الرئيسيةبحث

مبسوط السرخسي - الجزء العشرون2

[ 88 ]

(باب الحبس في الدين) (قال رحمه الله) ويحبس الرجل في كل دين ما خلا دين الولد على الابوين أو على بعض الاجداد فانهم لا يحبسون في دينه أما في دين غيرهم فيحبس لانه بالمطل صار ظالما والظالم يحبس وانه عقوبة مشروعة ولهذا كان حدا في الزنا في ابتداء الاسلام قال الله تعالى في حق قطاع الطريق أو ينفوا من الارض والمراد به الحبس وكذلك حبس رسول الله ﷺ رجلا بالتهمة وكذلك علي كرم الله وجهه اتخذ سجنين سمى أحدهما نافعا والآخر محبسا وكذلك شريح رحمه الله كان يحبس الناس وحبس ابنه بسبب الكفالة عن رجل ولا يحبسه في أول ما يتقدم إلى القاضى ولكنه يقول له قم فأرضه لان الظلم لا يتحقق من أول وهلة فان عاد إليه مرة أو مرتين يحبسه والقياس في دين الولد على والديه هكذا الا أنا استحسنا في دين الوالدين ومن كان في معناهم أنه لا يعاقب الوالد بسبب الجناية على ولده قال ﷺ لا يقاد الوالد لولده ولا يعاقب بسبب الجناية على ماله لان له ضرب تأويل في ماله وذكر حديث علي كرم الله وجهه انه اتخذ سجنين وقال فيه ألا تراني كيسا مكيسا * * يثبت بعد نافع محبسا وعن الشعبى رحمه الله أن رجلا أتى عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال يا أمير المؤمنين اجرني فقال مم قال من دين قال عمر رضى الله عنه السجن ثم قال عمر رضى الله عنه كانك بالطلبة حلو ذكر هذا لبيان ان الحبس مشروع قال أبو حنيفة رحمه الله لا يباع مال المديون المسجون في دين عليه الا أن يكون عليه دنانير أو يكون عليه دراهم فاصطرفها بدراهم وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يباع ماله وهى مسائل الحجر ثم ذكر عن عمر رضى الله عنه أنه خطب الناس ثم قال في اسفع جهينة رضى من دينه وأمانته ان يقال له سبق الحاج فادان معرضا حتى دين به فمن كان له عليه شئ فليفد علينا فانا بائع ماله قاسم ثمنه بين الغرماء واياك والدين فان أوله هم وأخره حرب ونعم ما قال فان الدين سبب العداوة خصوصا في زماننا فيؤدى إلى اهلاك النفوس ويكون سببا لهلاك المال خصوصا مداينة المفاليس والحرب هو الهلاك ثم إذا حبس المديون ولم يدع الاعسار فظاهر انه لا يخلى عنه أما إذا ادعى الاعسار فان كان ذلك في ديون وجبت بسبب المبايعات فينبغي ان لا يصدق لان الظاهر يكذبه لانه يكون واحدا باعتبار بدله وان كان باسباب مشروعة سوى المبايعات كالمهر وبدل الخلع والكفالة وبدل الصلح

[ 89 ] اختلف مشايخنا رحمهم الله فقال بعضهم يصدق ولا يحبس لانه متمسك بالاصل وهو العدم فالقول قوله وقال بعضهم لا يصدق لان التزامه المال اختيارا دليل قدرته ولو كان دينا وجب حكما باستهلاك مال ونحوه ينبغى ان يصدق ثم قال أبو حنيفة رحمه الله إذا حبس الرجل شهرين يسأل عنه وان شاء سأل عنه في أول ما يحبسه والرأى فيه إلى القاضي ان أخبر بعد أو يقات انه معسر خلى سبيله وان قالوا واجد أمر بحبسه حتى يذوق وبال أمره لانه من الجائز انه أخفى ماله فيشهد الناس على ظاهر حاله فتبطل حقوق الناس وإذا أخبروه أنه معسر أخرجه ولم يحل بين الطالب وبين لزومه عندنا وقال زفر رحمه الله يمنعه من ملازمته لانه منظر بانظار الله تعالى ولو كان منظرا بانظاره لا يكون له حق الملازمة هكذا كنا نقول بانه منظر إلى زمان الوجود ووجود ما يقدره على اداء الدين موهوم في كل ساعة فيلازمه إذا وجد مالا أو اكتسب شيئا فوق حاجته الدراة يؤخذ منه والكفيل بالمال والذى عليه الاصل سواء لان خطاب الاداء متوجه على الكفيل كما هو متوجه على الاصيل وذكر عن الكلبى ومحمد ابن اسحاق أن رسول الله ﷺ حبس بنى قريظة حتى نزلوا في حكم سعد رضى الله عنه في دار بنت الحارث حتى ضرب رقابهم فإذا تبين ان الحبس مشروع وإذا حبس الكفيل بالدين فللكفيل ان يحبس المكفول عنه حتى يخلصه إذا كان بأمره وكذلك لو لازمه الطالب كان له ان يلزم الذى عليه الاصل لانه التزم الاداء من مال المطلوب بأمره فكان الاصيل ملتزما تخليصه فله ان يلازمه وليس للكفيل ان يأخذ المال حتى يؤديه لانه انما يرجع عليه بحكم الاقراض وانما يتحقق هذا المعنى عند الاداء وإذا حبس رجل بدين فجاء غريم له آخر يطالبه فان القاضي يخرجه من السجن ويجمع بينه وبين هذا المدعى فان أقر له بالدين أو قامت له عليه بينة كتب اسمه فيمن حبس له مع الاول لانه لو لم يكتب ربما يشتبه على القاضى انه محبوس بدين واحد فيخلى سبيله فيكتبه حتى لا يخلى سبيله الا بقضائهما وان كان القاضى قد فلس المحبوس جاز اقراره لاشخاص في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله وقال تفليس القاضى اياه جائز ولا يجوز اقراره بعد ذلك ولا بيعه ولا شراؤه ولا بشئ يضيفه في ماله ما خلا العتق والطلاق والنكاح والاقرار بالسبب فانا ندع القياس فيه ونجوزه وهو قول محمد رحمه الله وقول شريح وابراهيم وابن أبى ليلى رحمهما الله ويعنى بالتفليس ان يحكم بعجزه عن الكسب فيجعله كالمريض مرض الموت فيحكم بتعلق حق غرمائه في مال هذا

[ 90 ] وهذا نوع حجر وان كان أبو حنيفة رحمه الله لا يرى ذلك وهما يجوزان ذلك وليس الحبس بتفليس لانه دلالة القدرة على أداء الدين لا دلالة العجز ولا يضرب المحبوس في الدين ولا يقيد ولا يقام ولا يؤاجر لان هذه عقوبات زائدة ما ورد الشرع بها وانما قلنا بالحبس ليكون حاملا له على قضاء الدين وان كان فيه ضرب عقوبة بالنصوص ولا نص في الزيادة عليه فانه روى عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه أنه قال ليس في هذه الامة صفد ولا قيد ولا غل ولا تجريد والصفد ما نقيد به الايدى أراد بقوله لا يقام يعنى لا يؤمر بالقيام بين يدي صاحب المال اهانة له فان ذلك مع عقوبة ولا يؤاجر من غير اختياره لان ذلك نوع حجر عليه ولا يجوز ذلك في ماله فلان لا يجوز في نفسه بطريق الاولى ويحبس الابوان في نفقة الولد ولا تشتبه النفقة بالدين لان الانفاق على الولد انما شرع صيانة للولد عن الهلاك والممتنع كالقاصد الهلاك ومن قصد اهلاك ولده يحبس بخلاف الدين فانه ليس فيه قصد اهلاك نفسه ولا يخرج المحبوس في الدين بجمعة ولا عيد ولا حج ولا جنازة قريب أو بعيد لان الواجب أن يحبس على وجه لا يخلص بعد زمان حتى يضجر قلبه عند ذلك فيسارع في قضاء الدين فلو خرج احيانا لا يضيق قلبه حينئذ ولهذا قالوا ينبغى أن يحبس في موضع خشن لا يتبسط له في فراش ولا وطاء ولا أحد يدخل عليه ليستأنس ليضجر قلبه بذلك وإذا سأل القاضى عن المحبوس بعد شهرين أو أكثر في السر فأخبره ثقة بعدمه خلى سبيله ولم يخل بين غريمه وبين لزومه وان شهد عليه شهود انه موسر أو ان له مالا أجزت شهادتهم ويترك المسألة في السر لان السؤال للاختبار ومتى ظهرت حاله بالشهادة لا تقع الحاجة إلى الاختبار وان أدى دين أحد الغريمين لم يخرج من السجن حتى يؤدى دين الآخر لان الظلم قائم ويحبس الرجل في الدرهم وفى أقل منه لان مانع الدرهم وما دونه ظالم وينبغى أن يكون محبس النساء في الدين على حدة ولا يكون معهن رجل حتى لا يؤدى إلى فتنة ولا يمنع المحبوس من دخول اخوانه وأهله عليه لانه يحتاج إلى ذلك حتى يشاورهم في توجيه ديونه ولكن لا يمكنون من المكث عنده حتى يستأنس بهم ولا يحبس المكاتب لمولاه بالمكاتبة لانه عبد ولا يليق به الحبس (ألا ترى) أنه لو عجز نفسه عن ذلك يسقط ويحبس بدين غير الكتابة قالوا أراد به في حق غير المولى وقال بعضهم يحبس بدين المولى وهو ملحق بالاجانب في المعاملات مع مولاه والاول أصح وان كان للمكاتب على مولاه طعام ومكاتبته دراهم فان المولى يحبس في دين

[ 91 ] المكاتب لان مطالبته متوجهة على مولاه وهو ملحق بالاجانب في حق أكسابه وكذلك العبد التاجر الذى عليه الدين يكون له على مولاه دين ولا يحبس لحقه ولكن لحق الغرماء والصبي التاجر في السجن مثل الرجل يعنى يحبس لانه يؤاخذ بحقوق العباد فيتحقق ظلمه والغلام الذى يستهلك المتاع فيضمن قيمته وله أب أو وصى وليس بناجز مثل ذلك يريد به في حق الحبس ولم يذكر انه يحبس الصبي أو أبوه أو وصيه والصحيح أنه يحبس وليه وفى الكتاب ما يدل عليه حيث قيده بهذا اللفظ وهذا لان الظلم انما يتحقق ممن يخاطب بأداء المال ووليه هو الذى يخاطب بذلك لا هو وبعضهم قال الحبس للصبي بطريق التأديب حتى لا يتجاسر على مثله ولكن هذا انما يكون فيما يباشر من أسباب التعدي قصدا أما ما وقع خطأ منه فلا ولا يحبس العاقلة في الدية ولا في شئ منها من الارش بقضائه عليهم ولكنه يؤخذ من الاعطية وان كرهوا ذلك لان الدية انما تعطى من عطائهم لا مما في أيديهم من الاموال حتى يتحقق المنع من قبلهم حتى لو كانوا من أهل التأدية وليس لهم عطاء يفرض ذلك عليهم في أموالهم فإذا امتنعوا من أدائه حبسوا وكذلك الذعار يحبسون أبدا حتى يتوبوا والذاعر الذى يخوف الناس ويقصد أخذ أموالهم فكان في معنى قطاع الطريق قال الله تعالى انما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله الآية ولو أن غلاما استهلك لرجل مالا وله دار ورقيق وعروض وليس له أب ولا وصى لم يحبس ولكن القاضى يرى رأيه فيه ان شاء جعل وكيلا ببيع بعض ماله فيوفى الطالب حقه وان كان له أب أو وصى يجوز بيعه فانه لا يحبس والصحيح انه يحبس من يخاطب بقضاء دينه لما مر ولا يحبس الصبي الا بطريق التأديب ويحبس المسلم للذمي بدينه والذمى للمسلم ويحبس الحربى المستأمن ويحبس له لان معنى الظلم يتحقق في حق الكل والله أعلم بالصواب (باب الابراء والهبة للكفيل) (قال رحمه الله) وإذا قال الطالب للكفيل قد برئت إلى من المال الذى كفلت به من فلان فهذا اقرار بالقبض وللكفيل ان يرجع به على المكفول عنه لانه أخبر عن البراءة بفعل متعد من المطلوب والكفيل إلى الطالب وذلك بفعل الاداء لان الابراء متعد من المطلوب إلى الطالب وكذلك قوله قد دفعت إلى المال أو نقدتني أو قبضته منك وكذلك الحوالة وإذا

[ 92 ] قال أبرأتك لم يكن هذ اقرارا بالقبض وللطالب ان يأخذ الذى عليه الاصل لانه أضاف الفعل إلى نفسه متعديا إلى المطلوب وذلك انما يكون باسقاط الدين عنه. ولو قال برئت من المال ولم يقل إلى فهذا اقرار بالقبض في قول أبى يوسف رحمه الله لانه وصفه بالبراءة فينصرف إلى ذلك السبب المعهود والسبب المعهود الايفاء وعند محمد رحمه الله هو بمنزلة قوله أبرأتك لانه يحتمل الوجهين فكان الحمل على الادنى أولى (ألا ترى) ان الحاجة إلى الرجوع على الاصيل لا تثبت بالشك وقد مر هذا في الجامع والتحليل بمنزلة الابراء لان الدين لا يوصف بالتحليل أما المال الذى يراد به الدين فيوصف بهذا وذلك بمنزلة الموضوع الديون فمتى حلله أسقط حقه عن ذلك أصلا فكأنه قال لا حق لى في مالك ولو قال له هكذا كان ابراء مطلقا فهذا كذلك والمحتال عليه في جميع هذا بمنزلة الكفيل ولو وكل الطالب وكيلا بقبض ماله فقال الوكيل للكفيل برئت إلى كان هذا اقرارا بالقبض فيصح ولو قال الوصي للكفيل قد أبرأتك أو انت في حل منه لم يجز لان ذلك معروف منه وليس له ذلك وكذلك الصبي التاجر والعبد التاجر والمكاتب إذا قالوا ذلك للكفيل لا يصح لما مر وإذا ابرأ الطالب الكفيل من المال فأبى أن يقبل ذلك فهو برئ ولا يشبه هذا الهبة لان الابراء اسقاط محض في حقه لانه ليس في حقه إلا مجرد المطالبة فصار كسائر الاسقاطات فلا يرتد بالرد بخلاف الذى عليه الاصل لان أصل الدين عليه فيكون ذلك تمليكا منه لان الحق الذى هو واجب له في ماله غير عين فصار هذا تصرفا باسقاط الفعل عنه ويجعل الواجب له اسقاطا من وجه وتمليكا من وجه فوفرنا على السهمين حظهما فعلى هذا يصح من غير قبول لشبهه بالاسقاط ويرتد بالرد لشبهه بالتمليكات ومثله لو وهب من الكفيل فانه يرتد بالرد كما لو وهب من الاصيل لان الهبة لفظ وضع للتمليك ويمكن تحقيق الهبة في حق الكفيل كما في حق الاصيل لان هبة الدين من غير من عليه الدين جائزة فإذا سلطه عليه فهو مسلط عليه في الجملة أو يجعل ذلك نقلا للدين منه بمقتضى الهبة منه فيصير هبة الدين ممن عليه الدين لو أمكن ذلك لان له ولاية نقل الدين إليه قصدا باحالة الدين عليه فيثبت ذلك بمقتضى تصرفهما تصحيحا له وإذا استقام تحقيق الهبة كما في حقه وجب الجري على مقتضى الهبة كما في حق الاصيل وقد مر أنه لو أبرأ الذى عليه الاصل من الدين يصح من غير قبول ولكنه يرتد بالرد لما فيه من معنى التمليك فكذلك لو وهب منه فلو مات قبل ان يعلم فهو برئ منه في الهبة والابراء جميعا لانه تام في نفسه ولكنه يرتد بالرد

[ 93 ] فمتى مات وقع اليأس عن الرد فانبرم بمنزلة لو تصرف له فيه جاز وكذلك لو كان ميتا فابراه منه وجعله في حل منه فهو جائز لان الدين قائم عليه حكما فاحتمل الاسقاط فان قالت الورثة لا تقبل فلهم ذلك ويقضون المال والكفيل منه برئ في قول أبى حنيفة رحمه الله وقال محمد رحمه الله ليس للورثة في ذلك قول فمحمد رحمه الله يقول بان هذا في حق الورثة اسقاط محض لانه لا دين عليهم حقيقة انما عليهم مجرد المطالبة فاشبه الكفيل ثم في حق الكفيل لا يرتد بالرد فكذا في حقهم وأبو يوسف رحمه الله يقول ان الدين قائم وقد أخذ شبها بالاعيان بعد الموت لتعلقه بالتركة فكان أقبل للتمليك في هذه الحال والملك بهذا التمليك واقع لهم فيرتد بردهم كما لو أضاف الابراء إليهم تنصيصا وإذا وهب الطالب المال الذى عليه للاصيل فأبى أن يقبل كان المال عليه وعليه فضله لان الهبة منه كالهبة من كفيله ولو وهبه من كفيله فأبى ان يقبل كان المال عليه بخلاف ما إذا أبرأه فأبى أن يقبل لانه لا يعود الدين على الكفيل لانا نجعل ابراءه كابراء الكفيل لا يرتد بالرد فكذلك هنا وإذا وهب للكفيل وقبله رجع به على الذي عليه الاصل لانه ملكه بالهبة فصار كما لو ملكه بالاداء والتمليك منه صحيح لانه قابل للملك في حق ما في ذمة الاصل ولهذا يملكه بالاداء وإذا ملكه رجع عليه وكذلك المحتال عليه وإذا كانت الكفالة على ان المكفول عنه برئ أو كانت حوالة فوهب الطالب الذى كان عليه الاصل فالهبة باطلة لانه ليس في ذمته شئ لانتقال الدين إلى ذمة غيره وعلى رواية الجامع ينبغى أن يصلح ولو وهب الكفيل الذى عليه للاصيل فهو جائز لانعقاد سبب وجوب الدين له في الحال فان أدى الكفيل لم يرجع به عليه لانه يقرر ملكه ما في ذمته فصحت الهبة فصار كما لو وهبه بعد الاداء فان أدى الذى عليه الاصل لم يرجع به على الكفيل لانه تبين أن هبته باطلة لانتقاض سبب وجوب الدين بينهما والله سبحانه وتعالى أعلم (باب اقرار أحد الكفيلين بأن المال عليه) (قال رحمه الله) وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بالمال فأقر أحد الكفيلين بأن المال كله عليه وأداه وأراد أن يرجع بنصفه على صاحبه وقال انما عنيت باقرارى أنه على لانى كفلت عنك كل حصتك فله أن يرجع عليه بنصفه لانه صادق في قوله انه كله عليه لكن بعضه بحكم الكفالة وبعضه بحكم الاصالة ولو أقر ان

[ 94 ] كله عليه وان صاحبه كفل عنه بأمره لم يكن له أن يرجع على صاحبه بشئ لانه قد صرح انه أصيل في كله وصاحبه كفيل عنه فيجري على قضية قوله. ولو أن رجلين كان عليهما خمسون دينار الرجل قرضا وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه ضامن له فأشهد أحدهما على صاحبه أنى معك دخيل في هذا المال ولو أقر الآخر بذلك ثم ادعى أن المال كله على صاحبه فانه يرجع على صاحبه بنصفه لان قوله أنت دخيل معى ليس باقرار بشئ لم يكن عليه خاصة دون الآخر يريد به انه أخبر بكونهما دخيلين في هذا المال وهذا يقتضى أن يكونا أصيلين في بعضه فمن ادعى أن كله على صاحبه فقد ناقض فيما أخبر فلا يلتفت إلى ذلك وان أقر أحدهما أن هذا المال عليه خاصة دون الآخر ثم أدى المال لم يرجع على صاحبه بشئ لانه نص أنه كفيل أصيل في الكل ولو أداه صاحبه كان له أن يرجع بكله عليه ولو كان لرجل على ثلاثة نفر ألف درهم في صك باسمه وبعضهم كفلاء عن بعض ضامنون للمال كله فأقر الطالب ان أصل المال على أحدهم وان الآخرين كفيلان عنه ولم يقر بهذه الكفالة التى نسبت إليه في الصك ثم أدى المال أحدهم فله أن يرجع على صاحبه بالثلثين لانه أقر على غيره فلم يعتبر ولو لم يقر الطالب بذلك ولكن أحد الكفلاء قال أصل المال علي وصاحباى منه بريئان ثم أدى المال لم يرجع على صاحبيه بشئ لان زعمه معتبر في حقه وان أداه صاحباه رجعا بالكل عليه لاقراره انه أصيل في جميع المال واقراره ملزم اياه ولو كان لرجل على رجل ألف درهم في صك باسمه وفلان بها كفيل فأقر الكفيل ان أصل المال عليه وان فلانا كفيل عنه وانه انما قدمه في الصك لشئ خافه فأدى المقدم في الصك المال كله فله أن يرجع بذلك على الكفيل مؤاخذا بما أقر به على نفسه ويجعل ذلك في حقه كالثابت بالبينة ولو كان أصل المال قرضا في الصك أو من ثمن بيع ونسبه إلى الذى في صدر الصك ثم أقر الكفيل بهذه المقالة كان اقراره على نفسه أصدق مما في الصك لان اقراره على نفسه حجة ملزمة والصك ليس بحجة ملزمة ما لم يشهد الشهود بما فيه وشهادة الشهود بما فيه لا تكون مقبولة مع تكذيبه اياهم باقراره فلهذا كان المقبول ما أقر به على نفسه ولو لم يقر الكفيل بهذه المقالة ولكنه أقر انه هو القابض للمال من صاحب الصك أو انه قد اشترى المبيع من صاحب الصك وقبضه وقال الذى عليه الصك وهو الذى اسمه في أوله أجل أو صدق ثم ادعى المقر له المال فله أن يرجع على صاحبه المقر لان اقراره بمباشرة سبب التزام المال

[ 95 ] يكون اقرارا منه بأنه أصيل في جميع المال وان صاحبه كفيل به واقراره حجة عليه ولو لم يقر الكفيل بذلك ولكنه أقر أنه قبض المال من المكفول عنه فهو جائز لانه بالكفالة قد استوجب المال على المكفول عنه وان كان مؤجلا واقراره بقبض الدين المؤجل صحيح فان أداه المكفول عنه إلى الطالب رجع على الكفيل بسبب اقراره لان ثبوت قبضه منه باقراره كثبوته بالبينة أو بالمعاينة في حقه وإذا كان لرجل على رجلين ألف درهم وكل واحد منهما كفيل عن صاحبه بجميع المال فادعى كل واحد منهما على صاحبه انه كفيل عنه لم يصدق واحد منهما على ذلك الا بحجة لانه يدعي خلاف المعلوم بطريق الظاهر فعلى كل واحد منهما البينة على ما ادعى فان لم يكن له بينة يحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لانه يدعي على صاحبه ما لو أقر به لزمه وأيهما نكل عن اليمين فنكوله بمنزلة اقراره فيثبت بنكوله ان أصل المال عليه وان حلفا جميعا ثم أدى أحدهما المال رجع على صاحبه بنصفه لان دعوى كل واحد منهما تنفى عن صاحبه نصيبه وقيل هذه الدعوى إذا كان أدى أحدهما المال رجع على صاحبه بالنصف لاستوائهما في الضمان ان قامت البينة من الاصيل أن المال على أحدهما والآخر كفيل ولم يعرفوا ذلك فهذا بمنزلة من لم تقم عليه بينة لان المشهود عليه بالاصالة منهما مجهول والشهادة على المجهول لا تكون مقبولة ولا تبطل هذه الشهادة حق الطالب ولا توهنه لانها لا تمس حقه وان أقر الطالب أن الاصل على أحدهما والآخر كفيل لم يصدق على ذلك لان اقراره ليس بحجة لاحدهما على صاحبه وشهادته في ذلك لا تكون مقبولة لان المال له فانما يشهد لنفسه على أحدهما بأن جميع المال عليه وكذلك لو كان للطالب ابنان فشهدا بذلك لانهما يشهدان لابيهما وهذا إذا لم يكن على أصل المال بينة أنه عليهما وكل واحد منهما ضامن فان كان على أصل المال بينة بذلك فشهادة ابني الطالب جائزة لانهما لا يثبتان بشهادتها حق أبيهما وانما يشهدان لاحد الغريمين على الآخر انه هو الاصيل وان صاحبه كفيل فلا تتمكن التهمة في هذه وكذلك ان كان الغريمان مقرين بالمال لان حق الطالب عليهما ثابت باقرارهما فشهادة ابني الطالب على هذا لا تكون لابيهما وانما تكون لاحدهما على الآخر ولو شهد ابنا أحدهما أن الاصل على أبيه والآخر كفيل عن أبيه جاز لانهما يشهدان على أبيهما ولو شهدا أن الاصل على الآخر وان أباهما كفيل به عنه لم تجز شهادتهما لانهما يدفعان بهذه الشهادة عن أبيهما مغرما ويجران إليه المنفعة فكانا متهمين فيه والله تعالى أعلم بالصواب

[ 96 ] (باب بطلان المال عن الكفيل من غير أداء ولا ابراء) (قال رحمه الله) وإذا كفل الرجل بمال عن رجل من ثمن مبيع اشتراه فاستحق المبيع من يده برئ الكفيل من المال لان باستحقاق المبيع انفسخ البيع وبرئ الاصيل من الثمن وبراءة الاصيل منه توجب براءة الكفيل لان الكفيل يلتزم المطالبة التى هي على الاصيل ولا تبقى المطالبة على الاصيل بعد استحقاق المبيع فكذلك على الكفيل وكذلك لو رده بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو باقالة أو بخيار شرط أو رؤية أو بفساد البيع لان الاصيل يبرأ عن الثمن بهذه الاسباب وكذلك المهر يبطل عن الزوج كله بفرقة من جهتها قبل الدخول أو بعضه بالطلاق ببراءة الكفيل به مما بطل عن الزوج لبراءة الاصيل وكذلك الكفيل بطعام السلم إذا صالح الاصيل الطالب على رأس المال فهو برئ عما كفل به لبراءة الاصيل وليس عليه شئ من رأس المال لانه دين آخر سوى ما كفل به وهو ليس ببدل عن المكفول به وكيف يكون بدلا ووجوب المسلم فيه بعقد السلم ووجوب رأس المال بانفساخ عقد السلم والبدل ما يجب بالسبب الذى وجب به الاصل فلو ضمن المشترى ثمن المشترى لغريم البائع يعنى أحال البائع غريم له على المشترى حوالة مقيدة بالثمن أو كفل المشترى لغريم الكفالة البائع كفالة مقيدة بالثمن ثم استحق العبد بطلت الحوالة والكفالة لان بانفساخ العقد من الاصل ينتفى الثمن عن المشترى من الاصل وقد كان التزاما مقيدا به وكذلك لو وجد العبد حرا أو رده المشترى بعيب بقضاء أو بغير قضاء أو بخيار رؤية أو هلك العبد قبل القبض لم تبطل الحوالة عندنا ولا الكفالة لان بما اعترض من الاسباب لا يتبين أن الثمن لم يكن واجبا على الاصيل وعلى قول زفر رحمه الله تبطل الكفالة والحوالة لان البيع ينفسخ من الاصيل بهذه الاسباب ويسقط الثمن عن المشترى وقد كان التزامه مقيدا به (واستشهد في الكتاب بالصرف) فقال لو باعه بالدراهم مائة دينار وقبضها ثم انفسخ البيع بهذه الاسباب رجع على البائع بألف درهم لان صرفها وأصلها صحيح بخلاف ما إذا استحق العبد أو وجد حرا فانه يرجع بالدنانير لانه تبين أن الدراهم لم تكن واجبة من الاصيل وعلى هذا لو ضمن الزوج مهر المرأة لغريمها ثم وقعت الفرقة بينهما قبل الدخول من قبلها لم يبرأ الزوج عن الكفالة إلا على قول زفر رحمه الله ثم إذا أداها رجع بها على المرأة لانه كفل عنها بأمرها فيستوجب الرجوع عليها عند الاداء الا انه كانت تقع المقاصة قبل الفرقة بمهرها وقد انعدم ذلك بسقوط

[ 97 ] المهر عنه فيرجع عليها بالمؤدى وكذلك لو طلقها قبل أن يدخل بها غير انه يرجع عليها بنصف المؤدى لان المقاصة وقعت بالنصف الثاني من مهرها ولو كاتب رجل عبده على ألف درهم ثم أمره فضمنها لغريم له على المولى ألف درهم وقبل الحوالة بها فذلك صحيح لان هذا ليس بكفالة ولا حوالة في الحقيقة ولكنه بمنزلة توكيل المولى غريمه باستيفاء بدل الكتابة من المكاتب ولا فرق في حق المكاتب بين أن يكون يطالبه المولى بالبدل وبين أن يطالبه غريم المولى فان أعتق المولى المكاتب عتق ولم يبرأ من الضمان وفي بعض نسخ الاصل قال وبرئ من الكفالة لانه كان بمنزلة التوكيل وباعتاق المكاتب يسقط عنه بدل الكتابة حتى لا يطالبه المولى بشئ منه فكذلك وكيله * ووجه الرواية الاخرى أن الغريم كان يطالبه بدينه قبل العتق ولم يتغير حكم دينه باعتاق المكاتب وانما كان هذا بمنزلة التوكيل وحكم توجه المطالبة للغريم على المكاتب بالتزامه فأما المطلوب في حق الغريم دينه وما اعترض من العتق لا يبقى التزام المطالبة ابتداء فلان لا ينفى بقاءه بطريق الاولى ثم إذا أدى رجع على المولى لانه قبل العتق كانت تقع المقاصة بدين الكتابة وقد انعدم ذلك حين سقط عنه دين الكتابة بالعتق وكذلك لو مات المولى والمكاتب مدبر يعتق وعتق من ثلثه أم ولد فعتقت لان البراءة عن بدل الكتابة يحصل بهذا السبب كما يحصل باعتاق المولى اياه ولو كفل عبد عن مولاه بألف درهم بأمره ثم أعتقه المولى فأداه لم يرجع على المولي فأما بعد العتق فانه يطالبه بذلك المال لانه كان مطالبا في حال رقه بالعتق وهو لا يزيده الا وكادة ولان المولى شغله به حين أمره بالكفالة عنه فهو بمنزلة ما لو أقر بالدين عليه ثم أعتقه فلا يرجع العبد بها على المولى وان أدى من كسب هو خالص حقه لان الكفالة حين وقعت لم تكن موجبة لرجوع الكفيل على الاصيل فلا يصير موجبا للرجوع بعد ذلك بخلاف المكاتب فان هناك أصل الكفالة كانت موجبة لرجوع المكاتب على المولى عند الاداء لان المكاتب يستوجب على مولاه دينا الا أنه كانت تقع المقاصة ببدل الكتابة وهنا أصل الكفالة لم يكن موجبا لرجوع العبد على المولى فان العبد لا يستوجب على مولاه دينا ولو ان رجلا له على رجل الف درهم فأمره ان يضمنها الغريم له ثم ان الآمر وهبها للكفيل أو ابرأه منها لم يجز ذلك وكان للمكفول له ان يأخذه بالمال لان الكفالة أو الحوالة المقيدة قد اشتغلت بما للآمر في ذمة الكفيل لحق الطالب وذلك يمنع الآمر من التصرف فيه بمنزلة الراهن إذا تصرف في المرهون بالهبة أو البيع من انسان فانه لا ينفذ لحق

[ 98 ] المرتهن ولو مات الآمر وعليه دين ولم يقتض المكفول له الدراهم كانت الدراهم بين سائر غرماء الميت ولم يكن المكفول له أحق بها منهم استحسانا وكان ذلك القياس أن يكون للمكفول له خاصة وهو قول زفر رحمه الله لانه صار كالمرهون به ولان سائر الغرماء يثبت حقهم من جهة الاصل وقد كان مقدما على الاصل في هذا المال في حياته * ووجه الاستحسان ان المكفول له لم يصر أحق بغرم هذا المال حتى لو برئ مما في ذمة الكفيل لم يبطل حق المكفول له ولا يكون أحق بالغنم وبه فارق الرهن فقد صار المرتهن أحق بغرم الرهن هناك * يوضحه ان يد الاستيفاء ثبتت للمرتهن بقبض الرهن وعلى ذلك ينبنى اختصاصه به دون سائر الغرماء وهنا يد الاستيفاء لم تثبت للمكفول له فيما في ذمة الكفيل بل هو مال الاصيل فيقسم بعد موته بين غرمائه بالحصص ولو كان المكفول عنه حيا فأقام رجل البينة أن هذا المال له وانه أمر فلانا فباع المبيع الذى هذا المال ثمنه لم يكن له ان يبطل الكفالة في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ولكنه يضمنه للبائع وفى قول أبى يوسف رحمه الله تبطل الكفالة وهو بناء على مسألة كتاب البيوع ان الوكيل بالبيع عندهما في نفوذ تصرفه في الثمن بمنزلة العاقد لنفسه ويضمن للموكل وعند أبى يوسف رحمه الله بمنزلة الثابت لا ينفذ من تصرفه الا ما يرجع إلى القبض ولو كان المال إلى أجل وبه كفيل فان مات الاصيل فقد حل المال عليه ولا يحل على الكفيل حتى يمضى الاجل لان الاصيل استغنى بموته عن الاجل والكفيل محتاج إليه وحلوله على الاصيل لا يمنع كونه مؤجلا على الكفيل كما لو كفل الكفيل بمال هو حال على الاصيل مؤجلا إلى سنة ولو كان الميت هو الكفيل فقد حل المال عليه لوقوع الاستغناء عن الاجل ويؤخذ من تركته في الحال ثم لا يرجع ورثته على الاصيل قبل أن يحل الاجل عندنا وقال زفر رحمه الله يرجعون على الاصيل في الحال لانهم أدوا دينا عليه بعد توجه المطالبة فيه شرعا بحكم الكفالة عنه بأمره فيرجعون إليه وهذا لان الكفيل يصير بمنزلة المقرض لما أدى عن الاصيل فيستوجب الرجوع به عليه في الحال الا إذا قصد اثبات حق الرجوع لنفسه بتعجيله قبل حل الاجل ولم يوجد إذا كان سقوط الاجل حكما لموته ولكنا نقول بالكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل مؤجلا والاصيل باق منتفع بالاجل فكما بقي المال مؤجلا في حق الطالب بعد موت الكفيل فكذلك في حق الكفيل للطالب قبل حل الاجل فانه لا يرجع على الاصيل حتى يحل الاجل فهذا مثله ولو كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها عنه ثلاثة رهط

[ 99 ] بعضهم كفلاء عن بعض بالمال وهو حال من ثمن مبيع فأخر الطالب أحد الكفلاء إلى سنة فهو جائز وله أن يأخذ أيهم شاء سواء بجميع المال بمنزلة ما لو كان أحدهم كفل به مؤجلا في الابتداء فان المال يكون حالا على الباقين وهذا لان كل واحد منهم كفيل بجميع المال وابراء أحد الكفلاء لا يوجب البراءة للباقين كما لا يوجب براءة الاصيل فكذلك التأخير عن أحد الكفلاء إلى سنة فان أدى المال أحد الكفيلين الآخرين كان له أن يأخذ صاحبه بالنصف ليستوي به في غرم الكفالة كما هو مساو له في الالتزام بأصل الكفالة ولا يأخذ الذى أخره حتى يحل الاجل لان الاجل ثابت في حقه فكما لا تتوجه مطالبة الطالب عليه بشئ لمكان الاجل فكذلك مطالبة الكفيل الآخر فإذا حل الاجل وقد كان أخذ من صاحبه النصف بيعا جميعا ذلك الكفيل بالثلث لانه كان مساويا لهما في الكفالة وقد كان المانع لهما من الرجوع عليه الاجل وقد انعدم فيرجعان عليه بقسطه وهو الثلث ليستووا في غرم الكفالة ثم يرجعون على الاصيل بجميع المال فلو كان الطالب أخر المال على الاصيل سنة كان ذلك تأخيرا عن جميع الكفلاء بمنزلة ما لو أبرأ الاصيل وكان ذلك موجبا براءة الكفيل أو لو كان أخر كفيلا منهم شهرا وآخر شهرين وآخر ثلاثة أشهر كان جائزا على ما سمى فان حل على صاحب الشهر أخذه من سهمه ولا يرجع هو على الآخرين لقيام المانع وهو الاجل وان أخر الذى عليه الاصل بعد هذا سنة كان المال عليهم إلى سنة ودخلت الشهور تحت السنة لان التأجيل في حق الاصيل فهو في حق الكفيل ولو كان أخر الكفيل شهرا ثم أخره سنة دخل الشهر في السنة فهذا مثله وان كان المال من ثمن مبيع أو غصب وبه كفيل فأخر الطالب الاصيل إلى سنة فأبى أن يقبل ذلك فالمال عليه وعلى الكفيل حال كما كان لان تأخير المطالبة بالتأجيل في حق الاصيل بمنزلة اسقاطه بالابراء وابراء الاصيل يرتد بالرد فكذلك التأخير عنه يرتد برده فيبقى المال عليه حالا وكذلك على الكفيل لان التأجيل في حق الاصيل يجعل في حق الكفيل بمنزلة ما لو أجل الكفيل ولو أجل الكفيل فأبى أن يقبل المال أن يثبت حالا فكذلك إذا أجل الاصيل وهذا لان التأجيل لا يوجب انفساخ الكفالة سواء أجل الكفيل أو الاصيل وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فكفل بها ثلاثة نفر وبعضهم كفلاء عن بعض ثم ان الطالب وهب المال لواحد منهم فأبى أن يقبل فالمال عليهم كما كان لان الهبة من الكفيل تمليك فيرتد برد الكفيل كما

[ 100 ] يرتد برد الاصيل إذا وهب منه وان قبل فقد تملك المال بقبول الهبة فهو بمنزلة ما لو وهبه تملكه بالاداء فان شاء رجع على الاصيل بجميع المال وان شاء رجع على صاحبيه بالثلثين ان وجدهما أو على أحدهما بالنصف ان وجده دون الآخر بمنزلة ما لو أدى المال فان كان الموهوب له غائبا فلم يقبل ولم يرد ولم يعلم به حتى مات فالهبة جائزة ويرجع ورثته على أيهم شاء ولما بينا أن هبة الدين اسقاط يتضمن التمليك فان ضمنه معنى التمليك يرتد برده ما دام حيا ولكونه اسقاطا يتهم بموته قبل الرد ويجعل تمامه كتمامه بقبوله وورثته قائمون مقامه فيرجعون على أيهم شاء كما بينا ولو وهبه لرجلين من الكفلاء فقبلا جاز ورجعا به على الاصيل وان شاآ رجعا على الكفيل الثالث بالثلث بمنزلة ما لو أديا وليس لواحد منهما أن يرجع على صاحبه بشئ من أجل ان كل واحد منهما صار متملكا خمسمائة وهما يستويان في ذلك وان أخذا الكفيل الثالث فأدى اليهما الثلث ثم أراد هذا الكفيل الغارم أن يرجع على أحدهما بنصف ما أدى إلى الآخر لم يكن له ذلك لان كل واحد منهما متملك للثلث فيكون بمنزلة ما لو أدوا جميعا المال إلى الطالب وانما يتبعون الاصل بالالف كلها فإذا أخذوها كان لكل واحد منهم ثلث المقبوض ولو أن الطالب حين وهب المال لهذين الكفيلين قبل أحدهما الهبة وأبى الآخر أن يقبل فللذى قبل أن يأخذ ثلث هذا النصف من الكفيلين الآخرين لان تملكه نصف المال بقبول الهبة كتملكه بأداء النصف فان شاء رجع على الكفيلين معا بثلثي ذلك النصف وان شاء على أحدهما بنصف ذلك الثلث ويأخذ الطالب بالنصف الآخر أي الكفلاء شاء وان شاء رجع على الاصيل لان الهبة بطلت في هذا النصف برد الموهوب له فعاد الحكم كما كان قبل الهبة فان قبض الطالب من الذى عليه الاصل شيئا فهو له خاصة وللطالب أن يأخذ الموهوب له بما بقي من ذلك لان النصف الباقي ما وهبه منه فهو فيه كغيره من الكفلاء ولو وهب الطالب نصف المال لاحد الكفلاء كان بهذه المنزلة فان رجع الموهوب له على الكفيلين بثلثي ذلك النصف فأخذه منهما لم يتبعه واحد منهما بشئ من ذلك لانه لو كان له حق الاتباع بعد الاداء كان له أن يمنع ذلك منه في الابتداء ولكن لو أديا إلى الطالب خمسمائة كان للموهوب له أن يرجع عليهما بثلث خمسمائة أخرى فيرجع عليهما بتلك الخمسمائة حتى يكون الاداء عليهم اثلاثا وكذلك الصدقة والنحلة والعطية فأما البراءة فليست كذلك ولا يرجع المبرأ من الكفلاء على على أحد بشئ لان ابراء الكفيل فسخ للكفالة وليس بتملك شئ منه والله تعالى أعلم

[ 101 ] (باب الحلف في الكفالة) (قال رحمه الله) وإذا حلف الرجل لا يضمن لفلان شيئا فضمن له بنفس أو مال فهو حانث لانه قد ضمن له فالمفهوم من هذا اللفظ التزام المطالبة بتسليم شئ مضمون له وقد وجد ذلك وكذلك لو كفل أو قبل الحوالة له وقال في الحوالة ضمان وزيادة والكفالة والضمان عبارتان عن عقد واحد ولو اشترى شيئا بأمره فهذا ليس بضمان وانما هذا التزام لعقد الشراء وعقد الشراء لا يسمى كفالة عرفا وفى الايمان يعتبر العرف ولو ضمن لعبده أو مضاربه أو شريك له مفاوض أو عنان لم يحنث لان الضمان وقع لغيره فان المضمون ما تجب به المطالبة قبل الضامن بعقد الضمان وهو غير المحلوف عليه فاما المحلوف عليه ان توجهت له المطالبة فذلك باعتبار سبب آخر دون عقد الضمان (ألا ترى) أن الرد والقبول انما يعتبران ممن ضمنه له دون المحلوف عليه وعلى هذا لو ضمن الرجل فمات فورثه المحلوف عليه لم يحنث وان صار الضمان له في الانتهاء لان الاصل كان لغيره وانما يثبت له باعتبار سبب آخر وهو الخلافة عن المورث ولو حلف لا يضمن لاحد شيئا فضمن انسان ما أدركه من درك في دار اشتراها أو عبد حنث لانه قد ضمن للمشترى (ألا ترى) انه يسمى في الناس ضامنا من كان ضامنا للدرك وهو بمنزلة ما لو قال ان لم يوفك فلان مالك إذا حل أو ان مات فلان قبل ان يوفيك فهو على أو فانا له ضامن فانه يكون ضامنا له ويكون حانثا في يمينه وان كانت المطالبة متأخرة عنه إلى أن يوجد ما صرح به ولا يخرج به من أن يكون ضامنا في الحال فكذلك في الدرك ولو ضمن لرجل غائب لم يخاطب عنه أحد لم يحنث في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ويحنث في قول أبى يوسف رحمه الله وهو بناء على ما سبق أن الكفالة للغائب إذا لم يقبل عنه أحد باطل في قولهما فلا يحنث في يمينه وهو صحيح في قول أبى يوسف رحمه الله والضمان لازم للكفيل فيكون حانثا في يمينه ولو خاطبه عنه مخاطب حنث في قولهم جميعا لان الضمان صحيح في حق الضامن وان كان للمضمون له الخيار إذا بلغه بين أن يرضى به وبين أن يرده فيتم به شرط الحنث في حقه ولو ضمن لصبى لان أباه أو وصيه لو أجاز ذلك جاز فهو بمنزلة ما لو ضمن الغائب فيتم في حقه إذا خاطبه به مخاطب وكذلك العبد المحجور عليه يحلف انه لا يضمن شيئا فضمن فهو حانث لان يمين المحجور عليه ينعقد لكونه مخاطبا والالتزام بالضمان صحيح في حقه وان كان المال يتأخر عنه إلى ما بعد العتق لحق مولاه فهو بمنزلة ما لو

[ 102 ] ضمن الغائب وعنه مخاطب أو ضمن لانسان بعد ما حلف وهو مفلس ولو حلف لا يكفل بفلان أو لا يضمن فلانا فكفل عنه بمال لم يحنث لان الكفالة بفلان إذا أطلقت فانما يفهم منها الكفالة بالنفس ومطلق اللفظ في اليمين محمول على ما يتفاهمه الناس في مخاطباتهم فان عنى المال كان ذلك على ما عنى لانه شدد على نفسه بلفظ يحتمله وقد تقدم بيان هذا الجنس في كتاب والله أعلم (باب الكفالة بما لا يجوز) (قال رحمه الله) ولا يجوز الكفالة بشجة عمد فيها قصاص ولا بدم عمد فيه قصاص حتى لا يؤاخذ الكفيل بشئ من القصاص ولا من الارش لان الكفالة انما تصح بمضمون تجرى النيابة في ايفائه والقصاص عقوبة لا تجرى النيابة في ايفائها فلا يصح التزامها بالكفالة والارش لم يكن واجبا على الاصيل بالفعل الذى هو موجب للقصاص والكفيل لم يكفل به أيضا وكذلك الكفالة بحد القذف باطلة لانه عقوبة لا تجرى النيابة في ايفائها ولان المغلب فيه حق الله تعالى فيكون على قياس سائر الحدود وكذلك لا تجوز الكفالة بشئ من الامانات لانها غير مضمونة على الاصيل ولا هو مطالب بايفائها من عنده وانما يلتزم الكفيل المطالبة بما هو مضمون الايفاء على الاصيل فإذا استهلكها بعد ذلك من هي في يده أو خالف فيها لم يلزم الكفيل ضمانها لان أصل الكفالة لم يصح والضمان انما لزم الاصيل بسبب حادث بعد الكفالة وهو ما أضاف الكفالة إلى ذلك السبب وذلك في القصاص لو صالح الطالب المطلوب على مال لم يلزم الكفيل من ذلك المال شئ لانه وجب بعقد بعد الكفالة والكفالة ما أضيفت إليه وكما لا تصح الكفالة بهذه الاشياء فكذلك الرهن لان جواز الرهن يختص بما يمكن استيفاؤه من الرهن فان موجبه ثبوت يد الاستيفاء وكذلك الكفالة بالرهن عن المرتهن الرهن باطل لان عين الرهن أمانة في يد المرتهن والكفالة بتسليم الامانة لا تصح كالوديعة والعارية والمضاربة وكذلك الكفالة للمولى مملوكة وهو في بيت مولاه أو قد أبق عنه باطلة لانه غير مضمون للمولى على العبد فان المولى لا يستوجب على عبده حقا مضمونا وهذه الكفالة دون الكفالة ببدل الكتابة للمولي عن مكاتبه وذلك باطل فهذا أولى ولو دفع ثوبا إلى قصار ليقصره وضمنه رجل فضمانه باطل في قول أبى حنيفة رحمه الله وكذلك من يشبهه

[ 103 ] من الصناع لان العين عنده أمانة في يد الاجير المشترك ولهذا لو هلك من غير صنعه لم يضمن وأما في قول من يضمن الاجير المشترك ما هلك عنده بسبب يمكن التحرز عنه وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله فالكفيل ضامن لان العين عندهما مضمونة في يد القابض بنفسها وهو بمنزلة المغصوب في يد الغاصب فتصح الكفالة به ولو كفل بعبد رجل ان هو أبق من مولاه فهو باطل لانه ما أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان فالاباق ليس بسبب يوجب ضمانا للمولى على عبده وكذلك لو كفل بدابته ان انفلتت منه أو بشئ من ماله ان تلف لان الكفيل يلتزم مطالبة هي على الاصيل وذلك ينعدم هنا ولو استودع رجلا وديعة على أن هذا كفيل بها ان أكلها أو جحدها فهو جائز على ما شرط لانه أضاف الكفالة إلى سبب وجوب الضمان والمتعلق بالشرط عند وجود الشرط كالمنجز وكذلك لو قال أنا كفيل بما صالحته عليه من مال من القصاص الذى تملك عليه في نفس أو من مال لك عليه لانه أضاف الكفالة بالمال إلى سبب توجه المطالبة بها وكذلك لو قال ان قتلك فلان خطأ فانا ضامن لديتك فقتله فلان خطأ فهو ضامن ارشه لانه أضاف الكفالة بالارش إلى سبب موجب له وهو مما تجرى النيابة في ايفائه ولو قال ان أكلك سبع أو ذئب فأنا ضامن لديتك فهذا باطل لانه ما أضاف الضمان إلى سبب موجب له ولو قال ان غصبك انسان فأنا ضامن له فغصبه انسان شيئا فلا ضمان عليه لانه عم معناه أن المكفول عنه مجهول جهالة متفاحشة وذلك يمنع انعقاد الكفالة مضافا كان أو مجردا ولو خص انسانا أو قوما لزمه ذلك لان المكفول عنه معلوم ولو دفع ثوبا إلى قصار يقصره بأجرة وكفل به رجل ان أفسده أكان جائزا لان الاجير المشترك ضامن لما جنت يده فقد أضاف الكفالة إلى سبب موجب الضمان فصحت الكفالة لهذا ولو ادعى قبل رجل قصاصا في نفس أو دونها أو حدا في قذف وسأل القاضى أن يأخذ له كفيلا بنفسه وقال بينتي حاضرة لم يجبه القاضي إلى ذلك في قول أبى حنيفة رحمه الله وفى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يجيبه إلى ذلك لان تسليم النفس مستحق على الاصيل الطالب في هذا الموضع فتصح الكفالة به كما في دعوى المال وهذا لان تسليم النفس تجرى فيه النيابة فالكفيل انما يلتزم ما يقدر على ايفائه وأبو حنيفة رحمه الله يقول تسليم النفس هنا لمقصود لا تصح الكفالة به وهو الحد والقصاص فلا يجبر على اعطاء الكفيل بالنفس فيهما بخلاف المال وهذا لان العقوبات تدرأ بالشبهات فلا ينبغى للقاضي أن

[ 104 ] يسلك فيها طريق الاحتياط بالاجبار على اعطاء الكفيل بالنفس لان ذلك يرجع إلى الاستيثاق وهو ضد موضوع العقوبات ولكن السبيل أن يقول له الزمه ما بينك وبين قيامى فان أحضر البينة قبل أن يقوم القاضى والا خلى سبيله ولو أقام شاهدا واحدا لا يعرفه القاضى فان أقام شاهدين أو واحدا عدلا يعرفه القاضى فان القاضى يحبسه في السجن حتى يسأل الشهود لانه صار متهما بارتكاب الحرام الموجب للعقوبة حين تم أحد شطرى الشهادة والحبس مشروع في حق مثله (ألا ترى) أن الداعر يحبس ولا يكفل حتى يأتي بشاهد آخر لان الكفيل للاستيثاق بالحدود والقصاص وذلك غير مشروع فأما الحبس للتعزير فهو مشروع في حق من هو متهم بارتكاب الحرام وعلى قولهما لا يحبسه قبل تمام الحجة الموجبة للقضاء ولكنه يكفله ثلاثة أيام كما في دعوى المال ولو ادعى قبل رجل مالا بسرقة منه وقال بينتي حاضره فانه يؤخذ له منه كفيل بنفسه ثلاثة أيام لان المدعى مال والاستيثاق بالكفالة فيه مشروع فان قال قبضت منه السرقة لكنى أريد أن أقيم عليه الحد لا يؤخذ منه كفيل لان الحد يجب لله تعالى وهو ينبنى على البرء والاسقاط فلا يستوثق بأخذ الكفيل بالنفس فيه وكذلك حد الزنا فان طلب المشهود عليه من الذى شهد عليه بالزنا حد القذف فقال الشاهد عندي بذلك أربعة شهداء أجل فيه إلى قيام القاضى ليظهر عجزه بهذا الامهال عن اقامة أربعة من الشهداء فان لم يحضرهم أقام عليه حد القذف لان السبب الموجب للحد قد تقرر وهو القذف مع العجز عن اقامة أربعة من الشهداء ولم يحل عنه ولا يكفل لان ذلك يرجع إلى الاستيثاق ولكن الطالب يلزمه إلى قيام القاضى مراعاة لحقه حتى لا يهرب فان قال الشاهدان المشهود عليه عبد فالقول قوله لان ثبوت حريته بطريق الظاهر وبمثله يدفع الاستحقاق ولا يستحق الحد وان طلب المقذوف من القاضى ان يأخذ له منه كفيلا حتى يحضر البينة انه حر لم يؤخذ لان هذا استيثاق لاقامة الحد ولكن القاذف يحبس على وجه له فقد استوجب ذلك باشاعة الفاحشة حرا كان المقذوف أو عبدا ويؤجل المقذوف أياما بمنزلة ما لو أقام رجل عليه البينة بالرق فزعم ان له بينة حاضرة على الحرية وكما يؤجل هناك اياما ليتمكن من اثبات حريته بالبينة فكذلك هنا وان أقام رب السرقة شاهدين على السارق وعلى السرقة وهى بعينها في يديه لم يؤخذ منه كفيل ولكنه يحبس وتوضع السرقة على يدى عدل حتى يزكى الشهود لان في الاشتغال بأخذ الكفيل بنفسه أو بالعين المسروقة استيثاقا لاقامة الحدود

[ 105 ] ذلك غير مشروع ولكنه يحبس على وجه التعزير وتوضع السرقة على يدى عدل لان السارق غير مأمون على العين المسروقة والمدعى عليه المال إذا كان يخاف منه ان يتلف المال فللقاضي أن يضعه على يدى عدل بعد اقامة البينة حتى يزكى الشهود واخراج العين فيه نوع تعزير له وإذا ادعي عبد على حر قذفا وأراد أن يعذر له أو ادعي رجل قبل رجل مسألة فيها تعزير وقال بينتي حاضره أخذ له منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام لانه ليس بحد وانما هو تعزير وهو من حقوق العباد حتى يجوز العفو عنه وهو مما لا يندرئ بالشبهات التى هي في معني البدل بمنزلة الاموال ولو ادعت امرأة على زوجها انه قذفها والزوج حر أو عبد لم يؤخذ منه كفيل في قول أبى حنيفة رحمه الله لان اللعان في قذف الزوج زوجته بمنزلة الحد في قذف الأجنبي وقد بينا الخلاف هناك بين أبى حنيفة وصاحبيه رحمهم الله فكذلك هنا ولو ادعى الولد قبل الوالد قذفا لم يؤخذ منه كفيل ولم يترك ان يلزمه لان الابن لا يستوجب على والده شيئا من نوع العقوبة تعزيرا كان أو حدا أو قصاصا وكذلك لا يستوجب عليه الحبس في دين له واجب عليه وكذلك لا يستوجب الملازمة في دعواه قبله وكذلك لو ادعاه قبل والدته أو جده أو جدته وكذلك لو ادعى عبد ان مولاه قذف أمه وهى حرة مسلمة لان حقوق الملك في اخراج المملوك من أن يكون أهلا لاستيجاب العقوبة على مالكه بمنزلة الولادة ولو ادعى حر قبل عبد قذفا فأراد أن يأخذ منه كفيلا بنفسه أو نفس مولاه وخاف أن لا يقام عليه الحد الا بمحضر من مولاه لم يؤخذ له الكفيل من واحد منهما ولكنه يؤمر بتلازمهما إلى أن يقوم القاضى في قول أبى حنيفة رحمه الله ولو أقام البينة عليه بذلك بمحضر من مولاه فان العبد يجبس له ويؤخذ له من مولاه كفيل في قول أبى حنيفة رحمه الله وفى قول أبى يوسف رحمه الله لا يحبس العبد ولكن يؤخذ له كفيل بنفس العبد خاصة دون نفس المولي وفى قول محمد رحمه الله يؤخذ له الكفيل بنفس العبد ونفس مولاه والذى قال في الكتاب ان قول محمد رحمه الله مثل قول أبى حنيفة رحمه الله انما يريد به أخذ الكفيل من المولى فأما حبس العبد فقوله كقول أبى يوسف رحمه الله وهو بناء على مسئلتين أحداهما ما بينا من اخذ الكفيل بنفس المدعى قبله حد القذف والاخرى ما تقدم بيانه في الآبق أن حد القذف بالبينة لا يقام على العبد الا بمحضر من مولاه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وفى قول أبى يوسف رحمه الله يقام عليه وان لم يحضر المولى فقال أبو يوسف رحمه الله لا يأخذ الكفيلين بنفس

[ 106 ] المولى لانه لا حاجة إلى حضوره في اقامته الحد ويؤخذ الكفيل بنفس العبد ولا يحبس قبل اقامة البينة ولا بعدها قبل ظهور عدالة الشهود لان هذا بمنزلة المال عنده في حكم الكفالة بالنفس وقال محمد رحمه الله كذلك الا أنه قال يؤخذ الكفيل بنفس المولى لانه لابد من حضرة المولى لاقامة الحد على العبد عنده وعند أبى حنيفة رحمه الله في دعوى حد القذف لا يجبر على اعطاء الكفيل بالنفس قبل اقامة البينة ولكن يصار فيه إلى الملازمة ولابد من حضرة المولى عنده لاقامه البينة فيكون للمدعى أن يلازمهما وبعد اقامة البينة يحبس العبد تعزيرا كما يحبس الحر إذا قامت البينة عليه بالقذف ويؤخذ من مولاه كفيل لانه لابد من حضرة المولى لاقامة الحد ولا سبيل إلى حبسه لانه ما ارتكب حراما فيؤخذ منه كفيل نظرا للمدعى لانه ليس في أخذ الكفيل من المولى هنا توثق بحد عليه إذ لا حد على المولى ولو ادعى رجل على رجل حدا في قذف فأقام شاهدين على شهادة شاهدين أو شاهد وامرأتين لم يكفل ولم يحبس وكذلك هذا في القصاص لانه لا مدخل لهذا النوع من الحجة في حد أو قصاص ولو كان هذا في سرقة أخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود لان المال يثبت بهذه الحجة فان زكوا قضى عليه بالمال وكذلك كل جراحة لا قصاص فيها لا في دعوى المال وبمثل هذه الشهادة يثبت المال فإذا ادعى رجل دم عمد على ثلاثة نفر فأقر اثنان منهم بذلك وشهدا على الثالث أنه قتل معهما عمدا فانهما يحبسان فاقرارهما على أنفسهما بمباشرة السبب الموجب للعقوبة ولا يحبس الآخر بشهادتهما ولا يكفل لان شهادتهما ليست بمقبولة على الثالث فانهما فاسقان ولانهما يشهدان بفعل كان مشتركا بينه وبينهما ولا شهادة لهما في مثله فانما يبقى في حق الثالث مجرد دعوى المدعي وبه لا يثبت الحبس ولا التكفيل ولو كان أولياء الدم ثلاثة فادعى أحدهم على رجل وادعى الآخر على الشريك قتل العمد وكل واحد منهما يدعى بينة حاضرة لم يحبس أحد منهم ولكن يؤخذ من كل واحد منهم كفيل ثلاثة أيام لانه لا قصاص في هذه الدعوى وانما انهاء المال بشئ واحد منهما على من بينته عليه في دعوى المال يكفل بالنفس ثلاثة أيام ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ثم أبرأه وادعاه على آخر لم يكفل الثاني ولا تقبل بينة عليه لوجود التناقض منه في الدعوى فان أقر الثاني بذلك قضى عليه لانه مناقض صدق خصمه في ذلك الا انه لا يقضى عليه بالقصاص لان ما تقدم من الدعوى منه على غيره يمنعه من استيفاء القصاص منه فيصير ذلك شبهة في حق القصاص

[ 107 ] دون المال وهذا مشكل فان تعذر استيفاء القصاص لمعنى من جهة من له الحق وهو تناقضه في الدعوى وفى مثله لا يقضى بالدية كما لو قال قتلت وليك عمدا فقال لا بل قتلته خطأ لا يقضى بالمال وكل مالا قصاص فيه فهو بمنزلة الخطأ في حكم الكفالة حتى إذا ادعى على رجلين قطع يد عمدا أخذ له منهما الكفيل بالنفس لان هذا غير موجب للقصاص وانما الدعوى فيه دعوى المال ولو أقام شاهدين عدلين على قتل خطأ قضى له بالدية ولا حبس على القاتل في ذلك ولا كفالة لان الخاطئ معذور والخطأ موضع رحمة من الشرع علينا فالخاطئ لا يستوجب التعزير الا أن يكون داعرا فيحبس للدعارة لان في حبس الداعر تسكين الفتنة ولو أن رجلا قطع يمينى رجلين فاجتمعا وطلبا كفيلا بنفسه لا يؤخذ لهما منه كفيلا بنفسه من قبل ان كل واحد منهما يدعى القصاص (ألا ترى) أن أحدهما إذا أقام البينة قضى له بالقصاص وإذا أقاما جميعا البينة قضى لهما بالقصاص حتى إذا بادر أحدهما واستوفى كان مستوفيا لحقه الا انهما إذا استوفيا القصاص يقضى لهما حينئذ بارش اليد وقضى بنصف طرفه حقا مستحقا عليه لكل واحد منهما وإذا ثبت أن دعوى كل واحد منهما دعوى القصاص لم يؤخذ الكفيل بنفسه في قول أبى حنيفة رحمه الله ولو ادعى رجل قبل رجل قطع يد عمدا ويد القاطع شلاء فقال المدعى أنا أختار الدية فخذ لى منه كفيلا بنفسه أخذ له الكفيل لان باختياره يتعين حقه في المال وفى دعوى المال تجري الكفالة بالنفس وإذا ادعى رجل قبل رجل شتمة فاحشة وأقام عليه شاهدين بالشتمة لم يحبس المدعي عليه ولكن يؤخذ منه كفيل بنفسه حتى يسأل عن الشهود ولما بينا أن دعوى التعريز كدعوى المال وفى دعوى المال لا يحبس ما لم تظهر عدالة الشهود ثم الحبس نهاية العقوبة في هذه الدعوى (ألا ترى) أن بعد عدالة الشهود لو رأى القاضى أن يحبسه أياما عقوبة ولا يعزر بالسوط كان له ذلك فلما كان الحبس له نهاية العقوبة هنا لا يمكن اقامتها قبل ظهور العدالة بخلاف القصاص والحدود وأشار في الحدود والقصاص إلى أن على قولهما بعد اقامة البينة قبل ظهور عدالة الشهود يحبس ولا يؤخذ الكفيل ولكن يبرأ الكفيل ان كان أخذه منه (تأويله) بعد ظور العدالة فأما قبل ذلك فلا يشتغل بحبسه عندهما على ما فسره في دعوى الحد على العبد وان كان المدعى عليه الشتمة رجلا له مروءة وخطر استحسنت أن لا أحبسه ولا أعزره إذا كان ذلك أول مرة لان احضاره مجلس القاضى فيه نوع تعزير في حقه فيكتفى به في أول مرة ويؤخذ بما رواه

[ 108 ] الحسن رحمه الله عن رسول الله ﷺ تجافوا عن ذوي المروءة الا في الحد وإذا ادعى رجل قبل رجل شيئا يجب عليه فيه عقوبة فأخذ منه كفيلا بنفسه ثلاثة أيام فهرب المكفول به وقدم الطالب الكفيل إلى القاضى فانه يحبسه حتى يجى به لانه التزم تسليم نفسه فيحبس لايفاء ما التزمه ولو ادعى قبل رجل انه ضربه وخنقه وشتمه وأن له بينة حاضرة أخذت له منه كفيلا ثلاثة أيام فان أقام على ذلك شاهدين أو شاهدا وامرأتين أو شاهدين على شهادة شاهدين عزر به لان التعزير بمنزلة المال يثبت مع الشبهات وقد بينا في كتاب الحدود أنه لا يبلغ بالتعزير أربعين سوطا في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وفى قول أبى يوسف رحمه الله يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا إذا كان في أمر متفاحش وتعزير العبد في مثل ذلك تسعة وثلاثون سوطا عنده ذكر هذه الزيادة هنا لان الاربعين حد في حق العبد وقد قال ﷺ من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين ولو ادعت امرأة قبل زوجها أنه ضربها ضربا فاحشا وادعت بينة حاضرة أو ادعى رجل ذلك قبل ولده الكبير أو قبل أخيه يؤخذ منه كفيل ثلاثة أيام وكذلك الذمي يدعى الشتمة قبل المسلم أو الذمي أو العبد يدعيها قبل الحر لان الدعوى في هذا كله دعوى التعزير والكفالة فيه مشروعة وإذا مات الرجل وعليه دين ولم يترك شيئا فكفل ابنه أجنبي للغريم بما له على الميت لم تجز الكفالة في قول أبى حنيفة رحمه الله وهى جائزة في قول أبى يوسف ومحمد والشافعي رحمهما الله وإذا كان الميت ترك وفاء جازت الكفالة عندهم جميعا وان ترك شيئا ليس فيه وفاء فانه يلزم الكفيل بقدر ما ترك الميت في قوله وفى قولهما يلزمه جميع ما كفل به وحجتهم في ذلك ما روى أن النبي ﷺ أتى بجنازة رجل من الأنصار ليصلى عليه فقال ﷺ هل على صاحبكم دين فقالوا نعم درهمان أو ديناران فقال صلوات الله عليه وسلامه صلوا على صاحبكم فقال أبو قتادة هما علي يارسول الله وفى رواية قال ذلك علي كرم الله وجهه فصلى عليه رسول الله ﷺ فلو لم تصح الكفالة عن الميت المفلس لما صلي عليه رسول الله ﷺ بعد الكفالة وعن عبد الحميد بن أبى أمية عن رجل من الأنصار انه قال لاصحابه من استطاع منكم أن يموت وليس عليه دين فليفعل فانى شهدت رسول الله ﷺ وقد أتى بجنازة رجل من الأنصار فقال ﷺ هل على صاحبكم دين فقالوا نعم فقال صلوات الله عليه وسلامه وما ينفعكم صلاتي عليه وهو في قبره مرتهن بدينه ثم قال صلى

[ 109 ] الله عليه وسلم فمن ضمنه قمت فصليت عليه فهذا تنصيص على تصحيح الضمان عن الميت المفلس والمعنى فيه انه كفل بدين واجب فيصح كما في حال حياة المديون وهذا لان الدين كان واجبا عليه في حال حياته فلا يسقط الا بايفاء أو ابراء أو انفساخ سبب الوجوب وبالموت لا يتحقق شئ من ذلك (ألا ترى) انه مؤاخذ به في الآخرة مطلوب به ولو تبرع انسان بقضائه جاز التبرع الا انه تعذرت مطالبته به في الدنيا بموته وبهذا لا يخرج الحق من أن يكون مطلوبا في نفسه كما لو أفلس في حال الحياة وكالعبد إذا أقر على نفسه بدين ثم كفل عنه كفيل به صح وان كان هو لا يطالبه في حال رقه لان الحق مطلوب في نفسه وهذا لان ذمته باقية بعد الموت حكما لانها كرامة اختص بها الآدمى وبموته لا يخرج من أن يكون محترما مستحقا لكرامات بنى آدم (ألا ترى) أنه لو مات مليا بقى الدين ببقاء ذمته حكما لا للانتقال إلى المال وليس بمحل لوجوب الدين فيه وانما هو محل القضاء الواجب منه ولو كان بالدين رهن بقى الرهن على حاله وان كان مات عن افلاس بأن كان الرهن مستعارا من انسان وبقاء الرهن لا يكون الا باعتبار بقاء الدين لو قتل عمدا وهو مفلس فكفل به كفيل بالدين الذى عليه صح والقصاص الواجب ليس بمال ولو لم تكن الذمة باقية حكما لما صحت الكفالة هنا وهذا بخلاف دين الكتابة فالحق هناك غير مطلوب وكذلك الديون الواجبة لله تعالى فانها غير مطلوبة في الحكم في الدنيا والكفالة تكون بالحق فيشترط كون الحق مطلوبا في نفسه على الاطلاق وهناك الحق مطلوب في نفسه وبموته لم يتغير الحكم فبقى مطلوبا وجه قول أبى حنيفة رحمه الله أن الحق قد توى وانما تصح الكفالة بالقائم مثلا من الدين دون التاوى وبيان ذلك هو انه لا يتصور قيام الحق بدون محله ومحل الدين الذمة وقد خرجت ذمته بموته من أن يكون محلا صالحا لوجوب الحق فيها فان الذمة عبارة عن العهدة ومنه يقال أهل الذمة وأصل ذلك من الميثاق المأخوذ على الذرية المأخوذة من ظهر آدم صلوات الله عليه قال تعالى وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم الآية وتمامه بالالزام المذكور في قوله تعالى وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه وذلك باعتبار صفة الحياة قبله فأما بالموت فخرج من أن يكون أهلا لالتزام شئ من الحقوق في أحكام الدنيا فعرفنا أنه لم يبق له ذمة صالحة تكون محلا للحق ولكنه في أحكام الاخرة معد للحياة فتبقى الذمة في أحكام الآخرة ولهذا كان مؤاخذا به وهو معد للحياة في الدنيا عادة فلا تبقى الذمة في أحكام الدنيا وباعتبار المطالبة

[ 110 ] في أحكام الآخرة لا يمكن تصحيح الكفالة كما في ديون الله جلت قدرته والدليل عليه أن الذمة لم تبق محلا لوجوب الحق فيها بعد الموت وكما يشترط المحل لابتداء الالتزام فكذلك يشترط المحل لبقاء الحق ولم يبق المحل فلا يبقى في أحكام الدنيا أيضا والكفيل انما يلتزم المطالبة بما على الاصيل ولا يلتزم أصل الدين في ذمته ولم يبق في ذمة الاصيل شئ في أحكام الدنيا فلا تصح الكفالة وهذا الدين في حكم المطالبة دون دين الكتابة فالمكاتب يطالب بالمال وان كان لا يحبس فيه ثم هناك الكفالة به لا تصح فهنا أولى بخلاف المفلس في حال الحياة فان ذمته محل صالح لوجوب الحق فيها ابتداء فبقى الواجب وبخلاف العبد أيضا فان له ذمة صالحة لوجوب الحق فيها وان ضعفت ذمته بسبب الرق وبخلاف ما إذا مات مليا فالمال هناك خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو المطالبة والاستيفاء لان الاستيفاء يكون من المال بجعل الاصل قائما حكما وهنا لم يبق حلف بعد موته مفلسا وتوهم أن يتبرع انسان بماله فيقضى عنه الدين لا يجعل مال الغير خلفا عن ذمته قبل جعل صاحبه وبخلاف ما إذا كان بالدين كفيل لان ذمة الكفيل هنا خلف عن ذمته وبعد صحة الكفالة قد يتحول الدين إلى ذمة الكفيل عند الضرورة وهو عند أداء الكفيل أو الهبة وقد تحققت الضرورة هنا فلهذا بقى الكفيل في الكفالة وكذلك الرهن خلف عن الذمة فيما هو المقصود وهو استيفاء الدين منه بقدر استيفائه من محل آخر وإذا قتل عمدا فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله لا تصح الكفالة عند أبى حنيفة رحمه الله وبعد التسليم يقول القصاص الواجب بفرض أن يصير مالا بعفو بعض الشركاء أو تمكن الشبهة فتوهم توجه المطالبة في الدنيا بقضاء ذلك الدين يجعل الذمة باقية حكما فتصح الكفالة لهذا المعنى والحديث المروى في الباب يحتمل أن يكون ذلك من أبى قتادة أو علي رضى الله عنهما اقرارا بكفالة سابقة فان لفظ الاقرار والانشاء في الكفالة سواء والعموم بحكاية الحال لا يثبت ويحتمل أن يكون وعدا منهما لا كفالة وقد كان رسول الله ﷺ يمتنع من الصلاة على الميت ليظهر طريق لقضاء ما عليه فلما ظهر الطريق لوعدهما صلى عليه لهذا (ألا ترى) انه ما روى انه كان يقول لعلي رضى الله عنه بعد ذلك ما فعل الديناران حتى قال يوما قضيتهما فقال ﷺ الآن بردت عليه جلدته ولم يجبره على الاداء وبه يتبين انه كان وعدا لا كفالة والحديث الآخر شاذ ويحتمل أن النبي ﷺ عرف أن لذلك الرجل مالا ولكنه ما كان ظاهرا عند الناس فلهذا ندبهم إلى الضمان عنه ليصلي

[ 111 ] عليه ثم هذا حكم منسوخ لاجماعنا على جواز الصلاة على المديون المفلس والاستدلال بالمنسوخ لا يقوى والله أعلم بالصواب (باب كتاب القاضي في الكفالة) (قال رحمه الله) وإذا كتب القاضى إلى القاضى في كفالة بنفس رجل كفل به بأمره فأراد أن يقبل معه حتى يوافيه به فأقام على كتاب القاضى شاهدى عدل وكتب انه قد قامت عنده البينة العادلة انه كفل بنفسه بأمره فان القاضى يأمره بالخروج معه حتى يوفى مكانه ويخلصه مما أدخله فيه لان الكفالة بالنفس تثبت مع الشبهات فيثبت كتاب القاضى إلى القاضى ثم الثابت بالبينة عند القاضى المكتوب إليه كالثابت باقرار الخصم ولو أقر الخصم بذلك في الذمة بالخروج معه لانه هو الذى أوقعه في هذه الورطة حين أمر أن يكفل بنفسه فعليه أن يخلصه ههنا كما لو أمر بالكفالة بالمال كان عليه تخليصه مما يلزمه به فان كفل بالبصرة وجاء بالكتاب من قاضى البصرة إلى قاضى الكوفة بذلك فانه يؤمر أن يوافيه حتى يبرئه من ذلك لانه انما يلزمه تسليمه في الموضع الذى التزم التسليم فيه ولا يقدر على ذلك الا بموافاة الآمر معه إلى ذلك الموضع وكذلك لو كان كفل به بالكوفة على أن يوافي به بالبصرة فأخذ الطالب بالكوفة فانه يأمره القاضى أن يوافي معه بالبصرة حتى يبرئه لما قلنا ولو كفل بنفسه بالكوفة على أن يدفعه بالكوفة وأخذه الطالب بالبصرة فطلب كتاب قاضى البصرة إلى قاضى الكوفة بذلك ليأمره بأن يوافي معه البصرة لم يجبه إلى ذلك ولو كتب له يجبر قاضى الكوفة المكفول به على الذهاب معه إلى البصرة لان مطالبة الطالب بالبصرة لا تلزم الكفيل شيئا فانه ما التزم تسليمه إليه بالبصرة ولو طلب الكفيل كتاب قاضى البصرة ببينة بالكفالة بأمره فانه يكتب له بذلك حتى إذا قدم الكوفة وطالب الطالب بالتسليم فامتنع الاصيل وجحد الآمر بالكفالة كان كتاب قاضى البصرة حجة له عليه ولو كتب القاضى إلى القاضي كتابا في كفالة بنفس رجل ولم يبين في كفالته انه كفل بأمره فانه لا يؤخذ له بذلك بمنزلة ما لو أقر انه كفل بغير أمره وهذا لانه لو كفل عنه بمال بغير أمره لم يكن عليه أن يخلصه من ذلك لانه التزمه باختياره فكذلك إذا كفل بنفسه بغير أمره وإذا كان الكفلاء بالمال ثلاثة وبعضهم كفلاء عن بعض فأدى المال أحدهم والكفيلان الآخران في بلدين

[ 112 ] وصاحب الاصل في بلد آخر فأقام البينة بذلك عند القاضى وسأله أن يكتب له به فانه يكتب له بثلاثة كتب إلى كل بلد بصفة الكفالة وحالها وأداء المال لانه يحتاج إلى ذلك كله فربما يقصد أخذ الثلاثة فلابد من أن يعطيه ما يكون حجة له عليه الا أنه يكتب إلى كل قاض بما كتب به إلى القاضى الآخر على سبيل النظر فيه للخصوم لكيلا يلتبس المدعي ويأخذ مالا على حدة كل كتاب عن كل خصم ولابد من أن يسمى في كتابه الشهود وآباءهم وقبائلهم لان هذا الكتاب لنقل الشهادة فلابد من اعلام الشاهد فيه واعلامه بذكر اسمه واسم أبيه وقبيلته فان أخذ أحد الكفلاء فقال قد أخذت من الكفيل معى نصف المال أو من الاصيل المال فعليه البينة لان الاصيل لو ادعى ذلك بنفسه كان عليه أن يبينه بالبينة فكذلك إذا ادعى ذلك الكفيل وهذا لان السبب الموجب للرجوع له بنصف المال على الذى أخذه ظاهر وهو يدعي مانعا أو مسقطا فعليه اثباته بالبينة فان لم يكن له بينة حلف الذي ادعى المال وأخذ منه نصفه وإذا أدي الكفيل المال وأخذ به كتاب قاض إلى قاض فلم يجد صاحبه هناك فان القاضى الذي أتاه بالكتاب يكتب له إلى قاض آخر بما أتاه من قاضى كذا لان على المكتوب إليه أن ينظر له ويقبضه علي ما يتوصل به إلى حقه كما هو على الكتاب ولان شهوده قد ثبت في مجلس القاضى المكتوب إليه بالكتاب فهو كما لو ثبت بأدائهم الشهادة في مجلسه فعليه أن يكتب له الي قاضى البلدة التى فيها خصمه وان رجع القاضى الذى كتب له أول مرة فقال اكتب لى كتابا آخر فانى لم أجد خصمى في البلد الذى كتب إلى قاضيه لم يكتب له حتى يرد إليه كتابه الاول نظرا منه لخصمه لان من الجائز أن يقصد المدعى التلبيس ليأخذ مالا بكل كتاب وانما حقه في مال واحد وان كتب له قبل أن يرد إليه كتابه فقد أساء في ترك النظر لاى الخصمين وميله إلى أحدهما وتمكينه من التلبيس وليبين في كتابه أنه قد كتب له في هذه النسخة إلى قاضى كذا وكذا فبهذا يندفع بعض التلبيس ويحصل للقاضي الكاتب التحرز عن التمكين من الظلم وإذا كتب للقاضى بمال أداه كفيل عن كفيل فهو جائز ويؤخذ به الكفيل الاول للثاني إذا كان هو الذى أمره به ولا يؤخذ به الذى عليه الاصل ولم يأمره بالكفالة عنه وانما أمره الكفيل الاول والتخليص انما يجب علي من أوقعه بأمره اياه بالكفالة في الورطة فان كان الاصل هو الذى أمر الثاني أن يضمن من لم يأمره بشئ وأصل المال على الاصيل فلا فرق بين أن يأمره أن يكفل بذلك المال عنه وبين أن يأمره بأن يكفل به عن كفيله وإذا

[ 113 ] ادعى الكفيل المال وكتب له القاضي بذلك ولم يكتب في كتابه انه كفل بأمره فان الذى أتاه الكتاب لا يرد الكفيل بالمال لان الاصيل لو أقر بكفالته عنه وجحد أن يكون أمره بذلك لم يكن له أن يرجع عليه بشئ فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة وان جاء الكفيل بكتاب من قاض آخر انه كفل عنه بأمره فهو مستقيم ويؤخذ له بالمال بمنزلة ما لو أقر الخصم بذلك أو شهد عليه شاهدان والله تعالى أعلم بالصواب (باب الشهادة واليمين في الحوالة والكفالة) (قال رحمه الله) وإذا ادعى رجل على رجل كفالة بنفس رجل وشهد له شاهدان فاختلفا في الوقت أو في البلد الذى وقعت الكفالة فيه أو في الاجل بأن قال أحدهما إلى شهر وقال الآخر إلى شهرين أو قال أحدهما حال وقال الآخر إلى شهر فالكفالة لازمة في ذلك كله لانه قول يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به وهو أصل الكفالة باختلافهما في هذه الاشياء ولو شهدا أن هذا كفل لهذا بنفس رجل لا نعرفه ولكن نعرف وجهه ان جاء به فهو جائز لانهما يشهدان على قول الكفيل ويجعل ما ثبت من قوله بشهادتهما كالثابت باقراره فيقضى القاضى به ويأمره أن يأتي به على معرفتهما ولو قالا لا نعرف وجهه أيضا فانه يؤخذ بالكفالة بمنزلة ما لو أقر عند القاضى بأنه كفل بنفس رجل لهذا ثم يقال له أي رجل أتيت به وقلت هو هذا وحلفت عليه فأنت برئ من الكفالة وهذا لان جهالة المقر به لا تمنع صحة الاقرار فالقول في بيانه قول المقر بمنزلة ما لو أقر أنه غصب من فلان شيئا أو شهد الشهود على اقراره بذلك ولو قال أحدهما كفل بنفس فلان وقال الآخر كفل بنفس فلان الآخر لم تجز الشهادة لاختلافهما في المشهود به على وجه لا يمكن التوفيق فيه ولو ادعى رجل كفالة بنفس رجلين فأقام شاهدين فأثبتا كفالة أحدهما واختلفا في الآخر فأثبته أحدهما وشك الآخر فيه فانه يؤخذ بالكفالة التى اجتمعا عليها لان الحجة فيها قد تمت وفى الآخر لم تتم الحجة حين شك فيه أحدهما والكفالة بأحدهما تنفصل عن الكفالة بالآخر. ولو شهد رجلان على رجل انه كفل لابيهما ولرجل بنفس فلان كانت شهادتهما باطلة لانهما يشهدان بلفظ واحد وقد بطلت شهادتهما في حق أبيهما فتبطل في حق الآخر أيضا إذ المشهود به لفظ واحد ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل لفلان بنفس فلان فان لم يواف به غدا فعليه ما عليه وهو ألف درهم

[ 114 ] فهو جائز لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة أو اقرار الخصم فان اختلفا في الوقت أو المكان أو الاجل فشهادتهما جائزة إذا ادعى الطالب أقرب الاجلين فان ادعى أبعد الاجلين لم تقبل الشهادة لانه قد أكذب الذى شهد باقرارهما حين ادعى الابعد وانما أكذبه فيما شهد له به واكذاب المدعي شاهده فيما شهد له يبطل شهادته بخلاف الاول فهناك انما أكذب الشاهد بأبعد الاجلين فيما شهد عليه به وذلك لا يضره وهو بمنزلة ما لو ادعى ألفا وشهد له أحد الشاهدين بألف وخمسمائة لا تقبل ولو ادعى ألفا وخمسمائة وشهد له أحد الشاهدين بألف قبلت شهادتهما على مقدار الالف لهذا المعنى ولو اختلفا في المال فشهدا أحدهما بدراهم والآخر بدنانير لم تجز شهادتهما في شئ من ذلك إذا ادعى الطالب النصفين وقال لم يشهد لي بالنصف الآخر لانه أكذب أحدهما فيما شهد له به فتبطل شهادتهما في جميع ما شهدا به وان ادعى النصفين جميعا جازت شهادتهما في الكفالة بالنفس وبطلت في المال لانه ما أكذب واحدا منهما فيقضى بشهادتهما فيما اتفقا عليه ويتعذر القضاء فيما تفرد به كل واحد منهما فان اتفقا في المال انه ألف درهم فقال أحدهما قرض وقال الآخر ثمن مبيع وقال لم تشهد لى على القرض فقد أكذب الشاهد بالقرض فلا تجوز شهادته له في شئ من ذلك وان ادعى الطالب ألفين ألف قرض وألف ثمن مبيع فهو ما أكذب واحدا منهما فتجوز شهادتهما له في الكفالة بالنفس وفى ألف درهم لا يقبلها على وجوب الالف واختلافهما في الجهة لا يمنع القضاء بالمال لانهما اختلفا ولم يختلفا بقلة ولان الجهة غير مطلوبة بعينها وانما المقصود المال بخلاف الاول فقد اختلفا هنا في جنس المال الذى هو مقصود وان كان الشاهدان كفيلين بالمال عن صاحب الاصل لم تجز شهادتهما لانهما يجران بها إلى أنفسهما مغنما فان الطالب إذا أخذ المال من المشهود عليه استفاد البراءة به وكذلك لا تجوز شهادة ولدهما ووالدهما لانه ينفعهما بشهادته وكذلك لا تجوز شهادة ابن الاصيل على الكفيل بذلك لانه ينفع أباه فان الطالب إذا استوفى المال من الكفيل برئ الاصيل وكذلك تجوز شهادة ابن الكفيل إذا أقر به الكفيل وأنكره الاصيل لانه شهد لابيه في ثبوت حق الرجوع على الاصيل عند الاداء وان جحد الكفيل وأقر به الاصيل جازت شهادة ابن الكفيل لانه يشهد على أبيه للطالب بالزام المال وإذا ادعى رجل علي رجل انه كفل له بنفس رجل وبألف درهم له عليه ان لم يواف به غدا وشهد له بذلك شاهدان وشهدا أن المكفول به أمر الكفيل بذلك والكفيل والمكفول به ينكران

[ 115 ] المال والامر فقضى القاضى بتلك الشهادة على الكفيل ولم يواف به فأخذ المال وأداه رجع به على المكفول به عندنا وقال زفر رحمه الله لا يرجع لانه أقر عند القاضى أنه أمره بالكفالة عنه بشئ واقراره حجة عليه ولانه بزعمه مظلوم فيما أخذ منه المال وليس للمظلوم أن يظلم غيره ولكنا نقول القاضي أكذبه في اقراره وزعمه حين ألزمه المال بشهادة الشهود والمقر متى صار مكذبا في اقراره حكما سقط اعتبار اقراره كالمشتري إذا كان أقر بالملك لبائعه فاستحق المبيع من يده بالبينة رجع على بائعه بالثمن ولم يعتبر اقراره بذلك ولو أقر الكفيل بالكفالة بالنفس والمال وقال لم يأمرنى بذلك فقضى عليه القاضى بذلك ثم جاء الكفيل بالبينة أن المكفول عنه أمره بالكفالة لم تقبل بينته على ذلك لانه مناقض في دعواه حين أقر انه لم يأمره بذلك والمناقض لا يقبل بينة على خصمه ولان القاضى انما قضى عليه بالكفالة بالمال باقراره على نفسه بذلك واقراره ليس بحجة على الاصيل بخلاف الاول فالقضاء هناك كان بحجة البينة وقد قامت على الكفيل والاصيل جميعا وإذا كفل بنفسه بامره فان لم يواف به غدا فعليه المال ولو ادعى الكفيل انه وافى به لم يصدق الا ببينة لانه ادعى مانعا أو مسقطا بعد ما ظهر سبب وجوب المال عليه وهو الكفالة فان أقام البينة على ذلك برئ من الكفالة بالنفس والمال جميعا لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ويستوى ان شهدا على الموافاة أو على اقرار الطالب بذلك فان اختلفا في مكان اقراره أو وقته جازت الشهادة لان الاقرار قول يكرر وان شهد أحدهما انه دفعه إليه غدوة بمحضر منه بغير اقراره وشهد الآخر انه دفعه إليه عشية بمحضر منه بغير اقرار والمدعي يدعي أحدهما أو كلاهما وقال دفعته إليه غدوة أو عشية لم تجز شهادتهما لاختلافهما في المشهود به فان الفعل الموجود في مكان أو زمان غير الفعل الموجود في مكان أو زمان آخر ولو أقر الكفيل انه لم يدفع الرجل إليه وأن المال قد لزمه والشهود شهدوا بباطل وقد اتفقت شهادتهما فالمال لازم للكفيل لاكذابه الشاهدين فيما شهدا به له ولا يرجع به إذا أداه على المكفول عنه لانه قد أقر به فلزمه ذلك باقراره بعد ما ظهرت حجة براءته واقراره ليس بحجة على الاصيل وإذا كفل رجل بنفس رجل فان لم يواف به غدا فعليه المال فشهد عليه شاهد بذلك معاينة وآخر باقراره والكفيل يجحد ذلك لزمه ذلك لان الكفالة قول وصيغة الاقرار والانشاء فيه واحدة وفى مثله اختلاف الشاهدين في الاقرار والانشاء لا يضر كالبيع وان شهدا على رجل أنه كفل لرجل بألف درهم عن

[ 116 ] فلان واختلفا في اللفظ فقال أحدهما كفل بها وقال الآخر ضمنها أو قال أحدهما هي لى وقال الآخر هي علي فالشهادة جائزة لاتفاقهما فيما هو المقصود وهو الكفالة والالفاظ قوالب المعاني فعند اتفاقهما على العقد المشهود به لا يضرهما اختلاف العبارة كما لو شهد أحدهما بالهبة والآخر بالنحلة وان قال أحدهما احتال بها عليه وقال الآخر ضمنها له على أن ابرأ الاول أو لم يذكر البراءة وادعى الطالب الضمان أو الحوالة والبراءة فانه يأخذ المحتال عليه بالمال لاتفاق الشاهدين على الحوالة وان اختلفا في العبارة أو لاتفاقهما على التزام المشهود عليه للمال كما إذا شهد أحدهما بالضمان ولم يذكر البراءة وهذا لان في الحوالة ضمانا وزيادة فيقضى بما اتفقا عليه والاصيل برئ باقرار الطالب لا بشهادة أحد الشاهدين بالحوالة ولو ادعى الطالب الضمان بغير براءة وقال لم أحل عليه فانه يأخذ أيهما شاء بالمال لاتفاق الشاهدين على مقدار الالتزام بالضمان والطالب ما أكذب الذى شهد له بالحوالة في شهادته له وانما أكذبه في شهادته عليه وهو براءة الاصيل وذلك لا يمنع قبول الشهادة كما لو شهدا له بالمال وشهد أحدهما أنه استوفاه أو أنه ابرأ المطلوب منه قال (ألا ترى) انه لو شهد شاهدان انه كفل له بالمال على أن ابرأ الاول والطالب يقول لم ابرئ الاول والكفيل يجحد الكفالة قضيت للطالب بالكفالة وابرأت الاصيل إذا كان هو يدعي شهادتهما على البراءة وبهذا يتبين أنهما في الشهادة على البراءة يشهدان على الطالب لا له وكذلك لو شهدا بالحوالة وقال الطالب انما كفل لى فهو ما أكذبهما فيما شهدا له من ضمان المال. ولو شهد رجلان على رجل أنه كفل بألف درهم لرجل فقال أحدهما إلى سنة وقال الآخر حالة وادعى الطالب حالة وجحد الكفيل أو أقر وادعى الاجل فالمال عليه في الوجهين من قبل أن الطالب لم يكذب شاهده فيما شهد له به وانما أكذبه فيما شهد به عليه والشاهد بالاجل للكفيل واحد وقد بينا فيما سبق أن زفر رحمه الله يخالفنا في جميع هذه الفصول وانه لا يفصل بين الاكذاب فيما شهد به له أو عليه ولو ادعى رجل قبل رجلين كفالة بألف درهم وكل واحد منهما كفيل ضامن بها وشهد له شاهدان فشهد أحدهما بذلك عليهما وشهد الآخر على أحدهما فان الطالب يأخذ الذي اجتمعا عليه بالالف لان كل واحد منهما بحكم هذه الكفالة مطالب بجميع المال وقد تمت الحجة على أحدهما ولو شهد شاهد عليهما وشهد آخر على أحدهما وشهد الآخر على الآخر كان للطالب أن يأخذهما جميعا بالمال لان الحجة قد تمت في حق كل واحد منهما في حق أحدهما لشهادة الاولين

[ 117 ] وفى حق الآخر بشهادة الآخر أخذ الاولين مع الثالث وان شهد اثنان على أحدهما انه كفل له هو وفلان عن فلان بألف درهم على أن يأخذ أيهما شاء وشهد له الآخر ان على كفيل الآخر بمثل ذلك كان له أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال لان الحجة قد تمت في حق كل واحد منهما بالتزامه جميع المال ولو شهد له شاهدان بالمال حالا على الاول وشهد له آخران على الآخر بالمال إلى أجل على مثل شهادة الاول كان جائزا وأخذ الطالب صاحب الاجل بالمال إلى أجله والآخر بالمال حالا اعتبارا للثابت بالبينة بالثابت بالمعاينة وكذلك ان اختلف الفريقان في مبلغ المال أخذ الطالب أيهما شاء بما شهد به الشاهدان عليه اعتبارا بما لو أقر كل واحد منهما بذلك القدر وإذا ادعى رجل كفالة ألف درهم له على رجل قد سماه فشهد شاهدان انه كفل له بألف درهم عن رجل وقالا رأيناه ولم نعرفه أو لم نره ولكن الكفيل أشهدنا على ذلك فالمال لازم للكفيل لانهما يشهدان على قوله فهو بمنزلة شهادتهما على اقراره والمشهود له معلوم إذا أدى الكفيل المال لم يرجع على المكفول عنه الا أن يشهد له شاهدان انه أمره بذلك وان أراد الطالب أن يأخذ الاصيل دون الكفيل لم يكن له ذلك إذا جحد لان البينة الاولى ليست بحجة على الاصيل حين لم يعرفه الشهود أو لم يروه وإذا ادعى الرجل على الرجل ألف درهم أحال بها فلان الغائب وأقام البينة فأدى إليه المحتال عليه رجع بها على المحيل ولم يكلف اعادة البينة عليه لان المحتال عليه التزم بالحوالة بالمال الذى هو على الاصيل وانما يتحول إلى ذمته ما كان في ذمة الاصيل على أن يكون هو خلفا عن الاصيل ولهذا لو مات مفلسا عاد المال إلى الاصيل فانتصب هو خصما عنه ومن ضرورة القضاء عليه بالحوالة بالامر القضاء بالمال على المحتال عليه ولو كان الطالب غائبا فأقام المحتال عليه البينة على الاصيل أنه كان لفلان عليك ألف درهم وأحلته بها علي وأديتها إليه قضيت بها له عليه وهو قضاء على الطالب بالاستيفاء لانه ادعى لنفسه المال على الاصيل ولا يتوصل إلى ذلك الا باثبات الاداء إلى لطالب ولا يتوصل الاصيل إلى دفع ذلك عن نفسه الا بانكار قبض الطالب بالاستيفاء فلا يلتفت إلى جحوده بعد ذلك إذا حضر والكفالة في هذا قياس الحوالة ولو ادعى رجل على رجل كفالة بنفس أو مال أو حوالة ولا بينة له استحلف المدعى عليه فان نكل عن اليمين لزمه ذلك وان حلف برئ ورجع المدعى على صاحب الاصيل بالمال وهذا ظاهر في الكفالة فان الكفالة لا توجب سقوط مطالبة الطالب عن الاصيل وكذلك في الحوالة لان

[ 118 ] الاصيل انما يبرأ إذا ثبتت الحوالة ولم تثبت حين حلف المحتال عليه ولانه حين جحد وحلف قد تحقق التوى وذلك يوجب عود المال إلى الاصيل كما لو مات المحتال عليه مفلسا فان نكل عن اليمين وأدى المال رجع على الاصيل ان كان مقرا أو قامت بينة عليه بالامر وجحود المحتال عليه لا يبطل تلك الحوالة لانه صار مكذبا في ذلك حين قضى القاضى به عليه ولم يجعل نكوله هنا بمنزلة اقراره بل جعله بمنزلة البينة لانه مضطر إلى هذا النكول وانما لحقته هذه الضرورة في عمل باشره لغيره فهو نظير الوكيل بالبيع إذا نكل عن اليمين في دعوى العيب فرد عليه كان ذلك ردا على الموكل ولو كان قضى بالمال على الكفيل أو المحتال عليه ببينة قامت عليه بذلك وان فلانا أمره به فأدى المال وصاحب الاصل جاحد للامر فانه يرجع عليه بالمال لانه صار مكذبا شرعا بالبينة التى قامت عليه بذلك ولو كان قضى عليه بالمال بنكوله عن اليمين وأداه فله أن يستحلف الاصيل بالله ما أمره بذلك لما بينا انه مضطر إلى النكول الا أن نكوله ليس بحجة على الاصيل في الامر فيحلفه على ذلك ولو ادعى قبل رجل كفالة بنفس أو مال فقال الكفيل لم أكفل له بشئ وقد أبرأني من هذه الدعوى فاستحلفه ما أبراني وقال الطالب بل استحلفه ما كفل به لي فانى استحلفه بالله ماله قبله ذلك لان القاضى انما يشتغل بالاستحلاف على ما هو المقصود وهو قيام الكفالة بينهما في الحال فيحلف على ذلك فان حلف برئ وان نكل لزمته الكفالة ولم يستحلف الطالب بالله ما أبرأه لان الكفيل يدعى عليه البراءة فيحلف على ذلك لحقه فان نكل عن اليمين برئ الكفيل من كفالته كما لو أقر ببراءته وان ادعى الكفيل بالنفس انه دفعه إلى وكيل الطالب حلف الطالب على علمه لانه استحلاف على فعل الغير بخلاف ما إذا ادعى الدفع إليه فانه استحلاف على فعل نفسه فيكون على البتات ولو ادعى رجل قبل رجل كفالة فقال أخذك غلامي حتى كفلت لي بفلان وجحد الكفيل ذلك فانه يحلف على ذلك لانه لو أقر به لزمه تسليم النفس إليه وان كانت الكفالة له بحضرة غلامه دونه فان أنكر يستحلف عليه لرجاء النكول وإذا طلب مدعي الكفالة بنفس أو مال ان يحلف الكفيل بالله ما كفل لم يحلف كذلك ولكنه يحلف بالله ماله قبلك هذه الكفالة لان الانسان قد يكفل لغيره ثم يبرأ من كفالته بسبب فلو حلفه القاضى ما كفل يضر به لانه لا يمكنه أن يحلف وان كان هو محقا في انكاره الكفالة في الحال والقاضى مأمور بالنظر للخصمين فلهذا يحلفه بالله ماله قبلك هذه الكفالة وكذلك هذا في كل دين ومال وديعة وعارية وشراء واجارة

[ 119 ] فانه لا يحلف ما اشتريت ولا استودعك ولا أعارك ولا استأجرت منه ولكن يحلف بالله ماله قبلك ما ادعى به وعن أبى يوسف رحمه الله أنه قال هذا إذا عرض المدعي عليه فقال أيها القاضى قد يكفل الانسان ثم يبرأ منه فلا يلزمه شئ فأما إذا لم يشتغل بهذا التعريض فانه يحلف بالله ما كفلت لانه انما يستحلف على جحوده وقد جحد الكفالة أصلا فيحلف على ذلك فإذا عرض فقد طلب من القاضى أن ينظر له فعلى القاضى اجابته إلى ذلك وان لم يعرض فهو الذى لم ينظر لنفسه فلا ينظر القاضي له ولكنه يحلفه على جحوده وفي ظاهر الرواية قال هذا التعريض لا يهتدى إليه كل خصم وعلى القاضى أن يصون قضاء نفسه عن الجور ونفسه عن الظلم فيحلفه على ما بينا عرض الخصم أو لم يعرض ولو قال الكفيل للقاضى حلف الطالب ان له قبلى هذه الكفالة فانى أرد عليه اليمين فانه لم يرد عليه اليمين لان الشرع جعل اليمين على المنكر فإذا رددت اليمين على المدعى فقد خالفت الاثر وقد بينا هذا في الدعوى ولو جاء الطالب بشاهديه على قوله فقال المطلوب استحلفه بالله لقد شهدت شهوده على حق لم أستحلفه على ذلك لان رسول الله ﷺ جعل البينة على المدعي فإذا جعلت عليه مع البينة يمينا فقد جعلت ما لم يجعله رسول الله ﷺ وذلك ممتنع والله أعلم بالصواب (باب كفالة الرجلين على شرط لزوم المال بترك الموافاة) (قال رحمه الله) وإذا كفل رجل لرجلين بنفس رجل فان لم يواف به ادى ما ادعيا به عليه فعليه مالهما عليه وسمى لكل انسان منهما الذى له عليه وهو مختلف فهو جائز لانه نجز الكفالة بالنفس لكل واحد منهما وعلق الكفالة بالمال بشرط عدم الموافاة إذا دعياه وذلك صحيح في حق كل واحد منهما عند الانفراد في حقهما فان دعاه أحدهما ولم يواف به لزمه ماله عليه لوجود الشرط في حقه ولم يلزمه مال الآخر حتى يدعوه به وبهذا يتبين أن هذا في المعنى ليس بتعليق للكفالة بالمال بالشرط ولكنه بمنزلة الكفيل بالمال بشرط ابرائه من مال كل واحد منهما بموافاته به إذا دعياه لانه لو كان هذا تعليقا بالشرط لم يجب شئ من المال بوجود بعض الشرط وإذا دعاه أحدهما فلم يوافه به فالموجود بعض الشرط وقال يلزمه المال عرفنا انه يلزمه لان الموافاة كانت مبرئة له ولم توجد ولو بدأ بالمال فضمنه لكل واحد منهما وقال ان وافيتكما بنفسه إذا دعوتماني به فأنا برئ من المال فهو مثل الاول وتقديم

[ 120 ] المال في هذا وتأخيره سواء لانه وان أخر الكفالة بالمال في لفظه فهو في المعنى مقدم وانما هو شرط البراءة عند الموافاة بنفسه إذا دعياه به ولكل واحد منهما أن يأخذ بكفالته دون الآخر لانه في المعنى كفيل لكل واحد منهما على حدته ويلزمه ذلك دون الآخر وان جمع بينهما في العقد لفظا بمنزلة ما لو أقر لهما بمال فلكل واحد منهما أن يأخذ حصته دون الآخر ولو كان الطالب رجلين متفاوضين لهما على رجل ألف درهم فكفل لهما رجل بنفس المطلوب فان وافاهما به غدا فهو برئ من المال فوافى به أحدهما ودفعه إليه فهو برئ من كفالته بالنفس والمال لهما جميعا لان المتفاوضين كشخص واحد ما بقيت المفاوضة بينهما وكل واحد منهما قائم مقام صاحبه في استيفاء ما وجب لصاحبه كما هو قائم مقام صاحبه في كونه مطالبا بما على صاحبه ولو كانا شريكين شركة عنان برئ من حصة الذى وافاه به ولم يبرأ من الكفالة للآخر لانه فيما هو واجب لصاحبه بمنزلة الأجنبي في الاستيفاء حتى لا يكون له أن يطالب الغريم به فكذلك لا يبرأ عن كفالة صاحبه بموافاته به ولو كفل رجلان بنفس رجل على أن يوافيا به غدا فان لم يفعلا فالمال عليهما فوافى به أحدهما عنه وعن صاحبه ولم يحضر الآخر فهما بريئان لانهما التزما التسليم بعقد واحد ولو التزما مالا فأداه أحدهما برئا منه جميعا فكذلك الكفالة بالنفس ولو مات أحدهما ثم مضى الاجل ولم يوافيا به لزم الحي منهما نصف المال وفى تركة الميت نصف المال لوجود الشرط وهو عدم الموافاة به ولو كان وافى به بعض ورثة الميت قبل الاجل برئا جميعا لان الوارث قائم مقام المورث في التسليم ولو كان كفل به كل واحد منهما على حدة فاشترط الطالب على كل واحد منهما انه ان لم يواف به إلى وقت كذا فعليه المال فوافى به أحدهما فدفعه فانه يبرأ من كفالته ولا يبرأ الاخر لان الكفالة هنا مختلفة وكل واحد منهما أجنبي عن عقد صاحبه الا أن يقول الذى جاء به دفعته عن نفسي وعن صاحبي ويقبله الطالب على ذلك بمنزلة ما لو جاء به أجنبي آخر فدفعه عنهما جميعا وقبله الطالب ولو دفع المكفول به نفسه إلى الطالب عنهما جميعا كانا بريئين سواء قبله الطالب أو لم يقبله بمنزلة ما لو دفعاه إليه لانه أصيل في هذا التسليم غير متبرع به بخلاف الاجنبي والله أعلم بالصواب (باب الكفالة بالاعيان) (قال رحمه الله) وإذا ادعى عبدا في يدى رجل فلم يقدمه إلى القاضى وأخذ منه كفيلا بنفسه

[ 121 ] وبالعبد فمات العبد في يدى المطلوب وأقام المدعى البينة أن العبد عنده فان القاضى يقضى له بقيمة العبد على المطلوب وان شاء على الكفيل لانه ثبت بالبينة أن العبد كان مغصوبا والكفالة بالعين المغصوبة توجب على الكفيل رد القيمة عند تعذر رد العين كما أنها واجبة على الاصيل وان لم يقم البينة ولكن المطلوب نكل عن اليمين فقضى عليه القاضي بالعبد فمات العبد قبل أن يقبضه فانه يقضى له بقيمته على الاصيل دون الكفيل لان نكوله كاقراره أو كبدله فلا يكون حجة على الكفيل الا أن يقر الكفيل بمثل ذلك أو يأبى اليمين فيلزمه مثل ما يلزم المطلوب ولو غصب رجل عبدا فضمنه رجل لصاحبه فهو ضامن له حتى يأتي به فان هلك فعليه قيمته لانه التزم المطالبة بما على الاصيل والقول قول الكفيل في قيمته لانكاره الزيادة كالاصيل فان أقر الغاصب بأكثر من ذلك لزمه الفضل باقراره ولا يصدق على الكفيل ولو اشترى رجل جارية من رجل فقبضها وجاء آخر فادعاها وأخذ بها كفيلا وأقام البينة أنها جاريته فقضي له بها فقال المطلوب قد ماتت أو أبقت وقال الطالب كذبت فانى أحبس الكفيل حتى يأتي بها كما أحبس فلانا الاصل حتى يثبت اباقها فان طال ذلك يعنى مدة الحبس ضمنهما قيمتها مراعاة لحق الطالب إذا طلب وان قال هي بمائة درهم وحلفا عليها وقال الطالب ألف درهم ضمنهما مائة درهم لان الزيادة انتفت أن تكون قيمتها ما لم يقم البينة بها ويأخذ بها أيا شاء فإذا ظهرت الجارية بعد ذلك فهو بالخيار ان شاء أخذ الجارية ورد القيمة وان شاء سلم الجارية وسلمت المائة له وقد بينا هذا في كتاب الغصب قال ولا يسع الغاصب أن يطأها ما كان للمغصوب منه فيها خيار لان المغصوب منه يملك الجارية من الغاصب بالقيمة فيكون بمنزلة تمليكها بالبيع وما بقى له الخيار يعنى للبائع فليس للمشترى أن يطأها فهذا مثله ولو كانوا تصادقوا على القيمة أو قامت لهما بينة أن نكلا عن اليمين فأخذها المغصوب منه ثم ظهرت الجارية لم يكن للمغصوب منه عليها سبيل لان قبضه القيمة رضا منه بخروجها عن ملكه فان البدل والمبدل لا يجتمعان في ملك وكان للغاصب أن يطأها بعد أن يستبرئها بحيضة لتمام التملك فيها وإذا كان عبد في يدى رجل فادعاه رجل وأخذ منه كفيلا به ووكل في خصومته ولم يغب المطلوب وغيب العبد فان الكفيل يحبس حتى يجئ به بعينه لانه التزم بالكفالة احضاره وكذلك لو ظهر المطلوب وغيب العبد حبس حتي يأتي به لانه في تغييبه قاصدا الاضرار بالمدعى فانه لا يتمكن من اقامة البينة على استحقاق العين الا بمحضر منه فان قال

[ 122 ] المدعى أنا آتى بالبينة انه عبدى قبل ذلك منه ليستحق به العين ان قدر عليه والقيمة ان لم يقدر على العبد فان شهد شاهداه أنه العبد الذى ضمن هذا به وسمياه وجلياه عند فلان قضيت له بالعبد على الكفيل فان أتى به والا قضيت له بقيمته بعد أن يحلف المدعى بالله ما خرج من ملكه بوجه من الوجوه قيل انما يحلف على هذا عند طلب الكفيل وقيل بل يحلف عليه وان لم يطلب الكفيل على وجه النظر من القاضى للغائب والصيانة لقضائه وان شهد شاهداه أن العبد الذى يقال له فلان الفلاني وجلياه لفلان لم أقبل ذلك لان الاسم يوافق الجلية فلا يثبت بهذه البينة انه ضامن للعبد المشهود به انه ملك للمدعى ولكن الكفيل يحبس حتى يأتي به لانه التزم احضاره بالكفالة قبل هذه البينة فان مات الكفيل أخذ به المدعى عليه ان ظهر العبد حتى يأتي به بعد أن يوافق جلية العبد الذى ظهر بشهادة الشهود ليتكمن المدعى من اثبات ملكه بالبينة فان لم يأت المولى بالعبد جليت عنه لان المولى ما ضمن شيئا ولم يثبت عليه شئ بالبينة التي قامت على الاسم والجلية وليس المولى في هذا كالكفيل لان الكفيل التزم الاحضار بكفالته فلابد من أن يأتي به والمولى لم يضمن شيئا فلا يحبسه القاضى ولا يلزمه شيئا من غير حجة وإذا كان العبد في يد رجل فادعاه آخر وكفل به رجلان فأقام المدعى البينة أنه عبده حبس الكفيلان حتى يدفعاه إليه وان لم يكن له بينة أخذ الكفيلان باحضار ما التزما احضاره بالكفالة فان قالا قد مات العبد أو أبق وأقاما على ذلك بينة فانى أخرجهما من السجن لانهما حبسا لاحضاره وقد ثبت بهذه البينة عجزهما عن احضاره ولكن لا أبرئهما من الكفالة لان بتلك الكفالة هما ضامنان للقيمة إذا ثبت ملك الطالب في العبد بالحجة وادعى الطالب بشهوده أن العبد عبده فان أقام على ذلك بينة أخذ كل واحد من الكفيلين بنصف القيمة وان لم يكن له بينة فلا ضمان على الكفيلين لان الحق لم يثبت على الكفيل ويؤجل الكفيلان في الاباق أجلا حتى يأتيا به وقد بينا هذا الحكم في الكفالة بالنفس إذا غاب الاصيل عن البلدة وإذا ادعى الرجل في يدى الرجل أرضا أو حماما أو بستانا وقال بينتي حاضرة أخذ له منه كفيل بالمدعى به لان العقار لا يغيب ولا يحرك ولا يحول ولانه لا حاجة إلى احضاره مجلس الحكم لتقع الاشارة إليه في الدعوى والشهادة ولو استودع رجل رجلا عبدا فجحده ذلك وأخذ منه كفيلا بنفسه وبالعبد فمات العبد وأقام رب العبد البينة أنه استودعه وقال لا يدرى ما كانت قيمته يوم كفل به الكفيل فالمستودع ضامن لقيمته يوم استودعه على ما شهدت

[ 123 ] الشهود لانه ثبت وصوله إلى يده وعلى هذه القيمة والجحود موجب عليه ضمان تلك القيمة باعتبار تلك اليد ولا يضمن الكفيل من قيمته الا ما يقر به بعد أن يحلف لان الكفيل انما يضمن بعقد الكفالة لاعتبار يد المستودع ولم يثبت بالبينة مقدار قيمته عند الكفالة ولكن ما عرف ثبوته فالاصل بقاؤه وهذا نوع من الظاهر يصلح حجة لدفع الاستحقاق لا لاثبات الاستحقاق فلهذا لا يضمن الكفيل من قيمته الا ما يقر به بعد أن يحلف ولو كان العبد يوم اختصموا فيه أعمى وجحده المستودع فشهد الشهود انه استودعه وهو صحيح يساوى ألفا فكفل به الكفيل وهو أعمى فرفعوه إلى القاضى وهو كذلك ثم مات في يد المستودع وزكى شهوده فالمستودع ضامن قيمته أعمى على الحال الذى جحد فيها وكذلك الكفيل لان المستودع انما يصير ضامنا عند الجحود وقد علم القاضى تغيره عن المقيمة؟ التى شهدت بها الشهود فلا تعتبر تلك القيمة في القضاء عليه بخلاف الاول (ألا ترى) انه لو علم هلاكه قبل الجحود لم يضمنه شيئا ولو لم يعلم بذلك ضمنه قيمته فكذلك إذا علم فوات جزء منه وكذلك لو لم يعم ولكن السوق اتضعت وجحده يوم جحده وهو يساوى خمسمائة وعلم ذلك القاضي لم يضمنه الا قيمته خمسمائة ولو لم يعلم ذلك ضمن المستودع ألف درهم كما شهد به الشهود ولم يقبل منه بينة على اتضاع السوق لان المقصود بهذه البينة النفى والبينات للاثبات لا للنفي (ألا ترى) انه بعد ما جحد لو قال قد مات العبد لم ألتفت إلى قوله ولم أقبل منه بينة عليه لان المقصود بهذه البينة نفى الضمان عنه الا أن يعلم القاضي انه مات قبل جحوده أو يقر الخصم به ولو استعار دابة من رجل إلى مكان معلوم فجاوز ذلك المكان ضمنها ولو أعطاه كفيلا بها جاز لانه صار غاصبا ضامنا بالمجاوزة وكذلك المستودع إذا جار في بعض الوديعة جازت الكفالة بقدر ما جار فيها لانها أمانة في يد المودع ولو اشترى عبدا من رجل ونقده الثمن وأخذ منه كفيلا بالعبد حتى يدفعه إليه فمات العبد لم يكن على الكفيل شئ لان العقد قد انفسخ بموته قبل القبض وبرئ الاصيل عن تسليم عينه فكذلك الكفيل والكفيل ما ضمن الثمن فلا يطالب بشئ منه وكذلك لو كان ضمن الدرك في العبد لان الهلاك قبل التسليم ليس يدرك وانما الدرك للاستحقاق ولو قبضه ثم وجد به عيبا فرده لم يكن على الكفيل شئ لان العيب ليس يدرك ولو لم يجد به عيبا ولكن استحق بصفة فرد المشترى النصف الباقي لم يضمن الكفيل الا ثمن النصف المستحق لان الدرك تحقق في ذلك النصف الآخر فانما رده المشترى

[ 124 ] بعيب التبعيض وذلك ليس بدرك وإذا كفل رجل بالرهن وفيه فضل على الدين فهلك عند المرتهن لم يكن على الكفيل شئ لان عين الرهن أمانة في يد المرتهن والزيادة على مقدار الدين من مالية الرهن أمانة فلا يضمن الكفيل شيئا من ذلك بالكفالة ولو كان ضمن لصاحب الدين ما نقص الرهن من دينه وكان الرهن قيمته تسعمائة والدين ألفا ضمن الكفيل مائة درهم لانه التزم بالكفالة دينا مضمونا في ذمة الاصيل ولو أن جارية بين رجلين أخذها أحدهما بغير أمر صاحبه فكفل رجل لصاحبه بنصيبه منها جاز لان الآخذ غاصب ضامن لنصيب شريكه ولو كان أخذها برضاه لم يجز لان نصيبه أمانة في يد القابض ولو استعار الرهن من المرتهن على ان أعطاه كفيلا به فهلك عند الراهن كان خارجا من الرهن لان ضمان الاستيفاء باعتبار يد المرتهن ولم يبق بعد ما استعاره الراهن ولم يلزم الكفيل شئ لانه لا ضمان للمرتهن على الاصيل بسبب هذا القبض فلا يضمن الكفيل أيضا شيئا ولو كان أخذه بغير رضا المرتهن جاز ضمان الكفيل وأخذ به لان الراهن ضامن مالية العين هنا (ألا ترى) انه لو هلك في يده يضمن قيمته للمرتهن فيكون هذا بمنزلة الكفالة بالمغصوب ولو استقرض من رجل مالا على أن يعطيه فلانا عنده رهنا وكفل له بذلك الرهن كفيل فلا ضمان على الكفيل لان الرهن لا يكون الا بالقبض فقبل القبض ليس هنا شئ مضمون على الاصيل لتصح الكفالة به ولو أجر عبدا أو دابة وعجل الاجر ولم يقبض العبد ولا الدابة وكفل له كفيل بذلك حتى يدفعه إليه فالكفيل يؤخذ به ما دام حيا لان التسليم مستحق على الاصيل وهو مما تجرى فيه النيابة فتصح الكفالة به فان هلك ما استأجره لم يكن على الكفيل شئ لان الاجارة انفسخت وخرج الاصيل من أن يكون مطالبا بتسليم العين وانما عليه رد الاجر والكفيل ما كفل بالاجر ولو أوصى لرجل بأمة وهى حبلى ولآخر بما في بطنها وهى تخرج من الثلث فأخذ صاحب الحبل من صاحب الامة كفيلا بما في بطنها لم يجز لان ما في البطن غير مضمون على صاحب الامة وكذلك لو دفع الامة إلى صاحب الولد تكون عنده على أن أعطاه بها كفيلا لم تجز لانه أمين فيها حين قبضها باذن صاحبها ولو أخذها بغير أمره وأعطاه بها كفيلا جاز لانه غاصب لها ضامن ولو أخذ صاحب الامة الامة بغير رضا صاحب الولد وأعطاه كفيلا بالولد لم يجز لانه بأخذ الام لا يصير غاصبا ضامنا لما في بطنها ولو أوصى لرجل بخادم ولآخر بخدمتها فانها تكون عند صاحب الخدمة فان أخذ منه صاحب الرقبة كفيلا بها

[ 125 ] وقد أخذها صاحب الخدمة باذنه لم يكن على الكفيل شئ لانه أخذها بحق مستحق له تبرعا فلا يكون ذلك الاخذ موجبا عليه ضمانا فلا يلزم الكفيل ذلك بالكفالة ولو أخذها صاحب الرقبة بغير اذن صاحب الخدمة ثم أعطاه كفيلا بها حتى يسلمها إليه أخذ بها الكفيل لان تسليم العين إلى صاحب الخدمة مستحق على صاحب الرقبة هنا وهو مما تجري فيه النيابة فيصح التزامه بالكفالة فان ماتت برئ الكفيل لان حق صاحب الخدمة بطل بموتها وسقطت المطالبة عن صاحب الرقبة بالتسليم وكذلك لو كانت الوصية بالغلة مكان الخدمة ولو أن رجلا باع من رجل عينا فادعى رجل فيه دعوى فأراد المشترى أن يأخذ من البائع كفيلا بنفسه أو بما أدركه في ذلك لم يكن له ذلك لان بمجرد الدعوى على المشترى لا يستحق المدعى على البائع شيئا فلا يجبر على اعطاء الكفيل ولكنه لو أعطاه كفيلا بما أدركه في ذلك جاز بمنزلة ما لو أعطاه ذلك عند الشراء أو بعده قبل دعوى المدعى ولو ادعى ذمى قبل ذمى خمرا أو خنزيرا بعينه فأخذ منه به كفيلا من أهل الذمة جاز وان كفل به مسلم لم يجز لان الخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا يصح منه التزام تسليمه بالكفالة كما لا يصح في سائر العقود وان هلك ذلك عنده ثم ضمنه المسلم له ثم أقام المدعى على ذلك شهودا مسلمين ضمن قيمة الخنزير ولم يضمن الخمر لان الخنزير مضمون بالقيمة عند الهلاك وقيمته دراهم أو دنانير فتصح الكفالة بها من المسلم وأما الخمر فانها مضمونة بالمثل فلا تصح الكفالة بها من المسلم كما لا تصح الكفالة بالعين حال قيامها ولو تقبل من رجل بناء دار معلوم أو كراب أرض معلوم أو كرى نهر معلوم فأعطاه بها كفيلا كان جائزا لان هذا عمل مستحق على الاصيل مضمون بالعقد وهو مما تجرى النيابة في ايفائه وكذلك لو اكراه ابلا إلى مكة فأعطاه كفيلا بذلك جاز لان تسليمها مستحق على الاصيل ولو كانت الابل بأعيانها فأعطاه كفيلا بها كان جائزا ما دامت قائمة بأعيانها لان الاصيل مطالب بتسليمها بالعقد فإذا هلكت فقد انفسخ العقد وبرئ الاصيل عن التسليم فلا ضمان على الكفيل فلو أعطاه كفيلا بالحمولة لم يجز فيما كان بعينه لانه لا تجرى النيابة فيه فان ابل الكفيل لا تقوم مقام تلك الحمولة المعينة في ايفاء المعقود عليه وجاز فيما كان بغير عينه لانه مستحق على الاصيل بالعقد وهو مما تجرى فيه النيابة بايفائه وانما يلتزم الكفيل تسليم ما يقدر على تسليمه وإذا كتب ذكر حق على رجل وكتب فيه وكل واحد منهما ضامن له وأيهما شاء فلان أخذه بهذا المال ان شاء أخذهما

[ 126 ] جميعا وان شاء شتى كيف شاء وكلما شاء حتى يستوفى منهما هذا المال وانما يكتب ذلك احتياطا لصاحب الحق من اختلاف القضاة فان المذهب عندنا انه إذا كفل بمال فللطالب أن يأخذ أيهما شاء بجميع المال كيف شاء وكلما شاء وقال ابن أبى ليلى رحمه الله برئ الاصيل والمال على الكفيل الا أن يشترط على كل واحد منهما كفيل عن صاحبه أجزته وأيهما أجاز أبرأت الآخر الا أن يشترط أن يأخذهما جميعا أو شتى فأدخلا في الصك جميعا أو شتى لذلك وقال شريك بن عبد الله رحمه الله ان أدخلا جميعا أو شتى أجزته فان اختار أحدهما لم يكن له أن يأخذ الآخر الا أن يفلس هذا أو يموت ولا يترك شيئا فأدخلا في الصك كيف شاء وكلما شاء حتى يكون له الاختيار كل مرة وهذا لان الكتاب للتوثق فينبغي لكل من يكتب الكتاب أن يحتاط لصاحبه بكل ما يقدر عليه من التوثق ويحتاط للتحرز عن اختلاف القضاة عملا بقوله تعالى وليؤد الذى ائتمن أمانته والله أعلم بالصواب (باب من الكفالة أيضا) (قال رحمه الله) وإذا أقرض الرجل الرجل قرضا على أن يكفل به فلان كان جائزا حاضرا كان فلان أو غائبا ضمن أو لم يضمن وكذلك لو شرط أن يحيله به على فلان لان القرض لا يتعلق بالجائز من الشروط فلا يفسده الباطل بخلاف البيع فانه لو شرط فيه كفالة أو حوالة من مجهول أو معلوم غير حاضر لم يرض بذلك فالبيع فاسد لان الفاسد من الشروط مبطل للبيع فانه يتعلق بالجائز من الشروط فأما ضمان القرض فانه يثبت بالقبض شرعا ولا أثر للشروط فيه كضمان الغصب والتزويج والخلع والصلح من دم عمد وجراحة فيها قصاص حالا أو مؤجلا وجناية الوديعة والعارية إذا ضمنها فشرط له في ذلك كفالة أو حوالة فهو بمنزلة القرض لان هذا كله لا يبطل بالشرط الفاسد وكذلك العتق على مال ولو قبل الكفيل الكفالة أو الحوالة في جميع ذلك جاز لانه دين لازم يطالب به الاصيل وتجرى النيابة في ايفائه وبدل العتق بمال ليس كبدل الكتابة في حكم الكفالة لان ذلك ليس بدين قوى ومن الدليل على أن فساد شرط الكفالة لا يبطل هذه العقود ما قال في العتق لانه لا يرد ومعنى هذا أن الشرط الفاسد لا يمنع انعقاد العقد ولكن يستحق به الفسخ بعد الانعقاد وهذه العقود لا تحتمل الفسخ بعد التمام فلا يؤثر فيها الشرط الفاسد ولو كان لرجل على رجل دين حال من ثمن

[ 127 ] بيع أو قرض أو غصب فسأله أن يؤخره عنه نجوما على أن يضمنه له فلان الغائب فصالحه على ذلك فقدم الكفيل فأبى أن يضمن فالصلح منتقض لان الصلح على التنجيم في المال يعتمد تمام الرضا وهو ما رضى بذلك الا بكفالة الكفيل فإذا أبى أن يكفل كان المال حالا عليه كما كان وان ضمن الكفيل بعد ما حضر جاز الصلح لتمام الرضا به ولا يشترط حضوره في مجلس الصلح لانه ليس في هذا العقد من التمليك شئ فلا فرق بين أن يتم الرضا به في المجلس وبعد المجلس بخلاف البيع فانه مال بمال مبنى على الضيق فإذا لم يحضر الكفيل في المجلس صار اشتراط كفالته شرطا فاسدا والبيع يبطل بالشرط الفاسد وهذا لان البيع لا يجوز أن يتوقف على القبول بعد المجلس فكذلك لا تتوقف صحته على قبول الكفالة المشروط فيه بعد المجلس ولو كان حاضرا فأبى أن يضمن لم يجز الصلح لانعدام تمام الرضا به وان ضمن فهو جائز وان اشترط في التأخير انه ان أخره عن محله فالمال كله حال أو ان أخر نجما عن محله عشرة أيام فالمال كله حال فهو جائز على ما اشترطا لانه ليس في هذا الصلح من معنى التمليك شئ وهذا الشرط في الصلح متعارف ولو أعطاه كفيلا على أن جعل له أجلا معلوما كان جائزا في جميع الديون الا القرض فانه حال على الاصيل لان القرض حق الاصيل كالعارية لا يلزم فيه الاجل وهو مؤجل على الكفيل لان المال انما يجب على الكفيل بعقد الكفالة والدين الواجب بالعقد يقبل الاجل وإذا كفل المريض بمال ثم مات ولا دين عليه لزمه من ثلثه لانه الكفالة تبرع وتبرعات المريض تصح من ثلثه إذا لم يكن عليه دين وان أقر انه كفل به في الصحة لزمه ذلك في جميع ماله إذا لم يكن لوارث ولا عن وارث لان الكفالة في الصحة سبب لوجوب الدين عليه واقراره في المرض بسبب وجوب الدين مضافا إلى حال الصحة يكون اقرارا بالدين واقرار المريض للاجنبي بالدين صحيح وللوارث باطل وان كان عن وارث فهذا قول من المريض فيه منفعة وارثه والمريض محجور عن مثله وان كان عليه دين يحيط بماله لم يجز اقراره بذلك لان دين الصحة متقدم على ما أقر به في المرض فما بقى دين الصحة لم يعتبر اقراره بالدين في المرض وإذا كفل في الصحة بما أقر به فلان لفلان ولم يسمه ثم مرض وعليه دين يحيط بماله فأقر المكفول عنه أن لفلان عليه ألف درهم لزم المريض ذلك في جميع ماله لان سبب وجوب المال قد تم منه في حال الصحة وهو الكفالة والدين الواجب عليه بذلك السبب بمنزلة دين الصحة وكذلك ان أقر بعد موته فان المقر له يخلص غرماء الكفيل بذلك

[ 128 ] لان أصله كان في الصحة وكان قد لزم على وجه لا يملك الرجوع عنه وابطاله وكذلك لو كفل بما ذاب لفلان على فلان أو بما صار له عليه وكذلك لو كان لوارث أو عن وارث أو لوارث عن وارث لانه كان في الصحة وهو بمنزلة ضمان الدرك فانه لو كفل في صحته بما أدركه من درك في دار اشتراها ثم استحقت الدار في مرض الكفيل أو بعد موته فان المشترى يضرب مع غرماء الكفيل الميت بالثمن لان أصل الدين كان في الصحة بخلاف الكفالة في المرض وان كفل في المرض وليس عليه دين ثم استدان دينا يحيط بماله ثم مات فالكفالة باطلة لان ما لزمه في المرض من الدين بسب معاين بمنزلة دين الصحة وقد بينا أن الكفالة في المرض لا تصح ادا كان دين الصحة محيطا بماله وإذا كفل رجل لرجلين وقال قد كفلت لفلان بماله على فلان أو كفلت لفلان الآخر بماله على فلان فهذا باطل سواء كان المالان من جنس واحد أو من جنسين لان المكفول له والمكفول عنه مجهول فتكون الجهالة متفاحشة وقد بينا أن مثل هذه الجهالة تمنع الكفالة ولو كان الحق لرجل واحد على رجلين على كل واحد منهما ألف درهم فقال كفلت لك بمالك على فلان فهذا جائز سواء كان المالان من جنس واحد أو من جنسين لان الجهالة هنا يسيرة مستدركة وهى جهالة المكفول عنه ومثل هذه الجهالة لا تؤثر في العقد المبنى على التوسع وهذا لان الطالب معلوم فتتوجه المطالبة من جهته على الكفيل وانما بقى الخيار في حق الكفيل في أن يؤدى أي المالين شاء ولو كفل عن واحد بأحد المالين جاز فهذا مثله بخلاف الاول فالمطالبة هناك لا تتوجه من المجهول على الكفيل والكفالة بالنفس في هذا مثل الكفالة بالمال وكذلك لو جمع بينهما فقال كفلت لك بنفس فلان فان لم أوافك به غدا فعلي مالك عليه وهو المائة دينار أو بنفس فلان فان لم أوفك به غدا فعلى مالك عليه وهو ألف درهم فلم يواف به غدا فهو ضامن لاحدهما أحد المالين أي ذلك شاء لان الطالب واحد معلوم وان دفع أحدهما في ذلك اليوم برئ من الكفالة كلها لان اشتغاله بدفع أحدهما اختيار منه لكفالته فتبطل عنه كفالته عن الآخر بهذا الاختيار وقد وجدت الموافاة في حق الذى اختار فيبرأ من كفالته أيضا ولو كان لرجلين لكل واحد منهما على رجل مال فقال رجل لاحدهما كفلت بنفس غريمك فلان فان لم أوافك به غدا فما لفلان على فلان فهو على جازت الكفالة بالنفس لانه كفل بها لمعلوم مطلقا وبطلت الكفالة بالمال لانها مخاطرة فان الحق ليس للمكفول له بالنفس وما كان صحة الكفالة بالنفس باعتبار هذا المال لتثبت الكفالة بها

[ 129 ] تبعا للكفالة بالنفس فيكون هذا تعليق التزام المال بمحض الشرط وهو باطل كما لو علقه بدخول الدار وكذلك الرجل يقول للرجل كفلت لك بنفس فلان فان لم أوافك به غدا فأنا كفيل بنفس فلان لانسان آخر فالكفالة الثانية باطلة لانها ليست من توابع الكفالة الاولى فيكون تعليقا لالتزام التسليم بمحض الشرط ولو كانت الكفالة عن واحد فقال كفلت لك بنفس فلان فان لم أوافك به غدا فما لفلان عليه وهو ألف على فرضى بذلك الآخر فالكفالة الاولى جائزة والنيابة باطلة لان صحة الكفالة بالنفس ما كانت باعتبار هذا المال فلا يمكن تصحيح الكفالة بالمال تبعا للكفالة بالنفس ولو قال كفلت لك بنفس فلان أو فلان بماله عليه أو بنفسه فهذا باطل كله لجهالة المكفول له ولو قال كفلت لك بأحد غريميك هذين أو بأحد ماليك على هذين كان جائزا لانه المكفول له والمطالبة تتوجه من جهته والخيار في تعيين ما التزمه الكفيل إليه وإذا كفل عن رجل بمال بأمره فرهنه المكفول عنه رهنا به وفاء فهو جائز لان بنفس الكفالة كما وجب المال للطالب على الكفيل وجب للكفيل على الاصيل وان كان مؤجلا والرهن بالدين المؤجل صحيح فان هلك الرهن عند الكفيل صار مستوفيا دينه بهلاك الرهن فكأنه استوفى حقيقة حتى إذا أدى الكفيل المال لم يرجع به وان أداه الاصيل إلى الطالب رجع على الكفيل بمثله بمنزلة ما لو استوفاه منه حقيقة ولو كفل عن رجل بألف درهم بأمره على أن يعطيه بها هذا العبد رهنا فوقعت الكفالة بهذا بغير شرط من الكفيل على المكفول له ثم ان المكفول عنه أبى أن يدفع إليه العبد فان العبد لا يكون رهنا لان الكفيل لم يقبضه والرهن لا يتم الا بالقبض ولا يجبر المكفول عنه على دفعه لان ذلك كان وعدا من جهته والمواعيد لا يتعلق بها اللزوم والكفالة لازمة للكفيل لانه التزم المال للطالب بالكفالة المطلقة عند شرط بينهما فان كان الكفيل اشترط على الطالب فقال له أكفل لك بهذا المال عن فلان على أن رهن به فلان هذا العبد فان لم يدفعه إلى فأنا برئ من الكفالة فكفل له على هذا الشرط فهو جائز وان لم يدفع إليه الرهن برئ الكفيل من الكفالة والمال لانه لما رضى بالتزام المال بدون هذا الشرط والتزام المال بالكفالة يعتمد تمام الرضا ولانه شرط البراءة إذا لم يعطه الرهن والشرط أملك وكذلك لو كفل عنه بالمال على أن يعطيه بذلك المطلوب كفيلا فوقعت الكفالة للطالب على غير شرط ثم ان المكفول عنه أبى أن يعطى الكفيل كفيلا فان الكفالة على الكفيل جائزة وان كان الكفيل شرط على الطالب ان لم يعط كفيلا بهذا المال فأنا برئ من كفالتي فهو على

[ 130 ] شرطه ان لم يعطه كفيلا برئ من الكفالة لان الكفالة بمنزلة الرهن وقد بينا في الرهن ان هذا الشرط مع الطالب يجب الوفاء به فكذلك في الكفالة وهذا لان مقصود الكفيل بكل واحد منهما التوثق والنظر لنفسه حتى لا يلحقه غرم وان كتب الكفيل على دار المكفول عنه شراء بالمال فهو جائز لانه شراء بالدين المؤجل وهذا قضاء من المكفول عنه للكفيل بطريق المقاصة فكأنه أوفاه الدين حقيقة ولو كفل بنفس رجل على أنه للكفيل ان لم يواف به إلى سنة فعليه المال الذى عليه وهو ألف درهم ثم أعطى المكفول عنه رهنا بالمال قبل السنة فالرهن باطل لان المال لم يجب على الكفيل بعد لانه علق التزام المال بشرط عدم الموافاة فلا يكون واجبا قبل الشرط (ألا ترى) انه لو دفع نفسه إليه قبل الاجل لم يكن عليه من المال شئ فان قيل فأين ذهب قولكم ان في كلامه تقديما وتأخيرا أو انه التزم المال ثم جعل الموافاة بنفسه صرفا له عن المال قلنا ذلك طريق صار إليه بعض مشايخنا رحمهم الله لتوجه المطالبة بالمال عند عدم الموافاة بالنفس فأما في الحقيقة فانما يلزمه المال بالتزامه وهو ما التزم المال الا بعد عدم الموافاة بالنفس غدا فلا يكون المال واجبا عليه في الحال ولا يجوز الرهن في الكفالة بالنفس على وجه من الوجوه لان الرهن يختص بحق يمكن استيفاؤه من الرهن فان موجبه ثبوت يد الاستيفاء ولا ضمان على المرتهن ان هلك الرهن في يده لانه أخذه رهنا بغير مال وضمان الرهن ضمان استيفاء وذلك لا يكون بدون الدين وإذا كفل رجل عن رجل بما لم يحل عليه بعد فقال إذا حل المال فهو على وأعطى المكفول عنه الكفيل رهنا كان جائزا لانه التزم المال بعقد الكفالة وجعل مطالبة الطالب عنه متأخرة إلى ما بعد حلول الاجل وذلك غير مانع وجوب أصل المال على الاصيل فكذلك على الكفيل وإذا وجب المال على الكفيل وجب للكفيل على المكفول عنه أيضا فيجوز الرهن به. ولو قال ان توى مالك عليه فهو علي وأعطاه بذلك رهنا لم يجز الرهن لان المال لم يجب بعد فانه علق التزام المال بالشرط وكذلك لو قال ان مات ولم يوفك المال فهو على فأعطاه المكفول عنه به رهنا فالرهن باطل لان المال لم يجب بعد والكفالة جائزة على هذا الشرط لانه شرط متعارف في الكفالات. ولو أخذ الكفيل بالدرك رهنا فالرهن باطل والكفالة جائزة لان المال غير واجب على الكفيل قبل لحوق الدرك فلا يكون واجبا على الاصيل فلا يصح الرهن به ولا ضمان على المرتهن فيه لانه قبضه باذن صاحبه وكل ما أبطلنا فيه الرهن بالمال

[ 131 ] فكان الرهن في يدى الكفيل حتى يحل عليه المال ويؤخذ به فان أراد أن يمسك الرهن بذلك فليس له ذلك لان أصل الرهن لم يكن صحيحا لم يثبت بقبضه يد للاستيفاء فلا يكون له أن يمسكه بعد ذلك وان وجب الدين عليه ولو آجر منه ابلا إلى مكة وكفل عنه رجل بالاجر وبالحمولة فأخذ الكفيل منه بذلك رهنا فان الرهن في ذلك جائز لان الكفيل مأخوذ بالكفالة وقد وجبت عليه أما على أصل محمد رحمه الله فلان الاجر بنفس العقد مؤجلا وعند أبى يوسف رحمه الله سبب الوجوب متقرر وان تأخر وجوب المال (ألا ترى) أن الابراء عنه صحيح فيجوز الرهن به سواء ارتهن من الكفيل أو ارتهن الكفيل من المكفول عنه بخلاف ما سبق ولو أن رجلا أحال على رجل بمال وأعطاه به رهنا جاز لان المال بالحوالة يجب للمحتال عليه على المحيل كما يجب للطالب على المحتال عليه وان كان رجوعه عليه يتأخر إلى حين أدائه المال وإذا ادعى مسلم على كافر مالا وأدى كفالة مسلم بذلك وأقام بينة من الكفار بذلك ثبت المال بهذه البينة على الاصيل دون الكفيل المسلم وشهادة الكفار لا تكون حجة على المسلم وكذلك لو كان أصل المال على كافر فشهد كافران على مسلم وكافر أنهما كفلا عنه بهذا المال وبعضهم كفلاء عن بعض جازت الشهادة على الاصيل وعلى الكفيل الكافر ولا يجوز على الكفيل المسلم لان بعض هذه الكفالة تنفصل عن البعض فانما يقضى بقدر ما قامت الحجة به وإذا ادعى مسلم على مسلم مالا وجحده المطلوب وادعى الطالب كفالة رجل من أهل الذمة عنه بالمال بأمره وجحد الكفيل وشهد له بذلك ذميان جازت شهادتهما على الكفيل ولم تجز على المسلم حتى ان الكفيل إذا ادعى لم يكن له أن يرجع على المسلم بشئ لان شهادة الكفار لا تكون حجة على المسلم فكما لا يثبت بهذه الشهادة الدين للطالب على المسلم فكذلك لا يثبت بها أمر الكفيل بالكفالة وكذلك لو كان المال عليهما في الصك والمسلم في صدر الصك والذمى كفيل بعده أو كان الصك عليهما وكل واحد منهما ضامن عن صاحبه لان وجوب المال على أحدهما ينفصل عن وجوب المال على الآخر فانما يقضى القاضى بقدر ما قامت الحجة به وهذه البينة حجة على الكافر دون المسلم وإذا كان الدين لرجلين على رجل فكفل أحدهما لشريكه بحصته عن المطلوب لم يجز من قبل الشركة التى بينهما معناه ان أصل المال كان مشتركا بينهما فلا يمكن أن يجعل هو كفيلا بنصيب صاحبه خاصة لان ذلك يؤدى إلى قسمة الدين قبل القبض ولا يمكن أن يجعل كفيلا بالنصف من المال المشترك بينهما لان هذا

[ 132 ] يؤدى إلى أن يكون ضامنا نفسه عن نفسه وذلك لا يجوز (ألا ترى) أن أحدهما لو استوفى نصيبه من المطلوب أو من غيره كان للآخر أن يشاركه فيه فكذلك إذا استوفاه من شريكه الكفيل ولا يمكن أن يجعل هو بهذه الكفالة مسقطا حقه في المشاركة معه لان الاسقاط قبل وجوب سبب الوجوب باطل والسبب الموجب للشركة له في المقبوض القبض والكفالة يستحق ذلك فهلذا بطلت الكفالة وليست الكفالة في هذا بمنزلة التبرع بالاداء فان أحد الشريكين لو تبرع بأداء نصيب شريكه عن المديون جاز لان ذلك اسقاط لحق المشاركة في المقبوض مقترنا بالسبب وهو صحيح وهذا بمنزلة الوكيل بالبيع إذا كفل باليمين عن المشترى للموكل لم يجز ولو ادعى عنه جاز وكذلك لو كفل بنفس انسان ببدل الكتابة لا يجوز ولو تبرع بأداء بدل الكتابة عن المكاتب جاز وكذلك لو كان الدين لواحد فمات فورثه ابناه فكفل أحدهما لصاحبه بحصته لان الدين كان مشتركا بينهما ارثا فهو قياس دين مشترك بسبب آخر وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم كفل بها عنه رجل بأمره أو بغير أمره ثم مات الطالب والمطلوب وارثه لم يكن له على الكفيل شئ لان المطلوب ملك ما في ذمته بالميراث فسقط عنه وبراءته توجب براءة الكفيل فان كان معه وارث آخر للطالب فانما يسقط عن الكفيل حصة المطلوب وللوارث الآخر أن يطالب الكفيل بحصته لانه في حصته قائم مقام الطالب وانما يبرأ الكفيل من كل شئ يبرأ به الاصيل ولو كان احتال بها عليه فكفل بها على أن ابرأ الطالب المطلوب ثم مات الطالب والمطلوب وارثه وكانت الحولة بأمره لم يكن على الكفيل شئ لان المال صار مملوكا للمطلوب بموت الطالب فلو رجع به على الكفيل والمحتال عليه بذلك أيضا لان الحوالة والكفالة كانت فاسدة فلا يكون مقيدا بقضاء فان كان بغير أمره رجع بها على المحتال عليه أو الكفيل لانه قائم مقام الطالب بعد موته وهذا رجوع مفيد فان الكفيل والمحتال عليه ان كانا متطوعين هنا لا يستوجبان الرجوع عند الاداء على أحد بشئ وهذا بخلاف الاول فان أصل المال هناك في ذمة المطلوب فهو انما يملك بالارث ما في ذمة نفسه فسقط عنه ولا يرجع الكفيل بشئ سواء كفل بأمره أو بغير أمره وهنا أصل المال تحول إلى المحتال عليه فالاصيل انما يملك ما في ذمة غيره فيكون له أن يطالبه به إذا كان دينا مفيدا وإذا كفل الرجل لعبده بدين على رجل وعلى عبده دين فهو جائز لان كسب العبد المديون لغرمائه فهذه الكفالة في الصورة للعبد وفى المعنى للغرماء والعبد المديون يستوجب

[ 133 ] على مولاه الدين بسائر الاسباب فكذلك بالكفالة فان قضى العبد الدين بطلت الكفالة عن المولى لان كسب العبد صار له ولا يكون كفيلا لنفسه عن نصيبه وكان الدين للعبد على المكفول عنه على حاله يأخذه به لان براءة المولى هنا بمنزلة الفسخ للكفالة فلا توجب براءة الاصيل وإذا كفل رجل لرجل بألف درهم ثم مات الطالب والكفيل وارثه برئ الكفيل منه والمال على المكفول عنه على حاله يأخذه به ان كان كفل عنه بأمره وان كان كفل عنه بغير أمره فلا شئ على المكفول عنه أيضا لان المال صار للكفيل ميراثا بموت الطالب فيكون بمنزلة ما لو صار له بهبة الطالب منه أو بقضائه اياه ولو قضاه أو وهبه له في حياته رجع على المكفول عنه ان كان كفل بأمره وان كان كفل بغير أمره لم يرجع عليه بشئ فهذا مثله وكذلك لو كان الطالب ابرأ منه المطلوب على أن ضمنه هذا بأمر المطلوب أو على ان احتال به على هذا ثم مات الطالب والكفيل وارثه كان له أن يأخذ الاصيل بذلك ولو كان ذلك بغير أمر المطلوب لم يرجع عليه بشئ لان تملكه ما في ذمته بالارث بمنزلة تملكه بالاداء وإذا كفل العبد بأمر سيده لرجلين بألفين أو ثلاثة آلاف وقيمته ألف درهم ثم استدان ألفا ثم بيع بألف كان ثمنه بينهم يضرب صاحب الكفالة بجميعها لان جميع دينه ثبت على العبد بكفالته باذن مولاه حين كان فارغا عن الدين فلو كان استدان أولا ألفا وكانت الكفالة بعد ذلك فالثمن للمدين خاصة لان الكفالة منه كانت بعد ماشتغلت ماليته بالدين فكفالته بأمر المولى اقرار للمولى في الفصلين عليه جميعا ولو كان كفل بألف ثم استدان ألفا ثم بيع بألف كانت الالف الوسطى باطلة لانه كفل بها وماليته اشتغلت بالكفالة الاولى وهو بمنزلة ما لو أقر المولى عليه بألف درهم ثم استدان ألفا ثم بيع بألف وتمام بيان هذه الفصول في كتاب المأذون والله أعلم بالصواب (تم كتاب الكفالة ولله المنة) (كتاب الصلح) (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله إملاء اعلم بأن الصلح عقد جائز عرف جوازه بالكتاب والسنة * أما الكتاب فقوله تعالى (فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير) وفى هذا بيان انه

[ 134 ] نهاية في الخيرية * وأما السنة فما روى أن النبي ﷺ صالح أهل مكة عام الحديبية على وضع الحرب بينه وبينهم عشر سنين ودخل رسول الله ﷺ المسجد فرأى رجلين يتنازعان في ثوب فقال لاحدهما هل لك إلى الشطر هل لك إلى الثلثين فدعاهما إلى الصلح وما كان يدعوهما الا إلى عقد جائز وقال النبي ﷺ الصلح جائز بين المسلمين الا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما وهكذا كتب علي رضى الله عنه إلى أبى موسى الاشعري رضى الله عنه كل صلح جائز بين الناس الا صلحا حرم حلالا أو أحل حراما وهذا اللفظ من الاول لكتاب عمر رضى الله عنه إلى أبى موسى الاشعري قد اشتهر فيما بين الصحابة رضوان الله عليهم فما ذكر فيه فهو كالمجمع عليه منهم وبظاهر هذا الاستثناء استدل الشافعي رحمه الله لابطال الصلح على الانكار فانه صلح حرم حلالا لان المدعى ان كان محقا كان أخذ المال حلالا له قبل الصلح وحرم بالصلح وان كان مبطلا فقد كان أخذ المال على الدعوى الباطلة حراما عليه قبل الصلح فهو صلح حرم حلالا وأحل حراما ولكنا نقول ليس المراد هذا فان الصلح عن الاقرار لا يخلو عن هذا أيضا لان الصلح في العادة يقع على بعض الحق فما زاد على المأخوذ إلى تمام الحق كان حلالا للمدعى أخذه قبل الصلح وحرم بالصلح وكان حراما على المدعى عليه منعه قبل الصلح وحل بالصلح فعرفنا أن المراد غير هذا والصلح الذى حرم حلالا وهو أن يصالح احدى زوجتيه على أن لا يطأ الاخرى أو يصالح زوجته على أن لا يطأ جاريته والصلح الذى أحل حراما هو أن يصالح على خمر أو خنزير وهذا النوع من الصلح باطل عندنا وحمله على هذا أولى لان الحرام المطلق ما هو حرام لعينه والحلال المطلق ما هو حلال لعينه (ثم ذكر عن على كرم الله وجهه) انه أتى في شئ فقال انه لجور ولولا انه صلح لرددته وفيه دليل جواز الصلح ومعنى قوله لجور أي هو مائل عما يقتضيه الحكم أو عما يستقر عليه اجتهادي من حكم الحادثة والجور هو الميل قال الله تعالى ومنها جائر أي مائل وفيه قال ان الصلح على خلاف مقتضى الحكم جائز بين الخصمين لانه يعتمد التراضي منهما وبالتراضي ينعقد بينهما السبب الموجب لنقل حق أحدهما إلى الآخر بعوض أو بغير عوض فهذا لم يرده علي رضي الله عنه وذكر عن شريح رحمه الله انه قال أيما امرأة صولحت على ثمنها لم يتبين لها كم ترك زوجها فتلك الريبة وفى بعض الروايات الريبة ومعنى اللفظ الاول الشك يعنى إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها فذلك يوقعها في الشك لعل نصيبها أكثر مما أخذت وقوله

[ 135 ] الربية تصغير الربا يعنى إذا لم يتبين لها كم ترك زوجها يتمكن في هذا الصلح شبهة الربا بأن يكون نصيبها من جنس ما أخذت من النقد مثل ما أخذت أو فوقه وفيه دليل انه يجوز للورثة أن يصالحوا بعضهم على شئ يخرجوه بذلك من مزاحمتهم وان جهالة ما يصالح عنه لا يمنع جواز الصلح لان الجهالة انما تفسد العقد لتعذر التسليم معها والمصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تمنع جواز الصلح ثم إذا صولحت المرأة على ثمنها فان كان بعض تركة الزوج دينا على الناس فصالحوها عن الكل فهو باطل لانها تصير مملكة نصيبها من الدين من سائر الورثة بما تأخذ منهم من العين وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز فإذا فسد العقد في حصة الدين فسد في الكل وهو دليل لابي حنيفة رحمه الله في مسألة البيوع أن العقد الواحد إذا فسد في البعض المعقود عليه فسد في الكل وهما يقولان حصة العين هنا من البدل المأخوذ غير معلومة والدين ليس بمال أصلا ما لم يقبض فلا يكون محلا للتمليك ببدل فهو كما لو جمع بين حر وعبد في البيع بثمن واحد فلهذا يفسد العقد في الكل وان صالحوها من حصتها من العين خاصة وان لم يكن في التركة دين فهو على ثلاثة أوجه أحدها أن يصالحوها على أحد النقدين اما الدراهم أو الدنانير فهو جائز الا أن يكون في التركة من جنس ذلك النقد مقدار ما يكون نصيبها من ذلك الجنس أكثر مما أخذت فحينئذ لا يجوز لان مبادلة مال الربا بحصته لا يجوز الا بطريق المماثلة فان كان نصيبها أكثر مما أخذت كان الفضل في هذا الجنس من نصيبها من سائر التركة ربا وكذلك ان كان نصيبها ثمن هذا الجنس مثل ما أخذت فنصيبها من سائر التركة يكون فضلا خاليا عن العوض وهو الربا بعينه وان وقع الصلح عن الدراهم والدنانير فذلك جائز وان كان في التركة من النقدين ما يكون نصيبها من كل جنس أكثر مما أخذت بطريق صرف الجنس إلى خلاف الجنس فتصحيح العقود بحسب الامكان واجب والصلح أولى بذلك من غيره لان المقصود به قطع المنازعة لما في امتدادها من الفساد والله لا يحب الفساد فان صالحوها على عرض فهو جائز لانه وقع عليه الصلح بنفس مال الربا فسواء كان في التركة من جنس ما وقع عليه الصلح ما يكون نصيبها أكثر مما أخذت أو لم يكن فذلك لا يؤدى إلى الربا قال الحاكم رحمه الله انما يبطل الصلح على أقل من نصيبها من الربا في حال التصادق وقد بينا ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب فأما حال المناكرة فالصلح جائز لان مع الانكار ليس لها حق مستقر وفى ذلك الجنس أكثر

[ 136 ] مما أخذت وعند الانكار المعطى يؤدى المال لقطع المنازعة والخصومة ويفدى به يمينه فلا يتمكن فيه الربا على ما بينه وذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يحدث بينهم الضغائن وفيه دليل أن القاضى لا ينبغى له أن يعجل وانه مندوب إلى أن يرد الخصوم ليصطلحوا على شئ ويدعوهم إلى ذلك فالفصل بطريق الصلح يكون أقرب إلى بقاء المودة والتحرز عن النفرة بين المسلمين ولكن هذا قبل أن يستبين وجه القضاء فأما بعد ما استبان ذلك فلا يفعله الا برضا الخصمين ولا يفعله لا مرة أو مرتين لما في الاطالة من الاضرار بمن ثبت الاستحقاق له في تأخير حقه ولان لك يجر إليه تهمة الميل وعلى القاضى أن يتحرز عن ذلك بما يقدر عليه وعن عمرو بن دينار أن احدى نساء عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه صالحوها على ثلاثة وثمانين ألفا على ان أخرجوها من الميراث وهى تماضر كان طلقها في مرضه فاختلف الصحابة رضوان الله عليهم في ميراثها منه ثم صالحوها على الشطر وكان له أربع نسوة فحظها ربع الثمن وهو جزء من اثنين وثلاثين جزأ فصالحوها على نصف ذلك وهو جزء من أربعة وستين جزأ وأخذت بهذا الحساب ثلاثة وثمانين ألفا ولم يشر لذلك في الكتاب وذكر في كتب الحديث ثلاثة وثمانون ألف دينار فهذا دليل ثروة عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه ويساره وكان قد قسم لله تعالى ماله أربع مرات في حياته تصدق في كل بالنصف وأمسك النصف فهو دليل على أنه لا بأس بجمع المال واكتساب الغني من حله فابن عوف من الصحابة العشرة الذين شهد لهم رسول الله ﷺ بالجنة وأيد هذا القول قوله ﷺ نعم المال الصالح للرجل الصالح ولكن مع هذا ترك الجمع والاستكثار وانفاق المال في سبيل الله تعالى أولى وهو الطريق الذى اختاره رسول الله ﷺ لنفسه بقوله ﷺ اللهم أحيني مسكينا وامتنى مسكينا واحشرني في زمرة المساكين وفى حديث عبد الرحمن رضى الله عنه ما يدل عليه فان النبي ﷺ قال له ما أبطأ بك عنى يا عبد الرحمن قال وما ذاك يارسول الله فقال رسول الله ﷺ انك آخر أصحابي لحوقا بى بعد القيامة وأقول أين كنت فتقول منعنى عنك المال كنت محبوسا ما تخلصت اليك حتى الآن وذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال يتخارج أهل الميراث يعنى يخرج بعضهم بعضا بطريق الصلح وذلك جائز لما فيه من تيسير القسمة عليهم فانهم لو اشتغلوا بقسمة الكل على جميع الورثة ربما يشق

[ 137 ] عليهم ويدق الحساب أو تتعذر القسمة في البعض كالجوهرة النفيسة ونحوها فإذا أخرجوا البعض بطريق الصلح تيسر على الباقين قسمة ما بقى بينهم فجاز الصلح لذلك وعن محمد بن سيرين رحمه الله قال ما رأيت شريحا رحمه الله أصلح بين الخصمين الا امرأة استودعت وديعة فاحترق بيتها فناولتها جارة لها فضاعت فأصلح بينهما على مائة وثمانين درهما وفيه بيان انه كان من عادة شريح رحمه الله الاشتغال بطلب الحجة التى يفصل الحكم بها وما كان يباشر الصلح بين الخصمين بنفسه وكان يقول انما حبس القاضى لفصل القضاء ولاجله تقدم إليه الخصمان وللصلح غير القاضى فينبغي للقاضى أن يشتغل بما تعين له ويدع الصلح لغيره الا انه في هذه الحادثة لاجل الاشتباه وتعارض الادلة دعاهما إلى الصلح فان المودع إذا وقع الحريق في بيته فناول الوديعة جارا له كان ضامنا في القياس وفي الاستحسان لا يكون ضامنا لان الدفع إلى الغير في هذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فان المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى الغير فهذه الحال من الحفظ ولكنه عادة بخلاف النص فان المودع أمره بأن يحفظ بنفسه نصا وأن لا يدفع إلى أجنبي فلاشتباه الادلة أصلح بينهما على مال وذكر هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنهما أن بريرة رضى الله عنها أتتها تسألها فقالت ان شئت عددتها لاهلك عدة واحدة وأعتقتك فذكرت ذلك لاهلها فقالوا لا إلا أن يكون الولاء لنا فذكرت ذلك عائشة رضى الله عنها لرسول الله ﷺ فقال صلوات الله عليه وسلامه الولاء لمن اعتق فاشترتها واعتقهتا وخطب رسول الله ﷺ وقال ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله تعالى شروط الله أوثق وكتاب الله أحق وكل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط ما بال أقوام يقول أحدهم أعتق يا فلان والولاء لى وانما الولاء لمن أعتق وقد تقدم بيان فوائد هذا الحديث في كتاب الولاء وانما ذكرناه هنا ليتبين أن الزيادة التي تؤدى أن النبي ﷺ قال لها اشترى واشترطي فانما الولاء لمن اعتق وهم من هشام بن عروة كما ذكره أبو يوسف رحمه الله في الامالى فان ذلك من الغرور وما كان لرسول الله ﷺ يأمر أحدا بالغرور ومقصوده من ايراد الحديث هنا بيان انه يجوز بطريق الصلح والتراضي ما لا يجوز بدونه فان بريرة رضى الله عنها كانت مكاتبة وقد اشترتها عائشة رضى الله عنها برضاها ولولا ذلك ما جاز شراؤها وفيه دليل انه انما يجوز أن يشترط في الصلح ما لا يكون

[ 138 ] مخالفا لحكم الله تعالى فأما الذى يكون مخالفا لحكم الله تعالى لا يجوز اشتراطه في الصلح لقوله ﷺ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وان كان مائة شرط معناه ليس في حكم الله تعالى فالمراد بالكتاب الحكم كما قال الله تعالى كتاب الله عليكم وذكر عن علي كرم الله وجهه انه أتاه رجلان يختصمان في بغل فجاء أحدهما بخمسة رجال فشهدوا انه انتجه وجاء الآخر بشاهدين شهدا انه انتجه فقال علي كرم الله وجهه للقوم ما ترون فقالوا افض لاكثرهما شهودا فقال علي رضى الله عنه لعل الشاهدين خير من الخمسة ثم قال علي رضى الله عنه فيها قضاء وصلح وسأنبئكم بذلك أما الصلح فانه يقسم بينهما على عدد الشهود وأما القضاء فيحلف أحدهما ويأخذ البغل فان تشاحا على اليمين أقرعت بينهما بخمسة أسهم ولهذا سهمين فأيهما خرج سهمه استحلفته وغلظت عليه اليمين ويأخذ البغل وفي هذا دليل على أن البينة على النتاج مقبولة في الحيوان وان القاضى ينبغى له عند الاشتباه ان يستشير جلساءه كما فعله علي رضى الله عنه ثم أشاروا على بالقضاء لاكثرهما شهودا لنوع من الظاهر وهو ان طمأنينة القلب إلى قول الخمسة أكثر من طمأنية القلب إلى المثنى ورد علي رضى الله عنه ذلك عليهم لفقه خفى وهو ان طمأنية القلب باعتبار معنى العدالة فلذلك ترجح جانب الصدق في الخبر ولعل الشاهدين في ذلك خير من الخمسة ثم الترجيح عند التعارض يكون بقوة العلة لا بكثرة العلة وفى حق من أقام خمسة زيادة عدد في العلة فشهادة كل شاهدين حجة تامة يثبت الاستحقاق بها والترجيح بما لا يثبت الاستحقاق به ابتداء فأما ما يثبت به ابتداء الاستحقاق لا يقع الترجيح به فلهذا لم يرجح أكثرهما شهودا ثم قال فيه قضاء وصلح وهو دليل على أن الصلح جائز على غير الوجه الذى يقتضيه الحكم وان الصلح بين الخصمين مع الانكار جائز ثم بين وجه الصلح وهو أن يكون بينهما على عدد الشهود لاحدهما خمسة أسباعه وللآخر سبعاه وكأنه اعتبر هذا الظاهر الذى أشار إليه القوم ولكن لما كان لا يؤخذ به الا عند اتفاق الخصمين عليه سماه صلحا وأما القضاء لاحدهما بأخذ البغل فهذا مذهب لعلي رضى الله عنه فقد كان يستحلف المدعى مع البينة وكان يحلف الشاهد والراوي فكأنه جعل يمين أحدهما مرجحة لجانبه باعتبار ان الاستحقاق باليمين لا يثبت ابتداء فيقع الترجيح بها كقرابة الام في استحقاق العصوبة فان الاخ لاب وأم يقدم في العصوبة على الاخ لاب لان العصوبة لا تثبت بقرابة الام ابتداء فتقوى بها عليه العصوبة على الاخ لاب ولسنا نأخذ بهذا فقد ثبت

[ 139 ] عندنا انه لا معتبر بيمين المدعى وقد قررنا ذلك فيما سبق ثم قال فان أداها على اليمين أقرعت بينهما لهذا بخمسة ولهذا بسهمين وهو عود منه إلى وجه الصلح وبهذا يستدل الشافعي رحمه الله في استعمال القرعة عند تعارض الحجج في دعوى الملك ولسنا نأخذ بهذا لانه في معنى القمار ففيه تعليق الاستحقاق بخروج القرعة وانما يستعمل القرعة عندنا فيما يجوز الفصل فيه من غير اقراع وقد بيناه في كتاب القسمة وحكم الحادثة عندنا أن يقضى بالمدعى بينهما نصفين لاستوائهما في الحجة وقد بينا ذلك في كتاب الدعوى وروينا فيه من الاثر والمعنى ما يكون الاخذ به أولى من الاخذ بقول علي رضى الله عنه فانه بناه على مذهبه الذى تفرد به وهو استحلاف المدعى مع الحجة والامة قد اجتمعت على خلافه والله أعلم بالصواب (باب الصلح في العقار) (قال رحمه الله) وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل فأنكرها الذي هي في يديه ثم صالحه على دراهم أو دنانير مسماة فهو جائز * واعلم بأن الصلح أنواع ثلاثة صلح بعد الاقرار وصلح بعد الانكار وصلح مع السكوت بأن لم يجب المدعى عليه بالاقرار ولا بالانكار ويجوز مع الانكار وقال الشافعي رحمه الله يجوز الصلح مع الاقرار والسكوت ولا يجوز مع الانكار وقال الشافعي رحمه الله يجوز الصلح مع الاقرار ولا يجوز مع الانكار والسكوت وكان الشيخ أبو منصور الماتريدى رحمه الله يقول لم يعمل الشيطان في ايقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين مثل من عمل في ابطال الصلح على الانكار لما في ذلك من امتداد المنازعات بين الناس ولسنا نأخذ بهذا فمن أبطل ذلك انما أبطله احتياطا للتحرز عن الحرام وللرشوة والاعمال بالبينات وانما نقول كما قال أبو حنيفة رحمه الله أجود ما يكون الصلح على الانكار وأما الشافعي رحمه الله فانه استدل بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) والصلح على الانكار لا يكون الا بالتجارة عن تراض فذلك ينبنى على ثبوت ملك المدعى على المدعي وبدعواه لا يثبت ذلك مع انكار المدعى عليه فكان أكل المال بالباطل وهو المعنى في المسألة فانه يأخذ المال بطريق الرشوة والرشوة حرام وبالصلح لا يحل ما هو حرام وقاس بصلح الشفيع مع المشترى بمال يأخذه ليسلم الشفعة أو يصلح القائل مع الانكار ليقبضه منه الولي بمال يعطيه ويصلح

[ 140 ] معروف النسب مع مدعي الرق على مال ليسترقه وبيان الوصف أن بدل الصلح اما أن يكون عوضا عن المال أو عن الدعوى والخصومة أو عن اليمين ولا يجوز أن يجعل عوضا عن المدعى لان بمجرد الدعوى لا يثبت الملك في المدعي للمدعى قال ﷺ لو أعطى الناس بدعواهم الحديث * والدليل عليه أنه لو استحق بدل الصلح لا يرجع بالمال المدعى ولكن يعود على رأس الدعوى ولو كان المال بدلا عن المدعى لكان يعود به عند الاستحقاق كما لو كان الصلح بعد الاقرار ولو كان المصالح عنه دارا لا يجب للشفيع فيها الشفعة أو كان المال بدلا عن المدعى والخصومة لان ذلك ليس بمال فلا يجوز الاعتياض عنه بالمال ولانه كما لا يستحق بنفس الدعوى أخذ المال المدعى فكذلك لا يستحق أخذ المال بطريق الصلح ولا جائز أن يكون بدلا عن اليمين لان اليمين مشروعة لقطع الخصومة فلا يجوز الاعتياض عنها بالمال كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أو هلاكها كان القول قوله مع اليمين ولو صالح من هذه اليمين على ما كان باطلا فعرفنا أن المدعى عليه انما يبذل المال ليدفع به أذى المدعي عن نفسه والمدعى يأخذ المال ليكف عن الخصومة معه بغير حجة وخصومته بغير حجة ظلم منه شرعا وأخذ المال ليكف عن الظلم رشوة فيكون حراما لقوله ﷺ الراشى والمرتشي في النار ولقوله ﷺ لعن الله الراشى والمرتشي والرائش وبنحو هذا يستدل ابن أبى ليلى رحمه الله الا أنه يقول المدعي بنفس الدعوى يصير حقا للمدعى ما لم يعارضه المدعى عليه بانكاره (ألا ترى) انه لو لم ينازعه في ذلك لتمكن من أخذه وهذا لان الدعوى خبر محتمل بين الصدق والكذب ولكن الصدق يترجح فيه من حيث انه دينه وعقله يدعوانه إلى الصدق ويمنعانه من الكذب الا أن المدعى عليه إذا عارضه بانكاره فانكاره أيضا محتمل بين الصدق والكذب فلتحقق المعارضة تخرج دعواه من أن تكون موجبة للاستحقاق ما لم يظهر الترجيح في جانبه بالبينة وإذا كان المدعى عليه ساكتا فالمعارض لم يوجد فتبقى دعوى المدعى معتبرة في الاستحقاق فلهذا يجوز الصلح في هذه الحال فأما بعد المعارضة بالانكار لم يبق للدعوى سبب الاستحقاق فأخذ المال بطريق الصلح يكون رشوة وأصحابنا رحمهم الله استدلوا في ذلك بظاهر قوله تعالى والصلح خير فالتقييد بحال الاقرار يكون زيادة على النص المغيا فيه أن المدعى أحد الخصمين في دعوى العين لنفسه فيجوز له أن يأخذ المال بطريق الصلح من صاحبه كالمدعي عليه فانه لو وقع الصلح بينهما على أن يسلم العين إلى المدعى بمال

[ 141 ] يأخذه منه جاز ذلك بالاتفاق وتأثيره ان كل واحد منهما يدعى العين لنفسه وخبره في حقه محمول على الصدق وانما لا يكون حجة على خصمه ثم المدعى عليه انما يأخذ المال بطريق الصلح باعتبار قوله ان العين لي وانى أملكه من المدعى بما استوفي منه لا باعتبار يده (ألا ترى) أن المودع باعتبار يده بدون هذا القول لا يأخذ العوض عن الوديعة من المودع والمدعي قد وجد منه القول مثل ما وجد من المدعى عليه فكما يجوز للمدعي عليه أن يأخذ المال صلحا باعتبار قوله فكذلك يجوز للمدعى وفى هذا بيان أن المال عوض من المدعى في حق من يأخذه فان كانت قد انقطعت الخصومة في حق صاحبه ومثله جائز كمن اشترى عبدا أقر بحريته فما يعطى من الثمن بدل ملك الرقبة في حق البائع وهذا فداء في حق المشترى حتى يعتق العبد فهذا مثله ولان الصلح مع الانكار ابراء بعوض ولو أبرأه بغير عوض صح ذلك فكذلك إذا أبرأه بعوض كما لو صالح بعد الاقرار ومعنى ذلك أن المدعى يسقط حقه عن المال المدعى دينا كان أو عينا ثم انكار المدعى عليه لا يمنع صحة ابرائه بغير عوض حتى لو أبرأه عن الدين ثم أقر المدعي عليه بأنه كان واجبا كان الابراء صحيحا وهذا لان الابراء اسقاط والاسقاط يتم بالمسقط وحده وانما يحتاج إلى مراعات الجانب الآخر في التملكات فأما في الاسقاطات فلا كالطلاق والعتاق وهذا لان المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملك أحد ولهذا صح الابراء عن الدين قبل قبول المديون وان كان يرتد برده لتضمنه معنى التمليك ولكن ذاك تبع وانما يعتبر ما هو المقصود وهو الاسقاط فشرط صحته ثبوت الحق في جانب المسقط وذاك ثابت بخبره وانما لم يجعل الدعوى سببا للاستحقاق على الغير ثم بنفس الدعوى يستحق الجواب والحضور على المدعي عليه ويستحق اليمين بعد المعارضة بالانكار حتى يستوفى بطلبه واليه أشار رسول الله ﷺ بقوله لك يمينه فعرفنا ان جانب الصدق ترجح في حقه قبل المعارضة بالانكار وبعد المعارضة وانما لا يعطى بنفس الدعوى المال المدعى لما قال ﷺ لو أعطى الناس بدعواهم الحديث فإذا ترجح معنى الصدق في حقه ثبت الحق في جانبه فيملك التصرف فيه بالاسقاط وهذا النوع من الاسقاط مما يجوز أخذ العوض عنه كما بعد الاقرار فيأخذ المال بطريق الصلح عوضا عن اسقاط حق ثابت في حقه والمدعي عليه ليس يتملك شيئا فلا يشترط ظهور الحق في جانبه (ألا ترى) أن الزوج إذا خالع امرأته على مال مع أجنبي ضمنه أو من له القصاص إذا صالح مع أجنبي

[ 142 ] على مال ضمنه يصح ذلك ويستحق المال عوضا عن الاسقاط وان كان من يعطى المال لا يتملك به شيئا وأظهر من هذا كله صلح الفضولي فانه لو قال للمدعي ان المدعى عليه قد أقر معى سرا وأنت محق في دعواك فصالحني على كذا من المال وضمن له ذلك فصالحه صح الصلح بالاتفاق ومعلوم أن باقراره لا يثبت المال على المدعى عليه وانما صح هذا الصلح بطريق الاسقاط لظهور الحق في جانب المدعي دون المدعى عليه فكذلك إذا صالح مع المدعي عليه بل أولى لان المدعي عليه ينتفع بهذا الصلح والفضولي لا ينتفع به ووجوب المال عوضا عن الاسقاط على من ينتفع به أسرع ثبوتا منه على من لا ينتفع به (ألا ترى) انه لو خالع امرأته على مال وجب المال عليها وان لم يضمن بخلاف ما لو كان الخلع مع أجنبي (يقرره) أن الفضولي لا يتملك بهذا الصلح شيئا ثم يلزمه دفع المال عوضا عن الاسقاط فكذلك المدعى عليه إذا كان منكرا فهو لا يتملك بهذا الصلح شيئا ولكن يلزمه دفع المال عوضا عن الاسقاط كما لو التزمه وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله ان بدل الصلح كالمقر به يكون عوضا عن المدعى عليه ويصير المدعى عليه بالاقدام على الصلح كالمقر به لان القاضى يقول له أي ضرورة ألجأتك إلى الصلح وكان من حقك أن ترفع الامر الي لامنع ظلمه عنك فلما اخترت الصلح صرت كالمقر لما ادعى ولكن هذا اقرار ثبت ضمنا للصلح فإذا بطل الصلح بالاستحقاق يبطل ما كان في ضمنه كالوصية بالمحاباة لما ثبت ضمنا للبيع يبطل ببطلان البيع فلهذا يعود على رأس الدعوى ولما كان هذا الاقرار في ضمن الصلح لا يظهر حكمه في غير عقد الصلح واستحقاق الدعوى بالشفعة حكم وراء ذلك فلا يظهر في حقه كما لو كان الصلح مع فضولي ومنهم من يقول المدعى يستحق المال عوضا في حقه عن المدعى فأما في حق المدعى عليه فانه قد التمسه لان اليمين حق للمدعى قبله مستحق الهلاك علي ما بيناه في الدعوى فيكون بمنزلة القصاص والعفو عن القصاص على مال يأخذه صحيح فكذلك فداء المال باليمين صحيح نص عليه في الجامع الصغير قال ولو فدى يمينه بعشرة دراهم يجوز وذلك مروى عن حذيفة رضى الله عنه أن رجلا ادعى عليه مالا وطلب يمينه وقال لا تحلفني ولك عشرة فأبى فقال لا تحلفني ولك عشرون فأبى فقال لا تحلفني ولك ثلاثون فأبى فقال لا تحلفني ولك أربعون فأبى فحلف ومن هذا وقع في لسان العوام أن اليمين الصادقة يشترى بأربعين درهم فأما المودع إذا ادعى الرد فمحمد رحمه الله يقول بجواز الصلح هناك أيضا فداء لليمين وأبو يوسف رحمه الله لا يجوز ذلك لانه انما استفاد البراءة بمجرد

[ 143 ] قوله رددت وهو تسلط على ذلك من جهة المودع وانما اليمين لنفى التهمة (ألا ترى) انه لو مات قبل أن يحلف كان بريئا وهنا اليمين حق للمدعى قبل المدعى عليه لمعنى الاهلاك على ما قد قررنا فيجوز أخذ العوض عنها بهذا يتبين أن هذا ليس بأكل المال بالباطل ولكنه بمنزلة التجارة عن تراض على أحد الطريقين وهو ثبوت الاقرار في ضمن الصلح وعلى الطريق الآخر هو ليس بتجارة عن تراض ولا أكل بالباطل ولكن بذل مقيد بمنزلة الهبة والصدقة ونحوهما وفى الحقيقة الخلاف بيننا وبين الشافعي رحمه الله ينبنى على الابراء عن الحقوق المجهولة بعوض وهو لا يجوز عنده لان معنى التمليك يغلب في الصلح فيكون كالبيع وجهالة المبيع تمنع صحة البيع فكذلك جهالة المصالح عنه وعندنا ذلك جائز بعوض وبغير عوض واعتمادنا فيه ما روى أن النبي ﷺ لما بعث خالدا إلى بني جذيمة داعيا لا مقاتلا وبلغه ما صنع خالد أعطى عليا رضى الله عنه مالا وقال أئت هؤلاء القوم واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك وأدهم كل نفس ذا مال فأتاهم علي رضى الله عنه ووداهم حتى ميلغة الكلب فبقى في يده مال فقال هذا لكم مما لا تعلمونه أنتم ولا يعلمه رسول الله ﷺ ثم أتى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فقال صلوات الله عليه وسلامه أصبت وأحسنت فذلك تنصيص على جواز الابراء عن الحقوق المجهولة بعوض وقال رسول الله ﷺ للرجلين اللذين اختصما إليه اذهبا تحريا وأقرعا وتوخيا واستهما ثم ليحلل كل واحد منكما صاحبه وهذا ابراء عن الحق المجهول والدليل عليه أن الجهالة انما تؤثر لانها لا تمنع التسليم والمصالح عنه لا يحتاج فيه إلى التسليم فالجهالة فيه لا تمنع صحة الصلح ففى بيان قول أبى حنيفة رحمه الله أجوز ما يكون الصلح على الانكار قد طعن في هذا اللفظ بعض الناس وقال الاختلاف في الصلح على الانكار اختلاف ظاهر فكيف يكون المختلف فيه أجوز من المتفق عليه ولكنا نقول مراده انه أنفذ وألزم فالصلح مع الاقرار يفسد بأسباب لا يفسد الصلح مع الانكار بذلك السبب أو مراده انه أكثر ما يكون بين الناس لانه إذا وقع الاقرار استوفى المدعى حقه فلا حاجة إلى الصلح وانما الحاجة إلى ذلك عند الانكار ليتوصل به المدعى إلى بعض حقه أو مراده ان ثمرة الصلح قطع المنازعة وذلك عند الانكار أظهر لان مع الاقرار لا تمتد المنازعة بينهما والعقد الذى يفيد ثمرته يكون أقرب إلى الجواز مما لا يكون مفيدا ثمرته ثم الصلح على الاقرار تمليك مال بمال فيكون بيعا

[ 144 ] وهذا العقد اختص باسم فلابد لاختصاصه بالاسم من أن يكون مختصا بحكم وذلك الحكم لا يكون الا جوازه مع الانكار فهو معنى كلام أبى حنيفة رحمه الله ثم اعلم بأن ما وقع عليه الصلح يكون عوضا من المدعي في حق المدعى بمنزلة العوض في البيع فكل ما يصلح أن يكون عوضا في البيع يصلح أن يكون عوضا في الصلح وقد بينا ذلك في البيوع والمصالح عليه يحتاج إلى قبضه فلابد من اعلامه على وجه لا تبقى فيه منازعة بينهما ولهذا لا يثبت الحيوان فيه دينا في الذمة ولا يثبت الثياب فيه دينا الا موصوفا مؤجلا كما في البيع والمصالح عليه إذا كان عينا لا يجوز التأجيل فيه كما في البيع لا يجوز التأجيل في العين ثم الصلح عقد هو فرع فيعتبر بنظائره مما هو أصل حتى إذا كان على دين في الذمة فحكمه حكم اليمين في البيع وان كان على غير دين فحكمه حكم البيع وإذا كان على منفعة فحكمه حكم الاجارة وكل منفعة يجوز استحقاقها بعقد الاجارة يجوز استحقاقها بالصلح ومالا فلا حتى إذا صالح على سكنى ثبت بعينه إلى مدة معلومة يجوز وان قال أبدا أو حتى يموت لم يجز وكذلك ان صالح على أن يزرع له أرضا بعينها سنين مسماة يجوز وبدون بيان المدة لا يجوز كما في الاجارة ولو كان لرجل ظلة أو كتف شارع على طريق نافذ فخاصمه رجل فيه وأراد طرحه فصالحه من ذلك على عشرة دراهم كان الصلح باطلا ويخاصمه في طرحه متى شاء لان هذا الطريق النافذ حق جماعة المسلمين فلا يمكن واحد منهم أن يعتاض عنه شيئا فصاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح حق الاقرار لان لكل مسلم أن يخاصمه في طرحه والذي خاصمه كان محتسبا في ذلك فارتشى لترك الحسبة وذلك حرام وهذا لان من أصل أبى حنيفة رحمه الله ان لكل مسلم أن يمنع من وضع الظلة على طريق المسلمين وأن يطالب الرفع بعد الوضع سواء كان فيه ضرر أو لا ضرر فيه وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ان كان فيه ضرر فكذلك الجواب وان لم يكن فيه ضرر فلكل مسلم حق المنع في الابتداء وليس له أن يخاصم في الرفع بعد الوضع لانه قاصد إلى الاضرار بصاحب الظلة غير دافع الضرر عن المسلمين وقد روى عن أبى يوسف رحمه الله لا يمنع في الابتداء إذا لم يكن فيه ضرر كما لا يرفع بعد الوضع وأبو حنيفة رحمه الله يقول الطريق مشترك بين جميع الناس وكل واحد منهم بمنزلة الشريك في الطريق الخاص فكما لا يعتبر هناك الضرر في ثبوت حق المنع والرفع فكذلك هنا ولو كان على طريق غير نافذ فخاصمه رجل من أهل الطريق وصالحه على دراهم مسماة كان جائزا لان شركة

[ 145 ] أصحاب الطريق شركة ملك ولهذا يستحقون به الشفعة فهذا المصالح ملك نصيبه من صاحب الظلة وتمليك ما هو مملوك له بعوض صحيح فان قيل صاحب الظلة لا يستفيد بهذا الصلح شيئا لان لسائر الشركاء أن يخاصموه في الطريق قلنا لا كذلك بل يستفيد من حيث ان سائر الشركاء لو صالحوه أيضا لم يكن له أن يخاصمه في الطريق وهذا لانه بالصلح يتملك نصيبه فيصير كأحد الشركاء في وضع الظلة على هذه الطريق حتى إذا رضى شركاؤه بذلك كان له حق قرار الظلة وبعض المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله كان يقول تأويل هذه المسألة ان الظلة على ما هي على الطريق فالمصالح يصير مملكا نصيبه من وضع أصل البناء وذلك جائز فأما إذا لم يكن كذلك فينبغي أن لا يجوز لانه يصير مملكا نصيبه من هواء الطريق وتمليك الاهواء بعوض لا يجوز والاصح هو الاول لان هواء الطريق الخاص مشترك بينهم كأصل الطريق واسقاط الحق عن نصيبه من هواء الطريق بعوض صحيح كما يصح اسقاط الحق فيه بغير عوض ولو صالحه على مائة درهم على أن يطرح الظلة عن هذا الطريق كان جائزا لان فيه منفعة لاهل الطريق فكان المفيد للمال صالح عن نفسه ليوصل المنفعة إليهم بازالة الشاغل عن هواء طريقهم وذلك جائز وتأويل هذا ان الظلة كانت على بناء مبنى على الطريق وصاحب الظلة يدعى ملك ذلك الوضع لنفسه أو يدعى حق قرار الظلة بسبب صحيح فسقط حقه بما يأخذ من المال بطريق الصلح على الانكار وذلك جائز من أحد الشركاء عن نفسه وعن أصحابه بطريق التبرع كصلح الفضولي ولو ادعى حقا في دار في يدى رجل فصالحه من ذلك على خدمة عبد بعينه شهرا فهو جائز لان المصالح عليه مقدور التسليم معلوم فان مات العبد قبل أن يخدمه بطل الصلح لتحقق فوات المعقود عليه لا على عوض فيعود على رأس الدعوى وان مات بعد ما خدمه نصف الشهر كان على دعواه في النصف اعتبارا للبعض بالكل ولو قتله أجنبي فعلى قول أبى يوسف رحمه الله لا يبطل الصلح ولكن للمدعي الخيار ان شاء أبطل الصلح وعاد على رأس الدعوى وان شاء أمضى الصلح واشترى له بالقيمة عبدا آخر ليخدمه وقال محمد رحمه الله الصلح باطل وجه قوله ان الصلح على المنفعة بمنزلة الاجارة ولو قتل العبد المستأجر بطل عقد الاجارة فكذلك إذا قتل العبد الذي وقع الصلح علي خدمته وهذا لان حق المصالح في المنفعة والقيمة الواجبة على القاتل بدل العين لا بدل المنفعة فقد فات المعقود عليه لا إلى عوض وهو نظير موت العبد ولان الصلح عقد محتمل للفسخ ودفع الضرر عن

[ 146 ] المدعي ممكن بالاعادة إلى رأس الدعوي فلا حاجة بنا إلى أن نقيم بدل العين مقام بدل المنفعة في ايفاء هذا العقد بخلاف الوصية فان العبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية لان دفع الضرر عن الموصى له هناك غير ممكن باعادة عوضه إليه فلاجل الضرورة أقمنا بدل العين مقام بدل المنفعة ولان العبد من وجه كأنه موصى به ولهذا يعتبر خروجه من الثلث وأبو يوسف رحمه الله يقول المصالح ملك المنفعة بعقد يجوز أن يملك به العين فإذا هلكت العين وأخلفت بدلا لا يبطل الصلح كالعبد الموصى بخدمته إذا قتل لا تبطل الوصية ولكن يشتري بقيمته عبدا آخر ليخدم الموصي له بخلاف الاجارة وهى ملك المنفعة بعقد لا يجوز ان تملك به العين فلا يمكن اقامة بدل العين هناك مقام بدل المنفعة في الاستحقاق بحكم ذلك العقد وإذا كان العقد بحيث يجوز أن يملك به العين يمكن اقامة بدل العين فيه مقام بدل المنفعة في ايفاء العقد ثم الصلح على الانكار في معنى الوصية لانه ليس بازاء المنفعة بدل يستقر وجوبه باستيفاء المنفعة كما في الوصية بخلاف الاجارة فان قيل كيف يستقيم هذا والمصالح هناك له أن يؤاجر العبد من غيره وفى الوصية الموصي له بالخدمة لا يملك أن يؤاجره من غيره قلنا انما ملك ذلك لان الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعى وهو يزعم انه ملك المنفعة بعوض فالصلح على الانكار بمنزلة عقد المفاوضة فإذا تملك المنفعة به ملك أن يؤاجره من غيره وان كان لا يستقر وجوب البدل باستيفاء المنفعة كما إذا ملك المنفعة بالخلع أو النكاح أو الصلح عن القود * توضيحه ان هذا العقد من وجه يشبه الاجارة وهو ان المنفعة تملك بعوض ومن وجه يشبه الوصية وهو ان ياستيفاء المنفعة لا يستقر وجوب عوض فلشبهه بالاجارة قلنا يملك أن يؤاجره من غيره ولشبهه بالوصية قلنا لا يبطل بالقتل وتقوم قيمته مقام عينه لان المقصود بهذا العقد قطع المنازعة بينهما وذلك واجب بحسب الامكان ابتداء وبقاء لما في امتدادها من الفساد وانما أثبت الخيار للمدعى لحصول التغير لا في ضمانه فالمنفعة لا تدخل في ضمانه قبل الاستيفاء وعلى هذا لو كان القاتل هو المدعى عليه تجب القيمة أيضا لانه وان كان مالكا للعبد فالمصالح قد صار أحق به منه فهو في وجوب القيمة عليه بالقتل كأجنبي آخر عند أبى يوسف رحمه الله كالراهن إذا قتل المرهون أو الوارث إذا قتل العبد الموصى بخدمته وان كان المصالح هو الذى قتل العبد فهو على الخلاف أيضا لانه أجنبي من الرقبة فيلزمه من القيمة بالقتل ما يلزم غيره واختلف مشايخنا رحمهم الله في ثبوت الخيار للمصالح في هذا الفصل عند

[ 147 ] أبى يوسف رحمه الله فمنهم من يقول يثبت كما إذا قتله أجنبي آخر والا وجه أن لا يثبت لان التغيير حصل بفعله هنا وهو راض بفعله لا محالة وهذا على أصل أبى يوسف رحمه الله مستقيم فقد قال إذا جنى البائع على المبيع وهو في يد المشترى فهو غير ثابت لا محالة وهذا على أصل أبى يوسف رحمه الله لا يسقط به خيار المشترى بخلاف ما إذا جنى عليه غيره وعلى هذا لو صالحه على لبس هذا الثوب شهرا أو على أن يركب دابته هذه إلى بغداد فان هذه منفعة يجوز استحقاقها بالاجارة والوصية فكذلك بالصلح فان مات المدعى أو المدعى عليه وقد استوفى نصف المنفعة فانه يبطل الصلح بقدر ما بقى ويرجع في دعواه بقدره وهذا في قول محمد رحمه الله بناء على أصله ان الصلح على المنفعة كالاجارة والاجارة تبطل بموت أحد المتعاقدين وهذا لانه ان مات المدعى فلو أبقينا الصلح أدى إلى توريث المنفعة والمنفعة لا يجرى فيها الارث (ألا ترى) أن الموصى له بالخدمة إذا مات لا يخلفه وارثه في استيفاء المنفعة وأكثر ما فيه أن يجعل الصلح كالوصية وان مات المدعى عليه فالعين صارت لوارثه والمنفعة بعد ذلك تحدث على ملكه ويستحق عليه منفعة ملكه بغير رضاه فأما عند أبى يوسف رحمه الله فان مات المدعي عليه لم يبطل الصلح وان مات المدعى ففى سكنى الدار وخدمة العبد كذلك الجواب فأما في لبس الثوب وركوب الدابة يبطل الصلح وهذا الجواب عنه محفوظ في الامالى ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول تأويله إذا ادعى عبدا في يد غيره ثم صالحه على خدمته شهرا أو ادعى بيتا ثم صالحه على سكناه شهرا فان الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعى وفى زعمه انه يستوفى المنفعة بملكه الاصلي لا ان يتملكها بعقد الصلح بعوض فلا يبطل ذلك بموته ولا بموت المدعى عليه فأما إذا كان الصلح على خدمة عبد للمدعي عليه فينبغي أن يبطل بموت أحدهما كما ذكره في الكتاب مطلقا ومنهم من حقق الخلاف في الفصول كلها ووجه قول أبى يوسف رحمه الله ما ذكرنا أن المقصود بالصلح قطع المنازعة وفى ابطال هذا الصلح بموت أحدهما اعادة المنازعة بينهما فلوجوب التحرز عن ذلك قلنا بأنه يبقى الصلح بعد موت أحدهما لانه ان مات المدعى عليه فوارثه ينتفع بايفاء هذا الصلح مثل ما كان المورث انتفع به وهو سقوط منازعة المدعي فلو أبطلنا الصلح ربما لا يتمكن من تحصيل هذه المنفعة لنفسه بخلاف الاجارة وان مات المدعى فوارثه يقوم مقامه فيما لا يتفاوت الناس في استيفائه كخدمة العبد وسكنى البيت وربما لا يتمكن من تحصيل ذلك لنفسه بعقده فابطلنا الصلح فأما فيما يتفاوت الناس فيه كلبس الثوب وركوب

[ 148 ] الدابة لا يمكن اقامة الوارث فيه مقام المورث للضرر الذى يلحق المالك فيه ولم يرض بالتزامه فلهذا أبطلنا الصلح ويشبه هذا بالمنفعة إذا جعلت بدلا في الخلع أو الصلح من دم العمد والنكاح فانه لا يسقط الحق عنها بموت أحدهما ولكن يستوفى المنفعة أو بدلها بعد الموت على حسب ما تكلموا فيه فكذلك هنا وان صالحه على سكنى بيت فانهدم لم يبطل الصلح لان الاصل باق والانتفاع به من حيث السكنى ممكن الا أن تمام المنفعة بالبناء فإذا رضى المدعى عليه بأن يبنى البيت بماله فيه ليسكنه بقى الصلح بينهما ولكن للمدعى الخيار للتغيير وان شاء أبطل الصلح وعاد على دعواه وان شاء أمضى الصلح وهذا قولهم جميعا والجواب في اجارة البيت هكذا ولو صالحه من دعواه على كذا كذا ذراعا مسماة من هذه الدار لم يجز في قول أبى حنيفة رحمه الله وجاز في قولهما بمنزلة ما اشترى كذا ذراعا من الدار وقد بيناه في التبرع فان الصلح على عين يكون بمنزلة البيع وكذلك ان صالحه على كذا كذا جريبا من الارض ولو ادعى أذرعا مسماة في الدار فصالحه منها على دراهم مسماة كان جائزا عندهم جميعا لان جهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح كما لو ادعى حقا في دار ولم يسمه ثم صالح منه على شئ معلوم وهذا لان المصالح عنه لا يستحق تسليمه بالصلح فجهالته لا تفضى إلى المنازعة ولو ادعى كل واحد منهما في دار في يدى صاحبه حقا ثم اصطلحا على أن يسلم كل واحد منهما لصاحبه ما في يده بغير تسمية ولا اقرار فهو جائز لان كل واحد منهما قابض لما شرط له بالصلح فلا حاجة إلى التسليم والجهالة انما تمنع إذا كانت تفضى إلى منازعة مانعة من التسليم ولو ادعى رجل في أرض رجل دعوى فصالحه على طعام بعينه مجازفة فهو جائز لان الطعام المعين يجوز بيعه وان لم يكن معلوم القدر فكذلك الصلح عليه وكذلك لو صالح على دراهم بعينها بغير ذكر الوارث لان مثله يصلح ثمنا في البيع فيصلح بدلا في الصلح أيضا ولو صالحه على عبد بعينه لم يره فهو بالخيار إذا رآه لان المصالح عليه إذا كان عينا فهو كالمشترى بطريق البناء على زعم المدعى ولهذا يستحق بالشفعة لو كانت دارا ومن اشترى شيئا لم يره فهو بالخيار إذا رآه وكذلك الرد بالعيب في الصلح بمنزلة الرد بالعيب في البيع حتى يرد المصالح عليه بالعيب اليسير والفاحش بطريق البناء على زعم المدعي وإذا تعذر الرد بالعيب رجع بحصة العيب في الدعوى لان رأس ماله في حق المدعي عليه هو الدعوى والخصومة فكما ان عند الرد بالعيب يرجع في ذلك فكذلك عند تعذر الرد بالعيب من الدعوى ولو استحق نصف العبد من يده كان بالخيار فيما بقى لعيب

[ 149 ] التبعيض فان رد ما بقى كان على دعواه فان أمسك ما بقى منه كان على نصف دعواه اعتبارا لاستحقاق البعض بالكل ولو ادعى رجل في دار لرجل دعوى فصالحه عنه آخر بأمره أو بغير أمره بانكار أو اقرار فان ذلك جائز ولا شئ للمصالح من حقوق المدعى انما يكون ذلك للذى في يده الدار ولا يجب المال على المصالح الا أن يضمنه الذى صالحه لان الصلح على الانكار معاوضة باسقاط الحق فيكون بمنزلة الطلاق بجعل والعفو عن القصاص بمال وذلك جائز مع الاجنبي كما يجوز مع الخصم الا أن الأجنبي ان ضمن المال فهو عليه بالالتزام ولا يدخل في ملكه بازاء ما التزم شئ لان المسقط يكون متلاشيا ولا يكون داخلا في ملكه وان لم يلزمه المال بمطلق العقد ولكن ان كان الصلح بأمر المدعى عليه فالمال عليه لان الاجنبي يعبر عنه (ألا ترى) انه لا يستغنى عن اضافة العقد إليه وان كان بغير اذنه فهو موقوف على اجازته لان المال لم يجب للمصالح ولا يمكن ايجابه على المدعى عليه بغير رضاه والمدعى لم يرض سقوط حقه الا بعوض يجب له فيتوقف على رضا المدعى عليه ولو لم يكن في صلح الأجنبي الا العرف الظاهر وحاجة الناس إلى ذلك لان المدعي عليه يتحرز من قبول ذلك مخافة أن يجرى على لسانه ما هو اقرار لكان هذا كائنا لجواز هذا العقد فان صالحه على عبد بعينه فوجد به عيبا فرده أو استحق أو وجد حرا أو مدبرا أو مكاتبا عاد في دعواه ولم يكن له على المصالح شئ لان هذا الصلح لو كان مع المدعي عليه كان يبطل بهذه العوارض ويعود المدعي على دعواه فكذلك إذا كان مع الاجنبي وهذا لان العقد انفسخ بهذه الاسباب والتزام المصالح كان باالعقد فإذا انفسخ العقد عاد الحكم الذى كان قبله وهو خصومة المدعى مع المدعى عليه ولو صالحه على دراهم مسماة وضمنها له فدفعها إليه فاستحقت أو وجد منها زيوفا أو ستوقا فله أن يرجع بذلك على الذى صالحه دون الذى في يديه الدار كما لو كان هذا الصلح مع المدعى عليه وهذا لان المصالح التزم بالمال بالعقد دينا في ذمته حين ضمنه وبالرد بهذه الاسباب ينتقض القبض لا أصل العقد فيعود الحكم الذى كان قبل القبض وهو انه مطالب بتسليم المال بسبب التزامه في ذمته ولو صالحه على دراهم وضمنها ثم قال لا أؤديها أجبرته على أن يؤديها إليه لانه التزم بالضمان والزعيم غارم وشرط على نفسه أن يؤدى المال والوفاء بالشرط لازم خصوصا إذا كان الشرط في عقد لازم ولو لم يكن ضمنه لم يكن عليه شئ ولكن الصلح موقوف عليه فان قبل لزمه المال وان رد فالصلح باطل ولو ادعى في دار رجل حقا فصالحه

[ 150 ] على دراهم ودفعها إليه ثم استحقت الدار من يد المدعي عليه كان له أن يرجع بدراهمه لان هذا الصلح مبنى على زعم المدعي وفى زعمه انه أخذ الدراهم عوضا عن الدار فإذا استحقت كان عليه رد المقبوض من البدل كالمبيع إذا استحق وان جعلناه مبنيا على زعم المدعي عليه ففى زعمه أنه أعطى المال بغير عوض وان له حق الاسترداد وكذلك لو صالح عنه غيره وضمن المال رجع المصالح بدراهمه لان بعد الاستحقاق ثبوت حق الرجوع بسبب أداء المال وانما يثبت لمن أدى ولو استحق نصفها أو ثبت معلوم فيها أو جميعها الا موضع ذراع لم يكن للمصالح أن يرجع بشئ من الدراهم لانى لا أدرى لعل دعواه فيما بقى دون ما استحق وهذا الصلح مبني على زعم المدعى وهو يتمكن من أن يقول انما كان حقي ما بقى وقد صالحتك عنه فلهذا لا يرجع بشئ من الدراهم بخلاف ما إذا استحق جميع الدار وان ادعى في بيت في يدى رجل دعوى فصالحه من ذلك على أن يبيت على سطحه سنة فهو جائز لان في زعم المدعي انه يستوفى ملك المنفعة باعتبار ملك الاصل ولم يذكر ما إذا صالحه على أن يبيت آخر بعينه سنة والجواب في ذلك انه يجوز أيضا لما استشهد به فقال (ألا ترى) انه لو استأجره جاز وقد بينا أن ما يستحق من المنفعة بعقد الاجارة يجوز استحقاقه بعقد الصلح قال الحاكم رحمه الله وقد تأوله بعض مشايخنا رحمهم الله على السطح المحجر لانه إذا كان بهذه الصفة فهو موضع السكنى عادة فيجوز استئجاره لمنفعة السكنى قال رضي الله عنه والاصح عندي أنه يجوز على كل حال لان السطح مسكن كالارض ولو استأجر أرضا معلومة من الارض لينزل فيه مدة معلومة جاز فكذلك السطح وهذا لانه يتمكن من السكنى عليه بنصب خيمة فيه أو نحوها ولو ادعى نصف الدار وأقر بأن نصفها لذى اليد فصالحه ذو اليد على دراهم مسماة ودفعها إليه ثم استحق نصف الدار رجع عليه بنصف الدراهم لان في زعم المدعى أن الدار كانت بينه وبين المدعى عليه نصفين والمستحق نصف شائع فيكون من النصيبين وبه تبين انه استحق نصف ما وقع الصلح عليه فيرجع بنصف الدراهم لو كان المدعى لم يقر لذى اليد بحق فيها أو قال نصفها لى ونصفها لفلان وقال المدعي كذبت بل نصفها لي والنصف الآخر لا أدرى لمن هو أو قال كلها لى ونصفها لفلان لم يرجع عليه بشئ من الدراهم لانه لم يستحق شيأ وقع الصلح عنه بزعم المدعى فهو يقول انما صالحت عن النصف الذى بقى في يدك وقد بينا أن الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعى وإذا كانت الدار وديعة في يد المدعى فصالح المدعى من

[ 151 ] دعواه فيها على شئ لم يرجع به على المودع لانه كأجنبي آخر في التزام المال بالصلح فقد كان متمكنا من أن يثبت بالبينة انه مودع فيها لتندفع الخصومة عنه الا أن يكون أمره بذلك فحينئذ يرجع عليه لانه عامل له بأمره فيرجع عليه بما يلحقه من العهدة وإذا صالح الرجل من دعواه في دار لم يعاينها الشهود ولا عرفوا الحدود أو صالحه من دعواه في دار بغير عينها ثم خاصمه في دار وزعم أنها غير التى صالحه عنها وقال المدعى عليه هي تلك تحالفا وترادا الصلح وعادا في الدعوى لان الصلح عقد محتمل للفسخ بالاقالة فإذا اختلفا في عين ما تناوله العقد تحالفا وترادا كالمتبايعين إذا اختلفا في عين المبيع ولو أن دارا في يدى ورثة ادعى رجل فيها حقا وبعضهم غائب فصالح الشاهد منهم المدعي على شئ مسمي من جميع حقه فهو جائز لانه في حصة شركائه متبرع بالصلح وقد ذكرنا ان صلح المتبرع جائز إذا التزم العوض والدار الموروثة على حالها لان المدعى مسقط لحقه بما يأخذ من العوض غير متملك شيئا ممن يأخذ منه العوض فلا يرجع هذا الصلح عليهم بشئ لانهم لم يأمروه بدفع شئ ولو كان صالح على أن يكون حقه له خاصة دون الورثة فهو جائز أيضا لان المدعى يملك ما يدعيه لنفسه من الذى يصالحه بما يستوفى من العوض والصلح مبنى على زعمه فيجوز ثم يقوم هذا المصالح مقام المدعى فيما بينه وبين شركائه على حجة المدعى فان أثبت له ملك شئ معلوم بالحجة ثبت ملكه في ذلك بالشراء وإذا لم يكن له بينة فله أن يرجع على المدعي بحصة شركائه التى لم يسلم له لان المدعى عاجز عن تسليم ذلك إليه والصلح مبنى على زعمه فيتحقق عجزه عن التسليم في ذلك القدر فيبطل الصلح فيه ويرجع بما يقابله من البدل (ألا ترى) أن رجلا لو ادعي دارا في يدى رجل فصالحه رجل منها على عبد على أن تكون الدار له ثم خاصمه الذى في يديه الدار فلم يظفر بشئ كان له أن يرجع على المدعى بالعبد أو بقيمته ان كان هلك عنده لان العقد ينفسخ بينهما لتعذر تسليم المعقود عليه بزعمهما ولو أن رجلين ادعيا دارا في يدى رجل وقالا ورثناها عن أبينا وجحدهما الرجل ثم صالح احدهما عن حصته من هذه الدعوى على مائة درهم فأراد شريكه أن يشركه في هذه المائة لم يكن له ذلك لان الملك لو كان ظاهرا لهما في الدار فباع أحدهما نصيبه لم يكن للآخر أن يشاركه في ثمنه فكذلك إذا صالح احدهما من نصيبه مع انكار ذى اليد وليس للآخر أن يأخذ من الدار شيئا الا أن يقيم البينة لان ذا اليد بقبوله الصلح مع الانكار لا يصير مقرا بحق المصالح فيما صالحه عنه فكيف يصير

[ 152 ] مقرا بحق غيره فيما لم يقع الصلح عنه وذكر ابن رستم رحمه الله في نوادره أن أبا يوسف رحمه الله قال يشاركه وقال محمد رحمه الله لا يشاركه وجه قول أبى يوسف رحمه الله ان المصالح يزعم انه يأخذ بجهة الميراث عن أبيه ولهذا كان مصروفا إلى دين الاب لو ظهر عليه دين ولا يختص أحد الابنين بشئ من ميراث الاب فللآخر حق المشاركة معه في المقبوض باعتبار زعمه ولو صالح أحدهما من جميع دعواهما على مائة درهم وضمن له تسليم أخيه فان سلم الاخ ذلك له جاز وأخذ نصف المائة لان الصلح في نصيب أخيه كان موقوفا على اجازته فإذا أجازه جاز ويجعل كأنهما باشرا الصلح فالبدل بينهما نصفان وان لم يجز فهو على دعواه ورد المصالح على الذى في يديه الدار نصف المائة لان الصلح قد بطل في نصيب أخيه برده ولو ادعى دارا في يدى رجل فقال هي لي ولاخوتي فأقر ذو اليد بذلك ثم اشترى منه نصيبه لم يكن لاخوته أن يشاركوه في شئ من الثمن لانه انما يأخذ العوض عن نصيبه خاصة وأبو يوسف رحمه الله يفرق بين هذا وبين الصلح فيقول هنا بقية الورثة يتمكنون من أخذ نصيبهم من الميراث أو أخذ العوض عنه بالبيع فالقول بقطع الشركة لا يؤدى إلى تخصيص بعض الورثة في بدل شئ من الميراث بخلاف الصلح على ما قررنا ولو ادعى دارا في يدى رجل فاصطلحا فيها على أن يسكنها ذو اليد سنة ثم يدفعها إلى المدعي فهذا جائز بمنزلة ما لو اصطلحا على أن يسكنها المدعى سنة ولم يسلمها لذي اليد وهذا في جانب المدعى ظاهر لانه يزعم أن رقبتها ومنفعتها له فهو بهذا الصلح يبطل ملكه عن رقبتها ويبقى ملكه في مقدار ما شرط لنفسه من المنفعة فانما يستوفى ذلك بحكم ملكه وذلك جائز وكذلك ان كان يستوفيها بحكم عقد الصلح كما لو صالحه على سكنى دار أخرى سنة وأما في حانب المدعى عليه ففيه بعض اشكال لانه يزعم ان رقبتها ومنفعتها له وانه يملكها من المدعى بعد سنة والتمليك لا يحتمل التعليق بالشرط ولا الاضافة ولكنا نقول هذا الصلح مبنى على زعم المدعى وفى زعمه أنه يعيرها من ذى اليد سنة ثم يأخذها منه والمدعى عليه يجعل مملكا رقبتها منه في الحال مبقيا منفعتها سنة على ملكه وهو انما يستوفى بحكم ملكه وذلك جائز (ألا ترى) أن من أوصى لغيره بسكنى داره سنة ثم مات صارت الدار لورثته وبقيت السكنى على حكم ملك الموصى يستوفيها الموصي له باخلائها له وكذلك لو باع الدار المؤجرة والمشترى يعلم بالاجارة فانه يملك رقبتها وتبقي منفعتها على حق البائع حتى يتملكها المستأجر عليه بالاستيفاء ويكون الاجر للبائع فهذا مثله وان كان

[ 153 ] للمدعى فيها شركاء لم يجز صلحه علهيم وهم علي حجتهم في اثبات أنصبائهم لانه لا ولاية للمدعى عليه على شركاء المدعى لتملك انصبائهم منه وكذلك لو كان هذا الصلح في أرضه على أن يزرعها ذو اليد خمس سنين على أن رقبتها للمدعى فهو جائز لما قلنا. ولو اشترى دارا فاتخذها مسجدا ثم ادعى رجل فيها دعوى فصالحه الذى بنى المسجد والذين بين أظهرهم المسجد فهو جائز لانهم ينتفعون بهذا الصلح ولو صالحه من لا ينتفع به كالفضولى والتزم المال كان الصلح جائزا فإذا صالحه من ينتفع به كان إلى الجواز أقرب وكذلك لو باع الدار أو وهبها لابن صغير أو جعلها مقبرة أو غيرها عن حالها ثم صالح عنها المدعى فهو فيما يلتزم من المال بالصلح لا يكون دون فضولي فيجوز ذلك منه وإذا أنكر المدعى عليه دعوى المدعى بعد الاقرار ثم صالحه جاز الصلح لانه لا معتبر بانكاره بعد الاقرار فهذا صلح على الاقرار وهو جائز بالاتفاق وان أنكر في الابتداء وصالح ثم أقر أنه كان محقا في دعواه فالصلح ماض وهو آثم بالجحود لكونه كاذبا فيه ظالما ولكن الصلح من المدعى اسقاط لحقه بعوض وقد بينا أن جحود الخصم لا يمنع صحة الاسقاط من المسقط بغير عوض (ألا ترى) أن الطالب لو أبرأ المديون وهو جاحد للدين كان ابراؤه صحيحا فكذلك جحوده لا يمنع صحة الاسقاط بعوض وهذا لان الاسقاط تصرف من المسقط في حقه (ألا ترى) ان انكار المرأة للنكاح لا يمنع صحة الطلاق من الزوج بعوض كان أو بغير عوض وكذلك انكار القاتل لا يمنع صحة العفو من الولى لهذا المعنى ولو ادعى دارا في يد رجل فصالحه منها على خدمة عبد سنة ثم أعتقه صاحبه جاز عتقه لان العبد باق على ملكه وان صارت خدمته للمدعى واعتاقه في ملك نصييه نافذ كالوارث إذا أعتق العبد الموصى بخدمته نفذ وكان صاحب الخدمة على حقه لان خدمته صارت مستحقة له بعقد لازم والعتق لا ينافى بقاءها ولو أعتقه المدعى لم ينفذ عتقه لانه مالك للخدمة ونفوذ العتق باعتبار ملك الرقبة وهو من رقبته كأجنبي آخر فلا ينفذ عتقه لقوله ﷺ لا عتق فميا لا يملك ابن آدم ولو أن رب العبد باعه لم يجز بيعه لانه عاجز عن تسليمه فلا ينفذ بيعه فيه لحق صاحب الخدمة كالاجر إذا باع العبد المؤجر أو الوارث إذا باع العبد الموصى بخدمته أو الراهن إذا باع المرهون ولصاحب الخدمة أن يؤجره للخدمة لما بينا أنه ملك خدمته بعقد معاوضة فهو كالمستأجر يملك أن يؤاجر قال وله أن يخرج بالعبد من المصر إلى أهله وقد ذكرنا في كتاب الاجارات أن من استأجر

[ 154 ] عبدا ليخدمه فليس له أن يسافر به (قال رضي الله عنه) وكان شيخنا رحمه الله يقول تأويل ما قال في كتاب الصلح ان أهل المدعى إذا كانوا في بعض القرى القريبة من المصر والمدعى عليه يعلم ذلك أو كان هو على جناح السفر والرجوع إلى أهله وقد علم ذلك المدعى عليه فحينئذ يكون هو راضيا باخراجه العبد إلى أهله لان الانسان انما يستخدم العبد في أهله وتأويل ما قال في كتاب الاجارات انه إذا لم يكن ذلك معلوما للآجر عند عقد الاجارة فلا يكون راضيا باخراج العبد وتكليفه خدمة السفر لان الخدمة في السفر أشق منها في الحضر (قال رحمه الله) والذى يتراءى لى من الفرق بين الفصلين ان في باب الاجارة مؤنة الرد على الآجر بعد انتهاء العقد لان المنفعة في النقل كانت له من حيث انه يقر حقه في الاجر والمستأجر إذا سافر بالعبد فهو يريد ان يلزم المؤاجر ما لم يلزمه من مؤنة الرد فأما هنا فمؤنة الرد ليست على المدعى عليه لانه زعم انه يملك الخدمة بغير شئ فهو كالموصي له بالخدمة فان مؤنة الرد عليه دون الوارث فالمدعى هنا باخراجه إلى أهله يلتزم مؤنة الرد لا ان يلزم المدعى عليه شيئا فلهذا كان يخرجه ولو ادعى رجل في حائط رجل موضع جذوع أو ادعي في داره طريقا أو مسيل ماء فجحده ثم صالحه على دراهم معلومة جاز لان المصالح عليه معلوم وجهالة المصالح عنه لا تمنع صحة الصلح فان تسلمه بالصلح لا يصير مستحقا ولو ادعي رجل حقا فصالحه من ذلك على طريق في داره أو على مسيل ماء أو على أن يضع على حائط من داره جذعا فالصلح على الطريق جائز لان المصالح عليه إذا كان عينا فهو كالمبيع وبيع الطريق جائز لان المصالح عليه إذا كان مما لا يقع فيه منازعة يجوز وبيع المسيل لا يجوز لانه مجهول فان كان مسيل ماء الميزاب فذلك يختلف بقلة المطر وكثرته والضرر بحسبه يختلف وان كان مسيل ماء الوضوء فذلك يختلف أيضا بقلة الحاجة إليه وكثرتها فكذلك بيع موضع الجذع من الحائط لا يجوز للجهالة فاستئجار الحائط لوضع الجذع عليه لا يجوز أيضا وقد بينا أن من لا يستحق بالبيع والاجارة فالصلح عليه لا يجوز ولو صالحه على شرب نهر شهرا لم يجز لان بيع الشرب بدون الارض جائز فكذلك الصلح عليه لان ما هو المقصود يختلف بقلة الماء وكثرته وجريان أصل الماء في النهر على خطر ومقداره غير معلوم ولو صالحه على ان يسيل ماء فيها لم يجز لان مقدار ذلك لا يستحق بالاجارة فكذلك لا يستحق بالصلح عليه بخلاف ما إذا صالحه على عثر نهر بأرضه أو على عثر بئر أو عين فالمصالح عليه هنا جزء معلوم رقبة

[ 155 ] النهر واستحقاقه بالبيع جائز فكذلك بالصلح عليه وكذلك لو ادعى عثر نهر أو بئر فصالحه منها على مال معلوم فهذا إلى الجواز أقرب ولو ادعى في دار في يد رجل دعوى فصالحه من ذلك على عبد ومائة درهم وقيمة العبد مائة درهم ثم استحق العبد رجع في نصف دعواه لانه لو استحق جميع ما وقع الصلح عليه بطل الصلح في الكل وعاد على رأس الدعوى فكذلك إذا استحق نصف ما وقع الصلح عليه وان كان الذي في يديه الدار أخذ من المدعى ثوبا رجع المدعي في نصف الدعوي ونصف الثوب لان من جانب المدعى شيئين المدعى وهو مجهول والثوب وهو معلوم والمعلوم إذا ضم إلى المجهول فلا طريق إلى الانقسام سوى المناصفة والمدعى عليه بدل المائة والعبد فكان بازاء العبد نصف الثوب ونصف المدعى بازاء المائة فكذلك عند استحقاق العبد يرجع المدعى بما يقابله وهو نصف الدعوى ونصف الثوب ولو كان استحق الثوب رجع الذى في يديه الدار بحصة الثوب من قيمة العبد والدراهم ثم ينظر كم ادعى من الدار فيعود ذلك ان كان معلوما ويقوم الثوب فان كانت قيمتهما سواء رجع بنصف العبد ونصف المائة لان الثوب والمدعى من جانب المدعى فيتوزع عليهما المائة والعبد فإذا استوفى القيمة كان بمقابلة الثوب ونصف المائة وقد استحق الثوب فيرجع بما يقابله وان اختلفا في قدر الحق في الدار فقال الطالب كان لى نصف الدار وقال المدعى عليه بل كان لك عشرها فالقول قول الذى الدار في يديه مع يمينه لانكاره الزيادة وأصل المدعي وهو الدار والصلح كان باعتباره فإذا وقعت الحاجة إلى معرفة مقداره كان القول قول المنكر مع الزيادة (ألا ترى) أنه لو باع من رجل طعاما بمائة درهم ودفعها وقبض الطعام ثم وجد به عيبا فرده فقال البائع كان طعامي الذى بعتك كر حنطة وقال الرجل كان نصف كر فالقول قول المشترى مع يمينه ومعنى هذا الاستشهاد أن الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعي وفي زعمه أن المدعى عليه اشترى منه نصيبه من الدار بما أعطاه من بدل الصلح فإذا وقع الاختلاف في مقدار المشترى جعل القول قول المشترى كما في مسألة الطعام وكذلك لو اشترى شقصا في دار بعبد فاستحق العبد فقال الذي قبض الشقص كان المبيع ثلث الدار وكان للآخر نصف الدار فالقول قول الذى في يديه الدار لان الاختلاف بينهما في مقدار المشترى فالحاصل أن المشترى قابض للمشترى بالعقد ومتى وقع الاختلاف في مقدار المقبوض يجعل القول قول القابض لانه لو أنكر القبض أصلا كان القول قوله فكذلك إذا أنكر قبض

[ 156 ] الزيادة ولو كانت دار في أيدى ثلاثة نفر في يد كل واحد منهم منزل منها وساحتها على حالها واختصموا فيها فلكل واحد منهم ما في يده والساحة بينهم أثلاثا لان ما في يد كل واحد منهم الظاهر يشهد له والبناء على الظاهر واجب ما لم يتبين خلافه وحقهم في الساحة على السواء لان كل واحد منهم مستعمل للساحة في حوائجه وللاستعمال يد فلهذا قضي بالساحة بينهم أثلاثا فان اصطلحوا قبل أن يقضى بينهم على أن لفلان نصف الساحة وكل واحد من الآخرين ربعها فهو جائز لانه صلح عن تراض فيما لا يتمكن فيه معنى الربا فيجوز كيفما اتفقوا عليه وكذلك ان اشترط أحدهم لنفسه نصف المنزل الذى في يد صاحبه جاز لان ذا اليد يصير مملكا نصف منزله منه بعوض معلوم وذلك صحيح قل العوض أو كثر ولو كانت الدار في يد رجل منها منزل وفى يد آخر منزل وقال أحدهما الدار بيني وبينك نصفان وقال الآخر بل هي كلها لى فللذى ادعى جميعها ما في يده ونصف ما في يد صاحبه والساحة بينهما نصفين لان صاحبه يدعي النصف من جميع الدار شائعا فيكون مدعيا نصف كل جزء بعينه من الدار والقول للذى في يده جزء معين منها فهو يدعى نصف ذلك ولا مدعى للنصف الآخر سوى من يدعى جميعها ولا منازع له في ذلك فيأخذ نصف ما في يده والساحة كذلك موضع معين منهما في يد كل واحد منهما نصفه شائعا فمدعى النصف مدع جميع ما في يده من الساحة فالقول في ذلك قوله فلهذا كانت الساحة بينهما نصفين والمنزل الذي في يد مدعي الجميع صاحبه يدعى نصفه ولا يستحق ما في يد الغير بمجرد الدعوى ما لم يقم البينة وذو اليد يدعى جميع ذلك المنزل فلهذا كان له جميع ما في يده فان اصطلحوا قبل القضاء على أن تكون الدار بينهما نصفين أو على الثلث والثلثين فهو جائز لوقوع الاتفاق والتراضي على شئ معلوم وكذلك لو اصطلحوا بعد القضاء فهو جائز بطريق التمليك من كل واحد منهما من صاحبه بعد ما قضى له به بعوض ولو كان أحدهما نازلا في منزل من الدار والآخر في علو ذلك المنزل وادعى كل واحد منهما جميعها فلكل واحد منهما ما في يده والساحة بينهما نصفان لان العلو مسكن على حدة كالسفل فيهما كبيتين من الدار أحدهما متصل بالآخر وقد بينا في البيتين والمنزلين ان لكل واحد منهما ما في يده والساحة بينهما نصفان لثبوت يدهما عليها بالاستعمال ولا يقال الساحة أرض من جنس حق صاحب السفل فينبغي أن يكون هو أولى بها لان ثبوت اليد لا تكون بالمجانسة بل بالاستعمال وصاحب العلو مستعمل لها كصاحب السفل فان

[ 157 ] اصطلحا قبل القضاء أو بعده على أن لصاحب السفل العلو ونصف الساحة ولصاحب العلو السفل ونصف الساحة جاز لوجود المبادلة بينهما في العلو والسفل بالتراضى والساحة بينهما نصفان كما هو قضية الحكم وإذا كان الحائط بين دارى رجلين وكل واحد منهما يدعى أنه له ولكل واحد منهما عليه جذوع وجذوع أحدهما أكثر من جذوع الآخر كان للآخر أن يزيد في جذوعه حتى تكون جذوعه مثل جذوع صاحبه لان يد كل واحد منهما ثابتة على الحائط وانه مستعمل له بوضع حمل مقصود عليه ينبنى الحائط لاجله فان الحائط تبني لوضع ثلاثة جذوع عليه كما يبنى لوضع عشرة من الجذوع عليه فكان الحائط بينهما نصفين لاستوائهما في اليد عليه ولاحد الشريكين أن لا يسوى نفسه بصاحبه في الانتفاع بالملك المشترى وللمساواة هنا طريقان اما رفع فضل جذوع صاحبه أو بأن يزيد في جذوعه والرفع غير ممكن بهذا النوع من الظاهر لان الظاهر حجة لدفع الاستحقاق على الغير وكان له أن يزيد في جذوعه حتى تكون جذوعه مثل جذوع صاحبه ولكن هذا إذا كان الحائط يحتمل ذلك فان كان لا يحتمل فالوضع يكون بمنزلة هدم الحائط وليس له أن يهدم الحائط المشترك وقد تقدم بيان هذه الفصول وما فيها من اختلاف الروايات في كتاب الدعوى والاقرار وليس لواحد منهما أن يبنى على هذا الحائط ويفتح فيه كوة وجمعه كوى ولا بابا لان أصل الحائط مشترك بينهما وفتح الباب والكوة يكون رفعا لبعض الحائط وهو لا يتمكن من أن يرفع جميع الحائط بغير رضا صاحبه فكذلك لا يتمكن من رفع البعض وهذا لان فتح الباب والكوة يوهن البناء ويظهر أثر ذلك في الثاني ان كان لا يظهر في الحال ولا كذلك بناء الحائط عليه لان فيه وضع حمل زائد على حائط مشترك وفيه ضرر على الحائط لا محالة ولو أراد أن يبنى في حائط ساحة مشتركة لم يملك ذلك بغير أذن صاحبه فهذا أولى ولو اصطلحا على أن يكون الحائط بأصله لاحدهما وعلى أن يكون للآخر موضع جذوعه وعلى أن يبنى عليه حائطا مسمى معروفا يحمل عليه جذوع علو مسمى فهو باطل لانه انما يستحق بالصلح ما يجوز استحقاقه بالبيع أو الاجارة ومثل هذا لا يصير مستحقا بالبيع والاجارة لمعنى الجهالة على ما قررنا فكذلك لا يجوز أن يقع عليه الصلح وإذا اختصما في حائط وكان مخوفا فاصطلحا على أن يهدماه أو على أن يبنياه على أن لاحدهما ثلثه وللآخر ثلثيه فالنفقة عليهما على قدر ذلك وعلى أن يحملا عليه من الجذوع قدر ذلك فهو جائز لانهما تراضيا على

[ 158 ] ما هو معلوم في نصيبه على ما يجوز أن يكون مبيعا فكذلك الصلح عليه ولو كان بيت في يد رجل له سطح فادعى رجل فيه دعوى فاصطلحا على أن يكون البيت لاحدهما ويكون سطحه للآخر فهذا لا يجوز إذ سطحه لا بناء عليه وبيعه لا يجوز فانه بيع الهواء فكذلك لا يجوز الصلح عليه وقد ذكرنا قبل هذا انه لو صالح على أن يبيت على سطح سنة فهو جائز فمن حمل ذلك الجواب على سطح محجر فهو لا يحتاج إلى الفرق بين الفصلين والفرق أن هناك المصالح عليه السطح دون المنفعة فإذا لم يكن عليه بناء فهو عبارة عن الهواء وهو لا يملك بالصلح كما لا يملك بالبيع ولو كان عليه بناء أو حجزة فاصطلحا على أن يكون لاحدهما علوه وللآخر سفله جاز لان كل واحد من البيتين يجوز استحقاقه بالبيع فكذلك بالصلح عليه ولو كانت دار في يد قوم في يد كل واحد منهم ناحية منها فاختصموا في درج فيها معقود بازج سفلها وهو في يد أحدهما وظهر الدرج طريق للآخر إلى منزله فانه يقضى بالدرج كلها لصاحب السفل لان الظاهر شاهد له فانها في يده غير ان لصاحب العلو طريقا عليها على حاله لان صاحب اليد بالظاهر يدفع الاستحقاق ولا يستحق ابتداء وقد عرفنا طريق صاحب العلو على هذا الدرج فلا يكون له أن يمنعه طريقه بالظاهر كما لو كان لانسان حائط وللآخر عليه جذوع فان كان متصلا ببناء أحدهما اتصال وضع فاختلفا فيه فالحائط لصاحب الاتصال ولكن تترك جذوع الآخر على حالها لانه بالظاهر لا يستحق رفع جذوع الآخر ولو كان روشن على رأس هذه الدرجة منهم من يقول روشنى وهو على منزل صاحب السفل وهو طريق لصاحب العلو وعرف ذلك فاختصموا فيه فالروشن كله لصاحب العلو لا السفل لانه بمنزلة سقف منزله فيكون في يده ولكن صاحب العلو المحجر عليه على حاله لما بينا أن بالظاهر لا يمنعه الممر الذى كان معروفا له ولو كان بيت سفل في يد رجل وبيت علو عليه في يد آخر فسقف السفل وهواديه وجذوعه وبواريه كله لصاحب السفل لان صاحب السفل مستحق للبيت والبيت انما يكون بيتا بسقف والظاهر أن الذى يبنى البيت يجعله مسقفا ولصاحب العلو سكناه في ذلك كله لانه بالظاهر لا يمنعه ما كان معلوما بالسكنى فكذلك الدرج والروشن ولو اصطلحا على أن يكون الدرج والروشن بينهما نصفين جاز ذلك قبل القضاء وبعده لتراضيهما عليه ولو أن بيتا في يد رجل وفوقه بيت في يد آخر وكل واحد منهما مقر لصاحبه بما في يده فوهى البنيانان جميعا فاصطلحا على أن ينقض كل واحد بيته على

[ 159 ] مثل ما كان عليه فهو جائز لانهما اصطلحا على ما يوافق الشرع فان على كل واحد منهما اصلاح ملكه شرعا ويؤمر صاحب السفل بالبناء هنا لانه هدم بناء السفل ولو هدمه بغير شرط أجبر على بنائه لحق صاحب العلو فإذا كان عن شرط فهو أولى بخلاف ما إذا سقط بناء السفل فانه لا يجبر صاحب السفل على بنائه لانه يلحقه فيه مؤنة لم يرض بالتزامها ولكن يبنى صاحب العلو السفل ثم يبنى عليه علوه ولا يسكنه صاحب السفل حتى يؤدى إليه قيمة البناء وقد بينا هذا في الدعوى وإذا كان لرجل نخلة في ملكه فخرج سعفها إلى ملك غيره فأراد الآخر قطع سعفها فله ذلك لانه شاغل لهواء ملكه وكان له أن يطالبه بالتفريغ فهذا مثله الا أنه انما يتمكن من قطعه إذا كان لا يتمكن صاحب النخلة من أن يجوز إلى هواء ملكه فان كان يتمكن من ذلك امره به لان مقصوده تفريغ هواء ملكه وذلك يحصل بهذا الطريق فليس له أن يلحق الضرر لصاحب النخلة في قطع سعفها فان صالحه رب النخلة على أن يترك السعف على دراهم مسماة لم يجز لان هذا لا يجوز استحقاقه من هواء ملك الغير بالبيع والاجارة فكذلك لا يجوز استحقاقه بالصلح وهذا لانه تمليك جزء من الهواء بعوض وهو غير معلوم في نفسه إذ أن السعف يطول بمضي الوقت. ولو أن نهرا بين قوم فاصطلحوا على كريه أو بوضع ممشاة أو قنطرة عليه على أن يكون النفقة عليهم بحصصهم فهذا جائز كله عليهم لانهم يجبرون على ذلك لو لم يصطلحوا إذا كان فيه ضرر عام فان رفع الضرر واجب فإذا اصطلحوا كان إلى الجواز أقرب فان كان بحيث لا يضرهم تركها ففى القنطرة والممشاة لا يجبرون على ذلك لانه تدبير في الملك وهو مفوض إلى رأى الملاك وانما يجبرون على ازالة الضرر العام فما ليس فيه ضرر عام لا يجبرون عليه وأما الكرى فانى أجبر عليه لان في تركه ضررا عاما فان للناس في النهر حق السقى فيتضررون بانقطاع ذلك عنهم ولا يصل إليهم ملك المنفعة الا بالكرى وللامام أن يجبر الشركاء فيه على الكرى وتمام هذا في كتاب الشرب. ولو ادعى زرعا في أرض رجل فصالحه من ذلك الزرع علي دراهم فهو جائز لانه صلح على الانكار وقد بينا أن المدعي بنفس الدعوى صار حقا للمدعى في جواز الاعتياض عنه ولم يعارضه المدعي عليه بانكاره فلا يبطل عليه هذا الحق بمعارضته اياه بانكاره لان ذلك ليس بحجة في حق المدعى في ابطال حقه وكذلك لو ادعى نصفه وان كان بيع نصف الزرع قبل الافراك يجوز لان امتناع جواز البيع لما على البائع من الضرر في التسليم وهذا لا يوجد هنا ولان النصف

[ 160 ] الاخر من الزرع لصاحب الارض وبيع نصف الزرع من شريكه قبل الادراك جائز ولو كانت أرض لرجلين فيها زرع لهما فادعاه رجل فجحداه ثم صالحه أحدهما على ان أعطاه مائة درهم على أن يسلم نصف الزرع للمدعى لم يجز لان المدعي عليه يصير مملكا نصف الزرع قبل الادراك من غير شريكه بعوض وذلك لا يجوز ولان نصف الزرع والارض للذي هما في يديه فلو جوزنا هذا الصلح صار نصف الزرع للمصالح فيجبر على قلعه وتفريغ أرض الآخر منه ولا يتأتى ذلك الا بقلع الكل وفيه من الضرر على الآخر ما لا يخفى وكذلك هذا في البيع وكذلك النخل والشجر إذا كان مشتركا بين اثنين فباع أحدهما نصيبه من غير شريكه لم يجز ذلك وقد بينا هذا في البناء على كتب الشفعة فهو مثله في النخل والشجر ولو ادعى رجل سقفا في دار في يد رجل فصالحه منه على سكنى بيت من هذه الدار معلوم عشر سنين فهو جائز لان ما وقع عليه الصلح منفعة معلومة ببيان المدة فان أجره من الذى صالحه جاز في قول أبى يوسف رحمه الله ولم يجز في قول محمد رحمه الله وهذا بناء على الفصل المتقدم ان عند محمد رحمه الله استحقاق هذه المنفعة بالصلح كاستحقاقها بالاجارة ولهذا قال يبطل الصلح بموت أحدهما كما تبطل الاجارة ثم المستأجر إذا أجر المؤجر من الآجر لا يجوز فكذلك هنا إذا أجره من الذى صالحه لا يجوز وعند أبى يوسف رحمه الله استحقاقه هذه المنفعة باعتبار ملكه بناء على زعمه لا باعتبار العقد فكما يملك الاعتياض عنه مع غير الذى صالحه بالاجارة منه فكذلك يملك مع الذى صالحه ولهذا قال أبو يوسف رحمه الله ان وارثه يخلفه بعد موته في استيفاء هذه المنفعة ولا يبطل الصلح بموت أحدهما ثم على قول محمد رحمه الله إذا استأجر الذي كان في يديه فكان عنده حتى مضى الاجل لم تجب عليه الاجرة ولكن يبطل الصلح ويعود المدعى على دعواه لفوات المعقود عليه في ضمانه قال ولو باع هذا السكنى بيعا من رجل لم يجز بيع السكنى وهذا فصل مشترك فان لفظ البيع يملك به الرقبة وملك الرقبة سبب لملك المنفعة فكان ينبغى أن يجوز استعارة لفظ البيع لتمليك المنفعة به مجازا كما انه يجوز النكاح بلفظ الهبة والبيع بهذا الطريق وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله ان تأويل هذه المسألة فيما إذا أطلق البيع في السكنى وبين المدة وانما يفسد لترك بيان المدة كما لو صرح بلفظ الاجارة (قال رحمه الله) والاصح عندي أن الجواب مطلق على ما قال في الكتاب وانما

[ 161 ] امتنع جواز بيع السكنى لانعدام المحل لا لفساد الاستعارة فالمنفعة معدومة في الحال وايجادها ليس في مقدور البشر والمعدوم لا يكون محلا لاضافة العقد إليه فالشرع أقام الموجود وهو الدار المنتفع بها مقام المنفعة في جواز اضافة عقد الاجارة إليها فأما لفظ البيع ان أضيف إلى الدار فهو تمليك لعينها وان أضيف إلى المنفعة فالمعدوم لا يكون محلا لاضافة العقد إليه سواء كانت الاضافة بلفظ الاجارة أو بلفظ البيع حتى لو قال الحر لرجل بعتك نفسي شهرا بكذا لعمل فهذه اجارة صحيحة قال فكذلك لو صالحه الذى كانت الدار في يده من هذه السكنى على دراهم فهو جائز لانه لو صالحه في الابتداء على الدراهم يجوز فكذلك إذا صالحه على سكنى معلومة ثم منها على دراهم وهذا على أصل أبى يوسف رحمه الله ظاهر لانه لو استأجره منه بدراهم جاز فكذلك إذا صالحه ومحمد رحمه الله يقول الصلح يمكن تصحيحه بطريق اسقاط الحق فأما الاجارة فلا يمكن تصحيحها الا بطريق التمليك وإذا كان يتملك هو عليه المنفعة بجهة المعاوضة فيملك أن يملكه منه بمثل تلك الجهة وكذلك لو صالحه من الدراهم على دنانير وقبضها فهو جائز لان المصالح عليه إذا كان نقدا فهو كالثمن والاستبدال بالثمن قبل القبض جائز لكن بشرط قبض الدنانير قبل الافتراق لان النقد صرف ولانه لو فارقه قبل القبض كان افتراقا عن دين بدين ولو قبض البعض ثم تفرقا جاز بمقدار ما قبض ويرجع بحصة ما بقى من الدراهم اعتبارا للبعض بالكل قال والاقرار من المدعى للذى في يديه الشئ به على وجه الصلح لا يمنعه من الدعوى إذا بطل الصلح بوجه من الوجوه لما بينا أن الاقرار ان ثبت فانما يثبت ضمنا للصلح وما يثبت ضمنا للشئ يبقى ببقائه ويبطل ببطلانه كالوصية بالمحاباة في ضمن البيع والاقرار به من الذى هو في يديه عند الصلح للمدعي يوجب رده عليه إذا بطل الصلح لانه اقرار مقصود وكان يجب العمل به قبل تمام الصلح فكذلك بعد بطلان الصلح قال وكل شئ وقع الصلح عليه مما لو استحق رجع بقيمته فله أن يبيعه قبل أن يقبضه بمنزلة الصداق وبدل الخلع والصلح عن دم العمد لانه لم يبق في الملك المطلق للتصرف عذر يمكن التحرز عنه فان ملكه لا يبطل بالهلاك ولكن يتحول إلى القيمة وكل شئ يرجع فيه على دعواه فليس له أن يبيعه قبل القبض لبقاء الغرر في الملك المطلق للتصرف كما في البيع وفى العقار الخلاف معروف في جواز البيع قبل القبض وقد بيناه في البيوع فكذلك إذا وقع الصلح عليه ولو في ادعى دارا في يدى رجل حقا فصالحه من ذلك على

[ 162 ] عبدين فدفع إليه أحدهما ومات الآخر في يده فالمدعى بالخيار ان شاء رد العبد الذى قبضه وعاد في دعواه وان شاء أمسك ورجع في حصة العبد الميت لان الصفقة تفرقت عليه قبل القبض والاتمام فان تمام الصفقة بقبضها وقد بينا أن الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعى وهو كما لو اشترى عبدين فهلك أحدهما قبل القبض. ولو كان ادعي في أرض حقا فصالحه منها على أرض أخرى باقرار فغرقت الارض التى وقع الصلح عليها فان شاء المدعى رضى بها وان شاء تركها ان كان قد نقصها الغرق لان ما وقع عليه الصلح بمنزلة المبيع وقد تعيب قبل التسليم فان غرقت الارض التى كان ادعى فيها قبل أن يصل إليها المصالح ونقصها العرق فهو بالخيار أيضا لان الصلح على الاقرار محض معاوضة فكان المدعى عليه مشتر للمدعى به وقد تعيب قبل القبض فله الخيار وان كان الصلح وقع على الانكار لم يكن له فيها خيار لان في زعم المدعى ان المدعي عليه غاصب بجحوده وانه بالصلح كالمشترى فصار قابضا بنفس الشراء وانما تعيب بعد ذلك. ولو ادعى سكنى في دار وصية من رب الدار فجحده أو أقر به ثم صالحه منه على شئ جاز وان كان الموصى له بالسكنى لا يؤاجر لان تصحيح الصلح بطريق اسقاط الحق بعوض ممكن والاصل فيه أن الصلح صحيح بطريق المعاوضة ان أمكن وان تعذر ذلك تصحح بطريق الاسقاط كما لو صالح من الالف على خمسمائة وكذلك لو صالحه على سكنى دار أخرى فانه يصح هذا الصلح بطريق الاسقاط لما تعذر تصحيحه بطريق التمليك فان مبادلة السكنى لا تجوز ولو ادعى دارا في يد رجل فصالحه منها على دراهم مسماة أو على شئ من الحيوان على أن يزيد الآخر كر حنطة لمدة وليس عنده طعام لم يجز لان ما يقع عليه الصلح مبيع وبيع ما ليس عند الانسان لا يجوز قال (ألا ترى) أنه لو باع عبدا بدراهم واشترط للمشترى مع العبد طعاما يعطيه إياه وليس عنده كان البيع فاسدا لهذا المعنى. ولو ادعى في دار رجل طريقا فصالحه منها على دراهم أو على طريق في دار أخرى كان جائزا بعد أن يبين أن الطريق بمنزلة البيع ولو كان له باب في غرفة أو كوة وآذاه جاره وخاصمه فافتدى من خصومته بدراهم وصالحه عليها فالصلح باطل وله أن يترك بابه وكوته على حالهما قال لانهما في غير ملك أحد ومعنى هذا أن الباب والكوة يكون برفع بعض الحائط والحائط خالص ملكه ولو رفعه كله لم يكن لجاره أن يمنعه من ذلك فكذلك إذا رفع بعضه وبهذا يتبين ان الجار ظالم له مدع بالباطل وانه أخذ منه مالا ليكف عن ظلمه وذلك حرام فلهذا لزمه

[ 163 ] رده والله أعلم بالصواب (باب الصلح في الشفعة) (قال رحمه الله) قد ذكرنا في كتاب الشفعة ان صلح الشفيع مع المشترى على ثلاثة أوجه في وجه يصح على أخذ نصف الدار بنصف الثمن وفى وجه لا يصح ولا تبطل شفعته وهو أن يصالح على أخذ بيت بعينه من الدار بحصته من الثمن لان حصته مجهولة ولا تبطل شفعته لانه لم يوجد منه الاعراض عن الاخذ بالشفعة بهذا الصلح وفى وجه تبطل شفعته ولا يجب المال وهو أن يصالح على أن يترك الشفعة بمال يأخذه من المشترى فهنا تبطل شفعته لوجود الاعراض منه عن الاخذ بالشفعة ولا يجب المال لان ملك المشترى في الدار لا يتغير بهذا الصلح بل يبقى على ما كان قبل الصلح وترك الشفعة ليس بمال ولا يؤل مالا بحال فالاعتياض عنه بالمال لا يجوز بخلاف القصاص فان نفس القاتل كانت مباحة في حق من له القصاص وبالصلح تحدث له العصمة في حقه فيجوز أن يلزمه بمقابله ولو صالح المشترى الشفيع على ان اعطاه الدار وزاده الشفيع على الثمن شيئا معلوما فهو جائز لان تسليم الدار بالشفعة بثمن بغير قضاء يكون بيعا مبتدأ والثمن الذى وقع عليه التراضي معلوم فكأنه باعه منه مرابحة بما سميا من الثمن وإذا اختصم في الشفعة شريك وجار فاصطلحا على أن أخذاها نصفين وسلمهما المشترى جاز كما لو باعها منهما ابتداء وإذا اشتري الرجل دارا فخاصمه رجل في شقص منها وطلب الشفعة فيما بقى ثم صالحه المشترى على نصف الدار بنصف الثمن على أن يبرأ من الدعوى فهو جائز بمنزلة البيع المبتدإ فان بيع نصف الدار منه بالثمن ابتداء صحيح وشرط البراءة من الدعوى لا يبطل البيع أما إذا لم يكن مشروطا فتصحيح هذا بعقد ممكن بأن كان للمدعى جزء من هذا النصف فيكون المدعى تاركا للدعوى فيه باقدامه على الشراء ابتداء وقابضا لذلك الشقص بحقه مشتريا لما زاد عليه بما سمي من الثمن أو مصالحا في ذلك الشقص بعوض يؤديه مشتريا فيما زاد عليه ولو ادعى في دار في يد رجل حقا أو ادعاها كلها فصالحه على دارهم فلا شفعة للشفيع فيها لان المدعى عليه يزعم أن الدار له على قدم ملكه وزعمه فيما في يده معتبر فكما لا يتمكن المدعى من أخذ ما في يده باعتبار زعمه فكذلك الشفيع وقد بينا أن باقدامه على الصلح لا يصير مقرا للمدعى بالدار وانما التزم البدل فداء

[ 164 ] ليمينه. وان خاصمه في الشفعة فسلم له نصف الدار بنصف الثمن الذى صالح عليها المدعى جاز كما لو باعه منه ابتداء ولو اشترى أرضا فسلم الشفيع الشفعة ثم جحد التسليم وخاصمه فصالحه على ان أعطاه نصف الدار بنصف الثمن جاز وهذا والبيع المبتدأ منه سواء وكذلك لو مات الشفيع ثم صالح الورثة المشترى على نصف الدار بنصف الثمن جاز كالبيع المبتدا وإذا ادعى الرجل شفعة في دار فصالحه المشترى على أن يسلم له دارا أخرى بدراهم مسماة على أن يسلم له الشفعة فهذا فاسد لا يجوز لانه بائع الدار الاخرى منه وقد شرط فيه تسلم الشفعة وهو شرط ينتفع به أحد المتعاقدين فإذا شرط في البيع فسد العقد كما لو باعه عبدا بألف درهم على أن يسلم له الشفعة ولو ادعى شفعة في عبد فصالحه المشترى على أن يسلم نصف العبد بنصف الثمن وهو معلوم عندهما جاز لانه بيع مبتدأ والبيع ينعقد بلفظ التسليم وبفعل التسليم وان لم يكن هناك لفظ كما هو مذهبنا في انعقاد البيع صحيحا بالتعاطي والله أعلم بالصواب (باب الصلح الفاسد) (قال رحمه الله) وإذا ادعى الرجل في دار حقا فصالحه ذو اليد على عبد إلى أجل فالصلح فاسد لان تصحيح الصلح على الانكار بطريق البناء على زعم المدعي وفى زعمه أن يتملك العبد بغير عينه بعوض هو مال وذلك فاسد فان قيل الحيوان يثبت دينا في الذمة في العقود المبنية على التوسع في البدل كالنكاح والخلع والصلح على الانكار بهذه الصفة قلنا لا كذلك ولكن الحيوان لا يثبت دينا في الذمة بدلا عما هو مال وانما يثبت بدلا عما ليس بمال (ألا ترى) أن الغرة وجبت شرعا في جنين الحرة دون جنين الامة وهذا لان مقابلة ما ليس بمال بمال لا يثبت ثبوتا صحيحا بل يردد بين الحيوان والقيمة وبمقابلة ما هو مال لا يمكن اثباته بهذه الصفة ثم الصلح على الانكار في المصالح عليه غير مبنى على التوسع (ألا ترى) انه لا يثبت في الذمة مع جهالة الصفة وانه يرد بالعيب اليسير والفاحش فكذلك لا يثبت الحيوان فيه دينا فان كان صالحه من حقه فقد أقر له بالحق ولكن لم يبين مقداره فالقول فيه قول المدعى عليه بعد أن يقر بشئ لانكاره الزيادة بمنزلة ما لو قال لفلان على حق وان كان صالحه من دعواه لم يكن ذلك اقرارا لان الدعوى قد تكون حقا وقد تكون باطلا (ألا ترى) انه لو قال لفلان على دعوى لا يصير مقرا له بشئ بهذا اللفظ بخلاف قوله لفلان على حق فكذلك

[ 165 ] لو صالحه على دراهم مسماة إلى الحصاد وما أشبهه لان الصلح فيما يقع عليه الصلح كالبيع واشتراط هذه الآجال المجهولة مفسد للبيع ولو ادعى رجل في عبد رجل دعوى فصالحه على غلته شهرا فهذا فاسد بخلاف ما إذا صالحه على خدمته شهرا لان الخدمة معلومة ببيان المدة وهى مقدورة التسليم لصاحب العبد فأما الغلة فمجهولة المقدار في نفسها غير مقدورة التسليم لصاحب العبد لانه ما لم يؤاجره من غيره لا تحصل الغلة له وذلك لا يتم به وحده وبعد ما أجره لا تجب الغلة الا بسلامة العبد في الشهر ولعله يمرض أو يموت فلهذا بطل الصلح وكذلك الصلح على غلة الدار وثمرة النخل فاسد لانه مجهول وهو على خطر الوجود بخلاف الوصية فانها أخت الميراث فمثل هذه الجهالة لا تمنع صحتها أما الصلح فهو بمنزلة البيع والاجارة فيما يقع الصلح عليه ومثل هذه الجهالة تمنع الاستحقاق بالبيع والاجارة وعلى هذا لو صالح من دعواه على شرب يوم من هذا النهر في الشهر من غير أن يكون له حق في رقبته فانه لا يجوز والوصية بمثله تجوز لما قلنا. ولو ادعى قبل رجل ألف درهم دينا فصالحه منها على عشرة دنانير إلى أجل لم يجز مقرا كان أو جاحدا أما إذا كان مقرا فلان هذا صرف بالنسيئة وكذلك لو صالحه منها على طعام موصوف مؤجل أو غير مؤجل وفارقه قبل القبض فهو باطل لانه دين بدين والدين بعد المجلس حرام لنهى النبي ﷺ عن الكالئ بالكالئ وكذلك لو صالحه من غيره فهو في هذا المعنى وصلح المدعي عليه سواء ولو ادعى عليه ألف درهم سودا فصالحه منها بعد الانكار على ألف درهم بخية إلى سنة لم يجز لان البخية لها فضل فالبخية الجياد التى هي نقد بيت المال سميت بذلك لانه يقال لمن يتملكها بخ بخ ثم جعل هذا الفضل عوضا عن الاجل ومعاوضة المال بالاجل لا يجوز وفى نظيره نزل قوله تعالى لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ولو ادعى عليه بخية فصالحه على سود مثلها أو أقل حالا أو موجلا فهو جائز لان صاحب الحق هو المحسن إليه من كل وجه حيث أبرأه عن فضل الجودة ولو أبرأه عن بعض المقدار وأجله فيما بقى جاز أيضا وإذا كان الاحسان كله من جهته لا يتحقق معنى المعاوضة بينهما ولو باع عبدا بألف درهم سود ثم صالحه على ألف ومائة نبهرجة أو زيوف حالة أو إلى أجل كان ذلك باطلا لان ما شرط من زيادة القدر عوض عن الاجل أو عن صفة الجودة فان الزيوف دون السود في الجودة ومثل هذه المعاوضة ربا شرعا وكذلك لو صالحه منها على شئ مما يكال أو يوزن بغير عينه لم يجز لان المكيل

[ 166 ] والموزون إذا قابلته الدراهم يكون مبيعا وهو بيع ما ليس عند الانسان وذلك باطل قبض في المجلس أو لم يقبض ولا يمكن تصحيحه سلما وان ذكر شرائط السلم لان رأس المال دين وعقد السلم برأس مال هو دين لا يجوز. ولو كان لرجل قبل رجل ألف درهم غلة فصالحه منها على خمسمائة بخية نقدا ونقدها اياه فهو جائز في قول أبى يوسف رحمه الله الاول باعتبار انه يجعل كل واحد منهما محسنا إلى صاحبه بطريق الاسقاط فصاحب الحق أبرأه عن خمسمائة والمديون أعطى ما بقى أجود مما عليه وهذا منه احسان في قضاء الدين وذلك مندوب إليه وإذا كان المقصود بالصلح قطع المنازعة فإذا أمكن تصحيحه لا يجوز ابطاله وهنا تصحيحه بطريق ممكن فلا يحل على المعاوضة وان تفرقا قبل أن يقبض فله خمسمائة من غلة الكوفة لانه ابراه عما بقى وانما تبقى الخمسمائة في ذمته بالصفة التى كانت قبل الابراء والمجازاة على الاحسان مطلوبة بطريق ولكن غير مستحق دينا ثم رجع فقال الصلح باطل وهو قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله لانهما صرحا بالمعاوضة فانه أبرأه عن الخمسمائة بشرط أن يسلم له بصفة الجودة فيما بقى ومعاوضة الدراهم بالجودة لا يجوز ومع التصريح بالمعاوضة لا يمكن حمله على البراءة المبتدأة كما إذا باع درهما بدرهمين لا يجعل أحد الدرهمين هبة ليحصل مقصودهما وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم فصالحه منها على مائة درهم على أن يبيعه بها هذا الثوب أو على أن يؤاجره بها هذه الدار أو صالحه منها على عبد بعينه على أن يشتريه منه فهذا فاسد لنهى النبي ﷺ عن صفقتين في صفقة وقد بينا أن الصلح في معنى البيع واشتراط بيع أو اجارة في البيع يكون مفسدا له وكذلك لو صالحه منها على دار وشرط أن يسكنها الذى عليه الدين سنة أو على عبد وشرط خدمته سنة فهو فاسد لانه شرط الاجل في تسليم العين أو شرط أحد المتعاقدين منفعة لنفسه من ملك صاحبه وذلك مفسد للبيع والاجارة فكذلك يفسد الصلح ولو ادعى رجل في غنم رجل دعوى فصالحه منها على صوفها الذى على ظهرها أن يجزه من ساعته فهو جائز في قول أبى يوسف رحمه الله ولا يجوز في قول محمد رحمه الله لان المصالح عليه إذا كان معينا فهو كالمبيع وبيع الصوف على ظهر الغنم باطل فكذلك الصلح (ألا ترى) انه لو صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى بعينها لم يجز لهذا المعنى وأبو يوسف رحمه الله يقول تصحيح هذا الصلح باعتبار زعم المدعى ممكن لانه يزعم أن الصوف والشاة ملكه وانه يترك للمدعى عليه بعض ملكه ويبقى في الصوف لا ان تملكه ابتداء وذلك

[ 167 ] جائز وقد بينا أن الصلح على الانكار مبنى على زعم المدعي وان من أصل أبى يوسف رحمه الله انه إذا أمكن تصحيح الصلح بوجه ما يجب تصحيحه لقطع المنازعة بخلاف ما إذا صالحه على صوف على ظهر شاة أخرى ولو صالحه على ألبانها التى في ضروعها أو على ما في بطونها من الولد فهو باطل أما عند محمد رحمه الله فلان هذا بمنزلة البيع وأما عند أبى يوسف رحمه الله فلانه انما يمكن تصحيح هذا الصلح بطريق ابقاء ملكه في بعض العين واللبن في الضرع والولد في البطن ليس بعين مال متقوم ووجوده على خطر فربما يكون انتفاخ البطن والضرع بالريح بخلاف الصوف على ظهر الغنم فهو مال متعين متقوم مملوك فتصحيح الصلح بطريق ابقاء الملك فيه ممكن ولو ادعى في أجمة في يدى رجل حقا فصالحه على أن يسلم صيدها للمدعي سنة فهذا فاسد لانه مجهول ووجوده على خطر وكذلك لو صالحه على ما فيها من الصيد إذا كان ذلك لا يوجد الا بصيد وان كان محظورا لانه غير مملوك لاحد وبيعه لا يجوز لنهى النبي ﷺ عن بيع ضرية القانص ونهى عمر وابن مسعود رضى الله عنهما عن بيع السمك في الماء وإذا كان الصيد محظورا وهو يؤخذ بغير صيد كان الصلح جائزا وله الخيار إذا رآه بمنزلة البيع وقيل تأويله إذا أخذتم السمك في الماء أو دخل الاجمة مع الماء ثم منع من الخروج بسد فوهة الاجمة فيكون ذلك بمنزلة الاخذ الموجب للملك ولكنه غير مرئى فأما إذا دخل الاجمة مع الماء ولم بسد فوهة الاجمة فلا يجوز بيعه لانه لم يصر مملوكا لصاحب الاجمه بالدخول في أجمته ما لم يأخذه. ولو ادعى في عبد دعوى فصالحه من ذلك على مخاتيم دقيق معلومة من دقيق هذه الحنطة أو على ارطال من لحم شاة حية لم يجز لانه لا يجوز بيع شئ من ذلك اما لانه معدوم في الحال أو لانه يحتاج في تسليمه إلى بضع البنية وذلك مانع من جواز العقد وكذلك لو صالحه على عبد آبق فان الآبق لا يجوز بيعه لان ماليته تاوية بالاباق وهو غير مقدور التسليم فكذلك الصلح عليه ولو ادعى قبل رجل مائة درهم وكر حنطة سلما فصالحه من ذلك على عشرين دينارا لم يجز إذا كان رأس المال دراهم لان في حصة الحنطة هنا استبدال بالمسلم فيه فيبطل لقوله ﷺ لا تأخذ الا سلمك أو رأس مالك والعقد صفقة واحدة فإذا بطل بعضه بطل كله عند أبى حنيفة رحمه الله ظاهر وأما عندهما فالصلح كذلك وقد بيناه في الكتاب وهذا لان مبنى الصلح على الحط والاغماض والتجوز بدون الحق وربما يكون ذلك في البعض دون البعض فبعد ما بطل في البعض لا يمكن تصحيحه

[ 168 ] فيما بقى وان كان رأس المال خمسة دنانير فصالحه منها علي عشرين دينارا خمسة منها رأس مال السلم جاز لان في حق السلم هذا صلح على رأس المال وما وراء ذلك بمقابلة المائة وهو صرف مقبوض في المجلس فيكون جائزا وذكر عن أبى اسحاق الشيباني رحمه الله قال سألت عبد الله بن مغفل وفى رواية معقل عن رجل كان لى عليه عشرة اكرارا حنطة فاشتريت بها منه أرضا فقال لى خذ رأس مالك وانما أورد هذا لبيان أن الاستبدال بالمسلم فيه قبل القبض لا يجوز ثم عندنا يبقى عليه طعام السلم بحاله آن الشراء والصلح إذا بطل صار كالمعدوم وكأنه ذهب إلى انهما قصدا اسقاط طعام المسلم إلى عوض فيعتبر قصدهما بحسب الامكان ورد رأس المال متعين لذلك ولكن ما ذكرنا أقوى وعن طاوس رحمه الله قال أسلم رجل إلى رجل في حلل دق فأراد أن يعطيه حلل جل كل حلتين بحلة فسأله ابن عباس رضى الله عنهما عن ذلك فكرهه وبه نأخذ فان هذا استبدال بالمسلم فيه لان الثياب من أنواع مختلفة وأجناس مختلفة وعن أبى سعيد الخدرى رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ نهى عن بيع ما في بطون الانعام وعن بيع ما في ضروعها الا مكيلا يعنى الا مكيلا بعد الحلب وعن بيع العبد الآبق وعن بيع ضرية القانص وعن بيع الصدقة حتى تقبض وعن بيع المغنم حتى يقسم وبذلك كله نأخذ فان بيع نصيبه قبل القسمة باطل لانه بيع قبل الملك وكذلك بيع الصدقة قبل القبض وبيع ضرية القانص وبيع العبد الآبق باطل للعجز عن التسليم وبيع ما في بطون الانعام وما في ضروعها باطل للغرر والجهالة وعن محمد بن زيد قال سألت ابن عمر رضى الله عنهما فقلت انى أسلمت إلى رجل ألف درهم وقال ان أعطيتني برا فبكذا وان أعطيتني شعيرا فبكذا فقال سم في كل نوع وزنا فان أعطاك فذاك والا فخذ رأس مالك وبه نقول إذ مثل هذه الجهالة والتردد يمنع صحة السلم وانه لا يأخذ بطريق الصلح الا سلمه أو رأس ماله وعن ابن عباس رضى الله عنهما انه نهى عن بيع اللبن في الضرع والحمل في البطن وان صالحه عن سلمه على رأس ماله ثم صالحه من رأس المال على شئ آخر يدا بيد لم يجز ذلك لان حال رب السلم مع السلم إليه بعد الاقالة كحال المسلم إليه مع رب السلم قبل قبض رأس المال وكما ان الاستبدال برأس المال قبل القبض لا يجوز فكذلك بعد الاقالة قبل الرد الا انهما يفترقان من حيث ان قبض رأس المال واجب في المجلس وبعد الاقالة لا يجب قبض رأس المال في المجلس وكان ذلك بمعنى الدينية فان الدين بالدين حرام أو لمقتضى لفظ السلم فهو أخذ عاجل

[ 169 ] بآجل وذلك غير موجود في الاقالة وليس من ضرورة كونه غير مستحق القبض في المجلس جواز الاستبدال به كالمسلم فيه وعن زفر رحمه الله الاستبدال بعد الاقالة جائز لانه دين سبب وجوبه القبض فيجوز الاستبدال به كبدل القرض والغصب وهذا هو القياس ولكنا تركناه لما بينا ولقوله ﷺ لا تأخذ الا سلمك أو رأس مالك فلو جوزنا الاستبدال برأس المال بعد الاقالة كان آخذا غير سلمه وغير رأس ماله وذلك ممتنع شرعا ولو أسلم رجل إلى رجل دراهم في شئ سلما فاسدا وتفرقا كان له أن يأخذ بدراهمه ما بدا له يدا بيد لانه دين سبب وجوبه القبض وعقد السلم كان باطلا في الاصل وانما يلزمه رد المقبوض باعتبار القبض والاستبدال ببدل القرض فان جعله في شئ من الوزن إلى أجل مسمى فهو فاسد لانه دين بدين فالمقبوض صار مملوكا له مع فساد العقد بالقبض ومثله صار دينا في ذمته فالسلم يضاف إلى ذلك الدين ولو ادعى عبدا في يد رجل ثم صالحه منه على دراهم أو دنانير مؤجلة والعبد قائم أو هالك فهو جائز لانه ان كان قائما بعينه فهو بيع العبد بثمن مؤجل في زعم المدعى وان كان هالكا فالواجب هو القيمة والقيمة دراهم أو دنانير فهذا تأجيل في بدل المغصوب وذلك جائز وقد بيناه في الصرف وان صالحه على طعام مؤجل جاز ان كان العبد قائما بعينه لان الطعام متى كان دينا بمقابلة العبد يكون ثمنا ولم يجز ان كان هالكا أما عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله فظاهر لان الواجب هو القيمة فيكون بائعا ما ليس عنده لان الطعام إذا قوبل بالدارهم والدنانير يكون مبيعا وعند أبى حنيفة رحمه الله ما يقع الصلح عليه يكون بدلا عن العبد على ما بيناه في الصلح عن المغصوب الهالك على أكثر من قيمته انه جائز عنده ولكن العبد الهالك في معنى الدين لان مالا يمكن الوقوف على عينه فهو دين فيكون ذلك دينا بدين فلهذا كان فاسدا ولو لم يكن فيه أجل جاز ان كان بعينه أو بغير عينه فدفعه إليه قبل أن يتفرقا عن عين دين وذلك جائز وهو دليل لابي حنيفة رحمه الله فانه لو كان ما يقع عليه الصلح بدلا عن القيمة لم يجز وان قبض في المجلس إذا كان دينا عند العقد لانه بيع ما ليس عند الانسان وان فارقه قبل أن يقبضه ولم يكن بعينه والعبد هالك بطل لانهما افترقا عن دين بدين وكذلك ان صالحه على ثياب مؤجلة والعبد هالك لم يجز لانه دين بدين وهو فاسد شرعا والله أعلم بالصواب

[ 170 ] (باب المهايأة) (قال رحمه الله) اعلم بأن القياس يأبى جواز المهايأة لانها مبادلة المنفعة بجنسها وكل واحد من الشريكين في نوبته ينتفع بملك شريكه عوضا عن انتفاع الشريك بملكه في نوبته ولكن تركنا القياس وجوزناه للكتاب والسنة * أما الكتاب فقوله تعالى لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وهذا هو المهايأة * وأما السنة فما روى أن الرجل الذى خطب تلك المرأة بين يدى رسول الله ﷺ فقال صلوات الله عليه ماذا تصدقها قال نصف ازارى هذا قال ﷺ ما تصنع بازاك ان لبسته لم يكن عليها منه شئ وان لبسته لم يكن عليك شئ وهذا تفسير المهايأة ولان المنافع يجوز استحقاقها بالعقد بعوض وبغير عوض كالاعيان ثم القسمة في الاعيان المشتركة عند امكان التعديل جائزة فكذلك في المنافع المشتركة ولهذا يجبر القاضى الشركاء على المهايأة إذا طلب ذلك بعضهم وأبى البعض والذى أبى لم يطلب قسمة العين والاصل أن اختصاص العقد باسم لاختصاصه بحكم يدل عليه معنى ذلك الاسم فقسمة المنافع لما اختصت باسم المهايأة فذلك دليل على اختصاصها بمعنى يدل عليه هذا الاسم وهو أن وصول نصيب أحدهما إليه يسبق وصول نصيب الآخر إليه بخلاف قسمة العين وهذا العقد ليس كالاجارة في جميع الاحكام لان في الاجارة يستحق منفعة العين بالعقد وهنا ما يستوفيه كل واحد منهما بل يجعل في الحكم كأنه منفعة ملكه على ما هو موضوع القسمة من العين وكون معنى المعاوضات فيه بيعا وليس في عين الجارية أيضا لهذا المعنى ولان العارية لا يتعلق بها الاستحقاق ويتعلق بالمهايأة فمن هذا الوجه تشبه الاجارة ولكن الاستحقاق في المهايأة دون الاستحقاق في الاجارة على معنى ان هناك لا ينفرد أحدهما بالفسخ بغير عذر وهنا يملك أحد الشريكين فسخ المهايأة بطلب القسمة لان الاصيل فيما هو المقصود وهو تمييز الملك قسمة العين والمهايأة خلو عنه (ألا ترى) ان في الابتداء لو طلب أحدهما قسمة العين لم يشتغل القاضى بينهما بالمهايأه فكذلك في الانتهاء إذا طلب ما هو الاصل وهو قسمة العين لا تستدام المهايأة بينهما ثم العارية والاجارة تبطل بموت أحدهما وقسمة الشركة تبطل بموت أحدهما عند محمد وعند أبى يوسف رحمه الله لا تبطل والمهايأة لا تبطل بموت أحد الشريكين لانا لو أبطلناها احتجنا إلى اعادتها فالشريك الحى أو وارث الميت طالب لذلك ولا فائدة في نقض شئ يحتاج إلى اعادته في الحال ثم المهايأة قد تكون بالمكان وقد تكون بالزمان فصورة

[ 171 ] المهايأة بالمكان فيما بدئ الباب به قال دار بين رجلين تهايأ فيها على أن يسكن كل واحد منهما منزلا معلوما وأن يؤاجر كل حصة منزله فهو جائز ولا حاجة إلى بيان المدة في صحة هذا العقد لان المهايأة قسمة المنفعة المشتركة وفى قسمة العين لا حاجة إلى بيان المدة فكذلك في قسمة المنفعة المشتركة ولان الحاجة إلى بيان المدة في الاجارة لمعرفة مقدار ما يستحق من المنفعة من تلك العين على وجه به تنقطع المنازعة وكل واحد منهما هنا يستوفى المنفعة باعتبار انه ملكه والمنازعة تنقطع ببيان منزل لكل منهما ثم ان كانا شرطا في المهايأة أن يؤاجر كل واحد منهما منزله فذلك جائز وان لم يشترطا ففى ظاهر المذهب لكل واحد منهما أن يفعل ذلك في نصيبه وما يستوفى من الغلة حلال له وكان أبو علي الشاشى رحمه الله يقول ليس لكل واحد منهما الا ما شرط لان كل واحد منهما منتفع بنصيب صاحبه حقيقة فالمنزل الذى في يده مشترك بينهما وليس ذلك بحكم المعاوضة بينهما لان معاوضة المنفعة بجنسها لا يجوز فعرفنا أن ذلك بطريق الاباحة والاعارة والمستعير لا يؤاجر بمطلق العقد ووجه ظاهر الرواية أن المهايأة قسمة المنفعة فما يصيب كل واحد منهما من المنفعة يجعل مستحقا له باعتبار قديم ملكه لان المنفعة جنس واحد لا يتفاوت بمنزلة القسمة في المكيل والموزون وهو يملك الاعتياض عن المنفعة المملوكة له لا من جهة غيره سواء شرط ذلك أو لم يشترط وليس لاحدهما أن يحدث في منزله بناء ولا ينقضه ولا يفتح بابا في حائط ولا كوة الا برضا صاحبه لان العين تبقى مشتركة بينهما كما كانت قبل المهايأة وأحد الشريكين لا يستبد بشئ من هذه التصرفات في الملك المشترك ما لم يرض به صاحبه وبالمهايأة انما تثبت القسمة في المنفعة ففيما ليس من المنفعة حالهما بعد المهايأة كما قبلها وكذلك لو تهايأ على أن يكون السفل في يد أحدهما والعلو في يد الآخر لان كل واحد منهما مسكن بمنزلة المنزلين في علو أو سفل وكذلك التهايؤ في الدارين على السكنى والغلة جائز وكان الكرخي رحمه الله يقول المراد إذا تراضيا عليه فأما عند طلب بعض الشركاء فالقاضي لا يجبر على ذلك عند أبى حنيفة رحمه الله بمنزلة القسمة للعين وقد بينا في كتاب القسمة ان قسمة الجبر لا تجرى في الدور عند أبى حنيفة رحمه الله بهذه الصفة فكذلك التهايؤ والاظهر أن القاضى يجبر عليه عند طلب بعض الشركاء لان القسمة في المهايأة تلاقى المنفعة دون العين ومنفعة السكنى تتقارب ولا تتفاوت الا يسيرا بخلاف قسمة العين فالمعادلة في المالية هناك معتبرة والدور

[ 172 ] تختلف في المالية باختلاف المكان والجيران ولهذا كان لكل واحد منهما أن يؤاجر ما في يده ويأكل غلته لان المنفعة سالمة له بهذه القسمة باعتبار قديم ملكه (ألا ترى) أن في الدارين إذا غلت ما في يد أحدهما أكثر مما غلت ما في يد الآخر فليس لواحد منهما أن يرجع على صاحبه بشئ بخلاف الدار الواحدة فهناك إذا تهايأ فيها على الاستغلال فكانت غلة نصيب أحدهما في نوبته أكثر فذلك الفضل بينهما لان في الدارين معنى القسمة والتميز بالتراجع على معنى ان كل واحد منهما يصل إلى المنفعة والغلة في الوقت الذى يصل إليه صاحبه فما يستوفيه كل واحد منهما عوض عن قديم ملكه يستوجبه بعقده فيسلم له وفى الدار الواحدة كل واحد منهم بمنزلة الوكيل من صاحبه في اجارة نصيبه في نوبته إذا تهايئا على الاستغلال فانما يكون ذلك بالزمان وأحدهما يصل إلى الغلة قبل وصول الآخر إليها وذلك لا يكون قضية القسمة فلابد أن يجعل كل واحد منهما بمنزلة وكيل عن صاحبه وما يقبضه كل واحد منهما عوض عما يقبض صاحبه من عوض نصيبه فعند التفاضل يثبت التراجع فيما بينهما ليستويا ويوضح هذا أن الفرق على ما ذهب إليه الكرخي رحمه الله ان في المهايأة في الدارين يعتمد التراضي عند أبى حنيفة رحمه الله ظاهر وعندهما قسمة الجبر في الدارين عند أبى حنيفة رحمه الله لا تجرى الا إذا رأى القاضى المصلحة فيه وعند التراضي يسلم لكل واحد منهما ما رضى به صاحبه وفى الدار الواحدة لا يعتبر التراضي في المهايأة فلابد من اعتبار المعادلة فيما هو المقصود بالمهايأة فلهذا يتراجعان فضل الغلة والمهايأة في النخل والشجر على كل الغلة باطل لان غلة النخل والشجر لا يجوز استحقاقها بعقد الاجارة فلا تستحق المهايأة أيضا وهذا لانها عين تبقى بعد حدوث ويتأتى فيها قسمة العين وانما جواز المهايأة فيما لا يتأتى فيها القسمة بعد الوجود حقيقة أو ما يكون عوضا منه كغلة الدار ونحوها ولهذا لا تجوز المهايأة في الغنم على الاولاد والالبان والاصواف لانها عين تحتمل القسمة بعد الوجود حقيقة ولو ادعى في دار حقا فتهايئا على أن ينزل بيتا منها من غير صلح على أن يكف عن الخصومة حتى يبدو له أن يخاصم على انه لا يستحق من سكنى البيت شيئا ولا يلزمه بخروجه حق فذلك جائز لان ذا اليد أعاره البيت والآخر ترك الخصومة زمانا ومثل هذا يجوز بالتراضى فيه ولا يتعلق به اللزوم وكل واحد منهما على حجته إذا بدا له والتهايؤ على الخدمة في العبد الواحد تجوز على الزمان هذا شهر وهذا شهر لان اعتبار المعادلة في قسمة الخدمة بالزمان ممكن وذلك في العبدين إذا تهايئا

[ 173 ] على أن يخدم هذا العبد أحدهما والعبد الآخر الآخر فذلك جائز أما عندهما فلان قسمة الجبر في الرقيق تجرى فكذلك في خدمة الرقيق وأما عند أبى حنيفة رحمه الله في الرقيق لا تجرى قسمة الجبر لان اعتبار المعادلة في المالية غير ممكن فانها تختلف بمعان باطنة لا يوقف على حدها وذلك لا يوجد في الخدمة والمهايأة في خدمة العبدين والمهايأة في خدمة العبد الواحد سواء ولو تهايئا على الغلة في العبدين لم يجز في قول أبى حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وفى العبد الواحد لا تجوز المهايأة في الغلة بالاتفاق فهما يقولان معنى القسمة والتمييز يترجح في غلة العبدين لان كل واحد منهما يصل إلى نصيبه في الوقت الذى يصل إلى صاحبه فيجوز ذلك كما في المهايأة في الخدمة وفى غلة الدارين فأما في العبد الواحد فمعنى المعاوضة يغلب لانه يصل أحدهما إلى الغلة قبل أن يصل الآخر إليه وفيه معنى الخطر وربما يمرض العبد في نوبة أحدهما فيعجز عن الخدمة وربما يمتنع من الخدمة بدعوى الحرية ومعنى الخطر في المعاوضة مبطل له وبه فارق غلة الدار الواحدة لان باعتبار العادة هناك الغلة تسلم لكل واحد منهما في نوبته والغالب هو السلامة * توضيحه ان المهايأة في الغلة من وجه كالمهايأة في الخدمة لان الغلة بدل المنفعة ومن وجه كالمهايأة في غلة النخل لان ما يسلم لكل واحد منهما به عين فلشبهه بالمهايأه في الخدمة جوزنا ذلك في العبدين لترجح معنى القسمة فيها ولشبهه بالمهايأة في غلة النخل أبطلنا ذلك في العبد الواحد وأبو حنيفة رحمه الله يقول المقصود بهذه المهايأة سلامة سبب ملك الحيوان فلا يجوز كالمهايأة في غلة العبد الواحد وكالمهايأة في أولاد الغنم وألبانها وهذا لان التهايؤ على الاستقلال لو كان يجوز في الرقيق لكان جوازه في العبد الواحد أولى لان معنى المعادلة والتمييز فيه أظهر منه في العبدين فإذا لم يجز ذلك في العبد الواحد فأولى أن لا يجوز في العبدين وهذا لان الآدمى في يد نفسه وربما لا ينقاد في الاستعمال وكل واحد منهما لا يتمكن من تحصيل ما هو المقصود بنفسه في نوبته أو فيما في يده من العبد وقيل هذه المسألة تنبني على اختلافهم في قسمة الرقيق فالمقصود لكل واحد منهما المالية هنا فأبو حنيفة رحمه الله لا يرى قسمة الجبر في الرقيق وهما يريان قسمة الجبر في الرقيق فكذلك في غلة الرقيق ولهذا لا تجوز المهايأة في غلة العبد الواحد عندهم جميعا لان القسمة لا تجرى فيه بخلاف المهايأة للخدمة فالمقصود هناك المنفعة دون المالية فجاز ذلك في العبد الواحد والعبدين وإذا كانت جارية بين رجلين فخاف كل واحد منهما

[ 174 ] صاحبه عليها فقال أحدهما تكون عندك يوما وعندي يوما وقال الآخر بل نضعها على يدى عدل فانى أجعلها عند كل واحد يوما ولا أضعها على يدى عدل الا بتراضيهما لان اليد مستحقة لكل واحد منهما كالملك فكما لا يجوز ابطال ملك العين عليهما بطلب أحدهما فكذلك ابطال ملك اليد وفى التعديل ابطال اليد على كل واحد منهما ولان ما يخاف كل واحد منهما موهوم والموهوم لا يعارض المتحقق وباعتبار الملك المتحقق لكل واحد منهما يستحق العبد في نوبته فلا يجوز ابطاله عن يد ما هو موهوم فان تنازعا فيمن يبدأ به في هذه المهايأة فالرأى في ذلك إلى القاضى يبدأ بأيهما شاء كما في القسمة والمهايأة في الخدمة والسكنى للقاضى أن يبدأ بأيهما شاء على وجه النظر دون الميل والاولى أن يقرع بينهما نفيا لتهمة الميل عن نفسه وقد بينا أن فيما للقاضى أن يفعله بغير اقراع يستعمل القرعة لتطييب قلوب الشركاء ونفى تهمة الميل عن نفسه والتهايؤ على الركوب أو الغلة في الدابتين لا يجوز في قول أبى حنيفة رحمه الله فيما يعلمه أبو يوسف رحمه الله وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله يجوز في الغلة كالركوب جميعا أما في الغلة فهو بناء على التهايؤ في غلة العبدين وقد بينا ذلك وانما صحت الراوية هنا عن أبى حنيفة رحمه الله فقال فيما يعلم أبو يوسف رحمه الله لان الدابتين في القسمة ليستا كالعبدين عند أبى حنيفة رحمه الله فقسمة الجبر في الدابتين تجوز ولا تجوز في العبدين ولكن لما كان المقصود أن ما يملكه كل واحد منهما بسبب ملك الحيوان يشبه هذا التهايؤ في الغنم على الاولاد والالبان فكذلك لا يجوزه أبو حنيفة رحمه الله وأما الكلام في المهايأة في ركوب الدابتين فأبو يوسف ومحمد رحمهما الله يقولان منفعة الركوب في الدواب كمنفعة الخدمة في العبيد والسكني في الدار (ألا ترى) أن استحقاق ذلك بالاجارة يجوز وكذلك استيفاؤه بالاعارة فكما لا تجوز المهايأة في خدمة العبدين فكذلك في ركوب الدابتين وأبو حنيفة رحمه الله يقول جواز المهايأه في خدمة العبدين باعتبار معنى المعادلة والتمييز وذلك في ركوب الدابتين غير ممكن فالناس يتفاوتون في ركوب الدابة فرب راكب يروض الدابة ويثقلها الآخر ولهذا لو استأجر دابة أو استعارها ليركبها هو لم يكن له أن يركب غيره وبهذا الطريق يتعذر اعتبار معنى المعادلة بين الشريكين في الانتفاع بالدابتين ركوبا بخلاف الخدمة والسكنى وذلك لا يختلف باختلاف المستوفي (ألا ترى) أن من استأجر عبدا للخدمة كان له أن يؤاجره من غيره وإذا ثبت بهذا الطريق أن التهايؤ على الدابتين في الركوب لا يجوز ثبت في الغلة بالطريق

[ 175 ] الاولى لان استقلال الدواب بالاجارة ممن يركبها وذلك غير معلوم عند المهايأة والضرر على كل دابة يختلف باختلاف من يركبها فلهذا لا يجوز وعلى هذا الخلاف التهايؤ في ركوب دابة واحدة لانهما لا يجوزان التهايؤ في غلة دابة واحدة كما لا يجوزان في غلة عبد واحد والتهايؤ في الغنم على الالبان والاولاد لا يجوز لان ذلك يزيد وينقص ووجود أصله على خطر وكل واحد منهما لا يتمكن من تحصيل ما هو المقصود لنفسه فيما في يده والتهايؤ في دار وعبد على السكنى والخدمة جائز لان ما هو المقصود لكل واحد منهما يجوز استحقاقه بالمهايأه عند اتحاد الجنس فعند اختلاف الجنس أولى وعلى الغلة باطل في قول أبى حنيفة رحمه الله وهو جائز في قولهما لان عند أبى حنيفة رحمه الله غلة العبد لا تستحق بالتهايؤ واعتبار هذا الجانب يبطل العقد واعتبار جانب غلة الدار يصححه ويتمكن المفسد من أحد الجانبين بفساد العقد كما لو باع دارا بألف درهم ورطل من خمر ولو تهايئا في أرض على أن يزرع كل واحد منهما طائفة منها معلومة ويؤاجرها جاز بمنزلة السكنى في الدار ولهما أن يبطلا المهايأة ويقتسما إذا بدا لهما أو لاحدهما لما بينا أن قسمة العين هو الاصل في الباب وتمام التمييز به يحصل وورثتهما في ذلك بمنزلتهما لقيام الوارث مقام المورث فيما هو من حقه وكذلك المهايأة في دار وأرض على أن يسكن هذا الدار ويزرع هذا الارض وكذلك المهايأة في دار وحمام لان كل واحدة من المنفعتين يجوز استحقاقها بالمهايأة ولو كانت المهايأة في منزل واحد على أن يسكن أحدهما سفله والآخر علوه فانهدم العلو كان لصاحبه أن يسكن مع صاحب السفل لانه انما رضى بسقوط حقه عن سكنى السفل بشرط سلامة سكنى العلو له ولم يسلم له حين انهدم فكان هو على حقه في سكنى السفل باعتبار ملك نصيبه وورثته في ذلك بمنزلته وان كانا تهايئا على الخدمة في عبد أو أمة أو في عبد وأمة على أن تخدم الامة أحدهما والعبد الآخر واشترطا على كل واحد منهما طعام خادمه ففى القياس هذا لا يجوز لان مقدار ما يتناول من الطعام في نوبة كل واحد منهما غير معلوم والآدمي قد ينشط للاكل في وقت ولا ينشط في وقت آخر والطعام عليهما سواء لاستواء ملكيهما فيه فلا تمكن في هذا الشرط معاوضة بينهما فيما هو مجهول وفي العبد والامة هذا القياس أوضح ولكن استحسن جواز ذلك لقلة التفاوت واعتبار ما عليه عادة الناس من المساهلة في أمر الطعام وان اشترطا الكسوة بهذه الصفة لم يجز لكثرة التفاوت في الكسوة ولانه لا يجرى في الكسوة من المساهلة ما يجرى في

[ 176 ] الطعام ثم كل واحد منهما بما يتناول يتقوى على الخدمة فالظاهر أن كل واحد منهما لا يمنعه من التناول بقدر الكفاية لماله فهى من المنفعة والجهالة إذا كانت لا تفضى إلى المنازعة لا تفسد العقد ولا يوجد ذلك في الكسوة إذ ليس للكسوه تأثير في احداث القوة على زيادة الخدمة فان أقتا من الكسوة شيئا معروفا لم يجز ذلك لان التفاوت يقل وينعدم بعدم بيان الوصف والمنازعة تنقطع به ولان معنى المعاوصة هنا فيما لا يتم معنى اللزوم فيه فانه بناء على المهايأة وقد بينا أن حكم اللزوم لا يتم بالمهايأة وفى مثله البيان الموصوف يثبت بالقسمة كما في الصداق ونحوه ولو كانت غنم بين رجلين فتهايئا على أن يرعاها كل واحد منهما شهرا أو على أن يستأجر لها أجيرا جاز لان الرعى في الدواب بمنزلة الطعام في بني آدم أو أظهر منه فالتفاوت ينعدم هنا والحر والعبد في ذلك سواء وولي الصغير بمنزلة الصغير في ذلك لانه من جملة حوائجه يرجع إلى اصلاح ملكه وهو من صنع التجار ولو تهايئا على الخدمة في الامتين ثم وطئ أحدهما الامة التى عنده فعلقت فسدت المهايأة لانه تملك نصيب شريكه حين استولدها بضمان نصف القيمة وكما لا يصح ابتداء المهايأة الا بعمل مشترك فكذلك ما لا يبقى ولا شركة بينهما فيها بعدما استولدها أحدهما وكذلك لو ماتت أو أبقت انتقضت المهايأة لانه انما رضى بسلامة خدمة الاخرى لشريكه بشرط أن يسلم له خدمة التى هي في يده وقد فات ذلك بموتها أو باباقها ولو استخدمها الشهر كله الا ثلاثة أيام في أول الشهر ثم مرضت أو أبقت نقصت الآخر من شهره ثلاثة أيام باعتبار المعادلة فيما يستوفيه كل واحد منهما من منفعة الملك المشترك ثم يستقبلان المهايأة ولو لم ينقص الثلاثة أيام حتى تم الشهر في خدمته لم يكن له عليه في ذلك شئ لانه انما فضل صاحبه في استيفاء بعض الخدمة والخدمة لا تتقوم الا بالعقد بالتسمية وكذلك لو أبقت احداهما الشهر كله واستخدم الاخر الاخرى الشهر كله لم يكن عليه في تلك الخدمة ضمان ولا أجر لان المنفعة لا تتقوم بالاتلاف (ألا ترى) أنه لو استخدم الامة المشتركة أحدهما من غير رضا الشريك لا على وجه المهايأة لم يلزمه في ذلك ضمان لصاحبه بمنزل الغاصب ولو عطبت احداهما في الخدمة لم يضمنها صاحبها لان كل واحد منهما أمين في نصيب صاحبه مما في يده وانما يستخدمها باذن صاحبه فيكون هو في ذلك كالمستعير أو المستأجر ولو زوجها من هي في يده لم يجز ذلك لان التزويج تصرف يعتمد الولاية وثبوت الولاية بملك الرقبة وملك الرقبة لكل واحد منهما غير تام فما في يده بعد

[ 177 ] المهايأة كما قبلها فان وطئها الزوج فالمهر بينهما لان المهر بدل المستوفى بالوطئ وذلك في حكم جزء من العين كالارش فأما الذى زوج فله الاقل من نصف المسمى ومن نصف مهر مثلها لانه رضى بسقوط حقه في ما زاد على المسمى ورضاه معتبر في حقه وأما الذى لم يزوج فله نصف مهر مثلها لانه لم يرض بسقوط حقه عن شئ منه بالقسمة وعلى هذا السكنى في المنزل فانه لو انهدم من سكنى أحدهما أو احترق من نار أوقدها فيه لم يضمن لانه بمنزلة المستعير أو المستأجر ولو توضأ فيها فزلق رجل بوضوئه أو وضع شيئا فيها أو جلس فيها أو ربط فيها دابة فعبر به انسان من أهل الدار أو غيرهم لم يضمن لان هذا كله من توابع السكنى (ألا ترى) أن للمستعير والمستأجر أن يفعل ذلك ففعل كل واحد منهما بتسليط شريكه كفعلهما جميعا ولو بنى فيها بناء أو احتفر فيها بئرا فهو ضامن ويرجع عليه بقدر حصته لان هذا التصرف ليس من توابع السكنى فلا يستحقه بالمهايأة فكان هو متعديا في نصيب شريكه والسبب متى كان بطريق التعدي فهو كالمباشرة في ايجاب الضمان وانما يتحقق ذلك في نصيب شريكه دون تضييع فلهذا يرجع بقدر حصته وإذا تهايأ الرجلان في خادمين على أن يخدم أحدهما هذا سنة لفضل خدمتها والاخرى هذا الآخر سنتين فهو جائز لوجود التراضي منهما وحصول المقصود وهو المعادلة في الخدمة فان ولدت احداهما ولدا ومدة المهايأة طويلة فشب الولد فيها كانت خدمته بينهما لان استحقاق الخدمة بالمهايأة لا يسرى إلى الولد بمنزلة استحقاق ذلك بالوصية أو الاجارة فالولد تولد من العين فيكون مشتركا بينهما كالاصل ولم تتناوله المهايأة مقصودا ولا تبعا فكانت خدمته بينهما كخدمة الاصيل قيل وإذا مات أحد الشريكين وعليه دين لم يكن لورثته أن ينفذوا المهايأة ولكن نصيبه يباع في دينه لان حق الغرماء يتعلق بمالية نصيبه بموته وهو مقدم على حق ورثته فكما لا يجوز للورثة مباشرة ابتداء المهايأة مع قيام الدين على الميت فكذلك لا يكون لهم استدامة المهايأة ولو باع أحدهما نصيبه من احدى الخادمين أو أعتقه نفذ تصرفه وبطلت المهايأة لان شركته لم تبق بعد ما نفذ بيعه فيه وعتقه وإذا كاتب أحدهما نصيبه فلشريكه أن يبطل المكاتبة لدفع الضرر عن نفسه فان لم يعلم بها حتى أدت بطلت المهايأة ولو باع أحدهما نصيبه بيعا فاسدا ولم يسلم لم تبطل المهايأة وهو الشركة في الاصل وان سلم بطلت المهايأة لزوال ملكه عن نصيبه وفى البيع الجائز بنفس العقد يزول ملكه فتبطل المهايأه سلم أو لم يسلم وكذلك لو كان المشترى

[ 178 ] بالخيار لان ملك البائع يزول مع خيار المشترى وان كان البائع بالخيار لم تبطل المهايأه الا أن يمضى البيع لان خيار البائع يمنع زوال ملكه عن البيع في المدة ما لم يسقط الخيار والله تعالى أعلم بالصواب (باب صلح الاب والوصى والوارث) (قال رحمه الله) وإذا كان للصغير دار أو عبد فادعى رجل فيه دعوى فصالحه أبوه على شئ من مال الصبي ينظر في ذلك فان كان للمدعي بينة وكان ما أعطى الاب من مال الصبى مثل حق المدعى أو أكثر مما يتغابن الناس فيه جاز لان سبب الاستحقاق للمدعى ظاهر شرعا فالاب بهذا الصلح يصير كالمشترى لتلك العين لولده بماله والاب غير متهم في حق ولده فعند ظهور الحق للمدعى بالبينة انما يقصد الاب النظر للصبي وربما يكون له في العين منفعة لا يحصل ذلك بقيمته وان لم يكن له بينة لم يجز الصلح من الصبي لان المدعى ما استحق شيئا على الصبي بمجرد دعواه سوى الاستحلاف ولا يستحلف الاب ولا الصبي في حال الصغر وانما يستحلف إذا بلغ فالاب يفدى هذه اليمين بمال الصغير والا فاليمين ليست بمتقومة وليس للاب ولاية دفع مال الصبي بازاء ما ليس بمتقوم فان صالح من مال نفسه فهو جائز بمنزلة أجنبي آخر صالح على مال نفسه وضمن ولو ادعى الاب حقا للصبي في مثل ذلك ثم صالحه منه على شئ وقبضه وهو مثله أو أقل مما يتغابن الناس فيه جاز كما لو باعه ممن هو في يده وان كان أقل منه بشئ كثير لم يجز ان كانت له بينة لان سبب استحقاق الصبي ظاهر شرعا بالحجة فهو بهذا الصلح كأنه يبيع ماله بغبن فاحش وان لم تكن له بينة على حقه فالصلح جائز لان الصبي ما استحق قبل ذى اليد شيئا سوى اليمين ولا منفعة للصبي فالاب جعل مالا بمقابلة ما ليس بمال وهو غير متهم في هذا بل هو ناظر للصبي بتصيير ما ليس بمال في حقه مالا ووصى الاب في هذا بعد موت الاب كالاب وكذلك الجد ووصى الجد ولا يجوز صلح غير هؤلاء كالام والاخ على الصبى ولا عنه لانه لا ولاية له عليه فهو في الصلح في حقه كالاجنبي والمعتوه بمنزلة الصبي لانه مولى عليه. ولو كان للصبي دين على رجل فصالحه أبوه على بعض وحط عنه بعضا فان كان الاب هو الذي ولي مبايعته جاز الحط في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن لما حطه ولا يجوز في قول أبى يوسف رحمه الله وهو نظير

[ 179 ] اختلافهم في الوكيل بالبيع وان لم يكن ولى مبايعته لم يجر حطه وكذلك الوصي لان ثبوت الولاية لهما مقيد بشرط النظر للصبي وليس من النظر اسقاط شئ من حقه بالحط فهما في ذلك كأجنبي آخر ولو ادعى الوصي شقصا في دار فجحده رب الدار فصالحه في دراهم قبضها جاز ذلك ان لم يكن لهم بينة على الاصل وكانوا صغارا وكبارا لان الوصي قائم مقام الموصى وفى هذا الصلح نظر للموصى عليه فهو بالدعوى ما استوجب على الخصم لا اليمين ولان منفعته في مال يقضي به دينه ويستغنى به ورثته وان كانت لهم بينة عليه وكان ما قبض مثل قيمة ذلك أو أقل مما يتغابن الناس فيه جاز عليهم جميعا في قول أبى حنيفة رحمه الله ولا يجوز في قولهما على الكبار في حصتهم الا برضاهم وهو نظير اختلافهم في بيع الوصي شيئا من التركة وفى الورثة صغار وكبار وقد بينا ذلك في الشفعة ويستوى عندهما ان كانت لهم بينة أو لم تكن لانه لا ولاية للوصي على الكبار من الورثة فهو في حقهم كأجنبي آخر وصلح وصي الام والاخ على الصبي مثل صلح وصى الاب في غير العقار لان فيما سوى العقار للوصي ولاية البيع في تركة الموصى فكذلك له ولاية الصلح فأما في العقار فليس له ولاية البيع فيما صار للصغير من هذه التركة كما لم يكن للموصى ذلك في ملك الصبي ولا يحوز صلحه فيه أيضا وكذلك لو كانت الورثة كبارا وصغارا فصلح الوصي فيما سوى العقار جائز عليهم بشرط النظر كما لا يجوز بيعه فيه للحفظ عليه وإذا كان على الميت دين أو أوصى بوصية فصالح الوصي من دعوى له في دار فهو على ما ذكرنا في الورثة إذا كانوا صغارا لان باعتبار الدين والوصية يثبت للوصي في الولاية للميت حتى يجوز بيعه في جميع التركة عند أبى حنيفة رحمه الله فكذلك الصلح وإذا ادعى الوارث الكبير على الوصي ميراثا من صامت أو رقيق أو أمتعة فجحده ثم صالح من جميع ذلك على عبد أو ثوب معلوم جاز لوجود التراضي منهما على ما اصطلحا عليه وكذلك لو قال افتدى منك يمينى بذلك لان الصلح على الانكار فداء لليمين بالمال ولا فرق بين لفظ الفداء وبين لفظ الصلح فيه وان كان وارثين ادعيا ذلك قبله فصالح احدهما على عرض من غير اقرار لم يكن للآخر أن يرجع على الوصي بشئ لانه بالصلح على الانكار لم يصر مقرا له بشئ وانما فدى يمينه وللآخر أن يستحلفه ان شاء لان حق الاستحلاف كان ثابتا لهما فاسقط ذلك أحدهما بالمال فصح ذلك في حقه وفى حق الآخر لا يصح الا برضاه فان أبى فهو على حقه في الاستحلاف وان أراد أن يشارك أخاه فيما

[ 180 ] قبض فله ذلك باعتبار انه صار راضيا بالصلح فكأنهما صالحاه وهذا إذا كان ما ادعياه مستهلكا لان الصلح مبنى على زعمهما في حقهما وفى زعمهما أن قيمة ذلك دين على الوصي مشترك بينهما وأحد الشريكين في الدين إذا صالح على شئ كان للآخر أن يشاركه في المقبوض الا أن يعطيه نصف ما ادعى من ذلك فان كانت الورثة صغارا وكبارا وصالح الوصي الكبار من دعواهم ودعوى الصغار على دراهم وقبضها الكبار وأنفقوا على الصغار حصتهم من ذلك فان ذلك لا يجرى على الصغار لانه لا ولاية للكبار على الصغار وللصغار أن يرجعوا بحصتهم على الوصي إذا أدركوا ويرجع الوصي على الكبار بحصة الصغار مما أخذوا لانهم يزعمون أنهم أخذوا المال عوضا عن الكل وقد استحق الصغار نصيبهم على الوصي فكان لهم أن يرجعوا بحصة ذلك من المأخوذ من الكبار واذ أقر الوصي أن لاحد الورثة عنده من ميراثه كذا وكذا درهما فأراد بقية الورثة أن يرجعوا على الوصي بحصتهم كما أقر لهذا لم يكن لهم ذلك ولكن ما أقر به لهذا فهو بينهم على المواريث لان الوصي أمين فيما في يده من التركة والقول قول الامين في براءة نفسه ولكن لا يقبل قوله فيما يدعي من وصول المال إلى غيره كالمودع إذا ادعى الرد على الوصي فهنا أيضا قول الوصي فيما يرجع إلى براءته مقبول سواء ذكر انه سلم نصيب الكبار إليهم أو ان ذلك لم يصل إلى يده ولكن لا يقبل قوله في اسقاط حق الكبار عما أقر به للصغير لان ذلك جزء من التركة وهو مشترك بينهم باعتبار الاصل فلا يقبل قول الوصي في تخصيص أحدهم به ولكن يجعل ما سوى هذا من التركة كالناوي فتبقى الشركة بينهم في هذا وإذا أقر الوصي أن عنده للميت ألف درهم وللميت ابنان ثم صالح أحدهما من حصته على أربعمائة درهم من مال الوصي لم يجز لانه أعطاه أقل من حصته وقد بينا في الدين ان مثل هذا الصلح يجوز بطريق الاسقاط وهنا لا يمكن تصحيحه بطريق الاسقاط لانه عين في يد الوصي أمانة فلابد من حمله على معنى المعاوضة ومبادلة الخمسمائة بأربعمائة لا يجوز وكذلك لو كان مع الالف متاع فالعلة المفسدة هنا أظهر ولو أن الوصي استهلك ذلك جاز الصلح في أربعمائة لان ما استهلك صار دينا في ذمته فهذا حط عنه بعض حقه واستوفى البعض فيصح الصلح بطريق الاسقاط وإذا مات الرجل وترك ابنا وامرأة وترك رقيقا وعقارا وأمتعة فقبضها الابن واستهلكها أو لم يستهلكها ثم صالحته المرأة بعد اقرار أو انكار على دراهم مؤجلة أو حالة جاز ذلك وصلحها معه مثل صلح الاجنبي مع الاجنبي في الدعاوى لانها تدعى ميراثا

[ 181 ] قبله فان كان مقرا بذلك فالصلح على الاقرار جائز وما يعطيها عوض نصيبها ان كان قائما في يد الابن وان كان مستهلكا فهى قد استوفت بعض حقها وأبرأته عما بقى وان كان منكرا لحقها فالصلح مع الانكار صحيح بطريق الفداء لليمين وقد بينا وجوه صلح بعض الورثة مع البعض واستوفينا جميع ذلك وقال فان كان في الميراث عين ودين فصالح الابن المرأة من ذلك كله ما خلا المال العين والدين فهو جائز لان ما جعل مستثنى لم يتناوله عقد الصلح فكان ذلك غير موجود في التركة أصلا فكما يجوز الصلح من جميع المدعى يجوز من بعضه فيصح وهى انما صالحته عن نصيبها من العروض والعقار خاصة وذلك جائز وان كتب في كتاب البراءة انى دفعت اليك جميع حصتك من المال العين فهو جائز إذا أقرت بالقبض وان كتب انى عجلت لك ميراثك من كل مال دينا على الناس من غير أن شرطتيه علي فهو جائز لان اقرارها على نفسها حجة شرعا وما أقرت به كالمعاين في حقها فيبرأ الغريم من حصتها من الدين لان تبرع أحد الورثة بقضاء ذلك الوارث الآخر كتبرع أجنبي آخر ومطلق هذا التبرع يوجب براءة الغريم عنه وإذا مات الرجل فأوصى بثلثه لرجل وترك ورثة وفيهم الصغير والكبير فطلب الموصي له موصيه فصالحه بعض الورثة على دراهم مسماة على أن يسلم له ذلك خاصة دون بقية الورثة فان كان الميراث ليس فيه مال غائب ولا عين حاضرة يكون ثلثه مثل ذلك فانى أجيز الصلح إذا كان المال المعين في يد المصالح أو كان الميراث رقيقا أو عقارا لان الموصى له شريك الوارث في التركة فصلح الوارث معه كصلح أحد الوارثين مع الآخر وفى نظير هذا صلح أحد الوارثين مع الآخر على أن يكون نصيبه له صحيحا فكذلك صلح الوارث مع الموصى له فان كان في الميراث دين لم يجز ذلك لان ثلث ذلك الدين صار للموصى له بالثلث فهو يملك ذلك من الوارث يأخذ منه عوضه وتمليك الدين من غير من عليه الدين بعوض لا يجوز وان كان عين ثلثه مثل ما أعطى أو أكثر لم يجز الصلح مراده بالعين النقد من الذهب والفضة وإذا وقع الصلح على جنس ذلك ومقدار حقه من ذلك الجنس مثل ما استوفى أو أكثر فهذا الصلح يكون ربا وقد بينا فساد ذلك فيما بين الورثة فكذلك فيما بين الوارث والموصى له وإذا كان المال المعين في يد الوصي وكان ما أعطى الوارث الموصى له أكثر من ثلثه جاز ذلك إذا قبض الوارث ذلك من الوصي قبل أن يتفرقا وان تفرقوا قبل أن يقبض الوارث المال المعين من يد الوصي ينقص من الصلح حصة المال المعين لان العقد في تلك

[ 182 ] الحصة قد صرف ويد الوصي يد أمانة فلا يصير الوارث قابضا بحكم الصرف بيد الوصي وإذا افترقا قبل أن يقبض ذلك منه فقد افترقا من المجلس قبل قبض بدل الصرف فيبطل الصلح في حصة ذلك ويجوز فيما سواه وكذلك ان صالحه على دنانير لان في حكم الصرف ووجوب القبض في المجلس لا فرق بين أن يكون العقد متناولا لحبس واحد من النقود أو جنسين وان صالحه على مكيل أو موزون بعينه جاز لانه مشتر لما وقع عليه الصلح بنصيبه من التركة والمشترى معلوم معين وان كان بغير عينه لم يجز لانها صفقة واحدة وفى حصة العين من التركة يبطل هذا الصلح لانه بيع ما ليس عند الانسان فالمكيل والموزون بالدراهم يكون مبيعا وإذا فسد في البعض فسد في الكل وإذا صالحه على ثياب موصوفة أو مؤجلة ثم تفرقا قبل أن يقبض الوارث حصة الموصى له من المال المعين بطل من الثياب حصة المال المعين لان صفة العقد في معنى السلم فيشترط قبض رأس المال في المجلس والا يكون دينا بدين وان تفرقا قبل القبض بطل العقد في ملك الحصة ولكن هذا فساد طارئ فطريان المفسد في البعض لا يفسد العقد في الباقي بخلاف المقارن وقد بينا نظيره في كتاب الصرف ولو كان هذا الصلح في مال الوارث على أن يسلم الموصى له جميع موصيه من الورثة على سهامهم كان القول فيه مثل ذلك في جميع ما بينا لانه في الصلح في نصيب سائر الورثة هو متبرع عنهم بأداء المال وذلك يصح منهم كما يصح من الفضولي فكأنهم صالحوه جميعا على ذلك وصلح الوارث الموصى له وصلح الوارث سواء في جميع ما ذكرنا لانهم في التركه شركاء وكذلك لو كان الميراث في يد الموصي له فصالح الوارث على أن أعطاه دراهم على أن يسلم الوارث ميراثه لان الوارث يملك نصيبه من الموصى له بما يقبض منه من العوض فكما يجوز فيه صلح الوارث مع الموصى له إذا كانت التركة في يده يجوز فيه صلح الموصى له مع الوارث أيضا ولو كان الميراث مالا معينا ومتاعا وحليا وفيه جوهر لا يخلص الا بضرر والوارث رجلان كبيران وصغير له وصى ورجل موصى له فاصطلحوا على أن قوموا ذلك قيمة عدل وسموا لاحد الكبيرين حليا بعينه ومتاعا ومالا وكذلك للآخر وللصغير والموصي له وانفدوا ذلك فيما بينهم وجعلوه لمصالحهم بتلك القيمة ولم يتقابضوا لم يجز لان العقد فيما يخص الحلى صرف وترك كبيران وصغير له وصى ورجل موصى له فاصطلحوا على أن قوموا ذلك قيمة عدل وسموا لاحد الكبيرين حليا بعينه ومتاعا ومالا وكذلك للآخر وللصغير والموصي له وانفدوا ذلك فيما بينهم وجعلوه لمصالحهم بتلك القيمة ولم يتقابضوا لم يجز لان العقد فيما يخص الحلى صرف وترك القبض في المجلس يفسد فيه وذلك مفسد للعقد في حصة الجوهر أيضا لانه لا يمكن تخليصه الا بضرر ومثل هذا كما لا يجوز البيع فيه ابتداء فكذلك لا يبقى العقد فيه بعدما فسد في

[ 183 ] حصة الحلى وقد بينا نظيره في الصرف في السيف المحلى ولو كان وارث منهم اشترى رقيقا ومتاعا بألف درهم ثم ان الوارث الآخر اشترى منهم حليا فيه جوهر بألف درهم على أن يحسب له من نصيبه لم يجز ذلك من قبل أن العقد فيه صرف ولم يوجد التقابض في المجلس ولان حصته مما على أخيه داخلة في ذلك وهو دين ولو كان بعض التركة دينا على أجنبي لم يجز مثل هذا الصلح بين الورثة فيه فكذلك إذا كان دينا على بعض الورثة قال غيره انه يجوز من ذلك الجوهر بحصته إذا كان مميزا وان كان غير مميز لم يجز شئ منه أما إذا كان غير مميز فالجواب ظاهر لان فساد العقد من حصة الحلى فالافتراق مفسد في حصة الجوهر أيضا وان كان مميزا فان كان صلحه مع جميع الورثة والموصي له فانه يجوز من حصة الجوهر لان فساد العقد هنا بترك القبض في المجلس في حصة الحلى وذلك فساد طارئ لا باعتبار ان نصيبه دين فانه ما صالح عن نصيبه على هذا الحلى وانما اشترى هذا الحلى منهم بألف درهم على أن يحسب لهم من نصيبه فكان فساد العقد باعتبار ان الحلى غير مقبوض في المجلس وان الوارث الصغير والموصى له يقبضان حصتهما مما هو دين على الاخ الآخر في المجلس وكل ذلك يفسد العقد لترك القبض في المجلس من غير أن يتبين فيه فساد العقد من الاصل فلهذا يبقى الصلح في حصة الجوهر إذا كان مميزا والله تعالى أعلم بالصواب (تم الجزء العشرون من مبسوط الامام السرخسي رحمه الله) (ويليه الجزء الحادي والعشرون وأوله باب الصلح في الوصايا)