مجلة البيان للبرقوقي/العدد 10/نوادر وملح وفكاهات
→ ليالي الشباب | مجلة البيان للبرقوقي - العدد 10 نوادر وملح وفكاهات [[مؤلف:|]] |
حديث البيان مع قرائه الأفاضل ← |
بتاريخ: 6 - 2 - 1913 |
ننشر في هذا الباب من النوادر المستطرفة والفكاهات المستملحة ما تتروح إليه نفس القارئ وينتفي معه ما عساه يعرو النفس من الكلال لطول النظر في المباحث الجدية إن شاء الله.
كان أبو دلامة واسمه زند بن الجون من الشعراء المجيدين وكان ماجنافكها ذا نوادر مستظرفة وقد كان منقطعاً إلى السفاح وأبي جعفر المنصور وابنه المهدي.
حدث أبو دلامة قال أتي بي إلى المنصور وأنا سكران فحلف ليخرجني في بعث حرب فأخرجني مع روح بن عديّ بن حاتم المهلبي لقتال الشراة. فلما التقى الجمعان قلت لروح أما والله لو أن تحتي فرسك ومعي سلاحك لأثرت في عدوك أثراً ترتضيه مني فضحك وقال لأدفعنّ ذلك إليك ولآخذنك بالوفاء بشرطك ونزل عن فرسه ونزع سلاحه ودفعهما إليّ ودعا له بغيرهما فاستبدل به فلما حصل ذلك في يدي وزالت عنه حلاوة الطمع قلت له أيها الأمير هذا مقام العائذ بك وقد قلت بيتين فاسمعهما فقال هات فأنشدته:
إني استجرتك أن أقدم في الوغى ... لتطاعن وتنازل وضراب
فهب السيوف رأيتها مشهرة ... فتركتها ومضيت في الهرّاب
ماذا تقول لمن يجيء ولا يرى ... لما درأت الموت في النشاب
فقال دع هذا وستعلم. فبرز رجل من الخوارج يطلب المبارزة فقال أخرج يا أبا دلامة فقلت أنشدك الله أيها الأمير في دمي فقال لتخرجنّ. قلت أيها الأمير إنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا وأنا جائع ما تنبعث مني جارحة من الجوع فمر لي بشيءٍ آكله ثم أخرج فأمر لي برغيفين ودجاجة فأخذت ذلك وبرزت من الصف فلما رآني الشاري أقبل نحوي وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فاقفعل وعيناه تقدان. فأسرع إليّ فقلت على رسلك يا هذا كما أنت. فوقف فقلت: أتقتل من لا يقاتلك قال: لا. قلت أفتستحل أن تقتل رجلاً على دينك؟ قال: لا. قلت: أفتستحل ذلك قبل أن تدعو من يقاتلك إلى دينك قال لا فاذهب عني إلى لعنة الله. فقلت لا أفعل أو تسمع مني. قال: قل. قلت: هل كان بيننا عداوة قط أو تعلم بين أهلي وأهلك وتراً. قلت: ولا أنالك إلا على جميل وإني لأهواك. وانتحل مذهبك. وأدين بدينك وأريد الشر لمن أراده لك. قال يا هذا جزاك الله خيراً فانصرف. قلت: معي زاد أريد أن آكله وأريد مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا ونرى أ العسكرين هو أنهم علينا. قال: فافعل فتقدمت إليه حتى اختلفت أعناق دوابنا وجمعنا أرجلنا على معارفها وجعلنا نأكل والناس قد غلبوا ضحكاً. فلما استوفينا ودعني فقلت له إن هذا الجاهل إن أقمت على طلب المبارزة ندبني لك فتتعب وتتعبني فإن رأين أن لا تبرز اليوم فافعل قال قد فعلت ثم انصرف وانصرفت فقلت لروح أما أنا فقد كفيتك قرني فقل لغيري يكفيك قرنه.
وخاصم رجل أبا دلامة في داره فارتفعا إلى (عافية) القاضي فقال أبو دلامة:
لقد خاصمتي دهاة الرجال ... وخاصمتهم سنة وافية
فما أدحض الله لي حجة ... ولا خيب الله لي قافية
ومن خفت من جوره في القضا ... فلست أخافك يا عافيه
فقال له عافية أما والله لأشكونك إلى أمير المؤمنين ولأعلمنه أنك هجوتني فقال إذن يعزلك قال ولم قال لأنك لا تعرف المديح من الهجاء. فبلغ المنصور ذلك فضحك وأمر لأبي دلامة بجائزة.
ودخل أبو دلامة على المهدي وسلمة الوصيف واقف فقال: إني قد أهديت إليك يا أمير المؤمنين مهراً ليس لأحد مثله فإن رأيت أن تشرفني بقبوله فمر بإدخاله فقال أدخله فخرج أبو دلامة وأدخل فرسه الذي كان تحته فإذا هو برذون محطم أعجف هرم فقال له المهدي أي شيء ويلك هذا ألم تزعم أنه مهر فقال له أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك قائماً تسميه الوصيف وله ثمانون سنة وهو بعد عندك وصيف فهذا مهر فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة إن لهذا منه أخوات وإن أتى بمثلها في محفل يفضحك فقال أبو دلامة إي والله يا أمير المؤمنين لأفضحنه فليس في مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره فإني ما شربت له الماء قط قال فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك قال سلمة قد فعلت على أن لا يعاود قال أبو دلامة أفعل ولولا أني ما أخذت منه شيأ قط ما استعملت معه مثل هذا فمضى سلمة فحملها إليه.
ودخل أبو دلامة على المهدي وهو يبكي فقال له مالك قال ماتت أم دلامة وأنشد:
وكنا كزوج من قطافي مفازة ... لدى خفض عيش مونق ناضر رغد
فأفردني ريب الزمان بصرفه ... ولم أر شيأ قط أوحش من فرد فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده
وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب ا
فأمر له بثياب وطيب ودنانير وخرج. فدخلت أم أبي دلامة على الخيزران فأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فأعطتها مثل ذلك وخرجت فلما التقى المهدي والخيزران عرفا حيلينهما فجعلا يضحكان لذلك ويعجبان منه.
وخرج أبو دلامة مع المهدي في مصادٍ لهم فعن لهم ظبي فرماه المهدي فأصابه ورمى علي بن سليمان فأخطأ وأصاب الكلب فضحك المهدي وقال لأبي دلامة قل فقال:
قد رمى المهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيأ لهما كل ... امريء يأكل زاده
وقيل لأشعب لو أنك حفظت الحديث حفظك هذه النوادر لكان أولى بك قال قد فعلت قالوا له فما حفظت من الحديث قال حدثني نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال من كان فيه خصلتان كتب عند الله خالصاً مخلصاً قالوا إن هذا حديث حسن فما هاتان الخصلتان قال نسي نافع واحدة ونسيت أنا الأخرى.
وضرب الحجاج أعرابياً سبعمائة صوت وهو يقول عند كل سوط شكراً لك يا رب فلقيه أشعب فقال أتدري لم ضربك الحجاج سبعمائة صوت قال ما أدري قال لكثرة شكرك لله تعالى حيث يقول لئن شكرتم لأزيدنكم فقال:
يا رب لا شكراً فلا تزدني ... باعد ثواب الشاكرين عني
ونظر أشعب إلى شيخ قبيح الوجه فقال ألم ينهكم سليمان بن داود عن أن تخرجوا بالنهار.
وكان ديوجانس الكلبي أحد فلاسفة اليونان صاحب نوادر فلسفية مستطرفة - قيل له يوماً أين تريد أن ندفنك إذا أنت مت قال اطرحوني في الفلاة قالوا ألا تخشى أن تكون طعاماً للسباع قال ضعوا عندي عصا لأطردها إذا هي جاءت قالوا وكيف تقدر على ذلك وأنت ميت قال فإذن كيف أخشى أن تأكلني وأنا لا أشعر.
واجتمع عليه جماعة وهو يأكل وصاروا يقولون هذا ديوجانس الكلب فقال بل أنتم الكلاب لأنكم اجتمعتم على من يأكل.
وعوتب على الأكل في الطرق والشوارع فقال كما يدركني الجوع في البيت يدركني في السوق فحيثما أدركني أكلت.
ورأى رجلاً مسرفاً فقال له أعطني ديناراً فقال الرجل لم تطلب من غيري درهما ومني ديناراً قال لأني آمل من غيرك أن آخذ مرة أخرى وأما أنت فأخاف أن لا يبقى عندك حتى تعطيني.
ودخل الحمام يوماً فرأى الماء قذراً فقال الذي يغتسل هنا أين يطهر بدنه - ومر به الإسكندر المقدوني وهو جالس في الشمس قرب برميله فقال له أنا الإسكندر فقال هو وأنا الكلب ديوجانس قال أماتها بني قال انت صالح أو شرير قال صالح قال أو أهاب الصالح فعجب الإسكندر منه ثم قال له سلني حاجتك قال تحول من هذه الجهة فقد حلت بيني وبين الشمس فزاد تعجب الإسكندر ثم قال ديوجانس أبنا أغنى أصاحب العباءة والخرج أو الذي لم يقنع بعظم سلطانه وسعة مملكته بل اقتحم الأخطار لزيادة حدودها. واستقل الليل والنهار في إصلاح شؤنها فتعجب خواص الإسكندر من احترامه لهذا الرجل الحقير مع قحته وجرأته عليه وشعر الإسكندر بذلك فالتفت إليهم وقال لو لم أكن الإسكندر لاشتهيت أن أكون ديوجانس.
حديث المجرد - حدث إسحاق بن ابراهيم الموصلي قال: قال لي وهب الشاعر والله لأحدثنك حديثاً ما سمعه مني أحد قط قال وهو بأمانة أن يسمعه احد منك ما دمت حياً قلت (أنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها) قال يا أبا محمد إنه حديث ما طن في أذنك أعجب منه قلت كم هذا التعقيد بالأمانة آخده على ما أحببت قال بينا أنا بسوق الليل بمكة بعد أيام الموسم إذ أنا بامرأة من نساء مكة معها صبي يبكي وهي تسكته فيأبى أن يسكت فسفرت فأخرجت من فيها كسرة درهم فدفعتها إلى الصبي فسكت فإذا وجه رقيق كأنه كوكب دري وإذا شكل رطب ولسان فصيح فلما رأتني أحدّ النظر إليها قالت اتبعني فقلت إن شريطتي الحلال قالت ارجع في. . . أمك ومن يريدك على حرام فخجلت وغلبتني نفسي على رأيي فتبعتها فدخلت زقاق العطارين فصعدت درجة وقالت اصعد فصعدت فقالت أنا مشغولة وزوجي رجل من بني مخزوم وأنا امرأة من زهرة ولكن عندي. . . ضمن عليه وجه أحسن من العافية في مثل خلق ابن سريج وترنم معبد وتيه ابن عائشة أجمع لك هذا كله في بدن واحد بأشقر سليم قلت بدينار واحد يومك وليلتك فإذا قمت جعلت الدينار وظيفة وتزويجاً صحيحاً قلت فذلك لك إذا جمع لي ما ذكرت قال فصفقت بيدها إلى جاريتها فاستجابت لها قالت قولي لفلانة البسي عليك ثيابك وعجلي وبالله لا تمسي غمراً ولا طيباً فحسبك بدلالك وعطرك قال فإذا جارية أقبلت ما أحسب أن الشمس وقعت عليها كأنها دمية فسلمت وقعدت كالخجلة فقالت لها الأولى إن هذا الذي ذكرته لك وهو في هذه الهيئة التي ترين قالت حياه الله وقرب داره قالت وقد بذل لك من الصداق دينار قالت أي أم أخبرتيه شريطتي قالت لا والله يا بنية لقد نسيتها ثم نظرت إليّ فغمزتني وقالت أتدري ما شريطتها قلت لا قالت أقول لك بحضورها ما أخالها تكرهه. هي والله أفتك من عمرو بن معد يكرب وأشجع من ربيعة بن مكدوم ولست بواصل إليها حتى تسكر ويغلب على عقلها فإذا بلغت ذلك الحال ففيها مطمع قلت ما أهون هذا وأسهله قالت الجارية وتركت شيئاً آخر قالت نعم والله أعلم أنك لن تصل إليها حتى تتجرد لها وتراك مجرداً مقبلاً ومدبراً قلت هذا أيضاً أفعله قالت هلم دينارك فأخرجت ديناراً فنبذته إليها فصفقت صفقة أخرى فأجابتها امرأة قالت قولي لأبي الحسن وأبي الحسين هلما الساعة فقلت في نفسي أبو الحسن وأبو الحسين هو علي بن أبي طالب قال فإذا شيخان خاضبان نبيلان قد أقبلا فصعدا فقصت المرأة عليهما القصة فخطب أحدهما وأجاب الآخر وأقررت بالتزويج وأقرت المرأة فدعوا بالبركة ثم نهضا فاستحييت أن أحمل المرأة شيئاً من المؤنة فأخرجت ديناراً آخر فدفعته إليها وقلت اجعلي هذا لطيبك قالت يا أخي لست ممن يمس طيباً لرجل إنما أتطيب لنفسي إذا خلوت قلت فاجعلي هذا لغذائنا اليوم قالت أما هذا فنعم فنهضت الجارية وأمرت بإصلاح ما يحتاج إليه ثم عادت وتغدينا وجاءت بداوة وقضيب وقعدت تجاهي ودعت بنبيذ فأعدته واندفعت تغني بصوت لم أسمع مثله قط فإني ألفت القينات نحواً من ثلاثين سنة ما سمعت مثل ترنمها قط فكدت أجن سروراً وطرباً فجعلت أربع أن تدنو مني فتأبى إلى أن غنت بشعر لم أعرفه وهو:
راحوا يصيدون الظباء وإنني ... لأرى تصيدها عليّ حراما
أعزز علي بأن أروّع شبهها ... أو أن تذوق على يديّ حماما
فقلت جعلت فداك من يغني هذا قالت اشترك فيه جماعة هو لمعبد وتغني به ابن شريح وابن عائشة فلما نعى إلينا النهار وجاءت المغرب تغنت بصوت لم أفهمه للشقاء الذي كتب علي فقالت: كأني بالمجرد قد علته ... نعال القوم أو خشب السواري
قلت جعلت فداك ما أفهم هذا البيت ولا أحسبه مما يتغنى به قالت أنا أول من تغنى به قلت فإنما هو بيت عابر لا صاحب له قالت معه آخر ليس هذا وقته هو آخر ما أتغنى به قال وجعلت لا أنازعها في شيء إجلالاً لها فلما أمسينا وصلينا المغرب وجاءت العشاء الأخيرة وضعت القضيب فقمت فصليت العشاء وما أدري كم صليت عجلة وشوقاً فلما صليت قلت تأذنين جعلت فداك في الدنو منك قالت تجرد وأشارت إلى ثيابها كأنها تريد أن تتجرد فكدت أن أشق ثيابي عجلة للخروج منها فتجردت وقمت بين يديها قالت امض إلى زاوية البيت وأقبل وأدبر حتى أراك مقبلاً ومدبراً قال وإذا حصير في الغرفة على الطريق إلى زاوية البيت فخطوت عليه وإذا تحته خرق إلى السوق فإذا أنا في السوق مجرداً وإذا الشيخان الشاهدان قد أعدا نعالهما على قفاي واستعانا بأهل السوق فضربت والله يا أبا محمد حتى نسيت اسمي فبينا أنا أضرب بنعال مخصوفة وأيد مشدودة فإذا بصوت يغني به من فوق البيت وهو:
ولو علم المجرد ما أردنا ... لحاربنا المجرد بالصحاري
فقلت في نفسي هذا والله وقت هذا البيت فنجوت إلى رحلي وما فيّ عظم صحيح فسألت عنها فقيل لي امرأة من آل أبي لهب فقلت لعنها الله ولعن الذي هي منه.