الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 13/مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة

مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13
مستشفى الهلال الأحمر المصري البحري بالباخرة
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 1 - 10 - 1913

بحر أحمر

بقلم الدكتور كاربنتر الجراح باسطول الولايات المتحدة

نقلاً عن مجلة الجراحة العسكرية عدد شهر سبتمبر مجلد 33 نمرة 3

على الرغم من أن الأسطول العثماني لم يقم بأي عمل يذكر في حربه الحاضرة مع الدول المتحالفة، فإن هناك مركباً واحدة جعلت مستشفى بحرياً قامت بخدم جلى وأدت فوائد عظمى. وذلك أن نقالة من نقالات الجيش سلمت إلى جمعية الهلال الأحمر ببورت سعيد، فكانت مدى اسبوعين لا غير مستشفى كاملاً تسبح بيضاء الطلاء في وسطها منطقة خضراء وتحمل في قمتها العليا راية ذات صبغة بيضاء يتوسطها هلال أحمر. ولقد تم ذلك بمباشرة همة الدكتور محجوب ثابت استاذ علم البكتريولوجيا بمدرسة الطب سابقاً. وهو لا يزال رئيس هذا المستشفى، وتحت أمرته قبطان تركي مع جماعة من بحارته.

وجمعية الهلال الأحمر في مصر معادلة عندنا لجمعية الصليب الأحمر، وعلى رأس الجمعية شقيق خديوي مصر البرنس محمد علي باشا، وقوام هذه الجمعية هي الأموال التي تجمع من تبرعات المحسنين، وجماعة الوطنيين المصريين.

وهذه المركب بنيت في انجلترة عام 1893 وهي باخرة حمولتها ثلاثة آلاف طن، وقبل أن تصير نقالة تركية كانت تسمى. س. س. رولاند وطول هذه الباخرة (357) قدماً وعمقها 43 قدماً والمنغمر منها في الماء 24 قدماً وقوتها 2250 حصاناً بخارياً تجعلها في سرعة 14 عقدة وإن كانت قوتها البحرية هي 12 عقدة ليس غير.

وسطح المركب العلوي منقم إلى قسمين سطح أمامي وسطح خلفي وفي كل منهما محل للبضاعة ينتهي إلى مخازن كبيرة سفلية وفي مقد السطح الأمامي محل صغير مغطى، فيه قمرات للبحارة.

وفي السطح الأوسط محل يحتوي على وابورين لطبخ الحساء والخضروات وفوق ذلك سطح فيه عدة للتطهير ويوجد بالسطح العلوي محل البوصلة وغرف القبطان الفنية أما السطح الأسفل ففيه عدة حجر خاصة بالشؤون الجراحية وذلك لقربها من حجرة العمليات وقد اقترح وباشر الدكتور ثابت عمل غرفة العمليات وعدة سرر خشبية بعضها بجو بعض وبكل واحدة منها مرتبة ووسادة لنوم الجرحى كما أنه أوجد المتبرزات المصنوعة صنعاً بحيث توافق العادة التركية، وبجانبها الحمامات التي لكل منها حنفية وحوض صغير - هذا في وسط المركب، وبجانب المركب توجد حجرة الدكتور ثابت وحجرات أخر لخمسة من أطباء جمعية الهلال الأحمر وغرف للمرضى من الضباط.

وبهذه الجهة الصيدلية وحرة العملياتن وتحتوي الأولى على كمية وافرة جداً من الأدوية من بينها مجموعة وافية من مصل كمصل التيتوس (الكزّاز) والحمى الشوكية (التهاب السحايا الشوكي) والدفتريا والتقيحات ذات الميكروب السبحي والعنقودي ومادة التطعيم للحمى التيفودية والجدري أما حجرة العمليات فإنها وإن كانت صغيرة إلا أنها تشتمل طاولة عمليات جيدة وجهازاً للتعقيم والتطهير وجميع أدوات الجراحة وأدوات غسل الجروح ولوازم الضمادات المختلفة التي يحتاج إليها. وبين الصيدلية وحجرة العمليات مستحم بحوض كبير ومتبرز وهما خصيصان بالضباط.

أما السطح الخارجي العلوي ففيه غرف لضباط المركب وبالسطح الباقي وتحته عنابر عديدة للعساكر ينفصل بعضها عن بعض وذلك لكي يكون بعضها معداً لنساء وأطفال المهاجرين الذين كان معهم غالب الأحيان ما يلزمهم لفراش الممرضين من رجال الجيش التركي ولخمس وثلاثين ممرضاً من مرضى جمعية الهلال الأحمر وعلى نفس ذلك السطح يوجد جزء صغير ينفصل عنه به حجرات خاصة بالبحارة.

وبعد أن وصف آلة السفينة البخارية ومراجلها الثمانية ووسائط تخلل الهواء إليها قال حضرته: أن الباخرة في الحقيقة ما بنيت لتكون مستشفى حديث الطراز في كل أجزائه بل هي في الحقيقة نقالة عسكرية حولت إلى مستشفى وصارت مستجمعة لكل ما جعلت له من نقل جرحى ومرضى ومهاجرين والعناية بتمريضهم وبذلك أدت خدماً عظيمة.

وبعد أن أخذت اليونان والبلغار والصرب سالونيك أخذوا كل الجرحى والمرضى في مانستر وما جاورها أسرى فاعتني بهم في مستشفياتهم وقام على تمريضهم جراحون من الأتراك أيضاً وكان يوجد بسلانيك أيضاً نحو المائتين من الجنود التركية الذين أصيبوا بإصابات مختلفة في حادثة فرقعة بمخزن بارودها فأخذوا أسرى جميعاً.

وقد سمح لبعثة الهلال الأحمر المصري أن تنقل هؤلاء الجرحى وغيرهم من سالونيك إلى أزمير وأن تنقل أيضاً ما يربو على الثلاثين ألفاً من المهاجرين الآتين من الحدود، وقد كان سواد هؤلاء من الأولاد والعجزة. الذين البستهم هذه الحرب الغشوم برداً سميكاً من الحزن العرم. قدم هؤلاء وهم بين خمصان وعار وبين شاك وحاك لانتهاك عرض أو مقتل زوج أو ثكل بنين أو فقد رؤوم أو ضياع متاع أو ذهاب نعمة وليس بعجيب أن يعجز المرء عن معرفة أعداد أولئك الذين دهبوا طعمة لهذه الحرب بين ميت وقتيل ولكن الدكتور ثابت قدر ذلك بأكثر من مائتي ألف مسلم ذبحوا ذبحاً وقال أن هؤلاء ذهبوا ضحايا التعصب فأما المسيحية وأما السيف والنار والعارفون بتاريخ الحكم التركي في الأربعة القرون الأخيرة لا يعجبون إذا عمد البلغار والصرب بعد أن قاسوا ما قاسوا إلى استئصال مسلمي الرومللي ولو باسم المسيحية والدين:

ومما لا يزال في الآذان صداه ما يقال بأن كثيرين ممن كانوا في اطنه كانوا أعضاء لما يسمى بالعصابة البلغارية وهي قوة غير منتظمة تزحف وراء الجيش ويعزي غليها كثير من الأهوال وانتهاك الحرمات.

والحقيقة التي لا ريب فيها أن هؤلاء النسوة الأيامي والأطفال اليتامى أبرياء لا ذنب لهم ويجب أن يلقوا منا حناناً وعطفاً. ولقد قامت بعثة الهلال الأحمر بعمل جليل إزاء هؤلاء فعاملتهم معاملة البار الرحيم. وأنعشتهم بأنواع الغذاء هم وأولئك الجنود المرضى والمجروحين إذ أمكن الباخرة أن تنقل 1800 إلى 200 من المهاجرين و300 إلى 500 جرحى ومرضى من الجنود في نقلة واحدة مما لا حاجة الآن إلى بيان ما كان يبقى من الأوساخ والقاذورات بعد خمسة أيام تستغرقها في كل نقلة كهذه ونقل هذا العدد الجسم - أما في الأحوال المعتادة فيمكن هذه الباخرة حمل ثلثمائة من المرضى إلى خمسمائة من الجنود الجرحى والمرضى بدون ازدحام ولقد كان الدور الأعلى خصيصاً بالرجال وأما النساء والأولاد فكانت في الدور الذي يلي الدور الأعلى ولقد كان بين هؤلاء كثير من المرضى بالجدري والألتهاب الرئوي والروماتزم والتيفوس الطفحي بل كان بين المهاجرين نساء حبالى وضعن أثناء السفر حتى كان أطباء بعثة الهلال الأحمر في شغل دائم يبدأونه باكرين ولا يفرغون من العناء حتى تنقضي ساعات من الليل.

وقد اضطر أطباء بعثة الهلال الأحمر إجراء العيادات اليومية لعدة مئات من الجرحى المصابين بجروح ملوثة وبتر حديث إلى الإستعانة بسبعة من الجراحين بالجيش التركي ونحو ثمانين ممرضاً من الذين قدموا من سالونيك مع الجنود.

ولم يشاهد بين الجنود مرض الكوليرا على حين كانت بينهم اصابات كثيرة بالإسهال الدموي الدسونتاري الشكل ولما كان غذاء هؤلاء بسيطاً في العادة، لم يكن هناك أدنى خطر عليهم. وكان غذاء الباخرة فوق الكفاف ولا يعدو الزبدة والشاي والقهوة والحساء والعدس والأرز والفواكه والخضروات وأحياناً قطع من اللحم والسمك.

وأما أطباء الهلال الأحمر فهم رجال قديرون بلغوا مراتبهم الطبية من مدارس القاهرة أو بروت أو باريس ولكنهم لاقوا جم الصعوبات في المحافظة على القوانين الصحية مع جماعة ليس لديهم أقل فكرة من مبادئها.

أما الباخرة فكان يعتنى بنظافتها وتطهر بعد كل نقلة تطهيراً فنياً مستجمعاً كل الشروط اللازمة وبكل اعتناء.

ولما كانت اللغة المصرية هي العربية وهذه لا يفهمها الأتراك فقد كان التخاطب بين أطباء الهلال الأحمر والجراحين والأتراك باللغة الفرنسية، حتى إذا وصلت الباخرة ثغر أزمير كان المهاجرون الجنود ينقلون إلى الشاطئ بواسطة ماعونات يجرها زورق بخاري من مصلحة المينا فكان الجنود المرضى والجرحى يرسلون إذ ذاك إلى المستشفى الحربي أو المستشفى العثماني الملكي في المدينة وأما المهاجرون فيودعون في المساجد الكثيرة العدد لتوزيعهم على المملكة يسعون وراء عمل أو مرتزق وكانت الحكومة التركية تعطي كل مهاجر في اليوم ثمانية أو عشرة سنتات وهي قيمة تكفي تقريباً قوتهم اليومي وإنا لنشكر الجالية الأوروبية بأزمير على ما قدمته من الأموال المجتمعة من التبرعات والمشروعات الخيرية لمشتري ملابس وبطاطين وسائر لوازمهم وسينقل كل المهاجرين من سالونيك إلى آسيا الصغرى. في الأستانة نحو سبعين ألفاً أعتني بهم مثل هذا الاعتناء وهؤلاء قدموا إليها من تراقيه ووزعوا في شمال الأناضول وللهلال الأحمر المصري بعثات في الأستانة مكونة من أطباء وممرضين وممرضات تعتني بالجرحى ومرضى الكوليرا اعتناءها بالمهاجرين وإن أكثر ما يفتت الفؤاد في هذه الحرب هم أولئك المهاجرون الذين سيجهل التاريخ حقيقة ما أصابهم من ويلات هذه الحرب الطاحنة.

ويجب أن يكون الفخر كله لأعمال جماعة الهلال الأحمر المصري ومستشفاهم البحري بحر أحمر في تخفيف ويلات منكوبي هذه الحرب.

(انتهى ببعض تلخيص)