الرئيسيةبحث

مبسوط السرخسي - الجزء الحادي عشر

المبسوط السرخسي ج 11

[ 1 ] (الجزء الحادى عشر من) كتاب المبسوط لشمس الدين السرخسى وكتب ظاهر الرواية أتت * ستا وبالاصول أيظا سميت صنفها محمد الشيباني * حرر فيها المذهب النعماني الجامع الصغير والكبير * والسير الكبير والصغير ثم الزيادات مع المبسوط * تواترت بالسند المضبوط ويجمع الست كتاب الكافي * للحاكم الشهيد فهو الكافي أقوى شروحه الذى كالشمس * مبسوط شمس الامة السرخسى (تنبية) قد باشر جمع من حضرات أفاضل العلماء تصحيح هذا الكتاب بمساعدة جماعة من ذوى الدقة من أهل العلم والله المستعان وعليه التكلان دار المعرفة بيروت - لبنان

[ 2 ] بسم الله الرحمن الرحيم * (كتاب اللقيطة) * (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى الفضل السرخسى اختلف الناس فيمن وجد لقطة فالمتفلسفة يقولون لا يحل له أن يرفعها لانه أخذ المال بغير اذن صاحبه وذلك حرام شرعا فكما لا يحل له أن يتناول مال الغير بغير اذن صاحبه لا يحل له اثبات اليد عليه وبعض المتقدمين من أئمة التابعين كان يقول يحل له أن يرفعها والترك أفضل لان صاحبها انما يطلبها في الموضع الذى سقطت منه فإذا تركها وجدها صاحبها في ذلك الموضع ولانه لا يأمن على نفسه أن يطمع فيها بعد ما يرفعها فكان في رفعها معرضا نفسه للفتنة والمذهب عند علمائنا رحمهم الله وعامة الفقهاء ان رفعها أفضل من تركها لانه لو تركها لم يأمن أن تصل إليها يد خائنة فيكمتها عن مالكها فإذا أخذها هو عرفها حتى يوصلها إلى مالكها ولانه يلتزم الامانة في رفعها لانه يحفظها ويعرفها والتزام أداء الامانة يفرض بمنزلة الثواب لانه يثاب على أداء ما يلتزمه من الامانة فانه يمتثل فيه الامر قال تعالى ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وامتثال الامر سبب لنيل الثواب ثم ما يجده نوعان (أحدهما) ما يعلم ان مالكه لا يطلبه كقشور الرمان والنوى (والثانى) ما يعلم ان مالكه يطلبه فالنوع الاول له أن يأخذه وينتفع به إلا أن صاحبه إذا وجده في يده بعد ما جمعه كان له أن يأخذه منه لان القاء ذلك من صاحبه كان اباحة الانتفاع به للواحد ولم يكن تمليكا من غيره فان المليك من المجهول لا يصح وملك المبيح لا يزول بالاباحة ولكن للمباح له أن ينتفع به مع بقاء ملك المبيح فإذا وجده في يده فقد وجد عين ملكه قال صلي الله عليه وسلم من وجد عين ماله فهو أحق به وان وجد ذلك مجتمعا لم يحل له أن ينتفع به لان الظاهر ان المالك ما ألقاه بعد ما جمعه ولكنه سقط منه فكان هذا من النوع الثاني وروى بشر عن أبى يوسف رحمهما الله ان من ألقى شاة ميتة له فجاء آخرو جز صوفها كان له أن ينتفع به ولو وجده صاحب

[ 3 ] الشاة في يده كان له أن يأخذه منه ولو سلخها ودبغ جلدها كان لصاحبها أن يأخذ الجلد منه بعد ما يعطيه ما زاد الدباغ فيه لان ملكه لم يزل بالالقاء والصوف مال متقوم من غير اتصال شئ آخر به فله أن يأخذه مجانا فأما الجلد لا يصير مالا متقوما إلا بالدباغ فإذا أراد أن يأخذه كان عليه أن يعطيه ما زاد الدباغ فيه فأما (النوع الثاني) وهو ما يعلم ان صاحبه يطلبه فمن يرفعه فعليه أن يحفظه ويعرفه ليوصله إلى صاحبه وبدأ الكتاب به ورواه عن إبراهيم قال في اللقطة يعرفها حولا فان جاء صاحبها والا تصدق بها فان جاء صاحبها فهو بالخيار ان شاء أنفذ الصدقة وان شاء ضمنه وما ذكر هذا علي سبيل الاحتجاج بقول إبراهيم لان أبا حنيفة رحمه الله كان لا يرى تقليد التابعين وكان يقول هم رجال ونحن رجال ولكن ظهر عنده ان إبراهيم فيما كان يفتى به يعتمد قول على وابن مسعود رضى الله عنهما فان فقه أهل الكوفة دار عليهما وكان إبراهيم أعرف الناس بقولهما فما صح عنه فهو كالمنقول عنهما فلهذا حشا الكتاب من أقاويل إبراهيم وفي هذا الحديث بيان الملتقط ينبغي له أن يعرف اللقطة والتقدير بالحول ليس بعام لازم في كل شئ وانما يعرفها مدة يتوهم ان صاحبها يطلبها وذلك يختلف بقلة المال وكثرته حتى قالوا في عشرة دراهم فصاعدا يعرفها حولا لان هذا مال خطير يتعلق القطع بسرقته ويتملك به ماله خطر والتعريف لايلاء العذر والحول الكامل لذلك حسن قال القائل إلى الحول ثم اسم السلام عليكما * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر وفيما دون العشرة إلى ثلاثة يعرفها شهرا وفيما دون ذلك إلى الدرهم يعرفها جمعة وفى دون الدرهم يعرف يوما وفي فلس أو نحوه ينظر يمنة ويسرة ثم يضعه في كف فقير وشئ من هذا ليس بتقدير لازم لان نصب المقادير بالرأى لا يكون ولكنا نعلم ان التعريف بناء على طلب صاحب اللقطة ولا طريق له إلى معرفة مدة طلبه حقيقة فيبنى علي غالب رأيه ويعرف القليل إلى أن يغلب على رأيه أن صاحبه لا يطلبه بعد ذلك فإذا لم يجئ صاحبها بعد التعريف تصدق بها لانه التزم حفظها علي ما لكها وذلك باتصال عينها إليه ان وجده والا فباتصال ثوابها إليه وطريق ذلك التصدق بها فان جاء صاحبها فهو بالخيار ان شاء ضمنه لانه تصدق بماله بغير اذنه وذلك سبب موجب للضمان علهى وان شاء أنفذ الصدقة فيكون ثوابها له واجازته في الانتهاء بمنزلة اذنه في الابتداء فان قيل كيف يضمنها له وقد تصدق بها باذن الشرع قلنا

[ 4 ] الشرع أباح له التصدق بها وما ألزمه ذلك ومثل هذا الاذن مسقط للاثم عنه غير مسقط لحق محترم للغير كالاذن في الرمى إلى الصيد والاذن في المشى في الطريق فانه يتقيد بشرط السلامة وحق صاحب هذه المال مرعي محترم فلا يسقط حقه عن هذا العين بهذا الاذن فله أن يضمنه ان شاء والاذن هنا دون الاذن لمن أصابته مخمصة في تناول ملك الغير وذلك غير مسقط للضمان الواجب لحق صاحب المال وذكر عن ابن مسعود رضى الله عنه انه اشترى جارية بسبعمائة درهم أو بثمانمائة درهم فذهب صاحبها فلم يقدر عليه فخرج ابن مسعود رضى الله عنه بالثمن في صرة فجعل يتصدق بها ويقول لصاحبها فان أبى فلنا وعلينا الثمن فلما فرغ قال هكذا يصنع باللقطة وفى هذا اللفظ بيان أن الملتقط له أن يتصدق بها بعد التعريف على أن يكون ثوابها لصاحبها ان أجاز وان أبى فله الضمان على المتصدق وليس مراد ابن مسعود رضى الله عنه من هذا ان حكم الثمن الواجب عليه حكم اللقطة من كل وجه وكيف يكون ذلك والمثن دين في ذمته وما تصدق به من الدراهم خالص ملكه فأما عين اللقطة فمملوكة لصاحبها والملتقط أمين فيها فعرفنا ان هذا ليس في معنى اللقطة ولا يقال لعله كان اشتراها بمال معين لانه صح من مذهبه ان النقود لاتتعين في العقد ولو تعينت فهى مضمونة على المشترى فعرفنا انه ليس كاللقطة من كل وجه وانه بالتصدق ما قصد اسقاط الثمن عن نفسه بل قصد اظهار المجاملة في المعاملة واتصال ثوابها إلى صاحبها ان رضى بصنيعه وإلا فالثمن دين عليه كما كان وعن أبى سعيد مولى أسيد قال وجدت خمسمائة درهم بالحرة وأنا مكاتب فذكرت ذلك لعمر بن الخطاب رضى الله عنه فقال اعمل بها وعرفها فعملت بها حتى أديت مكاتبتي ثم أتيته فأخبرته بذلك فقال ادفعها إلى خزان بيت المال وفى هذا دليل ان للامام ولاية الاقراض في اللقطة والدفع مضاربة لان قول عمر رضى الله عنه اعمل بها وعرفها إما أن يكون بطريق المضاربة أو الاقراض مضاربة وقد علمنا انه لم يرد المضاربة حتى لم يتبين نصيبه من الربح فكان مراده الاقراض منه وفي هذا معنى النظر لصاحب المال لانه يعرض للهلاك فيهلك من صاحبه قبل الاقراض وبعد الاقراض يصير دينا في ذمة المستقرض يؤمن فيه التوى بالهلاك وكذلك بالجحود لانه متأكد بعلم القاضى ولهذا كان للقاضى ولاية الاقراض في أموال اليتامى وربما يكون معنى النظر في الدفع إليه مضاربة أو إلى غيره فذلك كله إلى القاضى لانه نصب ناظرا وفيه دليل على ان الملتقط إذا كان محتاجا فله أن ينتفع باللقطة بعد

[ 5 ] التعريف لان هذا المكاتب كان محتاجا إلى العمل فيها فيؤدى مكاتبته من ربحها فأذن له عمر رضى الله عنه في ذلك وفيه دليل ان للامام أن يقبض اللقطة من الملتقط ان رأى المصلحة في ذلك لانه أمره بدفعها إلى خزان بيت المال وكأنه انما أمره بذلك لانه كان سبيلها التصدق بها بعد التعريف فأمره بدفعها إلى من هو في يده بيت مال الصدقة ليضعها موضع الصدقة وذكر في الاصل عن سويد بن عقلة قال حججت مع سلمان بن ربيعة وزيد بن صوحان واناس من أصحاب رسول الله ﷺ ورضى عنهم فوجدنا سوطا فاحتماه القوم وكرهوا أن يأخذوه وكنت أحوجهم إليه فأخذته فسالت عن ذلك أبى بن كعب فحدثني بالمائة دينار التى وجدها على عهد رسول الله ﷺ قال وجدت مائة دينار فأخبرت النبي ﷺ بذلك قال عرفها سنة فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال عرفها سنة أخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فأخبرته فقال عرفها سنة اخرى فعرفتها فلم يعرفها أحد فاخبرته ثم قال بعد ثلاث سنين اعرف عددها ووكاءها واخلطها بمالك فان جاء طالبها فادفعها إليه وإلا فانتفع بها فانها رزق ساقه الله اليك وأما قوله وجدنا سوطا يحتمل أن يكون ذلك مما يكسر من السياط ويعلم أن صاحبه ألقاه فتركه القوم لانهم ما كانوا محتاجين إليه وأخذه سويد لينتفع به فانه كان محتاجا إليه فذلك يدل على ان ما ألقاه صاحبه يباح أخذه للانتفاع به لمن شاء ويحتمل ان هذا كان سوطا هو مال متقوم يعلم ان صاحبه يطلبه فكيون بمنزلة اللقطة وفي قوله فاحتماه القوم حجة لمن يقول ترك اللقطة أولى من رفعها ولكنا نقول هذا كان في ذلك الوقت لان الغلبة كانت لاهل الخير والصلاح فإذا تركه واحد يتركه الاخر أيضا أو يأخذه ليؤدي الامانة فأما في زماننا فقد غلب أهل الشر إذا ترك الامين يأخذ الخائن فيكتم من صاحبه والحكم يختلف باختلاف أحوال الناس ألا ترى ان النساء كن يخرجن إلى الجماعات في زمن رسول الله ﷺ والصديق رضى الله عنه ثم منعن من ذلك في زمن عمر رضى الله عنه وكان صوابا وفى الحديث الذى رواه أبى بن كعب رضى الله عنه دليل لما قلنا ان التقدير بالحول في التعريف ليس بلازم ولكنه يعرفها بحسب ما يطلبها صاحبها ألا ترى ان المائة دينار لما كانت مالا عظيما كيف أمره رسول الله صلي الله عليه وسلم بان يعرفها ثلاث سنين ثم بظاهر الحديث يستدل الشافعي رضى الله عنه في ان للملتقط أن ينتفع باللقطة بعد التعريف وان كان غنيا فان رسول الله ﷺ جوز ذلك لابي رضى الله عنه

[ 6 ] وهو كان غنيا وقد دل على غناه قوله عليه الصلاة والسلام اخلطها بمالك ولكنا نقول يحتمل انه لفقره وحاجته لديون عليه فأذن له في الانتفاع وخلطها بماله ويحتمل انه علم ان ذلك المال لحربي لا أمان له وقد سبقت يده إليه فجعله أحق وبه لهذا واليه أشار رسول الله ﷺ فانه قال رزق ساقه الله اليك ولكن مع هذا أمره بأن يعرف عددها ووكاءها احتياطا حتى إذا جاء طالب لها محترم تمكن من الخروج مما عليه يدفع مثلها إليه وذكر عن الحسن بن صباح قال وجد رجل لقطة أيام الحاج فسأل عنها عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فقال عرفها في الموسم فان جا صاحبها وإلا تصدق بها فان جاء صاحبها فخيره بين الاجر وبين الثمن يعنى القيمه فان اختار الثمن فادفع إليه وان اختار الاجر فله الاجر وفى هذا دليل على انه ينبغى للملتقط أن يعرفها في الموضع الذى أصابها فيه وان يعرفها في مجمع الناس ولهذا أمره بالتعريف في الموسم وهذا لان المقصود ايصالها إلى صاحبها وذلك بالتعريف في مجمع الناس في الموضع الذى أصابها حتى يتحدث الناس بذلك بينهم فيصل الخبر إلى صاحبها وذكر عن أبى اسحاق عن رجل قال وجدت لقطة حين أنفر على بن أبى طالب رضى الله عنه الناس إلى صفين فعرفتها تعريفا ضعيفا حتي قدمت على علي رضى الله عنه فأخبرته بذلك فضرب يده على صدري وفى رواية قال لى انك لعريض القفا خذ مثلها فاذهب حيث وجدتها فان وجدت صاحبها فادفعها إليه وإلا فتصدق بها فان جاء صاحبها فخيره ان شاء اختار الاجر وان شاء ضمنك ومعنى وقوله فعرفتها تعريفا ضعيفا أي عرفتها سرا وما أظهرت تعريفها في مجمع الناس فكأنه طمع في أن تبقى له وعرف ذلك منه علي رضى الله عنه حين ضرب يده على صدره وقال ما قال انك سليم القلب تطمع في مال الغير وهذا من دعابة علي رضى الله عنه وقد كان به دعابة كما قال عمر رضى الله عنه حين ذكر على رضى الله عنه للخلافة أما انه ان ولى هذا الامر حمل الناس على محجة بيضاء لولا دعابة به وفيه دليل ان التعريف سرا لا يكفى بل ينبغى للملتقط أن يظهر التعريف كما أمر على رضى الله عنه الرجل به وانه ينبغى أن يعرفها في الموضع الذى وجدها لان صاحبها يطلبها في ذلك الموضع وحكى ان بعض العلماء وجد لقطة وكان محتاجا إليها فقال في نفسه لابد من تعرفها ولو عرفتها في المصر ربما يظهر صاحبها فخرج من المصر حتى انتهى إلى رأس بئر فدلى رأسه في البئر وجعل يقول وجدت كذا فمن سمعتوه ينشد ذلك فدلوه على وتجنب البئر رجل يرقع شمله وكان صاحب اللقطة فتعلق به حتى

[ 7 ] أخذها منه يعلم أن المقدور كائن لا محالة فلا ينبغى أن يترك ما التزمه شرعا وهو إظهار التعريف وبعد إظهار التعريف ن جاء صاحبها دفعها إليه لحصول المقصود بالتعريف وان لم يجئ فهو بالخيار ان شاء أمسكها حتى يجئ صاحبها وان شاء تصدق بها لان الحفظ هو العزيمة والتصدق بها بعد التعريف حولا رخصة فيخير بين التمسك بالعزيمة أو الترخص بالرخصة فان تصدق بها ثم جاء صاحبها فهو بالخيار ان شاء أجاز الصدقة ويكون له ثوابها وان شاء اختار الضمان وإذا اختار الضمان يخير بين تضمين الملتقط وبين تضمين المسكين لان كل واحد منهما في حقه مكتسب سبب الضمان الملتقط بتمليك ماله من غير بغير إذنه والمسكين يقبضه لنفسه على طريق التمليك وأيهما ضمنه لم يرجع على الا خربشئ أما المسكين فلانه في القبض عامل لنفسه فلا يرجع بما يلحقه من الضمان على غيره وأما الملتقط فلانه بالضمان قد ملك وظهر انه تصدق بملك نفسه فله ثوابها ولا رجوع له على المسكين بشئ وان كان الملتقط محتاجا فله أن يصرفها إلى حاجة نفسه بعد التعريف لانه انما يتمكن من التصدق بها على غيره لما فيه من سد خلة المحتاج واتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا فكان له صرفها إلى نفسه لهذا المعنى فأما إذا كان غنيا فليس له أن يصرف اللقطة إلى نفسه عندنا وقال الشافعي له ذلك على أن يكون ذلك دينا عليه إذا جاء صاحبها لحديث أبى بن كعب رضى الله عنه كما روينا ولما روى عن على رضى الله عنه انه وجد دينارا فاشترى به طعاما بعد التعريف فأكل من ذلك رسول الله ﷺ وعلى وفاطمة والحسن والحسين رضى الله عنهم أجمعين ولو كان سبيله التصدق ولم يكن للملتقط صرفها إلى منفعة نفسه لما أكلوا من ذلك فان الصدقة ما كانت تحل لهم والمعنى فيه ان للملتقط أن يصرفها إلى نفسه إذا كان محتاجا بسبب الالتقاط وما يثبت له بسبب الالتقاط يستوي فيه أن يكون غنيا أو فقيرا كالحفظ والتعريف والتصدق به على غيره وهذا لان في الصرف إلى نفسه معنى النظر له ولصاحبها أظهر لانه يتوصل إلى منفعته ببدل يكون دينا عليه لصاحبها إذا حضر فكان منفعة كل واحد في هذا أظهر وحجتنا في ذلك ما روينا من الاثار الموجبة للتصدق باللقطة بعد التعريف ولان المقصود اتصال ثوابها إلى صاحبها وهذا المقصود لا يحصل بصرفها إلى نفسه إذا كان غنيا بل يتبين به انه في الاخذ كان عاملا لنفسه ولا يحل له شرعا أخذ اللقطة لنفسه فكما يلزمه أن يتحرز عن هذه النية في الابتداء فكذلك

[ 8 ] في الانتهاء يلزمه التحرز عن إظهار هذا وقد بينا تأويل حديث أبى فأما حديث على رضى الله عنه فقد قيل ما وجده لم يكن لقطة وانما ألقاها ملك ليأخذه على رضى الله عنه فقد كانوا لم يصيبوا طعاما أياما وعرف رسول الله ﷺ ذلك بطريق الوحى فلهذا تناولوا منه علي ان الصدقة الواجبة كانت لا تحل لهم وهذا لم يكن من تلك الجملة فلهذا استجاز على رضى الله عنه الشراء بها لحاجته وإذا وجد الرجل اللقطة وهى دراهم أو دنانير فجاء صاحبها وسمى وزنها وعددها ووكاءها فأصاب ذلك كله فان شاء الذي في يده دفعها إليه وان شاء أبى حتى يقيم البينة عندنا وقال مالك يجبر على دفعها إليه لانه لما أصاب العلامات فالوهم الذي سبق إلى وهم كل واحد انه صاحبه والاستحقاق بالظاهر يثبت خصوصا عند عدم المنازع كما يثبت الاستحقاق لذى اليد باعتبار الظاهر يثبت والملتقط غير منازع له لانه لا يدعيها لنفسه ولانه يتعذر علي صاحبها إقامة البينة فانه ما أشهد أحدا عند سقوطها منه ولو تمكن من ذلك لما سقطت منه فسقط اشتراط إقامة البينة للتعذر وتقام العلامة مقام ذلك كما يقام شهادة النساء فيما لا يطلع عليه الرجال مقام شهادة الرجال ولكنا نقول اصابة العلامة محتمل في نفسه فقد يكون ذلك جزافا وقد يعرف الانسان ذلك من ملك غيره وقد يسمع من مالكه ينشد ذلك ويذكر علاماته والمحتمل لا يكون حجة للالزام ثم الملتقط أمين ويصير بالدفع إلى غير المالك ضامنا فيكون له أن يتحرز عن اكتساب سبب الضمان بأن لا يدفع إليه حتى يقيم البينة فيثبت استحقاقه بحجة حكمية وله أن يتوسع فيدفع إليه باعتبار الظاهر فان دفعها إليه أخذ منه بها كفيلا نظرامنه لنفسه فلعله يأتي مستحقها فيضمنها إياه ولا يتمكن من الرجوع على الاخذ منه لانه يخفى شخصه فيحتاط فيها بأخذ الكفيل منه وان صدقه ودفعها إلى ثم أقام آخر البينة انها له فله أن يضمن الملتقط أما بعد التصديق يؤمر بالدفع إليه لان الاقرار حجة في حق المقر لكن الاقرار لا يعارض بينة الآخر لان البينة حجة متعدية إلى الناس كافة فيثبت الاستحقاق بها للذى أقام البينة ويتبين ان الملتقط دفع ملكه إلى غيره بغير أمره فله الخياران شاء ضمن القابض بقبضه وان شاء ضمن الملتقط بدفعه فان ضمن الملتقط رجع على المدفوع إليه وان صدقه باصابته العلامة فقد كان ذلك منه اعتمادا على الظاهر ولا بقاء له بعد الحكم بخلافه والمقر إذا صار مكذبا في إقراره يسقط اعتبار إقراره كالمشتري إذا أقر بالملك للبائع ثم استحقه انسان من يده رجع على البائع بالثمن والرواية محفوظة في وكيل المودع إذا جاء إلى المودع وقال أنا وكيله

[ 9 ] في استرداد الوديعة منك فصدقه لا يجبر على الدفع إليه إلا في رواية عن أبى يوسف رحمة الله بخلاف وكيل صاحب الدين لان المديون انما يقضي الدين بملك نفسه واقراره في ملك نفسه ملزم فأما المودع يقر له بحق القبض في ملك الغير واقراره في ملك الغير ليس بملزم فعلى هذا قال بعض مشايخنا رحمهم الله في اللقطة كذلك لا يجبر على دفعها إليه وان صدقه ومنهم من فرق فقال هناك الملك لغير الذى حضر ظاهر في الوديعة وهنا ليس في اللقطة ملك ظاهر لغير الذي حضر فينبغي أن يكون اقرار الملتقط ملزما إياه الدفع إليه ثم في الوديعة إذا دفع إليه بعدما صدقه وهلك في يده ثم حضر المودع وأنكر الوكالة وضمن المودع فليس له أن يرجع على الوكيل بشئ وهنا للملتقط أن يرجع على القابض لانه هناك في زعم المودع ان الوكيل عامل للمودع في قبضه له بأمره وانه ليس بضامن بل المودع ظالم في تضمينه إياه ومن ظلم فليس له أن يظلم غيره وهنا في زعمه ان القابض عامل لنفسه وانه ضامن بعد ما يثبت الملك لغيره بالبينة فكان له أن يرجع عليه بعدما ضمن لهذا يوضحه ان هناك المودع منكر الوكالة والقول فيه قوله مع يمينة فلا حاجة به إلى البينة وانما يقضى القاضى علي المودع بالضمان باعتبار الاصل وهو عدم الوكالة فلا يصير المودع مكذبا في زعمه حكما وهنا انما يقضى بالضمان على الملتقط بحجة البينة فيصير هو مكذبا في زعمه حكما فان كانت اللقطة مما لا يبقى إذا أتى عليه يوم أو يومان عرفها حتى إذا خاف أن تفسد تصدق بها لان المقصود من التعريف ايصالها إلى صاحبها فتقيد مدة التعريف بالوقت الذى لا يفسد فيه لان بعد الفساد لا فائدة لصاحبها في ايصالها إليه وقد بينا ان التصدق بها طريق لحفظها على صاحبها من حيث الثواب فيصير إلى ذلك إذا خاف أن تفسد العين وإذا وجد شاة أو بعيرا أو بقرة أو حمارا فحبسه وعرفه وأنفق عليه ثم جاء صاحبها وأقام البينة أنه له لم يرجع عليه بما أنفق لانه متبرع في الانفاق على ملك الغير بغير أمره إلا أن يكون أنفق بغير أمر القاضى فأما أمر القاضى بمنزلة أمر صاحبها لما للقاضى على صاحبها من ولاية النظر عند عجزه عن النظر بنفسه والامر بالانفاق من النظر لانه لا بقاء للحيوان بدون النفقة عادة فان رفعها إلى القاضى وأقام البينة انه التقطها أمره بان ينفق عليها على قدر ما يرى وقد بينا طريق قبول هذه البينة والامر بالانفاق بعدها في اللقيط ثم انما يأمر بالانفاق نظرا منه لصاحبها فلا يأمر إلا في مدة يتحقق فيها معنى النظر له من يومين أو ثلاثة لانه لو أمر بالانفاق في مدة طويلة ربما يأتي ذلك على

[ 10 ] قيمتها فلا يكون فيها نظر لصاحبها فأما في المدة اليسيرة تقل النفقة ومعنى النظر لحفظ عين ملكه عليه يحصل فان لم يجئ صاحبها باع الشاة ونحوها لان في البيع حفظ المالية عليه بالثمن وله ولاية الحفظ عليه بحسب الامكان فإذا تعذر حفظ العين عليه لعوز النفقة صار إلى حفظ المال عليه بالبيع وأما الغلام والدابة فنؤاجره وننفق عليه من أجره لان بهذا الطريق يتوصل إلى حفظ عين ملكه والمنفعة لا تبقي له بعد مضى المدة فاجارته والانفاق على بمحض نظر له فإذا باعها اعطاء القاضى من ذلك الثمن ما أنفق عليه بأمره في اليومين أو الثلاثة لان الثمن مال صاحبها والنفقة دين واجب للملتقط على صاحبها وهو معلوم للقاضى فيقضى دينه بماله لان صاحب الدين لو ظفر بجنس حقه كان له أن ياخذه فكذلك القاضى يعينه على ذلك فان لم يبعها حتى جاء صاحبها وأقام البينة انها له قضى له بها القاضى وقضى عليه بنفقة الملتقط فان قال الملتقط لا أدفعها اليك حتى تعطيني النفقة كان له ذلك لان ملكه في الدابة حى وبقى تملك النفقة فكانت تلك النفقة متعلقة بمالية الدابة من هذا الوجه فيحبسها كما يحبس البائع المبيع بالثمن ولم يذكر في الكتاب أن الملتقط إذا لم يقم البينة هل يأمر القاضى بالانفاق أم لا والصحيح انه ينبغى للقاضي أن يقول له ان كنت صادقا فقد أمرتك بالانفاق عليه لان في هذا معنى النظر لهما ولا ضرر فيه على أحد فانه ان كان غاصبا للدابة لم يخرج من ضمانه ولا يستوجب الرجوع بالنفقة على مالكها بالامر لما قيده بكونه صادقا فيه وإذا التقط الرجل لقطة أو وجد دابة ضالة أو أمة أو عبدا أو صبيا حرا ضالا فرده على أهله لم يكن في شئ من ذلك جعل لانه متبرع بمنافعه في الرد ووجوب الجعل لرد الابق حكم ثبت نصا بخلاف القياس بقول الصحابة رضى الله عنهم فلا يلحق به ما ليس في معناه من كل وجه والضال ليس في معنى الآبق فالآبق لا يزال يتباعد من المولى حتى يفوته والضال لا يزال يقرب من صاحبه حتى يجده فلهذا أخذنا فيه بالقياس وان عوضه صاحبه شيئا فهو حسن لانه يحسن إليه في احياء ملكه ورده عليه وهل جزاء الاحسان إلا الاحسان ولانه منعم عليه وقال ﷺ من أزالت إليه نعمة فليشكرها وذلك بالتعويض وأدنى درجات الامر الندب وإذا وجد الرجل بعيرا ضالا أخذه يعرفه ولم يتركه يضيع عندنا وقال ملك رحمه الله تركه أولى للحديث المشهوران النبي ﷺ سئل عن ضالة الغنم فقال هي لك أو لاخيك أو للذئب فلما سئل عن ضالة الابل غضب حتى احمرت وجنتاه وقال مالك

[ 11 ] ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وترعي الشجر حتى يلقاها ربها وتأويله عندنا انه كان في الابتدء فان الغلبة في ذلك الوقت كان لاهل الصلاح والخير لا نصل إليها يد خائنة إذا تركها واجدها فأما في زماننا لا يأمن واجدها وصول يد خائنة إليها بعده ففى اخذها احياؤها وحفظها على صاحبها فهو أولى من تضييعها كما قررنا في سائر اللقطات وإذا باع اللقطة بأمر القاضى لم يكن لصاحبها ذا حضر إلا الثمن كما لو باعها القاضى بنفسه وهذا لان البيع نفذ بولاية شرعية فهو كبيع ينفذ باذن المالك وان كان باعها بغير أمر القاضى فالبيع باطل لحصوله ممن لا ولاية له علي المالك بغير أمر معتبر شرعا ثم ان حضر صاحبها واللقطة قائمة في يد المشتري يخير بين أن يجيز البيع وياخذ الثمن وبين أن يبطل وياخذ عين ماله لان البيع كان موقوفا على اجازته كما لو كان حاضرا حين باعه غيره بغير أمره فان كان قد هلكت اللقطة في يد المشترى فصاحبها بالخيار ان شاء ضمن البائع القيمة لوجود البيع والتسليم منه بغير إذنه وان شاء ضمن المشترى بقبضه ملكه بنفسه بغير رضاه فان ضمن البائع كان الثمن للبائع لانه ملكه بالضمان فينفذ البيع من جهيه ولكن يتصدق بما زاد على القيمة من الثمن لانه حصل له بكسب خبيث فان قيل الضمان انما يلزمه بالتسليم والبيع كان سابقا عليه كيف ينفذ البيع من جهته باداء الضمان قلنا لا كذلك بل كما رفعه ليبعه بغير أمر القاضى صار ضامنا بمنزلة المودع يبيع الوديعة ثم يضمن قيمتها فان البيع ينفذ من جهته بهذا الطريق وهو انه كما رفعها إلى البيع صار ضامنا فيستند ملكه إلى تلك الحالة فان ضمن المشترى قيمتها رجع بالثمن على البائع لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين فيبطل البيع به وليس له أن يجيز البيع بعد هلاك السلعة لان الاجازة في حقة بمنزلة ابتداء التمليك فلا يصح إلا في حاله بقاء المعقود عليه ولو كان المعقود عليه قائما في يده وقد قبض الملتقط الثمن وقد هلك في يده ثم أجاز البيع نفذ لقيام المعقود عليه وكان الملتقط أمينا في الثمن لان اجازته في الانتهاء كاذنه في الابتداء وإذا أخذ عبدا فجاء به إلى مولاه فقال هذا عبد آبق فقد وجب لى الجعل عليك وقال مولى العبد بل هو الضال أو قال أنا أرسلته في حاجة لى فالقول قول المولى لان الراد يدعي لنفسه عليه الجعل والمولى ينكر ذلك ولانه يدعى ان ملكه تغيب بالاباق والمولى منكر لذلك فالقول قوله مع يمينه وإذا هلكت اللقطة عند الملتقط فهو على ثلاثة أوجه ان كان حين أخذها قال أخذتها لاردها مالكها وأشهد على ذلك شاهدين فلا ضمان

[ 12 ] عليه لانه مأذون في أخذها للرد علي المالك مندوب إلى ذلك شرعا فكان هذا الاخذ نظير لاخذ باذن المالك فلا يكون سببا للضمان وان كان أخذها لنفسه وأقر بذلك فهو ضامن لها لانه ممنوع من أخذها فكان متعديا في هذا الاخذ فيكون ضامنا كالغاصب والاصل فيه قوله ﷺ على اليد ما أخذت حتى ترد أي ضمان ما أخذ والآخذ مطلقا من يكون عاملا لنفسه وان لم يكن أشهد عن الالتقاط ولكنه ادعى انه أخذها للرد ويدعى صاحبها ان أخذها لنفسه فعلى قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله القول قول صاحبها والملتقط ضامن وعند أبى يوسف رحمه الله القول قول الملتقط مع يمينه لوجهين (أحدهما) ان مطلق فعل المسلم محمول على ما يحل شرعا قال ﷺ لا تظنن بكلمة خرجت من في أخيك سوأ وأنت تجد لها في الخير محملا والذى يحل له شرعا الاخذ للرد لا لنفسه فيحمل مطلق فعله عليه وهذا الدليل الشرعي قائم مقام الاشهاد منه (والثانى) ان صاحبها يدعى عليه سبب الضمان ووجوب القيمه في ذمته وهو منكر لذلك فالقول قوله كما لو ادعى عليه الغصب وهما يقولان كل حر عامل لنفسه ما لم يظهر منه ما يدل على انه عامل لغيره ودليل كونه عاملا لغيره الاشهاد هنا فإذا تركه كان آخذا لنفسه باعتبار الظاهر هذا إذا وجدها في موضع يتمكن من الاشهاد فان لم يكن متمكنا من الاشهاد لعدم من يشهد أو لخوفه على أن يأخذ منه ذلك ظالم فالقول قوله ولاضمان عليه والثانى أن أخذ مال الغير بغير إذنه سبب موجب للضمان عليه إلا عند وجود الاذن شرعا والاذن شرعا مقيد بشرط الاشهاد عليه والاظهار فإذا ترك ذلك كان أخذه سببا للضمان عليه شرعا فلا يصدق في دعوى المسقط بعد ظهور سبب الضمان كمن أخذ مال الغير وهلك في يده ثم ادعى ان صاحبه أودعه لم يصدق في ذلك إلا بحجة وان قال قد التقطت لقطة أو ضالة أو قال عندي شئ فمن سمعتموه ينشد لقطة فدلوه على فلما جاء صاحبها قال قد هلكت فهو مصدق علي ذلك ولا ضمان عليه لانه أظهرها بما قال وتبين ان أخذها للرد فكان أمينا فيها ولا يضره أن لا يسمى جنسها ولا صفتها في التعريف لانه انما امتنع من ذلك لتحقيق الحفظ على المالك كيلا يسمع انسان ذلك منه فيدعيها لنفسه ويخاصمه إلى قاض يرى الاستحقاق لمصيب العلامة فقد بينا ان في هذا اختلافا ظاهرا وما يرجع إلى تحقيق الحفظ على المالك لا يكون سببا للضمان عليه وكذلك لو وبعد لقطتين فقال من سمعتموه ينشد لقطة فدلوه على وان لم يقل عندي لقطتان ثم هلكتا

[ 13 ] عنده ثم جاء صاحبهما فلا ضمان عليه فيهما لانه أظهرهما بما ذكر من التعريف فاللقطة اسم جنس يتناول الواحد وما زاد عليه حتى لو قال عندي لقطة برئ من الضمان وان كانت عنده عشرة لان الاشهاد بهذا اللفظ يتم منه في حق كل واحد منهما وإذا أخذ الرجل لقطة ليعرفها ثم أعادها إلى المكان الذى وجدها فيه فلا ضمان عليه لصاحبها وان هلكت قبل أن يصل إليها صاحبها أو استهلكها رجل آخر لان أخذها للتعريف لم يكن سببا لوجوب الضمان عليه وكذلك ردها إلى مكانها لانه نسخ لفعله فلا يكون سببا لوجوب الضمان عليه كرد الوديعة إلى مالكها ورد المغصوب إلى صاحبه ولانه بمجرد الاخذ لا يصير ملتزما للحفظ فقد يأخذها على ظن انها له بان كان سقط منه مثلها فإذا تأملها وعلم انها ليست له ردها إلى مكانها وقد يأخذها ليعرف صفتها حتى إذا سمع انسانا يطلبها دله عليها وقد يأخذها ليحفظها على المالك وهو يطمع في أن يتمكن من أداء الامانة فيها فإذا أحس بنفسه عجزا أو طمعا في ذلك ردها إلى مكانها فلهذا لا يضمن شيئا وانما الضمان على المستهلك لها وان كان الاول أخذها لنفسه ثم أعادها إلى مكانها فهو ضامن لها ان هلكت وان استهلكها غيره فلصاحبها الخيار يضمن أيهما شاء لان أخذها لنسه سبب موجب للضمان عليه وبعد ما وجب الضمان لا يبرأ إلا بالرد على المالك كالغاصب واعادتها إلى مكانها ليس برد على المالك فلا يكون مسقطا للضمان عليه وقيل على قول زفر يبرأ عن الضمان لانه نسخ فعله بما صنع فيسقط عنه حكم ذلك الفعل ونظائر هذه المسألة ذكرها في اختلاف زفر ويعقوب قال إذا كانت دابة فركبها ثم نزل عنها وتركها في مكانها فعلى قول زفر رحمه الله لا ضمان عليه وعلى قول أبى يوسف رحمه الله هو ضامن لها وكذلك لو نزع الخاتم من أصبع نائم ثم أعاده إلى أصبعه بعدما انتبه ثم نام فعند أبى يوسف رحمه الله لا يبرأ عن الضمان وعند زفر يبرأ عن ضمانه ولو أعاده إلى أصبعه قبل أن ينتبه من تلك النومة برأ بالاتفاق فزفر رحمه الله سوى بينهما باعتبار انه نسخ فعليه حين أعاده على الحال الذى أخذه وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انتبه صاحبه وجب عليه رده في حالة الانتباه فلا يكون نومه بعد ذلك مسقطا للضمان عليه بخلاف ما إذا رده قبل أن ينتبه وكذلك لو كان ثوبا فلبسه ثم نزعه وأعاده إلى مكانه فهو علي هذا الخلاف هذا إذا لبسه كما يلبس ذلك الثوب عادة فأما إذا كان قميصا فوضعه على عاتقه ثم أعاده إلى مكانه فلا ضمان عليه لان هذا حفظ وليس باستعمال فلا يصير

[ 14 ] به ضامنا وكذلك الخاتم ان لبسه في الخنصر فهو استعمال يصير به ضامنا اليد اليمنى واليسرى في ذلك سواء لان بعض الناس يلبسون الخاتم في الخنصر من اليد اليمنى للتزين والاستعمال وان لبسه في أصبع آخر لم يكن ضامنا لان المقصود هنا الحفظ دون التزين به وذكر هشام عن محمد رحمهما الله ان لبسه على خاتم في خنصره لم يكن ضامنا لان المقصود هو الحفظ دون التزين به قال هشام رحمه الله فقلت له من السلاطين من يتخم بخاتمين للتزين فقال يكون أحدهما للختم لالتزين ثم قال حتى أتأمل في هذا والحاصل ان الرجل إذا كان معروفا بانه يلبس خاتمين للتزين فهذا يكون استعمالا منه وإلا فهو حفظ وكذلك ان كان سيفا فتقلد به فهذا استعمال وان كان متقلدا سيفا فكذلك لان المبارز قد يتقلد بسيفين إلا أن يكون متقلدا بسيفين فحينئذ تقلده بهذه اللقطة يكون حفظا ولايكون استعمالا فلا يصير ضامنا لها قال وكذلك الغاصب إذا رد الدابة إلى دار صاحبها لم يبرأ من الضمان حتى يدفها إلى صاحبها بخلاف المستعير فانه ليس بضامن لها فإذا ردها إلى دار صاحبها فقد أتى بما هو المعتاد في الرد فلا يكون ضامنا شيئا فأما الغاصب ضامن لها فحاجته إلى رد مسقط للضمان عليه ولا يحصل ذلك ما لم يدفعها إلى صاحبها رجل جاء إلى دابة مربوطة لرجل فحلها ولم يذهب بها ثم ذهبت الدابة فلا ضمان على الذى حلها وروى عن محمد رحمه الله انه ضامن لها وعلي هذا لو فتح باب القفص فطار الطير أو فتح باب الاصطبل ففرت الدابة وجه قول محمد ان الذى حل الرباط أو فتح الباب في الحقيقة مزيل للمانع موجد شرط الذهاب إلا أن ما هو علة للتلف هنا وهو فعل الطير والدابة ساقط الاعتبار شرعا وفي مثله يحال الاتلاف علي صاحب الشرط فيصير ضامنا كحافر البئر في الطريق فانه أوجد شرط السقوط بازالة المسكة عن الارض فأما العلة ثقل الماشي في نفسه ومشيه في ذلك الموضع ولكن لما تعذر اضافة الاتلاف إليه إذا لم يكن عالما به كان مضافا إلى الحافر حتى يكون ضامنا وكذلك من شق زق انسان فسال منه مائع كان فيه فهو ضامن وعمله ازالة المائع فقط فأما علة السيلان كونه مائعا ولكن لما تعذر اضافة الحكم إلى ما هو العلة كان مضافا إلى الشرط وعلى هذا لو قطع حبل قنديل فسقط فعمل القاطع في ازالة المانع فكان ضامنا لهذا المعنى وأبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله يقولان عمله في اتحاد الشرط كما قال محمد رحمه الله وقد طرأ على ذلك الفعل فعل فاعل معتبر حصل به التلف فيسقط اعتبار ذلك الشرط ويحال بالتلف على هذا

[ 15 ] الفعل المعتبر قوله بان فعل الدابة هدر قلنا نعم هو غير معتبر في ايجاب الضمان ولكنه معتبر في نسخ حكم الفعل به ألا ترى ان من أرسل دابته في الطريق فأصابت في سير ارساله مالا أو نفسا كان المرسل ضامنا ولو تيامنت أو تياسرت ثم أصابت شيئا لم يضمن المرسل واعتبر فعلها في نسخ حكم فعل المرسل به فكذلك هنا يعتبر فعلها في نسخ حكم فعل الذى حلها أو فعلها باب الاصطبل به وهو نظير من حفر بئرا في الطريق فجاء حربى لا أمان له وألقى فيه غيره لم يضمن الحافر شيئا وفعل الحربى غير معتبر في ايجاب الضمان عليه ثم كان معتبرا في نسخ حكم فعل الحافر به وهذا بخلاف مسألة الزق والحبل فانه ما طرأ على فعله ما ينسخه حتى إذا كان مافى الزق جامدا ثم ذاب بالشمس فسال لم يضمن الشاق فان قيل كيف يستقيم القول في هذه الفصول بان عمله في اتحاد الشرط والشرط يتأخر عن العلة ولا يسبقها قلنا هذا شرط في معنى السبب فان الحكم يوجد عند وجود الشرط وعند وجود السبب إلا أن السبب يتقدم والشرط يتأخر فهذا التقدم في معنى السبب ولكونه مزيلا للمانع هو شرط كما بينا وعلى هذا لو حل قيد عبد آبق فذهب العبد لم يضمن شيئا لما قلنا قال محمد رحمه الله إلا أن يكون العبد مجنونا فحيئذ يضمن لان فعله في الذهاب غير معتبر شرعا فيبقى الاتلاف مضافا إلى ازالة المانع بحل القيد وقال أيضا لو كان هذا المجنون مقيدا في بيت مغلق فحل انسان قيده وفتح آخر الباب فذهب فالضمان علي الفاتح لان حل القيد لم يكن ازالة للمانع قبل فتح الباب واتمام ذلك بالفاتح للباب فهو الضامن وعلى قول الشافعي رضى الله عنه في هذه الفصول ان ذهب في فور فتح الباب أو حل الرباط فهو ضامن وان لم يذهب في فوره ذلك فلا ضمان عليه لانه لما لم يذهب في فوره فقد علمنا ان الباب لم يكن مانعا له وانما ذهب بقصد حدث له وقصد الدابة عنده معتبر وإذا ذهب في فوره فقد علمنا ان الباب كان مانعا ومن أزال هذا المانع فهو متعدى فيما صنع فيكون ضامنا وإذا كانت اللقطة في يد مسلم فادعاها رجل ووصيفها فأبى الذي في يده أن يدفعها إليه إلا ببينة فأقام شاهدين كافرين لم تجز شهادتهما لانها تقوم على المسلم في استحقاق يده عليه وشهادة الكافر ليست بحجة على المسلم وان كانت في يد كافر فكذلك في القيامن لانى لا أدرى لعلها ملك المسلم وشهادة الكافر في استحقاق ملك المسلم ليست بحجة ولكن في هذا الاستحسان يقضى له بشهادتهما لانها تقوم لاستحقاق اليد علي الملتقط والملتقط كافر وشهادة الكافر حجة على الكافر ثم كما (2 مبسوط الحادى عشر)

[ 16 ] يتوهم انها لمسلم يتوهم أنها لكافر فتقابل الموهومات مع ان الموهوم لا يعارض المعلوم وان كانت في يدي مسلم وكافر لم تجز شهادتهما في القياس على واحد منهما وفى الاستحسان يجوز على الكافر منهما فيقضى له بما في يد الكافر لما قلنا وإذا أقر الملتقط بلقطة لرجل وأقام آخر البينة انها له قضيت بها للذي أقام البينة لما قلنا ان البينة حجة في حق الكل والاقرار ليس بحجة في حق الغير والضعيف لا يعارض القوي فان أقربها لاحدهما أولا ودفعها إليه بغير حكم فاستهلكها ثم أقام آخر البينة فله أن يضمن ان شاء الدافع وان شاء القابض لانه أثبت ملكه بالحجة وكل واحد منهما متعدي في حقه فان ضمن الدافع لم يرجع على القابض لانه مقر ان القابض أخذ ملك نفسه وانه ليس بضامن شيئا وإقراره حجة عليه في اسقاط حقه وان ضمن القابض لم يرجع علي الدافع أيضا لانه في القبض كان عاملا لنفسه وان دفع بقضاء القاضي فله أن يضمن القابض ان شاء لما قلنا وان أراد أن يضمن الدافع فقد قال مرة في آخر هذا الكتاب ليس له أن يضمن الدافع وقال مرة أخرى له أن يضمن الدافع وحيث قال له ان يضمن الدافع فهو قول محمد رحمه الله وما قال ليس له أن يضمن الدافع فهو قول أبى يوسف رحمه الله وأصله مسألة الوديعة إذا قال هذا العين في يدي لفلان أودعنيه فلان لرجل آخر فان دفعه إلى المقر له الاول بغير قضاء القاضى ضمن للمقر له بالودعية بالاتفاق وان دفعه بقضاء القاضى فكذلك عند محمد لانه باقراره سلط القاضى علي القضاء فهو كما لو دل انسانا علي سرقة الوديعة وعند أبى يوسف رحمه الله لا ضمان عليه لان باقراره لم يتلف شيئا على صاحب الوديعة والدفع كان بقضاء القاضى فلا يكون موجبا للضمان عليه فكذلك هنا الملتقط أمين كالمودع فإذ دفع إلى المقر له بقضاء القاضى لم يضمن في قول أبى يوسف شيئا لمن يقيم البينة وهو ضامن له في قول محمد والله أعلم كتاب الاباق (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد رحمه الله اعلم بان الاباق تمرد في الانطلاق وهو من سواء الاخلاق ورداءة في الاعراق يظهر العبد عن سيده فرار البصير ماله ضمار افراده إلى مولاه واعادته إلى مثواه إحسان ولقتتان وانما جزاء الاحسان الا الاحسان فالكتاب لبيان الجزاء المستحق افراد في الدنيا مع ماله من الاجر في العقبى باغاثة اللهفات ومنع المعتدى

[ 17 ] عن العدوان ولهذا بدأ بحديث سعيد بن المرزبان عن أبى عمر والشبانى قال كنت جالسا عند عبد الله بن مسعود رضى الله عنه فجاء رجل فقال ان فلانا قدم بإباق من القوم فقال القوم لقد أصاب أجرا فقال عبد الله رضى الله عنه وجعلا إن شاء من كل رأس أربعين درهما. وفي هذا الحديث بيان ان الراد مثاب لان عبد الله بن مسعود رضى الله عنه لم ينكر عليهم اطلاق القول بأنه أصاب أجرا وفيه دليل على انه يستحق الجعل على مولاه وهو استحسان أخذ به علماؤنا رحمهم الله. وفى القياس لاجعل له وهو قول الشافعي رضى الله عنه لانه تبرع بمنافعه في رده علي مولاه ولو تبرع عليه بعين من أعيان ماله لم يستوجب عليه عوضا بمقابلته فكذلك إذا تبرع بمنافعه ولان رد الآبق نهى عن المنكر لان الاباق منكر والنهى عن المنكر فرض على كل مسلم فلا يستوجب باقامة الفرض جعلا ولكنا تركنا هذا القياس لا تفاق الصحابة رضى الله عنهم فقد اتفقوا على وجوب الجعل لان ابن مسعود رضى الله عنه قال في مجلسه ما قال وقد اشتهر عنه ذلك لا محالة ولم ينكر عليه أحد من أقرانه وقد عرض قوله عليهم لا محالة والسكوت بعد ذلك عن اظهار الخلاف لا يحل لمن يعتقد خلافه فمن هذا الوجه يثبت الاجماع منهم ثم هم اتفقوا على أصل وجوب الجعل وان اختلفوا في مقداره فقال عمر رضى الله عنه دينار أواثنا عشر درهما وقال على رضى الله عنه دينار أو عشرة دراهم وقال عمار بن ياسر رضى الله عنه إذا أخذه في المصر فله عشرة دراهم أو دينار وان أخذه في غير المصر فله أربعون درهما فقد اتفقوا على وجود أصل الجعل وكفى باجماعهم حجة والاصل أن الصحابة رضى الله عنهم متى اختلفوا في شئ فالحق لا يعدوهم وليس لاحد أن يترك جميع أقاويلهم برأيه ولكن يرجح قول البعض على البعض فنحن أخذنا بقولهم في ايجاب أصل الجعل ورجحنا قول ابن مسعود رضى الله عنه في مقداره (فان قيل) كان ينبغي أن يؤخذ بالاقل في المقدار لانه متيقن به (قلنا) انما لم يؤخذ بالاقل لان التوفيق بين أقاويلهم ممكن بأن يحمل قول من أفتى بالاقل علي مااذا رده مما دون مسيرة سفر وقول من أفتى بالاكثر على ما إذا رده من مسيرة سفر كما فسره عمار بن ياسر رضى الله عنه فان قوله ان أخذه في المصر كناية عما دون مسيرة سفر وان أخذه خارج المصر كناية عن مسيرة سفر ومتى أمكن التوفيق بين أقاويلهم وجب المصير إليه ثم الاخذ بالاقل انما يكون فيما يقولونه بارائهم ونحن نعلم أنهم ما قالوا هذا بالرأى لانه خلاف القياس ولان نصب

[ 18 ] المقادير بالرأى لا يكون ولا طريق لما ثبت عنهم من الفتوى الا الرأى أو السماع ممن ينزل عليه الوحى فإذا انتفى أحدهما هنا تعين الآخر وصار كأن كل واحد منهم روى ما قاله عن رسول الله ﷺ والمثبت للزيادة من الاخبار عن التعارض أولى فلهذا أخذنا بالاكثر هذا هو النهاية في التمسك بالسنة والاخذ بأقاويل الصحابة رضى الله عنهم فقد قامت الشريعة بفتواهم إلى آخر الدهر وليس لاحد أن يظن بهم إلا أحسن الوجوه ولكنه بحر عميق لا يقطعه كل سابح ولا يصيبه كل طالب. وليس في هذا الباب شئ من المعنى سوى ما ذكره عن إبراهيم قل كى يرد الناس بعضهم على بعض معناه أن الراد يحتاج إلى معالجة ومؤنة في رده وقلما يرغب الناس في التزام ذلك خشية ففى ايجاب الجعل للراد ترغيب له في رده واظهار الشكر في المردود عليه لاحسانه إليه الا ان إبراهيم كان يستحب ذلك ولا يوجبه على ماروى عنه أنه كان يستحب أن يرضخ للذي يجئ بالآبق. ولم نأخذ بقوله في هذا وانما نأخذ بقول شريح والشعبى رحمهما الله فقد قال الشعبى رحمه الله للراد دينار إذا أخذه خارجا من المصر وقال شريح رحمه الله له أربعون درهما فنأخذ بذلك ويحمل ما نقل عن الشعبى على مااذا رده مما دون مسيرة السفر ويستقيم الاحتجاج بقول شريح رحمه الله في هذا ونحوه لان الصحابة رضى الله عنهم قلدوه القضاء وسوغوا له المزاحمة معهم في الفتوى ألا ترى أنه خالف عليا رضى الله عنه في رد شهادة الحسن رضى الله عنه وان مسروقا رحمه الله خالف ابن عباس رضى الله عنهما في موجب النذر بذبح الولد ورجع ابن عباس رضى الله عنهما إلى قوله فعرفنا أن من كان بهذه الصفة فقوله كقول الصحابي * ثم الشافعي استحسن برأية في هذه المسألة من وجه فقال لو كان المولى خاطب قوما فقال من رد منكم عبدى فله كذا فرده أحدهم استوجب ذلك المسمى وهذا شئ يأباه القياس لان العقد مع المجهول لا ينعقد وبدون القبول كذلك ولاشك ان الاستحسان الثابت باتفاق الصحابة رضى الله عنهم خير من الاستحسان الثابت برأى الشافعي رضى الله عنه ولا حجة له في قوله تعالى ولمن جاء به حمل بعير لان ذلك كان خطابا لغير معين وهو لا يقول به فانه لو قال من رده فله كذا ولم يخاطب به قوما باعيانهم فرده أحدهم لا يستحق شيئا ثم هذا تعليق استحقاق المال بالخطر وهو قمار والقمار حرام في شريعتنا ولم يكن حراما في شريعة من قبلنا (وان قال) اعتبر قول المالك لاثبات أمره بالرد للذين خاطبهم ثم المأمور من جهة الغير

[ 19 ] يرجع عليه بما لحقه من المؤنة في ذلك (قلنا) لو كان هذا معتبرا لرجع عليه بما لحق فيه من المؤنة دون المسمى * ثم الامر هنا ثابت أيضا بدون قوله ألا ترى أن العبد الهارب من مولاه مادام بمرأى العين منه ينادي مولاه على أثره خذوه فعرفنا بهذا انه أمر لكل من يقدر على أخذه ورده على أن يرده عليه والامر الثابت دلالة بمنزلة الامر الثابت افصاحا ثم ذكر عن الشعبى في رجل أخذ غلاما آبقا فأبق منه قال لا ضمان عليه وذكر بعده عن جرير بن بشير عن أشياخ من قومه قال أخذ مولى للحى آبقا فأبق منه نحو حى فكتب إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم ففعل ذلك ثم كتب إليه فأقبل بالعبد فأبق من فاختصموا إلى شريح فضمنه إياه ثم اختصموا إلى على رضى الله عنه فقال يحلف العبد الاحمر للعبد الاسود بالله ما أبق منه ولاضمان عليه وانما نأخذ بحديث على رضى الله عنه والشعبى فنقول لا ضمان عليه إذا أخذه للرد على مولاه لانه أخذه باذن مولاه كما بيناه وفي هذا دليل على ان الراد يستوجب الجعل وكان ذلك أمرا ظاهرا حتى لم يخف على مواليهم حين كتب الآخذ إلى مولاه أن يأتي أهله فيجتعل له منهم إلا انه كان من مذهب شريح تضمين الاجير المشترك فيما يمكن التحرز عنه والمستوجب للجعل بمنزلة الاجير المشترك فلهذا ضمنه وكان من مذهب على رضى الله عنه انه لا يضمن الاجير المشترك كما ذكر عنه في كتاب الاجارات في إحدى الروايتين ولكن القول قوله مع يمينه وقوله) يحلف العبد الاحمر يريد به الراد سماه أحمر لقوته وقدرته على أخذ الابق وسمى الابق أسود الخبث فعله وهو من دعابة على رضى الله عنه قال وإذا أتى الرجل بعبد آبق فأخذه السلطان فحبسه فجاء رجل وأقام البينة انه عبده فانه يستحلف بالله ما بعته ولا وهبته ثم يدفع إليه أولا. نقول ينبغى للراد أن يأتي به السلطان بخلاف ما سبق في اللقطة لانه يقدر على حفظها بنفسه ولا يقدر على حفظ الآبق بنفسه عادة فرفعه إلى السلطان لهذا ولانه يستوجب التعزير علي إباقه فيرفعه إلى السلطان ليعزره ويأخذه السلطان منه ليحبسه وذلك نوع تعزير ثم من يدعيه لا يستحقه بدون البينة فإذا أقام البينة فقد أثبت ملكه فيه بالحجة إلا انه يحتمل أن يكون باعه أو وهبه ولا يعرف الشهود ذلك فيستحلفه على ذلك (فان قيل) كيف يستحلفه وليس هنا خصم يدعي ذلك (قلنا) يستحلفه صيانة لقضاء القاضى والقاضى مأمور بان يصون قضاءه عن أسباب الخطأ بحسب الامكان أو يستحلفه نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه من مشتر أو موهوب له فإذا

[ 20 ] حلف دفعه إليه ولا أحب أن يأخذ منه كفيلا وان أخذ منه كفيلا لم يكن مسيئا ولكن ان لم ياخذ أحب إلى هذه رواية أبى حفص وفي رواية أبى سليمان قال أحب إلى أن يأخذ منه كفيلا وان لم يأخذ كفيلا وسعه ذلك. من أصحابنا من قال ما ذكر في رواية أبى حفص قول أبى حنيفة رحمه الله فانه لا يرى أخذ الكفيل للمجهول كما قال في الجامع الصغير في أخذ الكفيل من الوارث هذا شئ احتاطه بعض القضاة وهو ظلم وما قاله في رواية أبى سليمان رحمه الله قولهما لانهما يجوزان للقاضى أن يحتاط بأخذ الكفيل صيانه لقضاء نفسه أو نظرا لمن هو عاجز عن النظر لنفسه والاصح ان فيه روايتين وما ذكر في رواية أبى سليمان أقرب إلى الاحتياط فربما يظهر مستحق يقيم البينة علي الولادة في ملكه فيكون مقدما علي من أقام البينة على الملك المطلق أو يقيم البينة على الملك المطلق فيكون مزاحما له أو يقيم البينة على انه اشتراه منه فالمستحب أن يأخذ منه كفيلا لهذا ولكنه موهوم لم يقم عليه دليل فكان في سعة من أن لا يأخذ منه كفيلا. وما ذكر في رواية أبى حفص أقرب إلى القياس لان استحقاقه ثابت بما أقام من البينة واستحقاق غيره موهوم والموهوم لا يقابل المعلوم فلا يستحب للقاضى ترك العمل الا بحجة معلومة لامر مرهوم أرأيت لو لم يعطه كفيلا أو لم يجد كفيلا أكان يمتنع القاضى من القضاء به له وقد أقام البينة ولكنه لو أخذ منه كفيلا فهو فيما صنع محتاط مجتهد فلا يكون مسيئا وان لم يكن للمدعى بينة وأقر العبد انه عبده فانه يدفعه إليه وياخذ منه كفيلا. أما الدفع إليه فلان العبد في يد نفسه وقد أقربانه مملوك له ولو ادعى أنه حر كان قوله مقبولا فكذلك إذا أقر أنه مملوك له يصح اقراره في حق نفسه لانه لا منازع لهما فيما قالا وخبر المخبر محمول على الصدق ما لم يعارضه مثله ولكن يأخذ منه كفيلا لان الدفع إليه بما ليس بحجة على القاضى فلا يلزمه ذلك بدون الكفيل بخلاف الاول فالدفع هناك ليس بحجة ثابتة في حق القاضى يوضحه أن قول العبد بعد اقراره بالرق في تعيين مالكه غير مقبول ألا ترى انه لو كان في يد رجلين وأقر بالملك لاحدهما لم يصح اقراره وكان بينهما فكذلك لا يصح اقراره في استحقاق اليد الثابتة للقاضى بعد ما أقر برقه فلابد من أن يأخذ منه كفيلا بحق نفسه حتى إذا حضر مالكه وأراد أن يضمنه يمكن من أخذ الكفيل ليحضره فيخلصه من ذلك فأما إذا أقام البينة فقد أثبت استحقاق اليد على القاضى ولا يلحق القاضى ضمان في الدفع إليه بحجة البينة فلهذا لا يحتاط باخذ الكفيل وان لم يكن للعبد طالب فإذا

[ 21 ] طال ذلك باعه الامام وأمسك ثمنه حتى يجئ له طالب ويقيم البينة انه عبده فيدفع إليه الثمن لانه مأمور بالنظر وليس من النظر إمساكه بعد طول المدة لانه محتاج إلى النفقة وربما يأتي ثمنه على نفقته ولانه لا يأمن ان يابق منه فكان حفظ ثمنه أيسر عليه من حفظ عينه وأنفع لصاحبه وليس لصاحبه إذا حضر أن ينقض بع الامام لانه نفذ بولاية شرعية وينفق عليه الامام في مدة حبسه من بيت المال لانه محتاج إلى النفقة عاجز عن الكسب إذا كان محبوسا ولو أمره الامام بان يخرج فيكتسب فأبق ثانيا فكان النظر في الانفاق عليه من بيت المال لانه معد للنوائب وهذا من جملة النوائب ثم يأخذ ذلك من صاحبه ان حضر فرده عليه أو من ثمنه ان باعه وقد ببنا هذا في نفقة الملتقط بأمر القاضى فكذلك في نفقة الامام من بيت المال على الآبق لان قضاءه في ذلك للمسلمين لا لنفسه فان أقام مدعيه شهودا نصارى لم تجز شهادتهم لان العبد في يد امام المسلمين واستحقاق يد المسلم لا يكون بشهادة النصاري وان أقام بينة من المسلمين وقد باعه الامام فزعم انه كان قد دبره أو كانت جارية فزعم انها كانت أم ولده لم يصدق على فسخ البيع لان البيع نفذ من القاضى بولاية شرعية فكأن المالك باشر بيعه بنفسه ثم ادعى شيئا من ذلك ولا يصدق على فسخ البيع الا أن يكون لها ولد وقد ولدته في ملكه فيدعى انه ولده منها فحينئذ يصدق ويثبت النسب ويفسخ البيع كما لو كان باشر البيع بنفسه وهذا لان ثبوت نسب ولد حصل العلوق به في ملكه بمنزلة البينة فيما يرجع إلى ابطال حق الغير ألا ترى ان المريض إذا أقر لجاريته أنها أم ولده ومعها ولد يدعى نسبه كان مصدقا في ابطال حق الغرماء والورثة عنها بخلاف ما إذا لم يكن معها ولد فهذا مثله وإذا وجد الرجل غلاما أو جارية آبقا بالغا أو غير بالغ فرده إلى مولاه فان كان أخذه من مسيرة ثلاثة أيام أو أكثر فله الجعل أربعون درهما ولا يزاد على ذلك وان بعدت المسافة لان تقدير الجعل بأربعين إذا رده من مسيرة سفر ثابت بفتوى ابن مسعود رضى الله عنه والزيادة على القدر الثابت شرعا بالرأي لا تجوز ولان أدنى مدة السفر معلوم ولانهاية لما وراء ذلك والحكم لا يتغير به شرعا كسائر الاحكام المتعلقة بالسفر وان أخذه في المصر أو خارجا منه ولكن فيما دون مسيرة سفر في القياس لا شئ له لان التقدير الثابت بالشرع يمنع أن يكون لما دون المقدر حكم المقدر ولان الجعل انما يستحقه راد الآبق وتمام الاباق بمسيرة السفر ففيما دونه هو كالضال ولهذا لا يتعلق شئ من أحكام السفر فيما

[ 22 ] دون مسيرة السفر. وفى الاستحسان له الجعل على قدر المكان والعناء لان في مدة السفر وجوب الجعل ليس لعين المدة بل لما يلحق من العناء والنعب في رده وقد وجد بعض ذلك فيستوجب من الجعل بقدره ألا ترى ان المالك لو استأجره بمال معلوم ليرده من مسيرة يوم استحق من المسمى بقدرة فكذلك فيما هو ثابت شرعا وان كان أنفق عليه أضعاف مقدار الجعل بغير أمر القاضى فليس له سوى الجعل لانه متبرع فيما أنفق وان مات عنده قبل أن يرده أو أبق منه فان كان أشهد على ذلك حين وجده انه انما أخذه ليرده علي صاحبه فلا ضمان عليه وان أقر انه أخذه لنفسه فهو ضامن وان ادعى انه أخذه للرد ولكن ترك الاشهاد مع الامكان فهو على الخلاف وقد بينا هذا في اللقطة فكذلك في الآبق لان المعنى يجمعها وهذا إذا علم انه كان آبقا فان أنكر المولى أن يكون عبده آبقا فالقول قوله لان السبب الموجب للضمان قد ظهر من الاخذ وهو أخذه مال الغير بغير إذنه فهو يدعى ما يسقطة وهو الاذن شرعا لكون العبد آبقا ولو ادعى الاذن من المالك له في أخذه وأنكر المالك كان القول قوله فكذلك هنا وعلى هذا لورده فأنكر المولى أن يكون عبده آبقا فلا جعل له إلا أن يشهد الشهود بانه أبق من مولاه أوان مولاه أقر باباقه فحينئذ الثابت بالبينة كالثابت معاينة فيجب له الجعل وإذا أعتقه المولى في إباقه جاز ذلك لان نفوذ هذا التصرف يعتمد الملك دون القدرة على التسليم حتى ينفذ في المرهون والمؤاجر والجنين في البطن والمبيع قبل القبض فكذلك ينفذ في الآبق لان الاباق لا يزيل ملكه وانما يعجزه عن التسليم ولهذا لو باعه لم يجز لان البيع لا يصح إلا فيما هو مقدور التسليم للعاقد وقدرته علي التسليم تنعدم بالاباق ولان في بيعه معنى الغرر لانه لا يعلم بقاؤه في الحال حقيقة ولاعوده ليقدر على التسليم ونهى رسول الله ﷺ عن ببع الغرر فالغرر لايمنع نفوذ العتق والتدبير فلهذا صح منه إذا ظهر أنه كان قائما وقت العتق ولو وهبه لرجل لم يجز لان الهبة لا تتم إلا بالتسليم وهو غير قادر على تسليمه فان وهبه لابن له صغير في عياله فالهبة جائزة واعلامة بمنزلة القبض لانه باق في يد مولاه حكما فيصير قابضا للصغير باليد الحكمى الذى بقى له وحق القبض فيما يوهب للصغير إليه وسواء كان الصغير في عياله أو لم يكن لان الولاية ثابتة له بالابوة فلا تنعدم بكونه في عيال غيره وانما ذكر قوله في عياله علي سبيل العادة لا للشرط وانما قلنا انه في يده حكما لان اليد الحكمى كان له باعتبار ملكه فلا ينعدم

[ 23 ] الا باعتراض يد أخرى علي يده وبالاباق لا يوجد ذلك وعلى هذا الطريق لا فرق بين أن يكون مترددا في دار الاسلام أو في دار الحرب ووجه آخر فيه وهو ان اليد الحكمى باعتبار تمكنه من الاخذ لانه لو قدر عليه وذلك ما باق ما دام في دار الاسلام بقوة الامام والمسلمين وعلى هذا الطريق لو أبق إلى دار الحرب ثم وهبه لابنه الصغير لا يجوز كما رواه قاضى الحرمين عن أبى حنيفة رحمه الله لان اليد الحكمى ليس بثابت له في دار الحرب وإذا أبق العبد المأذون ثم اشترى وباع لم يجز وقد صار محجورا عليه استحسانا وفي القياس لا يصير محجور عليه وهو قول زفر رحمه الله لان ما به صح اذن المولى وهو قيام ملكه في رقبته لا ينعدم بالاباق لان الاباق لا ينافي ابتداء الاذن فلا ينافى البقاء بطريق الاولى. وجه الاستحسان ان المولى انما يرضى بتصرفه مادام تحت طاعته ولا يرضى به بعد تمرده وإباقه فإما أن يتقيد الاذن المطلق بما قبل الاباق لدلالة العرف أو يصير محجورا بعد الاباق لدلالة الحجر فان المولى لو ظفر به أدبه وحجر عليه ودلالة الحجر كالتصريح بالحجر كما ان دلالة الاذن كالتصريح بالاذن ولهذا صح اذن الآبق ابتداء لان الدلالة يسقط اعتبارها عند التصريح بخلافها ألا ترى ان تقديم المائدة بين يدى انسان يكون إذنا له في التناول دلالة فان قال لا يأكل بطل حكم ذلك الاذن للتصريح بخلافه ثم المولى لو ظفر به أدبه وحبسه وحجر عليه فهو وان عجز عن تأديبه فالشرع ينوب عنه في الحجر عليه كالمرتد اللاحق بدار الحرب يموته الامام حكما فيقسم ماله بين ورثته لانه لو قدر عليه قتله فإذا عجز عن ذلك جعله الشرع ميتا حكما فهذا مثله والحكم في جناية الآبق والجناية عليه وفي حدوده كالحكم فيها في المصر لان الرق فيه باق بعد الاباق وملك المولى قائم فيه وباعتباره يخاطب بالدفع أو الفداء عند قدرته عليه فإذا قامت البينة عليه بالسرقة لم يقطعه الامام حتى يحضر مولاه فإذا حضر قطعه في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله يقطعه ولا ينتظر حضور مولاه وكذلك إذا قامت الينة عليه بسائر الاسباب الموجبة للعقوبة من حد أو قصاص فهو على هذا الخلاف. وجه قول أبى يوسف رحمه الله ان العبد في الاسباب الموجبة للعقوبة كالحر بدليل انه يصح إقراره بها على نفسه ولا يصح إقرار المولى عليه بذلك وفيما كان هو بمنزلة الحر لا يشترط حضور المولى للقضاء عليه بالبينة كالطلاق وهذا لان التزام العقوبة باعتبار معنى النفسية دون المالية وحق المولي في ملك المالية فبقى هو في النفسية على أصل الحرية

[ 24 ] لان العقوبة تثبت عليه بالبينة تارة وبالاقرار تارة ثم فيما يثبت باقرارة لا يشترط حضور المولى للاستيفاء فكذلك فيما يثبت بالينة بل أولى لان البينة حجة متعدية إلى الناس كافة والاقرار حجة قاصرة في حق المقر خاصه. وجة قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ان في اقامة الحد عليه تفويت حق المولى فلا يجوز إلا بمحضر منه لان العبد ليس بخصم عنه والقضاء على غير خصم حاضر بتفويت حقه لا يجوز وبيان هذا أن للمولى حق الطعن في الشهود حتى لو كان حاضرا كان طعنه مسموعا ففى اقامة القوبة تفويت حق المطعون عليه والدليل عليه ان العبد لو كان كافرا ومولاه مسلما لم تقبل شهادة الكفار عليه بالاسباب الموجبة للعقوبة ولو لم يكن للمولى حق في هذه البينة لكان لا يعتبر دينه في ذلك والعبد ليس بخصم عن المولى لانه خصم باعتبار معنى النفسية ولا حق للمولى في ذلك فلا ينتصب خصما عنه وبه فارق الاقرار فانه ليس للمولى حق الطعن في اقراره فلا يكون في اقامة القعوبة عليه بالاقرار تفويت حق المولي ولان وجوب العقوبة عليه باعتبار معنى النفسية ولكن في الاستيفاء اتلاف مالية المولي والبينة لا توجب شيئا بدون القضاء والاستيفاء في العقوبات من تتمة القضاء ألا ترى ان المعترض بعد القضاء قبل الاستيفاء يجعل كالمقترن بأصل القضاء حتى يمتنع الاستيفاء به فإذا كان تمام قضائه متناولا حق المولى يشترط حضور المولى في ذلك بخلاف الاقرار فانه موجب بنفسه قبل قضاء القاضى وولاية الاستيفاء تثبت بتقرر الوجوب فلا يشترط فيه حضور المولي وإذا أخذ العبد الآبق وحبس في بلد فتقدم مولاه الي قاضى بدلته وأقام عليه شاهدين وطلب أن يكتب به الي قاضى البلد الذى هو فيه لم يجبه الي ذلك في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ولو فعل لم نقض القاضى المكتوب إليه بذلك الكتاب وعلى قول أبى يوسف يجيبه إلى ذلك بطريق يذكره وهو قول ابن أبى ليلى * والحاصل ان كتاب القاضى الي القاضى في الديون صحيح بالاتفاق وكذلك في العقار لان اعلامها في الدعوي والشهادة تذكر الحدود دون الاشارة إلى العين وفى العروض من الدواب والثياب لا يجوز كتاب القاضى الي القاضى بالاتفاق لانه لا بد من إشارة الشهود إلى العين للقضاء بشهادتهم وذلك نعدم في كتاب القاضى إلى القاضي فأما في العبيد والجواري فلا يجوز كتاب القاضى عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله أيضا وهو القياس لانه لا بد من إشارة الشهود إلى العين ليتبت الاستحقاق بشهادتهم ولهذا لو كان حاضرا في البلدة لا يسمع الدعوى والشهادة الا بعد

[ 25 ] احضاره فلا يجوز فيه كتاب القاضى الي القاضى كما في سائر العروض ولكن استحسن أبو يوسف في العبيد قال العبد قد يأبق من مولاه و قد يرسله مولاه في حاجة من بلد إلى بلد فيمتنع من الرجوع إليه ويتعذر علي المولى الجمع بين شهوده وبينه في مجلس القاضى فلو لم يقبل فيه كتاب القاضى إلى القاضى أدى إلى اتلاف أموال الناس فكان قبول البينة بهذه الضنة أرفق بالناس وما كان أرفق بالناس فالاخذ به أولى لان الحرج مدفوع وكان يقول مرة في الجارية أيضا يقبل كتاب القاضى إلى القاضي ثم رجع فقال لا يقبل في الجارية لان باب الفروج مبنى علي الاحتياط ولان هذه البلوى تقل في الجوارى فالمولى لا يرسلها من بلد إلى بلد عادة والاباق في الجوارى يندر أيضا * ثم بيان مذهبه أن المدعى يقيم عند القاضى شاهدين على حليته وصفته وانه مملوك له فيكتب له بذلك الي قاضى البلد الذى هو فيه محبوس فإذا ثبت الكتاب عند ذلك القاضى بشهادة الشهود عليه وعلى الختم ووافق حلية العبد وصفته ما في الكتاب دفع إليه من غير أن يقضى له بالملك ويختم في عنقه بالرصاص للاعلام ويأخذ من المدعى كفيلا ثم يأتي به المدعي إلى البلد الذى فيه شهوده ويكتب معه كتابا إلى ذلك القاضي فإذا أتى به إلى هذا القاضى أعاد شهوده ليشهدوا بالاشارة إلى العبد انه ملكه وحقه فإذا شهدوا بذلك قضى له بالعبد وكتب إلى ذلك القاضى بما ثبت عنده ليبرئ كفيله. وفى الجوارى على قوله الاول لا يدفعها إليه القاضى المكتوب إليه أولا ولكنه يبعث بها معه على يد أمين لانه لو دفعها إليه لا يمتنع من وطئها وان كان أمينا في نفسه لانه يزعم أنها مملوكته ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله قالا هذا استحسان فيه بعض القبح فانه إذا دفع إليه العبد يستخدمه قهرا أو يستغله فيأكل من غلته قبل أن يثبت ملكه فيه بقضاء القاضى وربما يظهر العبد لغيره إذا جاء به إلى القاضى الكاتب فالحلية والصفة تشتبه ألا ترى ان الرجلين المختلفين قد يتفقان في الحلية والصفة أرأيت لو كانت جارية حسناء أكان يبعث بها مع رجل لم يثبت له فيها حق هذا قبح فلهذا أخذنا بالقياس فان كان القاضي باع العبد الآبق حين طال حبسه وأخذ ثمنه وهلك العبد عند المشترى ثم ادعاه الرجل وأقام البينة ان عبدا اسمه كذا وكذا عبده فوافق ذلك صفة البعد الذى باعه القاضى لم يقبل ذلك ولا يدفع إليه الثمن لان شهوده لم يشهدوا على استحقاق ما في يد القاضى من الثمن نما شهدوا على الاسم والحلية والاسم يوافق الاسم والحلية توافق الحلية الا أن يشهدوا ان العبد

[ 26 ] الآبق الذى باعه القاضى من هذا الرجل هو عبد هذا فحينئذ يقضى له القاضى بالثمن لانه أثبت الملك في ذلك العبد بعينه والبدل انما يملك بملك الاصل وكذلك ان لم يبعه حتى قتل فاقام المدعى البينة أن المقتول عبده فانه يقضى له بالقيمة لان القيمة والثمن كل واحد منهما بدل عن العبد واستحقاق البدل باستحقاق الاصل * رجل أخذ عبدا آبقا فباعه بغير اذن القاضى ثم أقام المولى بينة أنه عبده فانه يسترده من المشترى والبيع باطل لان الآخذ باعه بغير ولاية له فان ولاية تنفيذ البيع له في ملك الغير انما تثبت باذن المولى أو باذن القاضى بعد ما تثبت الولاية له فإذا باعه بدون اذن القاضى كان البيع باطلا وان كان العبد هلك عند المشترى فللمستحق أن يضمن قيمته أيهما شاء لان البائع متعد في حقه بالبيع والتسليم والمشترى بالقبض لنفسه فإذا ضمن المشترى قيمته رجع علي البائع بالثمن لان المبيع لم يسلم من جهته واسترداد القيمة منه كاتسرداد العين وان ضمن البائع قيمته نفذ البيع من جهته لانه ملكه بالضمان فيكون الثمن له ولكنه يتصدق بما فضل من القيمة على الثمن لانه ربح حصل لاعلى ملكه بكسب خبيث * رجل أقام البينة عند قاض من الفضاة بان العبد الذى باعه قاضى بلد كذا من فلان فهو عبده وأخذ كتابه إلى ذلك القاضى الذى باع الآبق فهذا جائز ويدفع ذلك القاضى إليه المثن إذا ثبت كتاب القاضى عنده بالبينة لان المدعى بهذه البينة لا يريد أخذ عين العبد فان بيع القاضى قد نفذ ألا ترى انه لو أقام البينة عنده دفع إليه المثن ولم يمكنه من أخذ العبد فعرفنا ان مقصوده اثبات حق أخذ الثمن لنفسه فهذا والبينة التى يقيمها علي الدين سواء فلهذا يكتب القاضى له بذلك ويقضى المكتوب إليه بخلاف ما سبق (فان قيل) الثمن عين في يد ذلك القاضي كالعبد (قلنا) نعم ولكنه معلوم بذكر مقداره فلا تقع الحاجة إلى الاشارة من الشهود إلى عينه للاستحقاق بخلاف العبد. وإذا وجد الرجل عبدا أو أمة آبقا وهو يقدر علي أخذه فانه يسعه تركه وأحب إلى أن يأخذه ليرده على صاحبه ومن العلماء من يقول لا يسعه تركه لان النهى عن المنكر فرض علي كل من يقدر عليه ولان حرمة مال المسلم كحرمة نفسه ولو رأى إنسانا يغرق لم يسعه الا أن يخلصه إذا قدر عليه فكذلك إذا رأى ماله يتوى. ولكنا نقول هو يحتاج في رده الي معالجة ومؤنة فكان في سعة من أن لا يلتزم ذلك وان كان الاولى أن يلتزمه ولانه في الترك يعتمد ظاهر قوله ﷺ لا يؤى الضالة الاضال وقال ضالة المؤمن حرق النار

[ 27 ] وبظاهر الحديث يقول جهال أهل التقشف وحماقى أهل التصوف لا يسعه أن يأخذه فلا أقل من أن يسعه الترك لظاهر الحديث (وإذا) أخذ عبدا آبقا فادعاه رجل وأقر له العبد فدفعة إليه بغير أمر القاضى فهلك عنده ثم استحقه آخر بينة أقامها فله أن يضمن أيهما شاء لكون كل واحد منهما خائنا في حقه فان ضمن الدافع رجع به على القابض لانه أخذ العبد منه لنفسه وقد تبين انه كان غاصبا لا مالكا وللغاصب الاول حق الرجوع على الثاني بما يضمن ولانه لم يسبق اقرار من الدافع للقابض بالملك ولو كان أقر له بذلك فسقط اعتبار اقراره لما صار مكذبا شرعا فإذا لم يسبق اقراره أولى. وان كان لم يدفع إلى الاول حتى شهد شاهدان عنده فدفعه إليه بغير حكم ثم أقام آخر البينة عند القاضى فانه يقضى به لهذا لان البينة الاولى أقامها صاحبها في غير مجلس الحكم فلا تكون معارضة للبينة التى قامت في مجلس الحكم لان وجوب الحكم يختص ببينة تفوم في مجلس القضاء وان أعاد الاول بينته لم ينفعه أيضا لان اليد في العبد له وبينة ذى اليد في الملك المطلق لا تعارض بينة الخارج وما يكتسبه العبد الآبق بالبيع والشراء ولاجارة وغير ذلك لمولاه لانه مالك لرقبته بعد اباقه وإذا لم يكن المكتسب أهلا للملك فمولاه يخفه في ملك الكسب لملكه رقبته وان أجره الذى أخذه وأخذ أجرته فهو للذي أجره قال لانه في ضمانه وكأنه أشار بهذا إلى قوله ﷺ الخراج بالضمان ولا به بعقده صير ما ليس بمال مالا فان المنافع لا تأخذ حكم المالية الا بالعقد عندنا كما بينه في الغصب ومن صير ما ليس بمال من ملك الغير مالا بفعله كان ذلك المال له كمن اتخذ كوزا من تراب غيره وباعه ولكن ينبغى له أن يتصدق به لانه حصل بكسب خبيث وان دفعه إلى المولى مع العبد وقال هذا المال غلة عبدك وقد سلمته لك فهو للمولى لانه أخذ بالاحتياط فيما صنع وتحرز عن اختلاف العلماء فان عند الشافعي رضى الله عنه هذا المال للمولى وعندنا هو للاجير ولا يمنعه من تمليك مال نفسه منه طوعا ثم يحل للمولى أكله استحسانا وفى القياس لا يحل لان حق الفقير أثبت فيه حين وجب التصدق به فلا يملك الآخذ اسقاط حق الفقراء ولكنه استحسن وقال وجوب النصدق به كان لخبث دخل فيه لعدم رضى المولى به فانما يظهر ذلك في حق الآخذ لافى حق المولى بل بالتسليم إلى المولى يزول ذلك الخبث فكان له أن يا كله استحسانا لانه كسب عبده وفى القياس لا يجب الاجر لان المستأجر ضامن للعبد باستعماله والاجر مع الضمان لا يجتمعان ولكنه

[ 28 ] استحسن فقال العبد غير محجور عن الاكتساب وتحصيل المنافع ألا ترى انه يصح منه قبول الهبة والصدقة فإذا سلم من العمل نمحض ذلك العقد منفعة لانه لو لم يسبق العقد لم يجب على المستعمل له شئ فلهذا أنفذنا ذلك العقد بخلاف ما إذا تلف لانه لو نفذ العقد لم يكن للمولى حق تضمين المستأجر فيتضرر به فإذا ثبت نفوذ العقد عند سلامة العبد كان حق قبض الاجر إليه لانه وجب بعقده بأخذها فيدفعها إلى المولى. واباق المكاتب لا يبطل مكاتبته واذنه بخلاف اباق المأذون لان المولى يقدر على أن يحجر على المأذون ولا يستطيع أن يحجر على المكاتب ولان حق المكاتب في نفسه لازم ولهذا لا يملك المولى بيعه بخلاف المأذون * وحقيقة المعنى ان الاباق لا يتحقق من المكاتب فان له أن يخرج في الاكتساب إلى حيث يشاء وليس للمولى أن يمنعه من ذلك بخلاف المأذون فان للمولى أن يمنعه من الخروج فإذا خرج بغير اذنه كان فعله اباقا وبهذا الطريق لا جعل لراد المكاتب لانه ليس بآبق بخلاف المأذون ولان الراد انما يستوجب الجعل باحيئه مالية الرقبة برده وذلك لا يوجد في المكاتب فان حق المولى في بدل الكتابة في ذمته خاصة ولم يصر مشرفا على الهلاك باباقه حتى يكون في الرد احياؤه بخلاف العبد لان مالية رقبته حق المولى وقد أشرف على التوى باباقه فيكون الراد محييا له * ويجوز عتق الآبق عن الظهار إذا كان حيا لانه باق على ملك المولى حقيقة فينفذ عنقه فيه على الوجه الذى ينفذ حال كونه في يده (فان قيل) الآبق في حكم المستهلك واعتاق المستهلك حكما عن الظهار لا يجوز كالاعمى (قفلنا) المستهلك منه حكما ماليته لاذاته والكفارة انما تتأدى بتحرير مبتدإ وذلك يرجع إلى الذات دون المالية فان الله تعالى قال لتحرير رقبة والرقبة اسم للذات حقيقة والذات المرقوق عرفا وليس في النص تعريض لصفة المالية ولهذا كان قليل القيمة وكثير القيمة في جواز التكفير به سواء بخلاف الاعمى فالمستهلك هناك الذوات حكما لفوات منفعة الجنس منه وبخلاف المدبر وأم الولد فعتقهما ليس بتحرير مبتدإ بل هذا من وجه تعجيل لما استحقاه مؤجلا ويجوز بيع الآبق ممن أخذه لان امتناع جواز بيعه من غيره لعجزه عن التسليم إليه ولا يوجد ذلك هنا لانه بنفس العقد يصير مسلما إلى المشترى لقيام يده فيه فلهذا جاز بيعه منه وإذا أبق عبد الرهن فرده رجل في حياه الراهن أو بعد موته فهو رهن على حاله لان ماليته قد أشرفت على التوى بالاباق ثم قد حيى بالرد فهو كما لو أشرف على الهلاك ثم برئ فيكون

[ 29 ] رهنا على حاله والمرتهن أحق به من سائر غرماء الراهن بعد موته والجعل على المرتهن ان كان قيمته مثل الدين لان وجوب الجعل للراد باحيائه مالية العبد ومالية حق المرتهن لان موجب عقد الرهن ثبوت يد الاستيفاء للمرتهن من المالية ألا ترى انه لو لم يرده حتى يتحقق التوى سقط دين المرتهن فعرفنا انه في الرد عمل له فكان الجعل عليه وهو نظير تخليصه من الجناية بالفداء وذلك على المرتهن بقدر المضمون منه فكلذلك الجعل وهذا بخلاف النفقة فانه لا بقاء الملك لا لاحياء المالية ألا ترى أن المرتهن إذا امتنع من الانفاق تمكن من رده ويبقى جميع دينه فعرفنا أن النفقة لا بقاء الملك والملك للراهن والجعل لا حياء المالية فيكون على المرتهن ألا ترى ان المالية لو انتقصت بقرحة خرجت به كان دواء ذلك ومعالجته على المرتهن بخلاف الفقة فكذلك جعل الآبق وللذي جاء به أن يمسكه حتى يأخذ الجعل لانه انما يستوجب الجعل باحياء ماليته فكان لما يستوجب تعلقا بماليته فيحتبس به كما يحبس البائع المبيع بثمنه * وان مات العبد في يده بعد ما قضى القاضى بامسا كه فلا ضمان عليه لانه محق في حبسه ولا جعل له لان وجوب الجعل باعتبار احيائه ماليته ولم يتم ذلك حين لم تصل إليه يد مولاه وهو نظير المبيع يتلف في يده البائع فان حقه في الثمن يسقط سواء حبسه أو لم يحبسه فهنا يسقط حقه في الجعل بموته في يده سواء حبسه أو لم يحبسه (عبد) أبق وذهب معه بمال فجاء به رجل فقال لم أجد معه شيئا فالقول قوله ولا شئ عليه لان وصول يده إلى العبد لا يكون دليل وصول المال إليه ما لم يعلم كونه في يد العبد حين أخذه والمولى يدعى عليه ذلك وهو منكر كما لو ادعى عليه انه غصبه مالا وأنكره وان اتهمه رب المال فله أن يستحلفه علي ذلك وهو منكر كما لو ادعي لانه يدعى عليه مالو اقر به لزمه فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله حتى يقام ذلك مقام اقراره * ولو ان أمة أبقت من مولاها فالتحقت بأرض الحرب ثم أصابها المسلمون فاشتراها رجل منهم فوطئها فولدت له ثم جاء مولاها فانه يأخذها وعقرها وقيمة ولدها في قول أبى حنيفة وكذلك لو كان الواطئ اشتراها من المشركين وعندهما أم ولد لمن استولدها ولا سبيل لمولاها عليها وهذا بناء علي ان الآبق إلى دار الحرب لا يملكه المشركون بالاخذ في قول أبى حنيفة لا نهم لم يحرزوه لكونه في يد نفسه وهي يده محترمة فإذا لم يملكها المشتري منهم ولا المسلمون بالاستيلاء أيضا فمن اشتراها فوطئها فهو بمنزلة المغرور لانه في الاستيلاء اعتمد ظاهر الشراء وولد المغرور حر

[ 30 ] بالقيمة وللمستحق أن يأخذ الجارية وعقرها وقيمة ولدها وبه قضى عمر وعلى رضى الله تعالى عنهما وعندهما هم يملكون الابق إليهم بالاخذ فإذا ملكوها ملكها المشترى أيضا وقد استولدها فكانت أم ولدله ولا حق للمولى في استردادها والجعل واجب في رد المدبر وأم الولد لانهما مملوكان للمولى يستكسبهما بمنزلة القن (فان قيل) فأين ذهب قولكم انه يستوجب الجعل باحياء المالية في أم الولد خصوصا عند أبى حنيفة (قلنا) نعم ليس له فيها مالية باعتبار الرقبة ولكن له ماليه باعتبار كسبها بخلاف المكاتب فانه أحق بمكاسبه فلا يكون راده محييا للمولى مالية باعتبار الرقبة ولا باعتبار الكسب فان مات المولى قبل أن يوصلهما الراد إليه فلا جعل له لانهما عتقا بموته وراد الحر لا يستوجب الجعل وكذلك ان كان على المدبر سعاية بان لم يكن للمولى مال سواه فرده على الورثة لم يستوجب الجعل لان المستسعى بمنزلة المكاتب عند أبى حنيفة وعندهما هو حر عليه دين ولا جعل لراد المكابت أو الحر فأما إذا وصلهما إلى المولى فقد تقرر حقه في الجعل فلا يسقط بموت المولى وعتقهما بعد ذلك * وان كن الآبق بين رجلين أثلاثا فالجعل بينهما على قدر أنصبائهما وجوبه باعتبار احياء ماليتهما والمالية لصاحب الكثير أكثر منها لصاحب القليل وراد الصغير إذا كان آبقا يستوجب الجعل كراد الكبير غير انه ان جاء به من مسيرة سفر فله أربعون درهما وان جاء به مما دون ذلك يرضخ له على قدر عنائه وعناؤه في رد الكبير أكثر منه في رد الصغير فالرضخ يكون بحسب ذلك * وإذا انتهى الرجل بالعبد الآبق إلى مولاه فلما نطر إليه أعتقه فالجعل واجب عليه لانه صار قابضا له باعتاقه ألا ترى ان المشترى أذا أعتق المبيع قبل القبض يصير به قابضا وكذلك ان باعه مولاه من الذي أتاه به لانه صار قابضا له لما نفذ تصرفه فيه بالتمليك من غيره ولان سلامة الثمن له باعتبار رد هذا الراد فيكون بمنزلة سلامة العين له. وان سلمه الراد إلى مولاه فأبق منه ثم جاء به رجل آخر من مسيرة ثلاثه أيام فعلي الولى جعل تام لكل واحد منهما لان السبب وهو احياء المالية بالرد على المولى قد تقرر من كل واحد منهما بكماله وان كان الاول أدخله المصر ثم ابق منه قبل أن ينتهى به إلى مولاه فالجعل للاخر ان جاء به من مسيرة ثلاثة أيام ويرضخ له ان كان دون ذلك ولا شئ للاول لان تمام السبب بايصالة إلى المولى والاول ما أوصله إلى المولى فانتقص السبب في حقه باباق العبد منه قبل تمامه بالايصال إلى المولى فلا جعل له وأما الثاني فقد

[ 31 ] أتم السبب بايصاله إلى المولى فيستوجب الجعل بحسب عمله وان أخذه الاول مع الثاني ورداه من مسيرة يوم فللاول نصف الجعل تاما ويرضخ للثاني علي قدر عنائه لانهما تمما السبب بايصالة إلى المولى إلا أن الاول قد ضم فعله الثاني إلى الفعل الاول وباعتبار هذا الضم يكون رادا له من مسيرة سفر فله نصف الجعل تاما والثانى انما رده من مسيرة يوم فيجعل في حقه كأنهما رداه من مسيرة يوم فلهذا استحق الرضخ على قدر عنائة وان رداه من مسيرة ثلاث فالجعل بينهما سواء لانهما استويا في سبب الاستحقاق للجعل وهو الايصال إلى المولى بعد الرد من مسيرة ثلاث فيستويان في استحقاق الجعل. وان كان أحد الرادين عبدا محجورا أو مأذونا فهو مثل الحر في استحقاق الجعل لان هذا اكتساب للمال والعبد غير محجور عن اكتساب المال بطريق هو محض منفعة في حق المولى وان كان العبد الآبق لمكاتب أو عبد تاجر فعليهما الجعل للراد لان حقهما في كسبهما بمنزلة حق الحر فيما يرجع إلى ملك التصرف والراد أحيا مالية البعد بالرد لهما فيستوجب الجعل عليهما وكذلك ان كان الآبق لصبى فالجعل في ماله يؤدى عنه أبوه أو وصيه لان منفعة احياء المالية حصلت له (عبد) جنى جناية ثم أبق فجاء به رجل فالمولى مخير بين الدفع والفداء إذا كان قبل اباقه فان اختار الفداء فالجعل على مولاه لانه طهره عن الجناية باختياره وتبين ان الراد عمل له في احياء ماليته وان اختار دفعه إلى أصحاب الجناية فالجعل على أصحاب الجناية لانه تبين ان الراد أحيا حقهم فان نفس العبد مستحق لهم بالجناية إلا أن يختار المولى الفداء ولهذا لو هلك العبد قبل أن يختار المولى شيئا بطل حقهم فتبين باختيار الدفع ان الراد أحيا حقهم فيستوجب الجعل عليهم وله أن يحبسه عنهم حتى يستوفي الجعل كما كان له أن يحبسه عن المولى (عبد) أبق الي بعض البلدان فأخذه رجل فاشتراه منه رجل وجاء به فلا جعل له لانه انمادره لنفسه فان المشترى قد يكون قاصدا الي تملك المشتري فيكون هو غاصبا في حق المولى لا عاملا له وكذلك ان وهبه أو أوصى له أو ورثه فان أشهد حين اشتراه انه انما يشتريه ليرده على صاحبه لانه لا يقدر عليه إلا بالشراء فله الجعل له لانه بهذا الاشهاد أظهر انه يعمل للمولي في الرد ولكنه الطريق الذى يمكنه فيستوجب ولا يرجع على المولى بما أدى من الثمن قل ذلك أو كثر لانه متبرع في ذلك كما كان متبرعا فيما ينفق عليه بغير أمر القاضى وكذلك ان كان أبق الي دار الحرب ففى حق الراد هو والماخوذ في دار الاسلام سواء وان (3 مبسوط الحادى عشر)

[ 32 ] أخذ الابق رجل فجاء به ليرده على مولاه فوجده قد مات قال له الجعل في تركته لان وارثه أو وصيه يخلفه بعد موته فالرد عليه كالرد على المولى في حياته وإذا استوجب الجعل عليه كان ذلك دينا في تركته كسائر الديون فان كان عليه دين يحيط بماله فالراد أحق بامساك العبد حتى يعطى الجعل فان لم يكن له مآل غيره بيع العبد ويبدأ بالجعل له من ثمنه ثم يقسم الباقي بين الغرماء لان حق الغرماء في ماليته انما ثبت من جهة الميت وقد كان الراد أحق به من الميت ما لم يستوف الجس فكذا يكون هو أحق به من غرماء الميت أيضا فان كان الذى جاء به وارث الميت وقد أخذه وسار به ثلاثة أيام في حياته وأوصله الي المصر فمات المولي قبل أن يرده عليه وليس الوارث الراد في عياله فله الجعل في قول أبى حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف رحمه الله تعالى لا جعل له لان استحقاق الجعل انما يكون بالايصال الي المالك وكذا لو أبق قبل أن يوصله إلى المالك فلا جعل له والايصال هنا لم يوجد قبل الموت وبعد الموت لم يصلح سببا لوجوب الجعل له لانه شريك فيه ومن عمل في شئ هو فيه شريك لا يستوجب الاجر بالعقد وان شرط ذلك في العقد فهنا أولى أن لا يستوجب * وجه قولهما ان الراد انما يستحق الجعل بعمله في الرد وقد تم ذلك في حياة المورث قبل ان تثبت له الشركة فيه إلا ان ايصاله الي المولى شرط وعند وجوده يستحق الاجر بعمله لا بما هو شرط والشرط يتحقق مع الشركة في المحل وانما الذى لا يتحقق تسليم العمل الي غيره فيما هو شريك فيه وقد صار العمل هنا مسلما الي المولى باتصاله بملكه وقد وجد الشرط بالرد على ورثته فيستوجب الجعل. يوضحه أنه باحياء المالية يستوجب الجعل وقد تحقق هذا حتى لو كان على الميت دين أو أوصى بوصية ينفذ من ذلك فيكون هذا بمنزلة ما لورده عليه في حياته ولم يأخذ الجعل منه حتى مات وإذا جاء بالآبق من مسيرة ثلاثة أيام وهو لا يساوي اربعين درهما ففى قول أبى يوسف الاول له الجعل أقل من قيمته بدرهم وهو قول محمد وفي قول أبى يوسف الآخر رحمهما الله له الجعل تاما * وجه قوله الاأول ان وجوب الجعل باعتبار احياء المالية للمولى فلا بد من اعتبار مقدار المالية التى حييت له ثم الراد ماذون من جهة المولي في ايصال المنفعة إليه لا في إلحاق الضرر به وايجاب المال لنفسه عليه فإذا كان قيمة العبد درهما كان في ايجاب الاربعين علي المولي ضرر بين فينبغي أن يوجب له من الجعل بقدر ما يظهر فيه منفعة عمله للمولي وذلك أن ينقص من قيمته درهم لان ما دون الدرهم

[ 33 ] من الكسور لا يجوز اعتباره شرعا. وجه قوله الآخر أن وجوب الجعل للراد عرف شرعا باتفاق الصحابة وقد قدروه بأربعين درهما من غير أن يعرضوا لقيمة العبد وما ثبت من التقدير شرعا يجب اعتباره وكان عمل الراد هنا في ايجاب جعل مقدر له بمنزلة عقد باشره مع المولى فكما يستحق هناك جميع المسمى ولا ينظر إلى قيمة العبد فكذلك هنا يوضحه ان ماليه رقبته وان كانت دون الاربعين فمالية كسبة الذى يحصل للمولى قد تزيد عليه وقد بينا ان ذلك يعتبر لا يجاب الجعل ابتداء فلان يعتبر لتكميل الجعل كان أولى وإذا كان على العبد دين فجعله على مولاه إذا أراد ذلك بأن يقضى ما على العبد من الدين وان أبى بيع العبد واستوفى صاحب الجعل جعله وكان ما بقى من الثمن لاصحاب الديون وهذا وما تقدم مما إذا كان على العبد دين جناية سواء لان المستحق هناك الدفع بالجناية وهنا البيع في الدين وإذا أخذ الرجل عبد أخيه أو أخته أو عبد أبيه أو ابنه أو عبد امرأته أو امرأة أخذت عبد زوجها فالقياس في جميع ذلك واحد أن يكون له الجعل إذا لم يكن في عياله لان ملك أحدهما منفصل عن ملك الآخر فيتحقق منه احياء المالية على المالك بالرد فيستوجب الجعل كسائر الاجانب ولكنه استحسن فقال إذا وجد عبد أبيه وهو في عياله فلا جعل له لان رد الآبق على أبيه من جملة خدمته وخدمة الاب مستحق على الابن دينا وان لم تكن مستحقا عليه دينا ولهذا لو استأجر ابنه لخدمته لم يستوجب الاجر سواء كان في عياله أو لم يكن فكذلك لا يستوجب الجعل ترد آبقه وكذلك المرأة مع الزوج لان كل واحد منهما له بسوطة اليد في مال صاحبه ويعد خيره خير نفسه ولان خدمة الزوج مستحق على المرأة دينا حتى لا يستأجرها على ذلك والزوج هو الذى يطلب آبق امرأته عادة. فأما إذا وجد عبد ابنه فان كان في عيال ابنه فلا جعل له لان آبق الرجل انما يطلبه من في عياله عادة ولهذا ينفق عليهم فلا يستوجب مع ذلك جعلا آخر وان لم يكن الاب في عيال الابن فله الجعل لان خدمة الابن غير مستحق على الا أب دينا ولا هو سائغ له شرعا ولهذا لو استأجر أباه ليخدمه فخدمه استوجب الاجر عليه فكذلك يستوجب الجعل وكذلك الاخ له الجعل إذا لم يكن في عيال أخيه وان كان في عياله فلا جعل له لانه انما يعوله وينفق عليه لهذا ونحوه وإذا أبق عبد اليتيم فجاء به الوصي فلا جعل له لانه هو الذي يطلب آبق اليتيم عادة وهو الذى يمسك عبده فلا يكون له الرد على نفسه وكذلك ان كان اليتيم في حجر رجل

[ 34 ] يعوله فجاء به ذلك الرجل فلا جعل له لانه هو الذي يطلبه عادة وإذا صالح الذى جاء بالآبق مولاه من الجعل على عشرين درهما جاز لانه يجوز بدون حقه وأحسن إليه بحط بعض ما استوجبه عليه وان صالحه على خمسين درهما وهو لا يعلم ان الجعل أربعون درهما جاز منه أربعون ويطرح الفضل لان حقه مقدر بالاربعين شرعا فالزيادة على ذلك تكون ربا وهو نظير مالو صالح الشريك المعتق شريكه على أكثر من قيمة نصيبه كان الفضل باطلا لما بيناه. وإذا أبقت الامة ولها صبى رضيع فردهما رجل فله جعل واحد لان الاباق من الرضيع لا يتحقق فانما رد آبقا واحدا وهى الامة وان كان ابنها غلاما قد قارب الحلم فله جعلان ثمانون درهما لان الاباق تحقق منهما فانما أحيا مالية مملوكين بالرد فيستوجب جعلا كاملا باعتبار كل واحد منهما. وإذا رجع الواهب في الهبة بعد مارد العبد من اباقه وسلمه إلى الموهوب له فله الجعل على الموهوب له لانه أحيا المالية له بالرد والايصال إليه فزوال ملكه بعد ذلك برجوع الواهب كزوال ملكه بموت العبد ولو مات لم يبطل حق الراد في الجعل فكذلك إذا رجع فيه الواهب والله سبحانه وتعالى أعلم كتاب المفقود (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة وفخر الاسلام أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى إملاء. المفقود اسم لموجود هو حي باعتبار أول حاله ولكنه خفى الاثر كالميت باعتبار مآله وأهله في طلبه يجدون ولخفاء أثر مستقره لا يجدون قد انقطع عليهم خبره واستتر عليهم أثره وبالجد ربما يصلون إلى المراد وربما يتأخر اللقاء إلى يوم التناد * والاسم في للغة من لاضداد يقول الرجل فقدت الشئ أي اضللته وفقدته أي طلبته وكلا المعنيين يتحقق في المفقود فقد ضل عن أهله وهم في طلبه * وحكمه في الشرع انه حي في حق نفسه حتى لا يقسم ماله بين ورثته ميت في حق غيره حتى لا يرث هو إذا مات أحد من أقر بائه لان ثبوت حياته باستصحاب الحال فانه علم حياته فيستصحب ذلك ما لم يظهر خلافه واستصحاب الحال معتبر في ابقاء ماكان على ماكان غير معتبر في اثبات ما لم يكن ثابتا وفى الامتناع من قسمة ماله بين ورثته ابقاء ماكان على ماكان وفى توريثه من الغير اثبات أمر لم يكن ثابتا له ولان حياته باعتبار الظاهر والظاهر حجة لدفع الاستحقاق وليس بحجة

[ 35 ] للاستحقاق فلا يستحق به ميراث غيره ويندفع به استحقاق ورثته لماله بهذا الظاهر ولهذا لاتزوج امرأته عندنا وهو مذهب على رضى الله تعالى عنه كما بدأ به الكتاب من قوله في امرأة المفوقد انها امرأة ابتليت فلتصبر حتى يستبين موت أو طلاق وبه كان يأخذ إبراهيم كما قال (قد سمعنا ان امرأته تتربص اربع سننين وليس ذلك بشئ هي امرأة ابتليت فلتصبر) وتربص أربع سنين كان يقول به عمر رضى الله تعالى عنه في الابتداء ثم رجع إلى قول على رضى الله عنه ومالك كان يأخذ بقول عمر رضى الله عنه فيقول الظاهر انه يوقف على خبره بعد هذه المدة أن لو كان حيا والبناء على الظاهر واجب فيما لا يوقف على حقيقته خصوصا إذا وقعت الحاجة إلى دفع الضرر عنها وقد مست الحاجة إلى دفع الضرر عنها لكيلا تبقى معلقة ألا ترى أنه يفرق بين العنين وامرأته بعد مضى سنة لدفع الضرر عنها وبين المولى وامرأته بعد أربعة أشهر لدفع الضرر عنها ولكن عذر المفقود أظهر من عذر المولى والعنين فيعتبر في حقه المدنان في التربص وذلك بأن تجعل الشهور سنين فلهذا تتربص. ولا نأخذ بهذا لان نكاحه حقه وهى حى في ابقاء ملكه وحقه عليه ولو مكنا زوجته من ان تتزوج كان فيه حكم بالموت ضرورة إذ المرأة لا تحل لزوجين في حالة واحدة فيجب قسمة ماله أيضا وذلك ممتنع ما لم يقم على موته دليل موجب له. والتقدير بالمدة في حق المولى والعنين لدفع ظلم التعليق ولا يتحقق معنى الظلم من المفقود فقلنا انها امرأة ابتليت فلتصبر ولو شاء الله تعالى لا بتلاها بأشد من هذا. فإذا لم يظهر خبره فظاهر المذهب انه إذا لم يبق أحد من أقرانه حيا فانه يحكم بموته لان ما تقع الحاجة إلى معرفته فطريقه في الشرع الرجوع إلى أمثاله كقيم المتلفات ومهر مثل النساء وبقاؤه بعد موت جميع أقرانه نادر وبناء الاحكام الشرعية على الظاهر دون النادر * وكان الحسن بن زياد رحمه الله يقول إذا تم مائة وعشرون سنة من مولده يحكم بموته وهذا يرجع إلى قول أهل الطبائع والنجوم فانهم يقولون لا يجوز أن يعيش أحد أكثر من هذه المدة لان اجتماع التحسين يحصل للطباع الاربع في هذه المدة ولا بد من أن يضاد واحد من ذلك طبعه في هذه المدة فيموت ولكن خطأهم في هذا قد تبين للمسلمين بالنصوص الواردة في طول عمر بعض من كان قبلنا كنوح صلوات الله وسلامه عليه وغيره فلا يعتمد على هذا القول. وعن أبى يوسف رحمه الله قال إذا مضى مائة سنة من مولده يحكم بموته لان الظاهران أحدا في زماننا

[ 36 ] لا يعيش أكثر من مائة سنة * وحكى انه لما سئل عن معنى هذا قال أبينه لكم بطريق محسوس فان المولود إذا كان ابن عشر سنين يدور حول أبويه هكذا وعقد عشرا فان كان ابن عشرين سنة فهو بين الصبا والشباب هكذا وعقد عشرين فان كان ابن ثلاثين سنة يستوى هكذا وعقد ثلاثين فإذا كان ابن أربعين تحمل عليه الاثقال هكذا وعقد أربعين فإذا كان ابن خمسين ينحنى من كثر الاثقال والاشغال هكذا وعقد خمسين فإذا كان ابن ستين ينقبض للشيخوخة هكذا وعقد ستين فإذا كان ابن سبعين يتوكأ على عصا هكذا وعقد سبعين فإذا كان ابن ثمانين يستلقى هكذا وعقد ثمانين فإذا كان ابن تسعين تنضم امعاؤه هكذا وعقد تسعين فإذا كان ابن مائة سنة يتحول من الدنيا إلى العقبى كما يتحول الحساب من اليمنى إلى اليسرى * وهذا يحمل من أبى يوسف على طريق المطايبة إلا أن يكون يعرف الحكم بمثل هذا وهو كما نقل عن أبى يوسف رحمه الله انه سئل عن بنات العشر من النساء فقال لهو اللاهين فسئل عن بنات العشرين فقال لذة المعانقين فسئل عن بنات الثلاثين فقال تنموا وتلين وسئل عن بنات الاربعين فقال ذات مال وبنين فسئل عن بنات الخمسين فقال عجوز في الغابرين وسئل عن بنات الستين فقال لعنة اللاعنين. وكان محمد ابن سلمة يفتى في المفقود بقول أبى يوسف حتى تبين له خطؤه في نفسه فانه عاش مائة سنة وسبع سنين. فالاليق بطريق الفقه أن لا يقدر بشئ لان نصب المقادير بالرأى لا يكوز ولا نص فيه ولكن نقول إذا لم يبق أحد من أقرانه يحكم بموته اعتبارا لحاله بحال نظائره (وذكر) عن عبد الرحمن بن أبى ليلى رحمهما الله قال لقيت المفقود نفسه فحدثني حديثه قال أكلت حريرا في أهلى ثم خرجت فأخذني نفر من الجن فمكثت فيهم ثم بدالهم في عتقي فأعتقوني ثم أتوا بى قريبا من المدينة فقالوا أتعرف النخل فقلت نعم فخلوا عنى فجئت فإذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه قد أبان امرأتي بعد أربع سنين وحاضت وانقضت عدتها وتزوجت فخيرني عمر رضى الله عنه بين أن يردها علي وبين المهر. وأهل الحديث رحمهم الله يرون في هذا الحديث انه هم بتأديبه حين رآه وجعل يقول يغيب أحدكم عن زوجته هذه المدة الطويلة ولا يبعث بخبره فقال لا تعجل يا أمير المؤمنين وذكر له قصته * وفى هذا الحديث دليل لمذهب أهل السنة والجماعة رحمهم الله في ان الجن قد يتسلطون على بنى آدم وأهل الزيغ ينكرون ذلك على اختلاف بينهم. فمنهم من يقول المستنكر دخولهم

[ 37 ] في الآدمى لان اجتماع الروحين في شخص لا يتحقق وقد يتصور تسلطهم على الادمى من غير أن يدخلوا فيه. ومنهم من قال هم أجسام لطيفة فلا يتصور أن يحملوا جسما كثيفا من موضع إلى موضع ولكنا نقول نأخذ بما وردت به الآثار قال النبي ﷺ ان الشيطان يجرى من ابن آدم مجرى الدم وقال ﷺ انه يدخل في راس الانسان فيكون على قافية رأسه حديث فيه طول وهذا الحديث دليل لنا أيضا فنتبع الآثار ولا نشتغل بكيفية ذلك. وكأن عمر رضى الله عنه انما رجع عن قوله في امرأة المفقود لما تبين من حال هذا الرجل. وأما تخييره إياه بين أن يردها عليه وبين المهر فهو بناء على مذهب عمر رضى الله عنه في المرأة إذا نعى إليها زوجها فاعتدت وتزوجت ثم أتى الزوج الاول حيا انه يخير بين أن ترد عليه وبين المهر وقد صح رجوعه عنه إلى قول على رضى الله عنه فانه كان يقول ترد إلى زوجها الاول ويفرق بينها وبين الآخر ولها المهر بما استحل من فرجها ولا يقربها الاول حتى تنفضي عدتها من الآخر وبهذا كان يأخذ إبراهيم رحمه الله فيقول قول على رضى الله عنه أحب إلى من قول عمر رضى الله عنه وبه نأخذ أيضا لانه تبين انها تزوجت وهى منكوحة ومنكوحة الغير ليست من المحللات بل هي من المحرمات في حق سائر الناس كما قال الله تعالى والمحصنات من النساء فكيف يستقيم تركها مع الثاني. وإذا اختار الاول المهر ولكن يكون النكاح منعقدا بينهما فكيف يستقيم دفع المهر إلى الاول وهو بدل بضعها فيكون مملوكا لها دون زجها كالمنكوحة إذا وطئت بشبهة فعرفنا ان الصحيح انها زوجة الاول ولكن لا يقربها لكونها معتدة لغيره كالمنكوحة إذا وطئت بالشبهة. وذكر عن عبد الرحمن بن أبى ليلى رحمه الله ان عمر رضى الله عنه رجع عن ثلاث قضيات إلى قول علي رضى الله عنه عن امرأة أبى كنف والمفقود زوجها والمرأة التى تزوجت في عدتها. أما حكم المفقود والمعتدة فقد بينا. وأما حديث أبى كنف فهو ما رواه إبراهيم ان أبا كنف طلق امرأته فأعلمها وراجعها قبل انقضاء العدة ولم يعلمها فجاء وقد تزوجت فأتى عمر رضى الله عنه فقص عليه القصة فقال له ان وجدتها لم يدخل بها فأنت أحق بها وان كان قد دخل بها فليس لك عليها سبيل فقدم وقد وضعت القصة على رأسها فقال لهم ان لى إليها حاجة فخلوا بينى وبينها فوقع عليها وبات عندها ثم غدا إلى الامير بكتاب عمر رضى الله عنه فعرفوا انه جاء بأمر بين وهذا كان مذهب عمر رضى الله عنه

[ 38 ] في الابتداء انه إذا راجعها ولم يعلمها لا يثبت حكم الرجعة في حقها ما لم تعلم حتى إذا اعتدت وتزوجت ودخل بها الثاني لم يبق للاول عليها سبيل لدفع الضرر عنها ثم رجع إلى قول على رضى الله عنه أن مراجعته إياها صحيح بغير علمها وهي منكوحة سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل لان الزوج يستبد بالرجعة كما يستبد بالطلاق فكما يصح إيقاع الطلاق عليها وان لم تعلم به فكذلك رجعتها لقوله تعالى وبعولتهن أحق بردهن في ذلك وانما يكون أحق إذا كان يستبد به. والرجعة إمساك بالنص كما قال الله تعالى فإمساك بمعروف والمالك ينفرد بامساك ملكه من غير أن يحتاج إلى علم غيره قال (وإذا فقد الرجل فارتفع ورثته إلى القاضى وأقروا انه فقدو سألوا قسمة ماله فانه لا يقسم حتى تقوم البينة على موته) لما بينا انه حى في حق نفسه ومال الحى لا يقسم بين ورثته فما لم يثبت موته بالبينة عند القاضى لا يشتغل بقسمة ماله (فان قيل) كيف تقبل البينة للقضاء بها على الغائب (قلنا) بأن يجعل من في يده المال خصما عنه أو ينصب عنه قيما في هذه الولاية وإذا قامت البينة علي من ينصبه القاضي فيما قضى بموته (فان قيل) كان ينبغى أن يجعله ميتا حكما لا نقطاع خبره فيقسم ماله وان لم تقم البينة على موته كالمرتد اللاحق بدار الحرب (قلنا) هناك ظهر دليل الحكم بموته وهو انه صار حربيا وأهل الحرب في حق من هو في دار الاسلام كالميت ولم يظهر هنا دليل موجب لموته حقيقة ولا حكما ولان هناك لو ظفر به الامام موته حقيقة بان يقتله فإذا عجز عن ذلك بدخوله دار الحرب موته حكما فقسم ماله ولا يتحقق ذلك المعنى هنا قال (وتفسير المفقود الرجل يخرج في سفر ولا يعرف موته ولا حياته ولا موضعه ولا يأسره العدو ولا يستبين موته ولا قتله) فهذا مفقود لا يقضى القاضى في شئ من أمره حتى تقوم البينة انه مات أو قتل ومن كان من ورثة المفقود غنيا فلا نفقة له في ماله ما خلا الزوجة لان حياته معلوم ولا يستحق أحد من الاغنياء النفقة في مال الحى سوى الزوجة لان استحقاق الزوجة بالعقد فلا يختلف باليسار والعسرة أو بكونها محبوسة بحقه وذلك موجود في حمق المفقود فأما استحقاق من سواها فباعتبار الحاجة وذلك ينعدم بغنى المستحق فان كانت له غلة جعل القاضى فيها من يحفطها لانه ناظر لكل من عجز عن النظر لنفسه والمفقود عاجز عن النظر لنفسه فينصب القاضى في غلاته من يجمعها ويحفظها عليه وما كان يخاف عليه الفساد من متاعه فان القاضى يبيعه لان حفظ عينه عليه متعذر فيصير إلى حفظ

[ 39 ] ماليته عليه وذلك يكون بالبيع وينفق على زوجته وأولاده الصغار أو الكبار من الاناث أو الزمنى من الذكور من ماله بالمعروف وهذا إذا كان السبب معلوما عنده لانه لو كان حاضرا قضى بالنفقة لهم عليه بعلمه فان كان غائبا يقضى بذلك لهم في ماله أيضا وقيل هذا لا يكون منه قضاء علي الغائب على الحقيقة بل يكون تمكينا للمستحق من أخذ حقه ولو تمكنوا من ذلك كان لهم أن يأخذوه فيعينهم القاضى على ذلك. والاصل فيه قوله ﷺ لهند امرأة أبى سفيان رضى الله عنه خذى من مال أبى سفيان ما يكفيك وولدك بالمعروف. وقيل بل هو قضاء منه وللقاضي ولاية القضاء على الغائب بعلمه كما إذا أقر بين يديه ثم غاب. ثم هذا نظر منه للغائب لان ملك النكاح حقه في زوجه ولا يبقى بدون النفقة فكان له أن ينفق عليها من ماله حفظا لملكه عليه وكذلك ولده جزء منه فينفق عليه من ماله حفظا لنسله. وللقاضي ولاية في ماله فيما يرجع إلى الحفظ والنظر وان استوثق منهم بكفيل فحسن وان لم يأخذ منهم كفيلا فهو مستقيم أيضا إلا أن الاحوط أن يأخذ الكفيل لجواز أن يكون فارقها قبل أن يفقد أو كان عجل لها النفقة لمدة فكان تمام النظر في الاستيثاق بالكفيل وهذا قولهم جميعا لان هذه كفالة للمفقود وهو معلوم ولكن لا يجب على القاضى أخذ الكفيل من غير خصم يطلب ذلك وليس هنا خصم طالب فلهذا يسعه أن لا يأخذ كفيلا ولم ينفق من ماله على غير من سمينا من ذى الرحم المحرم لان وجوب النفقة عليه لهم لا يكون إلا بعد قضاء القاضى والقاضى لا يقضى علي الغائب ولان ولايته فيما يرجع إلى النظر للمفقود وذلك لا يوجد في حق ذى الرحم المحرم ولا يبيع شيئا مما لا يخاف عليه الفساد من ماله في نفقة ولا غيرها لان ولاية البيع للنظر له وحفظ العين فيما يتأتى حفظه نظر له فلا يبيع شيئا من ذلك وهو في الانفاق على من سمينا هم معين لهم على أخذ حقهم وانما يثبت لهم حق الاخذ إذا ظفروا بجنس حقهم ولا يكون لهم أن يبعوا عروضا ولا غيرها فكذلك القاضى لا يبيع شيئا من ذلك فان لم يكن له مال إلا دار واحتاج زوجته وولده إلى النفقة لم يبع لهم الدار وكذلك لو كان له خادم لان هذا مما لا يخاف عليه لفساد من ملكه فلا يكون بيعه محض الحفظ عليه فلهذا لا يبيعه بخلاف ما يخاف فساده * وهذا بخلاف الوصي في حق الوارث الكبير الغائب فان له أن يبيع العروض لان ولايته ثابتة فيما يرجع إلى حق الموصى وبيع العروض فيه معنى حقه

[ 40 ] وربما يكون حفظ الثمن للاتصال إلى ورثته أيسر من حفظ العين وهنا لا ولاية للقاضى على المفقود إلا في الحفظ فقط وحفظ عين ملكه عند الامكان أنفع له فلهذا لا يبيع شيئا من العروض وقال أو حنيفة رحمه الله ان كان له أب محتاج فلابنه أن يبيع شيئا من مله من العروض وينفق على نفسه وليس له أن يبيع العقار وهو استحسان وفى القياس له أن يبيع العروض وهو قول أبى يوسف ومحمد رحمهم الله وذكر الكرخي أن محمدا ذكر قول ابى حنيفة رحمه الله في الامالى وقال هو حسن * وجه القياس أنه لا ولاية للاب في مال ولده الكبير ونفوذ البيع يعتمد الولاية ألا ترى انه لا يبيع عقاره لهذا ولا يبيع عروضه إذا كان حاضرا والحاضر والغائب في حكم الولاية للاب عليه سواء ألا ترى انه لما ثبت له ولاية التملك بالاستيلاد لم يفترق الحال بين حضور الولد وغيبته. ووجه الاستحسان أن ولاية الاب وان زالت بالبلوغ فقد بقى أثرها حتى يصح منه استيلاد جارية الابن لحاجته إلى ذلك وحاجته إلى النفقة لبقاء نفسه حاجته إلى الاستيلاد لبقاء نسله ولهذا يتملك هناك بضمان القيمة وينفق على نفسه من ماله بغير ضمان وإذا ثبت بقاء أثر ولايته كان حاله كحال الوصي في حق لوارث الكبير الغائب وهناك ثبت له حق بيع العروض دون بيع العقار لان بيع العروض من الحفظ وبيع العقار ليس من الحفظ فان العقارات محصنه بنفسها ولهذا لا يبيع حال حضوره لان بيعه في هذه الحالة ليس من الحفظ فان الابن حافظ لما له كمالا يبيع الوصي عروض الولد الكبير الحاضر ولا يبعد زوال ولاية الاب بالبلوغ مع بقاء أثره كما لو مات وأوصى إلى رجل زالت ولايته بالموت وبقى أثره ببقاء الوصي فان كان للمفقود دنانير أو دراهم أو ذهب أو فضه تبرا أنفق عليهم من ذلك وكذلك كل ما كان يخاف عليه الفساد من غلته ومتاعه فان القاضى يبيع ذلك وينفق عليهم منه وان باعته زوجته أو الولد فبيعهما باطل لان البيع من الحفظ وليس من استيفاء النفقة في شئ واليهما حق استيفاء الفقة دون الحفظ وأما القاضى فله حق الحفظ في مال المفقود وبيع ما يخاف عليه الفساد من الحفظ وبعد البيع الثمن من جنس حقهم فينفق عليهم منه وكذلك الوديعة تكون له عند الرجل فانه ينفق منها عليهم إذا كان الرجل مقرا بالوديعة والزوجية أو يكون ذلك معلوما للقاضى عندنا. وقال زفر رحمه الله لا ينفق منها عليهم لان اقرار المودع ليس بحجة على الغيب وهو ليس بخصم عن الغائب ولا يقضى على الغائب إذا لم يكن عنه خصم حاضر ولكنا نقول المودع

[ 41 ] مقر بأن في يده ملك الغائب وان للزوجة و للولد حق الانفاق منه واقرار الانسان فيما في يده معتبر فينتصب هو خصما باعتبار يده فيتعدي القضاء منه إلى المفقود. وكذلك الدين يكون للمفقود على رجل وهو مقر به فهو والوديعة سواء والكلام في الدين أظهر لان اقرار المديون يلاقى ملك نفسه فان الديون تقضى بامثالها لا باعيانها. والجواب في الفصلين جميعا استحسان إذا كان مقرا بالنسب والمال فان كان جاحدا لاحدهما لم تسمع البينة عليه من طالب النفقة لانه إذا كان جاحدا للمال فطالب النفقة لا يثبت الملك في المال لنفسه انما يثبته للمفقود حتى إذا ثبت ذلك ترتب عليه وهو ليس بخصم عن المفقود وان كان منكرا للزوجية فانما يثبت النكاح على المفقود المودع والمديون ليس بخصم عنه في اثبات النكاح عليه. وان كانت الزوجية والمالية معلومين للقاضي فعلم القاضي بذلك أقوى من اقرار المودع والمديون وان أعطاهما المديون بغير أمر القاضي لم يبرأ عن الضمان وكذلك ان أعطاهما المودع من الوديعة فهو ضامن لانه دفع مال الغير إلى الغير بغير اذنه بخلاف ما إذا دفع بأمر القاضي فان أمر القاضي في حق المفقود معتبر فميا يرجع إلى حفظ ملكه وقد بينا أن الانفاق على الزوجة والولد من حفظ ملكه وحقه عليه فيكون أمر القاضي فيه كأمر المفقود وان طلبت زوجته وولده من القاضي ان ينصب وكيلا يتقاضي دينه ويجمع غلاته ويؤاجر رقيقة فعل القاضي ذلك نظرا منه للحاضر والغائب جميعا. للغائب بحفظ ماله وجمعه وللحاضر بوصوله إلى حقه وهى النفقة وكان للوكيل أن يتقاضي ويقبض ويخاصم من يجحد حقا من عقد يجرى بينه وبين الوكيل لان ما وجب بعقده فهو أحق بقبضه ألا ترى انه لو ظهر المفقود كان حق القبض في هذا المال للوكيل الذي باشر سببه فأما كل دين كان المفقود تولاه أو نصيب من عقار أو عرض في يدى رجل أو حق من الحقوق فان الوكيل لا يخاصم فيه من جحده لانه ليس بخصم عن المفقود انما هو حافظ لماله فقط وحفظه يتحقق فيما وصلت يده إليه فأما الخصومة واقامة البينة فيما لم يكن في يده قط ليس من الحفظ فيكون الوكيل كأجنبي آخر الا ان يكون القاضي قد ولاه ذلك ورآه وانفذ الخصومة بينهم فيه فيجوز حينئذ لانه مما اختلف فيه القضاة يعنى بهذا القضاء على الغائب بالبينة فانه مختلف فيه بين العلماء رحمهم الله فينفذ قضاء القاضي فيه وكذلك ان مات غريم من غرمائه وقد أقر له بدينه في وصيته عزلت حق المفقود من ذلك وجعلته على يدى وكيله

[ 42 ] لان ذلك من الحفظ. وان لم يكن أوصى به وعليه ديون لغيره لم يكن لورثة المفقود ووكيله في ذلك خصومة الا أن يراه القاضي فيقضي به فحينئذ ينفذ قضاؤه لكونه مجتهدا فيه (فان قيل) المجتهد فيه نفس القضاء فينبغي أن يتوقف على امضاء قاض آخر كما لو كان القاضي محدودا في قذف (قلنا) لا كذلك بل المجتهد فيه سبب القضاء وهو أن البينة هل تكون حجة من غير خصم حاضر أم لا فإذا رآها القاضي حجة وقضى بها نفذ قضاؤه كما لو قضى بشهادة المحدود في قذف * وان ادعى إنسان على المفقود حقا من دين أو وديعة أو شركة في عقار أو رقيق أو طلاق أو عتاق أو نكاح أورد بعيب أو مطالب باستحقاق لم يلتفت إلى دعواه ولم تقبل منه البينة ولم يكن هذا الوكيل ولا أحد من ورثته خصما له. أما الوكيل فلانه نصب للحفظ فقط وأما الورثة فلانهم يخلفونه بعد موته ولم يظهر موته فان رأى القاضي سماع البينة وحكم بذلك نفذ حكمه لما بينا انه امضى فصلا مختلفا فيه باجتهاده * وإذا رجع المفقود حيا لم يرجع في شئ مما انفق القاضي أو وكيله بأمره على زوجته وولده من ماله وغلته ودينه لان القاضي لما ثبت له ولاية الانفاق كان فعله كفعل المفقود بنفسه وكذلك ما أنفقوا هم على أنفسهم من دنانير أو دراهم في وقت حاجتهم إلى النفقة لما بينا أنهم إذا ظفروا بجنس حقهم وسعهم أخذه بالمعروف فلا يضمنون شيئا من ذلك وكذلك ان كان في ماله طعام فأكلوه لان ذلك من جنس حقهم وكذلك ان كان في ماله ثياب فلبسوها للكسوة لان ذلك من جنس حقهم فأما ما سوى ذلك من العروض ان باعوا شيئا منه كانوا ضامنين له ألا ترى ان القاضى لا يبيع شيئا من ذلك للانفاق فكذلك لا يملكون بيعه وانما لا يبيع القاضي ما لا يخاف عليه الفساد في النفقة لان في بيع ذلك في النفقة حجرا على الغائب وأبو حنيفة لا يرى الحجر عليه وهما وان كانا يريان الحجر علي من لزمه حق فذلك عنه ظهور تعنته وامنناعه وبهذا الطريق يقول لا يقضي القاضي دين المفقود من ماله وكذلك مهر امرأته والنفقات المجتمعة عليه قبل أن يفقد لان ذلك لا يرجع إلى حفظ ملكه بل فيه نوع حجر عليه ولم يذكر في الكتاب انه إذا لم يكن للمفقود مال وطلبت زوجته من القاضي أن يقضي لها بالنفقة على زوجها هل يجيبها إلى ذلك وكان أبو حنيفة رحمه الله يقول أولا يجيبها إلى ذلك وهو قول إبراهيم النخعي رحمه الله ثم رجع الي قول شريح وقال لا يجيبها الي ذلك. فالحجة لقوله الاول حديث هند كما روينا. ووجه قوله الآخر ان نفقة

[ 43 ] الزوجة لا تصير دينا إلا بضاء القاضي وليس للقاضي أن يوجه القضاء على الغائب فيلزمه بقضائه شيئا من غير خصم عنه وهذا إذا كان النكاح معلوما له وان أرادت اثبات النكاح بالبينة لم يسمع القاضي بينتها عندنا لان البينة لا تكون حجة الاعلى خصم جاحد فما لم يحضر هو أو خصم عنه لا يسمع القاضى بينها عليه بالنكاح وعلى قول زفر تسمع البينة ويأمرها بأن تستدين وتنفق على نفسها فإذا حضر الزوج كلفها اعادة البينة عليه فان أعادت قضي على الزوج بما انفقت في المدة الماضية وان لم تعد البينة على الزوج لم يقض عليه بشئ وهذا منه نوع احتياط في حق الحاضر والغائب جميعا (وإذا) أجر المفقود شيئا قبل أن يفقد لم تنتقض الاجارة بعدما يصير مفقودا لانه حي في ابقاء ما كان علي ماكان ولا يبرأ المستأجر بدفع الاجرة إلى زوجته وولده إلا أن يأمره القاضي بذلك كما في سائر الديون (وإذا) فقد الرجل بصفين أو بالجمل ثم اختصم ورثته في ماله اليوم فان هذا قد مات ألا ترى انه لم يبق أحد أدرك ذلك الزمان فإذا بلغ المفقود هذه المدة فهو ميت يقسم ماله بين ورثته (والجمل) حرب كان بين على وعائشة وطلحة والزبير بالبصرة رضوان الله عليهم أجمعين (وصفين) كان بين على معاوية رضي الله عنهما وبين أهل الشام ومن ذلك الوقت إلى وقت تصنيف هذا الكتاب كان أكثر من مائة وعشرين سنة والرجل الذى فقد في ذلك الوقت كان ابن عشرين سنة أو أكثر لانه خرج محاربا ولا شك انه لا يبقى في مثل هذا المدة الطويلة ظاهرا. فان كان له ابن مات زمان خالد بن عبد الله وترك أخا لامه وللمفقود عصبة فانى أنظر إلى سن المفقود يوم مات الابن فان كان مثله يعيش إلى ذلك الوقت لم أورث الابن منه شيئا لبقائه حيا بطريق الظاهر واستصحاب الحال ولم أورثه من أبيه أيضا لان بقاء الوارث بعد موت المورث شرط لوارثته عنه فان الوارثة خلافة والحى يخلف الميت فأما الميت فلا يخلف الميت وما كان شرطا فما لم يثبت بدليل موجب له لا يثبت الحكم واستصحاب الحال دليل يبقى لا موجب فلهذا لا يرث المفقود من أبيه ثم يكون ميراث المفقود لعصبته الحى بعدما يمضي من المدة مالا يعيش مثله إليه وان كان مثله لا يعيش إلى مثل تلك المدة حين مات ابنه جعلت الميراث لا بنه لان حياته بعد موت أبيه معلوم هنا بدليل شرعى فإذا صار مال المفقود ميراثا له كان ذلك موروثا عن ابنه بعد موته كسائر أمواله لاخيه لامه منه السدس والباقى لعصبته وان كان مات بعض من يرثه المفقود قبل هذا فنصيبه من الميراث يوقف الي أن

[ 44 ] يتبين حاله لانه غير محكوم بموته ولكنه يشتبه الحال بمنزلة الجنين في البطن فيوقف نصيبه فان ظهر حيا كان ذلك مستحقا له وان لم يظهر حاله فذلك مردود إلى ورثة صاحب المال على سهامهم بمنزلة الموقوف للجنين إذا انفصل الجنين ميتا وهذا لانه لم يظهر شرط الاستحقاق له فيكون موروثا عن الميت كسائر ورثته يوم مات * وإذا فقد المكاتب وله مال وولد ولدوا في المكاتبة وقف ماله حتى يظهر حاله لان ولاية أداء الكتابة من ماله انما تكون بعد موته ليحكم بحريته مستندا إلى حال حياته ولم يظهر موته وكذلك استسعاء أولاده في بدل الكتابة بطريق الخلافة عنه بعد موته ولم يظهر لانه لا يستسعى الولد إذا كان له مال بعد موته حقيقة فكيف يستسعى ولده بعدما يصير مفقودا وله مال. وينفق على ولده الصغار وبناته الذين ولدوا في المكاتبة وعلى امرأته من ماله لان هؤلاء كانوا يستحقون عليه النفقة في كسبه أن لو كان حاضر فكذلك ينفق عليهم من ماله بعد ما يصير مفقودا كولد الحر وزوجته وهذا لان استحقاق النفقة للزوجة بعقد النكاح والحر والمكاتب فيه سواء وأولاده الذين ولدوا في المكاتبة هو أحق بكسبهم فتلزمه نفقتهم لان الغرم مقابل بالغنم فان مات ابن له ولد في مكاتبته وترك مالا كان ماله موقوفا لانه ان كان المفقود حيا حين اكتسب هذا الولد فكسبه للمفقود وإن كان ميتا فكسبه لورثته لانه يحكم بحريته إذا أديت كتابة أبيه من ماله مستندا الي حياة أبيه فلجهالة المستحق بقى موقوفا وان كان ماله في يد أخيه لم أخرجه من يده ولم أتعرض له لانه لا يدرى لمن هذا المال و ما لم يظهر مستحق للمال فليس للقاضي أن يتعرض لذى اليد بازالة * يده ولو أقر ولد المكاتب الذين ولدوا في المكاتبة وهم كباران أباهم قد مات وماله في ايديهم وأقر المولى بذلك فأدوا الكتابة وقسموا المال ثم اختلفوا وجحد بعضهم بعضا وارتفعوا إلى القاضي نفذ القاضي ذلك عليهم لتقدم الاقرار منهم بذلك وقسمتهم عن تراض منهم ولان الذى يجحد بعد ذلك مناقض لكلامه والقاضي لا يتلفت إلى قول المناقض وكذلك لو لم يقتسموا حتى ارتفعوا إليه وأقروا به عنده جاز اقرارهم عليه وقسم المال بينهم بعد أداء الكتابة لان الحق لا يعدوهم فالثابت باقرارهم في حقهم كالثابت بالبينة. وكذلك لو أقروا بدين عليه بدأت به قبل المكاتبة كما لو ثبت موته بالبينة وهذا لان الدين أقوى من المكاتبة حتى إذا عجز نفسه سقطت المكاتبة عنه دون الدين وعند اجتماع الحقوق في المال يبدأ بالاقوى فالاقوى عرفت ذلك بقضية العقول

[ 45 ] وشواهد الاصول. وكذلك الحر إذا أقر ورثته انه قد مات فانه يقضي دينه ويقسم الميراث بينهم إذا كان في أيديهم لان اقرار الانسان فيما في يده معتبر ما لم يظهر له خصم ينازعه فيه وكذلك إذا كان المال في يد غيرهم فصدقهم بذلك. وان جحد موته لم انزعه من يده الا ببينة تقوم على موته لانهم يدعون استحقاق اليد في هذا المال على ذى اليد وقولهم ليس بحجة عليه في استحقاق يده فما لم تقم البينة علي موته لا يخرج القاضي المال من يد ذى اليد. ولو أن المولى اعتق المكاتب المفقود ثم مات ابن المكاتب وهو حر وله اخوة احرار لم بقض لهم بشئ من ذلك حتى يعلم موت المكاتب قبله لان المفقود ان كان حيا فقد عتق باعتاق المولى إياه والميراث له دون الاخوة فشرط تورث الاخوة عدم أب هو وارث وبالظاهر لا يثبت هذا الشرط فلهذا لا يقضى لهم بشئ حتى يعلم موت الاب قبله. وكذلك ان كان مكاتب المكاتب عبدا لان اعتاق المولى عبده المفقود كاعتاقه المكاتب المفقود ولا ينفق علي ولده الصغار من هذا المال شيئا لانه لا يدرى لمن هذا المال فانه كما لم يثبت الاستحقاق فيه للاخوة لم يثبت للاب المفقود لانه لا يرث من غيره ما لم يعلم حياته حقيقة وقت موت مورثه. ولو ادعى مملوك المفقود العتق لو أقام بينته على ذلك لم يقبل منه لانعدام خصم حاضر (قال) ولو ادع أولاده يبيعونه لانه قبل هذه الببنة ما كان لهم أن يبيعوه فبعدها أولى ومراده بعد ما كانوا يقرون بموته لان اقرارهم ليس بحجة على هذا العبد ولانه ان كان ميتا فالولد خصم في البينة التى أقامها المملوك على العتق. وكذلك لو ادعت امرأته الطلاق أو ادعت امرأة انه تزوجها لم أقبل بينتها على ذلك لانعدام الخصم ولو. أوصي رجل للمفقود بوصية لم أقض بها له ولم أبطلها ولم أنفق على ولده منها لان الوصية اخت الميراث وشرط لاستحقاق الموصى له بقاؤه حيا بعد موت الموصى كالميراث وقد بينا أنه يوقف نصيبه من الميراث حتى يتبين حاله ولا ينفق على ولده منه شئ فكذلك الوصية (رجل) مات وترك ابنتين وابن ابن وبنت ابن وترك ابنا مفقودا وترك مالا في يد الابنتين فارتفعوا إلى القاضي وأقروا أن الابن مفقود فالقاضي لا ينبغى له ان يحول المال من موضعه ولا يوقف شيئا منه للمفقود ومراده بهذا اللفظ انه لا يخرج شيئا من ايديهما لان القاضي لا يتعرض لاخراج المال من يد ذى اليد الا بمحضر من الخصم ولا خصم هنا فان اولاد الفقود لا يدعون لانفسهم شيئا ولا يكونون خصما عن المفقود لانه لا يدرى ان المفقود حتى فيرث أو ميت فلا يرث

[ 46 ] فلهذا لا يخرج المال من أيديهما بخلاف مال المفقود الذى يعلم أنه له لان حق أولاده ثابت في ذلك المال باعتبار ملكه فانهم يستحقون النفقة في ملكه واستصحاب الحال معتبر في ابقاء ما كان علي ما كان وكذلك ان قالت الابنتان قد مات اخونا وقال ولد الابن هو مفقود لان من في يده المال قد أقر لولد الابن ببعض ذلك المال وهم قدردوا اقرارهم بقولهم ابونا مفقود فيسقط اعتبار ذلك الاقرار. ولو كان مال الميت في يدى ولد الابن المفقود وطلبت الابنتان ميراثهما واتفقوا أن الابن مفقود فانه يعطى للابنتين النصف لانا تيقنا باستحقاق النصف لهما فان المفقود ان كاحيا فالميراث بينهما وبين اخيهما للذكر مثل حظ الانثيين فلهما النصف وان كان ميتا فلهما الثلثان والباقى لولد الابن فيدفع اليهما الاقل وهو النصف ويترك الباقي. في يد ولد الابن من غير ان يقضي به لهما ولا لابيهما لانه لا يدرى من المستحق لهذا الباقي. ولو كان المال في يد اجنبي فقالت الابنتان مات أخونا قبل أبينا وقال ولد الابن هو مفقود فان أقر الذي في يده المال بالمال للميت وبأن الابن مفقود فانه يعطى للابنتين النصف أقل النصيبين لهما والباقى موقوف على يده حتى يظهر خصمه و مستحقه بظور حال المفقود. وان قال الذى في يده المال قد مات المفقود قبل ابيه فانه يجبر على دفع الثلثين إلى الابنتين لان اقرار ذى اليد فيما في يده معتبر وقد أقر بان ثلثى ما في يده للابنتين فيجبر علي تسليم ذلك اليهما ولا يمننع صحة اقراره بقول أولاد الابن أبونا مفقود لانهم لانفسهم بهذا القول لا يدعون شيأ ثم يوقف الثلث الباقي على يد ذى اليد حتى يظهر خصمه ومستحقه. ولو جحد الذى في يديه المال أن يكون المال للميت فاقامت الابنتان البينة أن اباهم مات وترك هذا المال ميراثا لهما ولاخيهما المفقود فان كان حيا فهو الوارث معهما وان كان ميتا فولده الوارث معهما ولا يعلم له غير هؤلاء فانه يدفع إلى الابنتين النصف وهذا لانهما بهذه البينة يثبتان الملك لابيهما في المال والاب ميت وأحد الورثة ينتصب خصما عن الميت في اثبات الملك له بالبينة ثم يدفع اليهما القدر المتيقن بانه مستحق لهما وهو النصف والباقى يخرج من يد ذى اليد فيوضع في يد عدل حتى يظهر مستحقه لان ذا اليد قد جحده وظهرت جنايته بجحوده فلا يؤتمن بعد ذلك وان كان معروفا بالعدالة لان العدالة لا تتحرز زمن تناول ما يزعم انه ملك بخلاف ما سبق فذو اليد كان هناك مقرا بأن المال للميت وقد انتفت الجناية منه بهذا الاقرار فكان ترك الباقي في يده أولى لظهور أمانته بالتجربة. فان ادعى ولد المفقود انه مات بعد شهادة الشهود لم أدفع

[ 47 ] إليهم شيئا حتى تقوم البينة على موته قبل ابيه لانهم يريدون استحقاق اليد على ذي اليد ومجرد قولهم لا يكفى لذلك ولان سبب الاستحقاق لهم غير معلوم فان أباهم ان مات قبل موت الجد فهم يستحقون الثلث ميراثا من الجد وان مات بعد موت الجد فهم يستحقون النصف ميراثا من ابهم ولا يجوز القضاء لهم بشئ قبل ظهور سبب الاستحقاق فلابد ان يقيموا البينة على موته قبل ابيه أو بعده ولا ينفق عليهم من ذلك المال شئ وان كانوا محتاجين لانه لا يدرى لمن هذا المال ونفقتهم عند الحاجة في مال ابيهم والملك لابيهم في هذا المال لا يثبت ما لم تعلم حيانه بعد موت الجد. فان كان المال ارضا في ايدي الابنتين وولد الابن فاقروا جميعا ان الابن قد مات قبل ابيه واقتسموا الارض بينهم على ذلك ثم ادعوا انه مفقود فان القاضي يمضي القسمة عليهم لانها تمت بتراضيهم وقولهم فيما في أيديهم مقبول فكانت القسمة ماضية ولا يقبل قولهم انه مفقود لانهم مناقضون في ذلك والقاضي لا يلتفت إلى قول المناقض. وكذلك لو كان في ولد الابن رجل غائب لم يشهد القسمة ولم يكن في يده شئ من هذه الارض ثم قدم فقال والدى مفقود وأراد نقض القسمة لم يكن له ذلك لانه لا يدعى لنفسه بمقابلته وانما يدعى الملك للمفقود وهو مقر أنه ليس بوكيل له ولا وارث لانه حى ونقض القسمة بقول من لا يدعى لنفسه شيأ لا يجوز بخلاف مالو كان بعض الارض في يده لانه مدع لنفسه حقا وهو ابقاء يده فيما في يده وقسمتهم قبل حضوره غير صحيح لما فيه من استحقاق يده عليه وكذلك لو كان مكان الغائب صغير فأدرك. وان ادعى أن أباه مات قبل جده كان له أن ينقض القسمة فيقسمها القاضى بينهم قسمة مستقبلة باقرارهم على انفسهم لانه يدعى لنفسه بعض الملك هنا ويدعى بطلان قسمتهم لان تراضيهم على القسمة بعد موت الجد لا يعمل به في حق الغائب والصغير وهم مصدقون له فميا يدعى فلهذا ينقض القسمة بخلاف مالو كان القاضي هو الذى قسمه بين الحضور وعزل نصيب الغائب والصغيرة فانه ينفذ قسمته في حقهما إذا لم يكن في يد الغائب والصغير من هذا المال شئ لان للقاضي نوع ولاية في حق الغائب والصغير وليس للورثة تلك الولاية في حق الغائب والصغير ولو مات ابنة هذا الابن المفقود فان كان ميراثها في يد أخيها لم أتعرض له ولم أقف منه شيئا للمفقود لانه لا يدرى أحى هو فيكون وارثا أوميت فلا يكون وارثا وقد بينا انه لا يتعرض ليد ذى اليد الا بمحضر من الخصم. وان كان ميراثها في يد (4 المبسوط حادى عشر)

[ 48 ] أجنبي لم أدفع إلى أخيها منه شيأ لان شرط توريث الاخ ان يكون الاب ميتا فما لم يصر هذا الشرط معلوما بالحجة لا يدفع إلى الاخ من الميراث شئ وان كان ميراثها في يد أخيها وأختها وأرادوا القسمة وهم مقرون بأن الاب مفقود لم اقسم بينهم لان القسمة تبنى على ثبوت استحقافهم بالميراث ولا يثبت ذلك ما لم تقم البينة على موت الاب المفقود قبل موت الابنة ولو كان للمفقود امرأة فماتت وميراثها في يد ولدها لم اقسم للمفقود من ذلك نصيبا لان خياته بعد موتها خير معلوم ولم اقف له شيئا لان التعرض ليد ذى اليد لا يجوز الا بمحضر من الخصم وان أراد ولدها قسمة ميراثها وهو في ايديهم لم أقسمه بينهم حتى تقوم البينة على موت المفقود ثم يعزل من ذلك مثل نصيب المفقود فيوقف حتى يعلم انه مات قبلها أو بعدها ويقسم ما بقى بينهم. أما قبل ان تقوم البينة على موته فالقاضي لا يشتغل بالقسمة لان فيها قضاء على المفقود وهو حى في حق نفسه فلا يوجه القاضى القاضى القضاء عليه بغير محضر من الخصم وأما بعد موته فقد ثبت للقاضى ولاية توجه القضاء عليه لما ظهر موته فيعزل نصيبه من القسمة ويجعله موقوفا حتى يتبين مستحقه بظهور موته قبلها أو بعدها ولو كان في يد غيرهم قضيت لهم بثلاثة ارباعه لانا تيقنا باستحقاقهم لهذا المقدار فيسلم إليهم ويوقف الربع على يد ذى اليد حتى يظهر حال المفقود بخلاف ما سبق فان المال هناك في ايديهم ففى القسمة تميبز نصيب المفقود عن نصيبهم وذلك قضاء على المفقود وهنا المال ليس في ايديهم فقضاؤه لهم بثلاثة ارباعه لا يمس المفقود وهو متيقن استحقاقه لهم * وإذا فقد المرتد ولم يعلم ألحق بدار الحرب ام لا فانه يوقف ميراثه كما يوقف ميراث المسلم لان اللحاق بدار الحرب بمنزلة الموت في حق المسلم فكما يوقف ميراث المفقود المسلم حتى يتبين موته فكذلك يوقف ميراث المفقود المرتد حتى يتبين لحوقه بدار الحرب. وان مات أحد من ولده قسم ميراثه بين ورثته ولم يحبس للمفقود شئ لانه محروم عن الميراث بكونه مرتدا فان المرتد لا يرث أحداو اسلامه بعد الردة موهوم والموهوم لا يقال المعلوم ألا ترى ان الاب المفقود لو كان عبدا لم يحبس له شئ من ميراث وولده لان الرق الذى يحرمه معلوم والعتق بعد ذلك موهوم وكذلك ان كان ميراثه في يد أجنبي وكذلك المرأة المرتدة فانها لا ترث أحدا وكذلك الذمي يفقد وله بنون مسلمون فمات أحدهم لم يوقف للاب شئ لان سبب حرمانه معلوم فان الكافر لا يرث المسلم. وكذلك رجل مسلم فقد وله بنون كفار فمات أحدهم قسمت ميراثه بين

[ 49 ] اخوته ولم أوقف على أبيه شيئا لان المسلم لا يرث الكافر فسبب حرمانه متيقن والله اعلم كتاب الغصب (قال الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة السرخسي املاء) (اعلم) بان الاغتصاب أخذ مال الغير بما هو عدوان من الاسباب واللفظ مستعمل لغة في كل باب مالا كان المأخوذ أو غير مال. يقال غصبت زوجة فلان وولده ولكن في الشرع تمام حكم الغصب يختص بكون المأخوذ مالا متقوما. ثم هو فعل محرم لانه عدوان وظلم وقد تأكدت حرمته في الشرع بالكتاب والسنة. أما الكتاب فقوله تعالي (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) وقال تعالي (ان الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا) وقال ﷺ لا يحل ما امرئ مسلم الا بطيبة نفس منه وقال ﷺ سباب المسلم فسق وقتاله كفر وحرمة ماله كحرمة نفسه وقال ﷺ في خطبته ألا ان دماءكم واعراضكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومى هذا في شهرى هذا في مقامي هذا (فثبت) أن الفعل عدوان محرم في المال كهو في النفس ولهذا يتعلق به المأثم في الآخرة كما قال ﷺ من غصب شبرا من ارض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين الا ان المأثم عند قصد الفاعل مع العلم به. فأما إذا كان مخطئا بان ظن المأخوذ ماله أو كان جاهلا بأن اشترى عينا ثم ظهر استحقاقه لم يكن آثما لقوله ﷺ رفع عن أمتى الخطأ والنسيان والمراد المأثم فأما حكمه في الدنيا فثابت سواء كان آثما فيه أو غير آثم لان ثبوت ذلك لحق صاحبه وحقه مرعى وانى الآخذ معذور شرعا لجهله وعدم قصده والحكم الاصلى الثابت بالغصب وجوب رد العين على المالك بقوله ﷺ على اليد ما أخذت حتى ترد. وقال ﷺ لا يحل لاحد أن يأخذ متاع أخيه لا عبا ولا جادا فان أخذه فليرده عليه وقال ﷺ من وجد عين ماله فهو أحق به. ومن ضرورة كونه أحق بالعين وجوب الرد على الآخذ والمعنى فيه أنه مفوت عليه يده بالاخذ واليد لصاحب المال في ماله مقصود به يتوصل إلى النصرف والانتفاع ويحصل ثمرات لملك فعلى المفوت بطريق العدوان نسخ فعله لينذفع به الضرر والخسران عن صاحبه. وأثم

[ 50 ] وجوهه رد العين إليه ففيه اعادة العين إلى يده كما كان فهو الواجب الاصلى لا يصار إلى غيره الاعند العجز عنه فان عجز عن ذلك بهلاكه في يده بفعله أو بغير فعله فعليه ضمان المثل جبرا ؟ ا لما فوت على صاحبه لان تفويت اليد المقصودة كتفويت الملك عليه بالاستهلاك (ثم) الملك نوعان كامل وقاصر. فالكامل هو المثل صورة ومعنى. والقاصر هو المثل معنى أي في صفة المالية فيكون الواجب عليه هو المثل التام الا إذا عجز عن ذلك فحينئذ يكون المثل القاصر خلفا عن المثل التام في كونه واجبا عليه * وبيان هذ ان المغصوب إذا كان من ذوات الامثال كالمكيل والموزون فعليه المثل عندنا. وقال نفاة القياس عليه رد القيمة لان حق المغصوب منه في العين والمالية وقد تعذر ايصال العين إليه فيجب ايصال المال إليه ووجوب الضمان على الغاصب باعتبار صفة المالية ومالية الشئ عبارة عن قيمته ولكنا نقول الواجب هو المثل قال الله تعالى (فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم) وتسمية الفعل الثاني اعداء بطريق المقابلة مجازا كما قال الله تعالى (وجزاء سيئة سيئة مثلها) والمجازاة لا تكون سيئة وقد ثبت بالنص أن هذه الاموال أمثال متساوية قال ﷺ الحنطة بالحنطة مثل بمثل ولان المقصود هو الجبران وذلك في المثل أثم لان فيه مراعاة الجنس والمالية وفى القيمة مراعاة المالية فقط فكان ايجاد المثل أعدل الا إذا تعذر ذلك بالانقطاع من ايدي الناس فحينئذ يصار إلى المثل القاصر وهو القيمة للضرورة ثم على قول أبى حنيفة رحمه الله تعتبر القيمة وقت القضاء لان التحول إليه الآن يكون فان المثل واجب في الذمة وهو مطلوب له حتى لو صبر إلى مجئ أوانه كان له ان يطالبه بالمثل فانما يتحول إلى القيمة عند تحقق العجز عن المثل وذلك وقت الخصومة والقضاء بخلاف ما إذا كان المغصوب أو المستهلك مما لا مثل له لان الواجب هناك وان كان هو المثل عند أبى حنيفة ولكنه غير مطالب بأداء المثل بل هو مطالب بأداء القيمة بأصل السبب فيعتبر قيمته عند ذلك وأبو يوسف رحمه الله يقول لما انقطع المثل فقد التحق بمالا مثل له في وجوب اعتبار القيمة والخلف انما يجب بالسبب الذى يجب به الاصل وذلك الغصب فيعتبر قيمته يوم الغصب ومحمد يقول أصل الغصب أوجب المثل خلفا عن رد العين وصار ذلك دينا في ذمته فلا يوجب القيمة ايضا لان السبب الواحد لا يوجب ضمانين ولكن المصير إلى القيمة للعجز عن أداء المثل وذلك بالانقطاع عن أيدى الناس فيعتبر قيمته بآخر يوم كان موجودا فيه فانقطع وان كان المغصوب

[ 51 ] من العدديات المتقاربة كالجواز والبيض والفلوس فعليه ضمان المثل عندنا وعلى قول زفر عليه ضمان القيمة وهو بناء على الاختلاف بيننا وبينه في جواز السلم فيها عددا ثم زفر رحمه الله يقول المثل فيما يؤدى به الضمان منصوص على اعتباره والمماثلة في العدديات المتقاربة غير ثابتة بالنص بل بالاجتهاد ولهذا لا يجرى فيها الربا لانها ليست بأمثال متساوية قطعا وما كان ثابتا بالنص فهو مقطوع به فلا يؤدي بما هو مجتهد فيه ولكن لا يصار إلى القيمة لتعذر أداء المثل كما في العدديات المتقاربة ولكنا نقول المماثلة في آحاد هذه الاشياء ثابتة بالعرف فهو كالثابت بالنص فيما هو المقصود وهو جبران حق المغصوب منه في مراعاة الجنس والمالية عليه وهذا لان آحاد هذه الاشياء لا تتقاوت في المالية انما تتفاوت أنواعها كالمكيل والموزون وان كان المغصوب من العدديات المتفارتة كالثياب والدواب والواجب على الغاصب ضمان القيمة عند تعذر رد العين عندنا * وقال أهل المدينة رحمهم الله الواجب هو المثل لحديث أنس رضي الله تعالى عنه قال كنت في حجرة عائشة رضى الله تعالى عنها مع رسول الله ﷺ قبل أن يضرب الحجاب فأتى بقصعة من ثريد من عند بعض ازواجه فضربت عائشة رضى الله عنها القصعة بيدها فانكسرت فجعل رسول الله صلي الله عليه وسلم يأكل من الارض ويقول غارت أمكم غارت أمكم ثم جاءت عائشة رضى الله تعالى عنها بقصعة مثل تلك القصعة فردتها واستحسن ذلك رسول الله ﷺ من الغيرة وقال علي رضى الله عنه في المغرور يفك الغلام بالغلام، الجارية بالجارية ولكنا نحتج بحديث معروف عن النبي ﷺ انه قال في عبد بين شريكين يعتقه أحدهما فان كان موسرا ضمن قيمة نصيب شريكه وان كان معسرا سعى العبد في قيمة نصيب شريكه غير مشقوق عليه فهذا تنصيص علي اعتبار القيمة فيما لا مثل له * وتأويل حديث أنس رضى الله عنه أن الرد كان على طريق المروءة ومكارم الاخلاق لا على طريق الضمان وقد كانت القصعتان لرسول الله صلي الله عليه وسلم * ومعنى قول على رضى الله عنه يفك الغلام بالغلام يعنى بقيمة الغلام فقد صح عن عمر وعلي رضى الله عنهما انهما قضيا في ولد المغرور انه حر بالقيمة * ثم بدأ محمد الكتاب بحديث ابن سيرين عن شريح رحمهما الله قال من كسر عصى فهى له وعليه مثله وذكر بعده عن الحكم عن شريح قال من كسر عصى فهى له وعليه قيمتها فاما أن يقول مراده بالمثل المذكور في الحديث الاول المماثلة في المالية خاصة وذلك في القيمة أو يحمل

[ 52 ] الحديث الاول على العصى الصغيرة فانها من العدديات المتقاربة لا تتفارت آحادها في المالية كالسهام وما ذكر في الحديث الثاني محمول علي العصى الكبيرة فانها كالعدديات المتفاوتة لان آحادها تتفاوت في المالية. ثم المراد بالكسر ما يكون فاحشا حتى لا يمكن التقضي به بعد ذلك فأما إذا كان الكسر يسيرا فليس علي الكاسر الاضمان النقصان لانه غير مفوت للمنفعة المطلوبة من العين وانما يمكن نقصانا في ماليته فعلية ضمان النقصان وفي الكسر الفاحش هو مستهلك من وجه لفوات المنفعة المطلوبة من العين فكان لصاحبها حق تضمين القيمة ان شاء وهذا الحكم في كل عين الا في الاموال الربوية فان التعبيب هناك فاحشا كان أو يسيرا يثبت لصاحبها الخيار بين أن يمسك العين ولا يرجع على الغاصب بشئ وبين ان يسلم العين إليه ويضمنه مثله عندنا لان تضمين النقصان متعذر فانه يتعدى إلى الربا لانه يسلم له قدر ملكه وزيادة وعلى قول الشافعي رحمه الله له أن يضمنه النقصان وهو بناء على ان من مذهبه أن للجودة في هذه الاموال قيمة كما في سائر الاموال ألاتري أن لها قيمة إذا قوبلت بخلاف جنسها ولها قيمة في اثبات الخيار لصاحبها عند تفويت الغاصب الجودة ومالا يتقوم شرعا فالجنس وغير الجنس فيه سواء كالخمر والصنعة من الملاهي والمعازف. ثم وجوب ضمان النقصان لا يؤدي إلى الربا فان حكم الربا يجرى بالمقابلة على طريق المعادلة وذلك لا يوجد هنا خصوصا علي أصله فان ضمان الغصب عنده لا يوجب الملك في المضمون ولكنا نقول لا قيمة للجودة في هذه الاموال منفردة عن الاصل قال ﷺ جيدها ورديئها سواء يعنى في المالية التى ينبنى عليها العقد لانه لا يجوز الاعتياض عن هذه الجودة حتى لو باع قفيز حنطة جيدة بقفيز حنطة ردئية ودرهم لا يجوز وما يكون متقوما شرعا فالاعتياض عنه جائز وبهذا فارق حال اختلاف الجنس موثبوت الخيار عندنا ليس لفوات الجودة بل للتغير المتمكن بفعله في العين وإذا ثبت انه لا قية للجودة منفردة عن الاصل قلنا لو ضمنه النقصان كان فيه اقرار بجودته عن الاصل فأما إذا سلم العين إليه فلا يكون فيه اقرار بجودته عن الاصل وهى متقومة مع الاصل تبعا فلهذا كان له أن يضمنه المثل وقول شريح هو دليل له على ان المغصوب يصير ملكا للغاصب عند أداء الضمان كما هو مذهبنا (وذكر) عن أبى البحترى ان اعرابيا أتى عثمان بن عفان رضى الله عنه فقال ان بنى عمك عدوا علي ابلى فقطعوا ألبانها وأكلوا فصلانها فقال له عثمان رضى الله تعالى عنه إذا نعطيك ابلا مثل ابلك وفصلانا مثل

[ 53 ] فصلانك قال إذا تنقطع ألبانها ويموت فصلانها حتى تبلغ الوادي فغمزه بعض الفوم بعبد الله بن مسعود رضى الله عنه فقال بينى وبينك عبد الله فقال عثمان رضى الله عنه نعم فقال عبد الله رضى الله عنه أرى أن يأتي هذا واديه فيعطى ثمة ابلا مثل ابله وفصلانا مثل فصلانه فرضى عثمان رضى الله عنه بذلك وأعطاه * وبظاهر الحديث يستدل أهل المدينة في أن الحيوان مضمون بالمثل عند الغصب والاتلاف فقد اتفق عليه عثمان وابن مسعود رضى الله عنهما الا أنا نقول لم يكن هذا على طريق القضاء بالضمان وانما كان ذلك على سبيل الصلح بالتراضى لان المتلف لم يكن عثمان رضى الله عنه ووجوب الضمان على المتلف والانسان غير مؤاخذ بجناية بنى عمه الا أن عثمان رضى الله عنه كان يتبرع بأداء مثل ذلك عن بنى عمه ويقول ان قوتهم ونصرتهم بى وهذا لانه كان به فرط الميل إلى أقاربه واليه أشار عمر رضى الله عنه حين ذكر عثمان رضى الله عنه في الشورى فقال انه كلف بأقاربه وكان ذلك ظاهرا منه ولهذا جاء الاعرابي يطالبه وانما غمزه بعض القوم بعبد الله رضى الله عنه لما كان بين عثمان رضي الله عنه وبينه من النفرة وسبب ذلك معلوم * ثم فيه دليل جواز التحكيم وان الامام إذا كان يخاصمه غيره فله أن يحكم برضى الخصم من ينظر بينهما كما فعله عثمان رضي الله عنه * وفيه دليل على أن رد مثل المغصوب أو المستهلك يجب في موضع الغصب والاستهلاك لان ابن مسعود رضي الله عنه حكم بذلك وانقاد له عثمان رضي الله عنه وهذا لان المقصود هو الجبران ورفع الخسران عن صاحب المال وذلك برد العين عليه في ذلك الموضع وأداء الضمان في ذلك الموضع ولهذا قلنا ان مؤنة الرد تكون على الغاصب (وذكر) عن شريح رحمه الله أن مسلما كسردنا من خمر لرجل من أهل الذمة فضمنه شريح قيمة الخمر وبه نأخذ فان الخمر مال متقوم عندنا في حقهم لتمام احرازها منهم بحماية الامام فانهم يعتقدون فيها المالية وانما يكون المال متقوما بالاحراز والامام مأمور بأن يكف عنهم الايدى المتعرضة لهم في ذلك لمكان عقد الذمة فيتم احرازها منهم بذلك وسنقرر ذلك في موضعه (ثم) فيه دليل أن المسلم يضمن قيمة الخمر للذمي عند الاتلاف دون المثل لان المسلم عاجز عن تمليك الخمر من غيره وعند العجز عن رد المثل يكون الواجب هو القيمة ولم يذكر تضمين قيمة الدن لان ذلك غير مشكل وانما ذكر الرواى ما هو المشكل وهو تضمينه قيمة الخمر (وإذا) غصب الرجل جارية تساوى ألف درهم فازدادت عنده فالزيادة نوعان منفصلة متولدة

[ 54 ] منها كالولد والعقر ومتصلة كالسمن وانجلاء البياض عن العين * وفى الكتاب بدأ ببيان الزيادة المتصلة ولكن الاولى أن يبدأ ببيان الزيادة المنفصلة فيقول. هذه الزيادة تحدث أمانة في يده عندنا حتى لو هلكت من غير صنعه لم يضمن قيمتها عندنا (وقال) الشافعي رحمه الله تعالى تحدث مضمونة لانها لما تولدت من أصل مضمون بيد متعدية فتحدث مضمونة كزاوئد الصيد المخرج من الحرم وهذا لان المتولد من الاصل يكون بصفة الاصل والاصل مضمون عليه فكذلك ما تولد منه ألا ترى ان الزيادة مملوكة للمغصوب منه كالاصل (ثم) له في بيان المذهب طريقان (أحدهما) ان الزيادة مغصوبة بمباشرة من الغاصب لان حد الغصب الاستيلاء على مال الغير باثبات اليد لنفسه بغير حق وقد كانوا في الجاهلية يتملكون بهذه اليد ويسمونه غصبا فالشرع ابطل حكم الملك بها في كل محترم وأثبت الضمان وبقى حكم الملك بها في كل مباح كالصيد. ثم انما يملك الصيد باثبات اليد عليه فكذلك يجب الضمان باثبات اليد عليه وهو مثبت يده على الولد حتى لو نازعه فيه إنسان كان القول قوله (والثانى) هو انه غاصب للولد تسبيبا فان غصب الام وامساكها إلى وقت الولادة سبب لحصول الولد في يده وهو معتاد لان أصحاب السوائم يمسكون الامهات لتحصيل الاولاد وهذا تسبيب هو فيه متعد فينزل منزلة المباشرة لان المال يضمن بالاتلاف تارة وبالغصب أخرى وفى الاتلاف المسبب إذا كان متعديا يجعل كالمباشر في حكم الضمان كحفر البئر ووضع الحجر في الطريق فكذلك في الغصب * وحجتنا في ذلك أن وجوب ضمان الغصب لا يكون إلا باعتبار تحقق الغصب لانه سببه ولهذا يضاف إليه الحكم ولا يثبت بدون السبب ولم يوجد الغصب في الزيادة تسبيبا ولا مباشرة لان حد الغصب الموجب للضمان الاستيلاء على مال الغير باثبات اليد لنفسه على وجه تكون يده مفوتا ليد المالك لان الضمان واجب بطريق الجبران فلا يجب الا بتفويت شئ عليه وليس في الغصب تفويت العين فعرفنا أن وجوب الضمان باعتبار تفويت اليد عليه وذلك غير موجود في الولد لان التفويت بازالة يده عما كان في يده أو بازالة تمكنه من أخذ ما لم يكن في يده وما كان الولد في يد المالك قط ولا زال تمكنه من أخذه لحصوله في دار الغاصب ما لم يمنعه الغاصب منه فلا يكون مضمونا عليه لانعدام سبب الضمان حتى يطالبه بالرد فإذا منعه يتحقق التفويت بقصر يده عنه بالمنع فيكون مضمونا عليه كالثوب إذا هبت

[ 55 ] به الريح وألفته في حجره وهذا بخلاف الاستيلاء الموجب للمك لان الملك حكم مقصود على المحل فيتم سببه باثبات اليد على المحل والضمان جبران لحق المالك فلا يتم سببه الا بتفويت شئ عليه وبخلاف ضمان صيد الحرم لان ذلك ضمان اتلاف معنى الصيدية فيه فانه بالحرم أمن الصيد ومعنى الصيدية في تنفيره واستيحاشه وبعده عن الايدي فاثابت اليد على يكون اتلافا لمعنى الصيدية فيه حكما وقد تحقق ذلك في الولد باثابت اليد عليه. فأما الاموال فمحفوظة بالايدي فلا يكون اثبات اليد علي المال اتلافا لشئ على المالك * يوضح الفرق أن الحق في صيد الحرم للشرع والشرع يطالبه برد الاصل مع ولده إلى مأمنه فانما وجد المنع منه بعد الطلب وذلك سبب الضمان. وعلي هذا الطريق يقول إذا هلك الولد قبل تمكنه من الرد إلى الحرم لا يضمن وعلي الطريق الاول هو ضامن ولاوجه لاثبات حكم الضمان في الزيادة بتولدها من الاصل المضمون لان الضمان ليس في العين بل هو في ذمة الغاصب وانما توصف العين به مجازا كما يقال فلان مغصوب عليه والغصب صفة للغاصب بخلاف الملك لانه وصف للمحل فانه يوصف بانه مملوكه حقيقة فيتعدى ذلك إلى الولد وان باع الغاصب الولد وسمله أو أتلفه فهو ضامن لقيمته لوجود التعدي منه على الامانة كما لو باع المودع الوديعة (فان قيل) فليس في البيع والتسليم تفويت يد المالك في الولد (قلنا) بل فيه تفويت يده لانه كان متمكنا من أخذه من الغاصب وقد زال ذلك ببيعه وتسليمه فلوجود التفويت من هذا الوجه يكون ضامنا فأما الزيادة المتصلة فهى أمانة في يد الغاصب عندنا حتى لو هلكت الجارية بعد الزيادة ضمن قيمتها وقت الغصب ولا يضمن الزيادة وعند الشافعي رضى الله تعالى عنه مضمونة كالزيادة المنفصلة عنده ويزعم أن كلامه هنا أظهر فان الزيادة تصير مغصوبة بالوقوع في يد الغاصب ولان الزيادة لا تنفصل عن الاصل فمن ضرورة كون يده على الاصل يد غصب أن تكون على الزيادة يد غصب أيضا ولكنا نقول سبب وجوب الضمان في الاصل لفيس هو يد الغصب بل اليد الغاصبة لان ليد الغصب حكم الغصب وانما يحال بالضمان على أصل السبب لا على حكمه فأصل السبب اليد الغاصبة المفوتة ليد المالك ولم يوجد ذلك في الزيادة وان منعها بعد الطلب ففى احدى الروايتين الزيادة تصير مضمونة بالمنع لان قصر يد المالك عنها يثبت بالمنع وفى الرواية الاخرى لا تصير مضمونة لان المطالبة بالرد في حق الزيادة لا تتحقق منفردة عن الاصل إذ لا يتصور

[ 56 ] ردها بدون الاصل ولا معتبر بهذا المنع في حق الاصل لان الاصل مضمون بدون هذا المنع فلهذا لا يضمن الزيادة المتصلة بالمنع بعد الطلب بخلاف الزيادة المنفصلة وعلى هذا الاختلاف لو ازدادت قيمتها من غير زيادة في بدنها ثم هلكت لم يضمن الغاصب الا قيمتها وقت الغصب عندنا وعند الشافعي يضمن قيمتها وقت الهلاك لان من أصله ان سبب الضمان اثبات اليد واليد مستدام والاصل أن ما يستدام فانه يعطى لاستدامته حكم انشائه فبهذا الطريق يصير كالمجدد للغصب عند الهلاك وعندنا سبب وجوب الضمان تفويت يد المالك وذلك بابتداء الغصب فتعتبر قيمتها عند ذلك فان باعها وسلمها بعد ما صارت قيمتها ألفين بالزيادة المتصلة فهلكت عند المشترى ثم جاء صاحبها فله الخيار ان شاء ضمن المشترى قيمتها يوم قبض العين وان شاء ضمن الغاصب لان المشترى متعد بقبضها لنفسه علي طريق التملك وفى هذا القبض تفويت يد المالك حكما على مابينا انه كان متمكنا من استردادها من الغاصب وقد زال ذلك بقبض المشتري على طريق التملك لنفسه فيضمن قيمتها حال قبضه وذلك أيفا درهم بمنزلة مالو غصبها غاصب من الاول بعد الزيادة فان للمالك ان يضمن الغاصب الثاني قيمتها وقت غصبه. وفيه طريقان. أحدهما ما بينا. والثانى أن المولي باختياره تضمين الغاصب الثاني يكون مبرئا للغاصب الاول ولهذا لا يكون له أن يضمنه بعد ذلك وبهذا الابراء تصير يده يد المالك والغاصب الثاني مفوت لهذه اليد فإذا صارت كيد المالك كان هو ضامنا بتفويته يد المالك حكما فان اختار تضمين البائع فان شاء ضمنه قيمتها وقت الغصب ألف درهم وان شاء ضمنه قيمتها وقت البيع والتسليم ألفى درهم ولم يذكر فيه خلافا في الكتاب (وروى) الحسن عن أبى حنيفة وابن سماعة عن محمد عن أبى حنيفة رحمهم الله انه ليس له ان يضمن الغاصب وقت البيع والتسليم قيمتها * وجه ظاهر الرواية وهو قولهما ان الزيادة حصلت في يد الغاصب أمانة وقد تعدى عليها بالبيع والتسليم فيكون ضامنا لها بزيادتها كما لو كانت الزيادة منفصلة وكما لو قتلها بعد حدوث الزيادة ولانه وجد من الغاصب سببان موجبان للضمان الغصب والتسليم بحكم البيع فللمالك ان يضمنه بأى الشيئين شاء كما لو فتلها بعد الغصب * وتحقيق هذا ان البيع والتسليم استهلاك ألا ترى ان من ادعى عينا في يد انسان فأقام البينة ان فلانا باعه وسلمه منه إليه فان القاضى بالملك له كما لو شهدوا بالملك له فهو بالبيع والتسليم باشر سببا لو أثبته المشترى بالبينة قضى القاضى بالملك له فيكون ذلك استهلاك كا

[ 57 ] للملك علي المغصوب منه حكما والاستهلاك بعد الغصب يتحقق ويكون سببا للضمان كالاستهلاك بالقتل * وجه قول أبى حنيفة رحمه الله أن ضمان البيع والتسليم ضمان غصب والغصب لا يتحقق في المغضوب لوجهين (أحدهما) ان الغصب الموجب للضمان لا يكون الا بتفويت يد المالك والتفويت بعد التفويت من واحد لا يتحقق (والثانى) أن الاسباب مطلوبة لا حكامها وتكرار الغصب من واحد في محل غير مفيد شيئا فلا يعتبر كتكرار البيع بثمن واحد وانما قلنا ان ضمان البيع والتسليم ضمان غصب لان ملك المغصوب منه باق بعد بيع الغاصب كما بعد غصبه * والاستهلاك اما أن يكون بتفويت العين حقيقة أو بتفويت الملك فيه حكما وذلك غير موجود. والدليل عليه أن الحر لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب والحر يضمن بالاتلاف وكذلك العقار عند أبى حنيفة وأبى يوسف آخرا رحمهما الله لا يضمن بالبيع والتسليم كما لا يضمن بالغصب وهو مضمون بالاتلاف (فإذا) ثبتت هذه القاعدة فنقول السبب الثاني لا يمكن اعتباره في الاصل لما قلنا ان الغصب بعد الغصب لا يتحقق مع بقاء حكم الاول ولا وجه لا بطال حكم الضمان الثابت بالغصب الاول بفعل الغاصب لان المسقط للضمان عنه نسخ فعله باعادته إلى يد المالك لااكتساب غصب آخر ولا وجه لا عتبار السبب الثاني في الزيادة لان الزيادة تابعة للاصل فلا يثبت الحكم فيها الا بثبوته في الاصل ولان الزيادة المتصلة لا نفرد بالغصب فلا تفرد بضمان الغصب ولانه لما ضمن الاصل بالغصب ملك الاصل بزيادته من ذلك الوقت فتبين أنه باع ملك نفسه ولهذا نفذ بيعه هنا وبيع ملك نفسه لا يكون موجبا للضمان عنه وهذا بخلاف ما إذا قتلها لان ذاك ضمان اتلاف والزيادة تفرد بالاتلاف ولان اعتبار السبب الثاني هناك مفيد في حق الاصل لان الضمان بالقتل يجب مؤجلا على العاقلة وبالغصب يجب على الغاصب فيجب اعتبار السبب الثاني في حق الاصل لكونه مفيدا ثم يعتبر في حق الزيادة تبعا للاصل الا أنه إذا ضمن الاصل بالقتل لا يملكها لان ضمان القتل لا يوجب الملك فلا يتبين به ان الزيادة كانت مملوكة له ولم يذكر هنا ان المغصوبة لو كانت دابة فاستهلكها الغاصب بعد الزيادة المتصلة هل يضمن قيمتها زائدة ذكر في كتاب الرجوع عن الشهادات انه يضمن قيمتها زائدة ؟ بعض اخففين من أصحابنا رحمهم الله ان ذلك الجواب قولهم جميعا وجعل يفرق لابي حنيفة رحمه الله تعالى أن الاستهلاك بعد الغصب يتحقق في الاصل

[ 58 ] فيكون موجبا للضمان وأما الغصب بعد الغصب فلا يتحقق. قال رضى الله عنه والاصح عندي انه لافرق في الفصلين عند أبى حنيفة رحمه الله فانه كما لم يذكر الخلاف ثمة لم يذكر هنا قال وقد رأيت في بعض النوادر بيان الخلاف في الشاة إذا ذبحها الغاصب وأكلها بعد الزيادة انه لا يضمن قيمتها زائدة وهذا لما بينا أن السبب انما يعتبر إذ كان مفيدا وحكم الاستهلاك في الدواب وحكم الغاصب سواء لانه يوجب الضمان على المستهلك حالا ويملك المضمون به فالاستهلاك وان تحقق فلا فائدة في اعتباره في حق الاصل بخلاف القتل في الآدمى فان حكم ضمان القتل مخالف لحكم ضمان الغصب فكان اعتبار السبب الثاني مفيدا وهذا بخلاف صيد الحرم إذا باعها وسلمها بعد الزيادة لانا نثبت بهذا الكلام ان البيع والتسليم لا يكون سببا للضمان بعد الغصب وهناك الزيادة كانت مضمونة عليه قبل هذا الا ان تصير مضمونة بالبيع والتسليم * وان اختار المغصوب منه تضمين المشترى بطل البيع ورجع بالثمن علي الغاصب لان استرداد القيمة منه كاسترداد العين ولان ملك العين لم يسلم للمشترى بالبيع وانما سلم له بضمان القيمة فلا يسلم الثمن للبائع أيضا فلهذا استرد الثمن من البائع (رجل) غصب جارية فولدت عنده ثم مات الولد فعلى الغاصب رد الجارية مع نقصان الولادة لانما دخلت في ضمانه بجميع أجزائها وقد فات جزء مضمون منها ولو فاتت كلها ضمن الغاصب قيمتها والجزء معتبر يالكل وان كان الولد حيا فعليه رد هما لان الولد جزء من لاصل فيكون مملوكا لمالك لاصل ومؤنة الرد في الولد على الغاصب وان لم يكن مضمونا عليه كمؤنة الرد في المستعار على المستعير وان لم يكن مضمونا عليه فإذا ردهما وفى قيمة الولد وفاء بنقصان الولادة لم يضمن الغاصب من نقصان الولادة شيئا عندنا وقال زفر رحمه الله هو ضامن لذلك وان لم يكن في قيمة الولد وفاء بالنقصان فهو ضامن لما زاد علي قيمة الولد من النقصان عندنا وعند زفر هو ضامن لجميع النقصان لان ضمان النقصان واجب عليه بفوات جزء مضمون منها فلا يسقط الا بالاداء أو الابراء ممن له الحق وقد انعدم الاسقاط ممن له الحق وهو برد لولد لا يكون مؤد يا للضمان لان الولد ملك المضمون له واداء الضمان يملك غير المضمون له لان الضمان لجبران ما فات عليه وملكه لا يكون جابرا لملكه ولا يجوز ن يكون الولد قائما مقام الجزء الفائت بالولادة لان الولد أمانة في يده والفائت مضمون عليه فكيف تكون الامانة خلفا عن المضمون (ألا ترى) انه لو دخلها عيب آخر في يده وفى

[ 59 ] قيمة الولد وفاء بنقصان ذلك العيب لم يكن الولد جابرا لذلك النقصان. وشبه هذا بمن قطع قوائم شجرة انسان فنبت مكانها أخرى لم يسقط الضمان عن القاطع بما نبت لان النابت ملك المضمون له بخلاف مالو قطعت يدها فأخذ الغاصب الارش فردها مع الارش لان الارش ما تولد من ملك المضمون له فيمكن أن يجعل مؤديا للضمان به وبخلاف مالو قلع سنها فنبت مكانها أخرى أو صارت مهزولة ثم سمنت لان هناك انعدم سبب الضمان لان السبب افساد المنبت لا مجرد القلع وقد تبين أنه ما أفسد المنبت ولهذا لو كان نبات السن بعد الرد لم بحب على الغاصب شئ أيضا وهنا السبب وهو النقصان قائم مشاهد والولد لا يصلح أن يكون قائما مقام ذلك النقصان. ألا ترى أن الوفاء بقيمته لو حصل بعد الرد لم يتخير به فكذلك قبله * وحجتنا في ذلك ان سبب الضمان منعدم هنا حكما والثابت حكما كالثابت حسا أو أقوى منه. وبيان ذلك أن الولد خلف عن الجزء الفائت بالولادة بطريق اتحاد السبب وهو ان الولادة أوجبت فوات جزء من مالية الاصل وحدوث مالية الولد لان الولد وان كان موجودا قبل الانفصال فلم يكن مالا بل كان عيبا في الام أو كان وصفا لها وانما صار مالا مقصودا بعد الانفصال والسبب الواحد متى أثر في النقصان والزيادة كانت الزيادة خلفا عن النقصان كالبيع لما زال المبيع عن ملك البائع وأدخل الثمن في ملكه كان الثمن خلفا عن مالية المبيع له باتحاد السبب حتى لو شهد الشاهدان عليه ببيع شئ بمثل قيمته ثم رجعا لم يضمنا شيئا وكذلك الارش خلف عن مالية اليد المقطوعة باتحاد السبب فكما ينعدم النقصان إذا رد ذلك الجزء بعينه بأن غصب بقرة فقطع جزأ منها ثم رد ذلك الجزء مع الاصل فكذلك ينعدم النقصان برد الخلف لان الخلف عن الشئ يقوم مقامه عند فواته والدليل عليه فصل السمن والسن فان الحادث هناك يجعل خلفا عن الفائت باتحاد المحل لانه حادث في محل النقصان وتأثير السبب في الخلافة أكثر من تأثير المحل فإذا جعل باتحاد المحل هناك الحادث خلفا عن الفائت حتى ينعدم به سبب الضمان فهذا أولى. وبهذا ظهر الجواب عن كلامه فانا لا نجعل الغاصب مؤديا للضمان برد الولد ولكن نبرئه بانعدام سبب الضمان فانما ينعدم سبب الضمان برد ملك المغصوب منه فيكون المردود ملكه يقرر هذا المعني (فان قيل) كيف يستقيم هذا والولد يبقى ملكا للمغصوب منه بعد انعدام النقصان (قلنا) لانه في الملك لم يكن خلفا انما كان مملوكا له بكونه متولدا من ملكه وذلك باق وانما

[ 60 ] كان خلفا في حكم الانجبار فلا جرم بعد ارتفاع النقصان لا يكون الولد جابرا للنقصان وهو كالتراب خلف عن الماء في حكم الطهارة لا في الملك فبعد وجود الماء يبقى التراب مملوكا له ولايكون خلفا في حكم الطهارة (وإذا) ثبت هذا فيما إذا كان في قيمة الولد وفاء بالنقصان عند الولادة فكذلك إذا صار فيه وفاء بعد الولاد قبل الرد لان حكم الخلافة باتحاد السبب لما انعقد فيه فالحادث فيه بعد انعقاد السبب يلتحق بالموجود وقت السبب كالزوائد في البيع بعد البيع قبل القبض تلتحق بالموجود وقت العقد ولكن هذه الخلافة في حكم الانجبار ليكون رد الخلف كرد الاصل وهذا ينتهى بالرد فالزيادة فيه بعد الرد لا تجعل كالموجود عند السبب لهذا كالزيادة في المبيع بعد القبض لا تعتبر في انقسام الثمن فأما في السن يتبين انعدم سبب الضمان من حيث ان الحادث خلف عن القائت باتحاد المحل من حيث الظاهر ومن حيث المعنى عدم افساد المنبت وذلك يتحقق بعد الرد يتحقق قبله * ويوضحه أن هناك لا يشترط لا يجاب الضمان بالقلع كون الاصل في ضمانه عند القلع فكذلك لا يشترط لانعدام السبب بالنبات بقاء الاصل في ضمانه بخلاف ما نحن فيه وفى قطع قوائم الشجرة الواجب ضمان عين ما ذهب به القاطع وهو الجزء المقطوع وذلك لا ينعدم بنبات مثله. ثم النبات هناك ليس يسبب القطع بل ببقاء الشجرة الخضرة النامية والانجبار بحكم اتحاد السبب على ما قررنا * فان ماتت الام وبالولد وفاء بقيمتها ففى هذه المسألة ثلاث روايات روى عن أبى حنيفة رحمه الله انه يبرأ برد الولد لان وجوب الضمان على الغاصب لجبران حق المغصوب منه وذلك حاصل بالوفاء في قيمة الولد وروى عنه أنه يجبر بالولد قدر نقصان الولادة ويضمن ما زاد على ذلك من قيمة الام لان الولادة لا توجب الموت فالنقصان يكون بسبب الولادة فأما موت الام لا يكون بسبب الولادة ورد القيمة كرد العين ولورد عين الجارية كان النقصان منجبرا بالولد فكذلك إذا رد قيمتها (وفي) ظاهر الرواية عليه قيمتها يوم الغصب كاملة لوجهين (أحدهما) انها لما ماتت تبين ان الولادة كانت موتا من أصله كالجرح إذا اتصل به زهوق الروح يكون قتلا من أصله لا أن يكون جرحا ثم قتلا بناء عليه ومن حيث ان الولادة موت لا يكون موجبا للزيادة وهذا بخلافه بحكم اتحاد السبب فإذا انعدم هناك لم يكن الولد جابرا للنقصان بالولادة ولا قائما مقام الام لانا نجعل اتحاد السبب كاتحاد المحل وهناك يتصور أن يكون الحادث خلفا عن الفائت إذا كان الفائب بعض الاصل

[ 61 ] كالسمن والسن لا ما إذا كان الفائت جميع الاصل فكذلك بسبب اتحاد السبب يجعل الحادث خلفا عن الفائت إذا كان الفائت بعض الاصل لا ما إذا كان الفائت كله لان الحادث تبع والتبع لا يقوم مقام الاصل انما يقوم مقام تبع مثله * يوضحه أنه لما ضمن الاصل من وقت الغصب ملك الاصل بالضمان من ذلك الوقت وتبين ان النقصان حادث على ملكه فلا حاجة إلى ما يجبره بخلاف ما إذا رد الاصل فالحاجة إلى رد جابر النقصان هنا متقرر وباعتبار هذه الحاجة يجعل الولد خلفا في حكم الانجبار به (قال) وإذا جاء المغصوب منه يدعى جاريته في يد الغاصب وهو منكر فأقام شاهدا انها جاريته غصبها هذا اياه وأقام شاهدا آخر على اقرر الغاصب بذلك لم يجز لانهما اختلفا حين شهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل إذ الفعل غير القول وبشهادة الواحد لا يثبت واحد من الامرين. وكذلك لو شهد أحدهما بالملك له وشهد الآخر على اقرار الغاصب له بالملك لان المشهود به مختلف وليس على واحد من الامرين شهادة شاهدين وان شهدا له بالملك وزاد أحدهما ذكر الغصب فالشهادة جائزة لانهما اتفقا في الشهادة على الملك للمدعى وتفرد احداهما بالشهادة بالغصب على المدعى عليه فيقضي القاضي بما انفقا عليه وان شهد احدهما انها جاريته وشهد الآخر انها كانت جاريته قضيت بها له لانهما اتفقا في المشهود به وهو المالك للمدعى لان ما كان له فهو باق على ملكه ابدا حتى يخرجه من ملكه بحق ولم يظهر سبب ذلك فعرفنا ان كل واحد منهما شهد له بالملك في الحال * وان شهد احدهما انها جاريته اشتراها من فلان وشهد الاخر انها جاريته ورثها عن أببه لم يجز لان احدهما شهد له بملك هو أصل فيه مستفاد بسبب أحدثه وهو الشراء والآخر شهد له بملك هو خلف عن مورثه فيه وأحد الملكين متباين عن الآخر * ألا ترى أن الوارث يرد بالعيب على بائع مورثه ويصير مغرورا بشراء مورثه والمشترى لا يرد على بائع بائعه ولا يصير مغرورا بسبب شراء بائعه (وإذا) اختلف المشهود به حكما لم يتمكن القاضي من القضاء بشئ. وان شهد احدهما بالشراء من رجل والاخر بالشراء من رجل آخر أو بهبة أو صدقة لم تجز الشهادة لا ختلافهما في المشهود به وهو السبب اما لان الصدقة والهبة غير الشراء أو لان الشراء من زيد غير الشراء من عمرو. وان شهدا أنها جاريته غصبها اياه هذا وقد باعها الغاصب من رجل فسلم رب الجارية البيع بعد ذلك قال يجوز لان البيع انعقد من الغاصب موقوفا على اجازة المالك فان من أصلنا أن ماله مجيز

[ 62 ] حال وقوعه يتوقف علي الاجازة وان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء ولكن الشرط لتمام العقد بالاجازة بقاء المتعاقدين والمقود عليه والمجيز وذلك كله باق هنا (وقد) ذكر في النوادر أن المدعى إذا طلب من القاضى أن يقضي له بالملك ففعل لم يكن له أن يجيز البيع بعد ذلك لانه طلب من القاضي أن يقرر ملكه وذلك يتضمن دفع السبب المزيل فيجعل ناسخا للبيع بهذا. وجه ظاهر الرواية ان الملك لذى ظهر له بقضاء القاضي لا يكون أقوى من ملك ظاهر له وذلك لا يمنع انعقاد البيع موقوفا فلا يمنع بقاء البيع إذا ظهر بالفضاء بطريق الاولى فان كان الغاصب قد قبض الثمن فهلك عنده هلك من مال رب الجارية لان بنفوذ البيع صار الغاصب كالوكيل من جهته بالبيع بطريق ان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء وحق قبض الثمن إلى الوكيل وهو أمين فيما يقبض. الا ترى انه لو هلك عنده بعد الاجازة لم يضمن فكذلك إذا هلك قبل الاجازة ولا يشترط لنفوذ العقد بالاجازة بقاء الثمن لان الثمن معقود به ولا يشترط وجوده في ملك المشتري لصحة البيع بعد ابتداء فكذلك لا يشترط بقاؤه لنفوذ البيع بالاجازة وكل ما حدث للجارية عند المشترى من ولد أو كسب أو ارش جناية وما شابهها فهو للمشتري لان عند اجازته ينفذ البيع ويثبت الملك للمشترى من وقت البيع فان سبب ملكه هو العقد وكان تاما في نفسه ولكن امتنع ثبوت الملك به لمانع وهو حق المغصوب منه فإذا ارتفع ذلك بالاجازة ثبت الملك له من وقت السبب لان الاجازة في الانتهاء كالاذن في الابتداء * فتبين ان الزوائد حدثت على ملكه وان لم يسلم المبيع وأخذها أخذ جميع ذلك معها لانه بقى ملكه مقررا فيها وانما يملك الكسب والارش والولد بملك الاصل فان أعتقها المشترى لم ينفذ عتقه قبل أن يجيز المالك البيع عندنا وقال) ابن أبى ليلي عقته نافذ والغاصب ضامن قيمتها للمغصوب منه لان الاعتاق قبض بطريق الاتلاف فانه ينعدم به محلية البيع كما بالاتلاف حقيقة فهناك الغاصب يضمن قيمتها وينفذ البيع بينه وبين المشترى إذا ضمن قيمتها فهنا كذلك اعتبار للحكمي بالحقيقي. ولكنا نقول حصول القبض والاتلاف بنفوذ العتق لا بالتكلم به وشرط نفوذ العتق ملك المحل قال ﷺ لا عتق فيما لا يملكه ابن آدم والبيع الموقوف ضعيف في نفسه فلا يثبت الملك به قبل الاجازة كالهبة قبل القبض فان الموهوب له لو أعتق الموهوب قيل أن يقبض لم يعتق ولا يصير قابضا به فهذا مثله بخلاف الاتلاف فانه حسي يتحقق في الملك

[ 63 ] وغير الملك ولا نقول المشترى بالاتلاف يصير مالكا متى كان للمغصوب منه أن يضمن المشترى ان شاء فان أجاز المغصوب منه البيع بعد ما أعتق المشترى الجارية جاز البيع ولم ينفذ عتق المشتري في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله وفى الاستحسان ينفذ عتقه وهو قول أبى حنفية وأبى يوسف رحمهما الله هكذا يرويه محمد عن أبى يوسف عن أبى حنيفة (قال) أبو سليمان وكنا سمعنا من أبى يوسف روايته عن أبى حنيفة انه لا ينفذ عتقه * وجه القياس ان هذا عتق ترتب على عقد توقف نفوذه لحق المالك فلا ينفذ بنفوذ العقد كالمشترى بشرط الخيار أقوى من البيع الموقوف فانه متفق على جواره ويتم بموت البائع وبسكوته حتى تمضى المدة * والبيع الموقوف مختلف في جوازه وهو يبطل بموت العاقد وبموت المالك ولا يتم بدون الاجازة لان هذا العتق توقف على اجازة مالك ظاهر الملك فان المالك لو اجاز العتق عن نفسه عتق من جهته فلا ينفذ من جهة من يحدث له بالملك كالمشترى من المكره إذا أعتق قبل القبض ثم رضي المكره بالبيع لم ينفذ عتق المشترى * يوضحه أن البيع والعتق توقفا على اجازة المالك ثم لو أجاز العتق بطل البيع فكذلك لو أجاز البيع يبطل العتق لما بينهما من المنافاة في حقه. والدليل عليه ان الغاصب لو أعتق ثم ضمن القيمة لم ينفذ عنقه والملك الثابت له بالضمان أقوى من الملك الثابت للمشترى هنا حتى بنفذ بيعه لو كان باعه هناك ولا ينفذ بيع المشترى هنا لو كان باعه ثم هناك لم ينفذ عتقه فهنا أولى. وكذلك لو كان المشترى من الغاصب أعتق ثم ان المالك ضمن الغاصب حتى نفذ بيعه لم ينفذ عتق المشترى فكذلك إذا نفذ البيع باجازة المالك * وجه الاستحسان ان هذا عتق ترتب علي سبب ملك تام فينفذ بدون السبب بالاجازة كالوارث إذا أعتق عبدا من التركة وهى مستغرقة بالدين ثم يسقط الدين أو المشتري من الوارث إذا فعل ذلك * وتقرير هذا الكلام ان العقد الموقوف سبب تام في نفسه وانعقاده بكلام المتعاقدين ولهما ولاية على أنفسهما فإذا أطلقا العقد انعقد بصفة التمام لان الممتنع ما يتضرر به المالك وكما لا ضرر على المالك بانعقاد السبب لا ضرر عليه في تمام السبب لانه ليس من ضرورة اتمام السبب اتصال الحكم به فقد يتراخى عنه لان الاسباب الشرعية لا تنعقد خالية عن الحكم ولكن يجوز أن يتأخر الحكم عن السبب والضرر على المالك في اثبات الملك للمشترى لان من ضرورته زول ملك فيتأخر ذلك إلى وقت الاجازة ويبقى السبب تاما والدليل عليه ان الاشهاد على (5 مبسوط حادى عشر)

[ 64 ] النكاح يعتبر وقت العقد لا عند الاجازة والنكاح ينعقد مع التوقف وما يمنع تمام السبب فالنكاح لا يحتمله كخيار الشرط. والدليل عليه ان الغاصبين إذا تصارفا وتقابضا وافترقا ثم أجاز المالكان فمحمد يوافقنا انه يجوز وما يمنع تمام السبب لا يكون عفوا في الصرف بعد الافتراق كخيار الشرط والدليل على تمام السبب انه يملك المبيع عند الاجازة بزوائده المنفصلة والمتصلة (وإذا) ثبت ان السبب تام فنقول العتق قبض حتى ان المشترى إذا أعتق المبيع قبل القبض يسير قابصا والقبض بعد تمام السبب يتوقف بتوقف السبب وينفذ بنفوذه كالقبض الحقيقي في المبيع أو المثن والدليل عليه ان رجلا لو قال للغاصب أعتق هذا العبد عنى بالف درهم فأعتقه ثم أجاز المالك نفذ بالاجازة العتق والبيع جميعا فهذا مثله بل أولي لان سبب الملك هناك مضمر وهنا مفصح به ولا وجه لمنع هذا فانه لو التمس هذا من المالك فأجابه إليه كان نافذا فكذلك إذا التمس من غير المالك فأجابه إليه وأجازه المالك وهذا بخلاف البيع بشرط الخيار لان السبب هناك غير تام فان قوله على انى بالخيار مقرون بالعقد نصا وتعليق العقد بالشرط يمنع كونه سببا قبل وجود الشرط ولهذا لم يجز البيع قياسا لانه أدخل الشرط على السبب وفى الاستحسان يجعل الشرط داخلا علي حكم السبب فينعقد أصل العقد ويكون في حق الحكم كالمتعلق بالشرط والمتعلق بالشرط معدوم قبله ألا ترى انه لو قال إذا جاء عبدى فلله علي ان أتصدق بدرهم فتصدق به اليوم لا يجوز بخلاف ما لو قال لله علي ان أتصدق بدرهم غدا فتصدق به اليوم يجوز فعرفنا ان التوقف لا يمنع تمام السبب والتعليق بالشرط يمنع منه يوضح الفرق ان في العقد الموقوف يثبت ملكا يلبق بالسبب وهو الملك الموقوف لان هذا القدر لا يزيل ملك المالك ولا يتضرر به فانما ترتب على ملك موقوف فيتوقف بتوففه وينفذ بنفوذه فأما الشرط في مسألة الخيار كما يمنع الملك التام يمنع الملك الموقوف فلم يترتب عتق المشترى علي ملك في المحل أصلا ومسألة المكره قد منعها بعض أصحابنا رحمهم الله (والاصح) ان نقول بيع المكره فاسد ولهذا لو أعتقه المشترى بعد القبض ينفذ عتقه والبيع الفاسد قبل القبض ضعيف غير تام في حكم الملك كالهبة قبل القبض فلا يثبت به ملك تام ولا موقوف في المحل فلهذا لا ينفذ عنقه وعتق المشترى مخالف لبيعه لان البيع ليبس بقبض ألا ترى انه لو باع المبيع قيل القبض لا يصير به قابضا وانما يتوقف بعد تمام السبب ما هو من حقوقه والعتق من حقوقه

[ 65 ] من حيث انه قبض ومن حيث ان الشراء موجب وهو شراء القريب فانه اعتلق بخلاف البيع. يوضحه ان البيع قاطع للملك والعتق منهى له ألا ترى ان المشترى لو باع المبيع ثم اطلع على عيب به لا يرجع على بائعه بحصة العيب من الثمن بخلاف مالو أعتقه فلكون العتق منهيا للملك يتوقف بتوقف الملك حتى إذا تم انتهى به والبيع لكونه قاطعا للملك لا يجوز أن يتوقف بتوقف الملك وهذا بخلاف مالو أجاز المالك العتق لانه باجازة العتق عن نفسه يبطل محل البيع فلا يمكن تنفيذ البيع به وباجازه البيع يمتد محل العتق للمشترى وهو المالك فينفذ العتق من جهته وهذا بخلاف الغاصب إذا أعتق ثم ضمن القيمة لان المستند له حكم الملك لاحقيقة الملك ولهذا لا يستحق الزوائد المنفصلة وحكم الملك يكفى لنفوذ البيع دون العتق كحكم ملك المكاتب في كسبه وهذا الثابت للمشترى من وقت العقد حقيقة الملك ولهذا استحق الزوائد المنفصلة والمتصلة. فأما إذا أعتقه المشترى ثم نفذ البيع بتضمين الغاصب فالاصح أنه ينفذ العتق أيضا هكذا ذكر هلال رحمه الله في كتاب الوقف فقال ينفذ وقفه على طريقة الاستحسان فالعتق أولى وبعد التسليم يقول هناك المشترى يملكه من جهة الغاصب وقد بينا أنه لا يستند للغاصب حقيقة الملك فكيف يستند لمن يملك من جهته فلهذا لا ينفذ عتقه وهنا انما يستند الملك له إلى وقت العقد من جهة المجيز والمجيز كان مالكا له حقيقة فيمكن اثبات حقيقة الملك للمشتري من وقت العقد بالطريق الذى قلنا فلهذا نفذ عتقه * وان ماتت الجارية في يد المشترى ثم أجاز المالك البيع لم يتم لان اجازته انما تصح في حال يصح اذنه بالبيع وبعد الموت لا يصح اذنه بالبيع ولان الملك للمشتري يثبت عند الاجازة مقصودا بسببه وان كان يستند إلى وقت العقد والميت لا يحتمل التمليك مقصودا بسببه. وان لم يمت ولم يسلم رب الجارية المبيع ولكن الغاصب اشتراها منه لم بجز الببيع الاول لان اقدام المالك على بيعها من الغصب ابطال منه للبيع الاول ولانه لا يمكن تنفيذ البيع الاول من الغاصب بهذا الشراء لان الملك له حادث والبيع الموقوف إذا تم أوجب الملك للمشترى من وقت العقد ولانه ما توقف على حقه ولم يوجد منه الرضا بتمليك المشترى عليه فلهذا لا يصح البيع الاول بعد شراء الغاصب وكذلك ان أجازه لانه قد طرأ ملك نافذ على ملك موقوف فكان مبطلا للموقوف إذ لا يتوصر اجتماعهما في محل واحد والبيع بعد ما بطل لا يلحقه الاجازة وكذلك لو وهبها مولاها للغاصب أو تصدق بها

[ 66 ] عليه أو ماتت فورثها منه فهذا كله مبطل للملك الموقوف بطريان الملك النافذ في المحل (رجل) غصب من رجل جارية فعيبها فأقام المغصوب منه البينة انه قد غصب جارية له فانه يحبس حتى يجئ بها ويردها على صاحبها (وكان) أبو بكر الاعمش رحمه الله يقول تأويل هذه المسألة ان الشهود شهدوا على اقرار الغاصب بذلك لان الثابت من اقراره بالبينة كالثابت بالمعاينة فأما الشهادة علي فعل الغصب لا تقبل مع جهالة المغصوب لان المقصود اثبات الملك للمدعى في المغصوب ولا يتمكن القاضى من القضاء بالمجهول ولابد من الاشارة إلى ما هو المقصود بالدعوى في الشهادة ولكن الاصح أن هذه الدعوى والشهادة صحيحة لاجل الضرورة فان الغاصب يكون ممتنعا من احضار المغصوب عادة وحين يغصب فانما يتأتى من الشهود معاينة فعل الغاصب دون العلم بأوصاف المغصوب فسقط اعتبار علمهم بالاوصاف لاجل التعذر ويثبت بشهادتهم فعل الغصب في محل هو مال متقوم فصار ثبوت ذلك بالبينة كثبوته باقراره فيحبس حتى يجئ به ولان وجوب الرد على الغاصب ثابت بنفس الفعل وهذا معلوم من شهادتهم فيتمكن القاضي من القضاء به فلهذا يحبسه حتى يجئ بها ويردها على صاحبها. فان قال الغاصب قد ماتت أو قد بعتها ولا أقدر عليها تلوم القاضى في ذلك زمانا ولم يعجل بالقضاء بالقيمة لان بقضائه يتحول الحق من العين إلى القيمة وفيه نوع ضرر علي صاحبها فعين الملك مقصود لصاحبها كماليتها وربما يتعلل الغاصب بذلك لتسلم العين عند أداء القيمه فلهذا لا يعجل بالقضاء بها وليس لمدة التلوم مقدار بل يكون ذلك موكولا إلى رأى القاضي لان نصب المقادير بالرأى لا يكون (2) وهذا انتلوم إذا لم يرض المغصوب منها بالقضاء بالقيمة له فأما إذا رضى بذلك أو تلوم له القاضى فلم يقدر علي الجارية فان اتفقا في قيمتها علي شئ أو أقام المغصوب منه البينة علي ما يدعى من قيمتها قضى له القاضى بذلك وان لم يكن له بينة فالقول قول الغاصب مع يمينه لان المالك يدعي الزيادة وهو منكر لها فان استحلف فنكل كان نكوله بمنزلة اقراره بما يدعيه المالك وان حلف قضي له بما اقر به الغاصب لان ما زاد على ذلك انتفى عنه بيمينه ما لم يقم المالك حجة عليه فان ظهرت الجارية بعد ذلك فان كان القضاء بالقيمة بالبينة أو بالنكون أو بالاقرار من الغاصب بما ادعي المالك فالجارية له لا سبيل للمغصوب منه عليها وان كان القضاء بالقيمة بزعم الغاصب بعد ما يحلف يخير المغصوب منه فان شاء استردها ورد ما قبض علي الغاصب وان شاء

[ 67 ] أمسك تلك القيمة ولا سبيل له عليها. قال الكرخي رحمة الله هذا إذا كانت قيمتها بعد ما ظهرت أكثر مما قال الغاصب فأما إذا كانت قيمتها مثل ما قال الغاصب فلا خيار له في استردادها لانه يوفر عليه بدل ملكه بكمالة. وفى ظاهر الرواية الجواب مطلق وهو الصحيح لانه لم يتم رضاه بزوال ملكه عن العين إذا لم يعط ما يدعيه من القيمة وثبوت الخيار له لانعدام تمام الرضا من جهته وذلك لا يختلف باختلاف قيمتها فقد لا يرضي الانسان بزوال العين عن ملكه بقيمته وهذا كله مذهبنا. وأما عند الشافعي رحمه الله تعالى فالجارية باقية على ملك مولاها فيستردها إذا ظهرت ويردما قبض من القيمة (وبعض) المتقدمين من أصحابنا رحمهم الله يقول سبب الملك عندنا يقرر الضمان على الغاصب لكيلا يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد وهو معنى قولهم المضمونات تملك بالضمان ولكن هذا غلط لان الملك عندنا يثبت من وقت الغصب ولهذا نفذ بيع الغاصب وسلم الكسب له (وبعض) المتأخرين رحمهم الله يقول الغصب هو السبب الموجب للملك عند أداء الضمان وهذا أيضا وهم فان الملك لا يثبت عند أداء الضمان من وقت الغصب للغاصب حقيقة ولهذا لا يسلم له الولد. ولو كان الغصب هو السبب للملك لكان إذا تم له الملك بذلك السبب يملك الزوائد المتصلة والمنفصلة كالبيع الموقوف إذا تم بالاجازة يملك المشترى المبيع بزوائده المتصلة والمنفصلة ومع هذا في هذه العبارة بعض الشنعة فالغصب هو عدوان محض والملك حكم مشروع مرغوب فيه فيكون سببه مشروعا مرغوبا فيه ولا يصح أن يجعل العدوان المحض سببا له فانه ترغيب للناس فيه لتحصيل ما هو مرغوب لهم به ولا يجوز اضافة مثله الي الشرع فالاسلم أن يقول الغصب موجب رد العين ورد القيمة عند تعذر رد العين بطريق الجبران مقصودا بهذا السبب ثم يثبت الملك به للغاصب شرطا للقضاء بالقيمة لا حكما ثابتا بالغصب مقصودا ولهذا لا يملك الولد لان الملك كان شرطا للقضاء بالقيمة والولد غير مضمون بالقيمة وهو بعد الانفصال ليس يتبع فلا يثبت هذا الحكم فيه بخلاف الزيادة المتصلة فانه تبع محض والكسب كذلك بدل المنفعة فيكون تبعا محضا وثبوت الحكم في التبع كثبوته في الاصل سواء ثبت في المتبوع مقصودا بسببه أو شرطا لغيره. وجه قول الشافعي رحمه الله الاستدلال بقوله تعالى (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم) فالله تعالى جعل أكل مال الغير قسمين قسم بالباطل وقسم بالتجارة عن تراض وهذا

[ 68 ] ليس بتجارة عن تراض فيكون أكلا بالباطل والمعنى فيه ان الغصب عدوان محض لانه ليس فيه شبهة الاباحة بوجه ما فلا يكون موجبا للملك كالقتل. وتأثيره ما قلنا ان الملك حكم مشروع فيستدعى سببا مشروعا والعدوان المحض ضد المشروع فأدنى درجات المشروع أن يكون مرضيا به وأن يكون مباحا والعدوان المحض ضده ولا يجوز أن يثبت الملك بضمان القيمة لان هذا ضمان جبران فيكون بمقابلة الفائت بالغصب والفائت بالغصب يد المالك لا ملكه * فعرفنا ان هذا الضمان بمقابلة النقصان الذى حل بيد الغاصب لا أن يكون بدلا عن العين ولهذا فلتم لو هشم قلب فضة لا نسان وقضى القاضى عليه بالقيمة ثم افترقا من غير قبض لا يبطل القضاء ولو كان بدلا عن العين كان صرفا فيبطل بالافتراق من غير قبض ولما ثبت ان هذا الضمان بطريق الجبران فلا يكون الجبران بتفويت ما هو قائم بل هو باحياء ما هو فائت وملكه في العين كان قائما فلو جعلنا زائلا بالقضاء بالقيمة له كان هذا تفويتا لا جبرانا ولو كانت القيمة بدلا عن العين فهو حلف يصار إليه عند وقوع اليأس عن رد العين ومثل هذا الحلف يسقط اعتباره عند ظهور العين كما لو قلع سن انسان فاستؤنى به حولا كاملا ثم قضى له بالارش فقبض ثم نبت سنه يلزمه رد المقبوض من الارش بهذا المعنى واعتمادهم علي فصل المدبر. وبهذا يتضح جيمع ما قلنا فان الغصب يتحقق في المدبر وسبب الملك عندكم لا يتحقق في المدبر وبقضاء القاضى بالقيمة لا يزول عن ملكه ولو كان شرط القضاء بالقيمة انعدام ملكه في العين أو كانت العين بدلا عن العين لما قضى القاضى بها في محل لا يتحقق فيه هذا الشرط وان تم بضاء القاضي ينبغى أن يزول ملكه عن المدبر كما لو قضى بجواز بيع المدبر * وحجتنا في ذلك قول رسول الله ﷺ في الشاة المغصوبة المصلية أطعموها الاسارى فقد أمرهم بالتصدق بها ولو لم يملكوها لما أمرهم بالتصدق بها لان التصدق بملك الغير إذا كان مالكه معلوما لا يجوز ولكن يحفظ عليه عين ملكه فان تعذر ذلك يباع ويحفظ عليه ثمنه. والمعنى فيه أن الغصب الموجب للضمان مختص بمحل هو مال متقوم فيثبت الملك به إذا أمكن كالبيع والصلح * وبيان الوصف أن غصب الحر لا يتحقق موجبا للضمان لانه ليس بمال وكذلك غصب الخمر من المسلم لانه غير متقوم وتأثيره ان اختصاص السبب بمحل لا يكون إلا لا ختصاصه بحكم يختص بذلك المحل فالمحل الذى هو مال متقوم يختص بصحة التمليك فيه فلما اختص الغصب الموجب للضمان به عرفنا أنه انما اختص بهذا الحكم فان الفعل الذى

[ 69 ] هو عدوان محض وازالة اليد المحترمة لا تختص بمحل هو مال متقوم. ثم حقيقة المعنى ان الضمان الواجب علي الغاصب بدل العين. ألا ترى انه يقوم العين به وأنه يسمى الواجب قيمة العين ويتقدر بمالية العين ولان الضمان بمقابلة ما هو المقصود ومقصود صاحب الدراهم عين الدارهم لا امتلاء كيسه بها فعرفنا أن الضمان بدل العين وانما يقضى بها جبرانا والجبران يستدعى الفوات لا محالة لانه انما يجير الفائت دون القائم فكان من ضرورة القضاء بقيمة العين انعدام ملكه في العين فيكون جبرانا لما هو فائت ومالا يمكن اثباته الا بشرط فإذا وقعت الحاجة الي اثباته يقدم شرطه عليه لا محالة كما إذا قال لغيره أعتق عبدك عنى على ألف درهم فاعتقه يقدم التمليك منه علي نفوذ العتق منه ضروره كونه شرطا في المحل الا أن يكون قوله أعتقه عنى سببا للتمليك مقصودا * إذا تقرر هذا تبين أنه انما يثبت بالعدوان المحض ما هو حسن مشروع به وهو القضاء بالقيمة جبرانا لحقه في الفائت ثم انعدام الملك في العين لما كان من شرطه هذا المشروع يثبت به ويكون حسنا بجنسه ولهذا لا يشترط التقابض لان شرط التقابض فيما هو سبب للملك مقصودا الا فيما يثبت شرطا لغيره كما لا يشترط القبول في قوله أعتق عبدك عنى على الف درهم لان شرط القبول في سبب ملك مقصود لا فيما هو شرط لغيره ولهذا قلنا ان المغصوب وان كان هالكا عند القضاء بالقيمة يصير مملوكا للغاصب لان الهالك مما لا يقبل التمليك مقصودا بسببه لا شرطا لغيره وكذلك يقول إذا أخذ القيمة بزعم الغاصب فالعين لا تبقى علي ملكه ولكن يتخير عند ظهوره لعدم تمام الرضى به كالمشترى إذا وجد بالمبيع عيبا (فاما) المدبر ففي تخريجه طريقان * أحدهما ان هناك لا يقول ببقاء العين على ملكه بعد تقرر حقه في القيمة بل يجعل رائلا عن ملكه لتحقيق هذا لشرط ولهذا لو لم يظهر المدبر بعد ذلك وظهر له كسب فذلك الكسب يكون للغاصب دون المغصوب منه الا انه إذا ظهر المدبر يعاد إليه صيانة لحق المدبر فان حق العتق ثبت له بالتدبير عندنا * الثاني أن في المدبر القيمة ليست ببدل عن العين لان ما هو شرطه وهو انعدام الملك في العين متعذر في المدبر فيجعل هذا خلفا عن النقصان الذى حل بيده ولكن هذا عند الضرورة ففى كل محل يمكن اتحاد الشرط لا تتحقق الضرورة فيجعل بدلا عن العين وإذا تعذر اتحاد الشرط يجعل خلفا عن النقصان الذى حل بيده * ونظيره فصلان. أحدهما ضمان العتق فانه بمقابلة العين في كل محل يمكن اتحاد الشرط وهو تمليك العين وفيما لا يحتمل

[ 70 ] اتحاد هذا الشرط كالمدبر وأم الولد عندهم لا يجعل بدلا عن العين وكذلك ضمان الصلح فانه إذا أخذ القيمة بالتراضى كان المأخوذ بدلا عن العين في كل محل يحتمل تمليك العين وفي كل محل لا يحتمل تمليك العين يجعل المأخوذ بمقابلة الجناية التى حلت بيده وكذلك إذا أخذ القيمة بقضاء القاضي وفيما تلي من الآية بيان أن الاكل بالتجارة عن تراض جائز لا أن يكون الجواز مقصودا عليه ثم معنى التجارة عن تراض يندرج هنا من وجه فان المالك هنا متمكن من أن يصبر حتى تظهر العين فيأخذها فحين طالب بالقيمة مع علمه أن من شرطه انعدام ملكه في العين فقد صار راضيا بذلك لان من طلب شيئا لا يتوصل إليه الا بشرط كان راضيا بالشرط كما يكون راضيا بمطلوبه (رجل) غصب من رجل جارية فوطئها فولدت منه ثم حضر صاحبها فادعاها ولم يكن له ببنة فأقر له بهاذو اليد لم يصدق عليها ولا على ولدها لان حق أمية الولد لها وحقيقة الحرية للولد تثبت من حيث الظاهر فان من في يده شئ فالظاهر انه ملكه ولهذا لو نازعه غيره فيه كان القول قوله فلا يصدقه في ابطال حقهما ولكنه مصدق فيما يقربه علي نفسه وقد أقر أنها كانت مغصوبة في يده وأنه ضامن لقيمتها عند تعذر رد عينها وقد تعذر رد العين بفعله فلهذا يلزمه قيمتها للمقرله (قال) ولا يضمن قيمة الولد ولم يتعرض للعقر ذكر المسألة في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله علي ان قول زفر يضمن قيمة الولد والعقر وعلى قول أبى يوسف لا يضمن ذلك. وجه قول زفر انه أقر بوجوب العقر عليه لانه يزعم أنه وطئها وهى مغصوبة في يده والوطئ في ملك الغير لا ينفك عن حد أو عقر وقد سقط الحد بشبهة فيجب العقر وكذلك إن أقر أن اولد ملك المقر له وقد احتبس عنده بفعله كالام فيضمن قيمته لان الغاصب يضمن قيمة الولد بالمبيع أو يجعل هذا بمنزلة المغرور وولد المغرور حر بالقيمة وعلي المغرور عقرها للمستحق فهذا مثله. وجه قول أبى يوسف ان ما يلزمه من الضمان انما يلزمه باقراره وهو ما أقر بوجوب العقر عليه انما أقر بوجوب الحد عليه لان وطئ الجارية المغصوبة يوجب الحد علي الغاصب دون العقر وكذلك والد المغصوبة لا يكون مضمونا علي الغاصب الا بمنع منه ولم يوجد ذلك منه في الولد وانما امتنع رده لحريته شرعا فهو كما لو امتنع رده بموته فعرفنا انه ما أقر علي نفسه بوجوب العقر ولا بوجوب قيمة الولد فلا يلزمه ذلك فان كان المدعى أقام البينة انها جاريته غصبها هذا منه قضي له بها وبولدها لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولم يذكر العقر

[ 71 ] وينبغى أن يقضى له بالعقر لان ذا اليد لما أنكر فقد صار انكاره شبهة في اسقاط الحد عنه وقد أثبت بالبينة أنه وطئ ملك الغير فيلزمه العقر فان لم يقل الشهود غصبها ولم يقر الذى هي في يديه ولكنه قال اشتريتها من فلان فاردت أن يقضى بالجارية للذى أقام البينة هل يستحلفه بالله ما بعته ولا أذنت له فيه ولم يدع ذو اليد شيئا من ذلك (قال) لا استحلفه علي شئ من ذلك إلا أن يدعى الذى هي في يديه لان القاضي نصب لفصل الخصومات لا لتهيجها ولان الاستحلاف يترتب علي دعوى صحيحة فان لم يدع ذو اليد ذلك فلا معنى للاستحلاف وإذا ادعاه فيحنئذ يتسحلف لانه يدعى عليه مالو اقر به لزمه (وروى) عن أبى يوسف رحمه الله ان القاضى يستحلفه وان لم يطلاب ذواليد ذلك صيانة لقضاء نفسه. وان أقام الذى هي في يديه البينة علي تسليمه المبيع أخذ رب الجارية الثمن من البائع لان الثابت بالبينة كالثابت بالمعاينة ولان اجازة البيع في الانتهاء بمنزلة إلاذن في الابتداء فان تصادق الاول والجارية على انه كان أعتقها قبل هذا البيع لم يصدقا علي ذلك لانها صارت مملوكة للمشتري بما أثبت من البيع واجازة المالك بالبينة فلا يصدقان على ابطال ملكه ولكن ان أقامت الجارية البينة ان الاول كان أعتقها قبل أن يشتريها هذا فانها تعتق لانها أثبتت حريتها باعتاق من كان يملكها بالحجة ثم يتبين بطلان البيع فيرجع المشترى علي البائع بالثمن وعلى المشترى العقر للجارية لانه وطئها بشبهة الملك وهى حرة والولد ولده بغير قيمة لان الولد يتبع الام في الحرية وقد ثبتت حريتها بالبينة فينفصل الولد عنها حرا بذلك السبب لا بالغرور فلهذا لا يغرم قيمة الولد * ولو اشترى جارية فولدت له ثم جاء أخوه فأقام البينة ان الجارية له قضيت بها له وبقيمة الولد والعقر لان حربة الولد هنا بسبب الغرور لا بسبب ملك الاخ لانه انما يعتق ابن الاخ على عمه بعد تملكه وهنا الولد كان حر الأصل فلم يدخل في ملك المدعى حتى يجعل عتقه بسبب القرابة * وإذا ثبت أن حرية الولد بسبب الغرور فولد المغرور حر بالقيمة به قضى عمر وعلى رضي الله تعالى عنهما ويرجع المشترى على البائع بالثمن وقيمة الولد لاجل الغرور ولا يرجع بالعقر لانه انما لزمه بما نال من لذة الوطئ فلا يرجع به على غيره (رجل) غصب جارية أو شاة أو بقرة فولدت ولدا ثم ذبح الولد أو باعه أو استخدمه حتى إذا مات من ذلك فعليه ضمان قيمته يوم مات لان الولد كان أمانة عنده وقد أتلفه بالذبح أو الاستخدام حتى مات منه وصار متعديا عليه بالبيع

[ 72 ] والتسليم فيضمن قيمته كالمودع إذا فعل ذلك بالوديعة وان لم يصنع شيئا من ذلك ولكن الام ماتت فله أن يضمنه قيمة الام يوم غصبها ويأخذ الاولاد لان الملك في الام يثبت للغاصب شرعا لتقرر الضمان عليه وذلك غير متعد إلى الولد فان الثابت بالضرورة لا يعدو موضع الضرورة لان أصل السبب للضمان هو الغصب ووجوبه حقيقة بعد موت الام فأما قبل موتها الواجب رد العين فالملك يثبت به كذلك وتبين ان وقت الغصب انما يثبت له حكم الملك لا حقيقة الملك وذلك يكفى لسلامة الكسب دون الولد كحكم الملك الثابت للمكاتب بالكتابة حتى ان كسبه لا يكون مملوكا للمولى وولده يكون مملوكا له ينفذ عتقه فيه (رجل) غصب جارية قيمتها ألف درهم فصارت قيمتها ألفين ثم قتلها رجل خطأ فالمغصوب منه بالخياران شاء ضمن الغاصب ألف درهم في ماله حالاوان شاء اتبع عاقلة القاتل بألفى درهم في ثلاث سنين لان كل واحد منهما جان في حقه فله الخيار في التضمين فان ضمن الغاصب فانما يضمنه باعتبار الغصب فينظر إلى قيمتها عند ذلك وضمان الغصب يجب حالا على الغاصب لان وجوبه باعتبار المالية ثم الغاصب يرجع على عاقله القاتل بألفى درهم مؤجلا في ثلاث سنين لان الغاصب يملك بالضمان فيظهر ان القاتل جان على ملكه فلهذا يرجع على عاقلة القاتل بألفى درهم في ثلاث سنين أو لان المالك لما ضمنه فقد أقامه مقام نفسه في الرجوع على عاقلة القاتل وهو لو اختار الرجوع عليهم أخذ منهم ألفى درهم قيمتها وقت القتل في ثلاث سنين لان الواجب باعتبار القتل بدل النفس فيكون على العاقلة مؤجلا فكذلك الغاصب يرجع عليهم بهذه الصفة ثم يسلم له مما يقبض ألفا قدر ما ضمن ويتصدق بالالف الاخرى لانه حصل له بكسب خببث وهو الغصب المتقدم ولانه ربج حصل لا علي ملكه فيلزمه التصدق به كالربح الحاصل لا على ضمانه فان كانت قيمة الجارية يو غصبها عشرة آلاف درهم ويوم قتلها القاتل كذلك فمولاها بالخياران شاء ضمن الغاصب عشرة آلاف درهم في ماله حالة بسبب الغصب وان شاء ضمن عاقله القاتل خمسة آلاف درهم الا عشرة دراهم في ثلاث سنين بسبب القتل لان الواجب بهذا السبب بدل النفس وبدل نفس الامة لا يزيد على خمسة آلاف كبدل نفس الحرة وينقص للرق من ذلك عشرة دراهم وفى رواية خمسة فان ضمن الغاصب يرجع الغاصب علي عاقلة القاتل بخمسة آلاف درهم الا عشرة دراهم اما لانه قائم مقام المغصوب منه أو لانه ظهر أن جناية القاتل كانت علي ملكه فان كانت الجارية هي التى قتلت رجلا خطأ أخذها مولاها

[ 73 ] ودفعها أو فداها لانها بعد الغصب باقية على ملك مولاها وموجب جناية المملوك أن يخير مولاها بين الدفع والفداء وأى ذلك فعل رجع على الغاصب بالاقل من قيمتها ومن الفداء لان ذلك انما لزمه بسبب كان منها في يد الغاصب وجنايتها في ضمان الغاصب كجناية الغاصب عليها ولان الرد لم يسلم حين استحقت من يد المولى بسبب كان عند الغاصب فكأنه لم يردها فيرجع عليه بقيمتها الا ان يكون الفداء أقل من القيمة فحينئذ يرجع بالاقل لانه في التزام الزيادة على الاقل مختار فانه كان يتخلص باختيار الاقل فان كانت ماتت عند الغاصب بعد الجناية اخذ المولى قيمتها من الغاصب بسبب الغصب فيدفعها إلى أولياء الجناية لانها كانت مستحقة لهم بالجناية وقد فاتت واختلفت بدلا فيستحقون بدلها باستحقاقها وإذا دفع القيمة إليهم رجع بها على الغاصب مرة أخرى لان المقبوض استحق من يده بسبب كان عند الغاصب ولا استرداد القيمة كاسترداد العين ولو استردها ودفعها بالجناية رجع على الغاصب بقيمتها فكذلك إذا استرد قيمتها ودفعها بالجناية (رجل) غصب دار رجل وسكنها فان انهدمت من سكناه أو من عمله فهو ضامن لذلك لانه متلف لما انهدم بفعله والاتلاف يتحقق في العقار كما في المنقول وان انهدمت من غير عمله فلا ضمان عليه في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهما الله لان الغصب الموجب للضمان لا يتحقق عندهما في العقار والحكم ينبنى علي السبب وأصل المسألة لان العقار لا يضمن بالغصب في القياس وهو قول أبى حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهم الله وفى الاستحسان يضمن وهو قول أبى يوسف الاول ومحمد والشافعي رحمهم الله. حجتهم في ذلك قوله ﷺ من غصب شبرا من أرض طوقه الله تعالى يوم القيامة من سبع أرضين فقد أطلق النبي ﷺ لفظ الغصب على العقار وكذلك من حيث العرف يقال غصب دار فلان ومن حيث الحكم دعوى الغصب في العقار تسمع حتى لا يندفع باقامة ذى اليد البينة على أن يده يد أمانه وإذا ثبت أن الغصب يتحقق فيها يترتب عليه حكمه والمعنى فيه. أما الشافعي رضي الله تعالى عنه يقول العقار يملك بالاستيلاء يدا فيضمن بالغصب يدا كالمنقول * وبيان الوصف ان الغزاة إذا فتحوا بلدة يملكون عقارهم وتأثيره ما بينا على أصله أن حد الغصب التعدي باثبات اليد لنفسه على مال الغير بغير حق وذلك يتحقق في العقار والمنقول جميعا ومحمد يقول العقار يضمن بالعقد الجائز والفاسد فيضمن بالغصب كالمنقول وتحقيقه هو أن

[ 74 ] وجوب ضمان الغصب يعتمد تفويت يد المالك بالنقل ولكن فيما يتأتى ذلك فيه فأما فيما لا يتأتى يقام غيره مقامه لاثبات الحكم وهو الاستيلاء بأقصى ما يمكنه بالسكنى واخراج المالك عنه كما ان شرط صحة الدعوى والشهادة الاشارة إلى العين في المنقول الذى يمكن احضاره ثم في العقار لم تعذر ذلك يقام ذكر الحدود مقامه وشرط تمام الهبة القبض بعد القسمة فيما يتأتى فيه القسمة ثم فيما لا يحتمل القسمة تقام التخلية مقامه ولهذا سماه استحسانا ولا معنى لقولكم ان فعله في المالك هنا يمنعه من أن يدخل ملكه فيسكن لان ما هو المقصود بتفويت اليد وهو فوت منفعة الملك وثمراته عليه يحصل بهذا ويجوز اقامه فعله في غير المضمون مقام فعله في المضمون في ايجاب الضمان كحافر البئر في الطريق فعله في الارض دون المار ثم يجعل ذلك قائما مقام فعله في المار الواقع في البئر في ايجاب الضمان عليه فهذا مثله أو أقوى منه * وحجتنا في ذلك الحديث فان النبي ﷺ بين جزاء غاصب العقار الوعيد في الآخرة ولم يذكر الضمان في الدنيا فذلك دليل على أن المذكور جميع جزائه ولو كان الضمان واجبا لكان الاولى أن يبين الضمان لان الحاجة إليه أمس واطلاق لفظ الغصب عليه لا يدل علي تحقق الغصب فيه موجبا للضمان لان في لسان الشرع حقيقة ومجازا. ألا ترى أنه أطلق لفظ البيع على الحر بقوله من باع حرا وهذا لا يدل على أن البيع الموجب لحكمه حقيقة يتصور في الحر. وكذلك في عرف اللسان حقيقة ومجاز ألا ترى أنهم يطلقون لفظ السرقة على العقار كما يطلقون لفظ الغصب وقد ورد الشرع بذلك أيضا ثم لا يتحقق في العقار السرقة الموجبة لحكمها على أنا نقول يتحقق أصل الغصب في العقار ولكن الغصب الموجب للضمان لا يتحقق لانه مما لا ينقل ولا يحول. وبيان هذا أن الضمان انما يجب جبرانا للفائت من يد المالك ولا يتحقق تفويت اليد عليه بفعل في المال بدون النقل والتحويل لان يد المالك متى كانت ثابتة على ماله في مكان تبقى ما يبقى المال في ذلك المكان حكما الا أن ينقله إلى غيره بمباشرة سببه ومن حيث الحقيقة الغاصب وان سكن الدار فالمالك متمكن من أن يدخل فيسكن فان منعه فذلك فعل في المالك لافي الملك وفعله في المالك لا يفوت يده عن المال فلا يكون سببا للضمان كما لو حبس المالك حتى تلفت مواشيه ولهذا لا يضمن المنقول بالتخلي به قبل النقل فكلذلك العقار واقامة الشئ الآخر مقام السبب الموجب للحكم طريق فيما يأذن الشرع فيه أن يوجبه

[ 75 ] الحكم فأما الغصب لا يأذن الشرع فيه والحكم يمنع منه فكيف يثبت باقامة غيره مقامه حكما ولكن ان صادف الفعل محلا يتحقق فيه يثبت حكمه وان صادف محلا لا يتحقق فيه لا يثبت الحكم كمن زنى برتقاء وأتى بما في وسعه من المعالجة لا يلزمه الحد وان قضى شهوته لان ما هو حد فعل الزنا لا يتحقق في هذا المحل فلا يشتغل باقامة غيره مقامه ولا ينظر إلى تحصيل المقصود وبه فارق ضمان العقد لان ذلك يوجبه الحكم فيجوز اثابته بطريق حكمي والعقد الفاسد معتبر بالجائز لان الفاسد لا يمكن أن يجعل أصلا في معرفة حكمه فان الشرع لا يرد بالعقد الفاسد وكذلك ذكر الحدود في الدعوى والشهادة يجوز أن تقوم مقام الاشارة في التعريف لان ذلك مما يوجبه الحكم ويأذن فيه الشرع وكذلك القبض في باب الهبة فان الشرع يأذن فيه فيصار الي ايجاده بطريق التمكن ولو كان ما قال محمد رحمه الله تعالي من اقامة الفعل في المالك مقام الفعل في المال صحيحا لكان الاولى أن يصار إليه في المنقول لان الحاجة إلى حفظ المنقول باليد أظهر منه إلى حفظ العقار ولا يوجب الضمان علي الحافر بالطريق الذي قال بل باقامة الشرط مقام السبب لما تعذر تعليق الحكم بالسبب وهو نقله في نفسه ومسببه إذا كان لا يعلم والحافر أوجد شرط الوقوع بازالة السكة. واقامة الشرط مقام السبب عند تعذر تعليق الحكم بالسبب أصل في الشرع والاتلاف بهذا الطريق يتحقق فأما هنا الفعل في المالك ليس بشرط ولا سبب ولا يتحقق به تفويت اليد الثابتة حكما ألا ترى أن هناك مع ان الاتلاف يتحقق من الحافر بالمباشرة بان يلقيه في البئر يقام الحفر مقامه وهنا فيما يتأتى الفعل حقيقة لا يقام الفعل في المالك مقام الفعل في المال * ولا يدخل على هذا ما قاله في الزيادات إذا وهب لرجل دارا بما فيما من الامتعة فهلكت الامتعة قبل أن ينقلها الموهوب له ثم استحقت فللمستحق أن يضمن الموهوب له لان في جواب تلك المسألة نظرا فقيل هو مذهب محمد وقيل لا يستقيم علي أصل محمد أيضا لانه يوافقنا في المنقول انه لا يضمن قبل النقل وقد نص عليه في السير الكبير (ثم) العذر ان الواهب نقل يده إلى الموهوب له ويد الواهب في الامتعة كانت مفوتة ليد المالك فانتقلت بصفتها إلى الموهوب له (فان قيل) اليس انه لو اشترى منقولا وحلى بينه فهلك قبل النقل ثم جاء مستحق فليس له أن يضمن المشترى وهذا المعنى موجود فيه (قلنا) لا كذلك فالبيع يوجب الملك واليد للمشترى فلا يجعل يده كيد

[ 76 ] البائع فأما الهبة لا توجب التسليم الي الموهوب له فيستقيم أن يجعل الواهب بالتسليم محولا يده إلى الموهوب له وبهذا الطريق للمالك أن يضمن غاصب الغاصب أيضا لانه حول إلى نفسه يد الغاصب الاول وهى يد مقوتة ليد المالك فتحول إليه بصفته * وأشار في الكتاب إلى حرف آخر فقال (لو دخل دار رجل بغير اذنه فسقط منها حائط لم يضمن ولو ركب دابة فعطبت أو لبس ثوابا فاحترق كان ضامنا) ومعنى هذا أن العقار لو كان يضمن بالاستيلاء لكان يضمن باول أسبابه وهو الدخول كالمنقول ولكن عذر محمد عن هذا واضح لان الضمان انما يجب باثبات اليد بطريق الاستيلاء وذلك بالدخول لا يحصل انما يحصل بالسكنى ألا ترى ان من ادعى دارا بالميراث فشهد الشهود ان أباه دخل هذه الدار فمات فيها لم يستحق بها شيئا (ولو شهدوا انه مات وهو ساكن هذه الدار استحق القضاء له بها لانهم يشهدون باليد للاب عند الموت) بخلاف الثوب والدابة فبمجرد الركوب واللبس تثبت يده حتى لو شهدوا ان أباه مات وهو لا بس هذا الثوب أو راكب هذه الدابة استحق القضاء له بها وهذا لان الملبوس تبع للابس والمركوب تبع للراكب فظهر ان الاعتماد على الفصل الاول فان كان الغاصب للدار باعها وسلمها ثم أقر بذلك وليس لرب الدار بينة فاقراره في حق المشترى باطل لان المشترى صار مالكا بالشراء من حيث الظاهر فلا يقبل قول البائع بعد ذلك في ابطال ملكه ثم لا ضمان على الغاصب للمالك في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهما الله لانه مقر على نفسه بالغصب فان البيع والتسليم غصب والغصب الموجب للضمان عندهما لا يتحقق في العقار. وقد ذكر في كتاب الرجوع من الشهادات انهم إذا شهدوا بدار لانسان وقضى القاضي ثم رجعوا ضمنوا قيمتها للمشهود عليه فقيل ذلك قول محمد رحمه الله لان تسليطهما الغير على الدار بالشهادة كتسليط الغاصب على الدار بالبيع والتسليم إليه وقيل بل هو قولهم جميعا والفرق بين الفصلين لهما أن هناك اتلاف الملك على المشهود عليه قد حصل بشهادتهما حتى لو أقام البينة علي الملك لنفسه لا تقبل بينته والعقار يضمن بالاتلاف وهنا اتلاف الملك لم يحصل بالبيع والتسليم بل يعجز المالك عن اثابت ملكه بالبينة. ألا ترى أنه لو أقام البينة علي انها ملكه قضي له بها فلهذا لا يكون الغاصب ضامنا ولكن يدخل على هذا جحود الوديعة فان العقار يضمن بالجحود في الوديعة وليس فيه اتلاف الملك حتى لو أقام المالك البينة قضى له بها والاصح أن يقول جحود الوديعة بمنزلة الغصب فلا يكون موجبا للضمان

[ 77 ] في العقار في قول أبى حنيفة وأبى يوسف الآخر رحمهما الله (رجل) غصب عبدا أو دابة فأجره وأصاب من غلته فالغلة للغاصب لان وجوبها بعقده وقد بيناه في كتاب اللقطة ولان المنافع لا تتقوم الا بالعقد والعاقد هو الغاصب فإذا هو الذى جعل منافع العبد بعقده مالا فكان بدله له. وفى الاصل قال قلت ولم لا يكون لصاحب العبد قال لانه كان في ضمان غيره وكانه أشار بهذا التعليل الي قوله صلي الله عليه وسلم الخراج بالضمان فحين كان في ضمان الغاصب فهو الذى التزم تسليمه بالعقد دون المالك فكان الاجر له دون المالك ويؤمر أن يتصدق بها لانها حصلت له بكسب خبيث فان مات العبد فالغاصب ضامن بقيمته وله أن يستعين بتلك الغلة في ضمان القيمة لانها ملكه وما فضل بعد ذلك تصدق به اعتبار للجزء بالكل (فان قيل) القيمة دين في ذمته ومن قضى بمال الصدقة دينه فعليه أن يتصدق بمثله (قلنا) نعم ولكن التصدق بهذا لم يكن حتما عليه. ألا ترى انه لو سلم الغلة إلى المالك مع العبد كان للمالك أن يتناول ذلك وليس علي الغاصب شئ آخر فهو بما صنع يصير مسلما إلى المالك ثم يصير المالك مبرئا له عن ذلك القدر من القيمة بما يقبضه فيزول الخبث بهذا الطريق فلا يلزمه التصدق بعوضه. وان كان الغاصب باع الدابة وأخذ ثمنها فاستهلكه وماتت الدابة عند المشترى فضمن رب الدابة المشتري قيمتها رجع المشترى على الغاصب بالثمن لبطلان البيع باسترداد القيمة منه ثم لا يستعين الغاصب بالغلة في أداء الثمن لان الخبث في الغلة ما كان بحق المشترى فلا يزول بالوصول الي يده بخلاف الاول فان الخبث لحق المالك فيزول بوصول الغلة إلى يده (قال) الا ان يكون عند الغاصب ما يؤدى به الثمن فلا بأس حينئذ أن يؤدى من الغلة لانه محتاج إلى تفريغ ذمته وتخليص نفسه عن الحبس وحاجته تقدم على حق الفقراء فإذا أصاب بعد ذلك مالا تصدق بمثله ان كان استهلك الثمن يوم استهلكه وهو غنى عنه وان كان محتاجا يوم استهلك الثمن لم يكن عليه أن يتصدق بشئ من ذلك لان وجوب الضمان عليه باعتبار استهلا كه الثمن ولو استهلك الغلة مكان الثمن فان كان محتاجا فليس عليه أن يتصدق بشئ منه وان كان غنيا فعليه ان يتصدق بمثله فكذلك في استهلاك الثمن وانما قنا ذلك لان حق الفقراء في هذا المال بمنزلة حقهم في اللقطة على معنى أن له أن يتصدق وله ان يردها على المالك ان شاء (ثم) الملتقط إذا كان محتاجا فله ان يصرف اللقطة إلى حاجة نفسه بخلاف مااذا كان غنيا فكذلك حكم هذا الغلة وليس على

[ 78 ] الغاصب في سكنى الدار وركوب الدابة أجر * وعلل فقال (لانه كان ضامنا) ومعنى هذا ان ضمان العين باعتبار صفة المالية والتقوم والمالية والتقوم في العين باعتبار منافعه ولهذا تختلف قيمة العين باختلاف منفعته فإذا اعتبرت المنفعة لا يجاب ضمان العين لا يمكن اعتبارها لايجاب ضمانها مقصودا والمنفعة كالكسب وقد بينا في الكسب ان الخراج بالضمان فكذلك في المنفعة ولكن هذا التعليل يتقاعد في الدار فان الساكن غير ضامن للدار عند أبى حنيفة وأبى يوسف رحمهما الله. والاصح بناء هذه المسألة على الاصل المتقدم فان المنافع زوائد تحدث في العين شيئا فشيئا وقد بينا أن زوائد المغصوب لا يكون مضمونا على الغاصب عندنا ويكون مضمونا له عند الشافعي رضى الله عنه فكذلك المنفعة ولان الغصب الموجب للضمان عنده يحصل باثبات اليد واليد على المنفعة تثبت كما تثبت على العين وعندنا لا تتحقق الا بيد مفوتة ليد المالك وذلك لا يتحقق في المنافع لا نها لا تبقى وقتين فلا يتصور كونها في يد المالك ثم انتقالها إلى يد الغاصب حتى تكون يده مفوتة ليد المالك فلهذا لا يضمن المنافع بالغصب عندنا * فأما الاتلاف فيقول عندنا المنافع لا تضمن بالاتلاف بغير عقد ولا شبهة عقد وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه تضمن ومنفعة الحر في ذلك سواء حتى لو استسخر حرا واستعمله عنده يضمن اجر مثله وعندنا يأثم ويؤدب على ما صنع ولكنه لا يضمن شيئا * وجه قول الشافعي رضي الله تعالى عنه أن المنفعة مال متقوم فيضمن بالاتلاف كالعين وبيان الوصف ان المال اسم لما هو مخلوق لا قامة مصالحنا به مما هو عندنا والمنافع منا أو من غيرنا بهذه الصفة وانما تعرف مالية الشئ بالتمول والناس يعتادون تمول المنفعة بالتجارة فيها فان اعظم الناس تجارة الباعة ورأس مالهم المنفعة وقد يستأجر المرء جملة ويؤجر متفرقا لابتغاء الربح كما يشترى جملة ويبيع متفرقا وولى الصبى يستأجر له بماله فيصح منه وبهذا تبين ان المنافع في المالية مثل الاعيان والمنفعة تصلح ان تكون صداقا وشرط صحة التسمية ان يكون المسمى مالا وهكذا يقوله في منافع الحرانه مال يضمن بالاتلاف الا أنه إذ حبس حرا لا يضمن منافعه لانه لم يوجد من الحابس اتلاف منافعه ولا اثبات يده عليه بل منافع المحبوس في يده كثياب بدنه وكما لا يمضن ثياب بدنه بالحبس فكذلك منافعه ولئن لم تكن المنفعة مالا فهى متقومة لانها تقوم الاعيان فيستحيل أن لا تكون متقومة بنفسها ولانها تملك بالعقد ويضمن به صحيحا كان العقد أو فاسدا وانما يملك بالعقد

[ 79 ] ما هو متقوم فيضمن بالاتلاف وان لم يكن مالا كالنفوس والابضاع وبفضل العقد الفاسد يتبين المماثلة بين العين والمنفعة في المالية لان الضمان بالعقد الفاسد يتقدر بالمثل شرعا كما بالاتلاف وهذا بخلاف رائحة المسك فان من اشتم مسك غيره لا يضمن شيئا لان الرانحة ليست بمنفعة ولكنها بخار يفوح من العين كدخان الحطب ولهذا لا يملك بعقد الاجارة حتى لو استأجر مسكا ليشمه لا يجوز ولا يضمن بالعقد أيضا صحيحا كان أو فاسدا. وحجتنا في ذلك حديث عمر وعلى رضي الله عنهما فانهما حكما في ولد المغرور أنه حر بالقيمة وأوجبا على المغرور رد الجارية مع عقرها ولم يوجبا قيمة الخدمة مع علمهما ان المغرور كان يستخدمها ومع طلب المدعى بجميع حقه فلو كان ذلك واجبا له لما حل لهما السكوت عن بيانه وبيان العقر منهما لا يكون بيانا لقيمة الخذمة لان المستوفى بالوطئ في حكم جزء من العين ولهذا يتقوم عند الشبهة بخلاف المنفعة والمعنى فيه أن المنفعة ليست بمال متقوم فلا تضمن بالاتلاف كالخمر والميتة. وبيانه أن صفة المالية للشئ انما تثبت بالتمول والتمول صيانة الشئ وادخاره لوقت الحاجة والمنافع لا تبقى قويين ولكنها اعراض كما تخرج من حيز العدم إلى حيز الوجود تتلاشئ فلا يتصور فيها التمول ولهذا لا يتقوم في حق الغرماء والورثة حتى ان المريض إذا اعان انسانا بيديه أو أعاره شيئا فانتفع به لا يعتبر خروج تلك المنفعة من الثلث وهذا لان المتقوم لا يسبق الوجود فان المعدوم لا يوصف بانه متقوم إذ المعدوم ليس بشئ وبعد الوجود التقوم لا يسبق الاحراز والاحراز بعد الوجود لا يتحقق فيما لا يبقي وقتين فكيف يكون متقوما وعلي هذا نقول الاتلاف لا يتصور في المنفعة ايضا لان فعل الاتلاف لا يحل المعدوم وبعد الوجود لا يبقي لحله فعل الاتلاف واثبات الحكم بدون تحقق السبب لا يجوز فأما بالعقد يثبت للمنفعة حكم الاحراز والتقوم شرعا بخلاف القياس وكان ذلك باعتبار اقامة العين المنتفع به مقام المنفعة لاجل الضرورة والحاجة ولا تتحقق مثل هذه الحاجة في العدوان فتبقى الحقيقة معتبرة وباعتبارها ينعدم التقوم والاتلاف وفى الصداق واستئجار الولي انما يظهر حكم الاحراز والتقوم بالعقد للحاجة والمال اسم لما هو مخلوق لاقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والاحراز وكما تتفاوت قيمة العين بتفاوت المنفعة تتفاوت قيمة الطيب بتفاوت الرائحة ولم يدل ذلك على كونه مالا متقوما ولئن سلمنا أن المنفعة مال متقوم فهو دون الاعيان في المالية وضمان العدوان مقدر بالمثل بالنص ألا ترى أن المال لا يضمن بالنسبة والدين لا يضمن (6 مبسوط حادى عشر)

[ 80 ] بالعين لانه فوقه فكذلك المنفعة لا تضمن بالعين * وبيان هذا الكلام ان المنفعة عرض يقوم بالعين والعين جوهر يقوم به العرض ولا يخفى على أحد التفاوت بينهما والمنافع لا تبقى وقتين والعين تبقى أوقاتا وبين ما يبقي ومالا يبقى تفاوت عظيم والعين لا تضمن بالمنفعة قط ومن ضرورة كون الشئ مثلا لغيره أن يكون ذلك الغير مثلا له ايضا والمنفعة لا تضمن بالمنفعة عند الاتلاف حتى ان الحجر في خان واحد علي تقطيع واحد لا تكون منفعة احداهما مثلا للمنفعة الاخرى عند الاتلاف. والمماثلة بين المنفعة والمنفعة أظهر من المماثلة بين العين والمنفعة وبهذا فارق ضمان العقد فانه غير مبنى على المماثلة باعتبار الاصل بل على المراضاة وكيف ينبنى على المماثلة والمقصود بالعقد طلب الربح (ثم) ضمان العقد مشروع وفى المشروع يعتبر الوسع والامكان ولهذا يجب الضمان باعتبار التراضي فاسدا كان العقد أو جائزا فيسقط اعتبار التفاوت الذى ليس في وسعنا الاحتراز عنه في ضمان العقد. فأما الاتلاف فمحظور غير مشروع وضمانه مقدر بالمثل بالنص فلا يجوز ايجاب الزيادة على قدر المتلف بسبب الاتلاف (فان قيل) يسقط اعتبار هذا التفاوت لدفع الظلم والزجر عن اتلاف منافع أموال الناس ولان المتلف عليه مظلوم يسقط حقه إذا اعتبر هذا التفاوت ومراعاة جانب المظلوم أولى من مراعاة جانب الظالم من ان هذا التفاوت بزيادة وصف لو لم نعتبره سقط به حق المتلف عن الصفة ولو اعتبرناه اسقطنا حق المتلف عليه عن اصل المالية وإذا لم يكن بد من اهدار أحدهما فاهدار الصفة أولى من اهدار الاصل (قلنا) قد اوجبنا للزجر التعزير والحبس فأما وجوب الضمان للجبران فيتقدر بالمثل على وجه لا يجوز الزيادة عليه والظالم لا يظلم بل ينتصف منه مع قيام حرمة ماله ولو اوجبنا عليه زيادة على ما أتلف كان ذلك ظلما مضافا إلى الشرع لان الموجب هو الشرع وذلك لا يجوز وإذا لم يوجب الضمان لتعذر ايجاب المثل كان ذلك لضرورة ثابتة في حقنا وهو أنا لا نقدر على القضاء بالمثل وذلك مستقيم مع أن حق المظلوم لا يهدر بل يتأخر إلى الآخرة. ولو اوجبنا الزيادة صارت تلك الزيادة هدرا في حق المتلف فيبطل حقه عنه أصلا فكان ما قلناه من اعتبار المماثلة والكف عن القضاء بالضمان بدون اعتبار المماثلة اعدل من هذا الوجه * قال (أقام رب الدابة البينة انها نفقت عند الغاصب من ركوبه وأقام الغاصب البينة أنه قد ردها إليه وماتت في يده فعلى الغاصب القيمة) لان رب الدابة يثبت على الغاصب سبب وجوب القيمة والغاصب ينفى ذلك لان

[ 81 ] موت الدابة في يد مالكها لا يوجب الضمان على أحد والبينات للاثبات دون النفى (فان قيل) سبب وجوب الضمان على الغاصب ظاهر فهو يثبت ببينته ما يبرئه عن الضمان وهو لرد فكانت بينته أولى بالقبول (قلنا) نعم ولكن ثبوت الرد لا يمنع قبول بينة المالك على هلاكها من ركوب الغاصب لجواز أن يكون ركبها بعد الرد فماتت من ركوبه فلهذا جعلنا بينته أولى بالقبول وكذلك لو شهد شهود صاحبها أن الغاصب قتلها أو أنه هدم الدار وشهود الغاصب أنه ردها إليه علي حالها لان القتل بعد الرد يتحقق من الغاصب وكذلك لو هدم الدار بعد الرد يتحقق منه فيجب قبول بينة صاحبها في اثبات سبب متجدد للضمان على الغاصب لان الغاصب بينته تنفى ذلك السبب. فأما إذا أقام صاحبها البينة أنها ماتت في يد الغاصب وأقام الغاصب البينة انه ردها فماتت في يد صاحبها فعلى قول أبى حنيفة تقبل بينة صاحبها كما في الفصول المتقدمة لان الغصب بعد الرد يتحقق فصاحبها ببينته يثبت سبب ضمان متجدد وهو غصبه اياها عند الموت فيقضي له بالضمان لهذا وعند محمد رحمه الله البينة بينة الغاصب هنا لما فيها من اثبات الرد وسقوط الضمان عنه به ثم ليس في بينة صاحبها هنا اثبات سبب متجدد والظاهر أنهم انما شهدوا بذلك لانه خفى عليهم الرد وقد علموا الغصب فاستصحبوا ذلك وشهدوا أنها ماتت في يد الغاصب وشهود الغاصب علموا الرد وقد علموا الغصب فشهدوا به بخلاف ما سبق فان القتل والهدم والاتلاف من الركوب سبب متجدد لا يشهدون عليه ما لم يعاينوه باعتبار علمهم بالغصب السابق (وإذا وهب الغاصب الثوب المغصوب لرجل فلبسه حتى تخرق أو كان طعاما فاكله ثم جاء المغصوب منه وضمن الموهوب له فليس له أن يرجع بالضمان على الواهب عندنا) وقال الشافعي رحمه الله له ذلك لانه صار مغرورا من جهته حين أوجب الملك له بالعقد وأخبره أنه يهب ملك نفسه وانه لا يلحقه فيه ضمان من جهة أحد والمغرور يرجع على الغار بما يحلقه من الضمان دفعا للضرر عنه ولكنا نقول الموهوب له في القبض والاكل عامل لنفسه ومن عمل لنفسه فلحقه ضمان بسببه لا يرجع به علي أحد. فأما المغرور قنا مجرد الغرور بالخبر لا يثبت له حق الرجوع كمن أخبر انسانا أن هذا الطريق أمن فسلكه فأخذ اللصوص ماله أو أخبره أن هذا الطعام طيب وكان مسموما فتناوله فتلف * وانما الغرور في عقد الضمان هو المثبت للرجوع لمعنيين (أحدهما) أن بعقد الضمان يستحق صفة السلامة عن الغيب ولا عيب فوق

[ 82 ] الاستحقاق فبفوات ما هو مستحق له ثبت له حق الرجوع فأما بعقد التبرع لا يستحق الموهوب له صفة السلامة ولهذ لو وجد الموهوب معيبا لا يرده بالعيب فلا يرجع بسبب الغرور أيضا (والثانى) وهو ان القابض بحكم عقد الضمان عامل للمالك من وجه فانه يتقرر به حقه في العوض وهو الثمن فإذا لحقه ضمان بسببه رجع به عليه فأما الموهوب له في القبض عامل لنفسه من كل وجه لان الواهب لم يشترط لنفسه شيئا ليتأكد ذلك بقبضه وعلي هذا لو وهب له جارية فاستولدها ثم جاء مستحق واستحقها وأخذها وعقرها وقيمة ولدها لم يرجع الموهوب له علي الواهب بشئ بخلاف ما لو كان اشتراها فان هناك يرجع بقيمة الولد لانه ضمن له سلامة الولد بعقد الضمان فإذا لم يسلم له رجع عليه بما لحقه ولا يرجع بالعقر عندنا. وعلى قول الشافعي رحمه الله يرجع بالعقر أيضا لان البائع قد ضمن له سلامة الوطئ أيضا ولكنا نقول وجب العقر بما استوفى منها وهو الذى نال تلك اللذة فلا يرجع بما لحقه بسببه على أحد * وعلى هذا لو أن غاصب الدابة أجرها فعطبت عند المستأجر ثم ضمنه المغصوب منه قيمتها رجع بها علي الآخر ليتحقق الغرور بمباشرة عقد الضمان ولان المستأجر في قبضها عامل للآخر من وجه فانه يتقرر به حقه في الاجر فأما المستعير إذا ضمن قيمة الدابة لصاحبها لم يرجع علي أحد بالاتفاق عندنا لانعدام عقد الضمان كما بينا في الهبة وعند الشافعي رحمه الله لان المستعير ضامن للعين في حق المعير فلهذا لا يرجع عليه بما يلحقه من الضمان * وإذا اختلف رب الثوب والغاصب في قيمته وقد استهلكه الغصب فالبينة بينه رب الثوب لما فيها من اثبات الزيادة والقول قول الغاصب مع يمينه إذا لم يكن لرب الثوب بينة لا نكاره الزيادة وان أقام الغاصب بينة ان قيمة ثوبه كان كذا لم يلتفت الي بينته ولا يسقط اليمين بها عنه لان هذا القدر من القيمة ثابت باتفاقهما وانما يدعى رب الثوب الزيادة على ذلك والشهود لم يتعرضوا لتلك الشهادة أو نفوا تلك الزيادة والشهادة على النفى لا تكون مقبولة فلهذا كان لرب الثوب ان يحلف الغاصب على دعوان * وفي الاصل يقول رب الثوب هو المدعى والغاصب هو المدعى عليه والشرع جعل البينة في جانب المدعى فقال ابينة علي المدعى وبالالف واللام يظهر ان جنس البينة في جانب المدعي وجعل اليمين في جانب المدعى عليه والبينة لا تصلح بدلا عن اليمين فلا يسقط عنه اليمين بما أقام من البينة فان شهد رب الثوب شاهد أن قيمة ثوبه كذا وشهد آخر علي اقرار الغاصب بذلك لم تجز شهادتهما

[ 83 ] بذلك لانهما اختلفا فشهد أحدهما بالقول والآخر بالفعل ولا يثبت واحد منهما الا بشهادة شاهدين وان لم يكن لواحد منهما البينة فأردت أن تلحف الغاصب علي ذلك فقال أنا أرد اليمين على رب الثوب وأعطيه ما حلف عليه فليس له ذلك لان الشرع جعل اليمين على المدعى عليه وما كان مستحقا على المرء شرعا فليس له ان يحوله إلى غيره (قال) ولا أدر اليمين ولا أحولها عن موضعها الذى وضعها فيه رسول الله ﷺ ومعنى هذا ان اليمين شرعا في جانب المدعي عليه اما للنفي أولا بقاء ما كان على ماكان وهو براءة ذمته فإذا حولت إلى جانب المدعى لم يعمل الا بهذا المقدار لان عمل الشئ في محله أقوى منه في غير محله وبهذا القدر لا يستحق المدعى شيئا بل حاجته إلى اثبات ما ليس بثابت له واليمين لا تصلح لهذا. وكذلك ان رضى رب الثوب بذلك وقال أنا أحلف فتراضيهما علي ما يخالف حكم الشرع يكون لغوا فإذا جاء الغاصب بثوب زطى فقال هذا الذى غصبتكه وقال رب الثوب كذبت بل هو ثوب هروى أو مروى كان القول قول الغاصب مع يمينه لان الاختلاف منهما في تعيين المقبوض والقول فيه قول القابض أمينا كان أو ضامنا لانه لو أنكر القبض أصلا كان القول قوله. ثم ذكر صفة يمينه وقال (يحلف بالله ان هذا ثوبه الذى غصبه اياه وما غصبه هرويا ولا مرويا) لان في تعيين المقبوض القول قوله ومن جعل القول قوله شرعا فانه يحلف على ما يقول كالمودع في رد الوديعة أو هلاكها والمدعى يدعى عليه أنه غصبه هرويا أو مرويا وهو منكر لذلك فالقول قوله مع اليمين فلهذا جمع في اليمين بين الامرين فإذا حلف قضيت لصاحب الثوب بالثوب وابرأت الغاصب من دعوى رب الثوب وان نكل عن اليمين يقضى عليه بما ادعاه المدعى لان نكوله كاقراره وعند النكول لا يقضي له بهذا الثوب لانه لا يدعى ثوبين انما يدعى ثوبا هرويا وقد استحقه فأما إذا حلف فهو ما استحق ثوبا سوى هذا وقد كان يدعى أصل الثوب بصفته ولم يثبت له تلك الصفة بنفى دعواه أصل الثوب فيقظى له بهذا الثوب باعتبار دعواه فان شاء أخذه وان شاء تركه. فان جاء بثوب هروي خلق وقال هذا الذى غصبتكه وهو على حاله وقال رب الثوب بل كان ثوبي جديدا حين غصبته فالقول قول الغاصب مع يمينه لا نكاره قبض الثوب حين كان جديدا ولان الظاهر شاهد له فان صفة الثوب في الحال معلوم وعند الغصب مختلف فيه فيرد المختلف فيه إلى ما هو المعلوم في نفسه ولان الغصب حادث فيحال بحدوثه

[ 84 ] إلى أقرب الاوقات. فان اقاما البينة فالبينة بينة رب الثوب انه غصبه جديدا لاثباته سبق التاريخ في غصبه وضمان النقصان عليه باعتبار فوات الصفة عنده وان لم يقم لواحد منهما بينة وحلف الغاصب وأخذ رب الثوب ثم أقام البينة أنه غصبه اياه جديدا ضمن الغاصب فضل ما بينهما لان الثابت ببينة كالثابت باقرار الخصم ويمين الغاصب لايمنع قبول بينة رب الثوب بعد ذلك هكذا نقل عن عمر رضى الله تعالى عنه قال اليمين الفاجرة أحق أن ترد من البينة العادلة ولان القاضى ما قضى بان المغصوب كان خلقا وقت الغصب ولكنه امتنع عن القضاء بأنه كان جديدا عند ذلك لعدم الحجة فإذا قامت الحجة فعليه أن يقضى بها. فان كان غصبه ثوبا فصبغه أحمر أو أصفر فصاحب الثوب بالخيار ان شاء ضمن الغاصب قيمة الثوب أبيض وكان الثوب لغاصب وان شاء أخذ الثوب وضمن للغاصب ما زاد الصبغ فيه لان الصبغ مال متقوم وهو قائم في الثوب وقد بينا ان بغصبه لا يسقط حرمة ماله فاصل الثوب لصاحب الثوب والصبغ للغاصب وقد تعذر تمييز احدهما عن الآخر وتعذر اتصال منفعة ملك كل واحد منهما علي الانفراد إليه الا ان صاحب الثوب صاحب الاصل والغاصب صاحب الوصف فاثبات الخيار لصاحب الاصل أولى لان الاصل قائم بنفسه وقيام الوصف بالاصل فان شاء ضمنه قيمة ثوبه أبيض لانه تعذر عليه الوصول إلى عين ملكه بدون غرم يلزمه وله أن لا يلتزم الغرم فيضمنه قيمة الثوب أبيض كما غصبه ويصير الثوب للغاصب بالضمان وان شاء ضمن له ما زاد الصبغ فيه فيتوصل الغاصب إلى مالية حقه ويتملك صاحب الثوب عليه هذا الصبغ بما يؤدى من الضمان والغاصب راض بذلك حين جعل ملكه وصفا لملك الغير وان شاء رب الثوب باع الثوب فيضرب في ثمنه بقيمته أبيض ويضرب الغاصب بما زاد الصبغ فيه لان لصاحب الثوب أن لا يملك ثوبه منه بقيمته وأن لا يغرم له قيمة الصبغ وعند امتناعه منهما لا طريق لتمييز حق احدهما عن الآخر الا بالبيع وهو نظير مالو هبت الريح بثوب انسان فألقته في صبغ غيره فالصبغ الا ان هناك لا ضمان على صاحب الصبغ لانعداء الصبغ منه وفيما وراء ذلك هما سواء ولم يذكر في الكتاب انه إذا كان هذا الصبغ نقصانا في هذا الثوب وقد يكون لون الحمرة والصفرة نقصانا في بعض الثياب * وذكر هشام عن محمد رحمهما الله قال لو غصب ثوبا يساوى ثلاثين درهما فصبغه بعصفر وتراجع قيمته إلى عشرين درهما فانه ينظر إلى قيمة الصبغ في ثوب يزيد به فان كان خمسة دراهم

[ 85 ] فلصاحب الثوب أن يأخذ ثوبه ويأخذ خمسة دراهم من الغاصب أيضا لانه استوجب عليه عشرة دراهم نقصان قيمة وثوبه واستوجب الصباغ عليه قيمة الصبغ خمسة والخمسة دراهم بالخمسة قصاص ويرجع عليه بما بقى من النقصان وهو خمسة * فان كان الغصب جارية صغيرة فرباها حتى أدركت وكبرت ثم أخذها رب الجارية لم يضمن للغاصب ما زاد في الجارية لان الزيادة من عينها وهى مملوكة للمغصوب منه بخلاف ما بينا من الصبغ في الثوب فهو زيادة من مال الغاصب لامن العين المغصوبة ولا يرجع بما أنفق علي المغصوب منه لانه متبرع في الانفاق بغير أمره ولانه استخدمها بما أنفق ولانه انتفع بهذا الانفاق لانه تمكن بها من الرد واسقاط الضمان عن نفسه * وإذا غصب سويقا فلته بسمن فصاحبه بالخيار ان شاء ضمنه قيمة سويقه وان شاء أخذ سويقه وضمن للغاصب ما زاد السمن فيه لان السمن في السويق زيادة وصف من مال الغاصب كالصبغ في الثوب * وكذلك الدهن إذا خلط به مسكه وهذا إذا كان دهنا يطيب بالمسك فان كان دهنا منتنا كدهن البرز ونحوه أخذه صاحبه ولم يضمن للغاصب شيئا لان المسك صار مستهلكا فيه * وإذا غصب ثوبا فصبغه اسود فلصاحب الثوب أن يأخذه ولا يعطيه شيئا في قول أبى حنيفة رحمه الله وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله السواد كالحمرة والصفرة ولا اختلاف في الحقيقة ولكن أبو حنيفة أجاب على ما شاهد في عصره من عادة بنى أمية وقد كانوا ممتنعين من لبس السواد وهما أجابا علي ما شاهدا في عصرهما من عادة بنى العباس رضي الله عنه بلبس السواد وقد كان أبو يوسف يقول أولا بقول أبى حنيفة فلما قلد القضاء وأمر بلبس السواد واحتاج إلى التزام مؤنة في ذلك رجع وقال السواد زيادة. وقيل السواد يزيد في قيمة بعض الثياب وينقص من قيمة بعض الثياب كالغصب ونحوه * فان كان المغصوب ثوبا ينقص بالسواد من قيمته فالجواب ما قاله أبو حنيفة وان كان ثوبا يزيد السواد في قيمة فالجواب ما قالا انه بمنزلة الحمرة والصفرة وان غصبه ثوبا فقطعه قميصا ولم يخطه فهو بالخيار ان شاء ضمن قيمته وان شاء أخذ الثوب وضمنه ما نقصه القطع لان القطع نقصان فاحش في الثوب فانه قبل القطع كان يصلح لاتخاذ القباء والقميص وبعد ما قطع قميصا لا يصلح لا تخاذ القباء منه على الوجه الذى كان يصلح قبل القطع فكان مستهلكا من وجه قائما من وجه فان شاء مال صاحبه إلى جانب الاستهلاك وضمنه قيمته وان شاء مال إلى جانب البقاء وأخذ عين الثوب وضمنه نقصان القطع لان

[ 86 ] الثوب ليس بمال الربا وتضمين النقصان في مثله مع أخذ العين جائز شرعا وكذلك إذا نقصه الصبغ الاسود فله أن يأخذه ويضمنه ما نقصه لان الصبغ الاسود في مثله نقصان فاحش وهو كالاستهلاك من وجه لان قبله كان متمكنا من احداث أي لون شاء فيه وقد خرج من أن يكون صالحا لذلك والصبغ الاسود من الثوب لا يمكن قلعه عادة وبه يفرق أبو حنيفة بينه وبين سائر الالوان * ولو اعتصب ثوبا فخرقه فان كان خرقا صغيرا ضمن الغاصب النقصان فقط وأخذ صاحب الثوب ثوبه لان العين قائم من كل وجه فبهذا القدر من الخرق لا يخرج من أن يكون صالحا لما كان صالحا قبله وانما يتمكن في قيمته نقصان فيضمن ذلك النقصان وان كان الخرق كبيرا وقد أفسد الثوب فصاحبه بالخياران شاء ضمن الغاصب قيمة ثوبه لانه مستهلك من كل وجه فانه لا يصلح بعد هذا الخرق لجميع ما كان صالحا قبله له وان شاء أخذ الثوب لكونه قائما حقيقة وضمنه ما نقصه فعل الغاصب (وأما) الدابة إذا غصبها فقطع يدها أو رجلها فلصاحبها أن يضمن الغاصب قيمتها بخلاف مالو كان المغصوب عبدا أو جارية فيقطع منه يدا أو رجلا فهناك يأخذه مع ارش المقطوع لان الآدمى بقطع طرف منه لا يصير مستهلكا لبقائه صالحه لعامة ماكان صالحا له من قبل والدابة تصير مستهلكة بقطع طرف منها فانه لا ينتفع بها بما هو المقصود من الحمل والركوب بعد هذا القطع فلهذا كان لصاحبها أن يتركها للغاصب ويضمنه قيمتها. وكذلك لو كانت بقرة أو جزورا فقطع يدها أو رجلها أو كانت شاة فذبحها لان الذبح استهلاك من وجه فانه يفوت به بعض ما كان مقصودا من النسل واللبن فلصاحبها أن يضمنه قيمتها ان شاء وان شاء أخذ المذبوح مسلوخا كان أو غير مسلوخ وضمن الغاصب النقصان في ظاهر الرواية. وفي رواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله لا يضمنه شيئا لان الذبح والسلخ في الشاة زيادة ولهذا يلتزم بمقابلته العوض ولكن ما ذكره في ظاهر الرواية أصح لانه زيادة من حيث التقرب الي الانتفاع باللحم ولكنه نقصان بتفويت سائر الاغراض من الحيوان ولاجله يثبت الخيار فكان هذا والقطع في الثوب سواء يضمنه النقصان ان شاء (وإذا) طحن الغاصب الحنطة فعليه مثلها والدقيق له عندنا. وسوى هذا عن أبى يوسف روايتان (احداهما) ان حق المغصوب منه لا ينقطع عن الدقيق لا على معنى انه يتمكن من أخذه ولكن يباع فيشترى له به حنطة مثل حنطته وان مات الغاصب فالمغصوب منه أحق به من سائر الغرماء لانه زال ملكه

[ 87 ] ويده بسبب لم يرض به ولو زال ملكه بسبب هو راض به كالبيع لا ينقطع حقه وإذا أزيلت يده بغير رضاه بان قبض المشترى المبيع بغير اذن البائع فهنا أولى أن لا ينقطع حقه (والرواية الاخرى) ان ملكه لا يزول بل له الخيار وان شاء ترك الدقيق وضمنه حنطة مثل حنطته وان شاء أخذ الدقيق ولم يضمنه شيئا * قال أستحسن ذلك وأخالف فيه أبا حنيفة لانه استقبح أن يأتي مفلس إلى كر حنطة انسان فيطحنه ثم يهب الدقيق لابنه الصغير فلا يتوصل صاحب الحنطة إلى شئ فهذا قول الشافعي رحمه الله أيضا الا ان عند الشافعي رحمه الله يأخذ القيق ويضمنه النقصان ان كان لما بينا ان علي أصله تضمين النقصان مع أخذه العين في أموال الربا جائز وعند أبى يوسف لا يجوز ذلك كما هو مذهبنا * ووجه هذا أن الدقيق عين شبه فيكون له أن يأخذه كما قبل الطحن وهذا لان عمل الطحن في تفريق الاجزاء لا لا حداث ما لم يكن موجودا وتفريق الاجزاء لا يبدل العين كالقطع في الثوب والذبح والسلخ والتأريب في الشاة. والدليل عليه ان الدقيق جنس الحنطة ولهذا جرى الربا بينهما ولا يجرى الربا الا باعتبار المجانسة * واستدل محمد رحمه الله في إملاء الكيسانيات لابي حنيفة رحمه الله بالحديث الذى رواه أبو حنيفة عن عاصم بن كليب الجرمى عن أبى مرة عن أبى موسى ان النبي ﷺ كان في ضيافة رجل من الأنصار فقدم إليه شاة مصلية فأخذه منها لقمة فجعل يلوكها ولا يسيغها فقال ﷺ انها ذبحت بغير حق فقال الانصاري كانت شاة أخى ولو كانت أعز منها لم ينفس علي بها وسأرضيه بما هو خير منها ادارجع قال ﷺ أطعموها الاسارى قال محمد يعنى المحبسين فأمره بالتصدق بها بيان منه أن الغاصب قد ملكها لان مال الغير يحفظ عليه عينه إذا أمكن وثمنه بعد البيع إذا تعذر عليه حفظ عينه ولما أمر النبي ﷺ بالتصدق بها دل انه ملكها والخلاف في الفصلين سواء قال محمد وهذا الحديث جعله أبو حنيفة رحمه الله أصلا في أكثر مسائل الغصب والمعنى فيه ان هذا الدقيق غير الحنطة وهو انما غصب الحنطة فلا يلزمه رد الدقيق كمن أتلف حنطة لا يلزمه رد الدقيق. وبيان المغايرة انهما غير ان اسما وهيئة وحكما ومقصودا. وكذلك يتعذر اعادة الدقيق الي صفة الحنطة. و تحقيقه ان الموجودات من المخلوقات تعرف بصورتها ومعناها فتبدل الهيئة والاسم دليل علي ان المغايرة صورة وتبدل الحكم والمقصود دليل علي المغايرة معنى وإذا ثبتت المغايرة فمن ضرورة ثبوت الثاني انعدام

[ 88 ] الاول لا ستحاله ان يكون الشئ الواحد شيئين وإذا انعدم الاول بفعله صار ضامنا مثله وقد ملكه بالضمان فيجعل هذا الدقيق حادثا من ملكه فيكون مملوكا له أو يجعل حادثا بفعله وفعله سبب صالح لحكم الملك فيصير مضافا إليه ولكن بين الدقيق والحنطة شبهة المجانسة من حيث الصورة وهو ان عمل الطحن صورة تفريق الاجزاء وباب الربا مبنى على الاحتياط لمبقاء شبهة المجانسة من هذا الوجه جرى حكم الربا بخلاف القطع في الثوب والذبح في الشاة ؟ ن بالذبح لا يفوت اسم العين يقال شاة مذبوحة وشاة حية فبقيت مملوكة لصاحبها ثم بالسلخ والتاريب بعد ذلك لا يفوت ما هو المقصود بالذبح بل تحقق ذلك المقصود فلا يكون دليل تبدليل العين فلهذا كان لصاحبها أن يأخذها ثم على قول فر للغاصب أن ياكل هذا الدقيق وينتفع به قبل أن يؤدي الضمان وهو القياس لان ملكه حادث بكسبه. وفى الاستحسان وهو قولنا ليس له أن ينتفع بما ما لم يؤد الضمان بالتراضي أو بقضاء القاضى أو يقضى عليه بالضمان لما بينا ان من حيث الصورة هذه أجزاء ملك المغصوب منه وهذه الصورة معتبر فيما بنى على الاحتياط والاكل مبنى علي ذلك فانما يتم تحول حق المغصوب منه إلى الضمان بالاستيفاء أو بالقضاء فلهذا لا ينتفع به الا بعده (وإذا) استهلك قلب فضة فعليه قيمته من الذهب مصوغا عندنا وعند الشافعي رحمه الله تعالى يضمن قيمته من جنسه بناء على أصله ان للجودة والصفة في الاموال الربوية قيمة وعندنا لاقيمة لها عند المقابلة بجنسها فلو أوجبنا مثل قيمتها من جنسها أدى الي الربا ولو أوجبنا مثل وزنها كان فيه ابطال حق المغصوب منه عن الجودة والصفة فلمراعاة حقه والتحرز عن الربا قلنا يضمن القيمة من الذهب مصوغا. وان وجده صاحبه مكسورا فرضى به لم يكن له فضل ما بين المكسور والصحيح لانه عاد إليه عين ماله فبقيت الصفة منفردة عن الاصل ولا قيمة لها في الاموال الربوية ولانه لو أخذ للصفة عوضا كان هذا في معنى مبادلة العشرة بأحد عشر وذلك لا يجوز في الاموال الربوية وله أن يضمن الغاصب قيمته مصوغا من الذهب ويسلمه إليه سواء كان النقصان بالكسر يسيرا أو فاحشا لانه لا يتوصل إلى دفع الضرر عن نفسه وابقاء حقه في الصفة الا بذلك. وكذلك كل اناء مصوغ كسره رجل فان كان من فضة فعليه قيمته مصوغا من الذهب وان كان من ذهب فعليه قيمته مصوغا من الفضة للتحرز عن الربا مع مراعاة حق المغصوب منه في الصفة فان كسر درهما أو دينارا فعليه مثله لانه غيره بصنعه ولا يتم دفع الضرر عن صاحبه

[ 89 ] الا بايجاب المئل والمكسور للكاسر إذا ضمن مثله وان شاء صاحبه أخذه ولم يرجع عليه بشئ وستوى ان كانت مالية انتقصت بالكسر أو لم تنتقص لان صفة العين بغير فعله وذلك كاف لاثبات الخيار له الا فيما يكون زيادة فيه على ما تبين (وإذا) ادعى دارا أو ثوبا أو عبدا في يد رجل وأقام البينة انه له وقال الذى هو في يديه هو عندي وديعة فهو خصم لظهور العين في يده ولم يثبت بقوله ان يده يد غيره (وان) أقام البينة ان فلانا استودعها اياه أو أعارها أو أجرها أو رهنها منه لم يكن بينهما خصومة لانه أثبت ببينته أن يده يد حفظ وهذه مسألة مخمسة وقد بيناها في كتاب الدعوى * وان أقام المدعى البينة ان ذا اليد غصبه منه لم تندفع الخصومة عنه لانه صار خصما بدعوى الفعل عليه ألا ترى أن دعواه الخصم صحيح على غير ذى اليد بخلاف دعوى الملك المطلق * وان أقام المدعى البينة على أنه ثوبه غصب منه فقد اندفعت الخصومة عن ذى اليد بما أقام من البينة لان الفعل غير مدعى عليه فان هذا فعل ما لم يسم فاعله فانما كان ذو اليد خصما باعتبار يده وقد أثبت أن يده يد حفظ * وان قال المدعى هذا ثوبي سرق منى فالجواب كذلك في القياس وهو قول محمد وزفر رحمهما الله (قوله) سرق منى ذكر فعل ما لم يسم فاعله فلا يصير الفعل به مدعى على ذى اليد انما كان هو خصما باعتبار يده كما في الغصب ولكن استحسن أبو حنيفة وأبو يوسف رحمهما الله وقالا لا تندفع الخصومة عن ذى اليد. وللاستحسان وجهان (أحدهما) أن قوله سرق منى معناه سرقه منى الا أنه اختار هذا اللفظ انتدابا إلى ماندب إليه في الشرع من التحرز عن اظهاره الفاحشة والاحتيال لدرء الحد فإذا آل الامر إلى أن يبطل حقه يعود فيدعى عليه فعل السرقة وهذا المعنى لا يوجد في الغصب لان الغاصب تجاهر بما صنع ولا يندب إلى الستر على من تجاهر بفعله (والثانى) ان السارق في العادة يكون بالبعد من المسروق منه فيشتبه عليه في ظلمة الليل انه فلان أو غيره فهو بقوله سرق منى يتحرز عن توهم الكذب وله ذلك شرعا فكان هذا في معنى قوله سرقته منى بخلاف الغصب. ولان السراق قلما يوقف علي أثرهم لخوفهم من اقامة الحد عليهم فلو اندفعت الخصومة عن ذى اليد بهذا كان ابطالا لحق المدعي لا تحويلا فهو بمنزلة مالو أقام البينة علي أنه أودعه رجل لا يعرفه بخلاف الغاصب فانه يكون ظاهرا فيكون هذا من ذى اليد تحويلا للخصومة إليه لاابطالا لحق المدعي (رجل) غصب ثوب رجل فاستهلكه فضمن انسان عن الغاصب قيمته وليس لرب الثوب بينة على

[ 90 ] قمته فقال الكفيل قيمته عشرة وقال الغاصب عشرون وقال صاحب الثوب ثلاثون لم يلزم الكفيل الا عشرة دراهم مع يمينه بالله ما قيمته إلا ذلك لانه التزام بالكفالة قيمة المغصوب فالقول في بيان مقداره قوله كالغاصب وهذا لانه منكر للزيادة على العشرة والقول قول المنكر مع يمينه وقد أقر الغاصب بعشرة أخرى فهو مصدق على نفسه غير مصدق على الكفيل وليس من ضرورة وجوب العشرة الاخرى عليه وجوبها على الكفيل فلهذا يرجع على الغاصب بعشرة أخرى مع يمينه بالله ما قيمته الاعشرون لان صاحب الثوب يدعي عليه عشرة أخرى وهو منكر لذلك (رجل) غصب جارية شابة فكانت عنده حتى صارت عجوزا فان صاحبها يأخذها وما نقصها لانها صارت مضمونة على الغاصب بجميع أجزائها وقد فات وصف مقصود منها وهو الشباب فعلي الغاصب ضمان ذلك اعتبارا للجزء بالكل * وكذلك لو غصبه غلاما شابا فكان عنده حتى هرم لانه فات بعض ما هو مقصود منه وهو قوة الشباب والهرم نقصان في العين وهذا بخلاف مالو غصبه صبيا فشب عنده لانه ازداد عند الغاصب بما حدث له من قوة الشباب * وكذلك لو نبت شعره عند الغاصب لانه ازداد جمالا عنده فان اللحية جمال ولهذا يجب بحلقها من الحر عند اقتبال المنبت كمال الدية والغاصب بالزيادة عنده لا يصير ضامنا شيئا * ولو كان محترما فابحرفة فنسى ذلك عند الغاصب كان ضامنا للنقصان لانه فات ماكان مقصودا منه عند الغاصب وما يزيد في ماليته (فان قيل) عدم العلم بالحرفة ليس بنقصان في العين ولهذا لا يثبت به حق الرد بالعيب (قلنا) نعم ولكن إذا وجد فهو زيادة في العين ولهذا يستحق في البيع بالشرط ويثبت حق الرد عند فواته فيضمن الغاصب باعتباره النقصان أيضا * وكذلك ان غصب ثوبا من رجل فعفن عنده واصفر فقد انتقصت ماليته بما حدث في العين عند الغاصب فكان ضامنا للنقصان. ولو غصب طعاما حدثا فامسكه حتى عفن عنده فعليه طعام مثله و هذا الفاسد للغاصب لان دفع الضرر عن المالك يتضمن النقصان والنقصان هنا متعذر فيصار إلى دفع الضرر عنه بتضمين المثل إلا أن يرضى المالك بأخذ الطعام العفن فيأخذه ولا شئ له سواه (رجل) غصب من رجل ثوبا ومن آخر عصفرا فصبغه به ثم حضرا جميعا فقال أما صاحب العصفر فيأخذه حتى يعطيه عصفرا مثله أو قيمته لان ما غصبه منه صار مستهلكا بفعله فانه كان عين مال قائم بنفسه وقد صار وصفا قائما بملك غيره فعرفنا انه صار مستهلكا فعلى الغاصب

[ 91 ] ضمان مثله أو قيمته ان كان لا يوجد مثله والسواد في هذا كغيره عندهم جميعا لان السواد في نفسه مال متقوم وانما هو نقصان في الثوب عند أبى حنيفة وإذا ضمن لصاحب العصفر عصفره ملك المضمون وصار في الحكم كأنه صبغه بعصفر نفسه وقد بينا حكم الخيار فيه ولو كان غصب الثوب والصبغ من رجل واحد فصبغه به ففى القياس كذلك لانه مستهلك للصبغ بما صنع فيتقرر عليه ضمانه ويصير ذلك مملوكا له ولكن في الاستحسان لصاحب الثوب هنا أن يأخذ ثوبه ولا يعطى الصباغ شيئا ولا يضمنه قيمة صبغغه لان ملكه صار وصفا لملكه فلا يكون مستهلكا به من هذا الوجه. ولانه إذا اختار أصل الثوب كان مجيزا لفعله في الانتهاء فيجعل ذلك كالاذن منه في الابتداء فلهذا كان له أن يأخذ الثوب ان شاء وان شاء ضمنه الصبغ لانه مستهلك من الوجه الذى قلنا وإذا ضمنه كان بمنزلة مالو صبغ الثوب بصبغ نفسه على مابينا. ولو كان الثوب مغصوبا من إنسان والصبغ من آخر وصبغه للغاصب ثم لم يقدر عليه ففى القياس أن يأخذ صاحب الثوب ثوبه ولا يبقى لصاحب الصبغ عليه شئ لان صبغه مستهلك بفعل الغاصب وضمانه دين عليه وللغاصب على صاحب الثوب قيمة الصبغ إذا أخذ الثوب فهذا الرجل وجد مديون مديونه فلا سبيل له عليه حتى يحضر خصمه * وفى الاستحسان إذا أخذ الثوب ضمن له ما زاد الصبغ فيه لان عين ماله قد احتبس عنده وان لم يوجد من جهته صبغ فيه فهو كما لو انصبغ ثوب انسان بصبغ انسان. ولهذا نوجب السعاية في العبد المشترك يعتقه احدهما لان نصيب الشريك قد احتبس عند العبد وان لم يوجد منه صبغ في ذلك وان شاء صاحب الثوب باعه فضرب هو في الثمن بقيمة ثوبه أبيض وصاحب الصبغ بقيمة الصبغ كما لو صبغه الغاصب بصبغ نفسه على ما بينا * فان غصب من واحد حنطة ومن آخر شعيرا فخلطهما ضمن لكل واحد منهما ما غصب منه لانه تعذر على كل واحد منهما الوصول إلى عين ملكه فان تمييز الحنطة من الشعير متعسر والمتعسر كالمتعذر والمتعذر كالممتنع ولم يبين في الكتاب حكم المخلوط فعلى قول أبى حنيفة رحمه الله تعالى المخلوط يصير ملكا للخالط سواء خلط الحنطة بالحنطة أو بالشعير وعلى قول أبى يوسف ومحمد لهما الخيار ان شاآ أخذا المخلوط فكان مشتركا بينهما بقدر ملكهما وان شاآ تركا المخلوط وضمن كل واحد منهما الخالط مثل ماله لان عين مال كل واحد منهما باق أما في الخلط بالجنس فلان الشئ يتكثر بجنسه وكذلك في الخلط بغير

[ 92 ] الجنس إذا كان بحيث يتأتى التمييز في الجملة إلا أنه تعيب ملك كل واحد منهما بعيب الشركة فلهذا يثبت لكل واحد منهما حق التضمين ان شاء وان شاء اعتبر بقاء عين الملك حقيقة فيختار الشركة في المخلوط وهو نظير غاصب الثوب إذا صبغه على ما بينا. وأبو حنيفة يقول بالخلط صار ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما لان المخلوط في الحكم كانه شئ آخر سوى ما كان قبل الخلط ألا ترى انه يبدل اسم العين فقبل ذلك كان يسمى قفيزاوالان يسمى كرا والمكيل والموزون في حكم شئ واحد ولهذا لو وجد ببعضه عيبا لم يرد بالعيب خاصة والبعض من الشئ الواحد غير كله فعرفنا ان هذا المخلوط حادث بفعل الغاصب حكما فيكون مملوكا له ومن ضرورته صيرورة ملك كل واحد منهما مستهلكا حكما ولهذا ثبت لكل واحد منهما حق التضمين مع امكان التمييز في الجملة بخلاف الثوب مع الصبغ وإذا صار ملك كل منها مستهلكا تقرر الضمان على الغاصب وذلك يوجب الملك له في المضمون وهذا بخلاف مااذا حصل الاختلاط من غير صنع أحذ فان المخلوط هناك أيضا هالك الا انه لا ضامن له فيكون لا قرب الناس إليه وهما المالكان قبل الخلط ولان الحكم يضاف إلى المحل عند تعذر اضافته إلى السبب ولان المحل بمعنى الشرط والحكم يضاف إلى الشرط وجودا عنده كما يضاف إلى السبب ثبوتا به فإذا كان الخلط بفعل آدمى وهو سبب صالح لاضافة الملك إليه في المخلوط يصير مضافا إليه وعند انعدام الفعل يكون مضافا إلى المحل فلهذا كان المخلوط لهما * ولو غصب من آخر كتانا فغزله ونسجه فعليه مثله أو قيمته ان كان لا يوجد مثله ولا سبيل له على الثوب. وكذلك إن غصب قطنا فغزله ونسجه أو غصب غزلا فنسجه وهذا عندنا فأما على قول ابى يوسف الآخر وهو قول الشافعي رضى الله عنه فلصاحب الكتان والقطن الخيار على نحو مابينا في الحنطة إذا طحنها لانه لا فرق بين الفصلين في المعنى فان هناك الغاصب فرق الاجزاء المجتمعة بالطحن وهنا جمع الاجزاء المتفرقة بالنسج فكما لا تبدل العين بتفريق المجتمع فكذلك لا تتبدل بجمع المتفرق وهو كما لو غزل القطن ولم ينسجه فانه لا ينقطع حق صاحب القطن ولكن يثبت له الخيار ولكنا نقول الثوب غير الغزل والقطن صورة ومعنى. أما الصورة فالغزل خيط ممدود والثوب مؤلف مركب له طول وعرض. والدليل على المغايرة تبدل الاسم ومن حيث المعنى والحكم الغزل والقطن موزون وهو مال الربا والثوب مذروع ليس بمال الربا وبعد

[ 93 ] النسج لا يتصور اعادته إلى الحالة الاولى فإذا ثبتت المغايرة بينهما فمن ضرورة حدوث الثاني انعدام الاول لاستحالة أن يكون الشئ الواحد شيئين ثم هذا حادث بعمل الغاصب فكان مملوكا له والاول صار مستهلكا بعمله فصار ضامنا له. فأما القطن إذا غزله فالصحيح من الجواب انه ينقطع حق المالك أيضا واليه أشار في كتاب الدعوى حيث سوى بين القطن إذا غزله وبين الغزل إذا نسجه ومن أصحابنا رحمهم الله من فرق بينهما فقال القطن غزل لانه خيوط رقيقة يبدو ذلك لمن أمعن النظر فيه ويتحقق ذلك في الابرسيم فالغزل احداث المجاورة بينهما وليس بتركيب وتأليف وباحداث المجاورة لا تتبدل العين ولهذا بقى موزونا يجرى فيه الربا كما كان قبله بخلاف الغزل إذا نسجه * ولو غصب ساجة فجعلها بابا أو حديدا فجعله سيفا ضمن قيمة الحديد والساجة وجميع ذلك للغاصب عندنا * وكذلك لو غصب ساجة أو خشبة وأدخلها في بنائه أو آجرا فأدخله في بنائه أو جصا فبنى به فعليه في كل ذلك قيمته عندنا وليس للمغصوب منه نقض بنائه وعلى قول زفر والشافعي رحمهما الله تعالى في هذه الفصول لا ينقطع حق صاحبها فزفر مع الشافعي رحمهما الله في هذا النوع لان الحادث زيادة وصف من غير ان يكون الاول مستهلكا بخلاف ما تقدم. وبيان هذا ما ذكر في الجامع إذا اشترى حنطة فطحنها أو غزلا فنسجه ثم زاد البائع في الثمن لم يجز ولو اشترى ثوبا فقطعه وخاطه ثم زاد في الثمن يجوز فوجه قولهم في ذلك ان الغاصب قادر على رد عين المغصوب من غير ايلام حيوان فيجب رده كالساجة إذا بنى عليها وتأثير هذا الكلام ان العين باق والرد جائز شرعا فان بالاتفاق لو رده الغاصب جاز ولو صبر المغصوب منه حتى نقض الغاصب البناء والخياطة كان له أن يأخذه فدل ان العين باق ورده عين المغصوب مستحق شرعا فما دام الرد جائزا يبقى ذلك الاستحقاق بحاله بخلاف ما إذا غصب خيطا وخاط به بطن نفسه أو بطن عبده أو لوحا وأصلح به سفينة والسفينة في لجة البحر فان ذلك لا يجوز رده لما فيه من ايلام الحيوان ونقص البنية وذلك محرم شرعا ومن ضررورة عدم الجواز الرد انعدام استحقاق الرد شرعا * وحجتنا في ذلك ان العين ملك المغصوب منه وما اتصل به من الوصف متقوم حقا للغاصب وسبب ظلمه لا يسقط قيمة ما كان متقوما من حقه كما في الثوب إذا صبغه بصبغ نفسه الا ان هناك الصبغ متقوم بنفسه فيمكن ابقاء حق صاحب الثوب في الثوب مع دفع الضرر عن الغاصب بايجاب قيمة

[ 94 ] الصبغ له وهذا الوصف غير متقوم بنفسه مقصودا ودفع الضرر واجب فيتعين دفع الضرر هنا بايجاب قيمة المغصوب حقا للمغصوب منه ليتوصل هو إلى مالية ملكه ويبقى حق صاحب الوصف في الوصف مرعيا وهذا لانه لابد من الحاق الضرر باحدهما الا ان في الاضرار بالغاصب اهدار حقه وفي قطع حق المغصوب منه بضمان القيمة توفير المالية عليه لا اهدار حقه ودفع الضرر واجب بحسب الامكان وضرر النقل دون ضرر الابطال وهو نظير مسالة الخيط واللوح ولهذا جوزنا الرد ههنا لان الامتناع لدفع الضرر عن الغاصب فإذا رضي فقد التزم الضرر (فان قيل) صاحب الثوب صاحب أصل والغاصب صاحب وصف ولا شك ان مراعاة حق صاحب الاصل أولى ولم يجز لحق صاحب الوصف وهو جان (قلنا) لان هذا الوصف قائم من كل وجه والاصل قائم من وجه لان الاصل كان ملكا للمغصوب منه مقصودا والآن صار تبعا لملك غيره والتبع غير الاصل ولهذا صار بحيث يستحق بالشفعة بعد أن كان منقولا لا يستحق بالشفعة والعدم منه سائر وجوه الانتفاع سوى هذا فعرفنا أنه قائم من وجه دون وجه والقائم من كل وجه يترجح على ما هو قائم من وجه مستهلك من وجه وانما يترجح الاصل إذا كان قائما من كل وجه كما في مسألة الساجة فانها قائمة من كل وجه صالحة لما كانت صالحة له قبل البناء تستحق بالشفعة كما كان من قبل فلهذا رجحنا هناك اعتبار حق صاحب الساجة * ولا يدخل على بشئ مما ذكرنا إذا غصب ثوبا فقصره لانه ليس للغاصب في الثوب وصف قائم متقوم والقصارة تزيل الدرن والوسخ عن الثوب ثم لون البياض وصف أصلي للقطن * ولا يقال أليس ان القصار يحبس بالاجر (قلنا) نعم ولكن باعتبار أثر عمله في المعمول لا باعتبار قيام الوصف في العمل للمعول بعمله وذكر الكرخي في مسألة الساجة أن موضع المسألة فيما إذا أدخل الساجة في بنائه بان بنى حولها لا عليها لانه لا يكون متعديا بالبناء في ملكه فأما إذا بنى على الساجة فهو متعد في هذا البناء والساجة من وجه كالاصل لهذا البناء فيهدم للرد كما في مسألة الساجة ولكن هذا ضعيف فقد ذكر محمد رحمه الله تعالى في كتاب الصرف انه لو غصب بقرة واتخذ منها عروة مزادة انقطع حق المالك عنها وهو في العمل هنا متعدلان عمله في ملك الغير فدل انه لا فرق بين ان يكون عمله في ملك الغير أو في ملك نفسه وان الصحيح ما قلنا * وان غصب حنطة فزرعها ثم جاء صاحبها وقد أدرك الزرع أو هو بقل فعليه حنطة

[ 95 ] مثل حنطته ولا سبيل له على الزرع عندنا. وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه الزرع له لانه متولد من ملكه والمتولد يملك بملك الاصل كولد الجارية وثمرة الشجرة وهذا لان فعل الزارع حركاته والاجسام لا تتولد من الحركات. والدليل على ان التولد من الاصل ان بصفة الاصل يختلف الزرع مع اتحاد عمل الزارع والدليل عليه انه لو حصل بغير فعل أحد بأن هبت الريح بحنطة انسان وألقته في أرض الغير فينبت كان الزرع لصاحب الحنطة (وحجتنا) في ذلك ان الزرع غير الحنطة لان الحنطة مطعوم بنى آدم والزرع بقل هو علف الدواب وهذا الزرع حادث لانه ما لم يفسد الحب في الارض لا ينبت الزرع فاما ان يكون حادثا بأصل الحنطة أو بقوة الارض والهواء أو بعمل الزارع والاول باطل لان كونه حنطة ليس بعلة لبقائها كذلك حنطة فكيف تكون علة لحدوث شئ آخر وقوة الارض والهواء كذلك لانهما مسخران بتقدير الله تعالى لا اختيار لهما فلا يصلح اضافة الحكم اليهما بنفى عمل الزارع وهو في معنى الشرط لانه يجمع بين البذر وقوة الارض والهواء بعمله وقد بينا انه يضاف الحكم إلى الشرط عند تعذر الاضافة إلى العلة كما أن الواقع في البئر يضاف هلاكه الي الحافر وعمله في الشرط ولكن ما كان علة وهو تعلة ومشبه بغير علة لا يصلح عمله لاضافة الحكم إليه فيكون مضافا الي الشرط وإذا ثبت انه مضاف إلى عمل الزارع كان هو مكتسبا للزارع والكسب ملك للمكتسب وعليه ضمان ما صار مستهلكا بعمله الا أنه لا يطيب له الفضل في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وعند أبى يوسف رحمه الله يطيب له الفضل لانه كسبه ولكنا نقول دخل في كسبه من حيث انه استعمل في الاكتساب ملك الغير ولانه من حيث الصورة هذا متولد من ذلك الاصل كما قاله الخصم ومن حيث المعنى والحكم غيره فلاعتبار الصورة قلنا لا يطيب له الفضل احتياطا وعلى هذا لو غصب نواة فانبتها أو تالة (1) فغرسها الا انه روي عن أبى يوسف رحمه الله أنه قال في التالة لا يحل له أن ينتفع بها حتى يؤدى الضمان وفي الزرع والنواة له ذلك لان البذر والنواة تفسد في الارض فكان الزرع والشجرة كسب الغاصب من كل وجه فيجوز له الانتفاع به قبل أداء الضمان المستهلك وأما التالة فلا تفسد ولكنها تنمو وانما جعلنا الشجرة غير التالة من حيث الحكم فلا يحل له الانتفاع بها قبل أداء الضمان كما في الحنطة إذا طحنها. وفى ظاهر الرواية الجواب في

(1) التالة بالمثناة الفوقية واحدة التال وهو صغار النخل وفسلانها اه‍ كتبه مصححه

[ 96 ] الفصلين سواء وعلى هذا لو غصب بيضة وحضنها تحت دجاحة له حتى أفرخت فهذا ومسألة الزرع سواء والمغايرة بين الفرخ والبيضة لا تشكل على أحد لان هذا حيوان وذلك موات ولا يدخل على شئ من هذا إذا غصب شجرة وقلعها وكسرها لان القلع نقصان محض لا يتبدل به اسم العين ثم الكسر تحقيق ما هو المقصود بالشجرة بعد القلع وهو الحطب فهو كمسألة الشاة إذا ذبحها وسلخها (مسلم) غصب خمرا من مسلم فاستهلكها فلا ضمان عليه لان الخمر ليس بمال مقوم فان الشرع أفسد تقومه حين حرم تموله وان جعلها خلا فلرب الخمر أن يأخذها لان بفساد معنى التمول والتقوم لا تخرج من أن تكون مملوكة للمسلم إذا الملك صفة للعين والعين باقية ولهذا جاز له امساك الخمر للتخلل وكان أحق بها من غيرها فان خللها الغاصب من غير القاء شئ فيها فالعين باقية علي حالها لبقاء الهيئة كما كانت وإن ألقى فيها ملحا فالملح صار مستهلكا أيضا وان صب فيها خلا فهذا خلط الا ان الخلط انما يزيد ملك المغصوب منه بشرط الضمان وايجاب الضمان هنا متعذر لان الخمر لا يضمن للمسلم بالاستهلاك فلهذا كان شريكا في المخلوط بقدر ملكه. وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبغه قالوا هذا على وجهين. أما إذا ألقي الجلد صاحبه فاخذه إنسان ودبغه فهو مملوك له لان صاحبها ألقاه تاركا له بمنزلة من يلقى النوى وقشور الرمان فيجمع ذلك انسان وينتفع به فانه يكون مباحا له وأما إذا غصب الجلد من صاحبه ودبغه بشئ لا قيمة له كالتراب والشمس فصاحبه أحق به يأخذه ولا يعطى الغاصب شيأ لان ملكه باق بعد الموت ولم يحدث الغاصب فيه زيادة مال متقوم وقد بينا ان صنعته انما تعتبر إذا أمكان تحويل حق صاحب الاصل إلى الضمان وهذا غير ممكن هنا لان جلد الميتة لا يضمن بالاستهلاك * وأما إذا دبغه بشئ له قيمة كالشب والقرظ والعفص وما أشبه ذلك فلصاحب الجلد أن يأخذ جلده ويضمن ما زاد الدباغ فيه لانه عين مال قائم للغاصب بمنزلة الصبغ في الثوب ولكن ليس له أن يدع الجلد ويضمنه قيمته هنا بخلاف الثوب لان الثوب بدون الصبغ كان مالا متقوما والجلد قبل الدباغ لم يكن مالا متقوما حتى ذكر في كتاب الاجارات لو غصبه جلدا ذكيا فدبغة بشئ له قيمة فان شاء صاحب الجلد ضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ وان شاء أخذه وأعطاه ما زاد الدباغ فيه لان الجلد الذكى مال متقوم قبل الدباغ فهو ومسألة الثوب سواء * وان غصبه عصيرا فصار عنده خمرا فله ان يضمنه قيمة العصير لان المغصوب كان مالا متقوما وبالتخمير يصير هذا الوصف منه مستهلكها * ومراده

[ 97 ] من قوله يضمنه قيمة العصير أن الخصومة بعد انقصاع أوان العصير فأما في أوانه يضمنه مثله لان العصير من ذوات الامثال وان لم يحضر حتى صارت خلا فان شاء أخذ الخل وان شاء ضمنه قيمة العصير لان العين باق ببقاء الهيئة ولكنه تغير من صفة الحلاوة إلى صفة الحموضة فان شاء رضي به متغيرا ولا يضمنه شيئا آخر لان العصير مال الربا وقد بينا انه لا يثبت فيه حق تضمين النقصان مع أخذ العين ولم يذكر هذا الخيار قبل التخلل. فمن أصحابنا رحمهم الله من يقول لاخيار له لانه لو ثبت له الخيار هناك لكان أخذ الخمر عوضا عما استوجب من قيمة العصير وذلك لا يجوز والاصح أن هناك يثبت الخيار أيضا بطريق أنه يكون مبرئا عن الضمان ثم يأخذ خمره ليخلله كما لو كان العصير وديعة له في يده فتخمر (رجل) له حنطة عند رجل وشعير لآخر عند ذلك الرجل أيضا وديعة فخلطهما من لا يقدر عليه ولا يعرف * قال يباعان ثم يقسم الثمن على قيمة الحنطة والشعير وهذا عندهما وهو الاستحسان عند أبى حنيفة أيضا. فأما في القياس على قوله المخلوط صار مملوكا للخالط وحق كل واحد منهما في ذمته ولا ولاية لهما عليه في بيع ملكه لحقهما ووجه الاستحسان ان المخلوط وان صار مملوكا للخالط ولكن لم ينقطع حقهما عنه بل يتوقف تمام انقطاع حقهما علي وصول البدل اليهما ألا ترى أنه لا يحل للخالط الانتفاع بالمخلوط ما لم يود البدل اليهما وإذا بقى حقهما فيه قلنا يباع لايفاء حقهما عند تعذر استيفاء الضمان من الخالط كالمبيع في يد البائع يباع في الثمن إذا تعذر استيفاؤه من المشترى لغبيته ثم يضرب صاحب الحنطة في الثمن بقيمة حنطته مخلوطا بالشعير وصاحب الشعير يضرب بقيمة شعيره غير مخلوط بالحنطة لان الحنطة تنقص بالاحتلاط بالشعير وانما دخل في البيع بهذه الصفة فلا يضرب بقيمتها الا بالصفة التى دخلت في الشعير تزداد قيمته بالاختلاط بالحنطة ولكن هذا الزيادة من مال صاحب الحنطة فلا يستحق الضرب بها معه فلهذا يضرب بقيمة الشعير غير مخلوط (قال) وكذلك كل ما يكال أو يوزن يعنى إذا تحقق الخلط على وجه يتعسر معه التمييز أو يتعذر فان اختلفا في مبلغ كيل الحنطة والشعير وقد باعهما مجازفة واستهلكهما المشترى فالقول في الحنطة قول صاحب الشعير وفي الشعير قول صاحب الحنطة لان كل واحد منهما يدعى زيادة في مقدار ملكه وكل واحد منهما غير مصدق فيما يدعى لنفسه على صاحبه وكل واحد منهما منكر للزيادة التى يدعيها صاحبه فيحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه لانكاره وبعد ما حلف يقسم

[ 98 ] الثمن بينهما على مقدار ما يزعم صاحبه المنكر من ملك كل واحد منهما (ثوب) في يدى رجل أقام رجل البينة انه ثوبه غصبه اياه هذا وأقام الذى في يديه البينة انه وهبه له (فقال) أقضى للذى هو في يديه لانه يثبت سبب الملك الحادث لنفسه وصاحبه ينفى ذلك. ولانا نجعل كان الامرين كانا والهبة بعد الغصب تتحقق موجبا للملك وكذلك لو أقام البينة على البيع منه بثمن مسمى أو على اقراره أنه ثوبه لان البيع والاقرار بالملك بعد الغصب يتحقق فتقبل البينتان جميعا (وان) كان في أيديهما جميعا فاقام كل واحد منهما البينة انه ثوبه غصبه الاخر اياه قضيت به بينهما نصفين لان كل واحد منهما يثبت على صاحبه انه غصب ما في يده منه وفى يد كل واحد منهما نصفه فكان بينة كل واحد منهما فيما في يد صاحبة أولي بالقبول فلهذا قضى لكل واحد منهما بالنصف الذى في يد صاحبه * فان أقام رجل البينة انه ثوبه استودعه الميت الدى هذا وارثه وأقام آخر البينة أنه ثوبه غصبه اياه الميت قضيت به بينهما لان كل واحد منهما أثبت الملك لنفسه في جميع الثوب ان وصوله إلى يد الميت كان من جهته فاستويا ولا ترجح لمدعى الغصب في معنى الضمان لان الضمان للآخر ثابت أيضا فان المودع إذا مات مجهلا للوديعة يكون ضامنا ولان المقصود اثبات الملك في العين ولا معتبر بضمان القيمة مع بقاء العين * وان جاء بالبينة علي دراهم بعينها أنها ماله غصبها اياه الميت فهو أحق بها من غرماء الميت لانه أثبت بالبينة ملك العين لنفسه فان الدارهم تتعين في الغصب ولهذا لا يملك الغاصب إمساك العين ورد المثل وحق الغريم انما كان في ذمة الميت فيتعلق بعد موته بماله دون مال المغصوب منه * وان أقام رجل البينة ان هذا ثوبه غصبه ذو اليد وأقام آخر البينة ان ذا اليد أقر به له أقضي به للذى أقام البينة انه ثوبه غصبه اياه لانه أثبت الملك لنفسه بالبينة وأثبت ان ذا اليد كان غاصبا والآخر انما أثبت ببينتة اقرار الغاصب له بالملك واقرار الغاصب ليس بحجة في الاستحقاق علي المالك (رجل) غصب ثوب رجل فاودعه عند آخر فهلك عنده فلصاحبه ان يضمنه أيهما شاء لان كل واحد منهما متعد في حقه فان المالك غير راض بقبض المودع فهو كالغاصب في حقه فان ضمن المستودع رجع علي الغاصب بما ضمن لانه في حفظ العين كان عاملا له وكان مغرورا من جهته حين أخبره انه ملكه وانه لا يغرم شيئا ان هلك في يده * ولم يذكر ان المودع إذا رد الثوب على الغاصب أو كان غصب منه فرده عليه هل يبقى للمالك عليه سبيل (والجواب) انه لا سبيل للمالك عليه الا في رواية عن

[ 99 ] أبى يوسف رحمه الله فانه يقول صار ضامنا للمالك بقبضه فلا يبرأ إلا بالرد على المالك أو على من قامت يده مقام يد المالك ويد الغاصب لا تقوم مقام يد المالك فلا يبرأ بالرد عليه. ولكنا نقول وجوب الضمان عليه باعتبار يده وقد انفسخ ذلك حين أعاده الي يد من وصلت إليه من جهته فالعدم به حكم يده وكان هذا في حقه بمنزلة رد الغاصب العين على مالكه (وإذا) قال الرجل لآخر غصبتني هذه الجبة المحشوة وقال الغاصب ما غصبتكها ولكن غاصبتك الظهارة فالقول قول الغاصب مع يمينه لانكاره ما ادعاه فانه ادعى غصب الجبة والظهارة ليست بجبة ولانه منكر الغصب في البطانة والحشو ولو أنكر الغصب في الكل كان القول قوله مع يمينه ثم إذا حلف يضمن قيمة الظهارة لاقراره بغصب الظهارة واقراره حجة في حقه فكان غايتاه غصب الظهارة وجعلها جبة. وان قال غصبتك الجبة ثم قال بعد ذلك البطانة والحشولى لم يصدق لانه رجع عما أقر به فاسم الجبة يتناول الكل * وكذلك لو قال غصبتك هذا الخاتم ثم قال فصه لى أو هذه الدار ثم قال بناؤها لى أو هذه الارض ثم قال شجرها لى أو أنا غرستها لم يصدق علي شئ من ذلك لكونه راجعا فان البناء والشجر تبع للاصل فيصير مذكورا بذكر الاصل ويثبت حكم الغصب فيه بثبوته في الاصل والفص في الخاتم كذلك فيكون راجعا بدعواه المالك لنفسه فما أقر به لغيره * وان قال غصبتك هذا البقرة ثم قال عجولها لى أو قال هذه الجارية ثم قال ولدها لى فالقول قوله لان الولد منفصل فلا يكون تبعا للام فاقراره بالاصل لا يتعدى إليه بخلاف الاستحقاق باليد عندنا. وقد بينا هذا الفرق في الدعوي فلا يكون هو في دعوى الولد لنفسه مناقضا بل يكون متمسكا بما هو الاصل وهو ان ما في يده فالظاهر أنه ملكه إلا ما يقربه لغيره (رجل) غصب من رجل ثوبا ثم ان الغاصب كسا الثوب رب الثوب فلبسه حتى تخرق ولم يعرفه فلا شئ له على الغاصب. وكذلك المكيل والموزون إذا غصب منه ثم أطعمه إياه بعينه أو وهبه فأكله ولم يعرفه فالغاصب برئ عن الضمان عندنا وفي أحد قولى الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبرأ لانه ما أتى بالرد المأمور به فانه غرور منه والشرع لا يأمر بالغرور والغاصب لا يستفيد البراءة الا بالرد فإذا لم يكن يوجد صار ضامنا ولانه ما أعاد إلى ملكه كما كان لان المباح له الطعام لا يصير مطلق التصرف فيما أبيح له فكان فعله قاصرا في حكم الر فلو جعلنا هذا رد اتضرر به المغصوب منه لانه اقدام على الاكل بناء

[ 100 ] علي خبره انه أكرم ضيفه ولم علم أنه ملكه ربما لم يأكله وحمله إلى عياله فأكله معهم فلدفع الضرر عنه بقى الضمان علي الغاصب. وحجتنا في ذلك أن الواجب على الغاصب نسخ فعله وقد تحقق ذلك. أما من حيث الصورة فلانه وصل إلى يد المالك وبه ينعدم ماكان فائتا. ومن حيث الحكم فلانه صار به متمكنا من التصرف حتى لو تصرف فيه نفذ تصرفه غير انه جهل بحاله وجهله لا يكون مبقيا للضمان في ذمة الغاصب مع تحقق العلة المسقطة كما ان جهل المتلف لا يكون مانعا من وجوب الضمان عليه مع تحقق الاتلاف إذا كان يظن انه ملكه * وقد بينا ان الغرور بمجرد الخبر لا يوجب حكما انما المعتبر ما يكون في ضمن عقد ضمان ولم يوجد ذلك فان الغاصب المضيف ما شرط لنفسه عوضا ولان أكثر ما في الباب أن لا يكون فعل الغاصب هو الرد المأمور به ولكن تناول المغصوب منه عين المغصوب كاف في اسقاط الضمان عن الغاصب. ألا ترى أنه لو جاء إلى بيت الغاصب وأكل ذلك الطعام بعينه وهو يظن انه ملك الغاصب برئ الغاصب من الضمان فكذلك إذا أطعمه الغاصب إياه. وان كان الغاصب قد نبذ التمر ثم سقاه فهو ضامن للتمر لانه بدل العين بما صنع وتقرر ضمان التمر في ذمته فسقى النبيذ اياه لا يكون ردا للعين المغصوب منه ولا أداء الضمان. وكذلك كل ما يشبهه كالدقيق إذا خبزه ثم أطعمه أو اللحم إذا شواه ثم أطعمه (قال) وكذلك إذا غصب حديدا فجعله درعا فهو ضامن لحديد مثله وان لم يقدر على ذلك ضمن قيمته. وكذلك إذا غضب صفرا فجعله كوزا لانه غيره عن حاله وصار الغاصب مستهلكا وهذا الحادث حادث بفعل الغاصب لتبدل العين صورة ومعنى واسما وحكما ومقصودا فلهذا لاسبيل له على المصنوع وكان الكرخي يقول هذا إذا كان بعد الصنعة لا يباع وزنا أما إذا كان يباع وزنا ينبغى أن يكون للمغصوب منه حق أخذ المصنوع إن شاء عند أبى حنيفة رحمه الله كما في البقرة لبقاء حكم الربا والاصح أن الجواب مطلق لان اسم العين قد تبدل بصنع الغاصب بخلاف القلب علي ما نبينه فان كسر صاحب الصفر الكوز بعد ما ضمن له الغاصب قيمة صفره فعليه قيمة الكوز صحيحة لان الكوز مملكوك للغاصب وهو ملك محترم فيكون المغصوب منه الصفر في كسره كغيره وكذلك ان كسره قبل أن يقضى له بالقيمة لان الكوز مملوك لانه كان حادثا بعمله فيكون الحال قبل القضاء بالقيمة وبعد سواء في حقه الا انه يحاسبه بما عليه لان المغصوب منه استوجب عليه قيمة الصفر والغاصب استوجب عليه قيمة الكوز فيتقاصان

[ 101 ] ويترادان الفضل * فان غصب فضة فضربها دراهم أو صاغها إناء فعلى قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله هذا والحديد والصفر سواء لان الاسم تبدل بصنعة الغاصب وكذلك الحكم فان البقرة لا تصلح رأس مال الشركة والمضاربة والدراهم تصلح لذلك ولا معتبر بالتمكن من الاعادة فان هذا موجود في الحديد والصفر ثم جعل هناك الثاني غير الاول وجعل الاناء حادثا بعمل الغاصب فهذا مثله وأبو حنيفة رحمه الله يقول هنا للمغصوب منه أن يأخذها ولا أجر للغاصب وعلل فقال لانه فضة بعينها لا تخرج من الوزن بخلاف الحديد والصفر. وبهذا الحرف يستدل الكرخي في تقسيم الجواب هناك. ثم معنى هذا التعليل ان اسم العين لا يتبدل لان اسم العين هو الذهب والفضة وهو يبقى بعد الصنعة انما يتبدل اسم الصنعة فان الدراهم والدنانير اسم الصنعة وكذلك حكم العين باق فان حكم العين انه موزون ويجرى فيه الربا بعلة الوزن وتجب الزكاة فيه باعتبار العين فأما صلاحية رأس مال الشركة والمضاربة فهو حكم الصنعة لاحكم العين ولهذا يقول ما لا يتفاوت من الفلوس الرائجة في هذا الحكم كالذهب والفضة فإذا بقي اسم العين وحكم العين كان ذلك دليل بقاء العين المغصوب وان تعذر على المغصوب منه أخذه انما يتعذر للصنعة ولا قيمة للصنعة في هذه الاموال منفردة من الاصل وبه فارق الحديد والصفر فان الصنعة هناك تخرجها من الوزن ومن أن تكون مال الربا وللصنعة في غير مال الربا قيمة مع ان اسم العين وحكمه قد تبدل هناك كما قررنا * وان غصب حنطة فاستهلكها ثم باعه بها شعيرا أو غيره مما يكال أو يوزن أو من العروض قبل القبض فلا بأس به يدا بيد لان الواجب مثل الحنطة في ذمته وبيع الحنطة بالشعير جائز كيفما كان ولو كانت الحنطة عينا فكذلك إذا كان ذلك دينا إلا ان الدين بالدين حرام فيشترط قبض ما يقابلها في المجلس فلا تنعدم الدينية من الجانبين * وكذلك ان أقرضه طعاما فله أن يأخذ ما بد اله بخلاف البيع والسلم يريد به ان الاستبدال بالمبيع قبل القبض لا يجوز والمسلم فيه في حكم المبيع فأما بدل القرض والغصب ليس في حكم المبيع حتى يجوز اسقاط القبض فيه أصلا في الابراء فكذلك في الاستبدال به كالثمن في البيع * وإذا غصب رجل دابة من رجل فاقام صاحبها البينة انها نفقت عند الغاصب وأقام الغاصب البينة انه قد ردها إليه وانها نفقت عنده فلا ضمان عليه وقد بينا خلاف أبى يوسف في هذه المسألة وان بينة المغصوب منه بطريق استصحاب الحال وبينة الغاصب وافقت علي أمر هو حادث وهو الرد

[ 102 ] فكانت أولى بالقبول (مسلم) غصب من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه ضمان قيمتها عندنا وقال الشافعي لا ضمان عليه وكذلك الخنزير. وجه قوله أن الخمر والخنزير محرم العين ولا يضمن بالاتلاف حقا للمسلم فكذلك للذمي لان حقوقهم دون حقوقنا وهذا لانا بعقد الذمة انما ضمنا ترك التعرض لهم في الخمر والخنزير وايجاب ضمان القيمة على المتلف أمر وراء ذلك تحقق هذا أن ترك التعرض لاعتقادهم أن الخمر والخنزير مال متقوم ولكن اعتقادهم لا يكون حجة على المسلم المتلف في ايجاب الضمان وانما يكون معتبرا في حقهم ولذا لانحدهم على شربها ولا ندع أحدا يتعرض لهم في ذلك ولا يتعرض لهم في الانكحة أيضا * والدليل على ان اعتقادهم لا يكون حجة على الغير أن المجوسي إذا مات عن ابنتين احداهما امرأته فانها لا تستحق بالزوجية شيئا ولم يجعل اعتقادهم معتبرا في استحقاق التفضيل بشئ من الميراث علي الاخرى * وكذلك العبد المرتد لا يضمن للذمي بالاتلاف وان كان هو يعتقد انه مال متقوم وانه محق في اعتقاده ثم لم يصر اعتقاده حجة في ايجاب الضمان على المتلف الا أن هناك يتعرض له في ذلك لانا بعقد الذمة ما ضمنا ترك التعرض لهم في ذلك. وحجتنا في ذلك قول عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه حين سأل عماله ماذا تصنعون بما يمر به أهل الذمة من الخمر فقالوا نعشرها فقال لا تفعلوا ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها فقد جعلها مالا متقوما في حقهم حيث جوز بيعها وأمر بأخذ العشر من الثمن (وذكر) أبو عبيدة في كتاب الاموال أن عمر رضي الله تعالى عنه كتب الي عماله أن اقتلوا خنازير أهل الذمة واحتسبوا لاصحابها بقيمتها من الجزية فهذا تنصيص منه علي انه مال متقوم في حقهم يضمن بالاتلاف عليهم والمعنى فيه ان الخمر كان مالا متقوما في شريعة من كان قبلنا وكذلك في شريعتنا في الابتداء ثم ان الشرع أفسد تقومه بخطاب خاص في حق المسلمين حيث قال (يا أيها الذين آمنوا انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان) إلى قوله تعالى فهل أنتم منتهون) فبقى في حق من لم يدخل تحت هذا الخطاب علي ماكان من قبل. هذا من حيث الصورة ومن حيث المعنى ان حرمة العين وفساد التقوم ثبت بخطاب الشرع وقد أمرنا ان نتركهم وما يدينون لمكان عقد الذمة فقصر الخطاب عنهم حين لم يعتقدوا الرسالة في المبلغ وانقطعت ولاية الالزام بالسيف والمحاجة لمكان عقد الذمة ويصير في حقهم كأن الخطاب غير نازل فيبقى الحكم على ماكان. ألا ترى ان من

[ 103 ] شرب الخمر من المسلمين بعد ما نزل خطاب التحريم قبل علمه به لم يكن معاتبا بذلك كما قال الله تعالى (ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا) الآية * وكذلك أهل قباء كانوا يصلون إلى بيت المقدس بعد ما نزلت فريضة التوجه إلى الكعبة وجاز ذلك منهم كأن الخطاب غير نازل حين لم يبلغهم فهذا مثله أيضا. وأمر الانكحة على هذا وليس في هذا توسعة الامر عليهم بل فيه استدراج وترك لهم على الجهل وتمهيد بعقوبة الآخرة والخلود في النار وتحقيق لقول النبي ﷺ الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. وبهذا تبين فساد ما قال ان اعتقاده لا يكون حجة على المتلف لانا لا نوجب الضمان باعتبار اعتقاده ولكن يبقى ما كان على ما كان وهو المالية والتقوم * ثم وجوب الضمان بالاتلاف لا يكون به المحل مالا متقوما ولكن شرط سقوط الضمان بالاتلاف انعدام المالية والتقوم في المحل وهذا الشرط لم يثبت في حقهم مع أنا لما ضمنا بعقد الذمة ترك التعرض لهم فقد التزمنا حفظها وحمايتها لهم والعصمة والاحراز تتم بهذا الحفظ ووجوب الضمان بالاتلاف ينبنى على ذلك فكان هذا من ضرورة ما ضمناه بعقد الذمة بخلاف قتل المرتد فانا ما ضمنا لهم ترك التعرض في ذلك لما فيه من الاستخفاف بالدين وكان نظير ذلك من العقود الربا فانه يتعرض لهم في ابطال عقود الربا بينهم لانا لم نضمن لهم ترك التعرض لهم في ذلك لقول رسول الله ﷺ الا من أربى فليس بيننا وبينه عهد. وهذا لان ذلك فسق منهم في الاعتقاد ولا ديانة فقد ثبت بالنص حرمة الربا في اعتقادهم قال الله تعالى (وأخذهم الربوا وقد نهوا عنه) وكذلك الجواب في موقوذة المجوسى الصحيح ان المسلم يضمنها له باغصب والاتلاف وهو قول أبى يوسف رحمه الله وقد روى عن محمد رحمه الله بانه لا يضمنها كالميتة والدم لانها ليست بمال في اعتقاد أهل الذمة وقد أمرنا ان نبنى أحكام المجوس على أحكام أهل الكتاب كما قال النبي ﷺ سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب الحديث الا أن هذا ضعيف فانا في حكم الانكحة اعتبرنا اعتقاد المجوس من غير ان نبنى ذلك على اعتقاد أهل الكتاب والعذر عن فضل الميراث بالزوجية بيناه في النكاح انه ليس من ضرورة الحكم بصحة النكاح استحقاق الميراث وهذا كله بخلاف مالو أتلف متروك التسمية عامدا علي شفعوى المذهب لان ولاية الالزم بالمحاجة والدليل هنا ثابت وقد ثبت لنا بالنص أن متروك التسمية حرام ليس بمال فلهذا لا يعتبر اعتقادهم في ايجاب الضمان (ولو) غصب نصراني من نصراني خمرا فاستهلكها فعليه مثلها

[ 104 ] لان الخمر من ذوات الامثال والمصير إلى القيمة في ذوات الامثال عند العجز عن أداء المثل وذلك في حق المسلم دون النصراني لانه قادر على تمليك الخمر من غيره بعوض ولهذا جازت المبايعة بالخمر فيما بينهم وان أسلم الطالب بعد ما قضي له بمثلها فلا شئ له على المستهلك لان الخمر في حق المسلم ليس بمال متقوم * ولو احتبس عينها عند النصراني له بالغصب والاستهلاك لم يضمنه شيئا فكذلك إذا احتبس ما صار دينا منها ولكنه باسلامه يكون مبرئاله عما كان له في ذمته من الخمر لانه يخرج بفعله من أن يكون مالا متقوما في حقه ومن أن يكون متمكنا من قبضه وكذلك لو أسلما معا لان في اسلامهما إسلام الطالب ولو أسلم المطلوب وحده أو أسلم المطلوب ثم الطالب فعلي قول أبى يوسف وهو روايته عن أبى حنيفة رحمهما الله الجواب كذلك وفى قول محمد رحمه الله تعالي وهو رواية عافية وزفر عن أبى حنيفة رحمهما الله على المطلوب قيمة الخمر. وجه قول محمد رحمه الله أن الاسلام الطارئ بعد تقرر سبب الضمان يجعل كالمقترن بالسبب كما ان الاسلام الطارئ بعد العقد قبل القبض يجعل كالمقتر بالعقد ثم اقتران اسلام المطلوب بغصب الخمر واستهلاكها لا يمنع وجوب ضمان القيمة بخلاف اسلام الطالب فكذلك الطارئ وهذا لان خمر الذمي يجوز أن يكون مضمونا في يد المسلم فكذلك يجوز أن يكون مضمونا في ذمة المسلم. وبهذا تبين انه ليس في اسلام المطلوب معنى البراءة وأما خمر المسلم يجوز أن يكون مضمونا في يد الذمي فكذلك في ذمته فكان إسلامه مبرئا بهذا الطريق وهو انه يمنع بقاءها في ذمته بعده ولا يمكن جعل أصل السبب موجبا للقيمة في الاسلام المقارن لانه وجب به ضمان المثل فلا تجب به القيمة أيضا بخلاف النكاح فان على قول محمد يجب قيمة الخمر بعد الاسلام أحدهما كانت بعينها أو بغير عينها لان اسلام الطالب مبرئ من حيث تعذر ابقائها في الذمة أو مضمونا في يد الزوج بعد اسلامهما ولكن هذا لا يمنع وجوب ضمان القيمة بأصل السبب لان هذه القيمة عوض عن البضع وشرط وجوبها صحة التسمية لابقاء استحقاق المسمى وقد كانت التسمية صحيحة حين كان المسمى مالا متقوما يومئذ وأبو يوسف رحمه الله يقول تعذر قبض الخمر المستحق في الذمة بسبب الاسلام فلا تجب القيمة كما لو أسلم الطالب. وتحقيقه أنه لما وجب الخمر بالسبب دينا في ذمته فلا يمكن ايجاب القيمة باعتبار أصل السبب ولا يمكن ايجاب القيمة عوضا عما كان في الذمة لان شرطها تمليك ما في الذمة بها والذمى لا يقدر علي تمليك الخمر من المسلم بعوض كما ان المسلم

[ 105 ] لا يتملك الخمر بعوض فلانعدام الشرط يتعذر استيفاء القيمة كما لو هشم قلب فضة إنسان ثم تلف المكسور في يد صاحب القلب ليس له ان يضمن الكاسر شيئا لان شرط تضمين القيمة تمليك المكسور منه وذلك فائت وبه فارق الاسلام المقارن لان وجوب القيمة هناك باعتبار أصل السبب وهو الغصب والاستهلاك فانه موجب للضمان باعتبار الجناية من غير ان يكون موجبا الملك في المحل عند التعذر كما في غصب المدبر * وان غصب خنزيرا فاستهلكه ثم أسلم أحدهما أو أسلما فعليه قيمته لان بنفس الاستهلاك وجبت القيمة هنا فان الحيوان ليس من ذوات الامثال والقيمة دراهم أو دنانير فلا يمتنع بقاؤها في الذمة واستيفاؤها بعد اسلامهما أو اسلام أحدهما * ولو غصب مسلم من مسلم خمرا فجعلها خلا ثم استهلكها فعليه خل مثلها لانه بعد ما جعلها خلا بقيت علي ملك صاحبها حتى كان له أن يأخذها منه فإذا استهلكها فقد استهلك مالا متقوما لغيره وذلك موجب للضمان عليه امانة كانت عنده أو مضمونة * وكذلك لو غصب جلد ميتة فدبنه بشئ لا قيمة له ثم استهلكه فعليه ضمان قيمته لانه باق على ملك صاحبه ولهذا يتمكن من أخذه من غير أن يعطيه عوضا. ومن أصحابنا رحمهم الله من يقول يضمنه قيمته طاهرا غير مدبوغ لان صفة الدباغ حصل بفعله فلا يوجب الضمان عليه ولكن من ضروته زوال صفة النجاسة وذلك غير حاصل بفعله بل بتميز الجلد من الدسومات النجسة. وأكثرهم على أنه يضمنه قيمته مدبوغا لان صفة الدباغ هنا تبع للجلد وهو غير معتبر منفردا عن الجلد ولهذا لا يغرم باعتباره شيئا وإذا صار أصل الجلد مضمونا عليه بالاستهلاك فكذلك ما يتبعه كالخمر إذا خلله فأما إذا دبغه بشئ له قيمة ثم استهلكه فلا ضمان عليه في قول أبى حنيفة وفي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى يضمن قيمة الجلد مدبوغا ويعطيه ما زاد الدباغ فيه * وجه قولهما ان الجلد باق على ملك صاحبه بعد الدباغ وهو مضمون الرد على الغاصب ولكن يشترط ان يعطيه ما زاد الدباغ فيه فإذا استهلكه كان ضامنا كالثوب المغصوب إذا صبغه ثم استهلكه وهذا لمعنيين (أحدهما) ان الاستهلاك جناية موجبة للضمان في محل هو مال متقوم وقد وجد ذلك لما بقى الجلد على ملك صاحبه بعد ما صار مالا متقوما كما في الثوب الا أن هناك السبب الاول وهو الغصب غير موجب للضمان أيضا فله أن يضمنه بأى السببين شاء وهنا الاول وهو الغصب موجب للضمان فيتعين التضمين بالسبب الثاني وكان هو في هذا السبب كغيره ولو استهلكه

[ 106 ] غيره كان للمغصوب منه ان يضمن المستهلك ويعطى الغاصب وما زاد الدباغ فيه (والثانى) وهو انه لما بقى الجلد مضمون الرد عليه وإذا تعذر رد عينها باستهلاكه بحب عليه رد قيمته لانه بالاستهلاك فوت ما كان مستحقا عليه والتفويت موجب للضمان وبه فارق ما لو هلك في يده فان التفويت منه لم يوجد وهو نظير المستعار إذا فوت المستعير رده بالاستهلاك ضمن قيمته بخلاف ما إذا فات بغير صنعه * وكذلك لو دبغه بشئ لا قيمة له أو جعل الخمر خلا فلا يضمن إذا فوت الرد بالاستهلاك ولا يضمن إذا هلك في يده * وحجة أبى حنيفة رحمه الله في ذلك ان المغصوب منه استفاد المالية والتقوم في هذا الجلد من الغاصب ببدل استوجبه الغاصب عليه فلا يكون له ان يضمنه شيئا بعد استهلاكه كما لو استهلاك البائع المبيع قبل التسليم * وتقريره من وجهين (أحدهما) أن الاستهلاك غير موجب للضمان عليه باعتبار ما زاد الدباغ فهى لان ذلك كان مملوكا له قبل الاتصال بالجلد وبعد الاتصال بقى حقا له حتى كان له أن يحبسه ليستوفى بدله والجلد بدون هذا الوصف لا يكون مضمونا عليه بالاستهلاك كما لو استهلكه قبل الدباغ وبه فارق الثوب فان الاستهلاك فيه بدون صفة الصبغ موجب للضمان وبه فارق ما إذا دبغه بشئ لا قيمة له لان الصنعة ما بقيت حقا للغاصب بعد الاتصال بالجلد ولهذا لا يحبسه ولا يرجع ببدله وكذلك الخمر إذا خلله (والثانى) أن ما اتصل بالجلد من الصفة هنا مال متقوم للغاصب حقيقة وحكما وهو قائم من كل وجه وقد كان مالا قبل الاتصال بالجلد وبقى بعده كذلك وأما اصل الجلد لم يكن مالا متقوما قبل الدباغ وما كان مالا بنفسه ومتصلا بغيره يترجح على ما لم يكن مالا قبل الاتصال وانما صار مالا بالاتصال فتكون العبرة للراجح واستهلاكه فيه غير موجب للضمان بخلاف الثوب لان الاصل هناك كان مالا قبل الاتصال وانما صار مالا بالاتصال ولما استويا في صفة المالية رجحنا ما هو الاصل. وإذا دبغه بشئ لاقيمة له فالوصف هنا ليس بمال قبل الاتصال ولا بعده والاصل مال بعد الاتصال فرجحنا جانب الاصل لهذا ولا يقال في حال بقاء الجلد رجحنا حق صاحب الاصل حتى مكناه من أخذه. ويملك الوصف على الغاصب بعوض وهذا لان أخذ العين كان باعتبار الملك دون المالية والتقوم ولهذا كان متمكنا من استرداده قبل الدباغ وفي حكم الملك الاصل مرجح لانه كان مملوكا قائما بنفسه قبل الاتصال وبعده فأما وجوب الضمان عند الاستهلاك باعتبار صفة المالية والتقوم وصفة الدباغ في معنى المالية والتقوم يترجح علي

[ 107 ] أصل الجلد فيعتبر ذلك في ايجاب الضمان * يحقق ما قلنا أن فائدة وجوب الضمان الاستيفاء ولا يستوفى منه قدر مالية الدباغة بالاتفاق وكيف يستوفى منه ما هو واجب له علي غيره * ولو ظفر صاحب الحق بجنس حقه فاستهلكه لم يغرم شيئا فإذا ظفر بعين حقه فاستهلكه أولى أن لا يضمن شيئا فإذا تعذر ايجاب هذا القدر عليه انفصل أصل الجلد عن صفة الدباغة حكما فيعتبر بما لو كان منفصلا حقيقة فلا يجب عليه ضمان قيمة الجلد وهما قد اعتبرا هذا حتى قالا لا يكون له أن يضمنه قيمة الجلد غير مدبوغ (ولو) غصب من رجل عينا فقال المغصوب منه للغاصب ابرأتك عن الغصب ثم هلك في يده الغاصب لم يضمن شيئا في قول علمائنا رحمهم الله. وقال زفر هو ضامن لليمة لان الابراء عن العين لغو فان الابراء اسقاط والعين ليست بمحل له إذ لا تسقط حقيقة ولا يسقط ملك المالك عنها أيضا واضافة التصرف إلى غير محله لغو. ولكنا نقول قوله أبرأتك عن الغصب أي عما وجب لى عليك بسبب الغصب بمنزلة ابراء المحبى عليه الجاني عن الجناية وابراء المشترى البائع عن العيب والواجب له بسبب الغصب رد العين عند قيامه ورد القيمة عند هلاكه وذلك قابل للاسقاط فيسقط عنه وإذا سقط عنه ذلك بقى العين امانة في يده كالوديعة ولانه لو أبرأه بعد تقرر الضمان عليه بالهلاك صح الابراء فكذلك إذا أبرأه بعد تقرر السبب (ولو) غصب جارية فحبلت عند الغاصب ثم ردها فولدت ثم هلكت بالولادة يجب عند أبى حنيفة رحمه الله على الغاصب ضمان قيمتها وعند أبى يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى تقوم حاملا وغير حامل فيكون على الغاصب ضمان النقصان لان الرد قد صح مع الحبل ولكنها معيبة بعيب الحبل وذلك موجب ضمان النقصان عليه فاما هلاكها بسبب الآلام الحادثة بعد الرد وهو الطلق فلا يبطل به حكم الرد كما لو حمت الجارية عند الغاصب ثم ردها فهلكت أو زنت عند الغاصب ثم ردها فجلدت وماتت من ذلك لم يضمن الغاصب الا نقصان عيب الزنا * وكذلك المبيعة إذا سلمها إلى المشترى وهى حبلى فماتت في الولادة لم يرجع المشترى على البائع بجميع الثمن بالاتفاق وأبو حنيفة رحمه الله يقول الواجب على الغاصب نسخ فعله بالرد ولم يوجد ذلك حين ردها لا على الوجه الذى قبضها ولما هلكت بالسبب الذى كان عند الغاصب يجعل في الحكم كأنها هلكت عند الغاصب كما لو جنت عند الغاصب ثم ردها فدفعت في الجناية فانه يضمن قيمتها ويجعل كانه لم يردها أصلا بخلاف الحمى لان الهلاك لم يكن بالسبب الذى كان

[ 108 ] عند الغاصب انما كان لضعف الطبيعة عن دفع آثار الحمى المتوالية وذلك لا يحصل بأوله الحمى عند الغاصب وان ذلك غير موجب لما كان بعده. وهنا أصل السبب ما كان عند الغاصب لان الحبل يوجب انفصال الولد وانفصال الولد يوجب آلام الولادة فما يحدث به يكون محالا على السبب الاول. بخلاف الجلد لان الزنا يوجب جلدا مؤلما غير جارح ولا متلف ولهذا يختار سوطا لا ثمرة له فلم يكن الهلاك محالا به على السبب الذي كان عند الغاصب وهذا بخلاف الشراء لان الشراء يوجب تسليم المبيع إلى المشترى على الوجه الذى يتناوله العقد وهو انه مال متقوم وقد وجد ذلك باعتبار ظاهر الحال وهو ان الغالب في الولادة السلامة فانما علي الغاصب نسخ فعله وذلك في أن يرده كما قبضه ولم يوجد ذلك * ألا ترى أن البائع لو قطع يده ثم باعه وسلمه إلى المشترى فمات من ذلك في يده لم يرجع بجميع الثمن بخلاف الغاصب إذا قطع يدها ثم ردها فماتت من ذلك * ثم على قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله هي قد تعببت في يد الغاصب بعيب الزنا والحبل جميعا * ففى القياس يضمن الغاصب نقصان العيب وهو قول محمد رحمه الله. وفي الاستحسان وهو قول أبى يوسف يضمن أكثرهما ويدخل الاقل في الاكثر. وكذلك عند أبى حنيفة إذا سلمت من الولادة ينظر إلى نقصان الزنا ونقصان الحبل فعليه ضمان أكقرهما ولكن ان كان عيب الحبل أكثر فقد زال ذلك بالولادة فلا يلزمه الاقدر نقصان عيب الزنا وان كان عيب الزنا أكثر فعليه ضمان ذلك لان عيب الزنا لا ينعدم بالولادة فمحمد رحمه الله اعتبر الحقيقة وهو ان الحبل عيب آخر سوى عيب الزنا لتحقق انفصال كل واحد منهما عن الآخر وأبو يوسف رحمه الله اعتبر اتحاد السبب وقال الحبل هنا حصل بذكل السبب فبحكم اتحاد السبب يدخل الاقل في الاكثر كما في نفصان الكبارة مع العقر الواجب بالوطئ فانه يدخل الاقل في الاكثر لاتحاد السبب فكذلك هنا والله سبحانه وتعالي أعلم كتاب الوديعة (قال) الشيخ الامام الاجل الزاهد شمس الائمة أبو بكر محمد بن أبى سهل السرخسى رحمه الله تعالى املاء. الايداع عقد جائز عقد جائز لانه تصرف من المالك في ملكه وقد يحتاج إليه عند ارادة السفر والحاج يحتاج إلى ايداع بعض ماله في كل موضع لينتفع به إذا رجع والمودع مندوب

[ 109 ] إلى القبول شرعا لما فيه من الاعانة على البر قال الله تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى) وقال ﷺ ان الله تعالى في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه. وبعد القبول عليه أداء ما التزم وهو الحفظ حتى يؤديها إلى صاحبها لقوله تعالى (ان الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها) وقد قيل في سبب النزول ان المراد رد مفتاح الكعبة على عثمان بن أبى طلحة لانه حين أتاه به قال خذه بأمانة الله تعالى ولكن ظاهر الآية يتناول كل أمانة قال ﷺ من ائتمن أمانة فليؤدها وقال ﷺ أد الامانة من أتمنك ولا تخن من خانك وقال ﷺ علامة المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان. على الموحد أن يحترز عما هو من علامة المنافق وذلك بأن يحفظ الوديعة على الوجه الذى يحفظ به مال نفسه فيضعها في بيته أو صندوقه لانه وعد لصاحبها ذلك وخلف الوعد مذموم وإذا ترك الحفظ بعد غيبة صاحبها ففيه ترك الوفاء بما التزام والغرور في حق صاحبها وذلك حرام. فان وضعها في بيته أن صندوقه فهلكت لم يضمنه لحديث عمر وبن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ قال من أودع وديعة فهلكت فلا ضمان عليه ولحديث ابن الزبير عن جابر رضى الله تعالى عنه ان النبي ﷺ قال ليس على المستعير غير المغل ضمان ولا على المودع غير المغل ضمان. فالمراد بالمغل الخائن قال ﷺ لا اغلال ولا اسلال في الاسلام والاغلال الخيانة والاسلال السرقة وقد قيل المغل المنتفع من قولهم أرض مغل أي كثير الريع والغلة فعلى هذا المراد المنتفع بغير اذن صاحبه. وقال عمر رضى الله تعالى عنه العارية كالوديعة لا يضمنها صاحبها الا بالتعدي. وقال على رضى الله تعالى عنه لا ضمان على راع ولا على مؤتمن. والمعنى فيه أن المودع متبرع في حفظها لصاحبها والتبرع لا يوجب ضمانا على المتبرع للمتبرع عليه فكان هلاكها في يده كهلاكها في يد صاحبها وهو معنى قول الفقهاء رحمهم الله تعالى يد المودع كيد المودع ويستوي ان هلك بما يمكن التحرز عنه أو بما لا يمكن لان الهلاك بما يمكن التحرز عنه بمعنى العيب في الحفظ ولكن صفة السلامة عن العيب انما تصير مستحقا في المعاوضة دون التبرع والمودع متبرع * فان دفعها إلى بعض من في عياله من زوجته أو ولده أو والديه أو أجيره فلا ضمان عليه إذا هلكت استحسانا. وفي القياس هو ضامن لانه استحفظ من استحفظ منه. ويؤيد وجه القياس قوله تعالى (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم)

[ 110 ] والمراد النساء فان كان هو منهيا عن دفع مال نفسه إلى امرأته فما ظنك في مال غيره * وجه الاستحسان أن المطلوب منه حفظ الوديعة علي الوجه الذى يحفظ مال نفسه والانسان يحفظ مال نفسه بيد من في عياله على ما قيل قوام العالم بشيئين كاسب يجمع وساكنة تحفظ ولانه لا يجد بدا من هذا فانه إذا خرج من داره في حاجته لا يمكنه أن يجعل الوديعة مع نفسه وإذا خلفها في داره صارت في يد امرأته حكما وما لا يمكن الامتناع عنه عفو * وذكر في جملة من في عياله الاجير والمراد التمليذ الخاص الذى استأجره مشاهرة أو مسانهة فأما الاجير بعمل من الاعمال كسائر الاجانب يضمن الوديعة بالدفع إليه. فإذا انشق الكيس في صندوقه فاختلط بدراهمه فلا ضمان عليه لانعدام الصنع الموجب للضمان عليه ولو يمكن تقصير فذلك من المودع بأن جعل دراهم الوديعة في كيس بال ولكن المختلط مشترك بينهما بقدر ملكهما فان هلك بعضها هلك من مالهما جميعا ويقسم الباقي بينهما على قدر ما كان لكل واحد منهما لانه ليس أحدهما بأن يجعل الهالك من نصيبه بأولى من الآخر والاصل في المال المشترك إذا هلك شئ منه ان ما هلك هلك على الشركة وما بقى على الشركة باعتبار أن الهالك يجعل كأن لم يكن (وان) فعل ذلك إنسان ممن هو في عيال المودع من صغير أو كبير أو مملوك أو أجنبي فلا ضمان فيه على المستودع لانعدام الخلط منه حقيقة وحكما فان فعل من في عياله كفعله فيما هو مأمور به من جهته صريحا أو دلالة وذلك لا يوجد في الخلط ولكن الضمان على الذى خلطها بمباشرة الفعل الموجب للضمان والصغير والكبير في ذلك سواء لان الصغير مؤاخذ بضمان الفعل فان تحقق الفعل بوجوده لا ينعدم بالحجر بسبب الصغر * ثم الخلط أنواع ثلاثة (خلط) يتعذر التمييز بعده كخلط الشئ بجنسه فهذا موجب للضمان لانه يتعذر به على المالك الوصول إلى عين ملكه * وخلط يتيسر معه التمييز كخلط السود بالبيض والدراهم بالدنانير فهذا لا يكون موجبا للضمان لتمكن المالك من الوصول إلى عين ملكه فهذه مجاورة ليس بخلط * وخلط يتعسر معه التمييز كخلط الحنطة بالشعير فهو موجب للضمان لانه يتعذر على المالك الوصول الي عين ملكه الابحرج والمتعسر كالمتعذر كما بيناه في الغصب (فان قيل) تمييز الحنطة من الشعير ممكن بأن يصب من ماء فترسب الحنطة ويطفو الشعير (قلنا) في هذا إفساد للمخلوط في الحال. اثم الحنطة لا تخلو عن حبات الشعير كما لا يخلو الشعير عن حبات الحنطة فما كان من حيات الحنطة لصاحب الشعير يرسب وما كان من حبات الشعير لصاحب

[ 111 ] الحنطة يطفو فعرفنا أن التمييز متعذر بهذا الطريق أيضا * وكذلك خلط الجباد بالزيوف ان كان بحيث يتعذر التمييز أو يتعسر فهو موجب للضمان على الخالط وان كان بحيث يتيسر التمييز لا يكون موجبا للضمان عليه * يقول فان لم يظهر بالخلط فقال احدهما أنا آخذ المخلوط وأغرم لصاحبي مثل ما كان له فرضى به صاحبه جاز لان الحق لهما فإذا تراضيا على شئ صح ذلك في حقهما وان أبى ذلك احدهما فانه يباع المخلوط ويقسم الثمن بينهما على قيمة الحنطة والشعير على التفسير الذى بيناه في الغصب قبل هذا الجواب. إنما يستقيم علي قول أبى يوسف ومحمد رحمهما الله ورواية الحسن عن أبى حنيفة رحمهما الله في ان ملك المالك لا ينقطع عن المخلوط بل له الخيار بين الشركة في المخلوط وبين تضمين الخالط فأما علي ما هو الظاهر من مذهب أبى حنيفة المخلوط ملك للخالط وحقهما في ذمته فلا يباع ماله في دينهما لما فيه من الحجر عليه وأبو حنيفة لا يرى ذلك والاصح انه قولهم جميعا لان ملكهما وان انقطع عن المخلوط فالحق فيه باق ما لم يصل الي كل واحد منهما بدل ملكه ولهذا لا يباح للخالط أن ينتفع بالمخلوط قبل أداء الضمان فلبقاء حقهما يكون لهما أن يستوفيا حقهما من المخلوط إما صلحا بالتراضى أو بيعا وقسمة الثمن إذا لم يتراضيا علي شئ * وإذا كان عند الرجل وديعة دراهم أو دنانير أو شئ من المكيل أو الموزون فانفق طائفة منهما في حاجته كان ضامنا لما أنفق منها اعتبارا للبعض بالكل ولو لم يصر ضامنا لما بقى منها لانه في الباقي حافظ للمالك وبما أنفق لم بتعيب الباقي فان هذا مما لا يضره التبعيض فهو كما لو أودعه وديعتين فانفق احداهما لا يكون ضامنا للاخرى. فان جاء بمثل ما أنفق فخلطه بالباقي صار ضامنا لجميعها لان ما أنفق صار دينا في ذمته وهو لا ينفرد بقضاء الدين بغير محضر من صاحبه فيكون فعله هذا خلطا لما بقى بملك نفسه وذلك موجب للضمان عليه * فان كان حين أنفق بعضها وجاء بمثله فخلط بالباقي أفتى بانه صار ضامنا لها كلها فباعها ثم جاء رب الوديعة فضمنها اياه وفى الثمن فضل قال يطيب له حصة ما خلطه بها من ماله من انفضل لانه ربح حصل على ملكه وضمانه ويتصدق بحصة الثاني من الوديعة في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وفي قول أبى يوسف رحمه الله لا يتصدق به لانه بالضمان قد ملكه مستندا إلى وقت وجوب الضمان ولهذا نفذ بيعه فكان هذا ربحا حاصلا على ملكه وضمانه فيطب له كما في حصة ملكه وهما يقولان هذا ربح حصل له بكسب خبيث فانه ممنوع من بيع الوديعة (8 مبسوط حادى عشر)

[ 112 ] اما لبقاء ملك المودع كما في الباقي بعد الخلط في احدى الروايتين أو لبقاء حقه على ما قلنا والربح الحاصل بكسب خبيث سبيله التصدق به ولان المودع عند البيع يخبر المشترى انه يبيع ملكه وحقه وهو كاذب في ذلك والكذب في التجارة يوجب الصدقة بدليل حديث قيس بن عروة الكنانى قال كنا نتبايع في الاسواق بالاوساق ونسمى أنفسنا المسا سرة فدخل علينا رسول الله ﷺ وسمانا بأحسن الاسماء وقال يا معشر التجار ان تجارتكم هذه يحضرها اللغو والكذب فشوبوها بالصدقة فعملنا بالحديث في ايجاب التصدق بالفضل وهذا إذا كانت الوديعة شيئا يباع فان كانت دراهم فالدراهم يشترى بها ثم ينظر ان اشترى بها بعينها ونقدها لا يطيب له الفصل أيضا وان اشترى بها ونقد غيرها أو اشترى بدارهم مطلقة ثم نقدها يطيب له الربح هنا لان الدراهم لا تتعين بنفس العقد ما لم ينضم إليه التسليم ولهذا لو أراد أن يسلم غيرها كان له ذلك فأما بالقبض يتعين نوع تعين ولهذا لا يملك استرداد المقبوض من البائع ليعطيه مثلها فلهذا قلنا إذا استعان في العقد والنقد جميعا بالدراهم الوديعة أو المغصوبة لا يطيب له الفضل وكذلك إن اشترى بها مأكولا ونقدها لم يحل له أن يأكل ذلك قبل أداء الضمان ولو اشترى بدراهم مطلقة ثم نقد تلك الدراهم حل له أن ينتفع بها * وفي النوادر لو اشترى دينارا بعشرة دراهم ونقد الدراهم المغصوبة لم يحل له ان ينتفع بالدينار ما لم يؤد الضمان لان صاحب الدراهم إذا استحق دراهمه فسد العقد ووجب عليه رد الدنيار فكانت كالمقبوض بحكم عقد فاسد بخلاف مالو نقدها في ثمن الطعام لانه بالاستحقاق هناك لا يبطل الشراء بل يبقى الثمن دينا في ذمته كما كان * وعلى هذا قالوا لو غصب ثوبا واشترى به جارية لم يحل له أن يطأها لانه لو استحق الثوب لزمه رد الجارية * ولو تزوج بالثوب المغصوب امرأة حل له أن يطأها لان المغصوب منه إذا استحق الثوب لا يبطل النكاح ولا التسمية (فان) كان أخذ بعض الوديعة لينفقه في حاجته ثم بداله فرده إلى موضعه ثم ضاعت الوديعة فلا ضمان عليه لان رفعه حفظ فلا يكون موجبا للضمان عليه * بقى مجرد نية الانفاق في حاجته وبمجرد النية لا يصير ضامنا كما لو نوى أن يغصب مال انسان وهذا لقوله ﷺ ان الله تعالى تجاوز لامتي عما حدثت به أنفسهم ما لم يعملوا أو يتكلموا والعراقيون يقولون كادو لما أي كاد يعصى فعصم والمعصوم لا يعاقب بعقوبة من عصى. ولئن صار ضامنا بارفع فقد عاد الي الوفاق برد العين الي مكانه وذلك يبرئه عن الضمان عندنا علي ما نبينه بخلاف

[ 113 ] ما سبق لان هناك انما جاء بملك نفسه فوضعه مكان ما أنفق ولهذا لا يكون عودا الي الوفاق فيما خالف فيه وهنا انما جاء بالوديعة بعينها فتحقق عوده إلى الوفاق وهذا أولى الوجهين عندي فانه لو باعها ثم ضمن قيمتها نفذ البيع من جهته وانما يستند ملكه بالضمان إلى وقت وجوب الضمان فلو لم يكن الرفع للبيع موجبا للضمان عليه قبل البيع والتسليم لم يستند ملكه إلى تلك الحالة فينبغي ان لا ينفذ بيعه والرواية محفوظة في هذا الكتاب وفى المضاربة ان البيع نافذ فعرفنا ان الاوجه هو الطريق الثاني (وإذا) طلب المودع الوديعة فقال المستودع قد رددتها عليك فالقول قوله مع يمينه لانه أمين والقول قول الامين مع اليمين لانكاره السبب الموجب للضمان واخباره بما هو مسلط عليه وهو رد الوديعة على صاحبها والمودع هو الذى سلطه على ذلك فيجعل قوله كقول المسلط الا انه يستحلف لنفى التهمة عنه * وكذلك لو سرقت أو ضاعت أو ذهبت وقال لا أدرى كيف ذهبت لانه أمين أخبر بما هو محتمل ولانه ينكر وجوب الضمان عليه والمالك يدعى عليه سبب الضمان وهو المنع بعد الطلب فلا يصدق إلا بحجة (واختلف) المتأخرون رحمهم الله فيما إذا قال ابتداء لا أدرى كيف ذهبت فمنهم من يقول هو ضامن لها لانه جهلها بما قال والمودع بالتجهيل يصير ضامنا بخلاف ما إذا قال ذهبت ولا أدرى كيف ذهبت لانه بقوله ذهبت يخبر بهلاكها ويكفيه هذا المقدار فلا معتبر بعد ذلك بقوله لا أدرى كيف ذهبت والاصح انه لا يصير ضامنا لانه مخبر بهلاكها محترز عن الكذب والمجازفة في القول بقوله لا أدرى كيف ذهبت وهذا لان أصل الذهاب معلوم من هذا اللفظ لا محالة وانما التجهيل في كيفية الذهاب والاخبار بأصل الذهاب يكفى في براءته عن الضمان * وان قال بعثت بها اليك مع رسولي وسمى بعض من في عياله فهو كقوله رددتها عليك لان يد من في عياله لما جعل كيده في الحفظ فكذلك في الرد يد من في عياله كيده فلا يصير بهذا مقرا بالسبب الموجب للضمان عليه (وإذا) قال بعثت بها اليك مع أجنبي فهو ضامن حتى يقر المودع بوصولها إليه عندنا (قال) ابن أبى ليلى رحمه الله لا ضمان عليه وهذا بناء على أن عنده للمودع أن يودع غيره لانه يحفظ الوديعة على الوجه الذى يحفظ ماله وقد يودع الانسان مال نفسه من أجنبي فكذلك له أن يودع الوديعة من غيره فلا يصير ضامنا بالدفع إلى غيره ليحفظ أو يرد كما في حق من في عياله * وعندنا ليس للمودع أن يودع غيره لان الحفظ يتفاوت فيه الناس والمودع انما رضي بحفظه وأمانته دون غيره فإذا

[ 114 ] دفع إلى أجنبي فقد صار تاركا للحفظ الذى التزمه مستحفظا عليه من استحفظ منه فيكون ضامنا. بخلاف من في عياله فان المودع هو الحافظ له بيد من في عياله لان من في عياله في يده فما في يد من في عياله كذلك فأما إذا دفع إلى أجنبي لا يكون هو حافظا له بل الأجنبي هو الحافظ له والمودع لم يرض بهذا فيكون ضامنا حتى يقر المودع بوصولها إليه فإذا أقر بذلك برئ عن الضمان بوصول المال إلى يد صاحبه كما يبرأ الغاصب بوصول المغصوب الي يد صاحبه * وكذلك العارية في جميع ذلك لانها أمانة كالوديعة. وفي هذا بيان أن المستعير ليس له أن يودع أجنبيا كالمودع وقد قال بعض مشايخنا رحمهم الله له ذلك لان للمستعير ان يعير فيما لا تفاوت الناس في الانتفاع به وفى الاعارة ايداع وزيادة ولكن الاول أصح لان المستعير عندنا مالك للمنفعة فاعاراته من الغير تصرف فيما هو مملوك له وهو المنفعة ثم يتعدى تسليمه إلى العين حكما لتصرفه في ملك نفسه فلا يكون موجبا للضمان عليه فأما ايداعه من الغير فهو تصرف في العين ولا حق له في العين فيكون موجبا للضمان عليه كالايداع من المودع * فان قال بعثت بها اليك مع هذا الاجنبي أو استودعتها اياه ثم ردها علي فضاعت عندي لم يصدق وهو ضامن لها لانه أقر بوجود السبب الموجب للضمان عليه ثم ادعى ما يسقط عنه فلا يصدق كالغاصب إذا ادعى رد المغصوب فان أقام البينة علي ذلك برئ من الضمان لانه أثبت البراءة بالحجة والثابت بالبينة كالثابت باقرار الخصم وهو مذهبنا فان المودع ادا خالف ثم عاد الي الوفاق يبرأ عن الضمان وعند الشافعي رضي الله تعالى عنه لا يبرأ وبيانه في هذه المسألة وفيما إذا لبس ثوب الوديعة ثم نزعه فهلك وحجة الشافعي قوله ﷺ على اليد ما أخذت حتى ترد. وهو حين أخذها للاستعمال صارت مضمونة عليه حتى لو هلكت في تلك الحالة ضمنها فلا يبرأ الا بالرد على المالك ولم يوجد ولان الوديعة تضمن بالخلاف من طريق القول وهو الجحود تارة وبالخلاف من طريق الفعل أخرى ثم إذا ضمنها بالجحود لم يرأ بذلك الخلاف ما لم يردها إلى المالك فكذلك بالاستعمال بل أولى لان الاستعمال يتصل بالعين والجحود لا يتصل به * وقاس بالمستأجر للدابة إلى مكان إذا جاوزه ثم عاد إليه لم يبرأ * وكذلك المستعير يعلم انه أمين ضمن الامانة بالخيانة ولان المودع معير يده من المودع في الحفظ فإذا خالف فقد استرد يد عاريته وهو ينفرد به ثم إذا عاد إلى الوفاق فقد أراد اعادة يده ثانيا منه وهو لا ينفرد به ولان موجب العقد هو الحفظ للمالك وبالخلاف

[ 115 ] يفوت موجب العقد اما لتركه الحفظ أصلا أو لتركه الحفظ للمالك حين حفظها لنفسه فلا يبقى العقد بعد فوات موجبه. ولان الاسنان انما يأتمن الامين علي ماله دون الخائن ومطلق العقد يتقيد بدلالة العرف كالشراء بمطلق الدراهم يتقيد بنقد البلد وإذا تقيد العقد بما قبل الخلاف لا يبقى بعده * وحجتنا في ذلك أن الايداع مطلق فكان باقيا بعد الخلاف * وبيان الوصف انه قال احفظ مالى أو قال احفظه أبدا ولا يشكل على أحد أن هذا اللفظ يتناول الحفظ قبل الخلاف وبعده ثم لم يبطل بالخلاف لان بطلان الشئ بما هو موضع لا بطاله أو بما ينافيه والاستعمال ليس بموضع لابطال الايداع وهو لا ينافيه * ألا ترى ان الامر بالحفظ مع الاستعمال صحيح ابتداء بأن يقول للغاصب أو دعتك وهو مستعمل له والخلاف ليس برد لان الامر قول ورد القول بقول مثله ولان الخلاف يكون في حال غيبة المودع ولو قال رددت الامر في هذه الحالة لم يرتد. ولانه تصرف في حفظ الواجب بالامر على خلاف ما يوجبه وليس بتصرف في الامر وصحة الامر كأن يكون الآمر أهلاله وكون الحفظ مقصودا من المأمور ولم ينعدم شئ من ذلك بخلاف الجحود فانه رد للامر بعينه لان الجاحد يكون متملكا للعين والمالك في ملكه لا يكون مأمورا بالحفظ من جهة غيره والدليل عليه أوامر الشرع فالجحود فيها رد والخلاف لا يكون ردا حتى لو ترك صوما أو صلاة لم يكفر (وكذلك) في أوامر العباد إذا وكله ببيع عين بألف فباعه بخمسمائة وسلم لم تبطل الوكالة مع تحقق الخلاف ومع ان الوكالة جائزة غير لازمة كالايداع. وعذره ان البيع لا يستغرق المدة فالامر به لا يبطل بالخلاف والحفظ يستغرق المدة فيبطل الامر به إذا خالف في بعض المدة هنا وهناك حتى يصير ضامنا * ويشكل بالاستئجار للحفظ فانه يستغرق المدة ثم لا يبطل بالخلاف من طريق الفعل وعذره عن الاجارة انها لازمة حتى لا يبطل بالجحود ضعيف لان بطلان العقد عنده بفوات المعقود عليه واللازم وغير اللازم فيه سواء انما يفترق اللازم وغير اللازم فيما هو رد. ثم في الاستئجار العقد ورد على منفعة الحافظ في المدة والمنفعة تحدث شيئا فشيئا فبترك الحفظ في بعض المدة يبطل العقد في ذلك القدر ويكون باقيا فيما وراءه كبقاء المعقود عليه فكذلك في الحفظ بغير بدل * فأما استئجار الدابة إلى مكان فقد قال بعض أصحابنا رحمهم الله ان استأجرها ذاهبا وجائيا يبرأ عن الضمان بالعود إلى ذلك المكان فيصير ضامنا بالمجاوزة لوجود سبب الضمان ثم بالعود إلى ذلك المكان لا يعود العقد بينهما * ولو سلمنا

[ 116 ] فنقول العقد هناك يرد علي منافع الدابة في ذلك المكان فباخراج الدابة من ذلك المكان يفوت المعقود عليه أصلا وهنا العقد يرد علي منفعة الحافظ وبالخلاف من طريق الفعل لم يفت جميع المعقود عليه انما وقع التغير في التسليم في بعضه لان كان مأمورا بتسليم العين في المصر فإذا أخرجه يتغير التسليم من غير أن يفوت المعقود عليه حتى أن في الاجارة لو حمل عليها حملا آخر في ذلك المكان ثم نزع برئ عن الضمان لبقاء المعقود عليه وتمكن التغير كان في الاستيفاء ولان المستأجر ضامن بالامساك لا في المكان المأمور به وهو في الامساك عامل لنفسه * ألا ترى انه لو أمسكها أياما في بيته كان ضامنا فلا يتحقق الرد منه بعد الخلاف إذا كان ممسكا لمنفعة نفسه فأما المودع لا يضمن بالامساك بل بالاستعمال وقد زال ذلك كله حتى ان في الاجارة إذا لم يضمن بالامساك برئ بترك الخلاف على ما قال في الاجارات إذا استأجرت المرأة ثوب صيانة لتلبسه أياما فلبست بالليل كانت ضامنة فإذا جاء النهار برئت لان الضمان عليها بالاستعمال ليلا دون الامساك (إذا) ثبت بقاء عقد الوديعة فنقول يد المودع كيد المودع فاما ان يجعل في حالة الخلاف كان العين في يد المالك والمستعمل متشبث به فان هلك من عمله ضمن والا فلا كما لو تشبت بثوب في يد صاحبه وهذا اختيار الهندوانى رحمه الله. والاصح انه ضامن إذا هلك في حالة الخلاف سواء كان من استعماله أو من غير استعماله * وفي الكتاب ما يدل عليه فان قال برئ عن الضمان وذلك لا يكون الا بعد صيرورة العين مضمونا عليه * ولو تنازعا في الهلاك انه كان في حالة الخلاف أو بعد ترك الخلاف كان القول قول المالك فعرفنا انه صار ضامنا وطريق صيرورته ضامنا تفويت المعقود عليه ونزع يده ضمنا للخلاف ولكن ما ثبت ضمنا للشئ يتقدر بقدرة ففيما وراء زمان الخلاف يد المودع كيد المودع لبقاء العقد والاستدامة فيما يستدام له حكم الانشاء * ولو أودعه ابتداء برئ عن الضمان باعتبار ان يد المودع كيد المودع فكذلك هنا * وتبين بهذا ان استرداده يد عاريته كان مقصودا علي حالة الخلاف لانه ثبت ضمنا له ودعوى تقييد الامر بما قبل الخلاف كلام باطل فان أحدا لا يظن بصاحب المال أن يقول احفظ مالى ما لم تخن فإذا خنت فلا تحفظ ولكنه يقول احفظ ولا تخن فإذا خنت فاترك الخيانة واحفظه لى لان مقصوده من الامر بالحفظ أن يكون ماله مصونا عنده والحاجة إلى ذلك في حالة الخلاف أظهر * وإذا طلب المودع الوديعة فجحدها المستودع

[ 117 ] كان ضامنا لها لوجهين (أحدهما) أنه بالجحود صار متملكا فان الشرع جعل القول قوله فيما في يده ولا يتملك أحد مال الغير بغير رضاه الا بالضمان ولان المالك عزله عن الحفظ حين طالبه بالرد فهو بالجحود صار مانعا المالك عن ملكه مفوتا عليه يده الثابتة حكما فيكون كالغاصب ضامنا بهذا الطريق. ولم يذكر في الكتاب إذا جحدها لافي وجه المودع * فان قال له إنسان ما حال وديعة فلان عندك فجحدها أو جحدها في وجه المودع من غير أن يطالبه بالرد بأن قال له ما حال وديعتي عندك ليشكره على حفظها فجحدها. وذكر الفصلين في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أنه على قول زفر يكون ضامنا لما ذكرنا انه بالجحود متملك لها ومفوت يد المالك حكما (وقال) أبو يوسف لا يكون ضامنا لان المالك ما عزله عن الحفظ فيكون العقد باقيا وباعتبار بقائه يده كيد المالك في العين ولان الجحود في حال غيبة المالك من الحفظ لانه طريق لدفع طمع الطامعين عنها فلا يكون موجبا للضمان عليه * فان أقام رب الوديعة البينة بعد جحود المودع انه استودعه كذا ثم أقام المستودع البينة انها ضاعت فهو ضامن لها لانه بالجحود صار ضامنا وهلاك المضمون في يد الضامن يقرر عليه الضمان * وكذلك ان أقام البينة انها كانت ضاعت قبل جحوده لان البينة لا تقبل الا بعد نقدم الدعوى * وهو مناقض في كلامه فجحوده أصل الايداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله فلهذا لا تقبل بينته الا أن يقر المودع بذلك فحينئذ لا ضمان على المودع لان الاقرار موجب بنفسه في حق المقر ولان المناقض إذا صدقه خصمه كان مقبول القول * وان قال لم تودعني شيئا ثم قال قد أو دعتني ولكها هلكت فهو ضامن لها لما بينا ان جحوده أصل الابداع يمنعه من دعوى الهلاك قبله والهلاك بعد الجحود يؤكد الضمان عليه * وان قال قد أعطيتكها ثم قال بعد أيام لم أعطكها ولكنها ضاعت لم يصدق وهو ضامن لها * وطعن عيسي في هذا وقال لا ضمان عليه لانه تكلم بكلامين لو تكلم بكل واحد منهما على الانفراد لم يكن ضامنا فبمجموعهما كيف يصير ضامنا * وتقرير هذا من وجهين (أحدهما) أن الضمان يستدعى سببا لا محالة ولم يوجد لان قبضه باذن المالك ولم يوجد منه جحود ليكون ضامنا (والثانى) ان قول المودع رددتها أو هلكت معتبر في نفى الضمان عنه لا في ثبوت الرد به ولهذا لو ادعى الرد علي الرصي لم يضمن الوصي شيئا * وإذا كان المقصود نفى الضمان عنه ولا تناقض بين كلاميه فيما هو المقصود لا يكون ضامنا شيئا * ووجه ظاهر الرواية انه مناقض في كلامه لان اخباره بالرد

[ 118 ] يمنعه من دعوى الهلاك في يده واخباره بالهلاك في يده يمنعه من دعوى الرد فسقط اعتبار كلامه للتناقض فيبقى ساكتا ممتنعا من رد الوديعة بعد ما طولب بها وذلك سبب موجب للضمان عليه فكان ضامنا لهذا * فان قال استودعتني ألف درهم فضاعت وقال الطالب كذبت بل غصبتها منى فالقول قول المستودع لان المقر له يدعى عليه سبب الضمان وهو الغصب والمستودع منكر لذلك ولم يسبق منه اقرار بسبب موجب للضامن انما ذكر أن صاحب المال وضع ماله في موضع فضاع وفعل الانسان في مال نفسه لا يكون موجبا للضمان على غيره * وان قال المستودع أخذتها منك وديعة وقال الآخر بل غصبتني فهو ضامن لها لاقراره بوجود الفعل الموجب للضمان منه في ملك الغير وأهو الاخذ. قال ﷺ على اليد ما أخذت حتى ترد ثم ادعى ما يسقط الضمان عنه وهو اذن المالك اياه في الاخذ فلا يصدق على ذلك ويكون ضامنا الا أن يقيم البينة أو يأتي المالك اليمين فيقوم نكوله مقام إقراره * وان قال رب المال بل أقرضتكها قرضا وقال المستودع بل وضعتها عندي وديعة أو أخذتها منك وديعة وقد ضاعت فلا ضمان عليه لانهما تصادفا علي ان الاخذ حصل باذن المالك فلا يكون موجبا للضمان الا باعتبار عقد الضمان والمالك يدعى ذلك بقوله أقرضتكها والمودع منكر فكان القول قوله لانكاره. ثم بين في خلط الحنطة بالشعير انه ان كان بحيث يستطاع ان يخلص فلا ضمان علي المودع وقد يكون ذلك بأن يدق حبات الحنطة فتغربل فتتميز من الشعير فإذا كان بهذه الصفة كان هذا كخلط البيض بالسود فلا يكون موجبا للضمان (رجل) استودع رجلا ألف درهم وله على المستودع ألف قرض فأعطاه ألف درهم ثم اختلفا بعد أيام فقال الطالب أخذت الوديعة وقال المستودع أعطيت القرض وقد ضاعت الوديعة فالقول قول المستودع لانه هو الدافع للالف فالقول قوله انه من أي جهة دفعه وقد زعم انه دفعه عن جهة قضاء الدين فبرئ من الدين به وبقيت الوديعة في يده وقد أخبر بهلاكها فالقول قوله في ذلك يوضحه انه لو لم يدفع إليه شيئا حتى أخبر بهلاك الوديعة كان القول قوله ولا يجب على الا أداء الالف بدل القرض فكذلك إذا أخبر بهلاك الوديعة بعد أداء الالف (رجل) استودع صبيا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن في قول أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله وهو ضامن في قول أبى يوسف والشافعي رحمهما الله * وجه قولهما ان ضمان الاستهلاك ضمان فعل والصبي والبالغ فيه سواء

[ 119 ] لما بينا أن تحقق الفعل بوجوده. ألا ترى أن الوديعة لو كانت عبدا أو أمة فقتلهما الصبى كان ضامنا بهذا الطريق فكذلك في سائر الاموال ولان الايداع من الصبى باطل لانه استحفاظ من لا يحفظ فكأنه لم يودعه ولكنه جاء فأتلف ماله واستحفاظ من لا يحفظ تضييع للمال فكأنه ألقاه على قارعة الطريق ولو فعل ذلك فاتلفه صبى كان ضامنا فكذا هذا * وحجة أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله ما قال في الكتاب لانه صبى وقد سلطه رب المال على ماله حين دفعه إليه (وفى) تفسير هذا التسليط نوعان من الكلام (أحدهما) أنه تسليط باعتبار العادة لان عادة الصبيان اتلاف المال لقلة نظرهم في عواقب الامور فهو لما مكنه من ذلك مع علمه بحاله يصير كالاذن له في الاتلاف وبقوله احفظ لا يخرج من أن يكون اذنا لانه انما يخاطب بهذا من لا يحفظ فهو كمقدم الشعير بين يدى الحمار وقال لا تأكل. بخلاف العبد والامة لانه ليس من عادة الصبيان القتل لانهم يهابون القتل ويفرون منه فلا يكون ايداعه تسليطا على القتل باعتبار عادتهم وهذا بخلاف الدابة فان من عادتهم اتلاف الدواب ركوبا فيثبت التسليط في الدابة بطريق العادة * والاصح أن نقول معنى التسليط تحويل يده في المال إليه فان المالك باعتبار يده كان متمكنا من استهلاكه فإذا حول يده إليه صار ممكنا له من استهلاكه بالغا كان المودع أو صبيا الا أنه بقوله احفظ قصد أن يكون هذا التحويل مقصورا علي الحفظ دون غيره وهذا صحيح في حق البالغ باطل في حق الصبى لانه لما التزم بالعقد والصبى ليس من أهله فيبقي التسليط على الاستهلاك بتحويل اليد إليه مطلقا بخلاف العبد والامة فان المالك باعتبار يده ما كان متمكنا من قتل الآدمى فتحويل اليد إليه لا يكون تسليطا على قتله ولان الايداع من المالك تصرف في ملكه والمملوك في حكم الدام مبقى على أصل الحرية فلا يتناوله الايداع والتسليط يثبت باعتباره. بخلاف ما لو قال اقتل عبدى لان ذاك استعمال والاستعمال وراء التسليط فان بعد الاستعمال إذا لحقه ضمان يرجع على المستعمل وبعد التسليط يسقط حق المسلط في التضمين لرضاه به ولا يثبت لاحد حق الرجوع عليه ولهذا قلنا في هذا الموضع ان الصبى المستهلك إذا ضمن للمستحق لا يرجع على المودع بخلاف ما لو قال له أتلفه فذلك استعمال للصبى وهذا تسليط له بمنزلة قوله أبحت لك أن تأكل هذا الطعام ان شئت ولو قال ذلك فاكله الصبى لم يضمن ولو جاء مستحق وضمنه لم يرجع علي الذى قال له ذلك فهذا مثله الا أن أبا يوسف يقول قوله احفظه بمنزلة الاستثناء مما تناوله مطلق التسليم

[ 120 ] والاستثناء تصرف من المستثنى على نفسه في حقه فلا يعتبر لصحته حال المخاطب به أو ثبوت ولاية له عليه بل باستثنائه يخرج ما وراء الحفظ من هذا التسليط فإذا استهكله الصبى كان مستهلكا بغير اذنه ولكن أبو حنيفة ومحمد رحمها الله يقولان التسليط بالفعل وهو نقل اليد إليه مطلقا وقوله احفظ كلام فلا يتحقق استثناؤه من الفعل المطلق بل يكون معارضا لذلك الفعل الذى هو تسليط ولا يكون معارضا الا بعد صحته حكما لكون المخاطب من أهل الالتزام بالعقد وذلك في حق البالغ دون الصبى فيبقى التسليط مطلقا في حق الصبى * والدليل عليه ان الصبى لو ضيع الوديعة لم يضمن بأن رأى إنسانا يأخذها أو دله علي أخذها والبائع يضمن بمثله فعرفنا ان العارض صحيح في حق البالغ دون الصبى * وعلى هذا لو أودع عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لم يضمن عند أبى حنيفة ومحمد رحمهما الله حتى يعتق لان العارض صحيح في حقه دون المولى فانه التزام بالعقد وعلى قول أبى يوسف يباع فيه في الحال لان المودع يتصرف على نفسه في الاستثناء فيبقى الاستهلاك بغير اذنه * فان كان العبد صبيا لم يضمن عندهما في الحال ولا بعد البلوغ والعتق لان العارض لم يصح في حقه ولا في حق المولى وان كان الصبي أو العبد مأدنونا كان ضامنا في الحال لان العارض قد صح في حقهما وفى حق المولى فالمأذون من أهل الالتزام بالعقد ولهذا يؤاخذ ان بضمان التضييع * وعلى هذا الخلاف لو أقرض صبيا محجورا عليه أو عبدا محجورا عليه مالا فاستهلكه لان التسليم إليه تسليط وقوله أقرضتك معارض لقوله احفظ في الوديعة على ما بينا * وكذلك لو باع من صبي محجور عليه أو عبد محجور عليه شيئا فاستهلكه فهو علي هذا الخلاف لان التسليم اليهما تسليط وقوله بعت معارض فلا يعمل هذا المعارض في حق الصبي أصلا ولا في حق العبد حتى يعتق فهذا هو الحرف الذى يخرج عليه هذه المسائل (وان) هكلت الوديعة عند الصبي والعبد فلا ضمان عليهما لانعدام صنيع موجب للضمان منهما * وفى قتل العبد والامة يجب عليهما مان يجب قبل الايداع فعلى عاقلة الصبي قيمة المقتول في ثلاث سنين عمدا قتله أو خطأ لان عمد الصبى وخطأ سواء وعلى المملوك القصاص ان قتله عمدا وان قتله خطأ يخاطب المولى بالدفع أو الفداء في العبد وعليه القيمة في المدبر وأم الولد يعنى الاقل من قيمة المقتول وقيمة القاتل وعلى المكاتب أن يسعى في الاقل من قيمته ومن قيمة المقتول * ولو أودع رجلا شيئا فاستهلكه ابن له صغير أو عبد فعلى المستهلك ضمانه في الحال


[ 121 ]

لان قبوله الوديعة يكون إذنا لمن في عياله بان يحفظها والصبى والعبد إذا كان مأذونا في حفظ الوديعة يؤاخذ بضمان الاستهلاك (رجل) استودع رجلا ألف درهم فدفعها المستودع إلى آخر ادعى ان رب الوديعة أمره بذلك لم يصدق عليه الا ببينة (وقال) ابن أبى ليلي هو مصدق في ذلك مع يمينه لان عنده للمودع أن يودع وهو منكر لوجوب الضمان عليه فأما عندنا ليس للمودع أن يودع فدفعه إلى الثاني سبب لوجوب الضمان عليه ثم يدعى ما يسقط الضمان عنه وهو الاذن فلا يصدق الا ببينة كما لو أخذ مال انسان فادعى أنه أخذه باذنه. وله ان يستحلف صاحبها انه لم يأمره بالدفع لانه لو أقر بالامر برئ المودع فإذا أنكر يستحلف لرجاء نكوله * فان كان رب الديعة أمره أن يدفعها إلى رجل فقال قد دفعتها وقال الرجل لم أقبضها منك وقال رب الوديعة لم تدفعها فالقول قول المودع مع يمينه لان دعواه الدفع إلى من أمر المالك بالدفع إليه بمنزلة دعواه الدفع إلى مالكها فيكون مصدقا في براءته عن الضمان دون وصول المال إلى ذلك الرجل حتى لا يضمن ذلك الرجل ما لم تقم البينة على قبضه * وإذا قال صاحب الوديعة للمودع اخبأها في بيتك هذا فخبأها في بيت آخر في داره تلك فضاعت فلا ضمان عليه استحسانا وفي القياس هو ضامن لانه خالف أمره نصا فهو كما لو قال اخبأها في دارك هذه فخبأها في دار أخرى فهلكت * وفي الاستحسان يقول نما يعتبر من كلامه ما يكون مفيدا دون ما لا يكون مفيدا. ألا ترى انه لو قال احفظها بيمينك دون يسارك أو انظر إليها بعينك اليمنى دون اليسرى لم يعتبر لانه غير مفيد * إذا ثبت هذا فنقول البيتان في دار واحدة لا يتفاوتان في معنى الحرزية لان الكل حرز واحد ألا ترى أن السارق إذا أخرج المتاع من أحد البيتين إلى البيت الآخر لم يقطع إذا أخذ قبل أن يخرجه من الحرز فأما الداران يتفاوتان في الحرز فكان تقييده في الدار مفيدا لان كل دار حرز علي حدة * ألا ترى أنه لو قال له لا تخرج بها من الكوفة فخرج بها إلى البصرة كان ضامنا لها لان التقييد في المصرين مفيد فان انتقل من الكوفة إلى البصرة أو إلى غيرها لشئ لم يكن له منه بد فهلكت فلا ضمان عليه لان المودع انما يلتزم شرط المودع بحسب امكانه * ألا ترى أنه لو قال أمسكها بيدك ولا تضعها ليلا ولا نهارا فوضعها في بيته فهلكت لم يضمنها لان ما شرط عليه ليس في وسعه باعتبار العادة فكذلك يسقط اعتبار شرطه إذا لم يجد بدا من الانتقال من بلد إلى بلد فلا ضمان عليه