مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/فصول في التعليم
→ نوابغ العالم | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 14 فصول في التعليم [[مؤلف:|]] |
الحرية ← |
بتاريخ: 1 - 12 - 1913 |
مسألة التعليم هي اليوم موضوع بحث قادة الأفكار وجبابرة العقول، الذين وقفوا حياتهم، وعصارة ألبابهم، ومهب خواطرهم، على النهوض بشعوبهم إلى أرفع مستوى لتأخذ من الرقي والسعادة الأهلية والمكانة السامية بين متنافس الشعوب ومتزاحمة الأمم، فلا بدع إذا رأينا علماء أوربا ومصلحيها قد تفرغوا اليوم إلى درس مسائل التعليم وتمحيص باطلها، وتوخي أصلح الطرق لها، ووضع أنفع السنن لتهذيبها، وسواد المصلحين مجمعون على مسألة تعميم التعليم العملي ومحو فكرة تقسيم العمل التي سنها الأستاذ آدم سمث أبو الاقتصاد السياسي، والأعتياض عنها بوجوب الرابطة بين العلم والعمل حتى يكون المجتمع جمهوراً من علماء صناع وصناع علماء - ولما كانت سنة البيان أن ينقل أنفع ما كتب كتاب الغرب في أمهات المسائل الاجتماعية والعلمية والاقتصادية وغيرها فقد أخذ على نفسه أن يقف صفحات منه يتناول فيها أهم ما يذهب غليه المصلحون الغربيون في مسألة التعليم وها نحن أولاء بادئون بتخليص مبحث مستفيض نقتطفه من كتاب وضعه مصلح روسي كبير هو البرنس كروباتكين، فقد ألم بهذه المسألة وذهب بها مذهباً صالحاً وإليك مجمل ما تناوله في هذا المبحث الجليل.
الطلاق الحاصل بين العلم والعمل - التعليم العملي_التعليم العام_طريقة جامعة موسكو واستعمالها في مدارس شيكاغو وبوسطن وابردين_تضييع وقت الطلبة من جراء فساد التعليم الحاضر - العلم والصناعة_الفوائد التي تنتج من ارتباط العمل الفكري بالعمل اليدوي. وهذا هو الموضوع.
العلم والعمل
ووجوب اقترانهما
للبرنس كروباتكين المصلح الروسي الكبير
لم يستهن أحد من العلماء في العصور الماضية بقيمة العمل اليدوي، ولا سيما أولئك الذين بذلوا كل جهدهم في تقدم الفلسفة الطبيعية. بل أن منهم من كانو يصنعون عددهم ومراقبهم (تلسكوباتهم) بأيديهم أمثال جاليليه ونيوتون ولايبنتز، ولم يكن العمل اليدوي عند كبار العقول عائقاً لهم عن أبحاثهم الفكرية وإنما كان عوناً لهم عليها، وإذا كان عمال الماض يجدوا فرصة لتحصيل العلم فقد تنبهت على الأقل عقولهم إلى تنوع الأعمال التي كانت تؤدي في المعامل التي كانوا يشتغلون فيها، وكثيرون منهم جلسوا إلى العلماء ودارت بينهم أبحاث ومناقشات أمثال جيمس وات وريني وبرندلي وغيرهم.
ولكن تغير الآن كل شيء، فقد فرقنا بن العامل بديه بحجة تقسيم العمل، وكان نصيب فئات العمال من التعليم نصيب أجدادهم، وأما العلماء فهم مستهينون بالعمل اليدوي على أنهم يعجزون عن عمل آسهل الآلات. وقد بلغ من احتقارهم العمل اليدوي أنهم يقولون أن ليس من المهم أن يفهم العمال حقيقة الآلات التي يشتغلون بها والقوانين التي صنعت بها وأنه يكفي أن العلماء والمهندسين الفنيين هم الذين يعُنَون وحدهم بتقدم العلم والصناعة.
ولا يفوتنا أن نقول أن هناك من العلماء من يخالف هذا الصنف منهم بل فيهم من كانوا وهم في حداثة أعمارهم صناعاً ولكن ساعدتهم الظروف فنالوا قسطاً من علم وحظاً من معرفة فجمعوا بذلك بين العلم والعمل، ولكن للأسف قليل منهم.
وما معنى هذا الصوت العالي الذي نسمعه في انجلترة وفرنسة وألمانية والولايات المتحدة وروسيا ينادي بالتربية العلمية ويدعو إليها إلا أن يكون مظهراً من مظاهر سخط عام على تقسيم المجتمع إلى علماء ومهندسين فنيين وصنَّاع؟
وخلاصة هذه الشكوى أن تقسيم العمل قد أفقد العامل قواه المفكرة وسلبه قواه المخترعة، وكثيراً ما اخترع في الأزمان الماضية، وقد اخترع العمال في خلال القرن الماضي كل هذه الآلات التي غيرت عالم الصناعة كل التغيير ولكن أصبحت اليوم كل السلطة في أيدي أصحاب المعامل فلم يعد العامل يخترع شيئاً.
إن ما يخترعه المهندسون إن لم يكن خلواً مما يدل على عقل كبير وفكر عبقري فأغلبه غير صالح.
إذن فقد أصبح تعميم التعليم العملي ضرورياً لرقي المخترعات وتعددها ولا مخرج لنا من هذه الضائقة إلا أن نقرن العلم بالعمل ونعتاض عن تقسيم العمل بتعميم التعليم.
تلك هي خلاصة الحركة الحاضرة ومطالبها، ولكن قادة هذه الحركة لم يحسنوا تمحيص المسألة فذهبت آراؤهم شتيتاً من هذر، ونحن نقول أن صالح كلا العلم والصناعة، بل صالح المجتمع بأسره يلزم كل إنسان رجلاً كان أم امرأة أن يتلقى نصيباً من التربية تعينه على أن يجمع بين إلمام بالعلم وإلمام بالعمل، ولا نريد بذلك أن ننكر ضرورة الإخصاء في فرع من العلوم، ولكننا نقول أن الإخصاء لا بد أن يتبع التعليم العام وأن التعليم العام يلقى علماً فكرياً وعملاً يدوياً، وأن تقسيم في الجماعة إلى عمال بالأيدي وعمال بالأفكار تفريقاً لكلتا القوتين.
والطريقة التي ننادي بها هي أننا نريد من المدرسة أن تكفل للفتى والفتاة نصيباً وافراً من العلم يعينها إذا غادر المدرسة في سن الثمانية عشر أو العشرين على أن يكونا عاملين نافعين للجماعة، وأن تجعلهما ينالان من كل علم نصيباً يساعدهما على أن يأخذا مكانهما في هذا العالم العملي.
ولعل هناك كثيرين يظنون أنني أشتط في الطلب وأتعسف، ويرون أن ما أدعو إليه ليس إلا من قبيل المستحيلات، ولكن أقول لهؤلاء أن ما يتوهمونه مستحيلاً قد تحقق فعلاً ولا يريد إلا التوسع فيه إذ جربت هذه الطريقة في مدرسة الصنائع في موسكو عشرين سنة متتابعة لتعليم مئات من الطلبة، وقد شهد بنجاحها ثقات كثيرون في معارض بروكسل وفيلادلفيا وويانة وباريس.
والطريقة التي سنتها المدرسة هي أنها لا تقبل إلا من تجاوز عمره الخامسة عشر، ولم تطلب منهم إلا أن يكونوا على شيء في الهندسة والجبر واللغة الروسية، وأما الذين تقل أعمارهم عن هذا الحد فقد قبلتهم في فرقها التحضيرية ثم قسمت المدرسة إلى قسمين قسم الميكانيكا وقسم الكيميا وما إليها. وإنا سنقصر الكلام على القسم الثاني والتعليم الذي يتلقى فيه.
ترك الطلبة المدرسة بعد مكثهم خمسة أعوام أو ستة وهم على علم تام بالرياضيات العالية وعلوم الطبيعة والميكانيكا وغير ذلك من العلوم المرتبطة بعضها ببعض ولم يقل نصيبهم منها عن نصيب طلبة أكبر المعاهد الأوروبية وجامعاتهت وكانوا يصنعون بأيديهم دون مساعدة الصناع آلات بخارية وزراعية وعلمية وكلها تعرض للبيع وينالون أكبر الجوائز على صنع أيديهم في المعرض الدولية فكانوا من ثم عمالاً متعلمين تعلماً عملياً، عمالاً تلقنوا علوم الجامعة واكتسبوا ثقة أصحاب المعامل في روسيا.
أما الطرق التي اتبعت في تخريجهم كذلك فهي أن المدرسة لم تشجع طلبتها على حفظ الدروس والاعتماد فيها على الذاكرة بل كانت تشجعهم على البحث والتقصي المستقلين، وكانت تعلمهم االعلم جنباً لجنب مع وجوه تطبيقه فما يتلقى في حجرة الدرس يطبق في المعمل، وعنوا العناية الكبرى بجعل علم الهندسة الوسيلة إلى ترقية المخيلة والأبعاد في البحث والاستقصاء.
أما التعليم اليدوي فكانت طرقه مختلفة الإختلاف كله عن طرق أغلب المدارس الصناعية إذ اعتبروا الرسم أول خطوة في التعليم العملي حتى إذا أتقنه الطالب نُقل إلى قسم النجارة حيث يتعلم جميع أنواع النجارة الدقيقة منها وغير الدقيقة، ولم يغفلوا أية وسيلة تعين الطالب على أن يفتنّ في هذه الصناعة التي هي أساس كل الصناعات، ثم ينقل الطالب بعد ذلك إلى قسم الخراطة ثم إلى معامل الحدادة ولا يسمح له بدخول قسم الهندسة والميكانيكا إلا إذا جاز هذه الأقسام كلها - وقد أدخلت هذه الطريقة المثلى في مدارس شيكاغو وبوسطن في أمريكا ولكن اقتصر فيها على الجزء العملي. فترى من هذه التجارب سهولة اقتران التعليم العملي الراقي بالتعليم الذي لا بد منه في إخراج عمال مهرة أكفاء.
أن أهم مَعلم من معالم تعليمنا الحاضر - هو تضييع أوقاتنا جزَافاً_فأننا لا نتلقى في المعاهد والجامعة إلا مجموعة من السفاسف والسخافات وإذا كان هناك منها شيء نافع ضيعنا في تحصيله جزءاً كبيراً من وقتنا.
ولا يخفى أن سني الطفولة لا ينبغي أن تروح عبثاً وتذهب باطلاً، فقد أظهر المعلمون الألمانيون أن لعبات الأطفال يسهل أن تصنع بطريقة هندسية حتى تحمل إلى عقول الأطفال شيئاً من المعرفة المادية بالهندسة والرياضيات وأن المسائل التي أتعبتنا أيام المدرسة ليسهل حلها على الاطفال الذين لا يبلغون من العمر أكثر من ثمانية أعوام إذا وضعت في شكل ألغاز لذيذة وفي الواقع لا يستطيع أحد أن يتصور أن كثيراً من العلوم الطبيعية سهلة التلقين إلى الأطفال بل من المستطاع أن تعلم الأطفال قبل سن العاشرة أو الثانية عشر مبادئ العلوم ما عدا علم الاجتماع (طبعاً) ليكتسب الطفل فكرة عامة في الكون والأرض وسكانها وعجائب المخلوقات من كيماوية وحيوانية ونباتية - وتترك قوانينها إلى زمن آخر.
نحن نعلم ما للأطفال من الميل إلى عمل اللعبات بأيديهم وتقليد الكبار إذا شهدوهم في المعمل أو المصنع ولكن إما أن يريد الآباء أن يعطلوا هذا الميل وأما أن يكونوا بوجه الانتفاع به جاهلين. فإن سواد الآباء يستهينون بالعمل اليدوي ويحقرونه ويؤثرون أن يرسلوا بنيهم إلى دراسة تاريخ الرومان أو تعاليم فرانكلين في التوفير (!) على أن يروهم يشتغلون في عمل (لا يفيد الطبقات الدنيا) كما يقولون.
ثم تأتي سنو الدراسة فيضع مسرعاً سدى - خذ لك مثلاً من تعليم الرياضيات التي يجب على كل إنسان أن يتعلمها لأنها الأساس الذي ينهض فوقه كل تعليم. فترى أن سواد طلبتنا لا يتعلمونها في مدارسنا العليم الحقيقي النافع، وكذلك ترى الوقت يذهب هباءً في تعليم الهندسة على طريقة الاعتماد على الحافظة فلا يكاد التلميذ يخرج من المدرسة حتى ينسى كل شيء ويعجز عن حل أبسط المسائل الرياضية وكذلك الحال في سائر فروع التعليم.
من العين واليد إلى العقل ذلكم هو المبدأ الحق لاقتصاد الزمن في التعليم، وإن في إكراهنا ابناءنا على دراسة العلوم من غير اقترانها بالعمل والتطبيق إكراهاً لهم لهم على تضييع زمانهم، وقتلاً لاستقلال أفكارهم، وخيبة لتعاليمنا. وأن المعرفة السطحية وإعادة الدروس كالببغاء وجمود الفكر - كل ذلك من نتائج طريقتنا الحاضرة في التعليم.
ولسائل أن يسأل إذا كانت هذه الطريقة التي ندعو إليها تأتي بالسرعة المطلوبة للعمل أم لا، ونحن فنقول أنه مهما يكن من بساطة العمل فإن العامل المتعلم قادر على إجادته والإسراع في إنجازه أكثر من العامل الجاهل - تلكم هي السرعة التي تنشدها الإنسانية ويطلبها صالح الجماعة.
حقاً أنني لا أقول أن صلاح التعليم على هذا الطراز التام سهل التحقيق ما دامت الأمم المتحضرة باقية تنوء تحت هذا الظلام الأناني المتبع في الاستثمار والاستغلال. وكل ما تتوقع من ذلك أن نبذل الجهد لتأدية بعض الإصلاح. لنتصور أن جماعة أو مدينة أو أقليماً - يبلغ سكانه على الأقل بضعة ملايين قد سن هذه الطريقة في تعليم أحداثه دون تمييز بين ذكور وإناث. ومن غير أن يسألهم شيئاً في مقابل تعليمهم إلا ما يؤدونه يوم يصبحون من العاملين على ثروتها_لنتصور ذلك ثم دعنا نحلل نتائجها!
أنا لا أصرّ على زيادة الثروة التي تنتج من أحراز جيش صغير من المستثمرين المتعلمين، ولا على الفوائد الاجتماعية التي تحدث من استئصال هذا التمييز الحاصل بين الصناع المفكرين والصناع اليدويين، ولا أتمسك برغد العيش الذي يضمنه الفرد الواحد إذا لأعين على أن ينعم بقواه العقلية وقواه الجثمانية معاً، ولا على المنافع التي تأتي من تقدير العمل قدرته ورفعه إلى المكان اللائق به في المجتمع بدلاً من أن نطبعه بطابع الاستهانة والتحقير كما نفعل اليوم ولا أريد أن أتناول البحث في زوال الشقاء الحاضر وما يتبعه من شرور وجرائم وسجون وغير ذلك، وجملة القول لا أريد أن أبحث اليوم في هذه المسائل الاجتماعية الكبيرة وإنما أريد أن أبين الفوائد التي تعود على العلم من هذا الإصلاح.
قد يقول فريق من الناس أن في النزول بالعلماء إلى مصاف الصناع انقراضاً للعلم وفناء للعبقرية، ولكنهم إذا تدبروا الاعتبارات الآتية وجدوا أن الأمر على عكس ما يقولون - أي أن في ذلك أحياء للعلوم وانتعاشاً للفنون وتقدماً للصناعة أشبه بنهضة العلوم التي قامت في القرن الخامس عشر ولقد شاع على الأفواه أن القرن التاسع عشر كان زمان تقدم العلوم ونهوضها وأن للقرن الحاضر ما يفخر به، ولكن إذا تدبرنا أن أغلب المسائل التي حلها هذا القرن وضعها وتنبأ بحلها القرن الماضي، ولذلك يلزمنا أن نعترف بأن التقدم لم يكن سريعاً كما كان متوقعاً وأن شيئاً هناك عاقه عن سبيله.
إن نظرية الحرارة ارتآها في القرن الماضي رامفورد وهامفري دافي ثم مضي أكثر من خمسين حولاً قبل أن تعود هذه النظرية إلى عالم العلم ثانية ألم يكن لامارك وجفروي وسانت هيلير وارسماس ودارون وكثيرون غيرهم اعلم بتطور النوع؟ ألم يمهدوا السبيل إلى تأسيس (البيولوجيا) - علم الحياة_على قاعدة التغير والتحول، ولكن مضي نصف قرن قبل أن يتناول أحد مذهبهم. وكلنا يذكر كيف كان طلبة الجامعة يكرهون على آراء دارون إكراهاً، ولقد مضت أعوام وعلم الفلك يتطلب إعادة النظر في نظريات كَنت ولابلاس ولكن لم تظهر حتى اليوم في هذا العلم نظرية أتفق عليها الجميع.
وجملة القول أن كل فرع من فروع العلم ينقصه بحث الآراء الماضية وإعادة النظر فيها وإذا كانت إعادة النظر يعوزها تلك العبقرية التي حركت جاليليه ونيوتون فإنها في حاجة أيضاً إلى جمهور من الصناع العلماء.
وهناك دليل من العلم الحديث يشهد بصلاح الطريقة التي نطلبها للتعليم وهو أنه بينمت الصناعة لا سيما في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر قد أكثرت من المخترعات حتى غيرت وجه الأرض كان العلم يفقد بالتدريج قواه المخترعةن والعلماء لا يخترعون اليوم أو قل ما يخترعون.
أو ليس من المدهش أن تكون الآلة البخارية - حتى في مبادئها الأولية_والقاطرة والقارب البخاري والتليفون والفونوغراف وآلة الغزل والنسيج والتصوير بالألوان وغير الألوان وآلاف من دقائق المخترعات لم تخترعها علماء فنيون، وإن لم يكن فيهم من يرفض أن يضع اسمه على أي مخترع منها؟
إن أولئك الرجال الذين لم يتلقوا شيئاً من التعليم وإنما التقطوا من موائد الأغنياء فتاتاً من المعرفة، أمثال سميتون وجيمس وات وستينفن وغيرهم هم - كما يقول سميلر_مؤسسو المدنية الحديثة وواضعوها الحقيقيون.
وتفسير هذه الحقيقة المدهشة أن هؤلاء الرجال عرفوا شيئاً جهله أولئك العلماء - ذلك أنهم عرفوا كيف يعملون بأيديهم.