مجلة البيان للبرقوقي/العدد 12/أمرسون في إنكلترا
→ نوابغ العالم | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 12 أمرسون في إنكلترا [[مؤلف:|]] |
اعترافات ألفرد ده موسيه ← |
بتاريخ: 5 - 5 - 1913 |
زار أمرسون أكبر كتاب الأمريكان إنكلترا وكتب عن زيارته رسالة وصف فيها البلاد وأهلها وصفاً وافياً شافياً ينم عن نظر ثاقب وبصيرة نافذة معلم غزير واطلاع واسع وقد أحب البيان أن لا يخلو من بعض فصول مبحث كهذا. ومازال البيان مولعاً بالإشراف الأبرع. كلفاً بالأطرف الأبدع.
كالعين منهومة بالحسن تتبعه ... والأنف يطلب أقصى منتهى الطيب
فلما صحت عزيمة البيان على ذلك ترجم تلك الرسالة وأظهر في هذا العدد أحد فصولها وهو هذا الذى بين يدى القارئ وسينشر سائر الفصول في أعداد قادمة وبالله التوفيق.
آداب الإنكليز وعاداتهم
لقد بحثت الإنكليزي فوجدته أثبت الناس قدماً. وأمضاهم عزماً. إذا هم مضى وإذا مضي لم يثنه دون الغاية عائق. ورأيت للقوم من فرط النشاط والحدة والذكاء مثل ما يمتدحون به جيادهم وأفراسهم. وقد وصف لى رجل منهم والى أيرلندة أول نزولى مدينة لفربول فقال اللورد كلارندون فيه سورة الديك وهو إذا نازل القرن صدق القتال حتى يفني هذا أول ما سمعته عن خلق الإنكليزى وهو كذلك آخر ما سمعته. ولعل رأس مفاخر الإنكليزي وهو الحدة والجرأة فهي بينة في الحوذى بينة في التاجر بينة في القسيس بينة في المرأة بينة في الجرائد حتي رأيتهم يقولون ليس فى إنكلترا طولها وعرضها ما هو أشد جرأة وأصدق حملة من صحيفة التيمس.
وقد قال سيدنى سميث وذكر الوزير اللورد جون راسل أنه لو شاء لقاد الأسطول من غده.
والإنكليز يريدونك على أن تصرح برأيك غير موارب ولا مراء ويمقتون كل المقت الجبان الهيابة الذي إذ سئل عن الشئ وقف فلم يقل لا ولا نعم.
ومتانة أخلاق الإنكليزي وشدة استبداده برأيه أظهر ما تكون في قلة اكتراثه الناس وعدم تطلعه إليهم حتى كأن أحدهم إزاء الآخر الصخرة الصماء. والدمنة الخرساء. وحتى ترى كل واحد يسير ويجلس ويأكل ويشرب ويلبس وينزع ويشير وينطق ويحدث الحدث ويلقاه. ويفعل الفعل ويتلقاه. غير ما ملتفت إلى الناس ولا حافل بالعالم إلا اجتنابه الدخول في شؤون الغير وتحاميه إيذاءهم. وما ذلك أنه قد مرن ودرب على احتقار الناس كلاً إنما ه اشتغال بأمره عن أمورهم وانصراف عن شؤونهم إلى شؤونه. وكل امريء في هذه البلاد لا يستنصح إلا نفسه ولا يترك ما فيه رضاه لا رضاء غيره ولا أعلم على ظهر البسيطة مصراً خلاف هذا المصر يصفح فيه عن الشواذ والعجائب من العادات والأعمال حتى لا يكاد يلتفت إليها أو يفطن لها. فالإنكليزي يمشى في الوابل الهتان مغلقاً مظلته بهزها هز العصا. ويلبس على منكبيه رداء أو سرجاً وعلى رأسه قلنسوة أو مخلاة ويمشى على رجليه أو يسعى على أم رأسه أو يتدحرج على جنبيه ولا يقال فى ذلك حرف واحد. وإذ كان قد طال عهده بهذا الأمر وتقادمت العصور على تلك العادة فقد أصبحت قد مزجت بدمه. ورسبت فى عظمه وجالت بين جلده ولحمه.
وجملة القول كل امريء من هؤلاء الجزائريين جزيرة فى نفسه هادئ صامت مطمئن منقطع عن سائر أهل جلدته. وإنك إن تلقه وسط جماعة من الأجانب حسبته أصم. فهو لا يرسل الطرف في نحاء المجلس ولا يرتعه في أشخاص القوم بل لا يزال عاقده بمائدته أو صحيفته ثم لا يبدو عليه للتطلع والقلق أدنى أثر. ثم لا تراه يمد للمصافحة راحة ولا تراه يلقى لحظك بلحظه
ورابني منه أنى لا أزال أرى ... في طرفه قصراً عنى إذا نظرا
ونظرك في وجه أجدهم قبل التعارف ذنب لا يغتفر. والإنكليز لا يحدون التعارف بين الأفراد في حفلات الأعيان ولا في الحفلات المختلطة شدة اهتمام بمسألة التعارف كأنهم يرونها صنفاً من المعاهدات والمبايعات والإنكليزي ضنين باسمه لا يكاد يبوح به لصاحب النزل الذي هو وافده والخان الذي هو وارده. ولئن ظفرت منه ببطاقته فلقد ظفرت ولا ريب بمودته. وإذا قدم إليك ألفيته منقبضاً جافياً. مزوراً نائياً. على حين أنه الراغب في صداقتك. المؤمل لمودتك. الباغي سعادتك وفلاحك. الطالب نفعك وإصلاحك.
والإنكليزي جاد ماض محب للنظام والنظافة شديد التمسك بالرسوم والاصطلاحات. والسنن والعادات. محب لدين والصدق مع الإقامة على القديم والتشبث بالرسوم. وقد أجمع الناس على مدح المطاعم والبيوت الإنكليزية وما جمعت من أسباب النعيم والراحة وكل نزل بتلك الديار أو منزل ضمان على أهله إكرام مثوى الضيف يقري هنالك مع الطعمة الطيبة والجرعة السائغة عذوبة اللقاء وحسن الإقبال والإصغاء. وجميل التلطف والاحتفاء. وقد يكون الفرنسي نظيفاً. ولا يكون الإنكليزي إلا نظيفاً. بادي النظافة والنظام في ثوبه وسائر متاعه.
ولما كان الإنكليزي قد أقامه الله بأرض هطالة الأنواء. مغيمة الأجواء. قارسة الهواء. تسجنه بداره وتغله إلى سريره وكان مع ذلك ودوداً وفياً. وبراً تقياً. أصبح شديد الحب لداره. فإذا كان موسراً ابتنى إيواناً. واقتنى غلماناً. وإذا كان متوسط الحال لم يدخر دون تنميق داره شيئاً. فأما ظاهر الدار فيطلي دهاناً. وأما الباطن فيكسى الخشب الصقيل جدراناً. وتفرش أرضه خزاً وكتاناً. ويزان بالصور والنقوش ألواناً. ويملأ بسائر أنواع الفرش الوثيرة والتحف المونقة. وتحلية البيت وزخرفته هي آخر ما يبقى من شهوات الإنكليزى بعد ذهاب سائرها. فهو لا يزال يسوق إلى داره كل ما طاب ولذ. ولما كان مع ذلك محباً للبقاء بالدار عينها يرثها عن سلفه فيورثها خلفه
كالحسام الجزار يبقى على الدهر ويفني في كل عصر قرابه
فلا جرم إذا رأيت الدار قد أصبحت على كر العصور متحفاً جامعاً قد ضمن جميع مآثر السلف منذ أول ساكن ومخلفات أولئك الآباء والجدود ومفاخرهم - شواهد وقائعهم ودلائل أفاعيلهم. والإنكليزى مولع بآنية الفضة. وهو وإن أعوزته الصفائف المعروضة من صور الآباء والأجداد لم تعوزه الصفائف المعروضة من أكواب مدامهم وأواني فطائرهم.
وإن بديار الموسرين من آنية الفضة مالا يكاد يصدق بمقدار بشر. وليس يخلو أحقر البيوت من ملعقة أو قدر - هدية عمة أو جدة ونقيذة من نقائذ الدهر وعنواناً على ما درس من عهود النعيم وانقرض.
التربة الإنكليزية تنبت في صفاء صحو الدعة وسقيا مياه الأدب الصريح. والعلم الصحيح. أكرم النساء وفضلياتهن. ولا يعلم فى الوجود شيء قد أصاب من الرقة في غير تصنع والخفر في غير تكلف ومن الفضائل الفطرية والمحاسن الغريزية ما أصابت المرأة الإنكليزية ولا شيء أصدق وأطهر وأرق من تبادل الحب والوفاء بين الإنكليزي والإنكليزية لقد جاء في بعض أناشيد 1569 ليس أعظم من حظوة الإنكليزية بزوجها إلا حظوة الإنكليزى بزوجته والمرأة العفة النقية المذكورة في رواية شاكسبير سمبيلين مستعارة ولاشك من المرأة الإنكليزية وكذلك بورشيا زوجة بروتاس وكيت برسي ودزدمونا.
ورعاية حرمة البيت هي أساس قوتهم وهي الجذر الذى عنه تتشعب فروع الأمة وتسمو صُعُداً. فهم يمسون ويصبحون وأول أغراض تجاربهم ودولتهم هو صيانة استقلال بيوتهم وحفظ حريتها. ورعاية حرمة البيت وقضاء حقوقه غريزة تجرى مع النفس يحملها الإنكليزي بين جنبيه أينما حل وارتحل سواء نزل المعسكر أو البلاط. ولقد كان ولنجتون وهو قائد الجيوش البريطانية في اسبانيا لا يكاد يبرح مكانه حذراً من غرماء دولته. وزعم المستر كوبيت أن الوزير السير برسفال لم يكتسب رضا الناس طراً إلا بفضل حضوره الكنيسة كل أحد يحمل في يمينه إنجيلاً مذهباً وفي يساره عضد امرأته يتبعه من أنجاله كسرب الظباء أو كالربرب.
والقوم شديدو المحافظة على عاداتهم وأزيائهم وشعائرهم فمن أنعم النظر لمح شبح العصور الوسطى يمشى الضراء في شوارع لندن وكأنما يبصر فرسان تلك القرون يتبايعون على حماية النساء كما كانوا يفعلون أيام الفتوة والنجدة. ولما كان يوم تتويج الأميرة الحاضرة جدد الشعب شعائر القرن الحادى عشر. ومن عاداتهم وراثة المستأجرات والمهن يتوارثون الوظائف والحرب والضياع المستأجرة ويتوارثون كذلك الروايات والأنباء. وربما امتدت مدة التأجير هنالك ألف عام واستمرت الوظيفة والشركة طول العمر أو أورثت قال وردذورث وذكر مزارعى ناحية وستمورلانه كان الكثير من صغار هؤلاء المزارعين يعتقدون أن ما يحرثون من الأرض مازال منذ خمسمائه عام في حوزة أناس من ذوى قرباهم وأرحامهم ولو سألت عن نجار السفن بالمرسى أو غارس البستان بقصر الوزير أو بواب ذلك الأمير لعلمت أن كل واحد من هؤلاء قد ورث عمله أباً عن جد منذ أعوام عديدة.
والقوم يمقتون التغيير والتبديل فطرة جبلوا عليها وقواها في نفوسهم تعاليم فلاسفتهم فلقد قال لهم باكون الوقت خير مبدل وأحسن مصلح وقال لهم شاتام الثقة غرس بطىء النمو وقال لهم كانتج سيروا مع الوقت وقال لهم ولنجتون العادة أرسخ من الطبع.
والإنكليزى شديد الوقار سواء في الكوخ والقصر. كان الموسيقى الشهير ثالبرج يضرب بالبيانو ذات ليلة في حضرة الملكة في حفلة خاصة فأصحبته الملكة صوتها رافعة بالغناء عقيرتها فذاع الخبر فاقشعرت بريطانيا من الذؤابة إلى القدم اشمئزازاً من هذا العمل وأنفة.
فلم تعد الأميرة قط بعد ذلك إلى إتيان ذلك المنكر. والإنكليز أشد الناس انقباضاً وحشمة ولا مسوغ عندهم لإبداء الطرب إلا التمثيل والموسيقى ولا يجيزون من الصوت إلا الخفيض الخفي الذي لا يسمع إلا من خوطب به. ومنهم من تدرك في صوته رنة يأس كأنما تناجيك قائلة اقطع الرجاء من كل شيء.
والادعاء والزهو والمفاخرة أبغض الأشياء إليهم حتى نراهم إلى عكس ذلك يجنحون يخشوشنون الثوب والصوت والهيئة. يكرهون التصنع ويعمدون إلى أكباد الحقائق وما برحوا - منذ كانوا - يرذلون اللغو والهذر ويمقتون تكلف الرقة والظرف والأطناب والمبالغة ويسلكون القصد قولاً وفعلاً ويجرون على الفطرة والغريزة من السذاجة والخشونة حتي غدا خليعهم بروميل قد عرف بسذاجة لباسه. وأحسن ما يمتدحون به قلة التكلف والتصنع في شؤونهم العامة والدقة والأحكام والعمد إلى لب الحقيقة في أمورهم الخاصة.
في أمة أرسطوقراطية كأمة الإنكليز ليس عجيباً أن يكون أجل الاحتفالات حفلة العشاء. لا حفلة القضاء. ومجلس الطعام. لا مجلس الأحكام. ودعوة الغريب عدهم هي الآية على تبجيله وتكريمه - وما انفكت كذلك منذ غابر الأعصر. قال الرحالة الإيطالى في عام 1500 والإنكليز يرون دعوتهم الغير إلى موائدهم ودعوة الغير إياهم إلى موائد الغير أجل ما يعطى يؤخذ وإنهم لأسرع إلى بذل العشرة الدنانير في صنع المآدب منهم إلى بذل الدرهم الواحد في صنع المآثر وإغاثة الملهوف. ونعيم المائدة يستبقي إلى أول ساعة من الليل وله لباس مخصوص سواء كان بدار الرجل أو بدار آدبه. وقبل العشاء بنصف ساعة يحضر الضيفان وليس سوي الموت أو السجن من حائل دون الحضور. ويجلس القوم على الخوان ساعتين ثم تقوم السيدات في غرفة السمر. وهذه الولائم تولد عند القوم ملكة البيان وخلابة الحديث فتري ما يلقي هنالك من الحكايات منظماً مصقولاً لعله من طول إعادة وتكرار. وهنالك تلقى إليك الكنوز الأفكار ما أودعت من درر وغرر وتبرز إليك خزائن الصدور ما ضمنت من تحف وطرف وتصطادك حبائل الحديث كل شاردة شموس ونافرة جموح من ملحة أدبية إلى مسألة عملية إلى فائدة أخلاقية إلى كلمة جامعة وحكمة بارعة وكناية رائعة إلى مثل سائر وبيت من الشعر نادر وتشبيه معجب باهر. وأخبار وقصص ونوادر.
والحكايات الإنكليزية والأمثال والحكم والمأثور عن أدبائهم وظرفائهم من أحاديث المائدة لا تقل عن أطيب ما يماثلها في الأدب الفرنسي ونحن أمة الأمريكان لنا أدب وبراعة وعندنا بيان وفكاهة ولكنا لم نبلغ رتبة الإنكليز في ذلك. لأن كثرة العناصر التي يتألف منها الشعب الإنكليزي وكثرة المصادر التي جاء منها سكان لندن وشدة الخلاف وبعد المسافة بين شتى الطبقات ثروة ومنزلة وسلطه وجاهاً كل ذلك محدث في المجتمع من تنوع الهيئات والمظاهر واختلاف الآراء والخواطر مثلما تحدثه وعورة الأرض واختلاف سطحها صعوداً وهبوطاً من تنوع المناظر فيها واختلاف المشاهد. وإنك لتلقين أحياناً في هذه المآدب رجال الدهر وأبناء التجارب من كل مصقول الخاطر حافل المجم غمر البديهة عالم بكل شىء مجرب لكل شيء قادر على كل شىء قد سبق به الفضل الغريزى غاية شأو المتعلمين وفاتت به السليقة السليمة مبلغ جهد المتأدبين فبات بطبيعته وراء مرمى الأدب وأصبح بتجربته فوق مطمح الحكمة. أي شيء لا نستطيعه مثل هذا القدير لو شاء.