مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/نوابغ العصر
→ عبد البهاء عباس أفندي زعيم البهائيين | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13 نوابغ العصر [[مؤلف:|]] |
نوابغ العالم ← |
بتاريخ: 1 - 10 - 1913 |
1
أحمد بك شوقي
الجمال أمر يدرك بالذوق والبصيرة، وسرّ يفهم بالوجدان والسريرة. وإنما العين باب إلى القلب، والحس مسلك إلى النفس. ولما كان الجمهور في البلاد المتأخرة غير ذوي بصائر، أو ذوي بصائر رمداء يحسن لديها القبيح. ويقبح الحسن. وذوي أذواق فاسدة تزدرد الخبيث وتلفظ الطيب. أصبح حكمهم على الأشياء متهماً ظنيناً لا ينبغي أن يعتد به أو يلتفت إليه. والجمهور في الممالك المنحطة كالطفل مقلد سريع التقليد، وكالصدي يقول ما لا يفهم، أو كالريح لا تدري أين تذهب. وقد رأيت المكابرين من أهل هذه الديار قد تمسكوا بعرى حجة واهية تخذوها مخرجاً لهم من مأزق الخصام. إذا حاول أحد إقناعهم بالدليل القاطع قالوا لكل إنسان مشرب أو الأذواق تختلف بلى قد صدقتم معشر لمكابرين الأذواق تختلف حسناً وقبحاً، وصحة واختلالاً، وسلامة ومرضاً. وطالما رأينا الرجل الذي ليس بالأعمى يتعشق المرأة القبيحة الشوهاء، والرجل الذي ليس بالأصم يطرب للغناء الفاسد الغث. ورأينا كذلك من تضحكه الكلمة السمجة الباردة، ومن تسره الفعلة السيئة المنكرة. فهل يقوم لهم حجة قولهم لكل إنسان مشرب والأذواق تختلف اللهم لا يكون ذلك ما دام القبيح قبيحاً، والمرذول مرذولاً، والغث غثاً. وأني لأطلب إلى أمثال هؤلاء أن ينسلخوا منا بأذواقهم ومشاربهم، وبكل ما قد اصطفوه واختاروه من محتويات هذا العالم طعاماً كان أو شراباً أو شعراً أو نساءً. وأقسم أن الدنيا ستكون بعد زوالهم أكثر وأغنى، وأملح وأسنى.
في خراب البلدان، تكثر البوم والغربان. وفي خراب الأذهان تكثر كذلك البوم والغربان من قالة الهذر والهذيان. فيا ويل عشاق الغناء يومئذ ويابؤسهم، يدورون ويطوفون، وينصبون الآذان، ويرهفون الحواس، علهم يسمعون صوتاً يلذهم، أو نغمة تطربهم. ولكن ماذا تنتظر من البوم وما ترجو لدى الغربان!
في هذا الخراب المؤيس إذا طاب السحر، ومرض النسيم، قد يسمع من حين إلى حين بلبل غريد، حلو الأرانين، عذب الأهازيج، يستوقف عاشق الغناء، ذلك التائه الحيران، والهائم الولهان. فيحي بصوته الشجي ملحود الرجاء، ويهدي بلحنه الشهي منشود الرخاء. يسترق الأسماع. ويسترجف الأضلاع. ويستثير الأدواء، ويستطير الأحشاء. هذا البلبل الشجي، والطائر المحكي. هو مثل أمير الشعراء، وسيد الفصحاء. أحمد بك شوقي.
لقد طالما قلت في نفسي ماذا كانت تكون حالنا إذا لم يكن بيننا أمثال شوقي. ماذا كانت تكون حالنا وسط أولئك الوزانين الرصاصين الذين يصنعون أشعارهم بالأيدي والبراجل،_أولئك الصخابين الذين يسمعوننا بدل الألحان والانغام، قرع المطارق فوق السناديل، وقد حولوا غابة الشعر (روشة) بل ماذا كانت تكون آذاننا إذ ذاك إلا آفات لنا_أبوابنا تطرقنا منها صيحات تلك المطارق وضجات هاتيك السناديل. بئس مسالك الشر ومناهج العذاب!
لولا أمثال شوقي لكانت مصر بلدة خرساء غير ذات لسان يعبر عن وجدانها ومقول يبسط مطوى إحساساتها. ولكن شوقي هو ترجمان هذا الجيل وبوقه، وهو مزهر تبعث منه الطبيعة رناتها. وتخرج الإنسانية منه أناتها.
ولولا شوقي لاستحيينا أن ننتسب إلى آبائنا من العرب، وكيف ولا صلة لدينا ولا نسب. ولكنه السبب الذي به نمت إليهم، والآصرة التي تربطنا بهم على تقادم العهد وتطاول الأمد. أجل أنه منذ انحطاط آداب العرب بانحطاط دولتهم لم ينهض بدولة الأدب إلا شوقي. ومنذ أفول شعر العرب بأفوال سلطانهم لم يلح بأفق القريض إلا شوقي. فهو مسلم هذا العصر ونواسيه. وحبيب هذا الوقت وبحتريه. تبصر في شعره جزالة الجاهليين ورقة المولدين ورشاقة الأندلسيين وعذوبة العباسيين. ويلذك من ديوانه اعتذارات النابغة وأماديح زهير وافتخارات الفرزدق وزهديات أبي القاسم وغزليات الوليد ومراثي الطائي وأوصاف ابن المعتز وبدائع ابن الرومي.
وزاد شوقي على ذلك الشيء الذي هو أول شرائط الشاعر الحق وألزم لزومياته، والذي لولاه لا يكون شاعراً، أعني التعبير عن روح عصره وبذلك يعرف فق ما بين الشاعر الفطري الذي يعبر به العصر عن معانيه، ويكشف به الوقت عن مغازيه. فيكون مرآة العصر وصدى الجيل. وبين الوزان المقلد، الذي لا يجيء بشيء من عنده وإنما يردد أقوال الماضين مع المسخ والتشويه، ويسرق معاني الغابرين مع الطلاء والتمويه.
ولقد طالما شق علينا أن نرى العلوم تدرس بالمدارس والكتب تفسر ثم لا نرى بينها ديوان شوقي. وأن نلقي الناس يخرجون للسياحة في الأقطار الغريبة ذات المناظر الشائقة ولا يصنعون سياحة في ديوان شوقي. وأن نجد للأهرام والهياكل والأبراج القديمة وسائر عجائب الكون ونوادر العالم شرّاحاً ومفسرين، ولا نجد ذلك لديوان شوقي. وإن ديوانه لأعجب من كل هذه وأبدع، وأغرب من كل هاته وأروع. وأحق بالدرس والمذاكرة، والبحث والمناظرة.
ونحن فقد رأينا أنه ليس من الحكمة أن نقضي الوقت بالأسف على تقصير القوم في حق العظماء، فإن الأسف ضرب من التقصير. وإنما الحزم أن نعمل نحن ما لا يدعو إلى الأسف فنهضنا لهذا العمل الجليل، ونحن نسأل الله القدرة عليه. وأخذنا له أهبه ورأينا من الواجب قبل تناول ديوان شاعرنا الكبير أن نقول كلمة في ماهية الشعر والشاعر لكاتب غربي كبير.
قال ذلك الكاتب: الشاعر هو الفصيح المفوه بين قوم بكم، أو الوصيّ بين أحداث. يعبر عما في صدور الخرس، أو ينفق على الصبيان من ميراثهم فأني أرى سواد الناس صبياناً لم يستولوا بعد على تراثهم (أعني محاسن الخليقة وجمال العالم) أو خرساً لا يستطيعون نقل ما يجري من الأحاديث بينهم وبين الطبيعة. وأنه ليس من إنسان إلا وهو يشعر أن للشمس والنجوم والماء والتراب فائدة روحانية - فائدة خلاف الظاهر من فوائدها. وإنها تتأهب لتؤدي له خدمة خاصة. ولكن في طباعنا من الظلمة والكثافة ما يحول دون اجتناء كل الثمرة المنتظرة. وأثر هذه الكائنات في نفوسنا أضعف من أن يهيجنا إلى حدّ الشاعرية وأوهن من أن يفجر على ألسنتنا ينبوع القريض. وكان الواجب أن تعرونا لكل لمسة من الطبيعة هزة، ولكل نغمة منها رجفة ورجة. وكان الواجب أن نكون من حدة الجنان وحدة اللسان بحيث يمكننا التعبير عن كل ما وقع لنا من الطبيعة وجرى. ولكن رنات موسيقى الطبيعة تبلغ الحواس ولا تصل إلى الصميم، وليس دون بلوغها الصميم ما يستردّها لفظاً ويستعيدها كلاماً. فالشاعر هو الرجل الصافي الطبع الذي يرى ويلمس من بدائع الوجود ما يحلم به الغير. فهو معلم القوم وخطيبهم لأنه أشدّهم أخذاً وإلقاءً، وأكثرهم تناولاً وإعطاءً.
ليس في الدهر حادث أعظم من ظهور شاعر، وليس في الدهر حادث أندر من ظهور شاعر. وكأن بابن أدم يترقب طلوع امرئ يكشف له قناع الحقيقة، ويركزه على أساس متين من الصدق، ويخلصه من ربقة الشك وظلمة الشبهة. ويرفعه فوق هذا الجو المغيم وإن خاله صحواً، وهذا اليوم خير من يوم ميلاد. ففي ذلك اليوم صار حيواناً وفي هذا يتجلى نور اليقين ويبصر وجه الحقيقة. هذا أمله وذاك ما يرقب وينتظر. ولكن ما أكثر ما يخيب أمله ويضيع انتظاره. إذ يجد ذلك الرجل المجنح لا يصعد به إلى سماء وإنما ينغمس به في غيوم ثم يطفر به من سحابة إلى سحابة وهو أثناء ذلك يؤكد له أنه صاعد به إلى السماء. ويصدقه الآخر لقلة خبرته وتغيب عنه الحقيقة، وهي إن ذلك المجنح لا يعرف الطريق إلى السماء، وكل ما لديه هو أنه يعلو قليلاً كالسمكة أو الدجاجة ثم يهوي.
الشاعر يصف الأشياء فيزيد الجمال جمالاً والحسن حسناً. لأن لكل شيء حسن ظاهراً جميلاً وباطناً أجمل. وذلك الباطن الأجمل لا يبدو إلا لعين الشاعر التي هي أنفذ وأمضى، وأثقب وأذكى. وكما أن أشكال الكائنات ينطبع لها في إنسان عين الناظر وصور أجمل من الحقيقة وأبدع. فكذلك أرواح هذه الكائنات أو كما قلنا الآن بواطنها ينطبع لها في ذهن الشاعر صور أملح كذلك من الأصول وأبرع. وهذا من قبيل تطور الأشياء من حال إلى أرقى، ومن جوهر إلى أنقى. وإن لكل شيء روحاً تحوم فوقه فكما أن عين الناظر تعكس صورة ذلك الشيء، فكذلك ذهن الشاعر يعكس تلك الروح في هيئة غناء - أعني شعراً. أجل إن للبحر والجبل والنهر والزهر في الحقيقة أنغاماً تجري مع النسيم كالروائح العطرة لا يسمعها إلا ذوو الآذان التي هي أحدّ وأرهف_أعني الشعراء. ثم هم يحاولون كتابة هذه الأنغام فأكتبهم لها أشعرهم: وكذلك لا ينبغي أن تكون القافية في أي القصائد بأقل حسناً من النقش في الصدفة، ولا من تشابه الأشكال في طائفة الزهر. وأني أرى ازدواج العصافير ضرباً من الرباعيات. وأرى الزوبعة قصيدة حماسية. والصيف بزرعه وحصاده وخزنه قصيدة قصصية حسنة التقسيم مطردة السياق. فلم لا يتسرَّب إلى أرواحنا شعبة مما نراه في هذه الظواهر الطبيعية من الصحة والصفاء والنظام؟
أيها الشاعر! قد كان الفرسان في سالف الأزمان ينالون المجد والعلاء بالانقطاع إلى حماية عقيلة ذات حسب وجمال، وكانت مواطنهم يومذاك القلاع، وسوح الحرب والصراع. فأصبحت غاية المجد تنحاز لك بانقطاعك إلى آلهة الشعر بالمروج الخضر والغابات. فاعتزل رعاك الله الأوقات والعادات، والاصطلاحات والسياسات، والآراء والاعتبارات.
وخذ كل ما تحتاجه من آلهة القريض ودع لغيرك الحرف والصناعات والأعمال والأشغال. واترك لهم عجلات الحكومة يديرونها والبرلمانات والخطب والمحاكم والقضاء والحرب وزلزاله، والخوف وبلباله. واستتر عن هذه وهاتيك في زوايا الطبيعة ملتحفاً أبراد الظلال، على خرير الزلال. مستهدفاً لقاذعة الذم والهجاء. وقارعة السخر والاستهزاء. فهذا عمرك الله هو الستار الذي صان به بان زهرته المحبوبة وتعز بتشجيع أخوانك. وتأييد خلانك. ولك الأرض بعدُ مجالاً وممرحاً. والبحر مغاصاً ومسبحاً. ولك العيون والأنهار. والسيول والأمطار. وكل ما استعاره الغير أو استأجره فأنت صاحب حوزته. ومالك ربقته. ولأنت رب الخضراء والغبراء والدأماء. وحيثما سقط الثلج أو جرى الماء. وغنى الهزار وصاحت المكاء وأسفر القمر ولاحت الجوزاء. واختلط الظلام في مطلع الفجر بالضياء. وامتزج الغناء من حمائم الأيك بالبكاء. وحيث كان الحب والولاء. والكره والبغضاء. والخوف والرجاء. وجدت أيها الشاعر مسبحاً ومجالاً. وانهالت عليك الخواطر الحسان انهيالاً. (يتبع)