الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/حول الدين

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 14/حول الدين

بتاريخ: 1 - 12 - 1913


نبذة فلسفية جليلة حول الدين من كتاب حديث المائدة

الذي يعنى البيان بنقل أطيبه إلى العربية

حدث شاعر المائدة قال: زرت الأستاذ في داره ذات صباح فألفيته مكباً على أنبوبة من الزجاج محبوكة الطرفين فيها سائل كدر، وقال لي انظر فخبرني كيف ترى هذا السائل.

قلت كدر

قل إن هذا السائل سخن مدة ثلاث ساعات وما زال صافياً حتى منذ أيام قلائل ثم أخذ بعد ذلك يتكدر

ثم أن الأستاذ فض أحد طرفي الأنبوبة فأخذ مقداراً يسيراً من سائل على قضيب زجاجي فوضعه فوق قطعة من الزجاج للفحص الميكروسكوبي ثم نظر في المجهر وصاح هاك دلائل الحياة. انظر

فنظرت فإذا أشياء تشبه هذه العلامات

فأما الأجسام التي هي كالخطوط المستقيمة فقد كانت تذهب وتجيء مسرعة في كل ناحية، وأما المنكسرة فكانت تتلوى كالأراقم، وكانت المستديرة تدور حول محاورها. والكل في حركة ذائمة كأنما لا تبرح تلتمس مالا تجد.

قال الأستاذ إن عناصر هذه الأجسام لمتينة، فلقد غليت ثلاث ساعات فلم تمت، ولكني سأنظر ماذا كانت نتيجة الغلي مدة ست ساعات. ثم عمد إلى بعض أوعيته.

ولعل القارئ قد أدرك ماذا كان يفعل الأستاذ، وإنما يزاول بعض تجارب تلك النظرية الشهيرة تولد الحياة من الجماد.

وعاد بأنبوبة كالأولى ولكنها تعي سائلاً صافياً ثم قال غليت ست ساعات، أترى بها أدنى كدر.

قلت كلا أنها لأصفى من قضيب بلور فقال ما أظن أن بها دليلاً واحداً على الحياة ثم فعل بها كما فعل بسالفتها، فإذا السائل خال من كل شيء ولا يكشف المجهر منه إلا عن قطعة من النور.

قال الأستاذ لقد قتلها غلي ست ساعات. حسن هذا. أفتدري ماذا كان يحدث لو أنا وج هذه الأنبوبة كدرة، وأصبنا بها دلائل الحياة؟ إذن لاهتز قصر البابا وزلزلت أركانه، وتساءل القوم عن النبأ العظيم في أنحاء العالم الديني. إذن لارتجفت العقائد والروايات والملل والنحل والمذاهب، تطلعاً إلى نتيجة تجاربي وتشوفاً إلى ثمرة مباحثي، ليعرفوا تكدر السائل في زجاجتي أم صفا. ولا والله لا أعلم أأضحك من هذه الحال أم أبكي فأنتحب.

فلما كان الغد وقد لفنا الصباح حول المائدة طرح الأستاذ مسألة الأمس على بساط المحاورة قلت لا بد من التسليم بأن تلك الجراثيم لم تحتمل غلي ست ساعات.

قال الأستاذ: هذا من حسن حظ البابا، وكل من راعه وأزعجه لفظة العلوم الطبيعية فإنه إذا ثبت أن الأشياء الميتة قد تحي من تلقاء أنفسها كبر الأمر، وعظم الخطب، وانبرى لك بعض الناس يقول: إذا استطاع الشيء الميت أن يحي نفسه، فلا يبعد أن تكون الأرض قد ملأت نفسها بالخلائق من غير واسطة. على أنه لو كان ذلك حقاً لما كان ذلك من المعجزات الصعائب. والمعضلات الغرائب. ولأمكننا مع ذلك أن نجد في قلوبنا منفسحاً للاعتقاد بآله خالق. بدليل أننا قد نصدق الآن بوجود الآله، مع أنا نرى البذرة الضئيلة لا تزال تنمو حتى تمتص عصارات نصف فدان من الأرض، وكل ذلك تفعله بقوتها الذاتية الكامنة، بلى أن الحياة لتتولد في هذه الدنيا بأية كيفية.

وما أظن أن جرثومة البرص قد خلقت مع آدم، ولكنما تولدت في هذه الدنيا بعد خلقته.

قلت وهذا أيضاً اعتقادي وإلا فإذا كان آدم قد جمع في جسده كافة العلل والأمراض التي ابتلى بها ذريته ونسله، إذن فلقد كان والله مستشفى متحركاً.

قال الأستاذ إذن فكيف تسنى لذاك الحيوان جرثومة هذا الداء أن يظهر في العالم؟ أتظن ذلك قد كان بناء على لائحة سماوية أصدرت بمنح ذلك المخلوق الخبيث هدية للإنسانية؟

فرأيت أن أجعل الصمت الجواب على هذا السؤال فسكت.

وكان الفتى الفلكي (هو أحد أعضاء مائدة الأفطار) جالساً يسمع فتحرك فقال أني أيها الأستاذ وإياك نزاول مسألة بعينها. نعم لقد نظرت من وقت إلى آخر في مجهر فرأيت ارتجاج الذرات المتواصل في ذاك السائل وهو ما تسميه الحركة الذرية. وهذا وأبيك هو عين ما أبصر حينما أنظر في مرقبي إذ أرى تراب النجوم يدور دائباً في فضاء الأثير. وحيث لا أرى حركته أوقن بوجوده معللاً خفاءه ببعد المسافة. فالحركة والمادة في كل مكان. ولا فراغ ولا سكون مطلقاً. ثم أراك تسأل عن ذراتك المضطربة لم لا تتجمع فتصبح أجساماً حية ذاتية الحركة: وأراني أسأل عن تراب النجوم لم لا يتجمع فينمو فينتظم حتى يصير عوالم مأهولة ودنامعمورة. والناس يروعهم بعد أن يسمعوا بتكون العوالم من غيوم النجوم (تراب النجوم) وليس يروعهم أن يروا العوالم المائية (كرات الماء: يريد بذلك قطرات المطر) تكوّن أنفسها بأنفسها من الغيوم السارية فوق أرؤسنا. ولكن إذا استطاعت العوالم أن تتألف من تلقاء ذاتها كهيئة تألف القطرات من المطر، إذن لتفاقم الأمر. واستفحل الشر.

وكانت الفتاة جالسة معنا على المائدة، وقد راعها هذا القول المستقل والرأي الحرّ، فارتسم على وجهها أوضح آيات الإندهاش والخوف. وما أحسن وجود العنصر الأناني في مثل هذه الحفلات والمجالس. والنساء أتقى من الرجال وأورع، وأقوى إيماناً وأرسخ عقيدة. ولست بقائل لك ما يقوله ذوو البت في المستقبل من أنه إذا استقر أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار فسيكون ربع سكان الخلود ذكوراً والثلاثة أرباع أناثاً. والسبب في فضل إيمان النساء وزيادة تقواهن أنهن أحوج من الرجال إلى أيمان يعضدهن، واعتقاد يؤيدهن. لأنهن شديدات الاحتجاز، لا تدعوهن إلى الخروج من أنفسهن تلك الدواعي التي تدعو الرجال إلى ذلك. وهن لما جبلن عليه من التوكل والاعتماد أسرع إلى الأيمان الذي إنما هو الثقة والتوكل والاعتماد على الغير. وخلق الاستقلال الفكري قد يخرج من النفس الرائع الحسن من كوامن الفضائل، غير أنه لا يبعث على الورع والتقى.

فلما كان بعد يومين من انفضاض هذا المجلس جاءني البريد بالرسالة الأتية من الفتاة

سيدي. وددت لو تعرف أني لست من قبيل أولئك النسوة الهيابات اللائي يذعرهن الخوض في المسائل الدينية والمباحث العلمية كالتي طرحتها على بساط المناقشة ذياك الصباح ونحن على المائدة. وما زلت اقرأ أمثال هذه الأبحاث تارة في الكتب وآونة في الجرائد فلا أرجف ولا أرتعد. وقد كنت أسمع أيام طفولتي أن الشعرة توضع في الماء فتصير بعد يومين ثعباناً فلا يهولني ذلك، لأني أرى البيضة تتحول فرخاً فلا أنزعج ولا أهال. وإنما أقول صنع قادر جل الخالق وتعالى شأنه. وكذلك أقول إذا أبصرت في أنبوبة الكيماوي حيوانات صغاراً، أو ما يخيل إلىّ حيوانات صغاراً. وما أراك تحسب أني أطوي أنجيلي، وأهجر محرابي، لرؤيتي مشهداً عجيباً في عالم كله عجائب، ولغزاً مبهماً في كون كله ألغاز غير مفهومة.

وكذلك أرى أنه يمكن التوفيق بين الكتاب المقدس وبين نظرية داروين في أصل الإنسان بحجة أنك ترى الرجل الدميم يلد المليح والأبن الصالح يولد للطالح، وهذا دليل على أن الرقى العظيم قد يحدث في فصائل النوع البشري إذا ساعد أمتداد الأمد. وسنوح الفرص، ولقد قرأت في بعض الأسفار أن الكلاب ينتهي نسبها إلى الذئاب. وأني كلما تذكرت كلبي الرفيق الرقيق ذلك الذي يخلص لربه الحب، ويمحضه المودة، ويكون في الدعة أمينه. وفي الشدة معينه.

وهو إذا ما ناجاه صاحبه ... يفهم عنه ما تفهم الأنس

وجدت أن مابينه وبين أسلافه الذئاب أبعد بكثير مما بين الهمج المتوحشين لسكان نمنم وبين أسلافهم القردة.

قد ترى من غصون كلماتي هذه أني ممن يطلقون للعقل حرية النظر في أمثال هذه المسائل. ونحن معشر النساء نستطيع أن نجري مع تيار الزمن نصغي صامتات إلى ما يدور حولنا من المناقشات في المحاورات والكتب ونغير أسلوب حديثنا وتفكيرنا بأسهل مما نغير أزياءنا من عام إلى عام. وما أحسب أنكم عصبة الرجال تعلمون ما لتلك العادة - أعني عادة التوفيق ما بين أذواقنا وبين الاوضاع المتجددة والسنن المتبدلة_من الأثر في نفوسنا. فإنه والله لا يثبت على تلك العادة شيء في نفوسنا، ولا يستقر معها رأي في عقولنا. والتقلب كما تعلمون هو قاعدة الذوق. وظني أننا نتعلم من خاطة ثيابنا كيف نخلع عن عقولنا أرديتها القُدم فنطرح عليها الأكسية الجدُد في أتم سهولة، وما ذاك إلا لاعتيادنا تغيير الأزياء كل فصل وموسم.

(وبعد) فقد أطلت جداً في مقدمتي هذه وأخشى أن يكون قد انتابك الملل قبل بلوغك جوهر القول وزبدته.

تعلمّ سيدي أن الدين في نظرنا معشر النساء ليس هو بعض هذه المسائل التي يجعلها عشاق الكلام موضوعات للذة الجدل وسرور المحاجة. وإنما هو أمر غير ذلك. هو حياتنا بل هو أكثر من حياتنا. إذ أن حياتنا إنما تقاس بدقات قلوبنا، ولكن شعورنا الديني شيء أبديّ ما أن يزال يهفو إلى الأبدية، ويطمح نحو العالم الروحاني. أنه لا يبعد أن تصبح أشكال الديانات بعد مضي بضعة قرون وقد نالها من التغير ما لا نكاد نعرفها معه. ولكن مهما يطرأ على أشكال الديانات من التغير فإن حاجة النفس إلى الاعتماد على القدرة الألهية وتلمسها الأتصال بذلك السر الخفي الأبدي - هذا أمر ثابت دائم لا يزول ولا يتغير. وما كان في قدرة مجهر الكيماوي أو مرقب الفلكي أو قادوم الجيولوجي أن ينزع من النفس حاجتها إلى تلك الصخرة الراسية تستقر عليها_إلى تلك النجمة التي لا تغرب_إلى ذلك الموجود الواهب الحياة لأدنى ذرات هذا الكون الواسع.

والناس على الإطلاق لا غنى بهم عن الدين، من لم يحتج إليه صغيراً احتاجه كبيراً، ومن لم يعتقده مختاراً اعتقده مقهوراً. فإنك لتبصر الرجل الضعيف العقيدة يسترسل في جحوده ما شاء فيرميه الله بالمصيبة فإذا هو مؤمن. وأني لمن أدركوا سر الحياة الباطنية بطول مكابدة أهوال الحياة الظاهرة. ولقد كنت قبل أن يبتليني الله أكثر اهتماماً بلون قطيفتي ومقدار ملائمتها للوني مني بالدين وكافة شؤونه فأراد الله أن أفهم معنى قولهم المؤمن مصاب.

ولما تأدبت في مدارس الشقاء، وسبكت بنار المحنة، علمت أنه لا ذخر أنفس من الأيمان، ولا حرز أمنع من اليقين. وذلك أني وجدتني غنية بذلك إذ أنفضت من متاع الدنيا. وكان إيماني كالعود الخوار فإذا هو كالنبعة الصلبة ألفيتها نعم المتكأ في الضراء. والمعتمد في النكراء. وكان يقيني واهناً ضعيفاً كخامد الجمر، فإذا هو كالضرام المتأجج جلى غيهب الشكوك وحندس الشبهات، وأوضح منهج الرشد فعلوته مسددة الخطوات مأمونة العثرات. ولست في ذلك إلا واحدة من آلاف آلاف كلهم قد لقي من هذه الأحوال ما لقيت. كلهم غمس في حياض البلاء ورسب في أعماق الكرب فعرف حاجة النفس إلى الإيمان والتوكل - إلى بث شكاياتها ونفث أشجانها ورفع دعواتها إلى أذن سميع مجيب يفهم حاجاتها ويرثى لبلواها.

هذا حق لا يضر به ولا يؤثر فيه تداول الألسن إياه بالمناقشات والمباحثات وهل يعرف الناس شيئاً أثبت على الجدال وأرسى على المحاورة ولا أبقى على المعارضة وأدوم على المحاربة من الحق؟ وما أحسن ما نطق به الأستاذ في هذه الصدد إذ قال أحد الجلساء ألا تخشى من إيراد المسائل الدينية في عرض الحديث الاعتيادي؟ فقال الأستاذ أخشى على م؟ فأجاب صاحبه على الحق قال الأستاذ ما كنت أحسب أن الوهن والمرض قد بلغا بالحق هذا المبلغ. متى كان الحق من شدة الضعف بحيث لا يستطيع الخروج إلى الناس إلا متلففاً في كسائه مختفياً في جوف مركبته خشية مس الهواء والشمس. دعني أضرب لك في هذا الصدد مثلاً يسر الصغار ولا يضر الكبار.

يحكى أن صبياً كان له طيارة مملوءة غازاً ولها حبل يعقد طرفه بكفه خشية أن تندّ في الفضاء فتضيع، وكان للغلام أخ خبيث فأتاه ذات يوم فقال له أي أخيّ أنزل طيارتك أرها، فجذبها الغلام وكان في يد الأخ الخبيث إبرة فشك بها الطيارة فخرج من جوفها الهواء فتقلصت فإذا كل ما هنالك جلدة متقبضة.

فلما كان ذات مساء وأبو الغلام واقف لدى النافذة نادى ابنه لينظر القمر ففعل فسرّه الكوكب المتألق غير أنه ما لبث أن قال أبي. لا تجذب الحبل فيهبط القمر لأني أخشى عليه أخي الخبيث أن يخرقه فيتقلص ويذهب فلا نراه أبداً.

عند ذلك ضحك أبوه وأخبره أن القمر ما برح مشرقاً على الدنيا منذ أقدم العصور وأنه سيبقى كذلك أمداً طويلاً. وأم كلّ ما علينا هو أن ننظف زجاج نوافذنا فلا ندع التراب يتراكم عليها، وأن نبقي أعيننا مفتوحة ولكنا لا نستطيع أن نجذب إلينا القمر فنشكه فنخرقه. ولتعلمنّ كذلك أن القمر ليس ملكاً خاصاً بفرد من الأفراد وإنما متاع مشاع ينعم برؤيته كل من شاء.

الحق صلب يابس ليس كالفقاعة يفقؤها اللمس. ولكنه كالكرة تركلها طول النهار بقدميك فلا تجدها لدى المساء إلا متينة منتفخة. وما أحسن قول المستر برينت حيث يقول. الحق متين لو مر فوقه قطار البخار ما ضرّه. والباطل سقيم يميته أدنى الخدش. وما أن رأيت ولا سمعت برياضيّ راح قلقاً على نظرية من نظرياته أن يبطلها مبطل أو يدحض برهانها داحض. ورأي أن خوفك المناقشة دليل قاطع على وهن اعتقادك.