكوف فإنك بهذا الأسم الجديد تستطيعين أن تعيشي في موسكو أين تشائين. وكيف تشائين. لا عسف ولا إحراج ولا إرهاق.
فصاحت تقول: ما أطيب قلبك وما أرق فؤادك!
ولكن لا بد من أن ذلك قد كلفك مالاً كثيراً
قال وهو يبتسم لها. كلا. بل أن الجواز لأرخص ثمناً من التذكرة الصفراء. فقد قلت أنها تساوي خمسة عشر روبلاً. على أني لم أدفع من أجل الجواز إلا أثني عشر روبلاً. فأنت ترين أن جواز السفر أرخص من تذكرة البغاء.
ثم دفع بالجواز إليها.
فأخذته في يدها وقالت في هدوء وسكون. كأنما تخاطب نفسها
بلى. أنه أرخص ثمناً. وأن جواز السفر لا يكلف المرأة ما تكلفه التذكرة الصفراء. . .