الرئيسيةبحث

مبسوط السرخسي - الجزء السادس عشر2

[ 89 ] الشبهات وإذا وقع الغلط فيه أمكنه التدارك فيكتفى بظاهر العدالة في ذلك ما لم يطعن الخصم وإذا سأل عن الشهود لم يقضى بشهادتهم حتى تأتى مسألته مزكاة يعنى ان المزكى ان كتب في جوابه أنهم عدول لا يكتفي بذلك فالعدل قد لا يكون من أهل الشهادة كالعبد عدل في روايته وكذلك ان كتب عدول أحرار فالمحدود في القذف بعد التوبة حر عدل وكذلك ان كتب أنه نفذ فقد بطل هذا اللفظ على المستور الذي لايعرف حاله فان كتب أنه مزكى فهو تنصيص على وجوب العمل بشهادته ولان القاضى انما طلب من المزكى التزكية فينبغي أن يجيبه إلى ما طلب بلفظه كما أنه لما طلب من الشاهد أن يشهد فما لم يأت بلفظة الشهادة لاتقبل شهادته وإذا اختصم إلى القاضي قوم يتكلمون بغير العربية وهو لا يفقه لسانهم فانه ينبغى له أن يترجم عنهم له رجل مسلم ثقة واتخاذ الترجمان للحاجة قد كان عليه الناس في الجاهلية وبعد الاسلام ولما جاء سلمان رضى الله عنه إلى النبي ﷺ ليسلم ترجم يهودى كلامه لرسول الله ﷺ فخان في ذلك حتى نزل الوحي حديث فيه طول وأمر رسول الله ﷺ زيد بن ثابت رضى الله عنه أن يتعلم العبرانية وكان يترجم لرسول الله ﷺ عمن كان يتكلم بين يديه بتلك اللغة ثم لا خلاف أنه يشترط في المترجم أن يكون عدلا مسلما لان نفس الخبر محتمل للصدق والكذب فانما يترجح جانب الصدق بالعدالة ويشترط الاسلام أيضا لان الكفار معادون للمسلمين فالظاهر أنهم يقصدون الجناية في مثل هذا قال الله تعالى لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا أي لا يقصرون في افساد أموركم فلهذا لا يقبل القاضى الترجمة الا من مسلم عدل والواحد لذلك يكفى والمثنى أحوط في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله يشترط في المترجم لكلام الخصم أو لشهود الشاهدين ما يشترط في الشهادة من العدد وذلك رجلان أو رجل وامرأتان وكذلك الخلاف في التزكية عندهما تزكية الواحد يكفى والمثنى أحوط وعند محمد رحمه الله لابد من عدد الشهادة في ذلك وكذلك الخلاف في رسول القاضى إلى المزكى فمحمد رحمه الله يقول ما لم يفهم القاضى فكأنه لم يسمعه ومعنى هذا وهو انه انما يسمع من المترجم لانه يفهم قول المترجم وعليه ينبنى الحكم فكانت الترجمة في حقه بمنزلة الشهادة (ألا ترى) أنه يعتبر فيها ما يعتبر في الشهادة من الحرية والاسلام والعدالة فكذلك العدد وهذا لانه يلزم على القاضى القضاء وهذا آكد ما يكون من الالزام فيشترط العدد فيه لطمأنية القلب كالشهادة الا أنه لا يشترط

[ 90 ] لفظة الشهادة لان اشترط ذلك في الشهادة ليس لمعنى الالزام بل هو ثابت بالنص بخلاف القياس أو لمعنى الزجر عن الشهادة بالباطل فقوله أشهد بمنزلة قوله أحلف ولهذا أعظم الوزر في شهادة الزور كما في اليمين الغموس والمدعى هو الذي يأتي بالشهود فلمكان احتمال المواضعة والتلبيس بينهم شرطنا لفظة الشهادة وأما المترجم بحيازة القاضى فينعدم في حقه مثل تلك التهمة فلهذا لا يشترط في حقه لفظة الشهادة وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قال المترجم مخير غير ملزم وخبر الواحد مقبول بشرط العدالة والاسلام وان كان ملزما كما في رواية الاخبار وكما في الشهادة على رؤية هلال رمضان والدليل عليه أنه لا يعتبر لفظة الشهادة فيه ولو كان هذا في معنى الشهادة لاستوى فيما اختص به الشهادة كاختصاص الشهادة من بين سائر الاخبار بلفظ الشهادة فإذا لم يجعل هذا الخبر بمنزلة الشهادة فيه ففى العدد أولى واشترط الاسلام والعدالة هنا بمنزلة اشتراط ذلك في رواية الاخبار واشتراط الحرية لانه يلزم الغير ابتداء من غير أن يلتزم شيئا فكان من باب الولاية والرق تبقى الولاية على الغير بخلاف رواية الاخبار والشهادة على هلال رمضان فانه يلتزم ذلك بنفسه ثم يتعدى إلى غيره فلا تشترط الحرية فيه لذلك ومع أن الواحد يكفى لذلك كما في رواية الاخبار ولكن رجل وامرأتان أوثق لانه في الاحتياط اقرب قال وينبغى للقاضى ان يتخذ كاتبا من اهل العفاف والصلاح لانه محتاج إلى ان يكتب ما جرى في مجلسه وربما يعجز عن مباشرة جميع ذلك بنفسه فيتخذ كاتبا لذلك والكاتب نائبه فينبغي أن يشبهه في العفاف والصلاح والكتاب من أقوى ما يعتمد عليه القاضى فلا يفوضه الا إلى من هو معروف بالصلاح والعفاف حتى لا يخدع بالرشوة ثم لم يقعده حيث يرى ما يكتب وما يصنع اما لانه يحتاج إلى الرجوع إلى ما في يده من المكتوب في كل حادثة فليكن بمرأ العين منه أو لانه لا يأمن عليه من أن يخدعه بعض الخصوم بالرشوة إذا لم يكن بمرأ العين من القاضى ثم يكتب خصومة كل خصمين وما بينهما من الشهادة في صحيفة بيضاء وحدها ثم يطويها ويخرمها ويختمها بخاتمه للتوثق كيلا يزاد فيها ثم يكتب عليها خصومة فلان بن فلان وفلان بن فلان في شهر كذا في سنة كذا حتى يتيسر عليه تمييزها من سائر الصحائف إذا اختلفت بها ولا يحتاج في ذلك إلى فتح الخاتم فقد يشق عليه ذلك في كل وقت ويجعل خصومة كل شهر في قطمر على حدة لا يخالطها شئ آخر والقطمر اسم لخريطة القاضى وفيه لغتان قمطرة وقطمر وانما يتخذ لخصومة كل شهر خريطة على حدة ليتيسر عليه وجودها

[ 91 ] عند الحاجة إليها ويجدها بأدنى طلب ويكتب التاريخ لانه قد يحتاج إليه عند منازعة الخصوم والاصل في كتاب التاريخ ماروى ان عمر رضى الله عنه لما اراد أن يكتب إلى الافاق قيل له ان الملوك لا يقبلون الكتاب إذا لم يكن مؤخرا فجمع الصحابة وشاورهم في التاريخ ثم اتفقوا على ان جعلوا التاريخ من وقت الهجرة وبقى ذلك إلى يومنا هذا قال وليباشر هو بنفسه مسائل الشهود فيكتبها أو يكتب بين يديه ثم يبعث بها في السر إلى أهل الثقة عنده والعفاف والصلاح فيبعث كل مسألة مع رجلين كل واحد منهما ثقة ولا يطلع واحد منهما على ما يبعث به مع صاحبه لان قضاءه ينبنى على الشهادة فلا يدع في بابها أقصى ما في وسعه من الاحتياط والمباشرة بنفسه وقد كانت التزكية في الابتداء علانية ثم أحدث شريح رحمه الله تزكية السر فقيل له أحدثت يا أبى أمية فقال أحدثتم فأحدثنا فكان يجمع بين تزكية السر وتزكية العلانية فيسأل عن حال الشهود في السر ثم يحضر الشهود والمزكون ليزكوهم علانية فيقول هؤلاء الذين زكيناهم هو أتم ما يكون من الاحتياط غير ان القضاة تركوا بعد ذلك تزكية العلانية واكتفوا بتزكية السر ابقاء للستر على الناس وتحرزا عن الغيبة التى تقع بين المزكين وبعض الشهود في تزكية العلانية إذا ميزوا المجروح فلهذا يكتفى بتزكية السر في زماننا وانما لا يطلع واحد من الرسولين على ما يبعث به مع صاحبه كيلا يتواضعا بينهما على شئ وان استطاع أن لايعرف له صاحب مسألة فليفعل لانه إذا كان معروفا فيرجع إليه بعض الخصوم فيخدعه بالرشوة أو تخوفه بعض الشهود فيزكى المجروح لذلك ويلبس على القاضي فكان الاحتياط أن لايعرف له صاحب مسألة ولكن في زماننا اتخذوا التزكية عملا فيشتهر المزكى لذلك لا محالة والاحتياط للقاضى أن يسأل عنه وعن غيره من العدول وأهل الصلاح ممن يقف عليه القاضى ولا يعرفه الخصوم وإذا أتاه تزكية رجل من ثقة وأتاه من ثقة آخر انه غير عدل أعاد المسألة لوقوع التعارض بين الخبرين فان النافي معارض للمثبت فيما طريقه الخبر وقد بينا في كتاب الاستحسان وذكرنا هناك انه إذا اتفق رجلان على التزكية عمل بقولهما ولم يعمل بقول الواحد الذي خرج لان المثنى حجة في الاحكام فلا يعارضه خبر الواحد وإذا اجتمع رهط على التزكية ورجلان عدلان على الحرج أخذ بقولهما لان الذين زكوا اعتمدوا ظاهر الحال وخفى عليهم ما عرفه اللذان جرحا من العارض الموجب للجرح فيه وقد ثبت ذلك بحجة كاملة فان خبر المثنى حجة في اثبات الحكم (قال) وينبغى أن يكتب الشاهد اسمه ونسبه وحليته ومنزله في دار نفسه

[ 92 ] أو في دار غيره لانه ما لم يصر معلوما عند من يسأل عن حاله لا يمكنه ان يسأل وانما يصير معلوما بما ذكرنا وانما يكتب منزله لان أعرف الناس بحال المرء جيرانه (ألا ترى) ان ذلك الرجل لما قال يارسول الله عليك السلام كيف أنا قال ﷺ سل جيرانك وانما يتمكن من أن يسأل جيرانه عن حاله الاعرف منزله ولانه قد يتسمى رجل باسم غيره للتلبيس على القاضى فيتحرز عن ذلك بان يكتب منزله ويسأل عن التزكية في العلانية بعد التزكية في السر لانه ربما يشتبه على المزكى أو يلتبس عليه فيزكى غير من شهد وينعدم هذا الوهم عند تزكية العلانية الا انه استحسن ترك ذلك في زماننا للتحرز عن الفتنة وإذا وجد القاضى في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود لا يحفظ أنهم شهدوا عنده بذلك فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله ان يتفكر في ذلك حتى يتذكر وليس له أن يقضى بذلك ان لم يتذكر وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله إذا وجد ذلك في قمطرة تحت خاتمه فعليه أن يقضى به وان لم يتذكر وهذا منهما نوع رخصة فالقاضي لكثرة أشتغاله يعجز أن يحفظ كل حادثة ولهذا يكتب وانما يحصل المقصود بالكتاب إذا جاز له أن يعتمد على الكتاب عند النسيان فان الآدمى ليس في وسعه التحرز عند النسيان (ألا ترى) إلى ما ذكر الله تعالى في حق من هو معصوم فقال الله تعالى سنقرئك فلا تنسى الا ما شاء الله وفي تخصيصه بذلك بيان ان غيره ينسى وسمى الانسان انسانا لانه ينسى قال الله تعالى ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ولم نجد له عزما فلو لم يجز له الاعتماد على كتابه عند نسيانه ادى إلى الحرج والحرج مدفوع ثم ماكان في قمطرة تحت خاتمه فالظاهر انه حق وان لم يصل إليه يد معتبرة ولازئدة فيه والقاضى مأمور باتباع الظاهر ومذهب أبى حنيفة رحمه الله هو العزيمة فالمقصود من الكتاب ان يتذكر إذا نظر فيه لان الكتاب للقلب كالمرآة للعين وانما تعتبر المرآة ليحصل الادراك بالعين فإذا لم يحصل كان وجوده كعدمه فكذلك الكتاب للتذكر بالقلب عند النظر فيه فإذا لم يتذكر كان وجوده كعدمه وهذا لان الكتاب قد يزور ويفتعل به والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم وليس للقاضى ان يقضى الا بعلم وبوجود الكتاب لا يستفيد العمل مع احتمال التزوير والافتعال فيه وهذه ثلاثة فصول أحدهما مابينا والثانى في الشاهد إذا وجد شهادته في صك وعلم أنه خطه وهو معروف ولكن لم يتذكر الحادثة والثالث إذا سمع الحديث فوجده مكتوبا بخطه ووجد سماعه مكتوبا غره وهو خط معروف ولكنه لم يذكر في الفصول الثلاثة عند أبى حنيفة رحمه الله ليس له ان يعتمد الكتاب ولهذا قلت له

[ 93 ] روايته لانه كان يشترط في الرواية الحفظ من حين سمع إلى ان يروى واليه اشار رسول الله ﷺ في قوله نصر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من يسمعها ومحمد رحمه الله في الفصول الثلاثة اخذ بالرخصة للتيسير على الناس وقال يعتمد خطه إذا كان معروفا وابو يوسف رحمه الله في مسألة القاضى ورواية الحديث أخذ بالرخصة لان المكتوب كان في يده وفي مسألة الشهادة أخذ بالعزيمة فقال الصك الذي فيه الشهادة كان في يد الخصم فلايا من الشاهد التغيير والتبديل فيه فلا يعتمد خطه في الشهادة ما لم يتذكر الحادثة وان وجد القاضى سجلا في خريطته ولم يتذكر الحاجة فهو على الخلاف الذي بينا وان نسي قضاءه ولم يكن سجل فشهد عنده شاهد أنك قضيت بكذا لهذا على هذا فان تذكر امضاه وان لم يتذكر فلا اشكال أن على قول أبى حنيفة رحمه الله لا يقضي بذلك وقيل على قول أبى يوسف رحمه الله لا يعتمد ذلك وعند محمد رحمه الله يعتمد ذلك فيقضى به وعلى هذا من سمع من غيره حديثا ثم نسي ذلك راوي الاصل فسمعه ممن يروى عنده فعند أبى يوسف رحمه الله ليس له أن يعتمد رواية الغير عنه كما لا يفعل ذلك شاهد الاصلى إذا شهد عنده شاهد الفرع على شهادته وعند محمد رحمه الله له أن يعتمد ذلك للتيسر من الوجه الذي قلنا وعلى هذه المسائل التى اختلف فيها أبو يوسف ومحمد رحمهم الله في الرواية في الجامع الصغير وهى ثلاثة مسائل سمعها محمد من أبى يوسف رحمهما الله ثم نسى ذلك أبو يوسف رحمه الله فكان لا يعتمد رواية محمد رحمه الله بناء على مذهبه في ذلك ومحمد رحمه الله كان لا يدع الرواية مع ذلك بناء على مذهبه فحال القاضى كذلك وما وجد في ديوان القاضى بعد أن يعدل من شهادة أو قضاء أو اقرار فهو غير مأخوذ به ولا مقبول الا أن يقوم بينة أنه قضى به وأنفذه وهو قاضي يومئذ لان القاضى الثاني لا يعلم حقيقة شئ من ذلك وولاية القاضى فوق ولاية الشهادة فإذا كان لا يجوز للمرء أن يشهد بما لا يعلم فئلا يجوز له أن يقضى بمالا يعلمه أولى والاصل فيه قوله تعالى الا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال ﷺ للشاهد إذا رأيت مثل هذه الشمس فاشهد والا فدع ثم طريق اثباته عند القاضى اقامة البينة ويشترط أن يشهدوا أنه كان قاضيا حين قضى بهذا فلعله أنفذه بعد العزل والقضاء منه بعد العزل لا يكون نافذا ولا ينبغى للقاضى أن يتخذ كاتبا من أهل الذمة * بلغنا أن أبا موسى الاشعري قدم على عمر رضى الله عنهما فسأله عن كاتبه فقال هو رجل من أهل الذمة فغضب عمر رضى الله عنه من ذلك

[ 94 ] وقال لا تستعينوا بهم في شئ وأبعدوهم وأذلوهم فاتخذ أبو موسى كاتبا غيره ولان ما يقوم به كاتب القاضى من أمر الدين وهم يخونون المسلمين في أمور الدين ليفسدوه عليهم (قال) الله تعالى لا تتخذوا بطانة الآية وان عمر رضى الله عنه أعتق عبدا له نصرانيا يدعي بحنس وقال لو كنت على ديننا لاستعنا بك في شئ من أمورنا ولان كاتب القاضى يعظم في الناس وقد نهينا عن تعظيمهم قال ﷺ أذلوهم ولا تظلموهم ولا تتخذوا كاتبا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته لان الكاتب ينوب عن القاضى فيما هو من أهم أعماله فلا يختار لذلك الا من يصلح للقضاء وربما يحتاج القاضى إلى الاعتماد على شهادته في بعض الامور أو يحتاج بعض الخصوم إلى شهادته فلا يختار الا من يصلح للشهادة ولا بأس بان يكلف القاضى الطالب صحيفة يكتب فيها حجته وشهادة شهوده لان منفعة ذلك له والذي يحق على القاضى مباشرة القضاء فاما الكتبة ليست عليه فلا يلزمه اتخاذ الصحائف لذلك من مال نفسه ولكن لو كان في بيت المال سعة فرأى أن يجعل ذلك من بيت المال فلا بأس بذلك لانه يتصل بعمله وكفايته في مال بيت المال فما يتصل به لا بأس بأن يجعل في مال بيت المال وعلى هذا أجر كاتب القاضى فانه ان جعل كفايته في بيت المال لكفاية القاضى ليحتسب في عمله فهو حسن وان رأى أن يجعل ذلك على الخصوم فلا بأس به لانه يعمل لهم عملا لا يستحق على القاضى مباشرته وكذلك أجير قاسم القاضى وإذا هلك ذكر شهادة الشهود من ديوان القاضى فشهد عنده كاتبان له ان شهوده فلان وفلان وقد شهدوا عنده بكذا وكذا لم يقبل ذلك لانهما ما أشهد الكاتبين على شهادتهما ولا يقبل شهادة الانسان على شهادة غيره وإذا لم يشهد على شهادته وينبغى للقاضى أن يكتب شهادة الشاهدين بمحضر المشهود عليه أو وكيله حتى لا يغير شيئا من موضعه لان الشهود ان زادوا شيئا أو حرفوه طعن فيه وخاصم ورفع ذلك إلى القاضى نائبه وكون الكاتب بمحضر منه أقرب إلى النظر له والى نفى التهمة عن القاضي وان كتبها بغير محضر منه لم يضره ذلك لانه يكتب ما سمع وهو أمين في ذلك ما لم تظهر خيانته وينبغى للقاضى أن يعرض كتاب الشهادة بعد ما يكتبها على الشاهد حتى يعرف هل زاد شيئا أو حرفه عن موضعه لان حجة القضاء شهادة الشهود فيستقصى في الاحتياط فيه وذلك في العرض على الشاهد بعد ما يكتب ولهذا قيل إذا لم يكن ماهرا في العربية ينبغى له أن يكتب شهادة الشهود بلفظه ولا يحوله إلى لغة مخافة الزيادة والنقصان والله أعلم بالصواب

[ 95 ] (باب كتاب القاضي إلى القاضى) (قال رحمه الله اعلم بأن القياس يأبى جواز العمل بكتاب القاضي إلى القاضى لان كتابه لا يكون أقوى من عبارته ولو حضر بنفسه مجلس القضاء المكتوب إليه وعبر بلسانه عما في الكتاب لم يعمل به القاضى فكذلك إذا كتب به إليه ولان الكتاب قد يزور ويفتعل والخط يشبه الخط والخاتم يشبه الخاتم فكان محتملا والمحتمل لا يصلح حجة للقضاء ولكنا جوزنا العمل بكتاب القاضى إلى القاضى فيما يثبت مع الشبهات لحديث علي رضى الله عنه أنه جوز ذلك ولحاجة الناس إلى ذلك فقد يكون الشاهد للمرء في حقه على بلدة وخصمه في بلدة أخرى فيتعذر عليه الجمع بينهما وربما لا يتمكن من أن يشهد في شهادتهما وأكثر الناس يعجزون عن أداء الشهادة على الشهادة على وجهها ثم يحتاج بعد ذلك إلى معرفة عدالة الاصول ويتعذر معرفة ذلك في تلك البلدة فتقع الحاجة إلى نقل شهادتهم بالكتاب إلى مجلس ذلك القاضى ليتعرف القاضى من الكتاب عدالتهم ويكتب ذلك إلى القاضى المكتوب إليه فللتيسير جوزنا ذلك ولكن فيما يثبت مع الشبهات لانه لا ينفك عن شبهته كما أشرنا إليه في وجه القياس فلا يكون حجة فيما يندرئ بالشبهات ولان ذلك نادر لاتعم البلوى به فلما جعل هذا حجة للحاجة اقتصر على ما تعم البلوى به لان الحاجة تمشي إلى ذلك فإذا أتى القاضى كتاب قاضى سأل الذي جاء به البينة على أنه كتابه وخاتمه لانه غاب عن القاضى علمه فلا يثبت الا بشهادة شاهدين ثم يقرؤه عليهم ويشهدون على ما فيه فمن أصل أبى حنيفة رحمه الله ان علم الشهود بما في الكتاب شرط لجواز القضاء بذلك وهو قول أبى يوسف الاول ثم رجع فقال إذا شهدوا انه خاتمه وكتابه قبله وان لم يعرف ما فيه وهو قول ابن أبى ليلى رحمه الله لان كتاب القاضى إلى القاضى قد يستعمل على شئ لا يعجبهما أن يقف عليه غيرهما ولهذا يختم الكتاب ومعنى الاحتياط يحصل إذا شهدوا أنه كتابه وخاتمه ولكنا نقول ما هو المقصود لابد من أن يكون معلوما للشاهد والمقصود ما في الكتاب لاعين الكتاب والختم وكتب الخصومات لا يستعمل على شئ سوى الخصومة فللتيسير يطلب كتابا آخر على حدة فاما ما يبعث على يد الخصم لا يشتمل الا على ذكر الخصومة ولفظ الشهادة (قال) ولا يفتح الكتاب الا بمحضر من الخصم لان ذلك في معنى الشهادة على الشهادة فان الكاتب ينقل

[ 96 ] ألفاظ الشهادة كتابة إلى القاضى المكتوب إليه كما ان شاهد الفرع ينقل شهادة شاهد الاصل بعبارته ثم لا تسمع الشهادة على الشهادة الا بمحضر من الخصم فكذلك لا يفتح الكتاب الا بمحضر من الخصم فإذا قرأه عليه وعلم ما فيه فانه ينبغى له أن يخرمه ويختمه لكيلا يغير شيئا منه ويكتب عليه اسم صاحبه ليتسير عليه وجوده في قمطره عند الحاجة إليه وإذا وصل الكتاب إلى هذا القاضى بعد ما مات الكاتب أو عزل لم يعمل به لانه ما أتاه كتاب القاضى لان الكاتب قد انعزل حين عزل أو مات فانما أتاه كتاب واحد من الرعايا وذلك لاصلح حجة للقضاء وان مات ذلك أو عزل بعد ما وصل الكتاب إلى هذا القاضى وقرأ ما فيه فانه يعمل به لان الذي أتاه كتاب القاضى وقد بينا أن الكتاب في معنى الشهادة على الشهادة والشاهد على الشهادة إذا مات بعد أداء الشهادة يجوز العمل بشهادته بخلاف مااذا مات قبل الاداء فكذلك كتاب القاضى إلى القاضى لان وصول الكتاب إليه وقراءته في معنى أداء الشهادة في مجلسه وان مات المكتوب إليه أو عزل قبل أن يصل إليه الكتاب ثم وصل إلى الذي ولى بعده لم يعمل به لان الكتاب إلى غيره فلا يكون حجة للقضاء في حقه وكذلك لو وصل إليه وقرأه ثم مات قبل أن يقضى به لم يعمل به من بعده بمنزلة مالو شهد الشهود في مجلسه فمات قبل أن ينفذه الا أن يكون الكتاب إلى كل من يصل إليه من حكام المسلمين فقد جوز ذلك مع جهالة المكتوب إليه لحاجة الناس إلى ذلك استحسانا الا أنه يكلف الخصم اعادة البينة على الكتاب والختم بين يديه لان ما قام من البينة في المجلس الاول قد بطل بموته قبل تنفيذه وان كتب القاضى إلى قاضى في حق لرجل شهادة شهود شهدوا عنده عليه فانه ينبغى له أن يسمى الشهود في الكتاب وينسبهم إلى آبائهم وقبائلهم والاصل أن الغائب عن مجلس القضاء يجب تعريفه باقصى ما يمكن (ألا ترى) انه لايعرف المحدودات الا بذكر الحدود فيعرف الادمى بالنسب والاسم لان ذلك أقصى ما يمكن في تعريفه إذا تعذر احضاره وتمام ذلك بذكر اسمه واسم أبيه واسم جده فالمقصود تمميزه عن غيره والتميز يحصل بهذا فقل ما ينفق رجلان في الاسم والنسب بهذه الصفة ولان كان فهو نادر ويذكر قبيلته أيضا ولو اكتفى بذكر اسمه واسم أبيه واسم قبيلته جاز أيضا فقل ما ينفق رجلان في قبيلة واحدة باسمهما واسم أبيهما ويقام ذكر القبيلة مقام ذكر الجد فهو الجد الاعلى وان ذكر اسمه واسم أبيه فقد روى عن أبى يوسف رحمه الله ان ذلك يكفى إذا عرفه بصناعة وهو معروف بها وعند أبى

[ 97 ] حنيفة رحمه الله لا يكفي لان ذكر الصناعة ليس بشئ فقد يتحول الانسان من صناعة إلى صناعة فان كان قد عرفهم بالصلاح كتب بذلك وان لم يعرفهم وأخبر بذلك عنهم كتب به لان المقصود اعلام عدالتهم للقاضى المكتوب إليه ليتمكن من القضاء فالقضاء يقع بشهادتهم وان حلاهم فحسن وان ترك التحلية لم يضر لان المقصود وهو التعريف قد حصل بذكر الاسم والنسب الا أنه إذا كان من رأى الكاتب أن يذكر التحلية فينبغي أن يذكر من ذلك مالا يشينه ولا يعير به في الناس فيتحرز عن ذكر ما يشينه فذلك نوع غيبة فان أراد الذي جاء به من المكتوب إليه أن يكتب به إلى قاض آخر فعله لان شهادة الشهود تثبت عنده بالكتابة فكأنه تثبت بسماعه منهم وكما جوزنا الكتاب من القاضى الاول للحاجة فكذلك نجوزه من الثاني لان الخصم قد يهرب إلى بلدة أخرى قبل قضاء المكتوب إليه بذلك عليه وإذا سمع القاضى شهادة الشهود وكتب بها إلى قاض آخر فلم يخرج الكتاب من يده حتى حضر المدعى عليه لم يحكم بذلك عليه لان سماعه الاول كان للنقل فلا يستفيد به ولاية القضاء كشاهد الفرع إذا استقصى بعد ما شهد الاصليان عنده وأشهداه على شهادتهما لم يجز له أن يقضى بذلك وهذا لان جواز القضاء بالبينة والذي سمع شهادة لابينة فالبينة ما يحصل البيان بها ولا يكون ذلك الا بمحضر من الخصم بعد انكاره أو سكوته القائم مقام انكاره فان أعاد المدعى تلك البينة بمحضر من الخصم فالان يقضي له بها لان شرط قبول البينة للقضاء انكار الخصم وقد وجد ذلك حين أعادها وما تقدم من الاداء وجوده كعدمه وإذا وصل الكتاب إلى المكتوب إليه وقرأه بحضرة الخصم وشهد الشهود على الختم وما فيه وهو مما يختلف فيه الفقهاء لم ينفذه المكتوب إليه الا أن يكون من رأيه كما إذا شهد الفروع عنده على شهادة الاصول وهذا بخلاف مااذا كان الاول قد قضى به وأعطى الخصم سجلا فالثاني ينفذ ذلك وان لم يكن من رأيه لان قضاء القاضى في المجتهدات نافذ (ألا ترى) أنه ليس للاول أن يبطل قضاءه وان تحول رأيه فكذلك ليس للثاني أن يبطل ذلك فأما في الكتاب الاول ما قضى بشئ (ألا ترى) أن له أن يبطل كتابه قبل أن يبعث به إلى الثاني وان الخصم لو حضر مجلسه لم يلزمه من ذلك شيئا فكذلك الثاني لا ينفذ كتابه الا أن يكون ذلك من رأيه ولا يقبل كتاب القاضى في شئ من الحدود والقصاص لان ذلك مما يندرئ بالشبهات

[ 98 ] وللشافعي رحمه الله قول ان ذلك مقبول الا في الحدود التى هي لله تعالى خالصا وأصل ذلك في الشهادة على الشهادة وسيأتيك بيانه في كتاب الشهادات ان شاء الله تعالى ولا يقبل كتاب قاضى رستاق ولا قرية ولا كتاب عاملها لان المعمول به كتاب القاضى والقاضى الرستاق متوسط وليس بقاضي فالمصر من شرائط القضاء في ظاهر الرواية لان القضاء من اعلام الدين كالجمع والاعياد فيكون مختصا بالمصر وذلك في بعض النوادر أن قاضى القرية إذا قضى بشئ بعقد تقليد مطلق فقضاؤه نافذ فعلى هذا إذا كان قاضى الرستاق بهذه الصفة يقبل كتابه وعلى هذا قالوا إذا خرج قاضى المصر إلى قرية وهى خارجة من فناء المصر فقضى هناك بالحجة لا ينفذ قضاؤه في ظاهر الرواية لانعدام شرط القضاء وهو المصر وعلى رواية النوادر ينفذ قضاؤه وكثير من المتأخرين رحمهم الله أخذوا بذلك قالوا أرأيت لو كانت الخصومة في ضيعة في بعض القرى فرأي القاضي الاحوط أن يحضر ذلك الموضع ليسمع الدعوى والشاهدة ويحكم عند الضيعة أما كان ينفذ حكمه بذلك ومن قال بهذا قال تأويل ما قال في الكتاب أنه لا حاجة إلى قبول كتاب القاضى الرستاق فانه يتيسر احضار الخصم مع الشهود في مجلس القضاء في المصر ولكن هذا بعيد فقد ذكر بعده انه لا يقبل الا كتاب قاضى مدينة فيها منبر وجماعة أو كتاب الامير الذي استعمل القاضى لاله بما كفل كتاب من تلك تنفيذ القضاء والامير الذي استعمل القاضى لو نفذ القضاء بنفسه جاز ذلك منه وكيف لا يجوز وانما ينفذ قضاء القاضى بأمره فكذلك قاضى المدينة ينفذ قضاؤه لو قضى بنفسه فيقبل كتابه بخلاف قاضى الرستاق ولا تجوز شهادة أهل الذمة على كتاب قاضى المسلمين لذمى على ذمى ولا على قضائه لانهم يشهدون على فعل المسلم وشهادة أهل الذمة لا تكون حجة في اثبات فعل المسلم وهذا لان قبول شهادة بعضهم على بعض كان للحاجة والضرورة فقل ما يحضر المسلمون معاملاتهم خصوصا الا نكحة والوصايا وهذا لا يتحقق في قضاء قاضى المسلمين وكتابه وخاتمه لان الاشهاد على ذلك منه في مجلسه ومجلس قاضى المسلمين يحضره المسلمون دون أهل الذمة وإذا جاء بكتاب القاضى ان لفلان على كذا وكذا من الدين لم يجز حتى ينسبه إلى أبيه والى فخذه التى هو بها أو بنسبه إلى تجارة يعرف بها مشهورة وقد بينا قول أبى حنيفة رحمه الله في النسبة إلى التجارة لانها لا تقوم مقام النسبة إلى الفخذ الا أن يكون شيئا مشهورا لا يخفى على أحد وان كان في تلك الفخذ أو إلى التجارة اثنان

[ 99 ] كذلك لم يجز حتى ينسب إلى شئ يعرف به من الاخر لانه لابد من تميز المشهود عليه من غيره (ألا ترى) انهما لو شهدا على أحد الرجلين بحضرتهما لم يقبل ذلك بدون التعيين فكذلك في حق الغائب لابد من تمييز المشهود عليه من الاخر على وجه لا يبقى فيه شبهة وان لم يكن كذلك الا واحدا فاقام الخصم البينة انه قد كان فيهم رجل على ذلك الاسم والنسب وانه قد مات لم يقبل ذلك منه إذا كان موته قبل تاريخ الكتاب وان كان بعده قبلته وأبطلت الكتاب الذي جاء به المدعي لان الثابت بالبينة بمنزلة المعلوم للقاضى ولو كان معلوما عند القاضى وجوده وموته قبل تاريخ الكتاب لم يمتنع لاجله من العمل بالكتاب لان في الكتاب ذكر الاسم والنسب مطلقا فانما ينصرف ذلك إلى الحى دون الميت لانه إذا كان المقصود الميت يذكر في الكتاب فلان الميت وأما إذا كان موته بعد تاريخ الكتاب فكل واحد منها كان حيا حين كتب القاضى الكتاب وليس في الكتاب ما يميز أحدهما عن الاخر أرأيت لوادعي هذه الدعوى على ورثة الميت واحتج ورثة الميت بالحى أكان يتمكن القاضى من القضاء على ورثة الميت بشئ وليس في الكتاب ما يميز مورثهم من الاخر الا أن يكون في الكتاب فلان بن فلان لفلان وقد مات فيعلم بذلك أن المشهود عليه الميت منهما دون الحى وان كان نسبه في ذلك الكتاب إلى أبيه والى بكر بن وائل أو إلى تميم أو همدان لم أجزه حتى ينسبه إلى فخذه التى هو منها أدناها إليه بعد أن يقول قبيلته عليها العرافة لان المقصود التعريف وذلك لا يحصل الا بنسبته إلى أدنى الا فخاذ أرأيت لو قالوا فلان بن فلان العربي أو نسبوه إلى آدم ﷺ أكان يحصل التعريف بذلك (قال) الا أن يكون رجلا مشهورا أشهر من القبيلة فيقبل ذلك إذا نسبه إلى تلك الشهرة فالتمييز بينه وبين غيره يحصل بالشهرة فتقوم ذلك مقام ذكر الاسم والنسب ولو جاء بكتاب قاض بشهادة شهود على دار ليس فيها حدود لم يجز ذلك كما لو شهدوا به في مجلسه وهذا لان المشهود به مجهول ففيما لا يمكن احضاره مجلس القاضى التعريف بذكر الحدود فيبقى مجهولا بدونه وكذلك لو كانوا حدوها بحدين الا في رواية عن أبى يوسف رحمه الله قال إذا ذكروا أحد حدى الطول وأحد حدى العرض يجوز للقاضى أن يقضى ويكتفى به وهذا ليس بصحيح لان بذكر الحدين لا يصير مقدار المشهود به معلوما فان حدوها بثلاثة حدود جاز ذلك عندنا استحسانا وعلى قول زفر رحمه الله لا يجوز لبقاء بعض الجهالة حين لم يذكروا الحد الرابع وقياس هذا بما لو ذكروا الحدود الاربعة وغلطوا في أحدهما ولكنا نقول

[ 100 ] قد ذكروا أكثر الحدود واقامة الاكثر مقام الكل أصل في الشرع ثم مقدار الطول بذكر الحدين صار معلوما ومقدار العرض بذكر أحد الحدين بعد اعلام الطول يصير معلوما أيضا وقد تكون الارض مثلثة لها ثلاثة حدود فإذا كانت بهذه الصفة فلا خلاف أنه يكتفى بذكر الحدود الثلاثة وهذا بخلاف ما إذا غلطوا في ذكر أحد الحدود لان المشهود به بما ذكروا صار شيئا آخر والفرق ظاهر بين المسكوت عنه وما إذا خالفوا في ذكره كما إذا ادعي شراء شئ بثمن منقود فان الشهادة على ذلك تقبل وان سكت الشهود عن ذكر جنس الثمن ولو ذكروا ذلك واختلفوا فيه لم تقبل الشهادة فهذا مثله وان لم يحدوها ونسبوها إلى اسم معروف لم يجز ذلك في قول أبى حنيفة رحمه الله وجاز في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لان التعريف بالشهرة كالتعريف بذكر الحدود أو أبلغ وذكر الحدود في العقارات كذكر الاسم والنسب في الآدمى ثم هناك الشهرة تغنى عن ذكر الاسم والنسب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول بالشهرة يصير موضع الاصل معلوما فما مقدار المشهود به لا يصير معلوما الا بذكر الحدود وجهالة المقدار تمنع من القضاء ومعنى هذا ان الدار المشهودة قد يزاد فيها وينقص منها ولا تتغير الشهرة بذلك بخلاف الآدمى فانه لا يزاد فيها ولا ينقص منه والحاجة هناك إلى اعلام أصله وبالشهرة يصير معلوما ولو جاء بكتاب قاض أن لفلان على فلان السدى عبد فلان بن فلان الفلاني كذا كذا أجرته لان المملوك يعرف بالنسبة إلى مالكه فالنسبة إلى الاب والقبيلة تتعطل بالرق وانما ينسب إلى مالكه (ألا ترى) ان الولاية على المملوك لمالكه دون أبيه فإذا نسبه إلى مالك معروف بالشهرة أو بذكر الاسم والنسب فقد تم تعريفه بذلك وكذلك ان نسب العبد إلى عمل أو تجارة يعرف بها فالتعريف في الحر يحصل بذلك في ظاهر الرواية فكذلك في العبد وان جاء بالكتاب ان العبد له لم يجز ذلك وهما في القياس سواء وقد بينا هذه المسألة في كتاب الابق ما يقبل فيه كتاب القاضى ومالايقبل (قال) وقال محمد رحمه الله لا يجوز عندنا كتاب القضاة في شئ بعينه لا في العقار فانه لا يتحول عن موضعه فاما فيما سوى ذلك من الاعيان لا يقبل كتاب القاضى إلى القاضى لان الاشارة إلى عينه عند الدعوى والشهادة شرط ولهذا لابد من احضاره بمجلس القضاء وإذا أتى كتاب القاضى إلى القاضى وليس عليه عنوان وهو مختوم بخاتمه فشهدت الشهود أنه كتابه إليه وخاتمه فانه يفتحه لانه لو كان على ظهره عنوان فيه لا يصير معلوما محكوما أنه كتاب القاضى إليه وانما يصير معلوما

[ 101 ] بشهادة الشهود فكذلك إذا لم يكن عليه عنوان وقد ترك بعض القضاة كتبه العنوان على ظاهر الكتاب لغرض له في ذلك وليس على عنوان الظاهر اعتماد فانه ليس يجب الختم فان فتح الكتاب فلم يكن في داخله اسم الكاتب والمكتوب إليه أو كان فيه اسمهما دون اسم أبيهما لم يقبله لانه انما يقبل كتاب القاضى إليه ولا يصير ذلك معلوما الا بالعنوان في داخله على وجه يحصل به تعريف الكاتب والمكتوب إليه فإذا لم يكن ذلك لا يقبله والحاصل أن العنوان الداخل عليه الاعتماد لانه تحت الختم يؤمن فيه تغيير ذلك فإذا كان فيه تعريفا تاما يقبل الكتاب والا فلا وان كان فيه اسماؤهما واسماء أبائهما قبله إذا شهدت الشهود على مافى جوفه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وان كان فيه كنايتهما دون اسمائهما لم يقبله فالتعريف لا يحصل بذلك على ما قيل المكنى باكنى الا ان يكون مشهورا كشهرة أبى حنيفة رحمه الله فحينئذ يقبل ذلك للشهرة وان كان فيه من فلان إلى ابن فلان لم يجز لان لا يصير معلوما بهذا فقد ينسب الفلان إلى الاب الادنى وقد ينسب إلى من فوقه وقد يكون لابنه بنون سواه فان كان مشهورا مثل ابن أبى ليلى وابن شبرمة رحمهما الله جاز ذلك لحصول المقصود بذكر ما هو مشهور ولو كتب اسم القاضى ونسبه إلى جده ولم ينسبه إلى أبيه لم يجز لان التعريف يحصل بالنسبة إلى الاب الادنى فالنسبة إليه حقيقة والى الجد مجازا (ألا ترى) أنه ينفى عنه باثبات غيره ولو كان على عنوانه أسمائهما واسماء أبائهما لم يجز ذلك الا أن يكون ذلك في داخله لان العنوان الظاهر ليس تحت الختم فوجوده وعدمه سواء ولو كتب القاضى إلى الامير الذي استعمله وهو في المصر معه أصلح الله الامير ثم اقتص القصة وجاء بكتابه معه فعرفه الامير ففى القياس لا يقبل ذلك لان كتاب القاضى لا يثبت عند الامير موجبا للقضاء الا بشهادة شاهدين كالمكتوب من مصر إلى مصر وكذا لابد من ذكر اسم الكاتب واسم أبيه واسم المكتوب إليه واسم أبيه ولم يوجد ذلك ولانه لا حاجة في المصر إلى هذا فانه يتيسر عليه أن يحضر بنفسه فيخبر الامير بما يريد اعلامه ولكن في الاستحسان يجوز للامير أن يمضى هذا لانه متعارف ويشق على القاضى أن يأتي الامير بنفسه في كل حادثة ليخبر بها ولانه لو أرسل إليه بذلك رسولا ثقة كان عبارة رسوله كعبارته في حق جواز العمل به فكذلك إذا كتب إليه بذلك رقعة ولم يجز الرسم بمثله في الكتاب من مصر إلى مصر آخر فشرطنا هناك شرائط كتاب القاضى إلى القاضى ويجوز على كتاب القاضي الشهادة على الشهادة وشهادة امرأتين مع رجل

[ 102 ] لانه مما يثبت مع الشبهات والشهادة على الشهادة وشهادة النساء مع الرجال حجة القضاء فيما يثبت مع الشبهات وذكر عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه انه كان يرزق سليمان بن ربيعة الباهلى عن القضاء كل شهر خمسمائة درهم وفيه دليل على ان الامام يعطى القاضى كفايته من مال بيت المال وانه لابس للقاضى أن يأخذ ذلك لانه فرغ نفسه لعمل المسلمين فيكون كفايته وكفاية عياله في مال المسلمين وان كان صاحب ثروة فان لم يأخذ واحتسب في عمل القضاء فهو خير له والاصل فيه قوله تعالى ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف والآية في الوصي وهو يعمل لليتيم كما أن القاضى يعمل للمسلمين وان الصحابة رضوان الله عليهم فرضوا لابي بكر رضى الله عنه مقدار كفايته من مال المسلمين الا أنه أوصى إلى عائشة رضى الله عنها أن ترد جميع ذلك حتى قال عمر رضى الله عنه يرحمك الله لقد أتعبت من بعدك وعمر رضى الله عنه كان يأخذ كفايته من مال بيت المال وعلي رضى الله عنه كذلك كان يأخذ كما قال ان لى من مالكم كل يوم قصعة ثريد وعثمان رضى الله عنه كان لا يأخذ لثروته ثم ذكر عن شريح رحمه الله انه قال مالى لاأترزق وأستوفي منه وأوفيهم اصبر لهم نفسي في المجلس واعدل بينهم في القضاء وان شريحا رحمه الله كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضى الله عنهما وعمر رضى الله عنه كان يرزقه كل شهر مائة درهم وعلي رضى الله عنه كان يرزقه كل شهر خمسمائة درهم وذلك لقلة عياله في زمن عمر رضي الله عنه ورخص سعر الطعام وكثرة عياله في زمن علي رضى الله عنه وغلاء سعر الطعام فان رزق القاضى لا يتقدر بشئ لان ذلك ليس بأجر فالاستئجار على القضاء لا يجوز وانما يعطى كفايته وكفاية عياله وكان بعض أصدقاء شريح رحمه الله عاتبه في ذلك وقال لو احتسبت قال في جوابه ومالى لاأترزق فبين انه فرغ نفسه لعمل القضاء ولابد له من الكفاية فإذا لم يرتزق احتاج إلى الرشوة ففيه بيان أن القاضى إذا كان محتاجا ينبغى له أن يأخذ مقدار كفايته لكيلا يطمع في أموال الناس وذكر عبد الله بن يحيى الكندى كان يقسم لعلي رضى الله عنه الدور والارضين ويأخذ علي ذلك أجرا وفيه دليل أن القاضى يتخذ قاسما لانه يحتاج إلى ذلك فانه في المواريث إذا بين الابصار بما يطالب بالقسمة ليتم بها انقطاع المنازعة وهو لكثرة أشغاله لا يتفرغ لذلك فيتخذ قاسما يستعين به عند الحاجة كما يتخذ كاتبا ثم الاولى أن يجعل كفاية فاسم القاضى في بيت المال ككفاية القاضي لان عمله من تتمة ما انتصب القاضى له فان لم يقدر على ذلك أمر الذين يريدون القسمة أن يستأجروه بأجر

[ 103 ] معلوم وذلك صحيح لانه يعمل لهم عملا معلوما وذلك العمل غير مستحق عليه ولا على القاضى فالقضاء يتم ببيان نصيب كل واحد من الشركاء والقسمة عمل بعد ذلك فلا بأس بالاستئجار عليه كالكتابة ولا ينبغى له أن يكره الناس على قسامة خاصة لان ذلك يلحق به تهمة المواضعة مع قسامه ولانه إذا أكره الناس على ذلك يتحكم قسامه على الناس في الاجر وفيه ضرر عليهم وأيما قوم أصطلحوا على قسمة قاسم آخر جار بينهم بعد أن لا يكون فيهم صغير ولا غائب لان الحق لهم وهم قادرون على النظر لانفسهم فاصطلاحهم على قاسم آخر من جملة النظر منهم لانفسهم وان كان فيهم صغير أو غائب فهم يحتاجون إلى رأى القاضى في ذلك لان الصغير والغائب عاجزان عن النظر لانفسهما والقاضى ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه فان أمرهم بالقسمة وفيهم صغير أو غائب فاستأجروا قسما غير قاسمه بارخص من ذلك بعد أن يكون عدلا يعرفه القاضى جاز ويأمره أن يقسم بينهم لانه ان لم يفعل هذا وألزمهم استئجار قاسمه يحكم عليهم في الاجر ثم أجر القاسم على الصغير والكبير والذكر والانثى وصاحب النصيب القليل والكثير سواء في قول أبى حنيفة رحمه الله وعندهما الاجر عليهم على قدر الانصباء وهذه مسألة كتاب القسمة وان اتخذ القاضى جماعة من القسامين فذلك حسن ولكن الاولى أن لا يشرك بينهم فانه أجدر أن لا يتحكموا على الناس لانه إذا أشرك بينهم تواضعوا على شئ فتحكموا على الناس ولانه إذا لم يشرك بينهم يؤمن عليهم الميل إلى الرشوة لانه ان فعل ذلك أحدهم أظهره عليه صاحبه وإذا أشرك بينهم بفوت هذا المقصود وان قاطعوا رجلا منهم على شئ بعينه لم يدخل بقسم معه في ذلك لانه لاشركة بينهم وإذا شهد قاسمان على قسمة قسماها بين قوم بأمره بأن كل إنسان قد استوفى نصيبه جازت شهادتهما في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الاخر رحمهما الله وفي قوله الاول لا تجوز شهادتهما وهو قول محمد رحمه الله لانهما يشهدان على فعل أنفسهما ولانهما في الحقيقة يدعيان ايفاء العمل الذي استؤجر عليه وأداء الامانة في ذلك بايصال نصيب كل واحد منهم إليه والدعوى غير الشهادة وجه قولهما أنهما لا يجران بهذه الشهادة إلى أنفسهما شيئا لان الخصوم متفقون على أنهما قد وفيا العمل وان العقد انتهى بينهم وبينهما ثم لا يشهدان على عمل أنفسهما لان عملهما التمييز والمشهود به استيفاء كل انسان نصيبه وذلك فعل المستوفى ولو شهد قاسم واحد على القسمة لم يجز لان القاسم ليس بقاضي والقاضى هو المخصوص بأن يكتفى بقوله في الالزام فاما القاسم فيما يشهد به

[ 104 ] كغيره فلا تتم الحجة بقول الواحد وكذلك أمين القاضي إذا أمره القاضى أن يدفع مالا فقال قد دفعته وأنكر المدفوع إليه فالامين يتصدق في نزاهة نفسه لان يذكر وجوب الضمان عليه ولا يصدق على الاخر انه قبض لانه ليس بقاض فالحجة لا تتم بقوله وأيما رجل ادعى غلطا في القسمة فانه لا تعادله القسمة ولكنه يسأل البينة على ما يدعى من الغلط لان الاصل هو المعادلة في القسمة والظاهر ان القاسم يؤدى الامانة في ذلك فمن ادعى خلاف ذلك لم يصدق الا بحجة ولا ينبغى للقاضى أن يتخذ قاسما ذميا ولا مملوكا ولا محدودا في قذف ولا أعمى ولا فاسقا ولا أحدا ممن لا تجوز شهادته وقد بينا هذا في الكاتب فكذلك في القاسم لان كل واحد منهما ينوب عن القاضي فيما يكون من تتمة عمله وقد تحتاج الخصوم إلى شهادة القاسم فلا يختار لذلك الامر الامن يكون أهلا لاداء الشهادة لانه إذا كان بخلاف ذلك ولم يرد القاضى شهادته وجد الناس لذلك مقالا في القاضى يقولون لم اخترته إذا كنت لا تعتمد قوله وإذا رأى القاضى وهو في مجلس القضاء أو غيره رجلا يزنى أو يسرق أو يشرب الخمر ثم رفع إليه فله أن يقيم عليه الحد في القياس لانه تيقن باكتسابه السبب الموجب للحد عليه والعلم الذي استفاده بمعاينة السبب فوق العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود لان ذلك محتمل الصدق والكذب وفي الاستحسان لا يقيم عليه الحد حتى لو شهد الشهود عنده بذلك عليه أو يقر بذلك لما روى ان عمر رضى الله عنه قال لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه لو رأيت رجلا على حد ثم وليت هل تقيمه عليه قال لا حتى يشهد معى غيرى فقال أصبت وعن الزهري عن أبى بكر رضى الله عنه يجوز ذلك ولان الحدود التى هي من خالص حق الله تعالى يستوفيها الامام على سبيل النيابة من غير أن يكون هناك خصم يطالب به من العباد فلو اكتفى بعلم نفسه في الاقامة ربما يتهمه بعض الناس بالجوز والاقامة بغير حق وهو مأمور بان يصون نفسه عن ذلك وهذه بخلاف القصاص وحد القذف وغير ذلك من حقوق الناس لان هناك خصم يطالب به من العباد وبوجوده تنتفى التهمة عن القاضى فكان مصدقا فيما زعم أنه رأى ذلك * توضيح الفرق ان المقر بالحدود التى هي من حقوق الله تعالى إذا رجع صح رجوعه ولم يكن للقاضى ولاية الاقامة لوقوع التعارض بين خبريه فكذلك إذا أخبر القاضى أنه رأى ذلك وأنكره الرجل لم يكن له أن يقيمه للتعارض بين الخبرين فكل مسلم أمين فيما يخبر به من حق الله تعالى ولهذا ضمنه في السرقة لان ذلك حق المسروق منه ولا يعمل الرجوع فيه عن الاقرار

[ 105 ] فاما حد القذف والقصاص وغير ذلك من حقوق الناس والرجوع فيه بعد الاقرار باطل وللقاضي أن يلزمه ذلك باقراره فكذلك له أن يلزمه بمعاينته سبب ذلك لان معاينته السبب أقوى في افادة العلم من اقرار المقربة وهذا إذا رأى ذلك في مصره الذي هو قاض فيه بعد ما قلد القضاء فأما إذا كان رأى ذلك قبل أن يتقلد القضاء ثم استقصى فليس له أن يقضى بعلمه في ذلك عند أبى حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يقضى بعلمه في ذلك لان علمه بمعاينة السبب لا يختلف بما بعد أن يستقصى وقبله وهو أقوى من العلم الذي يحصل له بشهادة الشهود فان معاينة السبب تفيده علم اليقين وشهادة الشهود لا تفيده ذلك فإذا جاز له أن يقضي بشهادة الشهود عنده فلان يجوز له أن يقضى بعلم نفسه أولى ومذهب أبى حنيفة رحمه الله مروى عن الشعبى وشريح رحمه الله سئل عن هذه المسألة فقال أتى شريح رحمه الله مثلها وأنا شاهد فقال أنت الامير حتى أشهد لك فقال أنشدك بالله أن يذهب حقى وأنت تعلم فقال أنت الامير حتى أشهد لك والمعنى فيه أنه حين عاين السبب فقد استفاد به علم الشهادة وبان استقصى بعد ذلك لا يزداد علمه بذلك وعلم القضاء فوق علم الشهادة فان علم القضاء ملزم والشهادة بدون القضاء لا تكون ملزمة بخلاف مااذا رأى وهو قاضي لانه استفاد علم القضاء هناك بمعاينة السبب والدليل على الفرق أن ما يستفيد من العلم بمعاينة السبب وما يستفيده بشهادة الشهود عنده في الحكم سواء ثم شهادة الشهود عنده بعد ما استقصى تفيده علم القضاء وقبل أن يستقصى لا تفيد له ذلك حتى لو استقصى شاهد الفرع لم يكن له أن يقضى بما كان من شهادة الاصول عنده ما لم يشهدوا بذلك بعد ما استقصى فكذلك عند معاينة السبب وعلى هذا الخلاف لو عاين السبب بعد ما استقصى ولكن في غير مصره ثم لما انتهى إلى مصره خوصم في ذلك لانه حين عاين السبب لم يكن له أن يقضي به في ذلك الموضع فهو ومالو علم قبل أن يستقصى سواء ولو عاين ذلك في مصره وهو قاض ثم عزل ثم أعيد على القضاء فلا شك أن عندهما له أن يقضى بعلمه ومن أصحابنا رحمهم الله من قال عند أبى حنيفة رحمه الله أيضا له أن يقضى بعلمه لانه استفاد علم القضاء بمعاينة السبب حتى لو قضى به في ذلك الوقت جاز ذلك فكذلك إذا قضى به بعد ما قلد ثانيا والاصح أنه على الخلاف لانه بعد ما عزل لم يبق له في تلك الحادثة الا علم الشهادة فهو ومالو علم به بعد ما عزل سواء * توضيحه أنه لو سمع شهادة الشهود فلم يقض بها حتى عزل ثم أعيد على القضاء لم يقض بتلك الشهادة بخلاف ما قبل العزل فكذلك إذا عاين

[ 106 ] السبب وكان ابن أبى ليلى رحمه الله يقول إذا علم قبل أن يستقصى ثم استقصى فشهد عنده رجل وأخذ بذلك قضى به وذلك مروى عن شريح رحمه الله أنه قضى بشهادة رجل واحد وقد كان علم منها علما ولكنا نقول علمه بمعاينة السبب ليس من جنس ما يحصل له من العلم بشهادة الشهود عنده واكمال أحدهما بالاخر لا يمكن والقاضى لا يتمكن من القضاء الا بحجة فالطريق في ذلك أن يشهد مع الرجل الآخر لصاحب الحق عند الامام الذي فوقه حتى يقض هو بذلك وإذا دفع القاضى مال اليتيم إلى تأجر فجحده التأجر فالقاضي مصدق في ذلك على التأجر يقضى عليه بالمال لانه قاض فيما يفعله في مال اليتيم وفيما يخبر به من القضاء هو مصدق لانه يخبر بما يملك الانسان وكذلك لو باع مال ميت في دينه فلا عهدة على القاضى في ذلك لان فعله ذلك من القضاء وهو فيما يلحقه من العهدة يكون خصما لا قاضيا وإذا انتفت التهمة عنه كانت العهدة على من وقع عمله لهم فان جحد المشترى منه البيع قاضاه عليه وأخذ منه اليمين لانه علم أنه كاذب في ذلك فهو الذي باشر السبب وكذلك هو مصدق فيما ذكر أنه قضى به من قصاص أو مال أو طلاق أو عتاق أو غير ذلك من حقوق الناس سواء أقر بذلك عندي أو قامت به بينة ويسمع للذي سمع من القاضى ذلك أن يعتمد قوله حتى في الرجم والنفس وما دونها وما يندرئ بالشبهات ومالايندرئ بالشبهات في ذلك سواء وذكر ابن سماعة عن محمد رحمهما الله أنه رجع عن هذا القول وقال في الحدود التى تندرئ بالشبهات لا يسع السامع اقامة ذلك بمجرد قول القاضى ما لم يخبره بذلك غيره لان القاضى غير معصوم عن الكذب فان ذلك درجة الانبياء صلوات الله عليهم ولا تبلغ درجة القاضى درجة الانبياء عليهم الصلاة والسلام وحرمة النفس عظيمة والغلط فيها لا يمكن تداركه فلا يسع الاقدام عليه بمجرد قول القاضي * وجه ظاهر الرواية أن مجرد قول القاضى ملزم (ألا ترى) أن مباشرته القضاء قول ملزم فكذلك اخباره بالقضاء والدليل عليه أنه لا يستقصى في كل بلدة أكثر من واحد فلو كانت الحجة لا تتم بمجرد خبر القاضى به لجرى الرسم بايجاد القاضين في كل بلدة لصيانة الحقوق كما جرى الرسم به في الشهود وفي الاكتفاء بقاض واحد في كل بلدة دليل الاجماع من المسلمين على أن مجرد قول القاضى حجة تامة ولو عزل عن القضاء فخاصمه المقضى عليه في جميع ذلك فقال انما قضيت به عليك كان مصدقا في ذلك غير مسئول ببينة ولا مستحلف يمينا لانه أضاف إلى حالة معهودة تنافى تلك الحالة الخصومة والضمان عنه فيجب

[ 107 ] قبول قوله في ذلك كما لو أخبر به قبل أن يعزل قال مشايخنا رحمهم الله وانا يجوز اعتماد قول القاضى في ذلك من غير أن يستفسر إذا كان فقيها ورعا فالورع يؤمننا من جوره وميله إلى الرشوة وفقهه يؤمننا من أن يغلط في ذلك فاما إذا لم يكن فقيها لابد من أن يستفسر وان كان ورعا لانه ربما يغلط لقلة فهمه وكذلك ان كان فقيها ولم يكن ورعا فلابد من أن يستفسر لانه لقلة ورعه ربما جار في ذلك ولا ينبغى للقاضى أن يضرب في المسجد حدا ولا تعزيرا ولا يقتص لاحد من أحد عندنا (وقال) الشافعي رحمه الله لا بأس بذلك بشرط أن لا يلوث المسجد لان فعل الاقامة قربة وطاعة والمساجد أعدت لذلك ثم هو من تتمة قضائه وإذا كان له أن يجلس في المسجد للقضاء كان له أن يتم القضاء باقامة الحدود فيها * وحجتنا في ذلك ماروى أن رسول الله ﷺ قال لاتقام الحدود في المساجد وفي حديث مكحول أن رسول الله ﷺ قال جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وخصوماتكم واقامة حدودكم وسل سيوفكم وبيعكم وشرائكم وطهروها في الجمع واجعلوا على أبوابها المطاهر وروى أن عمر رضى الله عنه أمر بان يعذر رجل وقال للذي أمره بذلك أخرجه من المسجد ثم اضربه ولم ينقل أن رسول الله ﷺ أمر باقامة حد على أحد في المسجد بين يديه وهذا لانه لا يؤمن تلويث المسجد ورفع صوت المضروب بالانين عند الضرب والمسجد يتنحى عن ذلك فاما أن يخرج القاضى ليقام بين يديه أو يبعث نائبا أو يجلس عند باب المسجد ويأمر بالاقامة بين يديه خارجا من المسجد وهو يرى ذلك ولو أن قاضيا باع لنفسه شيئا أو اشترى لم يقبل قوله في شئ منه على خصمه وهو كغيره من الناس في هذا لانه فيما يعمل لنفسه لا يكون قاضيا وفيما يفعله على غير سبيل الحكم هو كسائر الرعايا (ألا ترى) أن النبي ﷺ حين أنكر الاعرابي استيفاء ثمن الناقة منه وقال هلم شاهدا قال لم يشهد لى حتى شهد خزيمة رضى الله عنه الحديث إذا كان هذا في حق من هو معصوم عن الكذب فما ظنك في القاضى ولايجوز قضاؤه بشئ لنفسه ولالولده ونوافله من قبل الرجال والنساء ولا لابويه وأجداده من قبلهما ولا لزوجته ولا لمكاتبه ومماليكه لان ولاية القضاء فوق ولاية الشهادة وإذا لم يجز شهادته لهؤلاء فلئلا يجوز قضاؤه لهم أولى وأما من سوى هؤلاء من القرابة وغيره فقضاؤه لهم جائز كما تجوز شهادته لهم وإذا عزل عن القضاء ثم قال كنت قضيت لهذا على هذا بكذا وكذا لم يقبل قوله في ذلك لانه أخبر بما لا يملك استثناءه وهذا قول ملزم وهو

[ 108 ] بعد العزل كغيره من الرعايا فلا يكون قولا ملزما وان شهد مع آخر لم تقبل شهادته في ذلك لانه يشهد على فعل نفسه ولا شهادة للانسان فيما يخبر به من فعل نفسه فلابد من أن يشهد على قضائه شاهدان سواه ليتمكن المولى بعده من امضائه وإذا رفع قضاء القاضى بعد موته أو عزله إلى قاض يرى خلاف رأيه فان كان مما يختلف فيه الفقهاء أمضاه لاجماع الناس على نفوذ قضاء القاضى في المجتهدات فلو أبطله القاضى الثاني كان هذا منه قضاء بخلاف الاجماع وان كان القضاء الاول خطأ لا يختلف فيه الفقهاء أبطله لانه بخلاف الاجماع أو النص (ألا ترى) أن الاول ولو وقف على ذلك من قضاء نفسه أبطله بخلاف مااذا تحول رأيه في المجتهدات فكذلك يفعله المولى بعد موته ولا ينبغى للقاضى أن يكون فظا غليظا جبارا عنيدا لانه خليفة رسول الله ﷺ في القضاء بين الناس فينبغي أن يتحرز عن ما هو منتفى عن رسول الله ﷺ وقد قال رسول الله ﷺ ان الله تعالى لم يجعلني جبارا عنيدا وفي صفته في التوارة ليس بفظ ولا غليظ ولاصخاب في الاسواق فصلوات الله عليه ولان هذه أوصاف مذمومة فعلى القاضى أن يتحرز عنها وهو سبب لنفرة الناس عنه قال الله تعالى ولو كنت فظا غليظ القلب الاية والقاضى مندوب إلى اكتساب ما هو سبب لميل القلوب إليه والاجماع إليه في حوائجهم وينبغى له أن يشتد حتى يستنطق الحق فلا يدع من حق الله تعالى شيئا من غير جبر به وأن يلين حيث ينبغى ذلك في غير ضعف ولا يترك شيئا من الحق لما روينا عن عمر رضى الله عنه قال لا يصلح لهذا الامر الا اللين من غير ضعف القوي من غير عنف وكان رسول الله ﷺ يلين في الامور ويرفق حتى أنهيك شئ من محارم الله فيكون من أشدهم في ذلك وينبغى له أن يتعذر إلى كل من يخاف أن يقع في نفسه عليه شئ إذا قضى عليه وأنى يفسر للخصم ويبين له حتى يعلم انه قد فهم عند حجته وقضى عليه بعد ما فهم وبذلك تنتفى عنه تهمة الميل وينقطع عنه طمع الخصم والعالة فيه ولانه يصون بذلك الخصوم عن الفتنة والشكاية منه وهو مندوب الا أن لا يترك جهده في ذلك وان كان لا يطمع في أمانته الا نادرا فيتقدم القاضى إلى أعوانه والقوام عليه في ترك الحق والشدة على الناس ويأمرهم بالرفق واللين من غير أن يضعوا فيقصروا عن شئ مما ينبغى لانهم ينوبون عنه فيما فوض إليهم فكما يفعل ذلك في حق نفسه يأمر به أعوانه ليكون ذلك سبب تأليف القلوب واجتماع الكلمة عليه ولا ينبغى أن يستعمل على القضاء الا الموثوق به في

[ 109 ] عفافه وصلاحه وعقله وفهمه وعلمه بالسنة والآثار ووجوه الفقه التى يأخذ منها الكلام فانه لا يستقيم أن يكون صاحب رأى ليس له علم بالسنة والاحاديث فمثله يضل الناس كما ورد به الاثر * اياكم وأصحاب الرأى أعيتهم أن يحفظوها فيسألوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ولاصاحب حديث ليس له علم بالفقه فقد شرط رسول الله ﷺ على صاحب الحديث ان يعى ما سمعه أولا يقوله قال صلوات الله عليه وسلامه نصر الله امرءا سمع منا مقالة فوعاها كما سمعها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه إلى غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه فعرفنا أنه لا يستقيم واحد منهما الا بصاحبه والامام مأمور بان لا يقلد أحدا شيئا من عمل المسلمين الا إذا علم صلاحه لذلك قال ﷺ من قلد غيره عملا وفى رعيته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وخان جماعة المسلمين وعمل القضاء من أهم أمور الدين واعمال المسلمين فلا يختار له الا من يعلم انه صالح لذلك مؤدي الامانة فيه وذلك عند اجتماع الخصال المذكورة فيه وإذا كان لا يؤتمن على شئ من المال من لايعرف بالامانة أو يعجز عن أدائها فلئلا يؤتمن على أمر الدين أولى فكما لا يختار للقضاء الا من يحتمع فيه هذه الشرائط فكذلك للفتوى فان القاضى يفتى وقد كان القاضى في الصدر الاول يسمى مفتيا فلا ينبغى لاحد أن يفتى الا من كان هكذا الا أن يفتي شيئا قد سمعه فيكون حاكيا ما سمع من غيره بمنزلة الراوى لحديث سمعه يشترط فيه ما يشترط في الراوى من العقل والضبط والعدالة والاسلام لان الخبر كلام فلا يتحقق بصورته ومعناه في الراوى من غير العاقل وما من موجود في الدنيا الا وهو معتبر لصورته ومعناه فإذا كان المعنى المطلوب من الكلام البيان ولا يحصل ذلك الا بالعقل عرفنا ان العقل في المخبر شرط والضبط كذلك لان قبول الخبر منه باعتبار رجحان جانب الصدق فيه ولا يحصل ذلك الضبط والفهم والعدالة الا بذلك فرجحان جانب الصدق بالعدالة يكون لانه إذا لم ينزجر عما يعتقده حراما في دينه لا ينزجر عن الكذب أيضا واشتراط الاسلام لان الكفر ينافى رجحان جانب الصدق في خبره لان هذا من باب الدين وهم يعاودن الدين الحق ويسعون في هدمه بما يقدرون عليه فشرطنا الاسلام لذلك وبعد ما استجمع في القاضى هذه الشرائط لا يولى القضاء ما لم يكن له علم بالقضاء والمراد من هذا اللفظ العلم المتعارف بين الناس ولسانهم من استعمال الحقيقة والمجاز فالقاضي لا يستغنى عن ذلك ويتعذر عليه تنفيذ بعض القضاء إذا لم يكن عالما بذلك ولا يولى القضاء أعمى ولا محدود في قذف

[ 110 ] ولا مكاتب ولاعبد يسعى في شئ من قيمته لان شهادة هؤلاء لاتقبل والقضاء أعظم من الشهادة ولا يولى أحد من أهل الذمة شيئا من أمر القضاء ولا مسائله لظهور الخيانة منهم في أمور الدين والسعى في افساده على المسلمين ولا ينبغى للقاضى إذا سافر أو مرض أن يستخلف الا بامر الامام الذي هو فوقه لان من قلده انما رضى برأيه والناس يتفاوتون في الرأي والقضاء لابد له من الرأى فلا يستخلف الا بأمر من قلده كالوكيل لا يوكل غيره الا بأمر الموكل والفرق بين القاضي والمأمور باقامة الجمعة في الاستخلاف قد بيناه في كتاب الصلاة فإذا استخلف بغير أمر الامام لم يجز قضاء خليفته الا أن ينفذ هو قضاء خليفته فحينئذ ينفذه كما لو قضى به بنفسه لان نفوذه برأيه (ألا ترى) أن الوكيل إذا وكل غيره حتى باشر التصرف ثم أجاز الوكيل الاول نفذ ذلك منه وجعل اجازته كانسائه وكذلك لو حكم حكما بين خصمين فهذا والاستخلاف سواء وقيل هذا كله إذا فعله خليفته لا بحضرته فان فعله بحضرته جاز استحسانا لان تمامه برأيه يكون بمنزلة الوكيل إذا وكل غيره حتى باع بحضرته وان التبس عليه القضاء فاستشار فيه رجلا من أهل الصلاح والعفة وأخذ بقوله فانفذه بين الخصمين فهو جائز لما بينا أن القاضى فيما يعجز عنه يستعين بغيره ممن علم ذلك وان طمع القاضى في أن يصلح الخصمين فلا بأس بأن يردهما ويؤخر تنفيذ الحكم بينهما لعلهما أن يصطلحا لحديث عمر رضى الله عنه قال ردوا الخصوم حتى يصطلحوا فان فصل القضاء يورث بين القوم الضغائن وفي رواية ردوا الخصوم من ذوى الارحام ولا ينبغى له أن يردهم أكثر من مرة أو مرتين ان طمع في الصلح لان في الزيادة على ذلك اضرار بصاحب الحق وان لم يطمع في الصلح أنفذ القضاء بينهم لانه انتصب لذلك وان أنفذ القضاء بينهم من قبل أن يردهم فهو في سعة من ذلك وليس بواجب عليهم ردهم انما الواجب عليه ما قلد من العمل وهو القضاء بالحجة وقد أتى بذلك وليس ينبغى للقاضى أن يسمع من رجل واحد حجتين أو أكثر من حجتين في مجلس واحد لانه مأمور بين الناس بالتسوية وإذا سمع في مجلس واحد من رجل واحد حجتين أو ثلاثا أضر بذلك بسائر الناس الا أن يكون الناس قليلا ولا يشغله ذلك عنهم وكان يفرغ من حوائجهم قبل أن يقوم فلا بأس به حنيئذ لانه لاضرر فيه على أحد ممن حضر مجلسه ولا ينبغى للقاضى أن يقدم رجلا قد جاء رجل غيره قبله لفضل منزلته وسلطانه ولكن يقدمهم على منازلهم لان الذي سبق بالحضور وقد استحق النظر في حاجته فلا

[ 111 ] يبطل حقه بحضور غيره كيف وقد قال ﷺ من تواضع لغنى لغناه ذهب ثلثا دينه ولان القاضى خليفة رسول الله ﷺ والله تعالى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بما قال واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم الاية ونظر القاضى لهم بسبب الدين وفي ذلك السلطان وغيره سواء فانما يقدمهم على منازلهم بما ذكر في بعض النسخ من أصل بعض مسائل التحكيم وتمام ذلك في كتاب الصلح فنذكر هنا مقدار ما ذكر فنقول الحكم فيما بين الخصمين بمنزلة الحاكم المولي حتى يشترط فيه الاهلية للشهادة فإذا كان أعمى أو محدودا في قذف أو عبد أو مكاتب لم يجز حكمه بين المسلمين وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه لانه بتراضيهما صار حكما حتى أن لكل واحد منهما أن يرجع فيها ما لم يمض فيه الحكم والحكومة فإذا أمضاها فليس لواحد منهما أن يرجع فيها كما في الصلح ولو دفع حكم الحاكم إلى القاضى فان وافق الحق ووافق رأيه أمضاه لانه لو نقضه احتاج إلى اعادته في الحال وان كان لا يوافق الحق أبطل وكذلك ان كان رأيه لا يوافق رأيه في المجتهدات فانه يبطله بمنزلة اصلاح الخصمين لان رضاهما بحكمه لا يكون حجة الالزام في حق القاضى وان حكما رجلين فحكم أحدهما دون الاخر فان ذلك لا يجوز لانهما رضيا برأيهما ورأى الواحد لا يكون كرأى المثنى ولا يصدقان على ذلك الحكم بعد القيام من مجلس الحكومة حتى يشهد على ذلك غيرهما لانهما كسائر الرعايا بعد القيام من مجلس الحكومة فلا تقبل شهادتهما على فعل باشراه وليس ينبغى للحكم أن يقضى في اقامة حد أو تلاعن بين الزوجين لان اصطلاح الخصمين على ذلك غير معتبر وما يحكم به بمنزلة اصطلاح الخصمين عليه وهذا لان اقامة الحدود واللعان بين الزوجين في حق الشرع فلا يستحق فيه الامن يعين ثانيا وعليه استيفاء حقوق الله تعالى وهم القضاة والائمة (ألا ترى) أن من عليه الحد لا يقيمه على نفسه فكذلك ليس للحكم ان يقيم شيئا من ذلك لانه ماتعين نائبا في استيفاء حقوق الله تعالى والله تعالى أعلم بالصواب (كتاب الشهادات) (قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسي رحمه الله إملاء اعلم بان اشتقاق الشهادة من المشاهدة وهى المعاينة فمن حيث أن

[ 112 ] السبب المطلق للاداء المعاينة سمى الاداء شهادة واليه أشار النبي ﷺ في قوله للشاهد إذا رأيت مثل هذا الشمس فاشهدوا لافدع وقيل هي مشتقة من معنى الحضور يقول الرجل شهدت مجلس فلان أي حضرت قال الله تعالى وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ومن حيث أنه يحضر مجلس القاضى للاداء يسمى شاهدا وتسمى أداء شهادة ثم القياس يأبى كون الشهادة حجة في الاحكام) لانه خبر محتمل للصدق والكذب والمحتمل لا يكون حجة ملزمة ولان خبر الواحد لا يوجب العلم والقضاء ملزم فيستدعي سببا موجبا للعمل وهو المعاينة فالقضاء أولى ولكنا تركنا ذلك بالنصوص التى فيها أمر للاحكام بالعمل بالشهادة من ذلك قول الله تعالى واستشهدوا شهيدين من رجالكم وقال الله تعالى اثنان ذوى عدل منكم وقال ﷺ البينة على المدعى وفيه معنيان أحدهما حاجة الناس إلى ذلك لان المنازعات والخصومات تكثر بين الناس وتتعذر اقامة الحجة الموجبة للعلم في كل خصومة والتكليف بحسب الوسع والثاني معنى الزام الشهود حيث جعل الشرع شهادتهم حجة لايجاب القضاء مع احتمال الكذب إذا ظهر رجحان جانب الصدق واليه أشار النبي ﷺ في قوله أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى الحقوق بهم ولما خص الله تعالى هذه الامة بالكرامات وصفهم بكونهم شهداء على الناس في القيامة قال الله تعالى وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس وقد يجب العمل بمالا يوجب علم اليقين كالقياس في الاحكام بغالب الرأى في موضع الاجتهاد ثم القياس بعد هذا أن يكتفى بشهادة الواحد لان رجحان جانب الصدق يظهر في خبر الواحد بصفة العدالة ولهذا كان خبر الواحد العدل موجبا للعمل وكما لا يثبت علم اليقين بخبر الواحد لا يثبت بخبر العدد ما لم يبلغوا أحد التواتر فلا معنى لاشتراط العدد ولكن تركنا ذلك بالنصوص ففيها بيان العدد في الشهادات المطلقة كما لو تلونا من الايات قال الله تعالى واشهدوا ذوى عدل منكم وقال الله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقال ﷺ للمدعى ليس لك الا شاهد شاهداك أو يمينه فان (قيل) هذه النصوص بيان جواز العمل بشهادة العدد وليس فيها بيان نفى ذلك بدون العدد (قلنا) لا كذلك فالمقادير في الشرع اما لمنع الزيادة والنقصان دون الزيادة كاقل مدة الحيض والسفر أو لمنع الزيادة دون النقصان كاكثر مدة الحيض وهنا التقدير ليس لمنع الزيادة فلو لم يفد منع النقصان لم يبق لهذا التقدير فائدة وحاشا أن يكون التقدير المنصوص خاليا عن الفائدة ثم فيه معنى طمأنينة القلب وذلك عند اخبار العدد أظهر

[ 113 ] منه في خبر الواحد وفي الشهادة محض الالزام وخبر الواحد لا يكفي لذلك بخلاف الديانات فان في الديانات التزام السامع باعتقاده والمخبر يلزم نفسه ثم يتعدي إلى غيره فلم يكن ذلك الزاما محضا فلهذا لا يشترط فيه العدد بخلاف الشهادة وفيه معنى التوكيد فالتزويز والتلبيس في الخصومات يكثر فيشترط العدد في الشهادات صيانة للحقوق المعصومة ثم يشترط فيها ما يشترط في الخبر من العقل والضبط والعدالة لان البيان لا يحصل الا باعتبار عقل المتكلم والشهادة بينة. ومعرفة عقل المرء باختياره فيما يأتي. ويذر وحسن نظره في عاقبة أمره والمطلق من الشئ ينصرف إلى الكامل منه الا أنه لاحد يرجع إليه في كمال معرفة العقل سوى ما جعله الشرع حدا وهو البلوغ والعقل تيسيرا للامر على الناس ولهذا لم يكن الصبي والمعتوه أهلا للشهادة ومعنى الضبط حسن السماع والفهم والحفظ إلى وقت الاداء وتعتبر صفة الكمال فيه أيضا لما في النقصان من شبهة العدم ولهذا لم يجعل من اشتدت غفلته أو مجازفته فيما يقول ويسمع من أهل الشهادة إذا كان ذلك ظاهرا عند الناس وأما معرفة العدالة فلرجحان جانب الصدق. فالحجة الخبر الذي هو صدق ولا طريق لمعرفة الصدق في خبر من هو غير معصوم عن الكذب الا العدالة. والعدالة هي الاستقامة وليس لكمالها نهاية فانما يعتبر منه القدر الممكن وهو انزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولكن هذا شرط العمل بالشهادة لاشرط الاهلية للشهادة وباعتبار هذا المعنى لا يجعل المحدود في القذف أهلا لاداء الشهادة لانه محكوم بكذبه شرعا فلا يظهر رجحان جانب الصدق في خبره بعد الحكم بكذبه شرعا ولم يشترط الاسلام في الاهلية للشهادة لان رجحان جانب الصدق يظهر في خبره مع كفره إذا كان منزجرا عما يعتقده حراما في دينه غير أن خبره لا يقبل في أمر الدين لانه متهم في ذلك فانه يعتقد السعي في هدمه ولهذا لا يجعل من أهل الشهادة في حق المسلمين لانه يعتقد عداوة المسلمين وينعدم فيما بينهم فيكون بعضهم أهلا للشهادة في حق البعض وسوى هذا يشترط في الشهادة أهلية للولاية حتى لا يكون المملوك أهلا للشهادة وان كان خبره في الديانات مقبولا لما في الشهادات من محض الالزام والزام الغير لا يكون الا عن ولاية فشرطنا الاهلية للولاية في الشهادة كما شرطنا العدد وجعلنا النساء أحط رتبة في الشهادة من الرجال لنقصان الولاية بسبب الانوثة وبيان ذلك في الحديث الذي بدأ به الكتاب ورواه عن شريح رحمه الله قال لا تجوز شهادة النساء في الحدود وذكر بعد هذا عن الزهري قال مضت

[ 114 ] السنة من لدن رسول الله ﷺ والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود وبه نأخذ لان في شهادة النساء ضرب من الشبهة فان الضلال والنسيان يغلب عليهن ويقل معهن معنى الضبط والفهم بالانوثة إلى ذلك أشار الله تعالى في قوله عزوجل أن تضل إحداهما فتذكر احداهما الاخرى ووصف رسول الله ﷺ النساء بنقصان العقل والدين والحدود تندرئ بالشبهات وما يندرئ بالشبهات لا يثبت بحجة فيها شبهة تيسيرا للتحرز عنها ولايقال فالشبهة في شهادة الرجال قائمة ما لم يبلغوا أحد التواتر ولهذا لا يثبت علم اليقين بخبرهم لان تلك الشبهة لا يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فسقط اعتبارها ولايجوز أقل من شاهدين في الحقوق بين الناس ولا في الجراحات يعنى عند امكان اشتراط العدد من غير جرح وذلك فيما يطلع عليه الرجال للاناث التى بلونا في اشتراط العدد في الشهود قال ولو كان يجوز شهادة رجل واحد لم يكن لخزيمة بن ثابت رضى الله عنه فضل في شهادته وقد جعل رسول الله ﷺ شهادته شهادة رجلين خصه بذلك وقصة هذا الحديث ماروى أن النبي ﷺ اشترى ناقة من أعرابي وأوفاه الثمن ثم جحد الاعرابي استيفاء الثمن وجعل يقول واغدراه هلم به شهيدا فقال ﷺ من يشهد لى فقال خزيمة بن ثابت رضى الله عنه أنا أشهد لك يارسول الله انك أوفيت الاعرابي ثمن الناقة فقال ﷺ كيف تشهد لى ولم تحصرنا فقال يارسول الله إنا نصدقك فيما تأتينا به من خبر السماء أفلا نصدقك فيما تخبر به من أداء ثمن الناقة فقال ﷺ من شهد له خزيمة فحسبه ثم هذا النوع من الشهادة ينقسم ثلاثة أقسام في اشتراط العدد فقسم يشترط فيه عدد الاربعة في الشهود وهو الزنا الموجب للحد ثبت ذلك بقوله تعالى فاستشهدوا عليهن أربعة منكم وقوله تعالى ثم لم يأتوا بأربعة شهداء ولا يشترط عدد الاربعة فيما سوى الزنا العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء وليس في ذلك معنى سوى أن الله تعالى يحب الستر على العباد ولا يرضى باشاعة الفاحشة فلذلك شرط في الزنى زيادة العدد في الشهود ولهذا جعل النسبة إلى هذه الفاحشة في الاجانب موجبا للحد وفي الزوجات موجبا للعان بخلاف سائر الفواحش لستر العباد بعضهم على بعض وبيان ذلك في حديث ماعز رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال لعمه هلا سترته بثوبك وفي بعض الروايات شين والى اليتيم أنت وفى قسم يشترط فيه شهادة رجلين وهو القصاص والعقوبات التى تندرئ بالشبهات وقسم يشترط

[ 115 ] فيه شهادة رجلين أو رجل وامرأتين وذلك فيما يثبت مع الشبهات بيانه في قوله تعالى فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان معناه فان لم يكن الشهيدان رجلين فرجل وامرأتان شهيدان ليكون تفسيرا لقوله تعالى واستشهدوا شهيدين والاية في المداينات ولكن ذلك مما لا يندرئ بالشبهات فيكون ذلك دليلا على جواز العمل بشهادة رجل وامرأتين فيما لا يندرئ بالشبهات والنكاح والطلاق والعتاق والنسب من هذه الجملة عندنا وقال الشافعي رحمه الله المعنى في المداينات كثرة المعاملات فيما بين الناس فانما يجعل شهادة النساء مع الرجال حجة في ذلك خاصة وهى الاموال وحقوقها فاما فيما سوى ذلك فلابد من شهادة رجلين وقد بينا المسألة في كتاب النكاح. والشهادة على الشهادة جائزة في كل شئ ماخلا القصاص والحدود وذلك مروى عن إبراهيم رحمه الله وهذا لان الشهادة على الشهادة فيها ضرر شبهة ينعدم ذلك بجنس الشهود من حيث ان الخبر إذا تداولته الالسنة يمكن فيه زيادة ونقصان فهو بمنزلة شهادة الرجال مع النساء تكون حجة فيما يثبت مع الشبهات دون ما يندرى بالشبهات بل أولى فان الشهادة على الشهادة خلف حقيقة حتى لا يصار إليها الا عند العجز عن شهادة الاصول وشهادة النساء مع الرجال في صورة الحلف قال الله تعالى فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان وليس بحلف حقيقة حتى يجوز العمل بشهادة رجل وامرأتين مع القدرة على استشهاد رجلين عرفنا أن ذلك أقوى من الشهادة على الشهادة ولانا نتيقن ان شاهد الفرع لم يعاين السبب ولا يتقين في ذلك شهادة النساء انما فيه تهمة الضلال والنسيان فإذا لم تكن شهادة النساء مع الرجال حجة في الحدود والقصاص فالشهادة على الشهادة أولى والشافعي رحمه الله يجعل الشهادة على الشهادة حجة في حقوق العباد أجمع. العقوبات وغير العقوبات في ذلك سواء لانه حجة أصلية فيما هو المشهور به وهو شهادة الاصول فاثبات ذلك بشهادتهم في مجلس القضاء كثبوته بادائهم لو حضروا بانفسهم بخلاف شهادة النساء مع الرجال فشهادة النساء حجة ضرورية لان النساء لا يحضرن محافل الرجال عادة فلا تجعل حجة الا فيما تكثر فيه المعاملة لان الضرورة تتحقق في ذلك وفي الحدود التى هي لله تعالى له قولان في أحد القولين يقول الشهادة على الشهادة لا تكون حجة في ذلك لان شهادتهم على شهادة الاصول بمنزلة شهادتهم على اقرار المقر وذلك غير مقبول في الحدود التى هي لله تعالى ومقبول في حقوق العباد فكذلك الشهادة على الشهادة وهذا لتحقيق الحاجة والضرورة للعباد وذلك ينعدم فيما هو لله تعالى وفي قول آخر يقول

[ 116 ] الشهادة على الشهادة حجة في ذلك الا في الرجم فالشاهد على الزنا في جملة من يرجم يشترط حضوره لا محالة وفيما سوى ذلك من الحدود الامام هو الذي يقيم إذا ظهر السبب عنده وظهر بالشهادة على الشهادة لانها حجة أصلية وفيما ذكرنا جواب عن كلامه إذا تأملت ولا يجوز في شئ شهادة من لم يعاين ولم يسمع لانه لاعلم له بالشهود به وبدون العلم لا يجوز له أن يشهد قال الله تعالى الا من شهد بالحق وهم يعلمون وقال الله تعالى وما شهدنا الا بما علمنا وهذا لان الشاهد يعلم القاضى حقيقة الحال ويميز الصادق المخبر من الكاذب ولا يتحقق ذلك منه إذا لم يعلم به وطريق العمل المعاينة إذا كان المشهود به مما يعاين والسماع إذا كان ذلك مما يسمع كاقرار المقر والله أعلم بالصواب (باب الاستحلاف) (قال رحمه الله اعلم بأن المدعى عليه يستحلف في الخصومات ثبت ذلك بقوله ﷺ واليمين عى ما أنكر الا أنه لا يستحلف الا بطلب المدعى) لان اليمين حقه قال ﷺ للمدعى لك يمينة وكما لا يستحضر ولا يطلب الجواب الا بطلب المدعى فكذلك لا يستحلف الا بطلبه ومعنى جعل الشرع اليمين حقا للمدعى قبل المدعى عليه أن الغموس من اليمين مهلكة على ماروى في حديث أبى أمامة رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال من اقتطع بيمينه وجد له مال امرء مسلم حرم الله تعالى عليه الجنة قيل فان كان شيئا يسيرا يارسول الله قال صلوات الله عليه وان كان قضيبا من أراك وعن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال من حلف يمينا فاجرة ليقتطع بها مال امرء مسلم لقى الله تعالى وهو عليه غضبان فعرفنا أنه يمين مهلكة والمدعى يزعم أن المنكر أتلف حقه بجحوده فجعل له الشرع يمينة حتى تكون مهلكة له ان كان كما زعم المدعى فالاهلاك بمقابلة الاهلاك جزاء مشروع كالقصاص وان كان كما زعم المدعى عليه فلا يضره اليمين الصادقة فهذا تحقيق معنى العدل في شرع اليمين حقا للمدعي قبل المدعى عليه ثم له رأى في تأخير الاستحلاف فربما يرجو أن يحضر شهوده ولا يأمن أن تكون خصومته عند قاض لا يرى قبول البينة بعد الاستحلاف فيؤخر استحلافه لذلك فلهذا لا يحلف الا بطلب المدعى ولان من أصل أبى حنيفة رحمه الله أنه لا يحلف الخصم إذا زعم المدعى أن شهوده حضور وعندهما إذا كان الشهود في مجلس القضاء والمدعى

[ 117 ] هو الذي يعرف ذلك فلهذا لا يستحلف الا بطلبه ثم شرط أبو حنيفة رحمه الله للاستحلاف أن لا يكون للمدعي شهود حضور لظاهر قوله ﷺ للمدعي ألك بينة فقال لا فقال ﷺ إذن لك يمينة ولان المنكر انما يكون متلفا حق المدعى بانكاره إذا لم يكن له شهود حضور ولو استحلف القاضى الخصم مع حضور الشهود لكان في ذلك افتضاح المسلم إذا أقام المدعى البينة بعد ذلك وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قالا إذا كان الشهود في مجلس الحكم فكذلك يتمكن من المدعى من اثبات حقه بالشهادة في الحال فاما إذا لم يكونوا في مجلس الحكم فله غرض صحيح في الاستحلاف وهو أن يقصر المؤونة والمسافة عليه باقرار المدعى عليه أو نكوله عن اليمين فيتوصل إلى حقه في الحال فكان له أن يطلب يمينه ثم قد بينا في كتاب الدعوى أن المقصود نكول المدعى عليه وان الاستحلاف في كل ما يجوز فيه القضاء بالنكول ولهذا لا يستحلف في الحدود لانه لا يقضى فيها بالنكول والنكول قائم مقام الاقرار وفي الحدود التى هي لله تعالى خالصا لا يجوز اقامتها بالاقرار بعد الرجوع فكيف يقام بالنكول والنكول قائم مقام الاقرار وفي حد القذف النكول قائم مقام الاقرار ولايجوز اقامته بما هو قائم مقام الغير كما لايقام بالشهادة على الشهادة وكتاب القاضى إلى القاضى الا أنه يستحلف في السرقة ليقضى عند النكول بالمال دون القطع وهذا لان المدعى يدعى أخذ المال بجهة السرقة فيستحلف الخصم في الاخذ وعند نكوله يقضى بذلك لا بجهة السرقة كما لو أقر بالسرقة ثم رجع وكما في الشهادة على الشهادة وشهادة الرجال مع النساء في السرقة فانه يثبت بها الاخذ الموجب للضمان دون السرقة الموجبة للقطع فكذلك في النكول ولهذا لا يستحلف في النكاح والرجعة والفئ في الاتلاف والرق والنسب والولاء في قول أبى حنيفة رحمه الله لانه لا يجوز القضاء فيها بالنكول والنكول عنده بمنزلة البدل وهما يقولان يستحلف في هذه الاشياء ويقضى بالنكول فالنكول عندهما قائم مقام الاقرار وقد بينا هذا في الدعوى وفي دعوى القصاص يستحلف لا للقضاء بالنكول بل لتعظيم حرمة النفوس (ألا ترى) أن الايمان في القسامة شرعت مكررة لذلك وان كلمات اللعان أيمان مشروعة لتعظيم حرمة النسبة إلى الفاحشة ولهذا قال أبو حنيفة رحمه الله إذا امتنع عن اليمين في دعوى النفس حبس حتى يحلف أو يقر وفينا دون النفس يستحلف للقضاء بالنكول لان البدل عامل في الاطراف كهو في الاموال فإذا كان مفيدا يعمل في الاباحة وإذا كان غير مفيد يعمل في اسقاط الضمان فعند النكول يقضى بالقصاص الذي

[ 118 ] هو عين المدعا كما يقضى بالمال وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قال النفس وما دونها سواء إذا نكل عن اليمين قضينا عليه بالارش وهو قول أبو حنيفة الاول رحمه الله وقد بينا هذا في كتاب الدعوى أيضا (قال) ولا يستحلف الرجل مع شهادة شاهدين لقوله ﷺ واليمين على من أنكر والالف واللام للجنس فقد جعل النبي ﷺ جنس اليمين في جانب المدعى عليه فلم يبق يمين في جانب المدعى ولان شرع اليمين في جانب المنكر لمعنى الاهلاك كما بينا ولا يتحقق ذلك في جانب المدعى ولانها مشروعة للحاجة إلى قطع المنازعة ولا حاجة إلى ذلك بعد اقامة المدعي البينة ولانها مشروعة في جانب المنكر للنفي والمدعى محتاج إلى الاثبات والى هذا أشار في الاصل فقال لا نرد اليمين ولا نحوها عن موضعها وقد قررنا هذا المعنى في كتاب الدعوى في مسألة رد اليمين ومسألة القضاء بشاهد ويمين وكان على رضى الله عنه يرى استحلاف المدعي مع شهادة شاهدين ويرى استحلاف الشاهد واستحلاف الراوى إذا روى حديثا كما روى عنه انه قال ماروى لى أحد حديثا عن رسول الله ﷺ الا حلفته غير أبى بكر رضى الله عنه فانه حدثنى أبو بكر رضى الله عنه ولم أحلفه ولم نأخذ بقوله في هذا لما فيه من الزيادة على النص ففى النصوص أمر الحكام بالتماس شاهدين من المدعى فاليمين بعد ذلك زيادة على النص وذلك بمنزلة النسخ ثم الحق قد ثبت بما أقام من الحجة فالبينة سميت بينة لان البيان يحصل بها ولو ثبت حقه باقرار الخصم لم يجز استحلافه مع ذلك فإذا ثبت بالبينة فهو مثل ذلك أو أقوى فان كانت اليمين على الرجل فان القاضى يحلفه بالله الذي لا اله الا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية وان اكتفى بالاول أجزأه لان المشروع اليمين بالله تعالى فان الله تعالى يحلفون بالله لكم ليرضوكم وقال الله تعالى يحلفون بالله ما قالوا فعرفنا أن المشروع في بيعه نصرة الحق والانكارات اليمين بالله تعالى الا أن المقصود في المظالم والخصومات هو النكول وأحوال الناس تختلف فمنهم من يمتنع إذا غلظ عليه اليمين ويتجاسر إذا حلف بالله فقط وإذا كان كذلك فالرأى في ذلك إلى القاضى ان شاء اكتفى باليمين بالله وان شاء غلظ بذكر الصفات والاصل فيه حديث أبى هريرة رضى الله عنه ان الذي حلف بين يدى رسول الله ﷺ فقال والله الذي لا اله الا هو الرحمن الرحيم الذي أنزل عليك الكتاب وقد بينا ذلك في آداب القاضى ولم ينكر عليه رسول الله ﷺ فعرفنا أن تغليظ اليمين بذكر الصفات حسن بعد أن لا يحلفه أكثر من

[ 119 ] يمين واحدة ولهذا لم يذكر حرف العطف عند ذكر الصفات ولا يحلفه بغير الله تعالى لان ذلك منهى عنه قال ﷺ من كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر وقال ﷺ من حلف بغير الله فقد أشرك ولا يستقبل به القبلة ولا يدخله المسجد وحيثما يحلفه فهو مستقيم لان المقصود تعظيم المقسم به وذلك حاصل سواء حلفه في المسجد أو في غير المسجد استقبل به القبلة أو لم يستقبل والشافعي رحمه الله يقول في المال العظيم يستحلف بمكة عند البيت وبالمدينة بين الروضة والمنبر وفي بيت المقدس عند الصخرة وفي سائر البلاد في الجوامع لحديث عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه فانه رأى قوما يستحلفون عند البيت قال أعلى دم أم أمر عظيم من المال لقد خفت ان يتهيأ الناس لهذا البيت وهذا نوع مبالغة للاحتياط فقد يمتنع الانسان من اليمين في هذا الموضع مالا يمتنع منها في سائر المواضع ولسنا نأخذ بهذا لما فيه من الزيادة على النصوص الظاهرة وهى تعدل النسخ عندنا وقد ظهر عمل الناس بخلافه من لدن رسول الله ﷺ إلى يومنا هذا وفيه أيضا بعض الحرج على القاضى فان حلف المدعى عليه فلقد انقطعت المنازعة لانه لاحجة للمدعى فحجته البينة أو اقرار الخصم أو نكوله وقد انعدم ذلك كله وليس له أن يخاصم بغير حجة يقول فان أبرأه القاضي أي منعه من أن يخاصمه بغير حجة لاأن يسقط حق الطالب عنه بقضائه ثم إن أقام الطالب البينة عليه بالحق فانه يأخذه منه وبعض القضاة من السلف رحمهم الله كان لا يسمعون البينة بعد يمين الخصم وكانوا يقولون كما يترجح جانب الصدق في جانب المدعى بالبينة ويتعين ذلك حتى لا ينظر إلى يمين المنكر بعده فكذلك يتعين الصدق في جانب المدعى عليه إذا حلف فلا يلتفت إلى بينة المدعى بعد ذلك ولسنا نأخذ بذلك وانما نأخذ فيه بقول عمر رضى الله عنه فقد جوز قبول البينة من المدعى بعد يمين المدعى عليه ويقول عمر رضى الله عنه حيث قال اليمين الفاجرة أحق أن يرد من البينة العادلة ولسنا نقول بيمين المدعى عليه يتعين معنى الصدق في انكاره ولكن المدعى لا يخاصمه بعد ذلك لانه لاحجة له فإذا وجد الحجة كان له أن يثبت حقه بها ولا يحلف الشاهد الا بامرنا لاكرام الشهود وليس من اكرامه استحلافه ثم الاستحلاف ينبنى على الخصمومة ولاخصم للشاهد وكما يستحلف المسلم في الخصومات تستحلف أهل الذمة لان المقصود النكول وهم يمتنعون عن اليمين الكاذبة ويعتقدون حرمة ذلك كالمسلمين (قال) ويحلف النصراني بالله الذي أنزل الانجيل على عيسى عليه السلام واليهود بالله الذي أنزل التوراة على

[ 120 ] موسى عليه السلام والاصل فيه حديث رسول الله ﷺ في قصة الرجم حيث قال لابن صوريا الاعور أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى ان حكم الزنا في كتابكم هذا وهذا لانه قد يمتنع من اليمين عند التغليظ بهذه الصفة مالا يمتنع بدونه وذكر عن محمد رحمه الله انه يستحلف المجوسى بالله الذي خلق النار لانهم يعظمون النار وليس عن أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله خلاف ذلك في الظاهر الا انه روى عن أبى حنيفة رحمه الله في النوادر قال لا يستحلف أحد الا بالله خالصا فلهذا قال بعض مشايخنا لا ينبغى أن يذكر النار عند اليمين لان المقصود تعظيم المقسم به والنار كغيرها من المخلوقات فكما لا يستحلف المسلم بالله الذي خلق الشمس فكذلك لا يستحلف المجوسى بالله الذي خلق النار وكانه وقع عند محمد رحمه الله انهم يعظمون النار تعظيم العبادة فالمقصود النكول قال بذكر ذلك في اليمين فأما المسلمون لا يعظمون شيئا من المخلوقات تعظيم العبادة فلهذا لا يذكر شئ من ذلك في استحلاف المسلم وغير هؤلاء من أهل الشرك يحلفون بالله فانهم يعظمون الله تعالى كما قال عزوجل ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وانما يعبدون الاصنام تقربا إلى الله تعالى بزعمهم قال الله تعالى ما نعبدهم الا ليقربونا إلى الله زلفى فيمتنعون من الحلف بالله كاذبا ويحصل به المقصود وهو النكول ولا يستحلف المجوسي في بيت النار لان الاستحلاف عند القاضى والقاضى ممنوع من أن يدخل ذلك الموضع وفي ذلك معنى تعظيم النار وإذا كان لا يدخله المسجد مع انا أمرنا بتعظيم هذه البقعة فلئلا يدخل المجوسي بيت النار عند الاستحلاف وقد نهينا عن تعظيمها أولى والحر والمملوك والرجل والمرأة في اليمين سواء لان المقصود هو القضاء بالنكول وهؤلاء في اعتقاد الحرمة في اليمين الكاذبة سواء وإذا أرادت المرأة أن تحلف زوجها على الدخول بها لتؤاخذه بالمهر وقالت تزوجني وطلقني بعد الدخول أو قالت تزوجني وطلقني قبل الدخول فعليه نصف المهر أستحلفه بالله على ذلك فان نكل عن اليمين لزمه المال ولا يثبت النكاح في قول أبى حنيفة رحمه الله لانها تدعى المال والعقد والبدل يعمل في المال ولا يعمل في النكاح فيستحلف لدعوى المال وعند النكول يقضى بذلك دون النكاح وقد بينا نظيره في دعوى السرقة والله أعلم بالصواب (باب من لا تجوز شهادته) (قال الشيخ الامام رحمه الله الاصل أن الشهادة ترد بالتهمة لقوله ﷺ

[ 121 ] لا شهادة لمتهم ولانه خبر محتمل للصدق والكذب فانما يكون حجة إذا ترجح جانب الصدق فيه وعند ظهور سبب التهمة لا يترجح جانب الصدق ثم التهمة تارة تكون لمعنى في الشاهد وهو الفسق لانه لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاد حرمته متهم بأنه لا ينزجر عن شهادة الزور وقد بينا أن العدالة شرط للعمل بالشهادة والعدالة هي الاستقامة وذلك بالاسلام واعتدال العقل ولكن يعارضهما هوى يضله أو يصده وليس لهذا الاستقامة حد يوقف على معرفته لانه بمشيئة الله تعالى تتفاوت أحوال الناس فيها فجعل الحد في ذلك مالا يلحق الحرج في الوقوف عليه وقيل كل من ارتكب كبيرة يستوجب بها عقوبة مقدرة فهو لا يكون عدلا في شهادته ففى غير الكبائر إذا أصر على ارتكاب شئ مما هو حرام في دينه يخرج من أن يكون عدلا وان ابتلى بشئ من غير الكبائر ولم يظهر منه الاصرار على ذلك فهو عدل في الشهادة لانه إذا أصر على ذلك فقد أظهر رجحان الهوى والشهوة على ما هو المانع وهو عقله ودينه وإذا ابتلى بذلك من غير اصرار عليه فانما ظهر رجحان دينه وعقله على الهوى والشهوة وقد تكون التهمة لمعنى في المشهود له وهو وصله خاصة بينه وبين الشاهد يدل على ايثاره على المشهود عليه وذلك شئ يعرف بالعادة فقد ظهر من عادة الناس العدول منهم وغير العدول الميل إلى الاقارب وأبنائهم على الاجانب فتتمكن تهمة الكذب بهذا الطريق في الشهادة وقد يكون ذلك في الشاهد لا يقدح في عدالته وولايته وهو العمى فليس للاعمى آلة التمييز بين الناس حقيقة وذلك تمكن تهمة الغلط في الشهادة وتهمة الغلط وتهمة الكذب سواء وقد تكون تهمة الكذب مع قيام العدالة بدليل شرعى وهو في حق المحدود في القذف بعد التوبة فقد جعل الله تعالى عجزه عن الاتيان بأربعة من الشهداء دليل كذبه بقوله عزوجل فإذا لم يأتوا بالشهداء فاؤلئك عند الله هم الكاذبون * إذا عرفنا هذا فنقول ذكر عن شريح رحمه الله قال لا تجوز شهادة الوالد لولده والولد لوالده ولا المرأة لزوجها ولا الزوج للمرأة ولا العبد لسيده وبذلك نأخذ ويخالفنا في الولد والوالد مالك رحمه الله فهو يجوز شهادة كل واحد منهما لصاحبه بالقياس على شهادة كل واحد منهما على صاحبه وهذا لان دليل رجحان الصدق في خبره انزجاره عما يعتقد حرمته ولافرق في هذا بين الاجانب والاقارب وحرمة شهادة الزور بسبب الدين يتناول الموضعين ولهذا قبلت شهادة الاخ لاخيه فكذلك شهادة الوالد لولده ولا معتبر بالميل إليه طبعا بعدما قام دليل الزجر شرعا ولكنا نستدل

[ 122 ] بحديث هشام بن عروة عن أبى عن عائشة رضى الله عنهما أن النبي ﷺ قال قال لاتقبل شهادة خائن ولا خائنة ولاذى غمره على أخيه المسلم ولا شهادة الولد لوالده ولا شهادة الوالد لولده وكذلك رواه عمر بن شعيب عن أخيه عن جده زاد فيه ولا شهادة المرأة لزوجها ولا شهادة الزوج لامرأته وفي الحديثين ذكر ولا مجلود حد يعنى في القذف وروى أن الحسن شهد لعلي رضى الله عنهما مع قنبر عند شريح رحمه الله بدرع له قال شريح رحمه الله ائت بشاهد آخر فقال علي رضى الله عنه مكان الحسن أو مكان قنبر قال لابل مكان الحسن رضى الله عنه قال علي رضى الله عنه أما سمعت رسول الله ﷺ يقول للحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة فقال قد سمعت ولكن إئت بشاهد آخر فعزله عن القضاء ثم أعاد عليه وزاد في رزقه فدل أنه كان ظاهرا فيما بينهم أن شهادة الولد لوالده لاتقبل الا أنه وقع لعلي رضى الله عنه في الابتداء أن للحسن رضى الله عنه خصوصية في ذلك لما خصه به رسول الله ﷺ من السيادة ووقع عند شريح رحمه الله أن السبب المانع وهو الولاد قائم في حقه ولا طريق لمعرفة الصدق والكذب حقيقة في حق من هو غير معصوم عن الكذب فيبنى الحكم على السبب الظاهر وهو كما وقع عند شريح رحمه الله واليه رجع علي رضى الله عنه والمعنى فيه تمكن تهمة الكذب فان العدالة تدل على رجحان جانب الصدق عند استواء الخصمين في حقه ولا تدل على ذلك عند عدم الاستواء (ألا ترى) أن في شهادة المرء لنفسه أو فيما له فيه منفعة لا يظهر رجحان جانب الصدق باعتبار العدالة لظهور ما يمنع من ذلك بطريق العادة فكذلك في حق الاباء والاولاد إما لشبهة البعضية بينهما أو لمنفعة الشاهد في المشهود به والمنافع بين الاباد والاولاد متصلة قال الله تعالى أباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا بخلاف الاخوة وسائر القرابات فدليل العادة هناك مشترك متعارض فقد تكون القرابة سببا للتحاسد والعداوة وأول ما يقع من ذلك انما يقع بين الاخوة بيانه في قوله تعالى قال لاقتلنك وبيان ذلك في حال يوسف عليه السلام واخوته فمكان التعارض يظهر رجحان جانب الصدق في الشهادة له بظهور عدالته ومثل هذه المعارضة لا توجد في الاباء والاولاد لا يشكل هذا على من نظر في أحوال الناس عن انصاف فاما في شهادة أحد الزوجين لصاحبه يخالفنا الشافعي رحمه الله فيقول تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه لانه ليس بينهما بعضية والزوجية قد تكون سببا للتنافر والعداوة وقد تكون سببا للميل والايثار فهى نظير الاخوة

[ 123 ] أو دون الاخوة فانها تحتمل القطع والاخوة لا تحتمل ودليل هذا الوصف جريان القصاص بينهما في الطريقين في النفس وأن كل واحد منهما لا يعتق على صاحبه إذا ملكه ولان هذه وصلة بينهما باعتبار عقد لا يؤثر في المنع من قبول الشهادة كالصداق والاظهار والاختان وهذا لان عقد النكاح يثبت أحكاما مشتركة بينهما ففيما وراء ذلك ينزل كل واحد منهما من صاحبه منزلة الاجنبي كشريكي العنان * وحجتنا في ذلك أن ما بينهما من وصلة الزوجية تمكن تهمة في شهادة كل واحد منهما لصاحبه. وبيان ذلك من وجوه أحدهما ان عقد النكاح مشروع لهذا وهو أن يألف كل واحد منهما بصاحبه ويميل إليه ويؤثره على غيره واليه أشار الله تعالى في قوله خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وهو مشروع لمعنى الاتحاد في القيام بمصالح المعيشة ولهذا جعل رسول الله ﷺ أمور داخل البيت على فاطمة رضى الله عنها وأمور خارج البيت على علي رضى الله عنه وبهما تقدم مصالح المعيشة فكان في ذلك كشخص واحد ولايقال هذا الاتحاد بينهما في حقوق النكاح خاصة لان معنى الاتحاد في حقوق النكاح مستحق شرعا وفيما وراء ذلك ثابت عرفا فالظاهر ميل كل واحد منهما إلى صاحبه وايثاره على غيره كما في الآباء والاولاد بل أظهر فان الانسان قد يعادى والديه لترضى زوجته وقد تأخذ المرأة من مال أبيها فتدفعه إلى زوجها والدليل عليه ان كل واحد منهما يعد منفعة صاحبه منفعته ويعد الزوج غنيا بمال الزوجة قيل في تأويل قوله تعالى ووجدك عائلا فاغنى أي غنى بمال خديجة رضى الله عنها ولما جاء إلى عمر رضى الله عنه رجل فقال ان عبدى سرق مرآة امرأتي فقال مالك سرق بعضه بعضا والدليل على أن الزوجة بمنزلة الولاد حكما استحقاق الارث بها من غير حجب بمن هو أقرب * توضيح الفرق ما قلنا أن الزوجة بمنزلة الاصل للولاد فان الولاد تنشأ من الزوجية والحكم الثابت للفرع يثبت في الاصل وان انعدم ذلك المعنى فيه (ألا ترى) أن المحرم إذا كسر بيض الصيد يلزمه الجزاء وليس في البيض معنى الصيدية ولكنه أصل الصيد فيثبت فيه من الحكم ما يثبت في الصيد الا أن هذا الاصل انما يلحق بالولاد في حكم يتصور قيام الزوجية عند ثبوت ذلك الحكم دون مالا يتصور كالقصاص فانه يجب بعد القتل ولا زوجية بعد قتل أحدهما صاحبه والعتق انما يثبت بعد الملك ولا زوجية بعد الملك فاما حكم الشهادة يكون في حال قيام الزوجية فيلحق الزوجية فيه بالولاد وكان سفيان الثوري رحمه الله يقول شهادة الزوج لزوجته تقبل وشهادة المرأة لزوجها لاتقبل لانها في

[ 124 ] حكم المملوك له المقهور تحت يده فيتمكن تهمة الكذب في شهادتها له وذلك تنعدم في شهادته لها واعتمد فيه حديث علي رضى الله عنه فانه شهد لفاطمة رضى الله عنها في دعوى فدك مع امرأة بين يدى أبى بكر رضى الله عنه فقال لها أبو بكر رضى الله عنه ضمى إلى الرجل رجلا أو إلى المرأة امرأة فهذا اتفاق منهما على جواز شهادة الزوج لزوجته * ولكنا نقول دليل التهمة تعم الجانبين من الوجه الذي قررنا فربما يكون ذلك في جانب الزوج أظهر لانها لما كانت في يده فما لها في يده من وجه أيضا فهو يثبت اليد لنفسه في المشهود به وكذلك بكثرة مالها تزداد قيمة ملكه فان قيمة المملوك بالنكاح تختلف بقلة مالها وكثرة مالها. بيان ذلك في مهر المثل فمن هذا الوجه يكون الزوج شاهدا لنفسه ولا حجة في حديث علي رضى الله عنه لان أبا بكر رضى الله عنه لم يعمل بتلك الشهادة بل ردها وكان للرد طريقان الزوجية ونقصان العدد فاشار إلى أبعد الوجهين تحرزا عن الوحشة وكذلك علي رضى الله عنه علم أن أبا بكر رضى الله عنه لا يعمل بتلك الشهادة لنقصان العدد وكره انحسامها بالامتناع من أداء الشهادة فلهذا شهد لها وقد قيل ان شهادة علي رضى الله عنه لها لم تشتهر وانما المشهور أنه شهد لها رجل وامرأة وأما قول شريح ولا العبد لسيده فهو مجمع عليه لان شهادة العبد لاتقبل لسيده ولا لغير سيده وحكى عن محمد بن سلمة رضى الله عنه قال كان يحيى بن أكثم رحمه الله أعلم الناس باختلاف العلماء رحمهم الله وكان إذا قال في شئ اتفق العلماء رحمهم الله على كذا نزل أهل العراق على قوله وقد قال اتفق العلماء على أن العبد لا شهادة له وقد يروي أن عليا وزيدا رضى الله عنهما اختلفا في المكاتب إذا أدى بعض بدل الكتابة فقال علي رضى الله عنه يعتق بقدر ما أدى منه وقال زيد رضى الله عنه لا يعتق ما بقى عليه درهم فقال زيد لعلي رضى الله عنهما أرأيت لو شهد أكان تقبل بعض شهادته دون البعض فهذا دليل الاتفاق منهما على أن لا شهادة للعبد واختلف عمر وعثمان رضى الله عنهما في العبد إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعتق فاعادها فقال عثمان رضى الله عنه لاتقبل وقال عمر رضى الله عنه تقبل فذلك اتفاق منهما على انه لا شهادة للعبد وعن ابن عباس رضى الله عنهما قال لا شهادة للعبد وهذا لان في الشهادة معنى الولاية فانه قول ملزم على الغير ابتداء وليس معنى الولاية الا هذا والرق يبقي الولاية فالاصل ولاية المرء على نفسه فإذا كان الرق يخرجه من أن يكون أهلا للولاية على نفسه فعلى غيره أولى وقد استدلوا في الكتاب على أن العبد ليس من أهل الشهادة بقوله تعالى ولايأب الشهداء إذا ما

[ 125 ] دعوا والعبد لايدخل في هذا الخطاب لان خدمته ومنفعته لمولاه فلا يجب عليه الحضور لاداء الشهادة وان دعى إلى ذلك بل لا يحل له ذلك لان منافعه في هذا الزمان غير مستثنى من حق المولى وذكر عن شريح رحمه الله أنه قبل شهادة الاخ لاخيه وقد بينا الفرق بين هذا وبين شهادة الولد لوالده واستدل في الكتاب بقوله ﷺ أنت ومالك لابيك فمطلق هذه الاضافة يدل على أن الولد كالمملوك لوالده وان مال الولد لوالده وقد دل عليه قوله ﷺ ان أطيب ما يأكل الرجل من كسبه وان ولده من كسبه ومثل ذلك لا يوجد في الاخوة وسائر القرابات ويجوز شهادة الرجل لوالده من الرضاعة ووالدته لان الرضاع تأثيره في الحرمة خاصة وفيما وراء ذلك كل واحد منهما من صاحبه كالأجنبي (ألا ترى) أنه لا يتعلق به استحقاق الارث واستحقاق النفقة حالة اليسار والعسرة وبه يفرق بين الاخوة والولاد فالاخوة لا يتعلق بها استحقاق النفقة عند عدم اليسار بخلاف الولادة والزوجية فانه يتعلق بهما استحقاق حالتى اليسار والعسرة ويجوز شهادة الرجل لام امرأته ولزوج ابنته لان المصاهرة التى بينهما تأثيرها في حرمة النكاح فقط فاما ما سوى ذلك لا تأثير للمصاهرة فهى بمنزلة الرضاع أو دونه وعن إبراهيم رحمه الله قال لا تجوز شهادة المحدود في القذف وان تاب انما توبته فيما بينه وبين الله تعالى وعن شريح رحمه الله مثله وبذلك ياخذ علماؤنا رحمهم الله وهو قول ابن عباس رضي الله عنهما فانه كان يقول انما يؤتيه فيما بينه وبين الله تعالى فاما نحن فلا تقبل شهادته وقال الشافعي رحمه الله تقبل شهادته بعد التوبة وهو قول عمر رضى الله عنه وقد كان يقول لابي بكرة تب تقبل شهادتك واستدل الشافعي رحمه الله بظاهر الآية فان الله تعالى قال الا الذين تابوا والاستثناء متى يعقب كلمات منسوقة بعضها على البعض ينصرف إلى جميع ما تقدم الا ما قام الدليل عليه كقول القائل امرأته طالق وعبده حر وعليه حجة الا أن يدخل الدار ثم قام الدليل من حيث الاجماع على أن الاستثناء لا ينصرف إلى الجلد فيبقى ما سواه على هذا الظاهر مع أن عندنا الاستثناء ينصرف إلى الجلد أيضا الا أن الجلدحق المقذوف فتوبته في ذلك أن يستعفيه فلا جرم إذا استعفاه فعفى عنه سقط الجلد والمعنى فيه أن الموجب لرد الشهادة فسقه وقد ارتفع بالتوبة وانما قلنا لان الموجب لرد شهادته اما أن يكون نفس القذف أو اقامة الحد عليه أو سمة الفسق لاجائز أن يكون الموجب لرد شهادته نفس القذف لانه خبر متمثل بين الصدق والكذب فباعتبار الصدق لا يكون موجبا رد الشهادة ولا ترد

[ 126 ] الشهادة على التأييد وكذلك باعتبار الكذب فلا تأثير للكذب في رد الشهادة على التأييد ولان هذا افتراء منه على عبد من عباد الله فلا يكون أعظم من افترائه على الله تعالى وهو الكفر وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأييد ولانه نسبة الغير إلى الزنا فلا يكون أقوى من مباشرة فعل الزنا وذلك لا يوجب رد الشهادة على التأييد وهذا على أصلكم أظهر فانكم تقولون قبل اقامة الحد عليه تقبل شهادته وان لم يتب وبالاتفاق إذا تاب قبل اقامة الحد عليه تقبل شهادته ولا جائز أن يكون الموجب لرد الشهادة اقامة الحد عليه فان ذلك فعل الغير به وتعتبر اقامة هذا الحد باقامة سائر الحدود وهذا لان الحد من وجه يقام تطهيرا قال ﷺ الحدود كفارات لاهلا فلا يصلح أن تكون سببا لرد شهادته على التأييد وحاله إذا تاب بعد اقامة الحد عليه أحسن من حاله قبل اقامة الحد عليه فإذا بطل الوجهان صح أن الموجب لرد شهادته سمة الفسق وقد ارتفع ذلك بالتوبة بدليل قبول خبره في الديانات ولهذا قلت قبل اقامة الحد عليه لاتقبل شهادته عليه إذا لم يتب لان الفسق ثبت بنفس القذف لما فيه من هتك ستر العفة على المسلم ولهذا لزمه الحد به والحد لا يجب الا بارتكاب جريمة موجبة للفسق ولان هذا محدود في قذف حسنت توبته فتقبل شهادته كالذمي إذا أسلم بعد اقامة الحد عليه * وحجتنا في ذلك من حيث الظاهر قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا والا بدما لا نهاية له فالتنصيص عليه في بيان رد شهادته دليل على أنه يتناول الشهادة على التأييد ومعنى قوله لهم أي للمحدود في القذف وبالتوبة لا يخرج من أن يكون محدودا في قذف بخلاف قوله تعالى ولاتصل على أحد منهما مات أبدا ومعناه من المنافقين وبالتوبة يخرج من أن يكون منافقا والمراد بالاية شهادته في الحوادث لاما يأتي به من الشهود على صدق مقالته فالصحيح من المذهب عندنا انه إذا أقام المحدود أربعة من الشهداء على صدق مقالته بعد اقامة الحد عليه تقبل ويصير هو مقبول الشهادة وقوله تعالى لهم شهادة بمنزلة قوله شهادتهم كما يقال هذه دارك وهذه دار لك وفي التنكير ما يدل على أن المراد ما قلنا دون أربعة يشهدون له فانه لو كان المراد ذاك لقال ولا تقبلوا لهم الشهادة فان المنكر إذا أعيد يعاد معرفا قال الله تعالى كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول ولا كلام في المسألة من طريق القياس فان مقادير الحدود لا تعرف بالقياس ولكن الكلام على طريق الاستدلال بالمنصوص فنقول ان رد الشهادة من تمام حده وأصل الحد لا يسقط بالتوبة فما هو متمم له لا يسقط

[ 127 ] أيضا وبيان هذا أن نفس القذف لا يكون موجبا للحد كما قاله الخصم ولان القذف متمثل بين الصدق والكذب وربما يكون حسبه من القاذف إذا علم اضراره ووجد أربعة من الشهداء ليقيم عليه الحد ولهذا يتمكن من اثباته بالبينة ولكن وجوب الحد عليه بالقذف مع عجزه عن الاتيان بأربعة من الشهداء واليه أشار الله تعالى في قوله عزوجل ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فالمعطوف على الشرط شرط ثم العجز عن ذلك يظهر بما يظهر به العجز عن الدفع في سائر الحوادث فعند ذلك يصير القذف موجبا جلدا مؤلما محرما لقبول الشهادة وذلك منصوص عليه في قوله تعالى فاجلدوهم والفاء للتعقيب وقوله تعالى ولا تقبلوا لهم معطوف على الجلد والعطف للاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه فإذا كان المعطوف عليه حدا كان المعطوف من تمام الحد كما قال الشافعي رحمه الله في قوله ﷺ وتغريب عام أنه من تمام حد البكر ولكن نقول هناك التغريب لا يصلح ان يكون حدا لما فيه من الاغراء على ارتكاب الفاحشة دون الزجر وهنا رد الشهادة صالح لتتميم الحد لانه مؤلم قلبه كما أن الجلد مؤلم بدنه ففيه معنى الزجر ثم حرمة القاذف باللسان ورد شهادته حد في المحل الذي حصل به الجريمة وذلك مشروع كحد السرقة والمقصود من هذا الحد دفع الشين عن المقذوف وذلك في اهدار قوله أظهر منه في اقامة الجلد عليه فلهذا جعلنا رد الشهادة متمما للحدوهذا بخلاف قوله ﷺ للسارق اقطعوه ثم احسموه فان الحسم لا يكون متمما للحد لانه دواء فلا يصلح أن يكون متمما للحد ثم حرف النفى في قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة لايمنع العطف فقد يعطف النهي على الامر كما يقول لغيره اجلس ولا تتكلم وأما قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون ليس بعطف بل هو ابتداء بحرف الواو وقد يكون ذلك لحسن نظم الكلام كقوله تعالى والراسخون في العلم وقوله تعالى ولباس التقوى وقوله تعالى ويمحوا الله الباطل وبيان أنه ليس بعطف أن قوله تعالى فاجلدوهم أمر بفعل وهو خطاب الامة وقوله تعالى ولا تقبلوا لهم نهى عن فعل وهو خطاب الامة أيضا وقوله تعالى وأولئك هم الفاسقون اثبات وصف لهم فكيف تتحقق المشاركة بينه وبين ما تقدم ليكون عطفا ولان قوله تعالى وأولئك هم الفاسقون بيان لجريمتهم وازالة الاشكال أنهم لما أدي استوجبوا هذه العقوبة وما تقدم بيان الواجب بالجريمة ولا يتحقق عطف الجريمة على الواجب بها والدليل عليه انه لو كان هذا عطفا لكان من الحد أيضا فينبغي أن لا يرتفع بالتوبة كما لا يرتفع بالحد فلا تأثير للتوبة في الحد

[ 128 ] وانما يسقط عنده بعفو المقذوف ويستوى في ذلك ان تاب القاذف أو لم يتب وكان ينبغى أن يقال إذا تاب حتى حرم بفسقة أن لايقام عليه الحد لان الحد لا يحتمل الوصف بالتحرى والذي يوضح ما قلنا أن الثابت بالنص هو التوقف في خبر الفاسق كما قال الله تعالى فتبينوا والمنصوص عليه هنا حكم آخر وهو الرد دون التوقف فعرفنا أنه ليس بسبب الفسق بل هو متمم للحد كما قررنا ولو كان رد الشهادة بسبب الفسق لكان في الاية عطف العلة على الحكم وذلك لا يحسن في البيان ولهذا الاصل قلنا بقبول شهادته قبل اقامة الحد عليه وان لم يتب لانه من تمام حده أو أنه بعد اقامة الحد وهذا لان باقامة الحد يصير محكوما بكذبه والمتهم بالكذب لا شهادة له فالمحكوم بالكذب أولى ويستدل بهذا في تعيين المسألة فانه بعد اقامة الحد عليه في جميع الحوادث بمنزلة الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته فتلك الشهادة لاتقبل منه بعد ذلك وان تاب لانه صار محكوما بكذبه فيها فكذلك المحدود في جميع الشهادة وبيان ما قلنا فيما روي ان هلال بن أمية لما قذف امرأته بشريك بن سمحا قال المسلمون الان يجلد هلال فتبطل شهادته في المسلمين فذلك دليل على أنه لا تبطل شهادته قبل اقامة الحد وأن بطلان الشهادة من تمام الحد وتأويل قول عمر رضى الله عنه لابي بكرة تقبل شهادتك في الديانات (ألا ترى) ان ماروى ان أبا بكرة كان إذا استشهد في شئ قال وكيف تشهدني وقد أبطل المسلمون شهادتى وهو أعلم بحاله من غيره فاما الذمي إذا أقيم عليه حد القذف سقطت شهادته وتم به حده لانه كان من أهل الشهادة ثم بالاسلام استفاد شهادة لم تكن موجودة عند اقامة الحد وهذه الشهادة لم تصر مردودة وبه فارق العبد إذا أقيم عليه الحد ثم عتق لان العبد لم يكن أهلا للشهادة وتمام الحد يرد الشهادة فيتوقف على ما بعد العتق فان عتق الان ثم حده ترد شهادته وهذا الفرق على الرواية التى يقول ان خبر المحدود في القذف في الديانات تقبل وأما على الرواية التى تقول لا يقبل خبره في الديانات وهو رواية المنتفى فوجه الفرق بينهما ان الكافر بالاسلام استفاد عدلة لم تكن موجودة عند اقامة الحد وهذه العدالة لم تصر مجروحة بخلاف العبد فهو بالعتق لا يستفيد عدالة لم تكن موجودة من قبل وقد صارت عدالته مجروحة باقامة الحد عليه فلا تقبل شهادته بحال فان (قال) القاذف عندي لا يكون أهلا للشهادة عند اقامة الحد عليه لانه فاسق وانما يستفيد الاهلية بعد ذلك بالتوبة (قلنا) لا كذلك فقد قامت الدلالة لنا على ان الفاسق من أهل الشهادة وفي قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة ما يدل

[ 129 ] على ذلك ثم مذهبه هذا من أقوى دليل لنا عليه فان عنده قبل التوبة لا شهادة له فلا تتصور رد شهادته ويتبين بهذا أن المراد من قوله تعالى ولا تقبلوا لهم شهادة رد لشهادته بعد وجودها بالاهلية وذلك بعد التوبة وعن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أنه شهد عنده أعمى فقالت أخت المشهود عليه أنه أعمى فذكر ذلك لعلي رضى الله عنه فرد شهادته وبه نأخذ وكان مالك رحمه الله يقول ان شهادة الاعمى مقبولة لان الاعمى لا يقدح في الولاية والعدالة فباعتبارهما يجب قبول الشهادة * بيانه أنه من أهل الولاية على نفسه فتتعدى ولايته إلى غيره عند وجود سبب التعدي وهو أهل للعدالة لانزجاره عما يعتقده حراما في دينه ولهذا قبلت رواية الاعمى فقد كان في الصحابة رضوان الله عليهم من هو أعمى وقد كان في الانبياء عليهم السلام من ابتلى بذلك فدل أن الاعمى لا يقدح في العدالة وفوات العينين كفوات الرجلين واليدين فلا يؤثر في المنع من قبول شهادته ونحن نسلم هذا كله ولكن نقول يحتاج في تحمل الشهادة وأدائها إلى التمييز بين من له الحق وبين من عليه وقد عدم آلة التمييز حقيقة لان الاعمى لا يمييز بين الناس الا بالصوت والنغمة فتتمكن من شهادته شبهة يمكن التحرز عنها بجنس المشهود وذلك مانع من قبول الشهادة وقال زفر رحمه الله فيما لا يجوز الشهادة عليه الا بالمعاينة لا شهادة للاعمى فاما فيما تجوز الشهادة فليه بالتسا مع تقبل شهادة الاعمى لانه في السماع كالبصير وانما عدم آلة العينين ولكنا نقول في أداء الشهادة هو محتاج إلى الاشارة إلى المشهود له والمشهود عليه ولا يتمكن من ذلك الا بدليل مشتبه وهو الصوت والنغمة وعلى هذا الاصل قال أبو يوسف والشافعي رحمهما الله إذا تحمل الشهادة وهو بصير ثم أداها وهو أعمى تقبل شهادته لان تحمله قد صح بطريق ثبت له العلم به وبعد صحة العلم انما يحتاج إلى الحفظ والاعمى في ذلك كالبصير ويحتاج إلى الاداء باللسان والاعمى في ذلك كالبصير فتعريف المشهود له والمشهود عليه بذكر الاسم والنسب والاشارة اليهما بالطريق الذي يعلم أنه مصيب في ذلك يكفى لاداء الشهادة (ألا ترى) أن الاعمى يباح له وطئ زوجته وجاريته ولا يميزهما من غيرهما الا بالصوت والنغمة وأن البصير إذا شهد على ميت أو غائب يقام ذكر الاسم والنسب مقام الاشارة إلى العين في صحة أداء الشهادة فهذا مثله وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا لاتقبل شهادته لحديث علي رضى الله عنه فانه لا يستفسر أنه وقت التحمل كان بصير أو أعمى وفي هذا الحديث دليل أن ذلك معروفا بينهم حتى لم يخف على النساء ولكن أبو يوسف رحمه الله يقول يحتمل

[ 130 ] أن ذلك كان في الحد وأنا أقول في الحدود إذا عمى قبل الاداء أو بعد الاداء قبل الامضاء فانه لاتعمل بشهادته لان الحدود تندرئ بالشبهات والصوت والنغمة في حق الاعمى تقام مقام المعاينة في حق البصير والحدود لاتقام بما يقوم مقام الغير بخلاف الاموال والمعنى فيه أن في شهادة الاعمى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود وذلك يمنع قبول الشهادة كما في شهادة الاب لولده وبيان الوصف أنه يحتاج عند أداء الشهادة إلى التمييز بين المشهود له والمشهود عليه والاشارة اليهما والى المشهود به فيما يجب احضاره وآلة هذا التمييز البصير وقد عدم الاعمى ذلك المعنى وانما يميز بالصوت والنغمة أو بخبر الغير فكما لا يجوز له ولا للبصير أن يشهد بخبر الغير فكذلك لاتقبل شهادته إذا كان تمييزه بخبر الغير والاعمى في أداء الشهادة كالبصير إذا شهد من وراء الحجاب وهذا بخلاف الوطئ فانه يجوز أن يعتمد فيه على خبر الواحد إذا أخبره ان هذه امرأته وقد زفت إليه وهذا لان الضرورة تتحقق فيه فالاعمى يحتاج إلى قضاء الشهوة والنسل كالبصير ولا ضرورة هنا ففي الشهود كثرة وهذا بخلاف الموت فان ذلك لا يمكن التحرز عنه بجنس الشهود فالمدعى وان استكثر من الشهود يحتاج إلى اقامة الاسم والنسبة مقام الاشارة عند موت المشهود عليه أو غيبته على أن هناك الاشارة تقع إلى وكيل الغائب ووصى الميت وهو في ذلك قائم مقامه ولايقال بانه ماكان يعلم عند الاستشهاد ان الشاهد يبتلى بالعمى لان هذا المعنى يضعف بما إذا فسق الشاهد بعد التحمل فان شهادته لاتقبل والمدعي ماكان يعلم أن الشاهد يفسق بعد التحمل ثم هذا في القصاص والحدود التى فيها حق العباد موجود وكم يعتبر مع عظم حرمتها فلان لا يعتبر في الاموال مع خفة حرمتها أولى ثم بماذى يعرف انه كان بصيرا وقت التحمل فان قول الشاهد في ذلك غير مقبول وقول المدعى كذلك والمدعى عليه منكر للمشهود به أصلا (قال) ويتصور هذا فيما إذا جاء وهو بصير ليؤدي الشهادة فلم يتفرغ القاضى لسماع شهادته حتى عمى أو كان القاضى يعرف الوقت الذي عمى هو فيه وتاريخ المدعى سابق على ذلك ولا تجوز شهادة الاخرس لان أداء الشهادة يختص بلفظ الشهادة حتى إذا قال الشاهد أخبر واعلم لا يقبل ذلك منه ولفظ الشهادة لا يتحقق من الاخرس ثم شهادة الاخرس مشتبة فانه يستدل باشارته على مراده بطريق غير موجب للعلم فتتمكن من شهادته تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود ولا تكون اشارته أقوى من عبارة الناطق لو قال أخبر ولاتقبل شهادة الفاسق لان الله تعالى أمر بالتوقف في خبر الفاسق بقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ

[ 131 ] فتبينوا أن تصيبوا والامر بالتوقف يمنع العمل بالشهادة وهذا لان رجحان جانب الصدق لا يظهر في شهادة الفاسق لان اعتبار اعتقاده يدل على صدقه واعتبار تعاطيه يدل انه كاذب في شهادته فلتعارض الادلة يجب التوقف ثم لما لم ينزجر عن ارتكاب محظور دينه مع اعتقاده حرمته فالظاهر أنه لا ينزجر عن شهادة الزور مع اعتقاد حرمته وعن أبى يوسف رحمه الله يقول إذا كان وجيها في الناس ذا مروءة تقبل شهادته لانه لا تتمكن تهمة الكذب في شهادته فلوجاهته لا يتجاسر أحد من استئجاره لاداء الشهادة ولمروءته يمتنع من الكذب من غير منفعة له في ذلك والاصح ان شهادته لاتقبل لان قبول الشهادة في العمل بهالا كرام الشهود كما قال ﷺ أكرموا الشهود فان الله تعالى يحيى الحقوق بهم وفي حق الفاسق أمر بخلاف ذلك قال ﷺ إذا لقيت الفاسق فالفه بوجهه مكفهر ومن يكون معلنا للفسق فلا مروءة له شرعا فلهذا لاتقبل شهادته ولا شهادة آكل الربا المشهور بذلك والمعروف به المقيم عليه فانه فاسق محارب قال الله تعالى فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ولكنه شرط أن يكون مشهورا به مقيما عليه لان العقود الفاسدة كلها ربا قال الله تعالى وأحل الله البيع وحرم الربا والانسان في العادة لا يمكنه أن يتحرز عن الاسباب المفسدة للعقد في جميع معاملاته فقد لا يهتدى إلى بعض ذلك فلهذا لا تسقط عدالته إذا لم يكن مشهورا بأكل الربا مصرا عليه ولا شهادة مدمن الخمر ولامدمن السكر لانه مرتكب للكبيرة مستوجب للحد على ذلك وذلك تسقط عدالته وانما شرط الادمان ليكون ذلك ظاهرا منه فان من يتهم بالشرب ولكن لا يظهر ذلك لا يخرج من أن يكون عدلا وانما تسقط عدالته إذا كان يظهر ذلك أو يخرج سكرانا يسخر منه الصبيان فلا مروءة لمثله ولا يبالي من الكذب عادة ولا شهادة المحنث لانه فاسق ومراده إذا كان محنثا في الردي من أفعاله فأما إذا كان في كلامه لين وفي أعضائه تكسر ولم يشتهر بشئ من الافعال الردية فهذا عدل مقبول الشهادة (ألا ترى) ان هبت المحنث كان يدخل بيوت أوزاج رسول الله ﷺ ورضى عنهن حتى سمع رسول الله ﷺ منه كلمة شنيعة أمر باخراجه ولا شهادة من يلعب بالحمام يطيرهن لشدة غفلته فالظاهر أن يكون قبله مع ذلك في عامة أحواله وأنه يقل نظره في سائر الامور ثم هو مصر على نوع لعب وقال صلي الله عليه وسلم ما أنا من در ولا الدر منى والغالب أنه ينظر إلى العورات في السطوح وغيرها وذلك فسق فاما إذا كان يمسك الحمام في بيته يستأنس بها ولا

[ 132 ] يطيرها عادة فهو عدل مقبول الشهادة لان امساك الحمام في البيوت مباح (ألا ترى) أن الناس يتخذون بروج الحمامات ولم يمنع من ذلك أحد ولا شهادة صاحب الغناء الذي يخادن عليه ويجمعهم والنائحة لانه مصر على نوع فسق ويستخف به عند الصلحاء من الناس ولا يمتنع من المحازقة والاقدام على الكذب عادة فلهذا لاتقبل شهادته وأما المحدود في الخمر والزنا والسرقة إذا تابوا فان شهادتهم مقبولة لحديث شريح رحمه الله انه أجاز شهادة أقطع من بنى أسد فقال أتجيز شهادتى فقال نعم وأراك لذلك أهلا وكان أقطع في سرقة وهذا لان التوقف في شهادته كان لفسقه وقد زال ذلك بالتوبة والتائب من الذنب كمن لاذنب له وليس هذا كالمحدود في القذف لان رد الشهادة هناك من تمام الحد فلو جعلنا رد الشهادة هنا من تمام الحد كان بطريق القياس ولا مدخل للقياس في مقادير الحدود والزيادة على النص بالقياس لا تجوز مع أن هذا الحد ليس في معنى ذلك الحد لان باقامة حد القذف تتحقق جريمته وجريمة هؤلاء تتحقق قبل اقامة الحد فاقامة الحد في حقهم تكون تطهيرا إذا انضم إليه التوبة وقد قال الله تعالى فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح الاية وقد قال ﷺ التائب من الذنب كمن لاذنب له وإذا أعمى الشاهد أو خرس أو ذهب عقله أو ارتد عن الاسلام والعياذ بالله بعد ما شهد قبل أن يقضى القاضي بشهادته فان القاضي لا يقضي بشهادته لان اقتران هذه الحوادث باداء الشهادة تمنع العمل بها فكذلك اعتراضها بعد الاداء قبل القضاء لان الشهادة لا توجب شيئا بدون القضاء والقاضي لا يقضى الا بحجة فاعتراض هذه المعاني قبل القضاء يخرج شهادته من أن تكون حجة بخلاف الموت فان اقترانه بالاداء لايمنع العمل بشهادته (ألا ترى) أن شاهد الفرع إذا شهد بعد موت الاصول يقبل والقضاء يكون بشهادة الاصول فكذلك اعتراض الموت لايمنع القضاء بشهادته وقال أبو حنيفة وابن أبى ليلي رحمهما الله شهادة أصحاب الاهواء جائزة وهو مذهب جميع أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي رحمه الله لاتقبل شهادة أهل الاهواء ومنه من يفصل بين من يكفر في هواه وبين من لا يكفر في هواه لانهم فسقة ولا شهادة للفاسق والفسق من حيث الاعتقاد أغلظ من الفسق من حيث التعاطى (ألا ترى) أن أخبار أهل الاهواء في الديانات لا يقبل وهو أوسع من الشهادة فلان لا تقبل شهادتهم أولى وفي الكتاب استدل بما كان من الفتنة بين الصحابة رضى الله عنهم فانهم اختلفوا واقتتلوا وقتل بعضهم بعضا ولاشك أن شهادة بعضهم على بعض كانت جائزة

[ 133 ] مقبولة وليس بين أصحاب الاهواء من الاختلاف أشد مما كان بينهم من القتال وفي موضع آخر علل فقال انهم للتعمق في الذين ضلوا عن سواء السبيل ووقعوا في الهوى وذلك لا يلحق تهمة الكذب بهم في الشهادة فمن أهل الاهواء يعظم الذنب حتى يجعله كفرا فلا يتهم باعتبار هذه الاعتقاد أن يشهد بالكذب ومنهم من يقول بالفسق يخرج من الايمان فاعتقاده هذا يحمله على التحرز عن الكذب الموجب لفسقه وقد بينا أن شهادة الفاسق انما لاتقبل لتهمة الكذب والفسق من حيث الاعتقاد لا يدل على ذلك فهو نظير شرط المثلث معتقدا اباحته أو يتناول متروك التسمية عمدا معتقدا اباحة ذلك فانه لا يصير به مردود الشهادة الا الخطابية من أهل الاهواء وهم صنف من الروافض يستجبرون أن يشهدوا للمدعى إذا حلف عندهم أنه محق ويقولون المسلم لا يحلف كاذبا فاعتقاده هذا يمكن تهمة الكذب في شهادته قالوا وكذلك من يعتقد أن الالهام حجة موجبة للعلم لاتقبل شهادته لان اعتقاده ذلك يمكن تهمة الكذب فربما أقدم على أداء الشهادة بهذا الطريق فاما رواية الاخبار عن أهل الاهواء فقد اختلف فيه مشايخنا رحمهم الله والاصح عندي أنه لاتقبل لان المعتقد للهوى يدعو الناس إلى اعتقاده ومتهم بالنقول على رسول الله ﷺ لاتمام مراده فلا تقبل روايته لهذا ولا يوجد مثل ذلك منه في الشهادة في المعاملات وعلى هذا شهادة العدو على عدوه لاتقبل عند الشافعي رحمه الله لان العدواة بينهما تحمله على التقول عليه ولهذا لم يجوز شهادة أهل الاهواء على أهل الحق فاما عندنا إذا كانت العدواة بينهما بسبب شئ من أمر الدين فشهادة بعضهم على بعض تقبل لخلوها عن تهمة الكذب فأما من يعادى غيره لمجاوزته حد الدين يمتنع من الشهادة بالزور وان كان يعاديه بسبب شئ من أمر الدنيا فهو أمر موجب فسقه فلا تقبل شهادته عليه إذا ظهر ذلك منه وشهادة أهل الاسلام جائزة على أهل الشرك كلهم لان الله تعالى أثبت للمؤمنين شهادة على الناس بقوله عزوجل لتكونوا شهداء على الناس ولما قبلت شهادة المسلم على المسلم فعلى الكافر أولى ومن عرف منهم بالخيانة لم تجز شهادته أهل الاهواء وغير أهل الاهواء في ذلك سواء فالمجون نوع جنون قال القائل في هذا المعنى ان شرخ الشباب والشعر الاسود ما لم يعاص كان جنونا ثم لما جن تشتد غفلته على وجه ينعدم به الضبط أو يقل وتظهر منه المجازفة فيما يقول ويفعل فيتهم بالمجازفة في الشهادة أيضا وشهادة أهل الشرك بينهم جائزة بعضهم على بعض عندنا وقال

[ 134 ] مالك والشافعي رحمهما الله لا شهادة لهم على أحد وكان ابن أبى ليلى رحمه الله يقول إذا اتفقت مللهم تقبل شهادة بعضهم على بعض وان اختلفت لاتقبل لقوله ﷺ لا شهادة لاهل ملة على ملة أخرى الا المسلمين فشادتهم مقبولة على أهل الملل كلها ولان عند اختلاف الملة يعادى بعضهم بعضا وذلك يمنع من قبول الشهادة كما لاتقبل شهادتهم على المسلمين وعلى هذا كان ينبغى أن لاتقبل شهادة المسلمين عليهم الا أنا تركنا ذلك لعلو حال الاسلام قال ﷺ الاسلام يعلو ولا يعلى عليه ولانهم يعادون أهل الشرك بسبب المسلمون فيه محقون وهو اصرارهم على الشرك فلا يقدح ذلك في شهادتهم بخلاف أهل الملل فاليهود يعادون النصارى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه غير محقين قال الله تعالى وقالت اليهود ليست النصارى على شئ وقالت النصارى ليست اليهود على شئ وقال الشافعي رحمه الله الكافر الفاسق ولاتقبل شهادته كالفاسق المسلم وبيان فسقه قوله تعالى أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا وقال الله تعالى والكافرون هم الفاسقون والفسق عبارة عن الخروج يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها وسميت الفأرة فوسيقة لخروجها من جحرها وسمى المسلم بذلك لخروجه عن حد الدين تعاطيا والكافر لخروجه عن حد الدين اعتقادا فإذا ثبت أنه فاسق وجب التوقف في خبره بالنص والشرط في الشاهد بالنص أن يكون مرضيا قال الله تعالى ممن ترضون من الشهداء والكافر لا يكون مرضيا والدليل عليه ان شهادته على المسلمين لا تقبل وكل من لا يكون من أهل الشهادة على المسلمين لا يكون من أهل الشهادة على أحد كالعبيد والصبيان بل أولى فالعبد المسلم أحسن حالا من الكافر (ألا ترى) ان خبره في الديانات يقبل ولا يقبل خبر الكافر ولان الرق من آثار الكفر فإذا كان أثر الكفر يخرجه من الاهلية للشهادة فاصل الكفر أولى وقاس بالمرتد واستدل ببطلان شهادته على قضاء قاض المسلمين وعلى شهادة المسلم فلو كان من أهل الشهادة لقبلت شهادته في هذا إذا كان الخصم كافرا * وحجتنا في ذلك قوله تعالى أو آخر ان من غيركم أي من غير دينكم وهو بناء على قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم إلى قوله أو آخر ان من غيركم ففيه تنصيص على جواز شهادتهم على وصية المسلم ومن ضرورة جواز شهادتهم على وصية المسلم جوازها على وصية الكافر وما يثبت بضرورة النص فهو كالمنصوص ثم انتسخ في لك في حق المسلم بانتساخ حكم ولايتهم على المسلمين فبقى حكم الشهادة فيهما بينهم على ما ثبت بضرورة النص فليس من ضرورة

[ 135 ] انتساخ شهادتهم على المسلمين انتساخ شهادة بعضهم على بعض كالولاية ورجم رسول الله ﷺ يهودين دينا بشهادة أربعة منهم وعن أبى موسى رضى الله عنه ان النبي ﷺ أجاز شهادة النصارى بعضهم على بعض وعن عمر وعلي رضى الله عنهما في ذميين دينا قالا يدفعان إلى أهل دينهما ليحكم بينهما ومن ضرورة جواز حكم بعضهم على بعض والسلف رحمهم الله كانوا مجمعين على هذا حتى قال يحيى بن اكثم رحمه الله تتبعت أقاويل السلف فلم أجد أحدا منهم لم يجوز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض الا أنى رأيت لربيعة فيه قولين والمعنى فيه أن الكافر من أهل الولاية فيكون من أهل الشهادة كالمسلم وبيان الوصف في قوله تعالى والذين كفروا بعضهم أولياء بعض والمراد منه الولاية دون الموالاة فانه معطوف على قوله تعالى مالكم من ولايتهم من شئ والدليل عليه أنها تصح الانكحة فيما بينهم ولانكاح الا بولي والمسلم إذا خطب إلى كتابي أبنته الصغيرة فزوجها منه جاز النكاح ولان الكافر من أهل الولاية على نفسه وماله على الاطلاق فيكون من أهل الولاية على غيره عند وجود شرط تعدى ولايته إلى الغير والشهادة نوع ولاية فإذا ثبتت الاهلية للولاية تثبتت الاهلية للشهادة ثم المقبول يترجح جانب الصدق وذلك في انزجاره عما يعتقده حراما في دينه والكافر منزجر عن ذلك فتقبل شهادته واسم العدالة والرضاء ثبت في حق الكافر في المعملات بصفة الامانة فقد وصفه الله تعالى بذلك في قوله عزوجل ومن أهل الكتاب من أن تأمنه بقنطار ولايقال انهم أظهروا الكفر عنادا كما قال الله تعالى وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا لان هذا كان في الاحبار الذين كانوا على عهد رسول الله ﷺ حتى تواطئوا على كتمان بعث رسول الله ﷺ ونبوته فلا شهادة لاؤلئك عندنا فاما من سواهم يعتقدون الكفر لان عندهم أن الحق ماهم عليه قال الله تعالى ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب الا أمانى وقال عزوجل وان فريقا منهم ليكتمون الحق وبهذا التحقيق يتبين أن فسقهم فسق اعتقاد وقد بينا أن هذا لا يمكن تهمة الكذب في الشهادة وانما لاتقبل شهادتهم على المسلمين لانقطاع ولايتهم عن المسلمين وانما لاتقبل شهادة العبد والصبي لانعدام الاهلية والولاية وبه يتبين أن أثر الرق فوق تأثير الكفر في حكم الولاية ثم هم يعادون المسلمين بسبب باطل فيحملهم ذلك على التقوى على المسلمين فلهذا لاتقبل شهادتهم على المسلمين وأما المرتد فلا ولاية له على أحد ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول في قبول شهادة بعضهم على البعض ضرورة ولان

[ 136 ] المسلمين قل ما يحضرون معاملات أهل الذمة خصوصا الانكحة والوصايا فلو لم تجز شهادة بعضهم على البعض في ذلك أدى إلى ابطال حقوقهم وقد أمرنا بمراعات حقوقهم ودفع ظلم بعضهم عن بعض فلهذا الضرورة قبلنا شهادة بعضهم على بعض كما قبلنا شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال ولا تتحقق هذه الضرورة في شهادتهم على المسلمين ولا في شهادتهم على شهادة المسلم أو على قضاء قاض مسلم وهذا على أصل مالك رحمه الله أظهر فانه يجوز شهادة الصبيان في الجراحات وتمزيق الثياب التى بينهم في الملاعب فقل أن يتفرقوا (قال) لان العدول لا يحضرون ذلك الموضع وبعد التفرق لاتقبل لان الظاهر انهم يلقنون الكذب وقد أمرنا أن لا نمكنهم من الاجتماع للعب فيحصل المقصود بالزجر عن ذلك فلا حاجة إلى قبول شهادة الصبيان في ذلك وكذلك جراحات النساء في الحمامات لانا أمرنا بمنعهن من الاجتماع لما في اجتماع النساء من الفتنة وكذلك الفسقة من أصحاب السجون لانهم حبسوا باسباب منع الشرع من ذلك فيحصل المقصود بالمنع فاما هنا فقد أمرنا بمراعاة حقوق أهل الذمة وان نجعل دماءهم كدمائنا وأموالهم كاموالنا مع ان أصاحب السجون لا يخلون عن أمناء السلطان عادة وبناء الاحكام معلى عرف الشريعة دون عادة الظلمة ولا حجة لابن أبى ليلى رحمه الله في الحديث لان عندنا الكفر كله ملة واحدة قال الله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم وقال الله تعالى لكم دينكم ولى دين فعابد الحجر وعابد الوثن أهل ملة واحدة وان اختلفت نحلهم كالمسلمين هم أهل ملة واحدة وان اختلفت مذاهبم ثم اليهود يعادون النصارى بسبب هم فيه محقون وهو دعواهم الولد لله تعالى والنصارى يعادون اليهود بسبب هم فيه محقون وهو انكارهم نبوة عيسى عليه السلام والفريقان يعادون المجوس بسبب هم فيه محقون وهو انكارهم التوحيد ظاهرا ودعواهم الاثنين فشهادة بعضهم على البعض كشهادة المسلمين على الكفار ولان كان بعضهم يعادى البعض بسبب باطل فلم يصر بعضهم مقهور بعض ليحملهم ذلك على التقول بخلاف الكفار فقد صاروا مقهورين من جهة المسلمين وذلك يحملهم على التقول عليهم فلهذا لاتقبل شهادتهم على المسلمين فاما شهادة العبيد فقد بينا الاجماع فيها بين الفقهاء رحمهم الله وأما شهادة المكاتب والمدبر وأم الولد لقيام الرق فيهم ومعتق البعض كذلك عند أبى حنيفة رحمه الله لانه بمنزلة المكاتب ولايجوز شهادة المولى لاحد من هؤلاء لان شهادته لملكه كشهادته لنفسه باعتبار قيام الملك والحق له في المشهود به وكذلك شهادة أبى المولى وابنه وامرأته لهؤلاء بمنزلة شهادته

[ 137 ] للمولى وكذلك شهادة الزوج لامرأته الامة وشهادة المرأة لزوجها المملوك لان وصلة الزوجة كوصلة الولاد في المنع من قبول الشهادة وإذا شهد المكاتب أو العبد أو الصبى عند القاضى بشهادة فردها ثم شهد بها بعد العتق والكبر جازت شهادته لان المردود لم يكن شهادة فالشهادة لاتتحقق الا ممن هو أهل بخلاف الفاسق إذا شهد في حادثة فردت شهادته ثم أعادها بعد التوبة فانها لاتقبل لان المردود كان شهادة والفسق لا يخرجه من أن يكن أهلا للولاية فلا يخرجه من أن يكون أهلا للشهادة وانما لاتقبل شهادته لتهمة الكذب فإذا كان المردود شهادة فهى شهادة حكم الحاكم ببطلانها بدليل شرعي فليس له أن يصحها بعد ذلك وبعضهم يشير إلى فرق آخر فيقول لعل الفاسق قصد بالتوبة ترويج شهادته فلا يوجد ذلك في الرقيق والصغير فانه ليس إليه ازالة الرق والصغر ولكن هذا ليس بقوي فالكافر إذا شهد على مسلم فردت شهادته ثم أعاها بعد الاسلام تقبل وهذا المعنى موجود فيه فعرفنا أن الاعتماد على كون المؤدى شهادة كما قررنا وإذا تحمل المملوك شهادة لمولاه فلم يؤدها حتى عتق ثم شهد بها جاز لان التحمل بالمعاينة والسماع والرق لا ينافي ذلك وعند الاداء هو أهل لشهادته ولاتهمة في شهادته فهو نظير الصبي إذا تحمل وشهد بعد البلوغ وكذلك الزوج إذا أبان امرأته ثم أدى الشهادة لها جازت شهادته لان التحمل كان صحيحا مع قيام الزوجية وعند الاداء ليس بينهما سبب التهمة ولو شهد الحر لامرأته بشهادة فردها القاضى ثم أبانها ونكحت غيره ثم شهد لها تلك الشهادة لم يجز لان المردود شهادة فالزوج أهل الشهادة في حق زوجته وكذلك لو شهدت المرأة لزوجها ولو شهد العبد لمولاه فرده القاضى ثم شهد له بها بعد العتق جازت شهادته لان المردود لم يكن شهادة فالعبد ليس بأهل للشهادة في حق أحد وإذا شهد المولى لعبده بنكاح فردت شهادته ثم شهد له بها بعد العتق لم يجز لان المردود كان شهادة فالمولى من أهل الشهادة ولو شهد كافر على مسلم فردها القاضى بها ثم أسلم فشهد بها جازت شهادته لان المردود لم يكن شهادة بخلاف مااذا شهد كافر لكافر فردها القاضى لتهمة ثم أدعاها بعد ما أسلم لان هناك المردود شهادة وانما ردها لتهمة الكذب فبعد ما ترجح جانب الكذب في تلك الشهادة بحكم الحاكم لا يجوز العمل بها قط كما في شهادة الفاسق من المسلمين والله أعلم بالصواب (الشهادة على الشهادة) (قال رحمه الله ولايجوز على شهادة رجل أو امرأة أقل من شهادة رجلين أو رجل

[ 138 ] وامرأتين عندنا وقال مالك رحمه الله تجوز شهادة الواحد على شهادة الواحد) لان الفرع قائم مقام الاصلى معبر عنه بمنزلة رسول في اتصال شهادته إلى مجلس القاضى وكأنه حضر وشهد بنفسه واعتبر هذا برواية الاخبار فان رواية الواحد على الواحد مقبولة ومذهبنا مروى عن علي رضى الله عنه والمعنى فيه أن شهادة الاصلى غابت عن مجلس القاضى فلا يثبت عنده الا بشهادة شاهدين كاقرار المقر وهذا لانها شهادة ملزمة فيما يجب على القاضى القضاء بشهادة الاصول والعدد شرط في هذه الشهادة إذا كان متمكنا بخلاف رواية الاخبار وان شهد رجلان على شهادة رجلين جاز عندنا وقال الشافعي رحمه الله لا يجوز الا أن يشهد رجلان على شهادة كل واحد منهما لان الفرعين يقوما مقام أصل واحد فلا تتم حجة القضاء بهما كالمرأتين لما قامتا مقام رجل واحد لم تتم حجة القضاء بشهادتهما والدليل عليه أن أحد الفرعين لو كان أصليا فشهد على شهادة نفسه وعلى شهادة صاحبه مع غيره لا تتم الحجة بالاتفاق فكذلك إذا شهدا جميعا على شهادة الاصلين * وحجتنا في ذلك انهما يشهدان جميعا على شهادة كل واحد منهما وكما يثبت قول الواحد في مجلس القاضى بشهادة شاهدين يثبت قول الجماعة كالاقرار وهذا لان الفرعين عدد تام لنصاب الشهادة وهما يشهدان على شهادة الاصول الا على أصل الحق فإذا شهدا على شهادة أحدهما تثبت شهادته في مجلس القضاء كما لو حضر فشهد بنفسه ثم إذا شهد على شهادة الاخر تثبت شهادته أيضا في مجلس القضاء إذا لافرق بين شهادتهما على شهادته وبين شهادة رجلين آخرين بذلك بخلاف شهادة المرأتين فذاك ليس بنصاب تام للشهادة ولكن كل امرأة بمنزلة شطر العلة والمرأتان شاهد واحد وبالشاهد الواحد لايتم نصاب الشهاهدة وليس هذا كما لو شهد أحدهما على شهادة نفسه لان الشاهد على شهادة نفسه لا يصلح أن يكون شاهد الفرع في تلك الحادثة لمعنين أحدهما أنه عنده علم المعاينة في هذه الحادثة فلا يستفيد شيئا باشهاد الاخر اياه على شهادته في الثاني أن شهادة الفرع في حكم البدل ولهذا لابصار إليه الا عند العجز عن حضور الاصل بموته أو مرضه أو غيبته والشخص الواحد في الشهادة لا يكون أصلا وبدلا في حادثة واحدة * توضيحه أن شاهدة الاصلى تثبت نصف الحق فلو جوزنا مع ذلك شهادته وشهادة الاخر لكان فيه اثبات ثلاثة ارباع الحق بشهادة الواحد وذلك لا يجوز فاما إذا شهدا جميعا على شهادة الاصلين فلا يثبت في الحاصل بشهادة كل واحد منهما الا نصف الحق وذلك جائز والشهادة على الشهادة في كتب

[ 139 ] القضاة جائزة لان ذلك يثبت مع الشبهات وتقبل فيه شهادة النساء مع الرجال فكذلك الشهادة على الشهادة وان شهد شاهدان على شهادة شاهدين أن قاضى كذا ضرب فلانا حدا في قذف فهو جائز لان المشهود به فعل القاضى لانفس الحد وفعل القاضى مما يثبت مع الشبهات وانما الذي يندرئ بالشبهات الاسباب الموجبة للعقوبة واقامة القاضى حد القذف ليست بسبب موجب للعقوبة فان (قيل) أليس أن اقامة الحد مسقطة لشهادته عندكم بطريق العقوبة (قلنا) ولكن رد شهادته من تمام حده فيكون سببه هو السبب الموجب للحد وهو القذف الا أنه يترتب عليه ليكون متمما له فلا يظهر قبله فاما في الحقيقة القذف مع العجز عن أربعة من الشهداء يوجب جلدا مؤلما ويبطل شهادته بناء عليه وإذا شهد شاهدان على شهادة شاهد وقد خرس المشهود على شهادته أو عمى أو ارتد أو فسق أو ذهب عقله لم تجز الشهادة على شهادته وان كان الفرعيان عدلين لان القضاء انما يكون بشهادة الاصول فاما الفرعي ينقل إلى مجلس القاضى بعبارته شهادة الاصول فكأن الاصلى حضر بنفسه وشهد ثم ابتلى بشئ من ذلك قبل قضاء القاضى فكما لا يجوز للقاضى أن يقضى بشهادته هناك لانه لو قضى بها كان قضاء بغير حجة فكذلك هنا وشهادة أهل الذمة على المستأمنين جائزة بخلاف شهادة المستأمنين على أهل الذمة لان الذمي من أهل دارنا حتى لا يتمكن من الرجوع إلى دار الحرب بخلاف المستأمن فشهادة الذمي على المستأمن كشهادة المسلم على الذمي وشهادة المستأمن على الذمي كشهادة الذمي على المسلم وشهادة المستأمنين بعضهم على بعض تقبل إذا كانوا من أهل دار واحدة وان كانوا من أهل دارين كالرومي والتركى لاتقبل لان الولاية فيما بينهم تنقطع بخلاف المنعتين ولهذا لا يجرى التوارث بينهم بخلاف دار الاسلام فانها دار حكم فيه اختلاف المنعة لا يختلف بالدار فاما دار الحرب ليس بدار أحكام فيه اختلاف المنعت تختلف بالدار وهذا بخلاف أهل الذمة فانهم صاروا من أهل دارنا فتقبل شهادة بعضهم على بعض وان كانوا من منعاة مختلفة فاما المستأمون ما صاروا من أهل دارنا ولهذا يمكنون من الرجوع إلى دار الحرب ولا يمكنون من اطالة المقام في دار الاسلام (قال) ومن ترك من المسلمين الصلوات في الجماعة والجمع مجانة لم تقبل شهادته لانه مرتكب لما يفسق به ولان الجماعة من أعلام الدين فتركها ضلالة (ألا ترى) أن عمر رضى الله عنه قال يوما لاصحابه قد خرج من بيننا من كان ينزل عليه الوحي وخلف فيما بيننا علامة يميز بها المخلص من المنافق وهى الجماعة فكل من لقيناه في

[ 140 ] جماعة المسلمين شهدنا بايمانه ومن لقيناه يتخلف عن الجماعة شهدنا بانه منافق وان كان ترك ذلك سهوا وهى لا تتم شهادته أجزت شهادته لان ترك الجماعة سهو لا يوجب فسقه لان الساهي معذور في بعض الفرائض دونه أولى وإذا شهد كافران على شهادة مسلمين لكافر على كافر بحق أو على قضاء قاضى المسلمين على كافر لمسلم أو كافر لم تجز شهادتهما لان المشهود به فعل المسلم ولا حاجة إلى فعل بيان المسلم بشهادة الكافر لان فعل المسلم يتيسر اثباته بشهادة المسلمين وشهادة العبد والامة في هلال رمضان جائزة عندنا خلافا للشافعي رحمه الله * وحجتنا فيه حديث الاعرابي عن رسول الله ﷺ فما اعتبر في ذلك الا الايمان حيث قال أتشهد لا اله الا الله الحديث وقد بينا في كتاب الصوم الفرق بين هذا وبين الشهادة على هلال الفطر والاضحى وان الشهادة على هلال رمضان ليست بالزام للغير ابتداء بل هو التزام والتزام المسلم الصوم في رمضان بايمانه فبهذه الشهادة تبين الوقت ولايكون الالتزام فيها ابتداء ولو شهد مسلمان على شهادة كافر جازت الشهادة لانه إذا كانت يثبت بشهادة المسلمين شهادة المسلم فلان يثبت بشهادتهما شهادة الكافر وهى دون شهادة المسلم أولى وان كان كافرا في يده أمة اشتراها من مسلم فشهد عليه كافران أنها لكافر أو مسلم لم تجز شهادتهما وكذلك لو كانت في يده بهيمة من مسلم أو صدقة وهذا في قول أبى حنيفة ومحمد وهو قول أبى يوسف الاول رحمهم الله ثم رجع فقال أقضى بها على الكافر خاصة ولا أقضي بها على غيره وهو قول ابن أبى ليلى رحمه الله لان الملك في هذا للكافر في الحال وشهادة الكافر حجة في استحقاق الملك عليه وليس من الضرورة استحقاق الملك عليه الاستحقاق على البائع أو بطلان البيع كما لو أقر المشترى بها لانسان فان الملك يستحق عليه باقراره ولا يبطل به البيع ولافرق بينهما فان القضاء بحسب الحجة والاقرار حجة على المقر دون غيره فكذلك شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم ولابي حنيفة ومحمد رحمهم الله طريقان أحدهما ان الملك بحجة البينة يستحق من الاصل فلهذا يستحق بزوائده ويرجع الباعة بعضهم على بعض باليمين وإذا كان أصل الملك للمسلم فهذه الشهادة انما تقوم على استحقاق الملك على المسلم وشهادة الكافر ليست بحجة في ذلك كما قيل التمليك من غيره وهذا لان القاضى لا يتمكن من القضاء بملك حادث بعد شراء الكافر لانه لابد للملك الحادث من سبب حادث ولم يثبث عنده ولا يتمكن من القضاء بالملك من الاصل لان هذه الشهادة ليست بحجة فيه بخلاف الاقرار فان

[ 141 ] الاقرار يجعل في الحكم بمنزلة ايجاب الملك للمقر له ابتداء ولهذا لا تستحق به الزوائد المنفصلة فيتمكن القاضي من القضاء بملك حادث بعد الشراء والثاني ان هذه البينة تقوم على ابطال تصرف المسلم من البيع والهبة (ألا ترى) أن الشهود لو كانوا مسلمين بطل بها تصرف البائع والواهب وشهادة الكفار على ابطال تصرف المسلم لاتقبل بخلاف الاقرار فانه لا يتضمن ابطال تصرف المالك ولكن المقر يصير مبلغا باقراره واتلافه لا يتضمن انتقاض قبضه وبطلان تصرف البائع فأما هنا بهذه البينة تصير يد الكافر مستحقة من الاصل بهذا الاستحقاق يفوت قبضه ضرورة وفوات القبض المستحق بالعقد يبطل التصرف ولو مات كافرا وترك اثنين وألفى درهم فاقتسماها ثم أسلم أحدهما فشهد كافران على أبيهما بدين أخرت ذلك في حصة الكافر خاصة لان شهادة الكافر حجة على الكافر دون المسلم وبثبوت الدين على الميت يستحق تركته وتركته مال الاثنين في الحال فيثبت الدين بهذه الحجة في استحقاق نصيب الكافر من التركة دون نصيب المسلم كما لو أقر أحد الاثنين بالدين على الاب وجحد الآخر ولو مات كافر فادعى مسلم وكافر دينا عليه وأقام كل واحد منهما بينة من أهل الكفر أخذت ببينة المسلم وأعطيته حقه فان بقى شئ كان للكافر وروي الحسن بن زياد عن أبى يوسف رحمهما الله ان التركة تقسم بينهما على مقدار دينهما لان كل واحد منهما يثبت ببينته دينه على الميت فان أقام كل واحد منهما حجة على الميت فكان الدينين يثبت باقرار الميت بخلاف ما تقدم فان الوارث مستحق عليه باعتبار الحال فاما كل واحد من الفرعين لا يستحق على صاحبه شيئا وانما يستحق كل واحد منهما على الميت وعلى ورثته ووجه ظاهر الرواية ان دين المسلم ثبت في حق الميت وفي حق غريم الكافر ودين الكافر ثبت في حق الميت ولم يثبت في حق الغريم المسلم لان بينته ليست بحجة في حقه والمزاحمة بينهما لا تكون الا عند المساواة ولا مساواة بينهما إذا كان دين أحدهما ثابتا في حق الآخر ودين الآخر ليس بثابت في حقه فهو بمنزلة الدين المقر به في الصحة مع الدين المقر به في المرض تقدم دين الصحة فان فضل شئ فهو للمقر له في المرض فهذا مثله ولو مات الكافر فأوصى إلى رجل مسلم فادعى رجل على الميت دينا وأقام شهودا من أهل الكفر جازت شهادتهم استحسانا وفي القياس لاتقبل لانها لا تقوم على المسلم في الزام قضاء الدين فالوصى يلزمه قضاء الدين والتركة في يده في الحال فبهذه البينة تستحق عليه يده وشهادة الكفار في ذلك ليست بحجة كما لو كان الوارث مسلما * ووجه

[ 142 ] الاستحسان ان الثابت بهذه الشهادة تصرف وليه الكافر وشهادة الكفار حجة في ذلك والوصى نائب عنه بعد موته فيكون بمنزلة الوكيل في حياته ولو وكل كافر مسلما بخصومة فشهد عليه كافر ان بالدين قبلت البينة * يوضحه ان قضاء الدين من حق الميت وهو انما نصب الصبى ليتدارك به ما فرط في حياته وانما يتم له هذا المقصود إذا اعتبرنا حاله فيما يقام عليه من الحجة لاحال الوصي فكذلك تجوز شهادة الكافر على المكاتب الكافر والعبد المأذون الكافر وان كان مولاه مسلما يتصرفان لانفسهما ولهذا لا يرجعان بعهدة التصرف على أحد فالاستحقاق بهذه الشهادة يقتصر عليهما ثم المولى بالاذن وايجاب الكتابة فقد صار راضيا بالاستحقاق عليهما بشهادة الكفار لما باشر العقد مع علمه بحالهما كما صار راضيا باستحقاق الكسب باقرارهما ولو كان العبد المأذون له مسلما ومولاه كافرا لم تجز شهادة الكفار على العبد لانه يقوم الاستحقاق على المسلم ولو وكل كافرا مسلما بشراء أو بيع لم يجز على الوكيل في ذلك شهادة الكفار لان الوكيل بالشراء والبيع في حقوق العقد كالعاقد لنفسه فانما تقوم هذه البينة على المسلم ولو وكل مسلم كافرا بذلك جازت شهادة الكفار على الوكيل لانه بمنزلة العاقد بنفسه ثم ايجابه العقد كلامه فيثبت بهذه الشهادة كاقراره ولو شهد على اقراره بذلك قبلت الشهادة وجعلت بمنزلة مالو ثبت اقراره بالمعاينة فكذلك إذا شهد على العقد والله أعلم بالصواب (باب شهادة النساء) (قال رحمه الله ولا تجوز شهادة النساء وحدهن الا فيما ينظر إليه الرجال الولادة والعيب يكون في موضع لا ينظر إليه الا النساء) لان الاصل أن لا شهادة له للنساء فانهن ناقصات العقل والدين كما وصفهن رسول الله ﷺ وبالنقصان يثبت شبهة العدم ثم الضلال والنسيان غلب عليهن وسرعة الانخداع والميل إلى الهوى ظاهر فيهن وذلك يمكن تهمة في الشهادة وهى تهمة يمكن التحرز عنها بجنس الشهود فلا تكون شهادتهن على الانفراد حجة تامة لذلك ولكنا تركنا القياس فيما لا يطلع عليه الرجال بالاثر وهو حديث مجاهد وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وعطاء بن أبى رباح وطاوس رضى الله عنهم قالوا قال يارسول الله ﷺ شهادة النساء جائزة فيما لايستطيع الرجال النظر إليه ولان الضرورة تتحقق

[ 143 ] في هذا الموضع فانه يتعلق به أحكام يحتاج إلى بيانه في مجلس القاضى ويتعذر اثباته بشهادة الرجال لانهم لا يطلعون عليه فلابد من قبول شهادة النساء فيه لان الحجة لاثبات الحقوق مشروعة بحسب الامكان ثم يثبت ذلك بشهادة امرأة واحدة إذا كانت حرة مسلمة عدلا عندنا والمثنى والثلاث أحوط وعند الشافعي لا تثبت الا بشهادة أربع نسوة وعند ابن أبى ليلى شهادة امرأتين فالشافعي يقول كل امرأتين يقومان مقام رجل واحد في الشهادة كما في المذكورات فشهادة أربع نسوة بمنزلة شهادة رجلين فيما يطلع عليه الرجال * توضيحه أن حال الرجال في الشهادة أقوى من حال النساء وإذا كان لا يحوز اثبات شئ مما يطلع عليه الرجال بشهادة رجل واحد لمعنى الالزام فلان لا يجوز اثباته بشهادة امرأة واحدة أولى ولا معنى لقول من يقول أن هذا خبر وليس بشهادة فان الحرية فيه شرط بالاتفاق قال في الكتاب لو شهدت أمة أو كافرة لاتقبل وكذلك لفظ الشهادة لابد منه فعرفنا أنه بمنزلة الشهادة في الحقوق وبهذا يستدل ابن أبى ليلى رحمه الله أيضا الا أنه يقول المعتبر في الشهادات شيئان العدد والذكورة وقد تعذر اعتبار أحدهما وهو الذكورة هنا ولو لم يتعذر اعتبار العدد فيبقى معتبرا كما في سائر الشهادات ولا معنى لقول من يقول ان نظر الواحدة أحق من نظر المثنى لانه بالاتفاق المثنى والثلاث أحوط فلو كان هذا معتبرا لما جاز النظر الا لامرأة واحدة * وحجتنا في ذلك حديث حذيفة رضى الله عنه أن رسول الله ﷺ أجاز شهادة القابلة على الولادة وقال شهادة النساء جائزة فيما لا يطلع عليه الرجال والنساء اسم جنس فيدخل فيه أدنى ما يتناوله الاسم والمعنى فيه أن هذه خبر لا يشترط في قبوله الذكورة ولا يشترط فيه العدد كرواية الاخبار وحقيقة المعنى فيه أن نظر الرجال إلى هذا الموضع غير متعذر ولا ممتنع ولكن نظر الجنس إلى الجنس أحق فإذا أمكن تحصيل المقصود بشهادة النساء سقط اعتبار صفة الذكورية لهذا المعنى وهذا موجود في العدد فان نظر الواحدة أحق من نظر الجماعة فسقط اعتبار العدد بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة ولهذا لا يسقط اعتبار الحرية فيه لان نظر المملوكة ليس بأخف من نظر الحرة ولهذا لا يسقط اعتبار الاسلام فيه لان نظر الكافرة ليس بأخف من نظر المسلمة فينعدم من الشرائط ما يمكن اعتباره ولا يعتبر مالا يمكن اعتباره فعلى هذا الحرف نسلم أنه شهادة ولكن يدعي أن سقط اعتبار العدد فيه بالمعنى الذي يسقط اعتبار الذكورة وفى الحاصل هذا أحد شبهها من الاصلين من الشهادة لمعنى الالزام ومعنى الاخبار لان صفة الذكورة

[ 144 ] فيه لا تشترط فوفرنا خطه على الشبهين وقلنا لشبهه بالاخبار يسقط اعتبار العدد فيه شرطا ويبقى معتبرا احتياطا كما في رواية الاخبار الواحد يكفى والمثنى والثلاث أحوط لزيادة طمأنية القلب ولاعتباره بالشهادات فيه شرطنا الحرية والاسلام ولفظ الشهادة وهذا لانه مختص بمجلس القاضى فلهذا يشترط فيه لفظ الشهادة ولم يذكر في الكتاب أنه لو شهد ذلك رجل بأن قال فأجأتها فاتفق نظرى إليها والجواب أنه لايمنع قبول الشهادة إذا كان عدلا في هذا الموضع ثم الصحيح أنه لا يشترط العدد لان شهادة الرجل أقوى من شهادة المرأة فإذا كان ثبت المشهود به هنا بشهادة امرأة واحدة فشهادة رجل واحد أولى وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله أنه قال وان قال تعمدت النظر تقبل شهادته في ذلك كما في الزنا واستدلوا عليه بقول أبى حنيفة رحمه الله أن النسب لا يثبت الا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة ان لم يكن هناك حبل ظاهر ولافراش قائم ولا اقرار الزوج بالحبل وقد بينا هذا في كتاب الطلاق فاما الاستهلاك فانى لاأقبل فيه شهادة النساء عليه الا في الصلاة عليه فأما في الميراث فلا أقبل في ذلك أقل من رجلين أو رجل وامرأتين في قول أبى حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهم الله تقبل في ذلك شهادة امرأة واحدة حرة مسلمة عدل لحديث علي رضى الله عنه انه أجاز شهادة القابلة في الاستهلال والمعنى فيه ان استهلال الصبي يكون عند الولادة وتلك حالة لا يطلع عليها الرجال وفي صوته عند ذلك من الضعف مالا يسمعه الا من شهد تلك الحالة وشهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجل كشهادة الرجال فيما يطلعون عليه ولهذا يصلى عليه بشهادة النساء فكذلك يرث وأبو حنيفة رحمه الله يقول الاستهلال صوت مسموع وفي السماع من جال يشار كون النساء فإذا كان المشهود به مما يطلع عليه الرجال لا تكون شهادة النساء فيه حجة تامة وان وقع ذلك في حالة لا يحضرها الرجال كالشهادات على جراحات النساء في الحمامات بخلاف الولادة فهو انفصال الولد من الام والرجال لا يشاركون النساء في الاطلاع عليه وحديث علي رضى الله عنه محمول على قبول شهادة النساء في الصلاة وانما قبلنا ذلك في حق الصلاة عليه لان ذلك من أمر الدين وخبر المرأة الواحدة حجة تامة في ذلك كشهادتهما على رؤية هلال رمضان بخلاف الميراث فانه من حقوق العباد فلا يثبت بشهادة النساء في موضع يكون المشهود به مما يطلع عليه الرجال والله أعلم

[ 145 ] (باب شهادة الزور وغيرها) (قال رحمه الله ذكر عن شريح رحمه الله انه كان إذا أخذ شاهد الزور بعث به إلى أهل سوقه ان كان سوقيا والى قومه ان كان غير سوقى بعد العصر أجمع ما كانوا فيقول ان شريحا رحمه الله يقرئكم السلام ويقول انا وجدنا هذا شاهد زور فاحذروه وحذروه الناس) وبهذا أخذ أبو حنيفة رحمه الله فقال القاضى يكتفى في شهادة الزور بالتشهير ولا يعزره وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله يعاقبه بالتعزير والحبس على قدر ما يرى حتى يظهر توبته ولا يبلغ بالتعزيرات سبعين سوطا وقال أبو يوسف بعد ذلك يبلغ بالتعزير خمسة وسبعين سوطا وقد بينا الكلام في مقدار التعزير في كتاب الحدود فأما الكلام في التعزير في حق شاهد الزور فهما استدلا بحديث عمر رضى الله عنه حيث قال في شاهد الزور يضرب أربعين سوطا ويسخم وجهه ويطاف به الا ان الدليل قد قام على انتساخ حكم التسخيم للوجه فان ذلك مثلة ونهى رسول الله ﷺ عن المثلة ولو بالكلب العقور فبقى حكم التعزير والتشهير بأن يطاف به ثم التشهير لاعلام الناس حتى لا يعتمد واشهاده بعد ذلك والتعزير لارتكابه كبيرة فشهادة الزور من أعظم الكبائر فانها عدلت بالشرك بالله تعالى قال الله تعالى فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور وفيه إشارة إلى عظم حرمة المسلم فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بالزور كالشهادة على نفسه بالزور وإذا ثبت أنه مرتكب للكبيرة قلنا يعذر على ذلك وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بقول شريح رحمه الله فانه كان قاضيا في زمن عمر وعلي رضى الله عنهما فما يشتهر من قضاياه كالمروي عنهما ثم التشهير لمعنى النظر للمسلمين وذلك من حقهم فأما التعزير لحق الله تعالى وذلك يسقط بالتوبة وشاهد الزور من يقر على نفسه بذلك واقراره على نفسه بذلك دليل توبته فلهذا لا يعزر ويكتفى بالتشهير ثم في التشهير نوع تعزير وهو تعزير لائق بجريمته لان بالشهادة لا يحصل له سوى ماء الوجه وبالتشهير يذهب ماء وجهه عند الناس فكان هذا تعزيرا لائقا بجريمته فيكتفى به وما نقل عن عمر رضى الله عنه محمول على معنى السياسة إذا علم الامام انه لا ينزجر الا به (ألا ترى) انه ذكر تسخيم الوجه وذلك بالاتفاق بطريق السياسة إذا علم المصلحة فيه فكذلك التقرير (قال) وشاهد الزور عندنا المقر على نفسه بذلك لانه لا تتمكن تهمة الكذب في اقراره على نفسه فلا طريق إلى اثبات ذلك بالبينة عليه لانه نفس لشهادته والبينة حجة للاثبات دون النفى وكذلك من ردت شهادته

[ 146 ] لتهمة أو للدفع عن نفسه أو بالاختلاف في الشهادة أو بتكذيب الذي شهد له فانه لا يكون شاهدا لزور فيما ذكرنا من الحكم لانى لاأدرى أيهما الصادق المشهود له أو الشاهد فلعل المشهود له أراد بالشاهد العقوبة والتهمة فقصر في دعواه عما شهد به شاهده وكذلك من ردت شهادته للتهمة فلعله صادق في شهادته وإذا اختلف الشاهد ان في الشاهدة فلا يعرف الكاذب منهما فلهذا لا يعزر واحد من هؤلاء والرجال والنساء وأهل الذمة في شهادة الزور سواء لقيام الاهلية في حقهم جميعا فيما تعلق بشهادة الزور وإذا شهد أحد الشاهدين على قتل أو جراحة عمدا أو خطا وشهد الاخر على الاقرار بذلك لم تجز شهادتهما لاختلاف المشهود به فأحدهما يشهد بفعل معاين والاخر يقول مسموع والقول غير الفعل وكذلك لو اختلفا في الوقت أو في المكان الذي كان به القتل فأما في البيع اختلاف الشهود في المكان والزمان والانشاء والاقرار لايمنع قبول الشهادة الا على قول زفر رحمه الله فانه يقول لاتقبل لاختلافهما في المشهود به فالموجود في مكان غير الموجود في مكان آخر كالافعال ولكنا نقول القول يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الاول في الحكم فبهذا الاختلاف لا يتحقق بينهما اختلاف في المشهود به وكذلك صيغة الاقرار والانشاء في البيع واحدة بخلاف الافعال فانها لا تحتمل التكرار ولو شهد أحدهما في قرض مائة درهم وشهد الاخر على الاقرار بذلك جاز كما في البيع لان البيع والقرض كلام كله وقال بعضهم هنا الجواب في القرض غلط فان الاقراض فعل فانه لا يتحقق الا بتسليم المال والقبض بحكم القبض موجب ضمان المثل كالغصب وكما ان اختلاف الشهود في الغصب في الاقرار والانشاء يمنع قبول الشهادة فكذلك في القرض ولكن ما ذكره في الكتاب أصح لان حكم القرض انما يثبت بقوله أقرضتك لا بتسليم المال إليه فان تسليم المال إليه بدون هذا القول يكون ايداعا وقوله أقرضتك صيغة الاقرار والانشاء فيه واحد كما في البيع ولو شهد أحدهما على مائة والاخر على خمسين لم تقبل هذه الشهادة في قول أبى حنيفة رحمه الله لاختلاف الشاهدين في المشهود به لفظا وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تقبل على الاقل إذا كان المدعي يدعى الاكثر حتى لا يصير مكذبا أحد شاهديه وقد بينا في كتاب الطلاق في التطليقة والتطليقتين ولايجوز شهادة دافع عن نفسه مغرما أو جار إليها مغنما لانه متهم في شهادته وقال ﷺ لا شهادة لمتهم ولانه في معنى الشاهد لنفسه وشهادة المرء لنفسه دعوى ولا تجوز شهادة المفاوض لشريكه في شئ ماخلا

[ 147 ] الحدود والقصاص والنكاح فذك ليس من شركة ما بينهما فنزل كل واحد منهما في المشهود به من صاحبه منزلة الاجنبي وأما في الاموال هما بعقد المفاوضة صار في ذلك كشخص واحد فكل واحد منهما فيما يشهد به لصاحبه بمنزلة الشاهد لنفسه وشهادة الشريك لشريكه وان كانا غير متفاوضين لا تجوز في تجارتهما للتهمة لان فيما يكون من تجارتهما الشاهد يثبت الحق لنفسه وصاحبه كالوكيل عنه فهو كشهادة الموكل لوكيله فيما وكله به فأما فيما ليس من تجارتهما فهو كسائر الاجانب لان تهمة الميل بسبب عقد الشركة لا تتمكن عند ظهور العدالة فان بسبب الشركة يحصل بينهما الصداقة والصديق إذا كان عدلا عاقلا يمنع صديقه من أكل الحرام ولا يحمله على ذلك بالشهادة وكذلك شهادة أجير أحد الشريكين للشريك الاخر وشهادة الاجير لاستاذه لا تجوز في شئ وان كان عدلا أخذ في ذلك بالثقة واستحسن لما بلغنا في ذلك عن شريح رحمه الله ولحالة الناس التي هم عليها اليوم والمراد الاشارة إلى التهمة فالاجير هنا هو التلميذ الخاص وقد ظهر مثله إلى استاذه وايثاره على غيره فكان بمنزلة الزوجية في المنع من قبول الشهادة ولانه هو الذي يقبض ما يجب لاستاذه فكأنه يثبت حق القبض لنفسه بشهادته وقد ورد الحديث بأن لا شهادة للقانع بأهل بيته ومعنى ذلك انه يعد خيرهم خير نفسه وشرهم شر نفسه والاجير في حق استاذه بهذه الصفة وقيل مراده أجيرا استأجره مسانهة أو مشاهرة فانما يستوجب الاجر بتسليم نفسه وفي الزمان الذي يسلم نفسه لاداء الشهادة له يستوجب الاجر فكان بمنزلة من استؤجر على أداء الشهادة فلهذا لاتقبل شهادته لاستاذه في شئ ولو ان رجلا كان عليه مال فشهد ابناه ان الطالب أبرأ أباهما واحتال به على فلان والطالب منكر لم تجز شهادتهما لانهما يسقطان بشهادتهما مطالبة الطالب عن أبيهما فدفعهما عن أبيهما كدفعهما عن أنفسهما ولو كان المال على غير أبيهما فشهدا أن الطالب احتال به على أبينهما والطالب ينكر والمطلوب يدعى الحوالة والبراءة جازت شهادتهما لانهما يشهدان على أبيهما بالمال ويلزمانه المطالبة بشهادتهما وانما يسقطان بها مطالبة الطالب عن المطلوب وهو أجنبي عنهما فلهذا قبلنا شهادتهما ولو شهد رجلان أن لهما ولفلان على فلان كذا لم تجز شهادتهما لانهما شاهدان لانفسهما وهذا لانهما يشهدان بدين مشترك أو ينصرف واحد يثبت به المال لهما ولفلان فإذا لم تقبل شهادتهما في حق أنفسهما وكان مدعيين في ذلك فكذلك في حق الثالث كما لو شهدا أنه قذف هذا وأمنا في كلمة واحدة وكذلك لو شهدا أن فلانا ابرأهما

[ 148 ] وفلانا من مال كان له عليهما وعليه لان المشهود به كلام واحد وهو في حقهما دعوى لا شهادة وبين الدعوى والشهادة مغايرة فإذا كان كلامهما دعوى في البعض لا تكون شهادة معتبرة في الباقي وكذلك شهادة ولدهما لانهما في البعض يشهدان لوالديهما ولايجوز شهادة الاجير لمعلمه يريد به التلميذ وقد بينا المعنى فيه وإذا ادعي رجل دابة في يد رجل فقال هي دابة فلان دفعها إلى وديعة فردها عليه وجاء أحد الورثة فخاصمه في ذلك وقال هي دابتي تصدق بها على أبى فجاء الذي كانت في يده أولا وشهد أنها دابته (قال) ان كان يعلم ان هذا أودعها أباه ثم ردها عليه فشهادته جائزة والا فلا تجوز شهادته لان هذا دافع مغرم ومعنى هذا انه إذا علم أنه هو الذي أودعها اياه وانه قد ردها عليه فقد خرج من ضمانها بيقين لان المستودع يستفيد البراءة بالرد على من أودعه غاصبا كان أو مالكا فلا تتمكن تهمة في شهادته بالملك للمدعي بعد ذلك وأما إذا لم يعلم ذلك فقد صار هو مقرا على نفسه بثبوت يده عليها وذلك موجب للضمان عليه لمالكها ما لم تصل يده إليها فهو بهذه الشهادة يريد اتصالها إلى يده ليبرئ نفسه عن ضمانها فتتمكن تهمة في شهادته (قال) وكذلك الدار قيل هذا على قول من يقول العقار يضمن بالغصب وقيل بل هو قول الكل لانه يخاف أن يرفع إلى قاض يرى العقار كالمنقول في ايجاب الضمان على مثبت اليد عليها فيقضى عليه بالضمان فهو بهذه الشهادة يدفع المغرم على نفسه أيضا. رجل معه شاة فمر رجل فقال اذبحها فذبحها ثم جاء رجل فأقام البينة ان هذا أغصبها منه وأقام شاهدين أحدهما الذابح لم تجز شهادة الذابح لانه دافع المغرم عن نفسه فالمدعى إذا ثبت ملكه يتمكن من تضمين الذابح والذابح بشهادته يصير مقرا بالضمان له عن نفسه فانما يقصد باخراج الكلام مخرج الشهادة دفع المغرم عن نفسه بان يتوصل صاحبها إلى حقه في تضمين الغاصب ولان ضمان الغصب إذا تقرر أوجب الملك للغاصب فهو بهذه الشهادة يريد أن يقرر الضمان على من أمره بالذبح ليثبت الملك له فيعتبر عند ذلك أمره في اسقاط الضمان عن الذابح فكان دافع المغرم من هذا الوجه والثانى يحتمل ان المالك غيره وغيره يضمنه وهو لا يضمنه باعتبار ان بينهما محبة ومودة فقد تمكنت التهمة في هذه الشهادة (قال) ومن التهاتر أن يشهد الشاهد ان هذا الشئ لم يكن له لان هذا نفى والشهادة للاثبات دون النفى فان النفى مما لايعرف لان الانسان ما لم يصحب غيره أناء الليل وأطراف النهار لا يعلم ان هذا الشئ ليس له وهو وان صحبه لا يعلم ذلك أيضا فقد لايعرف الانسان ذلك من نفسه بأن يكون ورث شيئا فيكون

[ 149 ] مملوكا له وهو لا يعلم بذلك فإذا كان لايعرف هذا من نفسه فكيف يعرف غيره منه وكذلك لو شهد أنه لم يكن لفلان على فلان دين لانه لا طريق إلى معرفة ما شهد به من نفى الدين عن ذمته وكذلك كل شهادة هكذا أنها لم تكن وان فلانا لم يصنع كذا وانه لم يحضر مكان كذا وان كان بمكان كذا فهو كله باطل لان القاضي يعلم أنه مجازف في شهادته إذ لا طريق له إلى معرفة ذلك حقيقة فإذا علم الحاكم ان الشاهد كاذب أو مجازف في شهادته لاتقبل شهادته وكذلك قولهم انه لم يحضر يومئذ ذلك المكان فهذا نفى وكذلك قولهم انه كان يومئذ بمكان كذا وكذا لان المقصود ليس هو اثبات كونه في ذلك المكان وانما المقصود نفى كونه في المكان الذي يدعيه المدعى يومئذ والمعتبر ما هو المقصود أو من التهاتر ان يقيم الرجل البينة على حق فيقضى له به فيقول المقضي عليه أنا أقيم بينة أنه لى فهذا لا يقبل منه لانه يقيم البينة لابطال قضاء القاضى عليه ودعواه ذلك غير مسموع فكيف تقبل بينة عليه وهذه البينة لو كانت قائمة له عند القضاء يمتنع القاضى من القضاء للمدعى فلان لا يبطل القضاء بها أولى (قال) ولو قبلت مثل هذا لقبلت من الاخر مثلها فيؤدى إلى مالا يتناهى وذكر في الاصل المسألة التى بيناها في كتاب الحدود إذا شهد أربعة على شهود الزنا أنهم التزماه وقد بيناها ثمة والله أعلم (باب الشهادة في النسب وغيره) (قال رحمه الله وإذا شهد شاهدان على رجل انه فلان ابن فلان الفلاني وان الميت فلان ابن فلان ابن عمه وورثته لا يعلمون له وارثا غيره ولفلان ذلك الميت دار في يد رجل وهو مقر أنها له غير أنه لايعرف له وارثا فانا أجيز شهادة هؤلاء على النسب وأدفع إليه الدار وان كانوا لم يذكروا أباه استحسانا) وهذه فصول أربعة النسب والنكاح والقضاء والموت وفي القياس لا تجوز الشهادة في شئ منها بالتسامع لان الشهادة لا تجوز الا بعلم وانما يستفيد العلم بمعاينة السبب أو بالخبر المتواتر فاما بالتسامع لا يستفيد العلم وقال الله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وحكم المال أخف من حكم النكاح فإذا كانت الشهادة على المال بالتسامع لا تجوز ففى النكاح أولى وفي التسامع القاضى والشاهد سواء ثم لا يجوز للقاضى أن يقضي بالتسامع فكذلك لا يجوز للشاهد الا أنا استحسنا جواز الشهادة على هذه الاشياء الاربعة لتعامل الناس في ذلك

[ 150 ] واستحسانهم (ألا ترى) انا نشهد ان عمر بن الخطاب وعلي بن أبى طالب رضى الله عنهما ماتا ولم ندرك شيئا من ذلك ونشهد أن فاطمة رضى الله عنها زوجة علي رضى الله عنه وان اسماء بنت أبى بكر رضي الله عنه ونشهد ان شريحا رضى الله عنه كان قاضيا ونشهد أنهم قد ماتوا ولم ندرك شيئا من ذلك ثم هذه أسباب يقضون بها على ما يشتهر فان النسب يشتهر فيها بالتهنئة والموت بالتعزية والنكاح بالشهود والوليمة والقضاء بقراءة المنشور فنزلت الشهرة منزلة العيان في افادة العلم بخلاف الاموال وغيرها * يوضحه ان هذه الامور قل ما يعاين سببها حقيقة فسبب النسب الولاة ولا يحضرها الا القابلة وسبب القضاء تقليد السلطان ولا يعاين ذلك الا الخواص من الناس والميت أيضا قل ما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك انما يحضره الخواص من الناس فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع أدى إلى الحرج بخلاف البيوع وغيرها فانه كلام يسمعه كل واحد وسبب الملك هو اليد وهو مما يعاينه كل أحد والنكاح كذلك انما يحضره الخواص فلهذا لا تجوز الشهادة عليها بالتسامع ثم الاحكام التى تتعلق بهذه الاشياء الاربعة تبقى بعد انقضاء قرون فلو لم تجز الشهادة عليها بالتسامع لتعطلت تلك الاحكام بانقضاء تلك القرون ولهذا قلنا في الصحيح من الجواب ان الشهادة على أصل الوقف بالتسامع جائزة ولكن على شرائط الوقف لا تجوز الشهادة بالتسامع لان أصل الوقف يشتهر فأما شرائطه لا تشتهر ولابد للشاهد من نوع علم ليشهد فان كان الشاهد لايعرف الرجل الا أن المدعي أخبره بذلك أو شهد به عنده رجل ما ينبغى له أن يشهد حتى يكون النسب مشهورا أو شهد به عنده رجلان عدلان لئلا يقول المدعى بشهادة رجل واحد عنده لا يحصل الاشتهار ولا يتم شرعا وانما ثبت له العلم هنا بالاشتهار عرفا أو شرعا فالاشتهار عرفا بأن يعلمه أكثر الناس والاشتهار شرعا بشاة رجلين (ألا ترى) ان الاعلام في النكاح شرط ويكون ذلك شرعا بشهادة رجلين الا ان فيما يتردد بين الصدق والكذب لابد من عدالة الرجلين كما في الشهادة عند القاضى فإذا شهد بذلك عنده رجلان فقد وجد الاشهاد عنده شرعا وولاية الشهادة دون ولاية القضاء فإذا كان يجوز للقاضى أن يقضى بشهادة رجلين عنده فلان لا يجوز له إذا شهد عنده به رجلان عدلان أولى ولو قدم عليه رجل من بلد آخر وانتسب له وأقام معه دهرا لم يسعه أن يشهد على نسبه حتى يلقى من أهل بلده رجلين عدلين ممن يعرفه يشهدان له على ذلك ثم يسعه الشهادة عليه لانه يحصل له بذلك نوع علم وذلك كاف فيما لا يشترط

[ 151 ] عليه معاينة السبب ولو نظر إلى رجل مشهود باسمه ونسبه غير انه لم يخالطه ولم يتكلم معه وسعه أن يشهد انه فلان ابن فلان لحصول نوع علم له بالاشتهار وكذلك إذا رأى انسانا في مجلس القضاء يقضى بين المسلمين فهو في سعة من الشهادة على انه قاضيا لحصول العلم له بذلك الاشهاد والشهادة انما تجب عليه بالعلم لا بالتكلم والمخالطة فإذا حصل العلم له بالاشهاد حل له أداء الشهادة ولو مات رجل فأقام آخر البينة أن الميت فلان ابن فلان وانه فلان ابن فلان حتى يلتقوا إلى أب واحد وهو عصبته وأقاربه لا يعلمون له وارثا غيره قضيت له بالميراث لانه أثبت سبب الوراثة مفسرا بالحجة فان جاء آخر وأقام البينة أن الميت ابنه ولد على فراشه وان هذا أبوه لا وارث له غيره جعلت الميراث لهذا وأبطلت القضاء للاول لان البينة الثابتة طاعنة في البينة الاولى دافعة لها فانه يتبين بها أن الاول لم يكن خصما في اثبات نسب الميت وانه كان محجوبا عن الميراث بمن هو أقرب منه ولاتقبل البينة من غير خصم فلهذا يبطل القضاء الاول وان أقام الثاني البينة ان الميت فلان ابن فلان ونسبه إلى أب آخر وقبيلة أخرى وانه فلان ابن فلان ابن عمه إلى أب واحد لا وارث له غيره لم أحول النسب بعد أن يثبت من فخذ ومن أب إلى أن يجئ من هو أقرب من الذي جعلت له الميراث لان البينة الثانية ليست بطاعنة في الاولى ولكنها معارضة للاولى وعند المعارضة الاولى ترجح الاولى لاتصال القضاء بها فلا تقبل البينة الثانية لان الجمع بينهما متعذر والقضاء النافذ لا يجوز ابطاله بدليل مشتبه وهو كمن ادعى دابة في يد انسان أنها له ثم أقام البينة فقضي القاضي بها له ثم أقام ذو اليد البينة أنها لو لم يقبل ذلك منه ولو أقام البينة على النتاج قبل ذلك منه لان هذه البينة طاعنة في البينة الاولى دافعة لها وكذلك ان أقام رجل البينة على نكاح امرأة بتاريخ وقضى القاضى له بذلك ثم أقام آخر البينة على نكاحه بذلك التاريخ أيضا لم تقبل ولو أقام البينة على النكاح بتاريخ سابق قبلت بينته لانها طاعنة في البينة الاولى وإذا شهد شاهد أن هذا أعتق فلانا وانه مولاه وعصبته لا وارث له غيره فان كان قد أدرك المعتق وسمع العتق به فشهادتهما جائزة وان كان لم يدركاه ولم يسمعا العتق منه لم تجز شهادتهما في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي رواية أبى حفص رحمه الله فلا وهذا قول محمد وهو قول أبى يوسف الاول رحمهما الله ثم رجع أبو يوسف رحمه الله فقال إذا شهدوا على ولاء مشهور فهو كشهادتهم بالنسب وان لم يسمعوا ذلك منه ولم يدركوه لان الولاء كالنسب ثم الشهادة على النسب بطريق التسامع والشهرة

[ 152 ] جائزة فكذلك على الولاء لان رسول الله ﷺ قرن بينهما فقال الولاء لحمه كلحمة النسب (ألا ترى) انا نشهد ان قنبر مولى علي رضى الله عنه وعكرمة مولى ابن عباس رضى الله عنهما وان لم ندرك ذلك ثم الحكم المتعلق بالولاء يبقى بعد مضى قرن كالحكم المتعلق بالنسب فلو لم تجز الشهادة عليه بالتسامح تعطلت الاحكام المتعلقة بالولاء والشرع جعل الولاء كالنسب في حق وجوب الانتماء فقال ﷺ من انتسب إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولاعدلا * وجه قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ان العتق ازالة ملك اليمين بالقول فلا تجوز الشهادة عليه بالتسامع كالبيع وبيانه فيما قررنا ان العتق كلام يسمعه الناس كالبيع وليس كالولادة فلا حاجة إلى اقامة التسامع فيه مقام البينة ثم لا يقترن لسبب الولاء ما يشتهر به فالانسان يعتق عبده ولا يعلم به غيره فكان هذا دون البيع لان البيع لا ينعقد ما لم يعلم به المشترى والعتق نافذ وان لم يعلم المعتق بخلاف الطلاق وما تقدم لانه مقترن بأسبابها ما يشتهر من الوجه الذي قررنا وكذلك لو شهدوا ان فلانا أعتق أبا فلان وان فلان ابن فلان عصبة فلان الذي أعتق وعصبة فلان المعتق فانى لاأجيز شهادتهما حتى ينسبا الذي أعتق وعصبته إلى أب واحد يلتقيان إليه وان لم يردكا ذلك لم يضرهما بعد أن يشهدا على سماع العتق من المعتق ثم ان المعتق مات وترك ابنه ثم مات ابنه ولا يعلمان له وارثا غيره وانه لا ينسب له ولا ولاء سواه فحينئذ تقبل شهادتهم لان القاضي لا يقضى بالميراث ما لم يفسروا بنسب الوراثة وانما يسير مفسرا معلوما عنده بما ذكر غير ان في النسب شهادتهم بالتسامع مقبولة وفي الولاء لاتقبل شهادتهم ما لم يسمعوا العتق من المعتق الا عند أبى يوسف رحمه الله كما بينا قال ولست أكلفهم في المواريث انه لا وارث له غيره وقال ابن أبى ليلى رحمه الله ما لم يشهدوا بذلك لا يقضى القاضي بالميراث له لان سبب استحقاقه لا يصير معلوما للقاضى الا به لجواز أن يكون هناك من يزاحم أو يترجح عليه فلا يكون هو وارثا مع ثبوت ما فسر الشهود من السبب ولكنا نقول قولهم لا وراث له غيره نفى لا طريق لهم إلى معرفة ذلك فلو كلفهم القاضى أن يشهدوا بذلك لكلفهم على ذلك شططا وحملهم على الكذب واليه أشار في الكتاب (فقال) من قبل ان هذا عيب يحملهم القاضى عليه أو قال عنت يحملهم القاضي عليه وهو يعلم انهم يشهدون بما لا يعلمون وان قالوا لا نعلم له وارثا غيره فهذا يكفى وعلى قول ابن أبى ليلى رحمه الله لا يكفي لان هذا ليس من الشهادة في

[ 153 ] شئ فانهم يشهدون بما يعلمون لا بما لا يعلمون وكما أنهم لا يعلمون ذلك فالقاضي لا يعلم ونحن نسلم ان المشهود به لا يثبت بهذا اللفظ ولكن استحقاق الميراث له بالسبب الذي أثبته الشهود مفسرا الا انهم إذا لم يذكروا هذه الزيادة كان على القاضى أن يتلوم فربما يظهر وارث آخر مزاحم له أو مقدم عليه فهم بهذا اللفظ كفوا القاضى مؤنة التلوم ونظرا في ذلك لانفسهم فتحرزوا عن الكذب والمجازفة لانهم لو قالوا لا وراث له غيره كانوا مجازفين في ذلك فتحرزوا بقولهم لا نعلم له وارثا غيره وفي الحقيقة مرادهم هو الاول فما يكون من سباب التحرز عن الكذب لا يكون قدحا في شهادتهم ولو شهدوا انهم لا يعلمون له وارثا بأرض كذا وكذا غير فلان جاز ذلك في قول أبى حنيفة رحمه الله ولم يجز ذلك في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله حتى يقولوا مبهمة لا نعلم له وارثا غيره لان في تخصيصهم مكانا ايهاما انهم يعلمون له وارثا في غير ذلك المكان أرأيت لو قالوا لا نعلم له وارثا سواه في هذا المجلس أكان يقتضي بالميراث لهم وأبو حنيفة يقول هذا اللفظ مبهم للمبالغة في بيان انه لا وارث له غيره ومعناه ان بلده كذا ومولده كذا ومسقط رأسه كذا ولا نعلم له بها واراث غيره فأحرى أن لا يكون له وارثا آخر في مكان آخر ثم تخصيصهم هذا المكان بالذكر في هذا اللفظ لغو لان مالا يعلم المرء لا يختص بمكان دون مكان فهو ومالو أطلقوا سواء وقولهما ان هذا ايهام فلان كان كذلك فهو مفهوم والمفهوم لا يقابل المنطوق والاصل في ذلك ماروي ان ثابت بن الدحداح لما مات قال رسول الله ﷺ لاهل قبيلته هل تعرفون له فيكم نسبا قالوا لا الا ان ابن أخت له فجعل رسول الله ﷺ ميراثه لابن أخته ابن لبانة بن عبد المنذر رضى الله عنه فقد ذكروا انهم لا يعرفون له فيهم وارثا ونسبا ولم نكلفهم أكثر من ذلك ولو ادعى رجلان ولاء رجل واحد فأقام كل واحد منهما بينة انه أعتقه وهو يملكه ولا يعلمون له وارثا غيره جعلت الولاء بينهما والميراث لانهما استويا في سبب الاستحقاق والولاء إما أن يعتبر بالنسب ولو أقاما البينة على نسبه كان الميراث بينهما لاستهوائهما في النسب أو يجعل الولاء كالملك لانه أثر من آثار الملك وإذا استويا في اقامة البينة على الملك يقضى بالملك بينهما نصفان فان أقام أحدهما بينة قبل صاحبه وقضيت له ثم أقام الاخر بعد ذلك بينة لم نقبل منه ولم يشارك الاول لان الولاء كالنسب من حيث انه لا يحتمل النقض والفسخ ولا يحتمل النقل من شخص إلى شخص ثم في النسب إذا ترجحت البينة الاولى بالقضاء لم تقبل بعد ذلك فكذلك

[ 154 ] في الولاء ولو شهد رجل على رجل ان مولاه اعتق أمه ثم ولدت بعد العتق لستة أشهر من فلان وهو عبد لفلان فقضى القاضى له بالولاء ثم جاء مولى العبد وأقام البينة انه كان أعتق أباه فلانا قبل موته وهو لا وارث له غيره جعلت له الميراث والولاء لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو عاينا ذلك حكمنا بجر الولاء إلى قوم الاب فكذلك إذا ثبت بالبينة وهذا لانه ليس في هذه البينة ابطال القضاء الاول فان القضاء الاول كان قضاء بالولاء لمعتق الام لانه لاولاء له من قبل الاب وهو صحيح ثم بقى ذلك الولاء عند الموت لعدم الدليل المحول لا لوجود الدليل المنفى فإذا ثبت الثاني الدليل المحول ببينته وجب القضاء بالولاء والميراث له بخلاف الاول فهناك البينة الثانية تقوم لابطال القضاء الاول بطريق المعارضة وقد بينا ان عند المعارضة الاولى يترجح بالقضاء فان نقض القضاء بدليل محتمل لا يجوز وإذا شهدا على موت رجل وأقر أنها لم يعاينا ذلك لم تجز الا أن يكون مشهور الموت لانه إذ لم يكن مشهورا وأقر انهما لم يعاينا فقد أقر انهما يشهدان بغير علم وإذا كان مشهور الموت فانما يشهدان بما يعلمانه بالشهرة وان قالا نشهد بأنه مات أجزت ذلك والا استفسرهما لان مطلق الشهادة يجب حملها على سبب صحيح كما لو شهد بمطلق الملك قبلت شهادتهما ولا يستفسران أنهما يشهدان بذلك بظاهر اليد أو غيره وكذلك ان قال نحن دفناه أو شهدنا جنازته فهذا منهما شهادة بموته لان الحى لا يدفن ولا يصلى على جنازته وإذا أخبر الرجل المديون به أو المرأة انه عاين موت فلان فالذي انتهى إليه الخبر في سعة من يشهد على موته قيل معنى هذا إذا اشتهر عند الناس حتى سمعه الشاهد من واحد بعد واحد فأما إذا لم يسمعه إلا من هذا الواحد فانه لا يجوز له أن يشهد بموته كما في النسب والنكاح وقد بينا وقيل بل في الموت يسعه ذلك إذا كان المخبر ثقة موثوقا به لان أمر الناس هكذا يكون فالميت انما يعاينه من يغسله ثم يخبر الناس بذلك فيتعمدون خبره ويعلمون انه صادق في مقالته فيجوز له أن يعتمد هذا الخبر في الشهادة على موته وإذا جاء موت الرجل من أرض أخرى فصنع أهله ما يصنعون على الميت فانه لا يسع أحد أن يشهد على موته حتى يخبر به من شهده ممن يثق به لان مثل هذا الخبر قد يكون حقا وقد يكون باطلا والغالب عند بعد المسافة أنه باطل فلا يعتمده حتى يخبره من يثق به عن معاينة فإذا أخبره بذلك وسعه أن يشهد (ألا ترى) انه لو مات ميت فأخرجت جنازته حتى يدفن وسع الجيران أن يشهدوا بموته وان لم يعاينوا ذلك لانهم سمعوا

[ 155 ] ذلك مما عاين وإذا تزوج امرأة نكاحا ظاهرا ودخل بها علانية وأقام معها أياما ثم ماتت فانه يسع الجيران ان يشهدوا على أنها امرأته وان لم يشهدوا النكاح لانه اقترن بالنكاح ما أوجب تشهيره أرأيت لو كان بينهما ولد أما كان يسعهم أن يشهدوا انه ولدهما وان لم يعاينوا الولادة فإذا كان يجوز هذا فيما ينبنى على النكاح فكذلك في النكاح وإذا شهد شاهدان أن فلانا مات وترك هذه الدار ميراثا لفلان ابنه هذا لا يعلمون له وارثا غيره لم يدركوا فلانا الميت فشهادتهم باطلة لانهم يشهدون بالملك للميت فان الوراثة خلافة فما لم يثبت الملك للميت لا يخلفه وارثه فيه ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع وإذا كان القاضى يعلم انهم لم يدركوا فلانا الميت فقد علم انهم جازفوا في هذه الشهادة وبهذا يستدل أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله في مسألة الولاء فيقولان ان الولاء بالعتق لا يثبت للعتق الا أن يكون مالكا فهم يشهدون بالملك له أو لا ولا تجوز الشهادة على الملك بالتسامع ولهذا قال كثير من مشايخنا رحمهم الله في الوقف ان الشهادة عليه بالتسامع ممن لا يدرك الواقف لاتقبل لانه ما لم يثبت الملك للواقف لا يثبت الوقف من جهته والشهادة على الملك بالتسامع لا تجوز الا ان أكثرهم على جواز ذلك في الوقف استحسانا للضرورة الداعية إلى ذلك وتحقيق مقصود الواقف وهو التأييد في صدقته ولو شهدوا على دار في يدى رجل أنها دار جد هذا المدعى وخطته وقد أدركوا الحد لم تجز شهادتهما حتى يجيزوا المواريث لان المدعى يحتاج إلى اثبات سبب انتقال الملك إليه من الجد وبثبوت الملك للجد لا يحصل هذا المقصود ولا يتمكن القاضى من القضاء له حتى يجيزوا المواريث ولو شهد على اقرار الذي في يديه انها دار جد هذا أجزت ذلك وجعلتها له ان لم يكن له وارث غيره لان الثابت من اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة وهذا لان الاقرار موجب بنفسه قبل ان يتصل به القضاء بخلاف الشهادة فانها لا توجب شيئا الا بقضاء القاضى ولا يتمكن القاضى من القضاء الا بسبب ثابت عنده ونظير هذه المسألة مابينا في كتاب الدعوى أنهم إذا شهدوا أنها كانت لابنه وقد مات أبوه لا يقضى له بشئ الا في قول أبى يوسف الاخر بخلاف مااذا شهدوا على اقرار ذي اليد بأنها كانت لابنه وكذلك لو شهدوا انها كانت من يد المدعى لا يستحق بهذا شيئا بخلاف مااذا شهدوا على اقرار ذى اليد انها كانت في يد المدعى وفى الكتاب أشار إلى الفرق وقال إذا أقر ذو اليد بهذا فقد أخرجها من نصيبه فيخرجها من يده الا أن يأتي ببينة بحق له فيها وإذا أخرجناها من يده فلا مستحق لها سوى المدعي فتدفع

[ 156 ] إليه وإذا شهد الشهود بغير اقرار فهم لم يثبتوا للمدعى شيئا إذا لم يجيزوا المواريث إليه وهذا في الحقيقة إشارة إلى ما ذكرنا ان الاقرار موجب بنفسه والشهادة لا توجب شيئا بدون قضاء القاضى وإذا كانت الدار في يد رجل فأقام ابن أخيه البينة أنها دار جده مات وتركها ميراثا لابن الابن وعمه ولا يعلمون له وارثا غيرهما وان أباه مات وترك نصيبه منها ميراثا له لا يعلمون له وارثا غيره وان أقام الاخر البينة ان أخاه مات قبل أبيه وان أباه قد ورث منه السدس ثم مات أبوه فورثه هذا فانى أقبل شهادة شهود ابن الاخ لانه هو المدعى ومعنى هذا انه هو يثبت الملك لنفسه في نصف الدار ببينته وذو اليد لا يثبت لنفسه شيئا عليه ولكن يبقي ببينته ما أثبت هو من نصف الدار لنفسه والبينات للاثبات لا للنفي * يوضحه انا إذا قبلنا بينة ابن الاخ صار ذو اليد بها مقضيا عليه في نصف الدار وإذا قبلنا بينة ذي اليد لا يصير ابن الاخ مقضيا في شئ والقضاء يستدعى مقضيا عليه وكانت بينة ابن الاخ أولى بذلك فان كان لاب الغلام ميراث من تركة سوى الدار لم أقبل بينة واحد منهما على صاحبه لان كل واحد منهما هنا يثبت لنفسه ببينته شيئا في يد ابن الاخ وهو نصف الدار والاخر سدس تركة أخيه التى كانت في يد أبيه بطريق الميراث له من أبيه وكل واحد منهما يصير مقضيا عليه لو قبلنا بينة صاحبه عليه فاستويا من هذا الوجه والاصل ان كل أمرين ظهرا ولا يعرف التاريخ بينهما يجعل كأنهما وقعا معا (ألا ترى) ان الاب والابن إذا غرقا جميعا في سفينة أو وقع عليهما بيت ولا يعلم ايهما مات أولا لم يرث واحد منهما صاحبه فكذلك هنا لما تحققت المساواة بينهما في التاريخ جعلا كأنهما ماتا معا فيكون ميراث كل واحد منهما لابنه فلا يرث كل واحد منهما من صاحبه ولو أقام رجل البينة على ميراث رجل انه مات يوم كذا وهو ابنه لا وارث له غيره وأقامت امرأة البينة انه تزوجها يوم كذا بعد ذلك اليوم ثم مات بعد ذلك فانى آخذ ببينة المرأة لانها تثبت المهر والميراث فلابد من قبول بينتها على ذلك ثم بينتها طاعنة في بينة الابن على تاريخ الموت فمن ضرورة الحكم بصحة النكاح منه بعد ذلك الحكم بحياته ولو أقامت امرأة أخرى البينة بعد ما قضيت بموته في يوم وورثت امرأته انه تزوجها بعد ذلك الوقت الذي ذكروا فيه موته قبلت ذلك أيضا لان هذه الاخرى مدعية مثبتة المهر والميراث لنفسها ثم بينتها طاعنة في البينة الاخرى على تاريخ الموت ولو كان الوارث أقام البينة ان فلانا قتل أباه يوم كذا قضيت بذلك ثم أقامت المرأة البينة انه تزوجها بعد ذلك اليوم ثم التفت إلى بينتها

[ 157 ] قال لان القتل حق لازم والموت ليس فيه حق لازم ومعنى هذا الكلام ان الابن باثبات فعل القتل على القاتل يثبت لنفسه موجبه من قصاص أو دية فكانت بينته مثبتة وبينه المرأة على النكاح أيضا مثبتة للمهر والميراث لها فلما استويا في الاثبات وترجحت بينة الابن باتصال القضاء بها لم تقبل بينة المرأة بعد ذلك لان القضاء النافذ لا يجوز ابطاله بطريق المعارضة فاما في الموت الابن لا يثبت لنفسه في اقامة البينة على تاريخ الموت حقا فان الميراث مستحق له بالموت لا بالتاريخ فانما بقي هو بتلك البينة النكاح بعده وبينة المرأة تثبت وقد بينا ان النافي من البينتين لا يعارض المثبت فيترجح بينتها ويتبين به بطلان الطلاق الاول كما إذا أثبت سبب إرث مقدم على ما قضى القاضى به * يوضح الفرق ان القتل فعل يتعلق به حكم شرعا والفعل لا يتحقق من العبد الا في زمان فكان الابن متمكنا من اثبات الفعل عليه في ذلك الزمان بالبينة لاثبات حكمه فأما الموت ليس بفعل من العبد يتعلق به حكم ليتمكن الابن من اثباته في زمان بالبينة وانما يمكنه من اثبات الخلافة لنفسه بعد موته وفي ذلك لافرق بين موته في وقت دون وقت ثم الاصل ان بعد المساواة في الاثبات إذا تيقن القاضى بالكذب في احدى البينتين وقد اتصل القضاء باحدهما فانه يعين الكذب في الاخرى (ألا ترى) انه لو قامت عليه بينة انه تزوج هذه المرأة يوم النحر بملكة فقضى القاضى بها ثم شهد شاهدان آخران انه تزوج هذه الاخرى يوم النحر في ذلك اليوم بخراسان لم تجز الشهادة الثانية لانا نتيقن بكذب أحد الفريقين وقد ترجح جانب الصدق في البينة الاولى باتصال القضاء بها فيتعين الكذب في البينة الثانية فكذلك فيما تقدم من مسألة القتل والله أعلم (باب طعن الخصم في الشاهد) (قال رحمه الله وإذا شهد شاهد ان لرجل حقا من الحقوق فقال المشهود عليهما هما عبدان فانى لاأقبل شهادتهما حتى أعلم انهما حران) لان الناس أحرار الا في أربعة الشهادة والحدود والقصاص والعقل كذا مروى عن علي رضى الله عنه وتفسيره في الشهادة هذا وفي الحد إذا قذف انسان ثم زعم القاذف ان المقذوف عبد فانه لا يحد القاذف حتى يثبت المقذوف حريته بالحجة وفي القصاص إذا قطع يد انسان ثم زعم القاطع ان المقطوعة يد عبد فانه لا يقضى بالقصاص حتى يثبت حريته بالحجة وفي القتل إذا قتل انسان خطأ وزعمت العاقلة انه عبد فلان فانه لا

[ 158 ] تقضى عليهم بالدية حتى تقوم البينة على حريته وهذا لان ثبوت الحرية لكل أحد باعتبار الظاهر إما لان الدار دار حرية أو لان الاصل في الناس الحرية فانهم أولاد آدم وحواء عليهما السلام وقد كان حرين الا ان الظاهر يدفع به الاستحقاق ولكن لا يثبت به الاستحقاق لان الاستحقاق لا يثبت الا بدليل موجب له ويقال ما عرف ثبوته ليس بدليل منفى بل لعدم الدليل المزيل والدليل عليه ان ظاهر اليد يدفع به استحقاق المدعى ولا يستحق به حتى إذا كانت في يده جارية ولها ولد في يد غيره لا يستحق ولدها باعتبار يده فيها إذا عرفنا هذا فنقول في الشهادة اثبات الاستحقاق على المشهود عليه بقول الشاهد الظاهر ولا يكفى لذلك وكذلك في القذف الزام الحد على القاذف في القصاص وايجاب العقوبة على القاطع وفي العقل ايجاب الدية على العاقلة وذلك لا يكون الا باعتبار الحرية فما لم تثبت الحرية بالحجة لا يجوز القضاء بشئ من ذلك فان قال الشهود نحن أحرار لم نملك قط لم يقبل قولهما حتى يأتيا بالبينة على ذلك وانما أراد به انه لاتقبل شهادتهما فأما في قولهما انا أحرار لم نملك مصدقان في حقهما بطريق الظاهر ولكن لا نقضي بشهادتهما حتى يقيم البينة على حريتهما وان سأل القاضي عنهما فاخبر انهما حران فقبل ذلك وأجاز شهادتهما كان حسنا لان حريتهما من الاسباب التى يعمل شهادتهما الا بها بمنزلة العدالة فكما أن العدالة تصير معلومة عند القاضى بهذا الطريق فكذلك الحرية قال والباب الاول أحب إلى وأحسن يعنى الاثبات بالبينة لان الاهلية للشهادة لا تثبت بدون الحرية وتثبت بدون العدالة ولان الحرية والرق من حقوق العباد تجرى فيهما الخصومة وطريق الاثبات في مثله البينة فأما العدالة لا تجرى فيها الخصومة فيمكن معرفتها بالسؤال عن حاله والحاصل ان الحرية في هذه الحالة أخذت شبهين من أصلين من العدالة لانها من أسباب قبول الشهادة ومن الملك لانها لا تجرى فيها الخصومة وفيها حق العباد فيوفر حظه عليهما فلشبهها بالعدالة تصير معلومة بالسؤال ولشبهها بالملك تصير معلومة بالبينة وهذا الوجه أقوى وأحسن لان الحرية تصير مقضيا بها ولو قالا قد كنا عبدين فأعتقنا المولى لم نصدقهما الا ببينة لان الملك يثبت للمولى عليهما باقرارهما وازالة الملك الثابت لا يكون الا بحجة البينة فان جاء بالبينة على ذلك قبلت ذلك وأعتقهما وان كان المولى غائبا لان المشهود عليه انتصب خصما عن المولى فانه لا يتمكن من دفع المشهود به عن نفسه الا بانكار حريتهما والاصل ان حق الحاضر متى كان متصلا بحق الغائب فان الحاضر ينتصب خصما عن الغائب ومتى

[ 159 ] قضي القاضي بالبينة على خصم حاضر فذلك قضاء على من انتصب لهذا الحاضر خصما عنه فإذا جاء المولى وانكر ذلك لم يلتفت إلى انكاره وكان من القضاء بالعتق ماضيا لان الحاضر بمنزلة الوكيل عن الغائب وهذا عندنا وقال زفر رحمه الله لا يقضى بالعتق حتى يحضر المولى ويقام عليه البينة لان المعتق مدعى عليه واستدل على زفر رحمه الله بما قال أرأيت لو ادعى قتل رجل أنه قطع يده عمدا أو ادعى عليه قذفا وميراثا وأقام البينة أن مولاه أعتقه وان هذا قطع يده بعد ذلك أو قدمه ألم أحكم عليه بما حكم به الحر على الحر فيكون ذلك قضاء على مولاه وان كان غائبا وكذلك لو أقام رجل البينة على عبد أن مولاه أعتقه وانه قطع يده بعد ذلك لو استدان منه دينا أو باعه أجزت ذلك وان جاء المولى فانكر عتقه لم أكلفه اعادة البينة وزفر رحمه الله في هذا كله مخالف الا أن من عادة محمد رحمه الله الاستشهاد بالمختلف على المختلف لايضاح الكلام والله أعلم بالصواب (باب الشهادة في الشراء والبيع) (قال رحمه الله وإذا ادعى رجل شراء دار في يد رجل وشهد شاهدان وان لم يسميا الثمن والبائع ينكر ذلك فشهادتهما باطلة) لان الدعوى ان كانت بصفة الشهادة فهى فاسدة وان كانت مع تسمية الثمن فالشهود لم تشهد بما الدعاه المدعى ثم القاضى يحتاج إلى القضاء بالعقد ويتعذر عليه القضاء بالعقد إذا لم يكن الثمن مسمى لانه كما لا يصح البيع ابتداء بدون تسمية الثمن فكذلك لا يظهر بالقضاء بدون تسمية الثمن ولا يمكنه أن يقضى بالثمن حين لم تشهد به الشهود وكذلك لو سمى الثمن واختلفا في جنسه أو في مقداره لان المدعى يكذب أحدهما لا محالة ولان كل واحد منهما يشهد بعقد غير ما يشهد به صاحبه فالبيع بالدنانير غير البيع بالدراهم ولا يتمكن القاضى من القضاء بواحد من العقدين لانعدام شهادة شاهدين عليه وكذلك إذا شهد أحدهما بالبيع بألف والاخر بالبيع بالف وخمسمائة ويستوى ان كان البائع هو المدعى للبيع أو الشراء وفي الخلع ان كانت المرأة هي التى تدعى فكذلك الجواب لانها تكذب أحد الشاهدين وان كان الزوج هنا المدعى في الخلع فشهد أحد الشاهدين على الف والاخر على الف وخمسمائة فشهادتهما مقبولة في مقدار الالف لان الفرقة وقعت باقرار الزوج وهذا منه دعوى الدين عليها في الحاصل وقد اتفق الشاهدان على الالف لفظا

[ 160 ] ومعنى وفي النكاح لو كان الزوج هو المدعى للعقد فالشهادة لاتقبل لان النكاح بالف غير النكاح بالف وخمسمائة والزوج يكذب أحد شاهديه وان كانت المرأة هي التى تدعى النكاح بالف وخمسمائة فعند أبى حنيفة رحمه الله تقبل شهادتهما على مقدار الالف لان دعواها دعوى المال وقد اتفق الشاهدان على الالف لفظا ومعنى كما في الخلع وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله لاتقبل الشهادة لان عقد النكاح معاوضة المرأة بالمال كالبيع فكما أن اختلاف الشاهدين في مقدار البدل في البيع يمنع قبول الشهادة فكذلك في النكاح وفرق أبو حنيفة رحمه الله بينهما وهو أن صحة النكاح تستغنى عن تسمية المهر بخلاف البيع فن هذا الوجه المال كالزائد في النكاح ودعواها فيه دعوى الدين وتمام بيان هذا الفصل في الجامع الصغير وان اتفق في جميع ذلك غير أنهما اختلفا في المكان والوقت في البيع أو في الاقرار والانشاء فشهادتهما جائزة وقد بينا هذا وان شهدا على اقرار البائع بالبيع ولم يسميا ثمنا ولم يشهدا بقبض الثمن فالشهادة باطلة لان حاجة القاضي إلى القضاء بالعقد ولا يتمكن من ذلك إذا لم يكن الثمن مسمى وان قال أقر عندنا انه باعها منه واستوفى الثمن ولم يسم الثمن فهو جائز لان الحاجة إلى القضاء بالعقد بالملك للمدعى دون القضاء فقد انتهى حكم العقد باستيفاء الثمن ولان الجهالة انما تؤثر لانها تقضي إلى منازعة مانعة عن التسليم والتسلم (ألا ترى) أن مالا يحتاج إلى قبضه فجهالته لا تضر وهو المصالح عنه بخلاف ما يحتاج إلى قبضه وهو المصالح عليه فإذا أقر باستيفاء الثمن فلا حاجة هنا إلى تسليم الثمن فجهالته لا تمنع القاضى من القضاء بحكم الاقرار وإذا لم يقبض الثمن لا يجب على البائع تسليم البيع ما لم يصل إليه الثمن فجهالة الثمن في هذه الحالة تمنع القضاء بموجب اقراره وفي الموضعين جميعا الثابت من الاقرار بالبية كالثابت بالمعاينة ولو قال بعتها منه ولم استوف الثمن لم يؤمر بتسليمها إليه ولو قال بعتها منه واستوفيت الثمن أمر بتسليمها إليه فكذلك إذا ثبت بالبينة وإذا ادعى شراء دار وأقام شاهدين عليها غير أنهما لا يعرفان الدار والحدود ولم يسميا شيأ من ذلك فهو باطل لان المشهود به مجهول ولان المدعى غير المشهود به فالمدعا شراء دار معينة معلومة والمشهود به شراء دار مجهولة فان قالا قد سمى البائع والمشترى موضع الدار وحدودها ثم وصفوا ذلك وسموه فهو جائز لانهم شهدوا بمعلوم وهو الشراء في دار معلومة بذكر الحدود والموضع غير انى أسأل المدعي البينة على ما سمى الشهود من موضع الدار والحدود لان القاضى يقول للمدعي قد يثبت عندي انك اشتريت

[ 161 ] منه دارا حدودها ما سمى الشهود ولكن لاأدرى أن هذه الدار المعينة التى يدعيها هي تلك الدار وان حدودها ما سمى الشهود فثبت ذلك عندي بالبينة فإذا أقام البينة على ذلك حينئذ يتمكن القاضى من القضاء له بالمدعى بالبينة السابقة وكذلك لو حدودها بثلاثة حدود فقد بينا في أدب القاضى ان ذكر أكثر الحدود وذكر الجميع عندنا سواء استحسانا وان الشهرة لا تقوم مقام ذكر الحدود في العقار عند أبى حنيفة رحمه الله وكذلك لو ادعي البائع وجحد المشترى في جيمع هذه الوجوه لان الحاجة إلى القضاء بالعقد لافرق بين أن يكون المدعى هو البائع أو المشتري. دار في يد رجل فأقام رجل عليها شاهدين انها داره اشتراها من فلان وأقام ذو اليد البينة انها داره اشتراها من فلان ذلك أيضا فهى للذي في يده لانهما تصادقا على أن أصل الملك فيهما كان للبائع وادعى كل واحد منهما سبب انتقال الملك إليه وسبب ذي اليد أقوى لان الشراء مع القبض أقوى من الشراء بدون القبض ولان تمكنه من القبض دليل سبق عقده فهو أولى الا أن يؤرخا وتاريخ الخارج أسبق فحينئذ يقضى بها له لانه أثبت الشراء في وقت لا ينازعه الاخر فيه ولو أقام كل واحد منهما البينة على الشراء من رجل آخر قضيت بها للمدعى لان كل واحد منهما هنا يحتاج إلى اثبات الملك لبائعه أو لا فكأن البائعين حضرا وادعيا الملك المطلق وبينة الخارج في ذلك أولى عندنا فاما في الاول الملك ثابت للبائع بتصادقهما وانما يحتاج كل واحد منهما إلى اثبات سبب الانتقال إليه * يوضح الفرق أن هناك الخارج محتاج إلى اثبات الاستحقاق على البائع وعلى ذى اليد في تثبته ما يثبت له الاستحقاق على البائع وليس فيها مال يثبت الاستحقاق على ذي اليد من غير المالك حادث لجواز أن يكون شراء ذي اليد سابقا وحاجة ذى اليد إلى اثبات الاستحقاق على البائع خاصة ولا حاجة له إلى اثبات الاستحقاق على صاحبه لان صاحبه غير مستحق لها بيد له فيها وفي بينته ما يثبت له ذلك فاما هنا كل واحد منهما يحتاج إلى اثبات الاستحقاق لبائعه أولا ليترتب عليه استحقاقه بالشراء وفيما هو المقصود بينة الخارج أولى من بينة ذى اليد. دار في يد رجل ادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة انه اشتراها منه بالف درهم فان وقت أخذ بأول الوقتان لان صاحب أسبق التاريخين اثبت الملك لنفسه بالشراء في وقت لا ينازعه فيه غيره والاخر بينة انما أثبت الشراء من غير المالك وان وقت أحد البينتين دون الاخرى فهى لصاحب الوقت لان الشراء من غير المالك حادث فيحال بحدوثه على أقرب الاوقات حتى يثبت سبق

[ 162 ] التاريخ فالذي لم توقت شهوده انما أثبت شراءه في الحال وصاحبه أثبت الشراء من حين أرخت شهوده فهو أولى الا أن تكون الدار في يد الاخر فهى لصاحب اليد حينئذ لان تمكن ذى اليد من القبض دليل سبق عقده وهذا دليل معاين وفي حق الاخر التاريخ مخبر به وليس الخبر كالمعاينة ولان حاجة الخارج إلى اثبات الاستحقاق على ذى اليد وليس في بينته ما يوجب ذلك وان أرخت شهوده لجواز أن يكون شراء ذى اليد سابقا فان لم يوقتا فكل واحد منهما بالخيار ان شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وان شاء ترك لان استواء الحجتين الحكم هو القضاء بها بينهما نصفان فقد تفرقت الصفقة على كل واحد منهما وببعض الملك قبل البعض والتبعيض في الاملاك المجتمعة عيب فيخبر كل واحد منهما ان شاء أخذ نصفها بنصف الثمن وان شاء ترك وكذلك لو كان أحدهما ابن البائع أو مكاتبة لانه في حكم الشراء منه هو كاجنبي آخر فكذلك في دعوى الشراء عليه. دار في يد رجل فاقام رجل البينة انه اشتراها من ذى اليد وأقام ذو اليد البينة انه اشتراها من المدعي ولا يدرى أي ذلك أول فانه يقضى بها لذي اليد وتبطل البينتان جميعا لان كل واحد منهما اثبت اقرار صاحبه بالملك له فكل مشترى مقر بالملك لبائعه وكل بائع مقر بوقوع الملك للمشتري فيجعل هذا بمنزلة إقامة كل واحد منهما البينة على اقرار صاحبه بالملك له وهنا تتهاتر البينتان كما لو سمعنا الاقرار منهما معا ولم يذكر في المسألة اختلافا هنا وقد ذكر في الجامع ان هذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهم الله فان عند محمد رحمه الله يقضى بالبينتين جميعا فيجعل كأن ذى اليد اشتراها أولا وقبضها ثم باعها فيؤمر بتسليمها إلى الخارج لان القضاء بالعقدين ممكن بهذا الطريق وقد بينا المسألة بفروعها في الجامع قال (ألا ترى) ان كل واحد منهما لو أقام البينة ان القاضى قضى له بهذه الدار على صاحبه انه يترك في يد ذى اليد وتتهاتر البينتان الا أن محمدا رحمه الله يفرق بينهما فيقول في الشراء اثبات الترتيب بين العقدين ممكن باعتبار اليد لانى إن جعلت شراء ذي اليد سابق جاز بيعه بعد القبض وان جعلت شراء الخارج سابقا لم يجز بيعه من البائع قبل القبض ومثل هذا الترتيب في القضاء غير ممكن ولان الشراء يتأكد بالقبض ولهذا يستفاد به ملك التصرف العقار في ذلك والمنقول عندي سواء فيستقيم ان يجعل قبض ذى اليد صادرا عند عقده أو يجعل ذلك دليل سبق عقده فاما القضاء لا يتأكد بالقبض بل متأكد بنفسه فتتحقق فيه المعارضة بين البينتين. دار في يد رجل فأقام البينة انه باعها من فلان بألف درهم في رمضان وأقام فلان البينة انه اشتراها

[ 163 ] منه في شوال بخمسمائة درهم لان القضاء بالعقدين ممكن والبينات حجج فعند امكان العمل بهما لا يجوز الغاء أحدهما فيجعل كانه باعها في رمضان بألف ثم باعهما في شوال بخمسمائة فيكون العقد الثاني فاسخا للعقد الاول ولو عاينا الشرائين كان الشراء الثاني فاسخا للاول والدار له بالثمن الثاني وكذلك لو أقام فلان البينة انه وهبها له في شوال على أن يعوضه خمسمائة وقبضها جميعا لان الهبة بشرط العوض بعد التقاض بمنزلة البيع فهذا واقامة البينة على الشراء في شوال بخمسمائة أمضيت البيع بألف في رمضان وقضيت له من ذلك بخمسمائة سواء الذي أثبت انه أعطاه في شوال وهذا قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله بينة المرتهن أثبت ببينته اقرار الراهن بالرهن منه في شوال فكأنا سمعنا منه هذا الاقرار لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو أقر هو بذلك لم يصح منه بعد ذلك دعوى البيع في رمضان للتناقض فالبائع لا يرهن المبيع من المشترى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله قالا البيع أقوى من الرهن لان البيع يوجب الملك في البدلين والرهن لا يوجب ذلك فعند تعذر العمل بالبينتين يترجح الاقوى وهو البيع وكما أن المرتهن أثبت اقرار الرهن بالرهن فالبائع أثبت اقرار المشترى بالشراء منه في رمضان وذلك يمنعه من دعوى الرهن في شوال فلما وقع التعارض في هذا رجحنا أقوى الحجتين وهو حجة البيع وفي الكتاب (قال) ليس الرهن كالهبة بالعوض لان الهبة بالعوض بيع والرهن ليس ببيع فقد يرهنك الرجل دارك ولا يبيعك دارك ومعنى هذا ان الرهن دون البيع فلا يكون ناقضا للبيع (ألا ترى) أنا لو عاينا العقدين لم ينتقض البيع بالرهن وهو معنى قوله قد يرهنك دارك ولو عاينا البيعين انتقض الاول بالثاني فبانتقاض الاول الدار تعود إلى البائع فهذا معنى قوله لا يبيعك. دارك دار في يد رجل فادعاها رجلان كل واحد منهما يقيم البينة أنه اشتراها بالف وكفل عنه صاحبه المدعى معه فان علم الاول منهما قضى له بها وان لم يعلم فلكل واحد منهما أن يأخذ نصفها بنصف الالف ان شاء لاستواء الحجتين فان أخذاها فالكفالة لازمة لكل واحد منهما على صاحبه من قبل أنهما ليسا بشريكين ومعنى هذا أنه يقضى لكل واحد منهما بنصف الدار بشراء يفرد هو به بلا شركة بينهما في العقد ولو عاينا الشرائين بهذه الصفة بشرط الكفالة من كل واحد منهما على صاحبه

[ 164 ] وكفالة صاحبه له بذلك كانت الكفالة لازمة فكذلك إذا قضى بذلك بالبينة. وإذا أقام رجل البينة انه اشترى دارا في يد رجل بالف درهم وقال ذو اليد لم أبع ثم أقام البائع البينة على أنه قد رد عليه الدار فانى أقبل ذلك منه وانقض البيع ولا يبطل انكاره البيع ببينة لان انكاره ليس باكذاب منه لشهوده وانه في الانكار يقول لابيع بيننا فيها وبعد مارد عليه الدار لابيع بينهما فيها ولو قال لم يجر بيننا بيع فهو متمكن من دعوى الدار مع اصراره على الكلام الاول بأن يقول لم يكن بيننا بيع ولكنه ادعى هذه الدعوى مرة ثم بدا له فيها فرد الدار على فعرفنا أن هذا الانكار ليس باكذاب منه لشهوده. وإذا ادعى رجل دارا في يد رجل وأقام البينة ان أباه اشتراها منه بالف وقد مات أبوه والبائع ينكر فاني لا أكلفه البينة انه مات وتركها ميراثا ولكن أسأله البينة انه لا يعلم لابنه وارثا غيره فإذا أقام على ذلك بينة أمرته أن ينقد الالف ويقبض الدار لان الابن قائم مقام الاب بعد موته ولو حضر الاب في حياته وأقام البينة انه اشتراها منه بالف درهم أمر بتسليم الثمن وقبض الدار وكذلك الابن إذا ثبت ذلك بعد موت أبيه الا أن من الجائز أن معه من يزاحمه في الميراث فيؤمر باقامة البينة على أنه لا يعلم له وارثا غيره وان لم يقم البينة على ذلك تلوم القاضى فيه زمانا فقد بينا هذا في كتاب الدعوى ولو كانت الدار في يد رجل غير البائع سأله البينة أن أباه مات وتركها ميراثا لان هنا لو حضر الاب في حياته وأقام البينة على ذى اليد انه اشترى هذه الدار من فلان بالف وذو اليد غير البائع لا يستحق به شيأ ما لم يثبت الملك لمورثه وذلك بان يشهد الشهود أنه تركها ميراثا كما لو أقام الاب البينة انها ملكه اشتراها من فلان (قال) في الكتاب وليس هذا كالاولى لان الاولى هي في يده رهن بالثمن بمنزلة رجل أقام البينة ان اباه رهن هذه الدار عند هذا بالف درهم وقد مات الاب ولا وارث له غيره وجاء بالالف ينقدها ومعنى هذا ان الدار إذا كانت في يد البائع فالوارث باقامة البينة على الشراء أثبت اقرار ذي اليد بالملك لمورثه ولكنها محبوسة في يده بالثمن كالمرهونة فيؤمر باداء الثمن وقبضها وإذا كانت في يد غير البائع فالوارث باقامة البينة على الشراء ما أثبت اقرار ذي اليد بالملك المورثة انما أثبت اقرار البائع بذلك والملك للبائع غير ثابت فيها حتى يثبت باقراره الملك لمورثه فلابد له من اقامة البينة على ملك مورثه عند موته وذلك بان يشهد الشهود أنه تركها ميراثا. وإذا ادعى رجل دارا في يد رجلين فاقام البينة أن أحدهما باعه الدار وسلم الاخر ولا يعرف الشهود الذي

[ 165 ] باع من الذي سلم فشهادتهم باطلة لان المشهود عليه بالبيع مجهول والمشهود عليه بالتسليم كذلك وما لم يبين الشاهد المشهود عليه بالبيع فهو مجهول والمشهود عليه بالتسليم كذلك وما لم يبين الشاهد المشهود عليه في شهادته لا تكون شهادته حجة ولانهم تحملوا الشهادة على معين منهما ثم منعوا تلك الشهادة حين لم يعرفوا البائع بعينه. وكذلك دار في يد رجل أقام البينة انه باعها من أحد هذين الرجلين ولا يعرفونه بعينه فشهادتهم باطلة لجهالة المشهود عليه. دار في يد رجل فادعى رجل انه اشتراها كلها بالف وادعي آخر انه اشترى نصفها بخمسمائة وادعى آخر انه اشترى ثلثها بستمائة درهم وأقاموا البينة فهم بالخيار ان شاؤا أخذوها وان شاؤا تركوها لان عند تعارض البينات لابد من أن تتفرق الصفقة على كل واحد منهم فيما أثبت شراءهم فيه فالخيار كذلك فان أخذوها كان لصاحب الجميع المثلث خاصة وكان السدس بينه وبين صاحب الثلثين نصفين وكان النصف بينهم أثلاثا ولزم كل واحد منهما حصة ما أخذ من الثمن في قياس قول أبى حنيفة رحمه الله وأصل هذه المسألة أن القسمة في هذا الفصل على طريق المنازعة عند أبى حنيفة رحمه الله وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله على طريق العول وقد بينا هذا الفصل في شرك كتاب الدعوى وجمعنا فيها نظائر هذه المسألة واضدادها فنقول في تخريج قول أبى حنفية رحمه الله لا منازعة في الثلث لمدعى النصف ومدعى الثلثين ومدعى الجميع يدعى ذلك فيسلم له الثلث ثم ما زاد على النصف إلى تمام الثلثين وهو السدس لا منازعة فيه لصاحب الثلث وقد استوى فيه حجة صاحب الثلثين وصاحب الجميع فيقضى بينهما نصفان وفي النصف استوى حجة صاحب الكل والثلثين والنصف فيقضى به بينهم اثلاثا وسهام الدار في الحاصل اثنى عشر لحاجتنا إلى سدس يقسم نصفين فصاحب الجيمع اخذ مرة أربعة ومرة سهما ومرة سهمين فانه ما يسلم له سبعة أسهم من اثنى عشر سهما ولذلك نصف الدار ونصف سدسهما فيلزمه ذلك القدر من الثمن وصاحب الثلثين اخذ مرة سهما ومرة سهمين وذلك ثلاثة وهو ربع الدار وصاحب النصف ما أخذ إلا سهمين وهو سدس الدار فاما عندهما القسمة على طريق العول واصل سهام الدار ستة فصاحب الجميع يضرب بستة وصاحب الثلثين باربعة وصاحب النصف بثلاثة فتكون جملة هذه السهام ثلاثة عشر ويقسم الدار بينهم على ذلك فان ادعاها رجلان وأقام أحدهما البينة على شراء الجميع والاخر البينة على شراء النصف ولصاحب الجميع ثلاثة أرباع الدار لان النصف سالم له بلا منازعة ونصف النصف الاخر بالمنازعة ولصاحب

[ 166 ] النصف ربعها في قول أبى حنيفة رحمه الله وفي قولهما القسمة على طريق العول فتكون الدار بينهما اثلاثا وان ادعى أحدهما الرهن والقبض والاخر الشراء بالف والقبض وأقام البينة فان عرف الاول فهى للاول لان مدعى الرهن إذا أثبت حقه في وقت لا ينازعه الاخر فيه فشراء الاخر بعد لا يجوز بدون اجازته وان لم يعلم فصاحب الشراء أولى لان الشراء أقوى من الرهن لان الشراء موجب الملك في البدلين والرهن لا يوجب لان الشراء يلزم بنفسه وان لم يتصل به القبض والرهن لايتم الا بالقبض والشراء يلزم من الجانبين والرهن لا يلزم في جانب المرتهن لتمكنه من الرد متى شاء والضعف لا يظهر في مقابلة القوى فان أقام أحدهما البينة على الشراء والاخر على الهبة والصدقة فصاحب الشراء أولى لان الشراء عقد معارضه يلزم بنفسه وموجب الملك في البدلين فيكون أقوى من التبرع الذي لايم بالقبض فان أثبت صاحب التبرع قبضه سابقا فهو اولى لانه اثبت ملكه في وقت لا ينازعه الاخر فيه وكذلك ان كانت الدار في يد صاحب الصدقة ولا يدري أيهما أول فصاحب الصدقة أولى لان تمكنه من القبض دليل سبق عقده فيكون هو أولى إلا أن يقيم صاحب الشراء البينة انه أولى وان أقام كل واحد منهما البينة انه ارتهنها بالف ففى القياس لا يكون رهنا لواحد منهما وبهذا نأخذ وفي الاستحسان يكون لكل واحد منهما نصفها رهنا لان كل واحد منهما اثبت الرهن منه بالبينة والقضاء بالبينتين ممكن فان رهن الدار الواحدة من رجلين بدين لهما عليه صحيح ووجه القياس أن الحجتين لما استوتا فلابد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف واثبات حكم الرهن لكل واحد منهما في النصف شائعا غير ممكن فتبطل البينتان كما لو أقام رجلان كل واحد منهما البينة على نكاح امرأة واحدة وأخذنا بالقياس لان وجه القياس أقوى فان في الرهن من رجلين العقد واحد وكل واحد منهما راضى بثبوت حق صاحبه في الحبس فامكن اثبات ملك اليد الذي هو موجب الرهن لهما في المحل من غير شيوع بأن يجعل كأن العين كلها محبوسة بدين كل واحد منهما ولا يتأتى ذلك هنا لان كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه بعقد على حدة ولا يرضى كل واحد منهما بثبوت حق صاحبه معه فلابد من القضاء لكل واحد منهما بالنصف وان رهنها من رجلين النصف من هذا بدينه والنصف من هذا بدينه لم يجز فلهذا نأخذ بالقياس فان ادعى أحدهما الرهن والقبض وادعى الاخر الهبة على عوض والتقابض فأقام البينة فانه يقضي بهذا للذي يدعى الهبة على عوض لان الهبة بشرط العوض بعد التقابض

[ 167 ] بمنزلة البيع وقد بينا انه يترجح دعوى الشراء على دعوى الرهن عند تعارض الحجج ولو كانت هبة بغير عوض قضيت بها لصاحب الرهن من قبل انه قد نفذ ماله فيه وقد كان ينبغى في قياس القول الذي قلنا قبل هذا ان يكون لصاحب الهبة ومعنى هذا أن صاحب الهبة في القياس أولى لانه يثبت ببينته مالك العين لنفسه والمرتهن لا يثبت ذلك ببينته وكل واحد من العقدين لايتم الا بالقبض فيترجح الموجب للملك في العين منهما وفي الاستحسان الرهن أولى لانه عقد ضمان فالمقبوض بحكم الرهن بما يقابله من الدين والمقبوض بحكم الهبة لا يكون مضمونا أقوى من عقد التبرع فلهذا كانت بينة صاحب الرهن أولى وللقياس وجه آخر وهو ان الرهن لايرد على الهبة والهبة ترد على الرهن فانه بعد الهبة منه لو رهنه كان باطلاق وبعد الرهن لو وهبه من المرتهن كان صحيحا فعند التعارض يترجح الوارد لكن في الاستحسان قال لابد من اثبات حق المرتهن فثبوت الملك للرهون له لايمنع ثبوت حق المرتهن فيها فان الواهب إذا رهن الموهوب بدينه برضاء الموهوب له حاز ولا يمكن اثبات الهبة مع ثبوت حق المرتهن فانه بعد الرهن لو وهب برضاء المرتهن وسلم يبطل حق المرتهن فلهذا جعلنا الرهن أولى من الهبة وان أقام كل واحد منهما البينة أنه تصدق بها عليه وقبضها لم يقض لواحد منهما لانه انما يقضي لكل واحد منهما بنصفها والهبة لا تتم في المشاع الذي يحتمل القسمة وزعم بعض أصحابنا رحمهم الله ان هذا قول أبى حنيفة رحمه الله فاما عندهما ينبغى أن يقضى بها بينهما نصفان بمنزلة هبة الدار من رجلين والاصح ان هذا قولهم جميعا لانهما انما يجوز ان ذلك عند اتحاد العقد والاتحاد في جانب الواهب فاما إذا وهب النصف من كل واحد منهما في عقد على حدة لا يجوز وهنا كل واحد منهما أثبت ببينته الهبة منه في عقد على حدة فلهذا لا يقضى لكل واحد منهما بنصفها فان شهدت احدهما انه أول فهى له لانه أثبت ملكه في وقت لا ينازعه الاخر فيه وان لم يشهدوا بذلك وهى في يد أحدهما فهى لذي اليد لان تمكنه من القبض دليل سبق عقده وإذا كانت الدار في يد ثلاثة رهط فادعى احدهم الجميع والاخر النصف وادعى الثالث الثلثين وليست لهم بينة فلكل واحد منهم مافى يده لان في يد كل واحد منهم ثلث الدار فدعوى كل واحد منهم ينصرف إلى مافى يده ولان قوله مقدم فيه على قول الخارج لانه مستحق لما في يده باعتبار ظاهر اليد ويحلف كل واحد منهما على دعوى الاخر لان صاحب الجميع يدعى لنفسه جميع مافى يد صاحبيه وهما ينكران ذلك وصاحب الثلثين يدعي نصف مافى يد كل

[ 168 ] واحد من صاحبيه وهما ينكران ذلك فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبيه فان حلفوا فلكل واحد منهما الثلث باعتبار يده وان نكلوا عن اليمين في دعوى صاحب الجميع وحلف صاحب الجميع لهما فالدار كلها له لان نكولهما كاقرارهما له بذلك أو كبد لهما له مافى أيديهما ولكن هذا إذا حلف صاحب الجميع لهما وحلف كل واحد منهما لصاحبه أيضا وان نكلوا عن اليمين لصاحب الثلثين وحلفوا لصاحب الجميع والنصف كان لصاحب الثلثين الذي في يده ويأخذ نصف ما في يد كل واحد من صاحبه لانه يدعى ثلثى الدار ونصف ذلك وهو الثلث في يده ونصفه في يد كل واحد منهما سدس الجميع وذلك نصف مافى يد كل واحد منهما ونكولهما بمنزلة الاقرار وان نكلوا عن اليمين لصاحب النصف وحلفوا لصاحب الثلثين وصاحب الجميع فصاحب النصف يأخذ ربع ما في يد كل واحد من صاحبيه لانه يدعى نصف الدار فثلثا ذلك النصف في يده والثلث في يد صاحبيه وذلك السدس في يد كل واحد منهما نصف سدس الجميع وهو ربع الثلث الذي في يده فكل واحد منهما بالنكول صار مقرا له بذلك وان نكل صاحب الجميع عن اليمين لصاحب النصف وحده وحلف بعضهم لبعض فصاحب النصف يأخذ مما في يد صاحب الجميع ربع ما في يده وهو نصف سدس جميع الدار لانه بالنكول صار مقرا له بالقدر الذي ادعاه في يده نصف سدس جميع الدار وان قامت لهم جميعا البينة فلصاحب النصف الثمن ولصاحب الثلثين الربع ولصاحب الجميع خمسة عشر وسهما من أربعة وعشرين سهما في قول أبى حنيفة رحمه الله لان بينة كل واحد منهم لم تقبل فيما في يده وتقبل فيه بينة الاخر ثم القسمة عنده على طريق المنازعة في الثلث الذي في يد صاحب النصف تقبل فيه بينة صاحب الجميع وصاحب الثلثين ثم نصف ذلك الثلث يسلم لصاحب الجميع بلا منازعة والنصف الاخر بينهما نصفان للمنازعة فيحتاج إلى حساب ينقسم ثلاثة ارباع وذلك اثنا عشر فصارت سهام الدار على اثنى عشر سهما ففى يد صاحب الجميع ثلث الدار وصاحب الثلثين يدعى نصف ذلك وصاحب النصف يدعى ربع ذلك فيقضى لكل واحد منهما بمقدار ما ادعى من ذلك وفي يد صاحب الثلثين أربعة صاحب الجميع يدعى جميع ذلك وصاحب النصف ربع ذلك وثلاثة ارباعه يسلم لصاحب الجميع والربع وهو سهم واحد استوت منازعتهما فيه فكان بينهما نصفان فانكسر بالانصاف فاضعف السهام فلهذا صارت الدار سهام أربعة وعشرين في يد كل واحد منهم ثمانية ثم سلم لصاحب الجميع ما في يد صاحب النصف ستة وما في يد صاحب

[ 169 ] الثلثين سبعة وبقى له مما كان في يده سهمان فجملة ذلك خمسة عشر سهما وصاحب الثلثين أخذ من يد صاحب النصف سهمين ومن يد صاحب الجميع أربعة فذلك ستة وهو ربع جميع الدار وصاحب النصف أخذ من يد صاحب الجميع سهمين ومن يد صاحب الثلثين سهما فذلك ثلاثة وهو ثمن الدار وقد بينا تخريج المسألة على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله في كتاب الدعوى في اعتبار القسمة على طريق العول فان السهام عندهما ترتفع إلى مائة وثمانين فلم يعد هنا كراهة التطويل وكذلك إذا لم يكن بينة ونكلوا عن اليمين فهو ومالو أقام البينة في حكم الاستحقاق والتخريج سواء. وإذا كانت الدار في يد رجلين وعبد أحدهما والعبد مأذون عليه دين وكل واحد منهم يدعى الدار كلها فهى بينهم أثلاثا لان المولي من كسب عبده المديون كالأجنبي فان حق غرمائه في كسبة مقدم على حق المولى فتظهر يده في معارضة يد المولى كيد المكاتب فان لم يكن على العبد دين فالدار بين الحرين نصفان لان كسب العبد هنا حق مولاه ويده من وجه كيد مولاه فلا معتبر بيده في معارضة يد المولى وانما يبقى المعتبر في الدار يد المولى ويد الاجنبي فهى بينهما نصفان بمنزلة ثوب ينازع فيه رجلان وفي يد أحدهما عامة الثوب وفي يد الاخر طرف الثوب فانه يقضى به بينهما نصفان. دار في يد رجل يدعى رجل انه اشتراها من آخر وهو يملكها يوم باعها وأقام البينة وذو اليد يقول ليست لى فانى أقضى بالدار للمدعى لانه أثبت الملك لنفسه باثباته الشراء ممن كان مالكها وذو اليد لم يخرج من خصومته بقوله ليست لى فانه كان خصما له باعتبار يده فيها وبهذا اللفظ لا يتبين أن يده فيها ليست بيد خصومة فقضى بالدار للمدعى الا أن يقيم ذو اليد البينة انها عارية في يده أو باجارة أو بوكالة بالقيام عليها من رجل غير البائع فان أقام على ذلك بينة فلا خصومة بينهما لانه أثبت بان يده فيها يد حفظ لايد خصومة وهذه مخمسة كتاب الدعوى فان جاء المشترى ببينة ان ذلك الرجل سلطه على قبضها من هذا الساكن قبضها وقضى له بذلك لانه أثبت ببينته انه أحق بحفظها منه وانه ثبت له حق نقلها من يد ذي اليد إلى يد نفسه بامر صاحبها اياه بذلك ولو عاين ما أثبته البينة كان له حق قبضها فكذلك إذا ثبت ذلك بالبينة والله أعلم (باب ما يكون بين الرجلين فيه خصومة) (قال رحمه الله دار في يد رجل رهن والراهن غائب فادعاها رجل وأقام البينة فان أقام

[ 170 ] المرتهن البينة انها رهن في يده فلا خصومة بينهما) لانه أثبت ببينته أن يده فيها يد حفظ لايد خصومة فالمرهون عينه أمانة في يد المرتهن بمنزلة الوديعة ولئن كان مضمونا فهو ضمان لا يوجب الملك له في العين بحال ولو كان مضمونا ضمانا يوجب الملك له إذا تقرر كالمغصوب لم يكن خصما فيه لمدعى الملك فإذا كان دون ذلك أولى وكذلك لو كان المرتهن الذي الدار في يده غائبا والراهن حاضرا فلا خصومة بينه وبين المدعى لان دعوى الملك لا تسمع في العين الاعلى ذي اليد واليد فيها مستحقة للمرتهن وهو غائب والاجارة والعارية في ذلك كالرهن وان لم يقيم ذو اليد البينة على ذلك فهو خصم لظهوره يده فيها ومنفعة المدعى منها بيده فلا يخرج من خصومته بمجرد قوله وكذلك لو قال انها ليست لى ولم ينسبها إلى أحد فهو خصم فيها لان بينته على هذا لاتقبل وبدون البينة لا يخرج من خصومته * يوضحه انه انما يخرج ذو اليد من الخصومة إذا أحال المدعى على رجل معروف يتمكن من الخصومة معه حتى لو قال هو لرجل عارية عندي وأقام البينة على ذلك لم تندفع الخصومة عنه فلان لا تندفع بقوله ليست لى أولى وان أقر المدعى انها في يده باجارة أو عارية أو رهن فلا خصومة بينهما فيها لان اقراره ملزم اياه وقد أقر أنه ليس بخصم له وان كان المدعى ادعى انه اشتراها من فلان وادعى ذو اليد أن فلانا ذلك أسكنها اياه ولم يقم البينة على ذلك فلا خصومة بينهما لانهما تصادقا على أن أصل الملك فيها لفلان فتكون أصولها إلى يد ذي اليد من جهة فلان وفلان ذلك لو حضر لم يكن بينه وبين ذى اليد خصومة لاقرار ذي اليد له بها عليه فكذلك لا خصومة بينه وبين من يدعى تلقى الملك من جهة فلان الا أن يقيم المدعى البينة أن البائع وكله بقتضها منه فإذا أقام البينة على ذلك يجب على ذى اليد دفعها إليه لانه أثبت البينة انه أحق بامساكها واثبات اليد عليها من ذى اليد والعروض في جميع ما ذكر كالعقار وإذا كانت الدار بين شريكين فغاب أحدهما فادعى رجل أنه اشترى من الغائب نصيبه لم يكن الشريك خصما له في ذلك لانه ادعى سبب ملك جديد بينه وبين الغائب في نصيبه والحاضر ليس بخصم عن الغائب فيما يدعى قبله ولان ذا اليد مقر أن يده في نصيب الغائب من جهته فلا يكون خصما لمن يدعى بملكه عليه وان ادعى انه اشتراها أو بعضها من الميت الذي ورثوها منه كان الحاضر خصما عن نفسه وعن الغائب لانه يدعى سبب الاستحقاق على الميت وأحد الورثة خصم عن الميت وعن سائر الورثة فيما يدعى على الميت كدعوى الدين ويستوى ان كانوا قسموا الدار أو لم يقسموا لان قسمتهم في حق المدعى إذا

[ 171 ] ثبت فشراؤه باطل. دار في يد رجل بشراء فاسد فادعاها آخر فالمشتري خصم فيها لان المشترى يملك رقبتها وكل من يملك الرقبة أو يدعيها خصم له وهذا بناء على أصلنا أن الشراء الفاسد موجب للملك بعد القبض وانما نص على حكم الملك هنا. دار في يد رجل فادعاها آخر وأقام كل واحد منهم البينة أنه اشتراها من يد رجل واحد والمدعى هو الاول ولم ينقد الثمن والبائع غائب فانى أقضي بها للمدعي لان ذي اليد زعم انها ملكه فيكون خصما فيها للمدعى وانما يزعم أنه يملكها من جهة البائع فيكون خصما عنه في اثبات سبب الملك عليه وقد أثبت المدعى تقدم شرائه بالبينة فيقضى بالدار له ويستوفى منه الثمن فان كان ذو اليد قد نقد الثمن أعطيته الثمن قصاصا لانه استحق الرجوع على البائع بما أدي إليه من الثمن وقد ظفر بماله من جنس حقه فيأخذ مقدار حقه من ذلك وللقاضي أن يعينه عليه لما يثبت حق الاخذ وان كان فيه فضل أمسكه على البائع لانه مال الغائب فيحفظه عليه وهذا إذا كان البائع أقر عند القاضى بقبض الثمن من ذي اليد قبل غيبته فان لم يكن كذلك وأقام ذو اليد البينة على أنه كان أعطاه الثمن لم يقض القاضى بشئ لانه يقيم البينة على الغائب ولا يقضى القاضي على الغائب بالبينة إذا لم يحضر عنه خصم وان كان ذو اليد لم ينقد للبائع الثمن أو كانت الدار في يده بهبة أو صدقة دفعتها إلى المدعى لاثباته سبب الملك فيها بتاريخ سابق وأخذت الثمن منه للبائع لانه مال الغائب فيحفظ عليه والحاصل أن المشترى يحتاج إلى اثبات الملك على البيع ينتفع به ويتصرف فيه ولا يتمكن من ذلك الا بنقد الثمن فالقاضي ينظر لهما فيستوفي الثمن منه لمراعاة حق الغائب ويسلم الدار إليه ليتوصل الانتفاع بملكه. رجل باع جارية من رجل ثم غاب المشترى ولا يدري أين هو فاقام البائع على ذلك بينة فان القاضي يسمع بينته لانه يزعم أنه قد وجب على القاضى النظر إليه وللمفقود في ماله فإذا أثبت ذلك بالحجة قبل القاضى ذلك منه وباع الجارية على المشترى بطريق حفظ ملكه عليه لان عين الملك لا تبقى له بدون النفقة وحفظ الثمن أيسر عليه من حفظ العين فإذا باعها نقد البائع الثمن لانه ظفر بجنس حقه من مال غريمه واستوثق منه بكفيل نظرا منه للغائب لجواز ان يكون قد استوفى الثمن وابراء المشتري من ذلك فان كان فيه فضل أمسك الفضل للمشتري وان كان وضيعه فذلك على المشتري لان قبض القاضى له الجارية كقبض المشترى اياها بنفسه فيه يتقرر عليه جميع الثمن ويطالبه البائع بمقدار الوضيعة إذا حضر وان كان أبرأه المشتري لم يبع القاضي الجارية لان ثبوت الولاية للقاضى بطريق

[ 172 ] النظر منه لهما وذلك عند الضرورة إذا كان لا يوقف على موضع المشترى فاما إذا كان يعرف ذلك فالبائع متمكن من أن يبيعه ويطالبه بالثمن وملكه مضمون على البائع بالثمن فليس للقاضى ان يبطل عليه عين ملكه لاتصال البائع إلى حقه والله أعلم بالصواب (باب اختلاف الشهاة) (قال رحمه الله شاهدان شهدا ان فلانا طلق امرأته فشهد احدهما انه طلقها يوم الجمعة بالبصرة والاخر انه طلقها في ذلك اليوم بعينه بالكوفة لم تقبل شهادتهما لانا تيقن بكذب احدهما) فان الانسان في يوم واحد لا يكون بالبصرة والكوفة (ألا ترى) انه لو شهد بكل واحد من اللفظين رجلان لم تقبل الشهادة لهذا فإذا شهد لكل واحد منهما رجل واحد أولى بخلاف مااذا شهد أحدهما انه طلقها بالكوفة والاخر انه طلقها بالبصرة ولم يوقتا وقتا فهناك الشهادة تقبل لان الطلاق كلام يتكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في المكان. رجل يدعى دارا في يد رجل انها له وشهد له بها شاهدان احدهما بالشراء والاخر بالهبة فالشهادة باطلة لان المدعى لابد أن يدعى أحد السببين وبه يكون مكذبا أحد الشاهدين لا محالة ولان الهبة غير البيع وليس على واحد من السببين حجة تامة وكذلك لو شهد أحدهما بالهبة والاخر بالصدقة أو الرهن أو الميراث أو الوصية فهو باطل للمعينين وكذلك لو شهد احدهما بالميراث والاخر بالوصية فهو باطل للمعينين وإذا ادعى دارا في يد رجل أنه وهبها له وانه لم يتصدق بها عليه واقام شاهدين على الصدقة وقال لم يهبها لى قط وقد ادعى الهبة عند القاضى فهذا اكذاب منه لشاهديه وهو تناقض منه في الكلام فقد زعم مرة انه لم يتصدق بها عليه ثم ادعى الصدقة بعد ذلك وزعم مرة انه وهبها له ثم قال لم يهبها لى قط ولا تناقض أظهر من هذا ومع التناقض لا يسمع دعواه والبينة لاتقبل الا بعد دعوى صحيحة ثم اكذاب المدعى شاهدة تخرج شهادته من أن تكون حجة له وكذلك لو ادعى انها ميراث لم يشترها قط ثم جاء بعد ذلك فقال هي بشراء ولم ارثها قط وجاء بشاهدين على الشراء منذ سنة فهو باطل لمعنى التناقض والا كذاب فان ادعاها هبة ولم يقل لم يتصدق بها على قط ثم جاء بعد ذلك بشهود على الصدقة وقال لما جحدني الهبة سألته ان يتصدق بها على ففعل اجزت هذا لانه وفق بين كلامية بتوفيق صحيح فينعدم له الا كذاب والتناقض

[ 173 ] (ألا ترى) انا لو عاينا ما أخبر به كان الملك ثابتا له بجهة الصدقة فكذلك إذا أخبر به واثبته بالبينة وكذلك لو قال ورثتها ثم قال حجدنى الميراث فاشتريتها منه وجاء بشاهدين على الشراء لان معنى التناقض والا كذاب انعدم بتوفيقه وهذا بخلاف مالو كان ادعى الشراء أولا ثم جاء بشاهدين يشهدان على انه ورثه من ابيه لان هذا في هذا المواضع لاوجه للتوفيق لانه لا يمكنه ان يقول اشتريتها منه كما ادعيت ثم جحدني الشراء فورثتها من أبى وإذا اختلف شاهدا الرهن في جنس الدين أو مقداره فالشهادة لاتقبل لا كذاب المدعى أحد الشاهدين ولان الدين مع الرهن يتحاذيان محاذاة الثمن للمبيع ثم اختلاف الشاهدين في الثمن يمنع قبول شهادتهما على البيع فكذلك في الرهن فان اتفقا على ذلك واختلفا في الايام والبلدان وهما يشهدان على معانية القبض فالشهادة جائزة في قول أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله استحسانا وفي القياس لاتقبل وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وعلى الخلاف الهبة والصدقة وان شهدوا على اقرار الرهن والواهب والمتصدق بالقبض جازت الشهادة بالاتفاق وجه القياس ان تمام هذه العقود بالقبض والقبض فعل واختلاف الشاهدين في الوقت والزمان في الافعال يمنع قبول الشهادة كالغصب والقتل وهذا لان المشهود به مختف فالفعل الموجود في مكان غير الموجود في مكان آخر بخلاف مااذا شهدوا على الاقرار فالاقرار كلام مكرر * يوضحه انه لو شهد احدهما بمعاينة القبض والاخر باقرار الراهن به لم تقبل الشهادة وجعل الرهن في هذا كالغصب ولم يجعل كالبيع فكذلك إذا اختلفا في المكان والزمان وللاستحسان وجهان أشار إلى أحد الوجهين هنا (فقال) لان القبض قد يكون غيره مرة واشار إلى الوجه الآخر في كتاب الرهن (فقال) لانه لا يكون رهنا ولاقبضا إلا باقرار الراهن ومعنى ما ذكر هنا ان القبض بحكم الرهن فعل صورة ولكنه بمنزلة القول حكما لانه يعاد ويكرر ويكون الثاني هو الاول (ألا ترى) أن المرتهن إذا قبض الرهن ثم استرده الراهن منه غصبا أو أعاره المرتهن اياه ثم قبضه منه ثانية فهذا يكون هو القبض الاول حتى يكون مضمونا باعتبار قيمته عند القبض الاول فعرفنا أنه مما يعاد ويكرر فلا يختلف المشهود به باختلاف الشاهدين في وقته بخلاف الغصب والقتل ولما أخذ شبها من أصلين توفر حظه عليهما (فنقول) لشبهه بالافعال صورة إذا اختلف الشاهدان في الانشاء والاقرار لا تقبل الشهادة ولشبهه بالاقوال حكمالا يمتنع قبول الشهادة باختلاف الشاهدين فيه في الوقت والمكان ومعنى ما ذكر في كتاب الرهن ان حكم ضمان الرهن

[ 174 ] لا يثبت الا باقرار الراهن أنه مرهون عندك بالدين فان بدون هذا القول إذا قبضه المرتهن بغير اذن الراهن فهو غاصب وإذا سلمه الراهن إليه فهو مودع فعرفنا أن حكمه لا يثبت الا باقرار الراهن فباعتبار حكمه جعلناه كالاقوال وجعل شهادة الشاهدين على المعاينة فيه وشهادتهما على الاقرار به سواء فكما أن في الشهادة على الاقرار اختلافهما في الوقت والزمان لايمنع العمل بشهادتهما فكذلك في الشهادة على المعاينة. وإذا طلب الرجل شفعة في دار وأقا شاهدين على الشراء واختلفا في الثمن أو في البائع فشهادتهما باطلة لاختلافهما في المشهود به لان المدعى مكذب احدهما لا محالة ولو اتفقا على الاقرار بالشراء من واحد بمال واختلفا فقال احداهما كنا جميعا في مكان كذا وقال الآخر كنا فرادى أو قال أحدهما كنا في البيت وقال الآخر في المسجد أو قال أحدهما كان ذلك بالغداة وقال الآخر كان بالعشي فشهادتهما جائزة لانهما اتفقا في المشهود به وهو الاقرار واختلفا فيما لم يكلما حفظه وفعله في الوقت والمكان فلا يقدح ذلك في شهادتهما كما لو اختلفا في الثياب التى كانت عليهما أو المراكب أو فيمن حضرهما وبيان الوصف انهما لو سكتا عن بيان الوقت والمكان والوصف لم يسألهما القاضى عن ذلك ولو سألهما فقالا لانحفظ ذلك لا تبطل شهادتهما ثم ذكر بعض مسائل أدب القاضى وروي فيه حديث الشعبي رحمه الله في كتاب عمر إلى معاوية رضى الله عنهما في القضاء وقد تقدم بيان ذلك في أداب القاضى وذكر عن رسول الله ﷺ قال من الحزم أن يستشير أولى الرأى ثم يطيعهم وفيه دليل أنه لا ينبغى للقاضى أن يترك الاستشارة وكذلك غير القاضى إذا حزبه أمر فالمشورة تلقيح للعقول وقد قال ﷺ ما هلك امرؤ عن مشورة وكان رسول الله ﷺ يستشير أصحابه رضى الله عنهم في كل شئ حتى في قوت أهله وادامهم وفيه دليل على أنه انما استشار أولي الرأى الكامل ويتحرز عن مشورة ناقصات العقل من النسوان وان من استشار أولى الرأى الكامل من الرجال فعليه أن يطيعهم إذا لم يتهمهم فيما أشاروا عليه لان فائدة المشهورة لا تظهر الا بالطاعة وإذا شهد شاهدان أن فلانا أقر أن هذا الثوب ثوب فلان وهو في يده وشهد آخر أن فلانا الذي شهدا له أقر بها لفلان الذي شهد عليه فهو لذي اليد لان البينتين تعارضتا في الاقرار فيها رأيا كما لو عاين الاقرارين ويبقى الثوب في يد ذي اليد مستحقا له بيده وان كان في يدهما فهو بينهما نصفان لاستوائهما في استحقاقه باليد. دار بين رجلين فأقام كل واحد منهما البينة

[ 175 ] أن فلانا أقر له بها ووقتا فهى لصاحب الوقت الاخر ولانسبة لهذا البيع يعنى إذا أقام كل واحد منهما البينة أن فلانا باعها منه ووقتا فهى لصاحب الوقت الاول والفرق بينهما أن كل واحد منهما يدعى أن وصولها إليه من جهة فلان ففى مسألة الاقرار الذي أقام البينة على الوقت الاخر أثبت اقرار فلان بها له منذ شهر وذلك يمنع دعوى فلان الملك لنفسه فيها منذ سنة فكذلك يمنع دعوى من يثبت الملك لنفسه ببينته منذ سنة باقرار فلان له بها منذ سنة وذلك يمنع فلانا من أن يثبت الملك لنفسه فيها منذ شهر باقرار فلان له بها فلهذا رجحنا صاحب الوقت الاخر وفي البيع ثبوت الشراء منذ شهر لايمنع فلانا من دعوى الملك فيها لنفسه منذ سنة فكذلك لايمنع من يدعي تملكها من جهته من أن يثبت بيعها منه منذ سنة وإذا وجب قبول بينته على ذلك ثبت شراؤه في وقت لا ينازعه الاخر فيه فانما أثبت الاخر بعد ذلك الشراء من غير المالك وعلى هذا لو أقام البينة أنه باع هذه الدار من فلان منذ سنة وأقام الاخر البينة منذ سنتين فهى للذي أقام البينة على سنتين لان كل واحد منهما مثبت الملك لنفسه باقامته البينة على تمليكها من فلان بالبيع فيترجح أسبق التاريخين لانعدام منازعة الاخر معه في ذلك الوقت وإذا لم يوقتا فهى لذي اليد لانفاقهما على أنها مملوكة مسلمة إليه وانما يدعى كل واحد منهما الثمن في ذمته لنفسه وقد أثبته بالبينة وفي الذمة سعة وإذا ادعى على رجل الفى درهم أو الفا وخمسمائة وشهد له شاهد بالالف والاخر بالف وخمسمائة قضى له بالالف لاتفاق الشاهدين على الالف لفظا ومعنى فالالف وخمسمائة جملتان أحدهما معطوفة على الاخرى فبعطف أحدهما الخمسمائة على الالف لا يخرج من أن يكون شاهدا له بالف لفظا بخلاف ما قال أبو حنيفة رحمه الله فيما إذا شهد أحدهما بعشرة والاخر بخمسة عشر لان هناك اختلفا في المشهود به لفظا فخمسة عشر اسم واحد لعدد (ألا ترى) أنه ليس فيه حرف العطف فهو نظير الالف والالفين فان كان المدعي يدعى الفا فقد أ كذب الذي شهد على الف وخمسمائة فلا تقبل شهادتهما له الا أن يوفق فيقول كان أصل حقى ألفا وخمسمائة لكنى استوفيت خمسمائة أو ابرأته منها ولم يعلم به هذا الشاهد فحينئذ تقبل شهادتهما على الالف لانه وفق بتوفيق صحيح محتمل وان اختلفا في جنس المال فشهادتهما باطلة لان المدعى يكذب احدهما ولان المشهود به مختلف وليس على واحد من المالين شهادة شاهدين ولو شهدا على قتل أو قطع أو غصب أو عمل واختلفا في الوقت أو المكان أو فيما وقع به القتل كانت الشهادة باطلة

[ 176 ] لاختلافهما في المشهود به وكذلك ان شهدا احدهما على الفعل والاخر على الاقرار به فهذا اختلاف في المشهود به وان شهد على اقرار القائل به في وقتين مختلفين أو في مكانين مختلفين قبلت الشهادة لان الاقرار قول فلا يختلف المشهود به باختلافهما في الوقت والمكان به ولو ادعى ثوبا في يد رجل انه رهنه منه منذ عشرة أيام فجاء بشاهدين فشهد أحدهما انه وهبه منه منذ عشرة أيام والاخر منذ خمسة عشر يوما فالشهادة باطلة لان المدعى مكذب أحد شاهديه وقد أقر بأنه كان مملوكا للواهب قبل عشرة أيام وذلك يمنع دعواه ما شهد به هذا من هبته منذ خمسة عشر يوما ولو لم يوقت المدعى جازت الشهادة لانه غير مكذب واحدا منهما والمشهود به قول أو ما هو كالقول حكما فاختلاف الشاهدين في الوقت لايمنع قبول الشهادة فيه. وإذا شهد الوصي على الميت بدين أو على رجل بدين للميت فشهادته بالدين على الميت صحيحة وبالدين للميت مردودة لانه فيما شهد به للميت يثبت حق القبض لنفسه فيكون متهما ولاتهمة فيما شهد به على الميت الا ان يكون قد قضاه من التركة فحينئذ هو متهم في شهادته من حيث انه يقصد به اسقاط الضمان عن نفسه وإذا شهد الوصي على الميت بدين لبعض الورثة فان ذلك جائز للكبار لخلوها عن التهمة ولايجوز للصغار لتمكن التهمة في شهادته فحق القبض في ذلك إليه وكذلك لو شهد لبعض الورثة على البعض بحق في شهادته للكبار جائزة وللصغار مردودة لانه لا يقبض للكبار شيئا وهو يقبض ما يجب للصغار فيكون في معنى الشاهد لنفسه وإذا قضى القاضى على رجل بأرض أو دار في يديه ببينة قامت عليه بذلك ودفعها إلى المقضى له ببنائها ثم ان المقضي له اقر ببنائها للمقضى عليه فانه يدفع ذلك إليه باقراره ولايكون هذا الاقرار اكذابا منه لشهوده في الارض لان المشهد به الارض والبناء انما يدخل تبعا كما يدخل في البيع تبعا من غير ذكر وليس من ضرورة كون البناء للمشهود عليه الا ان يكون الارض للمدعى كما شهد به الشهود وكذلك إن أقام المقضى عليه البينة انه قد بنى فيها هذا البنأ فهو له لما بينا أنه انما صار مقضيا عليه بالاصل والبناء تبع في ذلك فكذلك القضاء لا يمنعه من اثبات حق نفسه في البناء وان كان المدعى حين أقام البينة شهد الشهود ان هذه الدار لهذا المدعي ببنائهما فأقر هو بالبناء للمقضى عليه أبطلت الشهادة لانه أكذب شهوده لانهم صرحوا في شهادتهم بملك البناء له مقصودا وقد كذبهم في ذلك والمدعي متى أكذب شاهدة في بعض ما شهد له به بطلت شهادته في الكل كما إذا ادعى ألفا وشهد له بالف وخمسمائة وإذا وكلت امرأة رجلين بأن تزوجاها

[ 177 ] ثم شهد ان الزوج طلقها ثلاثا وهى تدعى أو تنكر جازت الشهادة لخلوها عن التهمة وكذلك ان كان عمين فزوجا ابنت أخ لهما وهى صغيرة ثم شهدا على الطلاق أو كانا أخوين لها زوجاها ثم شهدا بالطلاق قبلت الشهادة لانهما يثبتان الحرمة حقا لله تعالى ولا يجران إلى أنفسهما شيئا فوجب العمل بشهادتهما والله أعلم (كتاب الرجوع عن الشهادة) (قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله إملاء اعلم بأن أداء الشهادة بالحق مأمور به شرعا) قال الله تعالى وأقيموا الشهادة لله أمروا به للوجوب وقال الله تعالى ولايأب الشهداء إذا ما دعوا والنهى عن الاباء عند الدعاء أمر بالحضور للاداء وقال الله تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمهما فانه آثم قلبه واستحقاق الوعيد بترك الواجب وقال ﷺ كاتم الشهادة بالحق كشاهد الزور وشهادة الزور من الكبائر قال ﷺ في خطبته أيها الناس عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله تعالى ثم تلا قوله تعالى فاجتنبوا الرجس من الاوثان واجتنبوا قول الزور وفي هذا بيان كرامة المؤمن فقد جعل الله تعالى الشهادة عليه بمالا أصل له بمنزلة شهادة الكافر على ذاته بما لاأصل له من شريك أو صاحب أو ولد وقال ﷺ ألا أنبئم باكبر الكبائر قالوا نعم قال الاشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فاستوى جالسا ثم قال ألا وقول الزور فجعل يكررها حتى قلنا ليته يسكت وفي رواية سأله رجل عن الكبائر فقال ﷺ الاشراك بالله وعقوق الوالدين وقتل النفس بغير حق وقول الزور وفي حديث سعيد بن المسيب رضى الله عنه أن النبي ﷺ قال الشاهد بالزور لا يرفع قدميه من مكانهما حتى تلعنه الملائكة في السموات والارض فيحق على كل مسلم الاجتناب عنها بجهده والتوبة عنها متى وقع فيها خطأ أو عمدا وذلك بأن يرجع عن الشهادة وليكن رجوعه في مجلس القضاء لانه فسخ للشهادة التى أداها وقد اختصت الشهادة بمجلس القضاء فالرجوع عنها كذلك وهذا لان التوبة بحسب الجريمة قال ﷺ السر بالسر والعلانية بالعلانية فإذا كانت جريمته في مجلس القضاء جهرا فلتكن توبته بالرجوع كذلك ولا يمنعه الاستحياء من الناس وخوف اللائمة من اظهار الرجوع في مجلس القضاء فلا أن يراقب الله تعالى خيرا له من

[ 178 ] أن يراقب الناس ورجوعه صحيح مقبول في حقه وان كان مردودا فيما يرجع إلى حق غيره حتى إذا رجع قبل القضاء لم يقض القاضي بشهادته لبطلانها بالرجوع وإذا رجع بعد القضاء لم يبطل برجوعه حق المقضى له والاصل فيه الحديث الذي بدأ الكتاب به وروراه عن الشعبي رحمه الله أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب رضى الله عنه على رجل بالسرقة فقطع يده ثم آتيا بعد ذلك بآخر فقال أوهمنا انما السارق هذا فقال علي رضى الله عنه لهما لا أصدقكما على هذا الاخر وأضمنكما دية يد الاول ولو أتى أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما ففيه دليل أن الرجوع عن الشهادة صحيح في حقه وانه عند الرجوع ضامن ما استحق بشهادته وانه غير مصدق في حق غيره للتناقض في كلامه والمناقض لاقول له في حق غيره ولكن التناقض لايمنع الزامه حكم كلامه ثم الشافعي رحمه الله يستدل بالحديث في فصلين أحدهما في وجوب القصاص على الشهود إذا رجعوا بعد ما استوفى العقوبة بشهادتهم وزعموا أنهم تعمدوا ذلك في شهادتهم وفي أن اليدين يقطعان بيد واحدة فقد قال ولو أنى أعلمكما فعلتما ذلك عمدا قطعت أيديكما فإذا جاز قطع اليدين يقطعان بيد واحدة بطريق الشهادة فبالمباشرة أولي ولكنا نقول هذا اللفظ منه على سبيل التهديد بدون التحقيق وقد تهدد الامام بما لا يتحقق قال عمر رضى الله عنه ولو تقدمت في المتعة لرجمت والمتعة لا توجب الرجم بالانفاق ثم لم يكن من علي رضى الله عنه هكذا كذبا لانه علق بما لا طريق إليه وهو العلم بانهما فعلا ذلك عمدا فلم يكن هذا كذاب بهذا التعليق ويحصل المقصود وهو الزجر وهو نظير قوله تعالى بل فعله كبيرهم هذا فاسئلوهم ان كانوا ينطقون ثم لم يكن هذا الكلام من إبراهيم صلوات الله عليه كذبا لانه علقه بما لا يكون ومعناه ان كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم والدليل عليه أن من مذهب علي رضى الله عنه أن اليدين لا يقطعان بيد واحدة فقد روى ذلك عنه في الكتاب فبهذا تبين أن مراده التهديد وذكر عن حماد رحمه الله أنه كان يقول في الشاهدين إذا رجعا عن الشهادة بعد قضاء القاضى فانه ينظر إلى حالهما يوم رجعا فان كان حالهما أحسن منه يوم شهدا صدقهما القاضى في الرجوع ورد القضاء وأبطله وان كان حالهما يوم رجعا مثل حالهما يوم شهدا دون ذلك لم يصدقهما القاضى ولم يقبل رجوعهما ولم يضمنها شيأ وكان القضاء الاول ماضيا وبهذا كان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا ثم رجع فقال لا أبطل القضاء بقولهما لاخر وان كان أعدل منهم يوم شهدا ولكن أضمنهما المال الذي شهدا به وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وجه قوله الاول

[ 179 ] أن كل واحد من الخبرين متردد بين الصدق والكذب فانما يترجح جانب الصدق فيه بالعدالة وحسن حال المخبر فإذا كانت عدالته عند الرجوع أظهر وحاله عند ذلك أحسن فرجحان جانب الصدق في هذين الخبرين بين والظاهر أن رجوعه توبة واستدراك لما كان منه من التفريط والقاضى يتبع الظاهر لانه ما وراء ذلك غيب عنه وإذا كان حاله عند الرجوع دون حاله عنه الشهادة فرجحان جانب الكذب في الرجوع أبين والظاهر أنه بالرجوع قاصد إلى الاضرار بالمقضى له وان كان حاله عند الرجوع مثل حاله عند أداء الشهادة فعند المساواة يترجح الاول بالسبق واتصال القضاء به فان الشئ لا ينقضه ما هو مثله أو دونه وينقضه ما هو فوقه ولاضمان عليه لانه ما يتناول شيأ انما أخبر بخبر وذلك لم يكن موجبا للاتلاف بدون القضاء والقاضى يختار في قضائه فذلك يمنع اضافة الاتلاف إلى الشهادة فلهذا لا يضمن الشاهد شيأ * وجه قوله الاخر أن ظاهر العدالة ترجح جانب الصدق في الخبر ولكن لا ينعدم به معنى التناقض في الكلام وهو بالرجوع مناقض في كلامه فعدالته عند الرجوع لاتعدم التناقض وكما أن القاضى لا يقضى بالكلام المتناقض فكذلك لا ينقض ما قضاه بالكلام المتناقض ثم جانب الصدق يعين في الشهادة وتأكد ذلك بقضاء القاضى في حق المقضى له فيه بتعين جانب الكذب في الرجوع وإذا كان تهمة الكذب عند الرجوع لفسقه يمنع القاضي من ابطال القضاء فتعين الكذب فيه بدليل شرعى لانه يمنعه من ابطال القضاء أولى فلو أبطل القضاء باعتبار هذا المعنى أدى إلى مالا يتناهى لانه يأتي بعد ذلك فيرجع عن هذا الرجوع فيجب اعادة القضاء الاول ولكن يجب الضمان عليه لاقراره عند الرجوع انه أتلف المال على المشهود عليه بشهادته بغير حق والتناقض لايمنع ثبوت حكم اقراره على نفسه والاتلاف وان كان يحصل بقضاء القاضى فسبب القضاء شهادة للشهود وانما يحال بالحكم على أصل السبب وهذا لان القاضى بمنزلة الملجأ من جهتهم فان بعد ظهور عدالتهم يحق عليه القضاء شرعا ثم السبب إذا كان تعديا بمنزلة المباشرة في ايجاب ضمان المال وقد اقر بالتعدي في السبب الذي كان منهما وبهذا السبب سلط المشهود له على مال المشهود عليه ولو تسلطا عليه باثبات اليد لانفسهما ضمنا فكذلك إذا سلطا الغير عليه لان وجوب الضمان للحاجة إلى الجيران ودفع الضرر والخسران عن المتلف عليه وقد تحققت الحاجة إلى ذلك ولا يمكن ايجاب الضمان على القاضى لانه غير متعدى في القضاء بل هو مباشر لما فرض عليه ظاهرا فتعين الشهود لايجاب الضمان عليهم وعن إبراهيم

[ 180 ] رحمه الله قال إذا شهد شاهدان على قطع يد فقضي القاضى بذلك ثم رجعا عن الشهادة فعليهما الدية وان رجع احدهما فعليه نصف الدية وبه نأخذ لانهما سببا لقطع اليد بطريق هو تعدى منهما وهو سبب معتاد في الناس فقد يقصد المرء الاضرار بغيره في نفسه أو ماله بالشهادة الباطلة عند عجزه عن تحصيل مقصوده بالمباشرة والتسبب بهذه الصفة موجب ضمان الدية كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق الا أن ضمان الدية في مالهما لان وجوبه بقولهما وهو اقراهما على انفسهما عند الرجوع وقولهما ليس بحجة على العاقلة وإذا كان ضامنين للدية إذا رجعا كان احدهما ضامنا لنصف الدية إذا رجع لان بشهادة كل واحد منهما يقوم بنصف الحجة فببقاء احدهما على الشهادة تبقى الحجة في النصف أيضا فيجب على الراجح من الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وذلك النصف وكذلك لو شهد بمال فقضى القاضى به ثم رجع أحدهما فعليه نصف المال فان رجعا جميعا فعليهما المالك كله وهذا بخلاف ماذا رجع قبل قضاء القاضى حتى امتنع القاضي من القضاء للمشهود له لانهما لم يتلفا عليه شيئا مستحقا له فالشهادة قبل القضاء لا توجب شيئا للمشهود له فاما بعد القضاء فقد اتلفا على المشهود عليه ماكان مستحقا له من المال فيضمنان له ذلك وعن الشعبي رحمه الله ان رجلين شهدا على رجل انه طلق امرأته ثلاثا وفرق القاضي بينهما ثم تزوجها أحد الشاهدين ثم رجع عن شهادته فلم يفرق بينهما الشعبي وبه كان يأخذ أبو حنيفة رحمه الله وكان يقول فرقة القاضى جائزة ظاهرا وباطنا ولا يرد القاضى المرأة إلى زوجها برجوع الشاهدين ولا يفرق بينهما وبين الزوج الثاني ان كان هو الشاهد وقال محمد رحمه الله لا يصدق الشاهد على ابطال شهادته الاولى ولكنه يصدق على نفسه فيفرق بينه وبينها ان كان هو تزوجها والى هذا رجع أبو يوسف رحمه الله وأصل المسألة أن قضاء القاضى بالمعقود والفسوخ والنكاح والطلاق والعتاق بشهادة الزور تنفذ ظاهرا وباطنا في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الاول رحمهما الله وفي قول أبى يوسف الاخر وهو قول محمد والشافعي رحمهم الله ينفذ قضاؤه ظاهرا لاباطنا حتى إذا ادعى نكاح امرأة وأقام شاهدى زور فقضي القاضي له بالنكاح وسعه أن يطأها في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الاول رحمهما الله ولا يحل له ذلك في قول أبى يوسف الاخر وهو قول محمد والشافعي رحمهم الله وحجتهم في ذلك قوله تعالى ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام فقد نهى الله تعالى عن أكل مال الغير بالباطل محتجا بحكم الحاكم فهو تنصيص على أنه وان قضي القاضى له بالشراء

[ 181 ] بشهادة الزور لا يحل له تناوله ويكون ذلك منه أكلا باطلا وقال النبي ﷺ انكم تختصمون إلى ولعل بعضكم الحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشئ من حق أخيه فانما أقضي له بقطعة من نار والمعنى فيه أن قضاءه اعتمد سببا باطلا فلا ينفذ باطنا كما إذا قضى بشهادة العبيد أو الكفار أو المحدودين في القذف وبيان الوصف أن قضاءه اعتمد شهادة الزور وهو سبب باطل فانه كبير وحجة القضاء مشروعة والكبيرة ضدها وإذا كانت تهمة الكذب تخرج الشهادة من أن تكون حجة للقضاء فحقيقة الكذب أولى ولان ما قضى به لا كون له فيكون قضاؤه باطلا كما لو قضى بنكاح منكوحة الغير لانسان بشهادة الزور وبيان الوصف انه أظهر بقضائه نكاحا كان قد تقدم وإذا لم يكن بينهما نكاح فلا يتصور اظهاره بالقضاء عرفنا أنه قضى بما لاكون له ولايجوز أن يجعل قضاؤه ان شاء لان ولاية الانشاء لم تثبت له فان سبب ولايته دعوى المدعى وشهادة شهوده وهو انما ادعى عقدا سابقا وبذلك شهد شهوده فلا يتمكن القاضى من القضاء بما لم يدعه المدعى ولا يشهد به الشهود ولان القاضى لم يقصد ان شاء العقد بينهما وانما ينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده (ألا ترى) أن قضاءه في الاملاك المرسلة لا ينفذ باطنا لهذا المعنى ولا يجعل ذلك انشاء تمليك منه وبه فارق قضاء القاضى بالفرقة بين المتلاعنين وبيعة التركة في الدين الثابت بشهادة الزور لانه قصد الانشاء هنا وما ظهر عنده من الحجة يصلح للانشاء أيضا وكذلك في المجتهدات يثبت له ولاية الانشاء بما لاح عنده من الدليل وقضاؤه ان شاء أيضا بطريق القصد منه إلى ذلك فاما هنا انما قصد الامضاء فلا يمكن أن يجعل منشئا (ألا ترى) ان رجلا وامرأة لو أقرا بالنكاح وهما يعلمان أنه لانكاح بينهما لم يثبت النكاح بينهما باطنا بهذا الاقرار وهما يملكان الانشاء ولكنهما بالاقرار أظهر عقدا قد كان بينهما فلا يجعل ذلك انشاء منهما ولان المدعى متيقن بما لو تبين القاضى به امتنع من القضاء فلا ينفذ قضاؤه في حقه وان كان القاضى معذورا لخفاء هذه الحقيقة عليه كما لو كانت امرأة مجوسية أو مرتدة أو منكوحة الغير أو أخته من الرضاعة والدليل على أن قضاءه ليس بانشاء أنه لا يستدعى شرائط الانشاء من الشهود والمهر والولى وأبو حنيفة رحمه الله احتج بما روى أن رجلا ادعي على امرأة نكاحا بين يدي علي رضى الله عنه وأقام شاهدين فقضى علي رضى الله عنه بالنكاح بينهما فقالت المرأة ان لم يكن بدا يا أمير المؤمنين فزوجني منه فانه لانكاح بيننا فقال علي رضى الله عنه شاهداك

[ 182 ] زوجاك فقد طلبت منه أن يعفها عن الزنا بل يعقد النكاح بينهما فلم يجبها إلى ذلك ولا يقال انما يجبها إلى ذلك لان الزوج لم يرض بذلك لانا نقول ليس كذلك بل الزوج راض لانه يدعى النكاح والمرأة رضيت أيضا حيث قالت فزوجني منه وكان يتيسر عليه ذلك فقد كان الزوج راغبا فيها ثم لم يشتغل به وبين أن مقصودهما قد حصل بقضائه فقال شاهداك زوجاك أي الزمانى القضاء بالنكاح بينكما فثبت النكاح بقضاء وما نقل عنه في هذا الباب كالمرفوع إلى رسول الله ﷺ فلا طريق إلى معرفة ذلك حقيقة بالرأى ويتبين بهذا ان ما استدلوا به من الاية والحديث في الاملاك المرسلة وبه يقول والمعنى فيه أنه قضى بأمر الله تعالى فيما له فيه ولاية الانشاء وقضاؤه بامر الله تعالى يكون نافذا حقيقة لاستحالة القول بأن يأمر الله تعالى بالقضاء ثم لا ينفذ ذلك القضاء منه وبيان الوصف انه لما تفحص عن أحوال الشهود وزكوا عنده سرا وعلانية وجب عليه القضاء بشهادتهم حتى لو امتنع من ذلك ياثم ويخرج ويعزل ويعذر فعرفنا أنه صار مأمورا بالقضاء وهذا لانه لا طريق له إلى معرفة حقيقة الصدق والكذب من الشهادة لان الله تعالى لم يجعل لنا طريقا إلى معرفة حقيقة الصدق من خبر من هو غير معصوم عن الكذب ولا يتوجه عليه شرعا لوقوف على مالا طريق له إلى معرفته لان التكليف بحسب الوسع والذي في وسعه التعرف عن أحوال الشهود فان استقصى ذلك غاية الاستقصاء فقد أتى بما في وسعه وصار مأمورا بالقضاء لان ما وراء هذا ساقط عنه باعتبار أنه ليس في وسعه ثم انما يتوجه عليه الامر بحسب الامكان والمأمور به أن يجعلها بقضائه زوجته فلذلك طريقان اظهار نكاح ان كان وان شاء عقد بينهما فإذا لم يسبق منهما عقد تعذر اظهاره بالقضاء فيتعين الانشاء إذا ليس هنا طريق آخر فيثبت له ولاية الانشاء بهذا النوع من الدليل الشرعي ويجعل انشاءه كانشاء الخصمين فيثبت الحل به بينهما حقيقة بل قضاؤه أولي وأقوى من انشاء الخصمين عن اتفاق (ألا ترى) أن في المجتهدات صفة اللزوم يثبت بانشاء القاضى ولا يثبت بانشاء الخصمين فعرفنا ان قضاءه اقوى من انشاء الخصمين وشرط صحة الانشاء الشهادة والمحل القابل له ولاشك ان المحل شرط حتى إذا كانت المرأة منكوحة الغير أو محرمة عليه بسبب لا ينفذ قضاؤه لانعدام المحل فكذلك الشهادة شرطه الا أن مجلس القضاء لا يخلو عن شاهدين فلهذا لم يذكر الشهادة فاما الولى ليس بشرط عندنا ولا حاجة إلى ذكر المهر ويجب هذا التحقيق حكمه بالفة وهو ان لا يجتمع رجلان على امرأة واحدة أحدهما

[ 183 ] بنكاح ظاهر له والاخر بنكاح باطن له ففى ذلك من القبح مالا يخفى والدين مصون عن مثل هذا القبح ولايكون القاضى بقضائه ممكنا من الزنا ففيه من الفساد مالا يخفى وإذا كان يثبت له ولاية إنشاء التفريق بين المتلاعنين وبين امرأته لنفيها به عن الزنا ويثبت له ولاية تزويج الصغير والصغيرة لمعنى النظر لهما فلان يثبت له ولاية انعقاد العقد هنا لنفيها به عن الزنا ويصون قضاؤه به عن التمكين من الزنا أولى وكذلك يثبت له ولاية انشاء التفريق بين المتلاعنين لقطع المنازعة مع يقينه بكذب احدهما كما قال ﷺ الله يعلم ان أحدكما لكاذب فكذلك يثبت له ولاية الانشاء مع كذب الشهود لتوجه الامر بالقضاء عليه شرعا وأمر القبلة على هذا فانه لما توجه عليه الامر بالصلاة إلى جهة القبلة وأتى بما في وسعه في طلب القبلة يثبت له ولاية نسب القبلة حتى أن الجهة التى أدى إليها اجتهاده تنتصب قبلة في حقه فتجوز صلاته إليها وان تبين له الخطاء بعد ذلك وبهذا يتبين فساد ما قالوا ان المدعى عالم بما لو علمه القاضى امتنع من القضاء ففى اللعان الكاذب منهما عالم بما لو علمه القاضى امتنع من التفريق ومع ذلك نفذ القضاء في حقه لتوجه الامر على القاضي وتوجه الامر بالانقياد واتباع أمر القاضى في حق الناس وهذا بخلاف مااذا ظهر أن الشهود عبيد أو كفار أو محدودون في قذف فان هذه اسباب يمكن الوقوف عليها عند الاستقصاء ولكن ربما يلحقه الحرج في ذلك فللحرج تعذر بترك الاستقصاء ولكن لم يسقط الخطاب بأصابتها حقيقة فلا يتوجه الامر بالقضاء بدونها حقيقة فاما حقيقة الصدق فلا طريق إلى الوقوف عليه والامر بالقضاء يتوجه بدونه وهو بمنزلة مالو توضأ بماء أو صلى في ثوب لم يتبين أنه كان نجسا فانه يلزمه الاعادة لهذا المعنى أو هو بمنزلة مالو قضى باجتهاده ثم ظهر نص بخلافه فاما الاملاك المرسلة فليس للقاضى هناك ولاية الانشاء لان تمليك المال من الغير بغير سبب ليس فيه ولاية القاضى ولا لصاحب المال أيضا وفي أسباب تمليك المال كثرة فلا يمكن تعيين شئ منها فعرفنا انه ليس له في ذلك الموضع إلا ولاية اظهار الملك فإذا لم يكن هناك ملك سابق فلا تصور لاظهاره بالقضاء والتكليف بحسب الوسع فبهذا تبين انه لم يكن مأمورا بالقضاء باطنا فاما هنا له ولاية الانشاء وطريقه متعين من الوجه الذي قلنا فباعتبار * يصير مأمورا بالقضاء بالنكاح بينهما حقيقة * يوضحه ان هناك القاضى لا يقول للمدعى ملكتك هذا المال وانما يقصر يد المدعى عليه عن المال ويأمره بالتسليم إليه ليأخذه على أنه ملكه كما يدعيه وقضاؤه بهذا نافذ فأما هنا نقول قضيت

[ 184 ] بالنكاح بينكما وجعلتها زوجة لك فينبغي ان يثبت النكاح بينهما بقضائه إذا عرفنا هذا فنقول إذا ادعت المرأة ان زوجها طلقها ثلاثا وأقامت على ذلك شاهدى زور فقضى القاضى بالفرقة بينهما فتزوجها أحد الشاهدين بعد انقضاء العدة فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله يحل للثاني أن يطأها ولا يحل للاول ذلك لان الفرقة وقعت بينهما وبين الاول حقيقة وصح النكاح بينهما وبين الثاني بعد انقضاء العدة وعلى قول أبى يوسف رحمه الله ليس للاول ان يطأها لقضاء القاضى بالفرقة بينهما وكيف يطؤها ولو فعل ذلك كان زانيا عند القاضي وعند الناس فلا يجوز للمرء أن يعرض نفسه لهذه التهمة ولا يحل للثاني ان يطأها لانه يعلم أنها منكوحة الغير وانه كان كاذبا فيما يشهد به من الطلاق وذلك كان كبيرة منه فلا يحل له ماكان حراما عليه وقال محمد رحمه الله ليس للثاني ان يطأها لهذا ويحل للاول ان يطأها ما لم يدخل بها الثاني فإذا دخل بها الثاني لا يحل للاول ان يطأها بعد ذلك لوجوب العدة عليها من الثاني بالوطئ بالشبهة والمنكوحة إذا وجبت عليها العدة من غير الزوج حرم على الزوج وطؤها وقال الشافعي رحمه الله لا يجب عليها العدة من الثاني لانهما زانيان في هذا الوطئ يعلمان حقيقة الامر فهو يقول يطؤها الاول سرا بنكاح باطن له والثانى علانية بنكاح ظاهر له وهذا قبيح فانه يودى إلى اجتماع رجلين على امرأة واحدة في طهر واحد وقد نهى رسول الله ﷺ عن ذلك الا أنهم يقولون معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ونحن ننهى كل واحد عن مثل هذا التلبيس وهو نظير ما يقولون فيما إذا كان ادعى جارية في يد رجل أنها له وقضى القاضى له بشهادة شاهدى زور فانها في الباطن مملوكة للاول يطؤها سرا وفي الظاهر مملوكة للثاني يطؤها علانية وهذا القبح يتقرر فيه ولكن معنى الصيانة عن هذا القبح يحصل بالنهي ثم التمكن من هذا الظاهر يلتبس والناس أطور وقليل منهم الشكور وما ذهب إليه أبو يوسف فيه نوع ضرر أيضا فان المرأة تبقى معلقة لاذات بعل ولا مطلقة إذ هي لا يحل للاول ولا للثاني وليس لها أن تتزوج بزوج آخر ولدفع هذا الضرر أمر الشرع بالتفريق بين العنين وامرأته فعرفنا أن الوجه بطريق الفقه ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمه الله واتبع فيه عليا رضي الله عنه وان قضاء القاضى ينفذ وأنها تحل بالنكاح للثاني رجل ادعى على رجل أنه باع منه جاريته هذه بالف درهم والمشترى يجحد ذلك فاقا عليه شاهدين فالزمه القاضى البيع والمشترى يعلم أنه لم يشترها منه ثم رجعا عن شهادهما لم يصدقا على نقض البيع لان شهادتهما ما تأذت بحكم الحاكم وتناقض كلامهما

[ 185 ] في الرجوع ولاضمان عليهما لانهما أتلفا على المشترى الثمن بعوض يعدله وهو الجارية فان ماليتها مثل مالية الثمن والاتلاف بعوض لا يوجب الضمان على المتلف لان وجوب الضمان للجبران والنقصان هنا منجبر بعوض يعدله المشترى في حل من وطئها في قول أبى حنيفة رحمه الله لان القاضى له ولاية الانشاء في البيوع فانه يبيع التركة في الدين ويبيع مال اليتيم والغائب لمعنى النظر فيكون قضاؤه كانشاء البيع لمعنى النظر للخصمين في ذلك وفي قول أبى يوسف الاخر وهو قول محمد رحمه الله لا يحل له أن يطأها لا ن قضاءه امضاء لبيع كان فإذا لم يكن بينهما بيع كان باطلا في الباطن. وإذا شهد شاهدان على رجل انه قذف امرأته بالزنا والرجل يعلم أنهما شهدا بباطل فأمره القاضى بان يلتعن هو وامرأته وفرق بينهما لم يسع للزوج أن يطأها ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك أما عند أبى حنيفة رحمه الله ظاهر وعندهما لان للقاضى هنا انشاء التفريق بينهما فينفذ قضاءه على الوجه الذي قصده وقد بينا نظيره في بيع التركة في دين ثبت بشهادة الزور قال (ألا ترى) أن الزوج لو قذفها وهو يعلم أنه كاذب فكره أن يكذب نفسه فلا عن القاضى بينهما وفرق لم يسع الزوج أن يطأها وان كان يعلم أنها لم تزن ولو تزوجت بعد انقضاء العدة وسعها ذلك وان كانت تعلم أن الزوج كاذب فيما رماها به لما أن للقاضى انشاء التفريق وهو قضاء منه في موضعه لولاية التفريق له بسبب اللعان عند اشتباه الحال حتى إذا كان الحال معلوما لا يفرق بينهما فالاشتباه لا يؤثر في المنع من نفوذ قضائه على الوجه الذي قصده في اللعان وأبو حنيفة رحمه الله يقول في هذا كله بعد قضائه لانه مأمور باتباع الظاهر وما سوى ذلك مما لا طريق له إلى معرفته ساقط عنه (ألا ترى) أنه لو خلا بامرأته ولم يدخل بها ثم طلقها وأقرت هي بذلك أن لها المهر كاملا يسعها أن تأخذه وان كانت قد علمت أن الزوج لم يقربها ولكن لما سقط عنها ما ليس في وسعها وأتت بما عليها من التسليم تقرر حقها في المهر ولزمها العقد فلا يسعها أن تتزوج قبل انقضاء عدتها ولا يسع الزوج أن يتزوج أختها في عدتها فيه يتضح مما سبق من فصول اللعان والشهادة. وكذلك لو قذف امرأته بالزنا وهو صادق فجحدته المرأة ولا عن القاضى بينهما وفرق وانقضت عدتها فهى في سعة من أن تتزوج غيره وله أن يتزوج أختها وان كانا يعلمان من زناها مالو علمه القاضى لم يفرق بينهما. وإذا شهد شاهدان على رجل انه اعتق أمته هذه فاجاز القاضى ذلك واعتقها وتزوجت ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمتها للمولى

[ 186 ] لان ملك المولى فيها كان مالا متقوما وقد أبطلا ذلك بشهادتهما فإذا زعما بالرجوع أنهما أتلفاه بغير حق صدقا على انفسهما وضمنا قيمتها للمولى ولم يسع المولى وطؤها لانها عتقت بحكم الحاكم ومن ضرورة سلامة الضمان للمولى ان لا تبقى هي على ملكه وبدون ملك الرقبة لا يثبت له عليها ملك الحل بغير سبب. ولو أن صبيا وصبية سبيا وكبرا وعتقا وتزوج احدهما الاخرى ثم جاء حربى مسلما واقام بينة أنهما ولداه فقضى القاضى بذلك وفرق بينهما ثم رجعا عن شهادتهما لم يقبل رجوعهما ولا يسع الزوج ان يطأها وان علم أنهما شهدا بزور وكيف يطؤها وقد جعلها القاضى اخته ولم يضمن الشاهدان شيئا عندنا وعند الشافعي رحمه الله يضمنان له مهر مثلها وهذا بناء على أصل نذكره بعد هذا ان شاء الله تعالى وهو ان البضع عند خروجه من ملك الزوج لا يتقوم عندنا فلم يتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وعند الشافعي رحمه الله يتقوم بمهر المثل عند خروجه من ملكه كما يتقوم عند دخوله في ملكه. ولو كانت صبية في يدي رجل يزعم انها أمته فشهد شاهدان أنه اقر أنها ابنته فقضى بذلك القاضى لم يسع المولي ان يطأها وان علم أنهما شهدا زور لان القاضى حكم بانها ابنته فان رجعا ضمنا قيمتها لانهما أقرا بالرجوع انهما أتلفا عليه مالا متقوما بشهادتهما وهو ملكه في رقبتهما ولو ماتت وتركت ميراثا وسعه أن يأكل ميراثها. وكذلك لو مات الاب كانت في سعة من أكل ميراثه أما في جانبها فهو واضح لانه لاعلم لها بحقيقة الامر فحالة العلوق غيب عنها وفي مثله عليها اتباع قضاء القاضى فيسعها أن تأكل ميراثه وأما في جانبه فهو مشكل لان الميراث والنسب مما ليس للقاضى فيه ولاية الانشاء وهو يعلم أنها ليست بابنته حقيقة فينبغي ان لا يسعه أن يأكل ميراثها حتى قيل تأويله أنه يأكل ميراثها بسبب الولاء لان القاضي قضى بالعتق وله فيه ولاية الانشاء فيثبت الولاء له والاصح أن يقال لما كان للقاضى ولاية الانشاء في قطع النسب باللعان فكذلك له ولاية الانشاء في القضاء بالنسب إذا صادف محله فقد صادف محله وهنا فانه ليس لها نسب معروف فلهذا يسعه أن يأكل ميراثها ولو شهدا على مال فقضى به القاضي فقبضه أو لم يقبضه ثم رجعا ضمنا المال إذا أخذه المقضى له من المقضي عليه وقبل الاخذ لا يضمنها المقضى عليه شيئا لان تحقق النقصان عند تسليم المال إلى المقضى له فاما ما بقيت يده على ماله فلا يتحقق الخسران في حقه ولان الضمان مقدر بالمثل وهما أتلفا عليه دينا حين الزماه ذلك بشهادتهما فلو ضمنها عينا قبل الاداء كان قد استوفى منهما عينا مماثلة الدين ولا مماثلة بين العين والدين وفي الاعيان يثبت الملك للمقضى

[ 187 ] له بقضاء القاضى ولكن المقضى عليه يزعم أن ذلك باطل لان الملك في يده ملكه فلا يكون له أن يضمن الشاهدين شيأ ما لم يخرج المال من يده بقضاء القاضى وكذلك هذا في العقار فان بالشهادة الباطلة يضمن العقار كالمنقول لان فيها اتلاف الملك واليد على المقضى عليه والعقار يضمن بمثل هذا السبب فان اتلاف الملك يتحقق فيها بخلاف الغصب على قول من يقول العقار لا يضمن بالغصب ولو شهد ثلاثة نفر على رجل بمال وقضي به القاضي ثم رجع أحدهم لم يضمن شيأ لان الاصل في ضمان الرجوع انه يعتبر بقاء من بقى على الشهادة لا رجوع من رجع وقد بقى على الشهادة حجة تامة فلا يضمن الراجع شيأ وهذا لان الراجع وان زعم أنه متلف بشهادته عليه فما أتلفه يستحق عليه بشهادة غيره واستحقاق ذلك عليه بالحجة يمنعه من الرجوع على على المتلف بالضمان كمن مال انسان أو أتلفه ثم استحق رجل ذلك المال بالبينة فلا ضمان للمتلف عليه إذا لم يضمنه المستحق شيأ. ولو رجع اثنان منهم ضمنا نصف المال لانه لقى على الشهادة لم يثبت نصف المال بشهادته وانما انعدمت الحجة في النصف خاصة فيضمن الراجحان ذلك. ولو شهد رجل وامرأتان ثم رجعت امرأة فعليها ربع المال لان الثابت بشهادتها ربع المال ولانه قد بقى على الشهادة من يثبت بشهادته ثلاثة أرباع المال فعلى الراجع ربع المال وان رجعت المرأتان فعليهما النصف وان رجع الرجل وحده فعليه نصف المال وان رجع رجل وامرأة فعليهما ثلاثة أرباع المال على الرجل النصف وعلى المرأة الربع وان رجعوا جميعا فعلي الرجل نصف المال وعلى المرأتين النصف لان الثابت بشهادة الرجل مثل ما ثبت بشهادة المرأتين فقد قامتا في الشهادة مقام رجل واحد كما قال ﷺ في نقصان عقل النساء عدلت شهادة اثنتين منهن شهادة رجل. فان شهد رجل وعشر نسوة فقضي القاضى ثم رجعوا جميعا فعلى الرجل سدس المال وعلى النساء خمسة أسداس المال في قول أبى حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله على الرجل النصف وعلى النساء النصف لان النساء وان كثرن في الشهادة لايقمن الا مقام رجل واحد (ألا ترى) أن الحجة لا تتم ما لم يشهد معهم رجل فكان الثابت بشهادته نصف المال وبشهادتهن نصف المال * يوضحه أن الرجل متعين في هذه الشهادة للقيام بنصف الحجة ولهذا لا تتم الحجة الا بوجوده فلا يتغير هذا الحكم بكثرة النساء وإذا ثبت نصف الحق بشهادته ضمن ذلك عند الرجوع والنصف الاخر يثبت بشهادة النساء فعليهن ضمانه عند الرجوع وأبو حنيفة رحمه الله يقول كل

[ 188 ] امرأتين في الشهادة يقومان مقام الرجل الواحد فعشر نسوة بخمسة من الرجال وهذه المسألة بمنزلة مالو شهد ستة من الرجال ثم رجعوا فيكون الضمان عليهم أسداسا ودليل صحة هذا الكلام أن حكم الشهادة كحكم الميراث وفي الميراث عند كثرة البنات مع الابن يجعل كل اثنتين كابن واحد ولم يجعل حالة الاختلاط كحالة انفراد البنات فعند الانفراد لا يزاد لهن على الثلثين ثم عند الاختلاط يجعل كل اثنتين كابن فكذلك في الشهادة وهذا لان النقصان على أدنى العدد في الشهادة يمنع القضاء فاما الزيادة على النصاب معتبر في أن القضاء يكون بشهادة الكل فبكثرة النساء عند. وجود الرجل يزداد النصاب ويكون القضاء بشهادة الكل على أن كل امرأتين كرجل واحد فعند الرجوع كذلك يقضى بالضمان ولو رجع ثمان نسوة لم يكن عليهم شئ لانه قد بقى على الشهادة من يثبت الاستحقاق بشهادته وهو رجل وامرأتان فان رجعت امرأة بعد ذلك كان عليها وعلى الثمان ربع المال لان الحجة انما بقيت في ثلاثة أرباع الحق فيجب الضمان بقدر ما انعدمت الحجة فيه وليس البعض باولى من البعض في وجوب ذلك عليه فلهذا ضمن التسع ربع المال عليهن بالسوية وان رجعت العاشرة فعليها وعلى التسع نصف المال أما عندهما ظاهر لان الثابت بشهادتهن نصف المال وعند أبى حنيفة رحمه الله لانه بقى على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته بمنزلة مالو شهد ستة من الرجال ثم رجع خمسة ولو شهد رجلان وامرأة بمال ثم رجعوا كان الضمان على الرجلين دون المرأة لان المرأة الواحدة لا تكون شاهدة فان المرأتين شاهد واحد فالمرأة الواحدة شطر العلة في كونها شاهدا وبشطر العلة لا يثبت شئ من الحكم فكان القضاء بشهادة رجلين دون المرأة فلا يضمن عند الرجوع شيأ. ولو شهد رجل وثلاث نسوة ثم رجع رجل وامرأة ضمن الرجل نصف المال لان الحجة بقيت في نصف المال فقد بقى امرأتان على الشهادة ثم هذا النصف عند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله على الرجل خاصة لما بينا أن عندهما نصف المال متعين في أنه ثابت بشهادة الرجل ونصف ثابت بشهادة النساء وقد بقى من النساء على الشهادة من يثبت نصف المال بشهادته فعرفنا أن الحجة انعدمت في النصف الذي هو ثابت بشهادة الرجل خاصة فيكون الضمان عليه دون المرأة وينبغى في قياس قول أبى حنيفة رحمه الله أن يكون النصف أثلاثا على الرجل والمرأة لان القضاء هنا بشهادة الكل فكل امرأة منهن إذا ضمتها إلى الاخرى كانتا شاهدا فلا يكون القضاء محالا به على شهادة البعض دون البعض

[ 189 ] وقد بقبت الحجة في نصنف الحق فيجب ضمان نصف الحق على الراجعين أثلاثا لان الثابت بشهادة الرجل ضعف ما يثبت بشهادة المرأة ولو رجعوا جميعا كان على الرجل النصف وعلى النسوة النصف في قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله وفي قول أبى حنيفة رحمه الله على الرجل خمسا المال وعلى النسوة ثلاثة أخماسه كما ذكرنا في الفصل الاول. وإذا شهد رجلان وامرأتان ثم رجعوا فالضمان اثلاث لان المرأتين قامتا مقام رجل واحد فكأنه شهد ثلاثة بالمال ثم رجعوا وإذا شهد شاهدان بمال قضى به القاضى ثم ادعى المشهود عليه أنهما رجعا وأراد يمينها فلا يمين عليهما في ذلك ولاتقبل عليهما به بينة لانه ادعى عليهما رجوعا باطلا لما بينا أن الرجوع فسخ للشهادة فيختص بمجلس الحكم كالشهادة فلما ان شهادتهما في غير مجلس القاضى باطلة فكذلك رجوعهما والحدود والقصاص في هذا كالاموال. وإذا رجعا عن شهادتهما وأشهدا بالمال على أنفسهما من قبل الرجوع ثم جحدا ذلك فشهدت عليهما شهود بالمال عليهما قبل الرجوع والضمان لم يقبل ذلك لان الرجوع في غير مجلس القضاء باطل فانما أشهدا على أنفسهما بالمال بسبب باطل وذلك لا يلزمهما شئ وكذلك لو شهدوا على زنا واحصان فرجمه القاضى بذلك ثم أشهد الشهود عليهم بالرجوع لم يكن عليهم بالرجوع حد ولاضمان لانهم بالرجوع ما صاروا قاذفين له ولكن الشهادة تنفسخ بالرجوع فيصير كلام الشاهدين قذفا عند ذلك وفسخ الشهادة بالرجوع مختص بمجلس الحكم (قال) ولو أوجبت عليهما الحد لاوجبت عليهما الضمان وقد بينا أنهم لا يضمنون بالرجوع في غير مجلس الحكم فلا يجدون أيضا وإذا لم يقض القاضى بشهادة شاهدين حتى رجعا عنها لم يقض بها لان القضاء يستدعى قيام الحجة عنده ولم تبق الحجة حين رجعا ولان شهادتهما تتأكد بالقضاء فبالرجوع قبل التأكد يبطل بحيث لا يبقى له أثر ولاضمان عليهما لانهما لم يتلفا شيئا على أحد أما المشهود عليه فقد بقي المال على ملكه وأما المشهود له فلم يثبت له استحقاق قبل القضاء. ولو اشترى رجل دارا بألف درهم وهى قيمتها ونقده الثمن فشهد شاهدان أن هذا الرجل شفيعها وان هذه الدار التى هي في يديه ملزقة بداره فقضى القاضى له بالشفعة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لانهما أتلفا على المشترى ملكه فليها بعوض يعد له وهو الثمن الذي أخذه من الشفيع فان كان المشترى قد بنا فيها بناء فأمره القاضى بنقضه ضمن الشاهدان له قيمة بنائه لانه كان مستحقا لقرار البناء بملكه الدار وقد شهد أن الشفيع أحق بملكها منه فكانا متلفين للبناء عليه فيضمنان له قيمة البناء مبنيا ويكون النقض لهما بالضمان بمنزلة ما لم

[ 190 ] هدماه بايديهما وإذا رجع الشاهدان عن شهادة شهدا بها عند غير القاضى الذي شهدا عنده فانه يقضي عليهما بالضمان لان شرط صحة الرجوع مجلس القاضى لا مجلس ذلك القاضى الذي شهدا عنده فرجوعهما في مجلس القاضى الاخر كرجوعهم في مجلس القاضى الذي شهدا عنده أرأيت لو مات الاول أو عزل فرجع في مجلس القاضى الذي قام مقامه أليس يقضى عليهما بالضمان فكذلك إذا رجعا في مجلس القاضى الاخر فان قضى بذلك عليهما فلم يؤديا حتى تخاصمها إلى القاضى الذي شهدا عنده أول مرة وجحدا الرجوع فقامت عليهما البينة بالرجوع وبقضاء القاضى عليهما بالضمان فانه ينفذ ذلك عليهما ويضمنها المال لان المدعى أثبت المال عليهما بالحجة بسبب صحيح فيضمنهما المال به وكذلك لو رجعا عند القاضى الذي شهدا عنده فيضمنهما ذلك ثم اختصموا إلى غيره وكذلك لو شهد عليهما شاهدان باقرارهما انهما رجعا عند قاضى من القضاة وانه ضمنهما ذلك فالثابت من اقرارهما بالبينة كالثابت بالمعاينة ولو سمع القاضى اقرارهما بذلك ضمنها المال فكذلك إذا اثبت المدعى ذلك بالحجة ولو رجع عند غير قاض وضمنهما المال وكتابه على أنفسهما صكا وبسبب المال إلى الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضى لم يقض بذلك عليهما لانهما كتاب على أنفسهما الصك بمال بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضى وكذلك لو أقر بذلك ضمنهما المال فكذلك إذا أثبت المدعي ذلك بالحجة ولو رجعا عند غير قاض وضمنهما المال على الوجه الذي هو له منه ثم جحدا ذلك عند القاضى لم يقض بذلك عليهما لانهما كتبا على أنفسهما الصك بسبب باطل وهو رجوعهما عند غير القاضى وكذلك لو أقر بذلك عند صاحب الشرط أو عامل كورة ليس القضاء إليه لان الرجوع معتبر بالشهادة فكما أن الشهادة عند هؤلاء كالشهادة عند غيرهم من الرعايا فكذلك الرجوع. وإذا شهدا على رجل انه باع عبده هذا من فلان بألف درهم والبائع يجحد والمشترى يدعى ثم رجعا عن الشهادة فان كانت قيمة العبد الف درهم أو أقل فلا ضمان على الشاهدين لانهما أدخلا في ملك البائع ما يعدل ما أخرجاه عن ملكه أو يزيد عليه وهو الثمن الذي استوفاه من المشترى وان كانت قيمة العبد أكثر من ألف ضمنا الفضل لانهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض يعد له والبعض معتبر بالكل وكذلك كل بيع أو صرف شهدا به وان اخر المقضى عليه الضمان عنهما جاز لان هذا تأجيل دين واجب في الذمة وهو وسائر الديون سواء ثم إذا أجل رب الدين للمدين صح هذا التأجيل فكذا هنا ولان الواجب عليهما

[ 191 ] ليس ببدل الصرف وانما هو بدل الغصب أو مال مستهلك وقد تقدم بيان صحة التأجيل به وإذا كان لرجل على رجل دين فشهد شاهدان أنه وهبه أو تصدق به عليه أو أبرأه منه أو حلله أو أوفاه ثم رجع ضمنا المال لانهما أتلفا عليه المال بشهادتهما فان (قيل) قد أتلفا عليه الدين فكيف يضمنا له العين (قلنا) قد أتلفا عليه دينا يتعين بالقبض فيضمنان له مثل ذلك دينا في ذمتهما يتعين بالقبض منهما. وان شهدا أنه أجله سنة فقضى بذلك ثم رجع قبل الحل أو بعده ضمنا المال للطالب لانهما فوتا عليه حق القبض بالشهادة بالتأجيل إلى انقضاء الاجل وذلك موجب للضمان عليهما وهذا لان التأجيل في الحكم كالابراء (ألا ترى) أن المريض إذا أجل في دين له يعتبر خروجه من الثلث كما لو أبرأ ثم هذا يتضح في رجوعهما قبل حل الاجل وكذلك لو رجعا بعد حل الاجل لان الضمان عليهما عند الرجوع بالشهادة لا بالرجوع فالاتلاف بالشهادة يحصل وإذا صار ضامنين بها لا يسقط الضمان عنهما بحلول الاجل كالوكيل بالبيع بثمن حال إذا باع ثمن حال ثم أجل عن المشترى كان ضامنا للموكل قبل حلول الاجل وبعده لهذا المعنى ولان الضامن كان ضامنا للموكل قبل حلول الاجل وبعده ولان الضمان انما وجب عليهما بسبب الاتلاف لما بينا أنهما بشهادتهما فوتا عليه حق القبض وبحلول الاجل لم يتبين أن ذلك لم يكن اتلافا فلهذا كان له حق الرجوع عليهما وكان الخيار له ان شاء أخذ المطلوب وان شاء أخذ الشاهد فإذا أخذ الشاهد كان لهما حق الرجوع به على المطلوب إلى أجله لانهما ملكا ذلك المال بالضمان في ذمة المطلوب ولان الطالب حين ضمنهما فقد أقامهما مقام نفسه في الرجوع على المطلوب فان لوى على المطلوب برئ من الشاهدين لانهما قاما في ذلك مقام الطالب لو اختار الرجوع على المطلوب ولايكون لهما حق الرجوع على الطالب لانهما قاما مقامه ثم إذا أدي للطالب لا يكون له حق الرجوع على أحد فكذلك للذي قام مقامه بخلاف الحوالة فانه إذا نوى المال على المحتال عليه يرجع به على المحيل لان تحول الحق إلى ذمة المحتال عليه كان بشرط سلامة المال للطالب من المحتال عليه فإذا لم يسلم عاد إلى ذمة المحيل وهنا أصل المال صار للشاهدين بالضمان مطلقا فان خرجا كانا لهما وان نوى كانا عليهما لانهما قاما في ذلك مقام الطالب. ولو شهدا على رجل انه وهب عبده لهذا الرجل وقبضه وقضى القاضى بشهادتهما ثم رجعا ضمنا قيمة العبد لانهما أتلفا ملكه بغير عوض ولا رجوع للمولى في الهبة إذا أخذ القيمة اما لان القيمة عوض له من هبته أو لان يزعم انه ملك العبد من الشاهدين بما أخذ

[ 192 ] منهما من الضمان فلا سبيل له على الموهوب له ولا للشاهدين لان رجوعهما فيما يرجع إلى ابطال قضاء القاضى باطل والقاضى بقضائه جعل العبد هبة للموهوب له من جهة المقضي عليه لامن جهة الشاهدين وليس لغير الواهب حق الرجوع في الهبة ولو لم يضمن المقضى عليه للشاهدين فله الرجوع في العبد بقضاء القاضي لانه هو الواهب للعبد بحكم القاضى وللواهب ان يرجع في الهبة ما لم يصل إليه العوض فان (قيل) فإذا ضمن الشاهدان القيمة ينبغى أن يكون لهما حق الرجوع في الهبة باعتبار أنهما قاما مقام الواهب في ذلك كما في مسألة الدين (قلنا) الدين في الذمة مال وهو يحتمل التمليك بعوض ولهذا جاز الاستبدال بالدين مع من عليه الدين فيمكن ان يجعل مملكا ولك من الشاهدين بما استوفي فاما في حق الرجوع في الهبة ليس بمال متحمل للاعتياض فيه فلا يكون مملكا ذلك من الشهود بالرجوع عليهما بالضمان ولا يمكن اثبات حق الرجوع لهما باعتبار أنهما يقومان مقامه لانه بعد ما وصل إليه العوض لا يكون له حق الرجوع في الهبة فلا يكون ذلك لمن قام مقامه أيضا ولو شهدا على عبد في يد رجل انه لهذا الرجل فقضى له به وهو أبيض العين ثم ذهب البياض عنه وازداد خيرا أو مات عند المقضي له ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمته ثم قضى به ولا يلتفت إلى ماكان فيه بعد ذلك من زيادة أو نقصان لان وجوب الضمان عليهما بالاتلاف بسبب الشهادة ففى القضاء بالضمان يعتبر القيمة وقت الشهادة كما في المغصوب والمستهلك والقول قولهما في القيمة لان الضمان يجب عليهما فالقول في مقداره قولهما ولو شهدا على رجل انه وكل هذا الرجل بقبض دينه الذي على فلان وفلان مقر بالدين فقضى القاضى به للوكيل وقبضه واستهلكه ثم قدم صاحب الدين فانكر الوكالة ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما لانهما لم يتلفا المال بشهادتهما انما بصناعته ثانيا بقبض المال فيحفظ له والوكيل ضامن لماا استهلكه من ذلك لان المال بقضاء القاضى حصل في يده أمانة للموكل وقد تعدى بالاستهلاك وكذلك هذا في قبض كل وديعة وغلة وميراث وغير ذلك. ولو شهد رجل وامرأتان على ألف درهم ورجل وامرأتان عليهما وعلى مائة دينار فقضى القاضي بذلك ثم رجع رجل وامرأتان عن شهادتهم على الدراهم دون الدنانير لم يضمنوا شيئا لانه قد بقى على الدراهم من تتم الحجة بشهادته ورجوع هؤلاء في حق الدراهم لا يكون رجوعا منهم عن الشهادة في الدنانير فلهذا لا يضمنون شرعا ولو رجعوا جميعا عن الدراهم والدنانير فضمان الدنانير على الذين شهدوا بها خاصة وضمان الدراهم جميعا عند أبى حنيفة ارباع على كل امرأتين ربع

[ 193 ] وعلى كل رجل ربع وعندهما ثلاث على كل رجل الثلث وعلى النسوة الثلث وان كان رجوع الشهود عن الشهادة في مرض الموت فذلك منهما بمنزلة الاقرار بالدين على أنفسهما في مرضهما فيبدآن بدين الصحة وإذا شهد شاهدان على رجل أنه باع عبده هذا بالف درهم وهو يساوى ألفين على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فقضى القاضى ثم مضت الثلاثة فوجب البيع ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا فضل مابين القيمة والثمن لانهما أتلفاه بشهادتهما بغير عوض (فان قيل) لا كذلك فالبيع بشرط خيار البائع لا يزيل ملكه عن المبيع وقد كان متمكنا من دفع الضرر عن نفسه بفسخ البيع في المدة فإذا لم يفعل كان راضيا بهذا البيع فينبغي ان لا يضمن الشاهدان شيئا (قلنا) زوال الملك وان كان يتأخر إلى سقوط الخيار فالسبب هو البيع المشهود به ولهذا استحق المشترى المبيع بزوائده فكان الاتلاف حاصلا بشهادتهم والبائع كان منكرا لاصل البيع فمع انكاره لا يمكن أن يتصرف بحكم الخيار لانه إذا تصرف بحكم الخيار يصير مقرا بالبيع ويتبين للناس كذبه والعاقل يتحرز عن ذلك بجهده فلهذا لا يعتبر تمكنه من الفسخ في اسقاط الضمان عن الشهود ولو أوجب البيع في الثلاثة لم يضمن له الشاهدان شيئا لانه صار مقرا بالبيع مزيلا ملكه باختياره فلا يكون الشاهد متلفا عليه بشهادته. وكذلك لو كان شرط الخيار للمشترى وهو منكر للشراء وفي قيمة العبد نقصان عن الثمن فان سكت المشترى حتى مضت المدة ضمن المشهود له النقصان عند الرجوع وان اختار البيع قبل الثلاثة لم يضمنا له شيئا لما بينا في جانب البيع ولو شهدا برهن عبده والراهن مقر بالدين جاحد للرهن فقضي القاضي بالعبد رهنا ثم رجعا فان لم يكن في قيمة العبد فضل على الدين فلا ضمان عليهما لانهما شهدا بثبوت يد الاستيفاء للمرتهن ولو شهد على المطلوب بحقيقة ايفاء الدين بمال في يده هو مثل الدين لم يضمنا عند الرجوع. فكذلك إذا شهدا بثبوت يد الاستيفاء للمرتهن في ماله وان كان في قيمته فضل على الدين لم يضمنا أيضا مادام العبد حيا لانه باق على ملك المطلوب وهو متمكن من أخذه بقضاء الدين وهو مقر بالدين فإذا مات عند المرتهن ضمنا ذلك الفضل لانهما أتلفا الفضل عليه بغير عوض حين أثبتا حق الحبس فيه للمرتهن ولم يسقط شئ من الدين عنه باعتباره ولو كان الراهن هو الذي ادعى الرهن وجحد المرتهن ذلك فقضى القاضي بشهادتهما فلا ضمان عليهما لانهما ما أتلفا على المرتهن شيئا فا حقه في المطالبة بالدين بعد الرهن كما كان من قبل وهو متمكن من رد الرهن لان

[ 194 ] عقد الرهن لا يتعلق به اللزوم في جانب المرتهن (فان قيل) فلماذا تقبل البينة عليه بذلك وهى لا تلزم شيئا (قلنا) اثبات السبب بالبينة صحيح وان كان لا يتعلق به اللزوم في الحال كما في البيع بشرط الخيار للبائع أو للمشترى الا ان يكونا شهدا عليه برهن هالك في يده فحينئذ هذا بمنزلة شهادتهما عليه باستيفاء الدين لان الاستيفاء يتم بملك الرهن فيكونان متلفين للمال عليه فيضمنان له ذلك عند الرجوع وإذا عمل المضارب بالمال وربح فادعي انه أخذه مضاربة بالنصف وشهد له شاهدان ورب المال يقول بالثلث واخذ المضارب نصف الربح ورد الباقي ثم رجع الشاهدان ضمنا السدس الذي شهدا به لان القول قول رب المال لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى اتمام النصف انما استحقه المضارب على رب المال بشهادتهما وقد أقرا بالرجوع أنهما أتلفا ذلك عليه بغير حق ولو كان الربح كله دينا لم يضمنا شيئا حتى يقبض فما قبض منه اقتسماه نصفين ويضمن الشاهدان سدسه لرب المال لان وجوب الضمان عليهما بتفويت اليد على نفس المال ولا يتحقق ذلك ما لم يخرج الدين وتصل إلى المضارب حصته فعند ذلك يتم التفويت عليه بسبب شهادتهما ولو شهدا انه أعطاه الثلث فلا ضمان عليهما في هذا الوجه إذا رجعا لان القول قول رب المال بغير شهود فلم يتلفا على المضارب شيئا بشهادتهما إذ الاستحقاق لم يثبت له بمجرد دعواه النصف بخلاف الاول فرب المال هناك ما يستحق للربح باعتبار انه ماله فهما اتلفا عليه بشهادتهما ماكان مستحقا له فيضمنان إذا رجعا ولو نوى رأس المال في الوجهين لم يضمنا شيأ لانهما ما شهدا في رأس المال بشئ انما شهادتهما في الربح ولم يظهر الربح ولو شهدا أنهما اشتركا ورأس مالك كل واحد منهما الف درهم على أن الربح بينهما أثلاثا وصاحب الثلث يدعى النصف وقد ربحا قبل الشهادة فقسمه القاضى بينهما أثلاثا ثم رجعا ضمنا لصاحب الثلث مابين الثلث والنصف في كل ربح كان قبل الشهادة لان كل واحد منهما مستحق لنصف الربح عند تساويهما في رأس المال والقول قول مدعى النصف لولا شهادتهما فما زاد على الثلث إلى النصف أتلفاه بشهادتهما على من أخذ الثلث بغير حق وما ربحا فيما اشتريا بعد الشهادة فلا ضمان عليهما فيه لان كل واحد منهما متمكن من فسخ الشركة بغير رضا صاحبه فاقداهما على التصرف بعد قضاء القاضى بان الربح أثلاث يكون رضا منهما بذلك ورضا المتلف عليه يمنع وجوب الضمان على المتلف بطريق المباشرة فبالشهادة أولى ولو كان في يدى رجل مال فشهد شاهدان لرجل أنه شريكه شركة مفاوضة فقضى القاضى له بنصف

[ 195 ] مافى يده ثم رجعا ضمنا ذلك النصف للمشهود عليه لان القول قول المنكر للشركة وهو ذو اليد لولا شهادتهما فانما صار نصف مافى يده مستحقا عليه بشهادتهما وقد أقر أنهما أتلفاه بغير حق ولو شهدا على رجل بوديعة فجحدها أو عارية أو بضاعة فضمنه القاضي ذلك رجعا ضمنا له ما غرم من ذلك لانهما شهدا عليه بدين فالوديعة المجحودة دين على المودع وقد أقرا بالرجوع أنهما الزماه بغير حق فيضمنان له ما استوفي منه بذلك السبب. ولو ركب رجل بعير رجل إلى مكة فعطب فقال رب البعير غصبني وقال الراكب استأجرته منك بكذا وأقام عليه شاهدين فابرأه القاضى من الضمان وأنفذ عليه ما وجب من الاجر ثم رجعا عن شهادتهما ضمنا قيمة البعير الا مقدار ما أخذ صاحبه من الاجر لان ركوب بعير الغير موجب للضمان على الراكب لولا شهادتهما لكان ضمان القيمة دينا على الراكب بما ظهر منه فهما بشهادتهما أثبتا له سبب البراءة وقد أقر عند الرجوع أنهما أتلفا ذلك على رب البعير فكانا ضامنين له الا أنهما عوضاه مقدار ما شهدا له من الاجر فيطرح عليهما ذلك ولان صاحب البعير مقر أن الراكب غاصب لا أجر له عليه وأن ما استوفى منه استوفاه بحساب ضمان القيمة وزعمه معتبر في حقه فلا يرجع على الشاهدين الا بالفضل ولو كان البعير أول يوم ركبه يساوى مائتي درهم وآخر يوم عطب فيه يساوى ثلثمائة درهم لزيادة في يده والاجر خمسون فانهما يضمنان مائتين وخمسين درهما بحساب يوم عطب. من أصحابنا رحمهم الله من يقول هذا في قولهما فأما عند أبى حنيفة رحمه الله انما يضمنان بحساب قيمته يوم ركب وقالوا هذا نظير الجارية المغصوبة إذا ازدادت في بدنها ثم باعها الغاصب وسلمها إليه فانه كما لم يذكر الخلاف هنا لم يذكر هناك وانما ذكر قول أبى حنيفة رحمه الله في تلك المسألة في النوادر وحكم هذه وحكم تلك سواء والاصح ان هذا قولهم جميعا وأبو حنيفة رحمه الله يفرق بينهما فيقول ضمان البيع والتسليم ضمان غصب ولهذا لا يضمن به الاما يضمن بالغصب والغصب بعد الغصب في الاصل لا يتحقق من واحد والزيادة المتصلة لاتفرد عن الاصل فاما ضمان الركوب إذا عطبت الدابة ضمان اتلاف (ألا ترى) ان الحر يضمن به والاتلاف الحقيقي بعد الغصب يتحقق في الاصل مع الزيادة فكان الراكب ضامنا قيمتها حين عطبت لولا شهادتهما فيضمنان عند الرجوع قيمتها باعتبار تلك الحال. رجل له على رجل الف درهم وهو مقر بها وفي يد الطالب ثوب يساوى مائة درهم يدعى أنه له فاقام المطلوب شاهدين أنه رهنه اياه بالمال وقضي به ثم هلك الثوب فذهب بمائة

[ 196 ] درهم ثم رجعا ضمنا مائة درهم للطالب لان القول قوله في الثوب انه ملكه باعتبار يده فهما أتلفا عليه ملك الثوب بشهادتهما انه للمطلوب فيضمنان له عند الرجوع (فان قيل) كيف يضمنان ولم يخرج الثوب من يده حتى هلك (قلنا) عين الرهن أمانة في يد المرتهن فيده في ذلك كيد الراهن ثم أثبتا بشهادتهما يد الاستيفاء للمرتهن في مقدار المائة وقد تم ذلك بهلاك الرهن فكأنهما شهدا عليه انه استوفاه مائة ثم رجعا ولو كان ذو اليد مقرا بالثوب للراهن غير أنه يقول هو عندي وديعة وقال الراهن بل هو رهن عندك وأقام شاهدين عليه فقضى به ثم هلك ثم رجعا فلا ضمان عليهما لانهما لم يتلفا على ذي اليد عين الثوب لانه لا يدعى ملكه لنفسه وقد كان متمكنا من رده على الراهن بعد قضاء القاضى فالرهن لا يكون لازما في جانب المرتهن فيجعل امساكه الثوب بعد قضاء القاضى بانه رهن عنده رضا منه بما شهدا عليه فلا يضمنان له عند الرجوع شيئا بخلاف الاول فقد أتلفا عليه ملكه في الثوب هناك ولو شهد شاهدان على رجل أنه أسلم عشرة دراهم في كر حنطة إلى رجل يجحد ذلك ولم يعترفا فقضى القاضى به وأمر بدفع العشرة إليه وأوجب الكر عليه ثم رجعا فلا ضمان عليهما حتى يقبض الكر لانهما الزما المسلم إليه الكر دينا فلو ضمنا له يضمنان العين والعين فوق الدين في المالية وضمان الاتلاف يتقدر بالمثل فإذا قبضه منهما فهما ضامنان لطعام مثله الا عشرة دراهم ينقص من ذلك الكر لان مقدار العشرة حصل الاتلاف فيه بعوض فلا يجب ضمانه عليهما عند الرجوع وما زاد على ذلك أتلفاه بغير عوض فان كان رأس المال مثل الكر لم يضمنا شيئا لانهما عوضاه مثل ما أتلفا عليه والاتلاف بعوض يعدل المتلف ولا يوجب الضمان على المتلف. ولو شهدا على رجل أنه أكرى شق محمل إلى مكة بمائة درهم فقضى له القاضى وحمله وقبض الاجر ثم رجعا عن شهادتهما فلا ضمان عليهما إذا كان المستأجر هو المدعى وان كان الاجر ضعف ذلك لانهما أتلفا المنفعة على رب الابل والمنفعة ليست بمال يضمن بالاستهلاك عندنا ولو أتلفاه مباشرة بان ركبا لم يضمنا فإذا أتلفاه بشهادتهما أولى وان كان ادعاه صاحب الابل وجحده المستأجر ضمنا له مما أدى ما زاد على أجر مثل البعير لانهما أتلفا عليه ما التزماه بشهادتهما من الاجر وعوضاه من ذلك منفعة البعير والمنافع تتقوم بالعقد وتأخذ حكم المالية ولهذا لا يثبت الحيوان دينا في الذمة بمقابلته فلا يضمنان مقدار ما أتلفاه بعوض ويضمنان ما سوى ذلك لانه لولا شهادتهما لكان القول قول الراكب ولم يضمن شيأ فانما لزمه الاجر بشهادتهما ولو أقر عند الرجوع

[ 197 ] أنهما أتلفا ذلك بغير حق فيضمنان له مالا يقابله من ذلك عوض يعدله. ولو ادعى رجل على رجل الف درهم وأقام بما عليه شاهدين وأقام المشهود عليه بالالف شاهدين انه أبرأه منها أو شهدوا أنه أبرأه من كل قليل وكثير يدعى ذلك فعدلوا واجتمعت البينتان عند القاضى فانه لا ينبغى له أن لا يسمع من الشهود الذين شهدوا على المال لان هنا من يشهد على البراءة والبراءة مسقطة مفرغة للذمة فكيف يقضى باشغال الذمة بالمال وقد ظهر عنده ما يفرغ الذمة ثم الابراء في معنى الناسخ بحكم وجوب الدين والقضاء بالمنسوخ بعد ظهور الناسخ لا يجوز فان أخذ بشهادة شهود البراءة فقضى بها ثم رجعوا فان القاضى يكلف المشهود له بالالف أنهما أتلفا ذلك بغير حق فيضمنان له مالا يقابله من ذلك عوض يعدله. ولو ادعى رجل على رجل الف درهم وأقام بما عليه شاهدين وأقام المشهود عليه بالالف شاهدين انه أبرأه منها أو شهدوا أنه أبرأه من كل قليل وكثير يدعى ذلك فعدلوا واجتمعت البينتان عند القاضى فانه لا ينبغى له أن لا يسمع من الشهود الذين شهدوا على المال لان هنا من يشهد على البراءة والبراءة مسقطة مفرغة للذمة فكيف يقضى باشغال الذمة بالمال وقد ظهر عنده ما يفرغ الذمة ثم الابراء في معنى الناسخ بحكم وجوب الدين والقضاء بالمنسوخ بعد ظهور الناسخ لا يجوز فان أخذ بشهادة شهود البراءة فقضى بها ثم رجعوا فان القاضى يكلف المشهود له بالالف بالبينة المثبتة ولا يلتفت إلى ما مضى لانه لم يقض بشهادتهم على أصل المال والشهادة التى لم يتصل القضاء بها لا تكون موجبة شيأ فلابد من اعادتهم إذا أراد تضمين شهود البراءة لانهم يضمنون باتلافهم عليه ماكان مستحقا له وانما يثبت هذا الاستحقاق باعادة البينة وان أعادهم فخصمهم في ذلك شهود البراءة الذين رجعوا لانه يدعي عليهم الضمان فهم خصماؤه في ذلك ولا يتمكن من أن يلزم المدين شيأ بهذه الشهادة لان رجوع شهود البراءة بعد قضاء القاضى بشهادتهم لا يكون معتبرا في حقه فلهذا لا تقوم شهود البراءة مقام المدين في اعادة هذه البينة عليهم فان شهد الشهود على الالف أنها على المدعى عليه في الاصل فقضي بها على شهود البراءة لانه يتحقق اتلافهم ذلك المال على الطالب بشهادتهم عليه بالبراءة فيضمنان له ولا يرجعان بها على المشهود له بالبراءة لانهما يضمنان عند الرجوع ورجوعهما ليس بحجة في حق المشهود له بالبراءة وقال وانما يأمر القاضي مدعى المال باعادة شهوده بعد رجوع شاهدى البراءة بمحضر منهما لان المال انما وجب عليهما ساعة رجعا وهو مال حادث وجب عليهما فلا يجبرا بشهادة الشهود الذين شهدوا به قبل وجوب المال عليهما لانهما كأنهما غصبا المال ساعة يقضى القاضى له ورجعا والله أعلم (تم الجزء السادس عشر ويليه السابع عشر) (أوله باب الرجوع عن الشهادة في الطلاق والنكاح)