مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/واجب المرء نحو نفسه
→ اعترافات ده موسيه | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13 واجب المرء نحو نفسه [[مؤلف:|]] |
ابن زيدون ← |
بتاريخ: 1 - 10 - 1913 |
وواجبه نحو الله
ما الغرض الذي ينتهي إليه الحق والواجب. وأين يستكن المطلب السامي البديع الذي كان حقاً علينا تحقيقه.
والبحث في أن العدل يتجاوز تلك الحدود الضيقة التي وضعناها، ويعدو على تلك الرسوم التي رسمناها وإن الإحسان في دائرة العدل وتحت سلطانه أمر يشق علينا أن نأتي به في كلمة أو كلمتين بل بحسبنا أن نقول أن الواجب هو العدل، وسنرى بعد أن لا غنى لنا عن عنصر آخر هو الحرية فإنه وإن كان الظلم شراً مستطيراً وأن لا خير إلا في العدل فإن من الشر ما يكون عدلاً.
وقبل الخوض في هذا البحث ينبغي لنا أن نشرح معنى ما يسمى بالواجبات الشخصية والواجبات الدينية، ولما كانت تلك الواجبات والحقوق علاقات بين الناس وروابط بين الأفراد كان صعباً علينا أن ندرك قولنا أن للمرء حقوقاً تخصه وواجبات تلزمه. ولما كان الواجب هو العدل والمساواة ركنه المكين وكانت المساواة في حق الله غير جائزة كان أشق علينا أن نفهم ما نعني بقولنا واجب المرء نحو الله.
إن الآداب كلها آداب اجتماعية وقبل أن تذهب بك بعيداً ينبغي لنا أن نبحث فيما إذا كان هناك آداب دينية وآداب شخصية والمعنى الجدير بكليهما.
الفصل الأول
واجب المرء نحو نفسه
هل لأنفسنا حق علينا؟
قالوا أن رجلاً اعتزل العالم وعاش في نجوة منه. في جزيرة مقفرة كما كان ربنسن كروزو، ملزم باحترام الإنسانية في شخصه ولكن هل يتصور العقل فرضهم أو يقبل منهم قولهم. فأين لإنسان بعيد عن الحياة الاجتماعي لا يدركها ولا تربطه بها رابطة ولا تجمعه بها آصرة أن يحترم الإنسانية ويوقرها.
ما كان ربنسن كروزو منقطع الأمل من الرجوع إلى الإنسانية والمعيشة بين قومه بل قد عاد إلى الناس وآب إليهم وكان لربنسن كلب وقط وببغاء والتقى في معتزله (بجمعة) إن من يحترم الإنسانية في شخصه حق عليه أن يعد نفسه جزءاً منها، ومن انفرد عن العالم وانتبذ مكاناً من المجتمع وانقطع منه كل رجاء في الرجوع إليه ولم يرتبط به في شيء فقد أصبح غريباً عن الإنسانية خارجاً عنها ولو أمكننا أن ندرك أن في وسعه أن يحافظ على كرامته وشرفه وقد فعل لما كان فعله إتباعاً لآداب عمومية وقياماً بواجبات اجتماعية وإنما هو إحساس شريف ونزعة جميلة.
الواجب دَين، والإنسان لا يكون مديناً لنفسه ولا يملك لها إبراء ولا صرفاً فلا وجود إذن للواجب الشخصي بالمعنى الحقيقي.
من كان مديناً لغيره فحق عليه العمل لسداد دَينه وكلنا مدينون للمجتمع فيلزمنا إذن أن نعمل لتوفيته دَينه وأن نقف بحيث يتسنى لنا العمل وما واجبنا على أنفسنا في الحقيقة إلا حقوق للمجتمع وعهود وخلاصة هذه الواجبات أن يحافظ المرء على كيانه ويسلم من الأذى.
إن الشقي الذي ناء بالحياة حملاً وضاق بها ذرعاً وأقفر من الفرح ولأمل فأجمع أمره على فراقها والتخلص بالانتحار من همها أحق بالرأفة وأجدر بالرثاء والرحمة وعلينا أن نكم أفواهنا إزاء بأسائه ونمسك عن القول أمام شقائه ومن كان في رغد من العيش لا يشقى بعبء الحياة فلا يحق له أن ينقم على المسكين ويحكم فيه بأمره فإنه لا يدري ماذا كان يفعل لو كان في مكانه وهذه حقيقة لا يقل عنها ثبوتاً ووضوحاً أنه لا يجوز لأحد منا أن يستل روحه ويجهز على نفسه هرباً من واجب الإنسانية وتخلصاً مما عليه من الحقوق.
إن المجتمع في حداثة أعمالنا يقوم بجميع حاجاتنا ولا نقوم في مقابل خدمته بشيء إلى أن يبلغ الفرد منا خمس عشرة سنة إن كان صانعاً أو العشرين أو الخمسة والعشرين إن كان محترفاً بإحدى المهن الحرة كالطب والمحاماة فهو قبل تلك السن ثروة إلى حين ومتاع مدخر لم ينتج بعد شيئاً للمجتمع ونبت لم يزهر وغرس لم يثمر وهو ملك للجماعة بكليته.
المحافظة على النفس غير مقصورة على الاحتفاظ بالوجود بل على جميع قوى الحياة الأدبية والمادية من صحة وعقل وذكاء ولب وقلب وحرية وليست قوانين الصحة إلا قواعد أخلاق واجب على المرء إتباعها أضف إلى قوانين الصحة قواعد تثقيف العقل وإنماء المدارك فلا يسوغ له أن ينهك ذكاءه أو يخمد وهج نوره أو يقسي قلبه بل يجب عليه أن يتعهده بأنواع الحب والشفقة ولا يميل به إلا إلى كل حسن جميل وإذا جاد لامرئ بقلبه فليجد دون قيد ولا شرط.
والغيرة على الحرية واجبة قبل كل شيء فلا يجعل المرء لأحد سلطاناً عليه فإن مصيبة المصائب ونكبة النكبات أن يكون الإنسان آلة في أيدي غيره وأنني إذا ما خامرني شك في استقلال امرئ بيني وبينه خلطة وعمل ورأيت منه أنه لا يعمل بإرادته ولا يفكر بعقله عراني لحاله ألم شديد وتضاءل أمامي حتى لأتلمسه فلا أجده وإنما أجد مكانه خيالاً يدعو إلى الرعب والفزع كلما قام أو قعد ظننت أنه يخفي وراءه شباكاً نصبت لاغتيالي.
أعمل بإرادتك واختيارك وإذا ما أحرجتك الصيحة فلا تستثر إلا ذا بصيرة وعقل ولكن احرص كل الحرص على حقك في إهمال رأيه إذا أنت لم تجده سديداً وأن في تخيلك عن حريتك تركاً لحقك في قضاء واجبك ولا تضع شيئاً فوق ضميرك ووجدانك.
وجملة القول واجبك نحو نفسك أن تكون صالحاً لأمر ما وذا قيمة ونفع للبيئة التي تعيش فيها وقد تضطر بعض الأحيان إلى تضحية النفس في سبيل خدمة قومك فافعل ولا تحجم إن كانت هذه التضحية من واجبك ولا يلتبس عليك الانتحار بالتضحية وما تضحية الروح إلا أن تقذف بنفسك إلى حظيرة الموت أو أن لا تطير على الأقل من الموت رعباً وجبناً فإن كان الدافع لك صالحك الشخصي بأن اعتقدت أن في مفارقتك للحياة سعادة لك وهناء لروحك أو نهاية لآلامك وأحزانك وخلاصاً من بؤسك وشقائك فهذا هو الانتحار. أما التضحية فالعمل بشجاعة وثبات على قضاء واجب يكون الموت خاتمته وقد يدعوك واجبك إلى اقتحام المخاوف وتعريض حياتك إلى الأخطار وبذل صحتك وراحتك أو ترك شيء من آمالك وما ترتجيه من مستقبلك أو إلى تمزيق قلبك وإطفاء وجدانك، ومن الجائز - وإن كان من أندر الأمور_أن يقضي عليك صالح الجماعة بتنازلك عن جزء من استقلالك وحريتك فأقدم ولا تجبن إن كان هذا واجبك فإن ما في جسمك من لحم ودم وعظم وما في رأسك من ذكاء وعقل وبصر وسمع وما فيك من قوة وصحة وشعور وإحساس متاع للمجتمع وثروة لست إلا مديرها وأنك لم تعط هذه المواهب لتحبسها وتضن بها كالبخيل الذي يشح بماله ويحتفظ بكنوزه فتذهب فائدتها وإنما لتحسن تصرفها وإنفاقها في صالح أمتك ووطنك.
الفصل الثاني واجب المرء نحو الله
وهل لله حق على الإنسان؟
وهل من حقوق الله أن نؤمن به ونسلم بوجوده؟
ليست العقيدة كرهاً لأنها خارجة عن إرادة المرء فليس في وسع الإنسان أن يحمل نفسه رغماً منها على التصديق بدعوى يعلم باطلها أو يرغم شعوره على إنكار حقيقة أقتنع بصدقها أو يكره عقله على تصديق ما لم يكن مصدقاً، ومن ذا الذي يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورة شيء ماثل أمام عينيه يلمسه ويراه، ولكن لا يجوز له أن يعارض في الحق أو ينصر الباطل أو يرضى بحجة لا يرى سدادها، وإنما الجائز له أن يبحث دون غضب أو تحيز.
لا إكراه في الدين، وإنما الإكراه على حسن النية، ولقد يدعي المتدينون أن إخلاص النية يؤدي حتماً إلى الأيمان ولكن من لم يهده نور الإنجيل فلا هادي له من نفسه وإن من استرشد بتعاليم المسيح فلن يضل السبيل إلا إذا استبدت به شهواته وميوله الفاسدة.
لا ننكر عليهم أن كثيرين من الملحدين ساقهم إلى الإلحاد أسباب غير شريفة ولا وجيهة وإن الطفل الذي يتربى في أحضان الدين يضن بعقائده الساذجة عن أن تعرض إلى المناقشة والبحث حتى إذا ثارت شهواته وتيقظت مداركه شرع يبحث في عقيدته وأخذ في نقدها وتحليلها وفك قيودها وأغلالها وقل ما يكون عادلاً أو دقيقاً ولا يكاد يفسد أيمانه حتى تنهار أخلاقه وتسقط آدابه وكذلك كل بناء يرتكز على أساس غير متين لا يلبث أن ينهار لا محالة.
ما أضعف التربية المرتكزة على الدين المحض وما أشد خطرها على الأخلاق بل ما أبلغ ضررها على الدين نفسه فإن فكرة الناشئ في التخلص من عقيدته والخروج عليها تحدث غالباً من ميل فيه إلى التخلص من الآداب والأخلاق.
وإذا نبذ الشاب الحدث معتقداته الدينية خفة منه وتسرعاً فإن الرجل الناضج قادر على نقدها واختبارها دون ميل أو تحيز ولا يسعنا أن ننكر عليه رزانة فكره وسداد رأيه أو أن ننسب عجزه عن مقاومة شكوكه إلى نقص في صدقه وأمانته فإن العقيدة هي التي تنقصها الأمانة في البحث.
أليس من الأمانة أن يتنزه المرء عن الأغراض ولا يضع نصب عينيه نتيجة معلومة له من قبل يروم الوصول إليها ويتطلب كل دليل يقوم على صحتها وما العقيدة إلا دعوى مسلم من قبل بصدقها أو تحيز إلى طرف مخصوص.
وحب المتعصب دينه أكثر من حبه الحقيقة فلا يعرض دينه لخطر المناقشة ويعمل جهده على الابتعاد عن الجدل ويحرم قراءة بعض الكتب ويحكم على مناظره بأنه عدو للدين لدود فكأني به غير متثبت من يقينه أو لا يريد الإقرار بهزيمته وضعفه.
إن المعرفة شيء والاعتقاد شيء أخر ولا جامعة بين العلم والدين فكل بمعزل عن الأخر إذ الدين عبارة عن التشبث بأمر لم يقم الدليل على صحته.
إن وجد المرء عقيدة أفضل من عقيدته فإخلاصه يقضي عليه بالخروج عن عقيدته واعتناق الأخرى وأن يشك فيما هو موضع للشك وأن يقول لا أدري فيما لا يدري.
أجل إن من المتدينين من ليس مقلداً ولا متبعاً أسلافه إتباعاً أعمى وإنما آمن بدينه لاقتناعه بصحته ونهوض الدليل لديه على صدقه غير أن اليقين المطلق الذي لا يقبل نقضاً ولا شكاً غير موجود إلا في بعض نظريات رياضة وفيما عدا ذلك فكل م نعلمه ونعرفه معتمد على أساس من الريب والظنون وقد أرجع سبينوزا أسباب الاقتناع إلى أمرين فالأول أن يدرك الذهن بنور ذكائه متانة البرهان فيذعن له والثاني أن يعمى المرء لجهله أو لغباوته عن ركاكة الدليل وأوجه الطعن فيه فلا يرى بداً من التسليم.
فالدليل لا يكون ناهضاً قاطعاً إلا لمتانته أو لعدم إدراك مواضع ضعفه ولكن لا يمضي يوم ويظهر لنا فساد بعض الأراء والأدلة التي كنا مقتنعين بصحتها مخدوعين في متناتها وذلك بفضل البحث والمناقشة.
من بذل لنا جهده فقد قام بواجبه ولا لوم على من سعى وأخطأ.
إذن فلا إكراه على العقائد وإنما المرء مكره على أن لا يبحث في المسائل الهامة بنزق وطيش بل عليه أن يبلوها بصدق وثبات.
ومن عمل جهده في مسألة وجود الله واليوم الآخر وكان رائده الإخلاص والأمانة فلا يستحق اللوم والتأنيب مهما كان الحل الذي يصل إليه فلا حجر على الآراء والمبادئ ولا واجب بإزائها غير الدقة والأمانة.
لا حقوق لله على أولئك الذين ينكرونه، ولكن على المتدينين أن يعلموا بدينهم ويصدعوا بعقيدتهم.
ومن المدهش تسامح المتدينين مع من يظهر الأيمان ولا يعمل به وتشددهم في معاملة الملحد وعظيم كراهتهم له مع أن الاثنين سيان لأن المهمل لقواعد دينه في الواقع لا دين له والأيمان عنده ولا يعلق أهمية كبرى على عقائده حتى يفكر في خلعها ويستهتر بها ويعتدها ميثاقاً محلولاً فلا يهتم لنبذها. ومن نظر إلى الأديان نظرة اعتبار واهتمام فألقى حبلها على غاربها وأخلى عقله منها بعد أن فكر فيها كثيراً أقرب رجوعاً إلى الله وأكثر استعداداً لقبول المعتقدات الدينية.
ليس لنا أن نبحث في الطقوس الدينية والشعائر الخاصة بنظام الكنيسة لخروجها عن موضوع هذا الكتاب وعدم تعلقها بالآداب والأخلاق ونقصر القول على المبادئ الدينية العامة التي يشترك فيها جميع الأديان والتي يسميها بعضهم بدين الفطرة.
أول واجب لله عز وجل إطاعة أوامره وتنفيذ إرادته والمتدينون يعتبرون الوازع الأدبي بمثابة إرادة الله ووحي منه إلى القلوب والأفئدة ويرون أن واجب الله هو أول الواجبات وأعظمها فقد قال السيد المسيح أول الواجبات محبة الله ثم أعقبه بقوله أحب لغيرك ما تحبه لنفسك لا فرق بين الآداب عند المتدينين وغير المتدينين فما يعمله الفريق الأول طاعة منه واحتراماً أو خوفاً ورهبة يعمله الفريق الثاني لدواع اخر وسواء كانت الحكمة المحصنة هي التي ألهمت الضمائر الوازع الأدبي أم ذات عليا هي التي أوحت به إلى القلوب فالوازع واحد لا فرق فيه.
إن أهم التكاليف الدينية بعد محبة الله ولب الدين ومحوره الذي يدور عليه هي الصلاة.
وليست الصلاة بركوع وسجود وترتيل وتمتمة وإنما هي صعود بالروح إلى الله وتمثله في مخيلتك والإخلاص في حبه بل هي هتاف ذاكرتك وخفقان قلبك وأنعام فكرك، وإن أردت الصلاة فأحب الله واستحضره في ذهنك، إنه يقرأ ما يكنه صدرك وما يجول في خاطرك.
يستمد الحب نوره من العطف والحنين وذلك أن تتجاوب القلوب بخفقانها وتتناجى الأرواح بمكنوناتها وجدانها على لسان من الانفعالات النفسية التي تظهر على الوجوه والأطراف، والحبيب في حديثه وأفعاله ونظرات طرفه وتقاسيم وجهه وابتسام ثغره يزيدنا تعلقاً به ويحمل روحنا على الامتزاج بروحه والله سبحانه وتعالى لم يتجل لنا إلا في صنعه ومخلوقاته أعني الكون والطبيعة فبالكون يتسنى لنا الإفصاح عن محبتنا لله عز وجل. والإعجاب بالطبيعة في جلال منظرها وعظيم اتساعها وحسن نظامها ودقيق سيرها صلاة وعبادة هذا إذا لم يكن استخدام أسرارها في منفعتنا واستدرار خيراتها هو الباعث لنا على ذلك.
أجل إن نفوسنا لا تتجه إلى الله عز وجل إذا كان همنا من التأمل في مخلوقاته استثمارها والانتفاع بأسرارها لأنا حينئذ لا نحب إلا أنفسنا ولا نفكر في غيرنا ولا نعطف على أحد سوانا إنما الصلاة أن تطيل نظرك في محاسن الطبيعة وتتغلغل بفكرك في عجائب الكون لتبع طرفك من الجمال ونفسك من الهيبة والخشوع. إن الله هو الكمال والدوام والغيب والخفاء لا تدركه الأبصار ولا تحيط به العقول، مهما حثثنا السير إليه وأجهدنا قوانا للاقتراب منه لا نقطع غير مرحلة صغيرة لأن مواهبنا محدودة ومحصورة يستحيل فك قيودها وإطلاقها من سجنها وإنما في قدرتنا أن نباعد بين جدران سجنها بأن نعيش لغيرنا ولا نفكر في أنفسنا ولا نتفانى في حب ذاتنا وأن نعني من شؤون الناس بمثل ما نعني بشؤوننا ونفسح المدى لقلوبنا ونزيد دائرة اهتمامنا ونمتزج بالمجموع حتى تفنى شخصياتنا.
الإنسان بطبعه ميال إلى الاعتزاز بنفسه والاعتداد بشأنه والاهتمام بشخصه والاعتقاد بأنه ركن العالم وقطب الرحى وهذا خلق مناف للدين والتقى إنما الدين في كل ما يكبح من جماحك ويقصر من غلوائك ويخمد من كبريائك ويردك إلى منزلتك ويعرفك بحقيقة قدرك وقيمة نفسك كما يقول بسكال وفيما يمر بنا من الهواتف الداعية لنا بالرجوع إلى الصواب وعدم النظر إلى الأمور بعين الأثرة وحب الذات وفيما يحملنا على الاعتقاد والشعور بأنا لسنا ذرة صغيرة في الكون لا قدر ولا أهمية لها في الوجود وفي كل ما يكشف لنا الغطاء عن واجبنا ويهدينا إلى العمل الصالح.
إن الفنون الجميلة تعد من قبيل الصلاة ولا أعني الفنون الدنيئة التي تثير اللذائذ وتوقظ الشهوات بل الفنون الراقية التي بخيالها وجمالها وخداعها للعين تصور الطبيعة وتمثل الحقيقة وتبعت في النفوس (كما يقول كانت) سروراً عاماً لا قصد له.
ولا يعشق الطبيعة إلا من عرفها وألم بأسرارها ومن تعمق في دراسة صنع الله وأنعم النظر للوقوف على أسرار خلقه كان أقرب إلى الله.
ولذلك كان العلم ضرباً من ضروب التعبد والتسبيح ولكن ليس ذلك العلم الذي يسعى في إذلال الطبيعة لخدمة الإنسان بل العلم الذي نتطلبه حباً في العلم وتوقداً للذهن وإطفاء لظمئنا إلى الحقيقة واليقين فهذا أجل العبادات وأطهرها. أليس الله كما يعتقد المؤمنون هو الحكمة الخالصة واليقين المطلق وإذا كان الأمر كذلك فهل يوجد أنقى من صلاة يتزلف فيها المرء إلى ربه بنور الحقيقة وضياء اليقين. وما أحسن ما قاله مالبراتس في ذلك من يعرف الحقيقة يرى أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يتجلى لنا في النتائج ويظهر في البديهيات هو نور ذكائنا وشعاع عقولنا.
ليست الصلاة مقصورة على التأمل والنجوى وتسريح الظن في صنع الله بل تشمل الاستغاثة والاستعانة به سبحانه وتعالى فإن الله كعبة المؤمن ومحط آماله ورحاله ومصدر الخير ومنبع الاحسان ولكن ماذا يجمل بنا طلبه منه عز وجل؟ هل نبتهل إليه ليرفع عنا البلاء ويعافينا من الأمراض والأسقام ويسدد مساعينا وينجح مقاصدنا ويسبغ علينا من نعائمه وينزل علينا الغيث ويسخر لنا الشمس لحرث الأرض وإنبات الزرع؟ ألا أنه لا يحسن بالمؤمن أن يتضرع إلى ربه ليؤثره بخبراته فإن طلباً كهذا أساسه الأثرة وحب الذات والأثرة قارورة الشر ومن الجنون والحمق أن ندعوا الله إلى خرق ناموس الطبيعة وتغيير نظام الكون وقد جاء في انجيل متى أن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه بدون أن تسألوه إياه. وإنما الذي يحسن بنا أن نطلبه من الله أن يهدينا السبيل ويرشدنا إلى الخير ويوفقنا إلى الإحسان ويهبنا القوة والشجاعة في أداء واجبنا فإن هذا لا يستلزم إظهار المعجزات ولا يدعو سبحانه وتعالى إلى خرق نظامه ولأن صلاة كهذه تقوي فينا العاطفة الأدبية وتقتلع من أفئدتنا أصول الشر وتحملنا على بذل الخير وعمل الإحسان. وخليق بالصلاة أن تعد من ضمن ما علينا من الواجبات لأنفسنا لا من حقوق الله علينا فأن الله قائم بذاته غني عن العالم غير مفتقر إلى أحد لا تؤثر عليه أفعالنا لا في قدرته وإرادته ولا في جلاله وكبريائه تعالى عن النقائص وتنزه عن الفقر لا تعوزه صلاتنا وإنما نحن الذين تعوزنا الصلاة إليه فإن في الصلاة وصعود الفكر وتوجيه القلب إليه تزكية للنفوس وتطهيراً للضمائر وتقوية للعزائم وتنويراً للأذهان.
إذا تقرر كل ذلك علمنا أن في طاقة الملحد بل من المحتم القيام بواجب المؤمن قبل ربه فإن الأخير وإن صف يديه وثنى ركبتيه غير أن ما يخفيه بين أحشائه ويكنه في ضميره قد يخالج الأول ويستقر في أعماق نفسه.
إننا إذا صعدنا بنفوسنا قبل الله فإنما نصعد بها قبل العدل والجمال والحقيقة والملحد غير عاجز عن ذلك. إن المؤمن وإن رأى ضرورة تمثيل الكمال والجمال والحقيقة والعدل في ذات الإله إلا أنه لم يتقدم عن الملحد خطوة ولم يسبقه قيد شيء لأن مواهبه محدودة فلا يقدر أن يحيط بغير المحدود ولا يدرك شيئاً من الحقيقة إلا بواسطة العلوم ولا يحظى بالجمال من غير الفنون والطبيعة ولا يتسنى له العدل إلا بالعمل.
ومن هنا يتضح لنا جلياً أن الواجبات الدينية هي في الحقيقة واجبات شخصية وقد أثبتنا أن جميع الواجبات الشخصية في الواقع واجبات اجتماعية والخلاصة أن الآداب النفسية والدينية داخلتان ضمن الآداب الاجتماعية التي هي الكل في الكل.