الرئيسيةبحث

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/ثورة النفس

مجلة البيان للبرقوقي/العدد 11/ثورة النفس

بتاريخ: 6 - 4 - 1913


أرسل الأديب عبد الرحمن شكري إلى صديقيه الأديبين عباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني قصيدة بهذا العنوان من القافية المزدوجة فأجاباه كل بقصيدة من القافية والبحر وهذه هي القصائد الثلاث:

قال شكري:

للنفس في بعض الأحايين ثورة ... يكاد لها جسم الفتى يتمزق

فيا نفس كم تبغين ما ليس حادثاً ... وحتام آمالي لديك تحرق

هياج كما هاجت قطاة تعلقت ... بأحبولة الصياد إذ ليس مهرب

أما في سكون الليل يا نفس واعظ ... أما في سكون الروض ملهى ومطلب

فهل تحسبين نائماً كلَّ ساكن ... وهل تحسبين ميتاً كل هاجع

نعم إن للشلال روعاً وهيبة ... ورب جلال للعواصف رائع

نعم للرياح الهوج هول وقسوة ... وللبحر أمواج تهيج فتحرب

أغرك من هذي الطبيعة أنها ... تثور فلا يقوى عليها المغلب

وما أحسب اليمّ الخضم بثائر ... إذا كان هذا اليم يشقى ويألم

وما القلب إلا لوعة تأكل الحشا ... وما الجسم إلا ذلك اللحم والدم

نعم أنت فيما تبغضين مصيبة ... ويا حسن ما تبغين من خير مطلب

ويا حسن ما تملى الخيالات أنها ... حلّى على جيد من الدهر أجرب

تريدين أن الجسم يغدو كأنما ... يضيء به منك الضياء المحجب

إذاً لأراقت كل نفس ضياءها ... على ظلمة للعيش والعيش غيهب

سأبذل جهدي في تعلم رقصة ... لأرقصها إن الحوادث تطرب

فيا نفس قومي فارقصي في جوانحي ... كما رقص المجنون يهذي ويلعب

فلا تعذلوني إن لليأس رقصة ... تعلمها المحزون من نشوة الأسى

وللنفس آهات من اليأس والجوى ... تحقر آهات الأناشيد والهوى

فيا ليت أني في فم البرق كامن ... فيودعه الأشجانَ قلب معذب

ويا ليت أني مثل (زوس) مسيطر ... على الرعدان يغضب كذا الرعد يغضب

ولكنني أما صرخت كصارخ ... غريق له صوت من الماء خافت ورب بليغ راجح الرأي والحجا ... ولكنه بين الحوادث صامت

وقال العقاد:

شكوتَ الذي أشكوه فاعلم بأنني ... وجدت من الأيام ما أنت واجد

أضر بعيني النقع حتى حسبتني ... أكابد وحدي في الوغى وأجاهد

أتحسب أن اليمّ يسكن إن شكا ... نظائر ما نشكوه من الثوران

ولو كان يلقى ما نلاقي من الأذى ... لطاف على الأرضين بالفيضان

أهابت بنفسي وثبة بعد وثبة ... كما نهض الرئبال لم يرأم الأسرا

وقد روضّها الحادثات فأخلدت ... إلى القيد حتى ما تهم به كسراً

لقد كنت أرجو في الحياة لبانة ... فعدت ومالي في الحياة رجاء

وكنت أظن الناس إلا أقلهم ... كراماً إذا هم كلهم لؤماء

وكان خيالي في السماء محلقاً ... فهاض جناحيه الزمان المغرر

إذا استل منه ريشة بعد ريشة ... جرى دمه في أزهار يتحدر

وكنت إذا هبّ الرجاء ابتدرته ... وساورت تيار الحياة بلا جدوى

فأسلمت نفسي للزمان فأشبهت ... سواحله الخضراء أغواره القصوى

عجيب من الدنيا توالى صروفها ... وأعجب منه حبنا لدوامها

هو العيش داء والنفوس مريضة ... ولكنها تأبى شفاء سقامها

إذا جهل المرء الحياة أحبها ... وقد يعشق الإنسان ما ليس ينظر

يشوّقنا من يحجب الشك حسنه ... وقد نؤثر السلوان ساعة يسفر

يلذ لنا مطل الرجاء كأنه ... حبيب يروق المطل منه ويعجب

ونعرض عن صدق القنوط لأنه ... عبوس المحبة شاحب الوجه أشيب

على أنني أحيا كأني عائش ... لغيري فلا نفعاً أُصيب ولا ضرا

وقد كنت أُزْهَى بالأمور فإنني ... لأخجل مما كنت أزهي به دهراً

وآدم في الفردوس ما زال عارياً ... يهش لريحان النعيم ويقطف

فلما جنى غرس الحقيقة راعه ... من الأمر ما قد كان من قبل يألف

أصوغ على ضرب الحوادث نغمة ... وليس لأنغام الزمان تناسب فأرقص محزوناً وأرقص راضياً ... وأُرقص هذا الكون والكون غاضب

يجيش ضميري بالهموم فتغتدي ... سواكن هذا الملك وهي تمور

إذا شبت النيران باتت ظلالها ... تميل على جدرانها وتدور

فيا ويح للنفس التي يكبرونها ... وأكبر منها في البقاء الجوامد

أيشعلها قوت ويطفئ نارها ... نسيم سري من عالم الموت بارد

أتشرق حتى يملأ الكون نورها ... وتخمد حتى في ضريح تغيّب

سراج ولكن ما احتمى أن يدوسه ... من الموت طفل بالعوالم يلعب

كذاك ترى المصباح ينشر حوله ... أشعة نور لا يحيط بها الطرف

فإن حطمته الكف آض زجاجة ... مفرقة الأجزاء تحملها الكف

ولو أن بالإنسان جسماً كروحه ... وكان سواء بطشه ومواهبه

لنادي الضحى قف يا نهار فلم يسر ... ونادي الدجى هيا فسالت غياهبه

وقال المازني:

أخا ثقتي كم ثارت النفس ثورة ... تكلفني مالا أطيق من المض

وهل أنا إلا رب صدر إذا غلا ... شعرت بمثل السهم من شدة النبض

لبست رداء الدهر عشرين حجة ... وثنتين يا شوقي إلى خلع ذا البرد

عزوفاً عن الدنيا ومن لم يجد بها ... مراداً لآمال تعلل بالزهد

تراغمني الأحداث حتى إخالني ... وجدت على كره من الحدثان

فلا هي تصمي القلب مني إذا رمت ... ولا ترعوي يوماً عن الشنآن

أبيت كأن القلب كهف مهدم ... برأس منيف فيه للريح ملعب

أو أني في بحر الحوادث صخرة ... تناطحها الأمواج وهي تقلب

أدور بعين حيّر العيش لحظها ... وأرجعها محمرة كالشقائق

كأن فؤادي بين شجو وترحة ... أديم تفريه أكف الخوالق

أكن غليلي في فؤادي ولا أرى ... سبيلاً إلى إطفاء حر جوى الصدر

أعالج نفساً أكبر الظن أنها ... ستذهب أنفاساً أحراراً على الدهر

إذا اغتمضت عيناي فالقلب ساهر ... يظل طويل الليل يرعى ويرصد وما إن تنام العين لكن أخالها ... تدير بقلبي نظرة حين أرقد

وهل نافعي أن الرياض حَليّة ... منورة النوار هادلة الطير

وما فرحي أن الرياح رواقد ... إذا كنت سهران الفؤاد مدى الدهر

نسيم يرد النفس حيناً لناشق ... وأي أوام بعده وأوار

تطول ظلال النبت والشمس طفلة ... فإن هي جدت صرن جد قصار

سأقضي حياتي ثائر النفس هائجاً ... ومن أين لي عن ذاك معدى ومذهب

على قدر عرفان الحياة شقاؤنا ... وللسعد جو بالبلادة مشرب

خليلي مهلاً بارك الله فيكما ... فما في سكون الليل يستثير رواقدي

وإن سكنت نفسي فليس بضائري ... رياح تجر الذيل حولي وتعصف

فليس يضير الحوت في البحر إنه ... يهيج وإن الموج يطغي ويعنف