الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/مجلة البيان

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/مجلة البيان

بتاريخ: 5 - 5 - 1913


بعث إلينا أحد كبار الكتاب في مصر الكلمة الآتية تحت هذا العنوان - وكلها كما يرى القارئ مدح وإطراء لهذه المجلة ولصاحبها_ونحن فلا نرى أننا أدينا لأمتنا الكريمة من الواجب ما نستأهل له بعض هذا الحمد والثناء. ولولا ما نجتليه أثناء سطور هذه الكلمة من آيات الإخلاص والغيرة الصادقة والحمية الشريفة لكنا اجتزأنا عن نشرها بالشكر لصاحبها المفضال_قال غفر الله لنا وله.

الأزمنة كالأمكنة فيها المثمر العشيب، والممحل الجديب، وأعشاب الزمن وأجدابه، إنما هو بإثرائه من العلوم والأخلاق أو بأنفاضه. ولقد قدر لي والحمد لله أن أقضي حياتي بأحسن الأماكن وأسوأ الأزمان.

وأنفق ساعاتي بألأم العصور وأكرم البلدان. فأنا أعيش في روضة (مصر) من أخصب رياض الدنيا. ولكن في صحراء من أفقر فيافي الزمن. تمتد فيها رمال الجهل إلى غير نهاية، ويستعر فيها هجير اللؤم والقسوة تحت سمائم الشغب والصخب. في مثل هذه البيداء الزمنية لا يجد الإنسان - ولا يرجو أن يجد_أدنى ظل لأكرومة، ولا أحقر غرس لمحمدة ولا أضأل منهل لعرفان. وأن تواتر على عينه سراب هذه الفضائل بالغرور والخديعة. وصادف هنا وهنالك وشلا من علم وضحضاحاً من أدب. وكذلك كل ما لقيت بهذه الصحراء الزمنية. إذ أسافر فيها على مطيتي الليل والنهار. وأنا أقول في نفسي أما آن أن نفضي إلى عين من الطبع الكريم جارية، وبئر من الخلق العظيم صافية، وشجرة من ورق العرفان حالية، وقطعة من ظل المروءة ضافية - أعلل النفس بهذه الآمال وأمثالها إلى أن سرى إليّ في أواسط عام سنة 1911 نسيم طيب شممت فيه ريح الأستاذ الإمام محمد عبده وإذا مهب ذلك النسيم من أوراق شجرة أنبتها نهران غزيران أحدهما يفيض من ذهن الشيخ عبد الرحمن البرقوقي والثاني ينبع من جيبه. وسألت عن اسم هذه الشجرة البرقوقية فقيل هي مجلة البيان.

ألا حيا الله هذه المروءة وأيد الله تلكم الهمة، لقد راعني والله ما رأيت وحير لبي وهالني حتى رابني الأمر واشتبه عليّ الزمان والمكان أين أنا؟ في أية جهة أنا! ألست في عصر الجمود واللؤم؟ ألست في عصر المادة والجوع والشره، واصطدام الذئاب على تلك العظمة النخرة، والجيفة القذرة التي يسمونها الدنيا؟ ألست في عصر المعدن - عصر الحديد الذ شاع فيه الحديد وفشا حتى لكأنه دخل في الأجساد فاغتصب مكان الأفئدة بعد أن طردها من أبدانها فلا قلب إلاَّ من حديد. ولا كف إلاَّ من حديد. بئست القلوب والأكف. وكأنما الناس آلات من الحديد وقد كف الله لأمر ما عن أن يخلق البشر وأحال ذلك العمل على فابريقات برمنجهام ومانشستر. ألسنا في عصر الذهب، ذلك الأصفر الخداع الذي تفض صفرة الهم والذل على متداوليه وطلابه - ذلك المفتر عن شبيه ابتسامة المعشوقة المومس تقود من تشاء إلى حيث تشاء من مهالك الخسران والندامة. ألست في عصر الاقتصاديين والأنانيين الناهين عن البذل والمعروف، الآمرين بالشح واللؤم. بلغوا غاية الرذيلة بمذهبهم استبقاء الأجود وإعدام الأردأ واشتغال المرء عن جميع المخلوقات بذاته. أما زال في هذا العصر. أم قد عدت إلى عصر النجدة والبطولة وأيام صلاح الدين وريكاردوس وعهد دون كشوت وسانكوبانزا؟

بلى لا أزال في عصر لتمدين الوحشي ولكن الأرض لا تخلو البتة من روح صلاح الدين وايفانهو.

لقد لأتى على انطانيوس قيصر وقتان ضدان بلغ في احدهما منتهى الذم والنعمة، وفي ثانيهما غاية الحمد والمحنة، أما الأول فذلك حين كان يتقلب في أحضان ملكة الجمال - كليوبترا_وأما الثاني فذلك حيث كان يأكل الحنظل والمرار في بعض غزواته. والمحنة مع المجد أحلى ولا شك في نفس العظيم من النعمة مع الضؤولة. والعظيم لا يطيق الضؤولة إلا ريثما يتحول عنها.

أيها الناس أرأيتم غير السيد البرقوقي رجلاً انفسحت له نعمة، وصفا له مورد العيش. فما راقه هذا إلا أن يشمر للمجد وينجرد في سبيل العلاء فأنش المجلة وأنفق عليها المال الجم. وليس بأقل من ذلك. ما أنفقه على مطبوعات البيان وكثير هي. ولعمر الله لو أن شركة قامت بكل هذه الأعمال لخارت قواها وكلت عزائمها مع ما هنالك من المثبطات والعوائق ولكن الفرد العظيم كالملك العظيم. هذا خير من الشركة وذاك خير من الجمهورية.

والشيخ أيده الله قد أظهر أكبر الفضل في براعة أسلوبه وجودة إنشائه ولطف تخيله ودقة تصويره بما لا يترك أدنى مجال للشك في أنه كاتب جليل ومفكر قدير. ثم في اصطفائه للمجلة صفوة كتاب العصر ومصاصة ادبائه ثم تخير الموضوعات التي لا ترى بينها إلا جلائل المسائل وبدائع الفن. ثم في تعريب نخبة ما كتب الإفرنج. كل ذلك في أجمل قالب وأرشق معرض وأحسن سياق، فقد أودع أحسن المعاني أحسن المباني. فكأن هذه في تلك عتيق السلاف، في القدح الشفاف، ثم المثابرة والمواظبة وارتخاص المال وامتهان الجسد والروح في هذه السبيل. وذلك مالم نره في آخر من أهل هذا العصر ولا ما سلفه. اللهم إلا عصور النجدة والبطولة تلك التي ذكرت آنفاً.

وعندي أن مجلة البيان ومطبوعاتها فتوحات جديدة في تاريخ الأدب العربي. وثروة حقيقية أضيفت إلى مادة ذلك الأدب. وللمتنقل بين أبواب المجلة ومطبوعاتها لذة المتجول في أرض جديدة يملأ عينه من جمال بهجتها، وكفه من جزيل خيرها وبركتها، وقد جمعت المجلة فنون الأدب بحذافيرها. وبلغت غاية الإتقان في كل ما جمعت. ففيها النقد الأدبي وفلسفة النقد الأدبي. لا أريد التقريظ والهجاء كما يفعل معظم الناقشين بالمداد على الورق. ولكن النقد على الأسلوب العربي القديم. والأسلوب الإفرنجي الحديث. ذلك الذي هو أولى أن يلقب تشريحاً إذ كان أشبه الأشياء بالتشريح الجراحي يكشف عن خفايا الكتاب المنقود وغوامضه، فكأنه للقارئ مجهر يريه ما لطف ودق عن أن ينظر إلا ببصيرة نقادة جهبذ.

وفي المجلة كذلك التاريخ الروائي ذلك الذي يكتبه صاحب البيان بعنوان حضارة العرب في الأندلس والذي حاز إعجاب القراء على اختلاف ضروبهم وأشكالهم وتعدد مشاربهم وأميالهم وهي طريقة جديدة في كتابة التاريخ، وخطة بكر لم يحاولها غير السيد قبل، ومع ذلك فقد ذلل السيد صعابها، واقتحم عقابها، وألف الله على يديه بين التاريخ والرواية، وهي غاية في التوفيق ليس دونها غاية.

وفي المجلة كذلك الرواية وقد كانت تنقل عن الإفرنجية ثم شرع كتاب البيان أخيراً أن يكتبوها بأقلامهم وابتدأ العقاد فبرهن بمذكرات ابليس على أن ملكة الروائي ليست مما توحد به الغربيون. ولكنها كامنة في المصري تنتظر من كف الزمن قادحاً ومثيراً.

وفي المجلة كذلك الرسائل الأخلاقية والاجتماعية والفكاهية والهزلية وفيها القصائد والمقاطيع وفصول التربية والتعليم والفلسفة والعلوم الطبيعية والزراعية والنبذ الوصفية. ذلك إلى ما ينشر فيها من غير المطبوع من نفيس آثار العرب تحت عنوان صحائف مهجورة ولعمر الحق لست أدري أي باب في الأدب لم تطرقه المجلة.

إن مجلة هذا شأنها كان فرضً على كل قارئ من المصريين أن يقتنيها مغتبطاً بها مقتنعاً أنه غانم رابح بل أنها أربح صفقة وأكبر غنيمة أأقول كان ذلك فرضاً على كل قارئ من المصريين؟ ضلة لي، لشد ما بان مني الصواب. وكأني لم أدر بالذي يفرضه على نفسه الناشئ. بل خريج المدارس من الواجبات؟ كأني لم اسمع بالكسل والغرور ومعاداة العلم وأهله وتطليق الكتب والتجرد من المحامد والتعري من المكارم وكأني لم أسمع باللهو واللعب وسهر الليل ونوم العصر والعصي الآبنوس والمنشات والكتاين والمركبات والجزيرة والحلويات ومصر الجديدة.

كراهة الاطلاع ومعاداة العلم مع النفخة والغرور. هذا داء مصر الذي لا نجاح لها إلا بعد الشفاء منه ومتى يرجى الشفاء والداء عقام؟

ولكن اليأس سم الحياة، وما أعلم شيئاً أقتل منه للهمم والعزائم. فدعنا من اليأس وأمل خيراً وأنشد عصبة المتخرجين والطلاب وسائر القراء.

أي عذر لكم في عدم قراءة جيد الكلام مجلة كان أو كتاباً أو رسالة قديمة أو حديثة عربية أو أجنبية وقل لهم هل أنتم - معاذ الله_من السذاجة بحيث تحتاجون إلى معلم يعرفكم أن أنفس الموجودات طرا هو الكتاب؟ وإذا كان ذلك كذلك فما بالهم يأتون كل أمر إلا اقتناء الكتب أين الأذهان والعقول ألا أن بالإبصار عن حكمة عمى * ألا أن بالإسماع عن عظة صم

الخ الخ