► من القائد إلى تصحيح العقائد | ☰ |
هذه أمور ينبغي للإنسان أن يقدم التفكر فيها ويجعلها نصب عينيه:
1- يفكر في شرف الحق وضعة الباطل؛ وذلك بأن يفكر في عظمة الله عز وجل، وأنه رب العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق، ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحسن رضوان الله رب العالمين، فكان سبحانه وليه في الدنيا والآخرة؛ بأن يختار له كل ما يعلمه خيرًا له، وأفضل وأنفع وأكمل وأشرف وأرفع، حتى يتوفاه راضيًا مرضيًا، فيرفعه إليه ويقربه لديه، ويحله في جواره مكرمًا منعمًا في النعيم المقيم والشرف الخالد، الذي لا تبلغ الأوهام عظمته. وأن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه شيئًا من نعيم الدنيا فإنما ذلك لهوانه عليه ليزيده بعدا عنه وليضاعف له عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدته.
2- يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة ونسبة بؤس الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة، ويتدبر قول الله عز وجل: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 31-35].
ويفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة لابتلى الله المؤمنين بما لم تجر به العادة من شدة الفقر والضر والخوف والحزن وغير ذلك. وحسبك أن الله عز وجل ابتلى أنبياءه وأصفياءه بأنواع البلاء.
وفي الصحيحين من حديث كعب بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تصرعها مرة وتعدلها أخرى حتى يأتي أجله، ومثل المنافق كمثل الأرزة المجذية التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها مرة واحدة».
وفي الصحيحين أيضًا نحوه من حديث أبي هريرة.
ومعنى الحديث – والله أعلم – أن هذا من شأن المؤمن والمنافق، فلا يلزم منه أن كل منافق تكون تلك حاله، لا يناله ضرر ولا مصيبة إلا القاضية.
والمقصود من الحديث تهذيب المسلمين؛ فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب راجيًا أن تكون خيرًا له عند ربه عز وجل، ولا يتمنى خالصًا من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية أن تكون إنما هيئت له لاختلال إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله عز وجل، فلا يخلد إلى الراحة ولا يبخل ولا يعجب بما أوتيه ولا يستكبر ولا يغتر.
ولم يتعرض الحديث لحال الكافر لأن الحجة عليه واضحة على كل حال.
وأخرج الترمذي وغيره من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل النبي ﷺ: أي الناس أشد بلاء؟ قال: «الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة هون عليه...» الحديث. قال الترمذي: حسن صحيح.
وقد ابتلى الله تعالى أيوب بما هو مشهور.
وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على قلبه، فكان كما قصه الله عز وجل في كتابه: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يأَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84].
وابتلى محمدًا ﷺ بما تراه في أوائل السيرة، فكلفه أن يدعو قومه إلى ترك ما نشؤوا عليه تبعًا لآبائهم من الشرك والضلال ويصارحهم بذلك سرًا وجهارًا ليلا ونهارًا، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم وقراهم، فاستمرَّ على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة، وهم يؤذونه أشد الأذى؛ مع أنه كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذى، إذ كان من قبيلة شريفة محترمة موقرة في بيت شريف محترم موقر، ونشأ على أخلاق احترمه لأجلها الناس ووقروه، ثم كان مع ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس. ومن كانت هذه حاله يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى ويشق عليه غاية المشقة الإقدام على ما يعرضه لأن يؤذى ويتأكد ذلك في جنس ذلك الإيذاء: هذا يسخر منه وهذا يسبه وهذا يبصق في وجهه – بأبي هو وأمي -. وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه إذا سجد لربه. وهذا يضع سلى الجزور على ظهره وهو ساجد. وهذا يأخذ بمجامع ثوبه ويخنقه. . وهذا ينخس دابته حتى تلقيه. وهذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه ويحذر الناس منه ويقول: إنه كذاب وإنه مجنون. وهؤلاء يغرون به السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دمًا. وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة طويلة في شعب ليموتوا جوعًا. وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب: فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء. ومنهم من ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره، ومنهم امرأة عذبوها لترجع عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في فرجها فقتلها. كل ذلك لا لشيء إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور ومن الفساد إلى الصلاح ومن سخط الله إلى رضوانه ومن عذابه الخالد إلى نعيمه الدائم، ولم يلتفتوا إلى ذلك مع وضوح الحجة، وإنما كان همهم أنه يدعوهم إلى خلاف هواهم.
ومن وجه آخر: ابتلى الله عز وجل نبيه ﷺ بأن قبض أبويه صغيرًا، ثم جده، ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه وتخفف عنه، ثم لم يزل البلاء يتعاهده ﷺ، وتفصيل ذلك يطول، وهذا وهو سيد ولد آدم وأحبهم إلى الله عز وجل.
فتدبر هذا كله لتعلم حق العلم أن ما نتنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا وجاهها ليس هو بشيء في جانب رضوان الله عز وجل والنعيم الدائم في جواره، وأن ما نفر منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيء في جانب سخط الله عز وجل وغضبه والخلود في عذاب جهنم.
وفي الصحيح من حديث أنس قال: قال رسول الله ﷺ: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيصبغ في النار صبغة ثم يقال له: يا ابن آدم هل رأيت خيرًا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ وهل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط».
3- يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية:
فأما المؤمن فإنه يأتي الطاعة راغبًا نشيطًا لا يريد إلا وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فإن عرضت له رغبة في الدنيا، فإلى الله تعالى فيما يرجو معونته على السعي للآخرة، فإن كان ولا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة، وهو على كل حال متوكل على الله راغب إليه سبحانه أن يختار له ما هو خير وأنفع. ثم يباشر الطاعة خاشعًا خاضعًا مستحضرًا أن الله عز وجل يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على الوجه الذي شرعه الله عز وجل. وهو مع ذلك كما قال تعالى: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60]، فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة. وذلك أن النية الصالحة قد تكون من قوي الإيمان وقد تكون من ضعيفه الذي إنما يطيع احتياطًا، وقد لا تكون خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أو رغبة في الآثار الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس كالذي يصوم ويقوم ليكون من أهل الكشف فيطلع على العجائب والمغيبات فيلتذ بذلك ويعظم جاهه بين الناس، وكذلك يتعبد ليحصل له الكشف فيصفو إيمانه (!) ويستريح من الوسوسة ومدافعة الشبهات! فإن هذه الطريقة غير مشروعة، ومن شأنها أن تجر إلى تعاطي الأسباب الطبيعية لتقوية النفس، وإن كانت منهيًا عنها في الشرع، كما هو معروف في بدع المتصوفة، ومن حصل له الكشف بهذه الطريق فهو مظنة أن يضعف إيمانه أو يزول عقوبة له على سلوكه غير السبيل المشروع حتى لو كشف له عن شيء مما يجب الإيمان به فشاهده لم ينفعهُ هذا الإيمان، كما يُعلمُ مما تقدم - وإنما المشروع أن يجاهد نفسه ويصرفها عن الشبهات والوساوس، مستعينًا بطاعة الله تعالى والوقوف عند حدوده، مبتهلا إليه عز وجل أن يثبت قلبه بما شاء سبحانه، فهذا إنما يحمل على اتباع الشرع والاهتداء بهداه - وكمنفعة البدن كالذي يصوم ليصح ويصلي التراويح لينهضم طعامه. وكموافقة الإلف والعادة كمن اعتاد الصلاة من صباه، فيجد نفسه تنازعه إلى الصلاة فلا تستقر حتى يصلي، فإن هذا قد يكون كالذي اعتاد العبث بلحيته، فيجد نفسه تنازعه إلى ذلك حتى لو كف عن ذلك أو منع منه شق عليه. وكحب الترويح عن النفس، كالذي يأتي الجمعة ليتفرج ويلقى أصحابه ويقف على أخبارهم. وكمراءاة الناس لكي يمدحوه ويثنوا عليه فيعظم جاهه ويصل إلى أغراضه ولا يمقتوه. إلى غير ذلك من المقاصد، كالمرأة تتزين وتتعطر وتخرج إلى الصلاة لتشاهد الرجال وتلفتهم إليها. وكالعالم يريد أن يراه الناس ويعظموه ويستفتوه، فيشتهر علمه ويعظم جاهه. وكالمنتسب إلى الصلاح، يريد أن يعظمه الناس ويقبلوا يديه ورجليه ويشتهر ذكره ويتساقط الناس في شبكته. وكالحاكم النابه، يريد أن يتطاول الناس إلى رؤيته ويتزاحموا وترتفع أصواتهم بمدحه وغير ذلك.
والمؤمن وإن خلصت نيته في نفس الأمر لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه.
والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وذلك من أوجه:
منها أن للصلاة مثلا شرائط وأركانًا وواجبات قد اختلف في بعضها، والمجتهد إنما يراعي اجتهاده، فيخشى أن يكون قصر في اجتهاده أو استزله الهوى، والعامي إنما يتبع قول مفتيه أو إمامه أو بعض فقهاء مذهبه، فيخشى أن يكون قصر أو اتبع الهوى في اختيار قول ذلك المفتي أو في الجمود على مذهب إمامه في بعض ما اختلف فيه.
ومنها أن روح الصلاة الخشوع، والنفس تتنازعها الخواطر، فلا يثق المؤمن بأنه خشع كما يجب، فإن حاولت نفس المؤمن أن تقنعه بإخلاصها في نيتها واجتهادها وخشوعها خشي على نفسه أن يكون مغرورًا مسامحًا لنفسه.
وهكذا تستمر خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة، يرجو أن يكون قبلها الله تعالى بعفوه وكرمه ويخشى أن تكون ردت لخلل فيها وإن لم يشعر به أو لخلل في أساسها وهو الإيمان.
هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ} [الأعراف: 201، 202].
فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه. فقد يطيف به الشيطان فيغفله عن قوة إيمانه، فيغلبه هواه فيصرعه، وهو – حال مباشرة المعصية – ينازع نفسه، فلا تصفو له لذتها، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض حتى يتذكر فيستعيد قوة إيمانه فيثب يعض أنامله أسفًا وحزنًا على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه عازمًا على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة.
وأما إخوان الشياطين، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه ويمنونهم الأماني فيقنعون!
فمن الأماني أن يقول:
الله قدّره علي، فما شاء فعل!
وقد اختلف العلماء في حرمة هذا الفعل!
قد اختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر أمرها هين!
لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب!
لعل الله يغفر لي!
لعل فلانا يشفع لي!
سوف أتوب!
وأحسن حاله أن يقول: أستغفر الله، أستغفر الله... ويرى أنه قد تاب ومحي ذنبه.
قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122) لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 119-124].
وقال الله عز وجل: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [الأعراف: 169].
وفي مسند أحمد والمستدرك وغيرهما من حديث شداد بن أوس عن النبي ﷺ قال: «الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني».
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: «إن المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، وإن الفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا - أي بيده – فذبه عنه».
4- يفكر في حاله مع الهوى: افرض أنه بلغك أن رجلا سب رسول الله ﷺ، وآخر سب دواد عليه السلام، وثالثًا سب عمر أو عليًا رضي الله عنهما، ورابعا سب إمامك، وخامسًا سب إمامًا آخر! أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديد بهم موافقًا لما يقتضيه الشرع، فيكون غضبك على الأول والثاني قريبًا من السواء وأشد مما بعدهما جدًا، وغضبك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريبًا من السواء ودون ما قبلهما بكثير؟
افرض أنك قرأت آية، فلاحَ لك منها موافقة قولِ لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قولٍ آخر له، أيكون نظرك إليهما سواء لا تبالي أن يتبين منهما بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته؟
افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولا لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف؟
افرض أنك نظرت في مسألة قال إمامك فيها قولا وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منهما فتبين رجحانه؟
افرض أن رجلا تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر، ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟
افرض أنك وعالمًا تحبه وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية واطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صوابًا، ثم بلغك أن عالمًا آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها؛ أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك؟
افرض أنك تعلم من رجل منكرًا وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن عالمًا أنكر عليه وشدد النكير؛ أيكون استحسانك لذلك سواءً فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك والمنكر عليه صديقك أم عدوك؟
فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به؟ فهل تجد استشناعك ما هو عليه مساويًا لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساويًا لمقتك إياه؟
وبالجملة؛ فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى. وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعمًا أنه له هوى لي! فيلوح لي فيها معنى فأقرره تقريرًا يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذلك الخادش وتنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب! وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولا تقريرًا أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لم يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعتهُ في الناس ثم لاح لي الخدش؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلا آخر اعترض علي به؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه؟
هذا ولم يكلف العالم بأن لا يكون له هوى؛ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن هواها حتى يعرفه ثم يحترز منه ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان له أنه مخالف لهواه آثر الحق على هواه.
وهذا – والله أعلم – معنى الحديث الذي ذكره النووي في الأربعين وذكر أن سنده صحيح وهو: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به».
والعالم قد يقصر في الاحتراس من هواه ويسامح نفسه فتميل إلى الباطل فينصره وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجو منه إلا المعصوم.
وإنما يتفاوت العلماء. فمنهم من يكثر منه الاسترسال مع هواه ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد، ومنهم من يقل ذلك منه ويخف.
ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسًا رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين له ذلك إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفًا لما في تلك الكتب. على أنه إذا استرسل مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى، وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى.
وقد كان من السلف من يبالغ في الاحتراس من هواه حتى يقع في الخطأ من الجانب الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوه وعدوه فيبالغ في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق ويكون عن يمينه مزلة فيتقيها ويتباعد عنها فيقع في مزلة عن يساره!
5- يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكون قد سلف منه تقصير أو لا:
فعلى الأول: إن استمر على ذلك كان مستمرًا على النقص ومصرًّا عليه ومزدادًا منه، وذلك هو نقص الأبد وهلاكه. وإن نظر فتبين له الحق فرجع إليه حاز الكمال وذهبت عنه معرة النقص السابق، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وفي الحديث: «كلكم خطاءون وخير الخطائين التوابون».
وأما الثاني: وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير، فلا يلزمه بما تقدم منه نقص يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبه، فإن تنبه وتدبر فعرف الحق فاتبعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فاحتاط، وإن أعرض ونفر فذلك هو الهلاك.
6- يستحضر أن الذي يهمه ويسأل عنه هو حاله في نفسه، فلا يضره عند الله تعالى ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه أو مربيه أو أسلافه أو أشياخه على نقص. والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلموا من هذا. وأفضل هذه الأمة أصحاب رسول الله ﷺ ورضي الله عنهم، وكان آباؤهم وأسلافهم مشركين.
هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم ينبهوا ولم تقم عليهم الحجة.
وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطإٍ يؤاخذون به، فاتباعك لهم وتعصبك لا ينفعهم شيئًا بل يضرهم ضررًا شديدًا، فإنه يلحقهم مثل إثمك ومثل إثم من يتبعك من أولادك وأتباعك إلى يوم القيامة. كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من يتبعك إلى يوم القيامة. أفلا ترى أن رجوعك إلى الحق هو خير لأسلافك على كل حال؟
7- يتدبر ما يرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين وحسن عنايته في الدنيا والفوز العظيم الدائم في الآخرة؛ وما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز وجل والمقت في الدنيا والعذاب الأليم الخالد في الآخرة.
وهل يرضى عاقل لنفسه أن يشتري لذة اتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين وحرمان رضوانه والقرب منه والزلفى عنده والنعيم العظيم في جواره وباستحقاق مقته وسخطه وغضبه وعذابه الأليم الخالد؟
لا ينبغي أن يقع هذا حتى من أقل الناس عقلا، سواء أكان مؤمنًا موقنًا بهذه النتيجة أم ظانًّا لها أم شاكًا فيها أم ظانًّا لعدمها، فإن هذين يحتاطان. وكما أن ذلك الاشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه، فكذلك من يسامح نفسه فلا يناقشها ولا يحتاط.
8- يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له، فلا يسامحها في ترك واجب أو ما يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية أو ما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه، ويروضها على التثبت والخضوع للحق، ويشدد عليها في ذلك حتى يصير الخضوع للحق ومخالفة الهوى عادة له.
9- يأخذ نفسه بالاحتياط فيما يخالف ما نشأ عليه، فإذا كان فيما نشأ عليه أشياء يرى أنه لا بأس بها أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول إنها شرك أو بدعة أو حرام، فليأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج الواضحة صحة ما نشأ عليه.
وهكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله، فإن وجدت نفسك تأبى ذلك، فاعلم أن الهوى مستحوذ عليها، فجاهدها.
واعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف – أعني أن يثبت عنده أن ما يدعى إليه أحوط مما هو عليه – كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل؛ وبذلك قامت الحجة على أكثر الكفار.
فمن ذلك المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما يدعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أن مالك الضر والنفع هو الله عز وجل وحده، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدة دعوا الله وحده: قال تعالى: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [لقمان: 32]. وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67].
وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم في أحوال الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثل ذلك، ثم عرض عليهم الإسلام وعرفوا على الأقل أنه يمكن أن يكون حقًّا، وأنه إن كان حقًّا ولم يتبعوه تعرضوا للمضار الدنيوية وللخسران الأبدي في الآخرة؛ فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا، لأنه إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم، فلم يمنعهم من الإسلام إلا اتباع الهوى!
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52]. وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف: 10].
وتكذيبهم للحق وإعراضهم عنه – بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه واتباعه أحوط لهم وأقرب إلى النجاة – ظلم شديد منهم، استحقوا به أن لا يهديهم عز وجل إلى استيقان أنه حق، وهذا كما تقدم في قصة نوح.
وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ} [الأعراف: 101]. ونحوها في سورة يونس [74]، وفيها: {كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ}. وقال الله عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 109، 110].
وفي تفسير ابن جرير (7/194): عن ابن عباس قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ}.. قال: «لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر».
وهذا هو الصحيح، الكاف في قوله: {كَمَا} للتعليل، وكذلك هي في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198].
قال ابن جرير في تفسيره (2/163): «يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام بالثناء عليه والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم له بالخضوع له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق».
وهو الظاهر في قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 239].
قال ابن جرير (3/337): «فاذكروا الله في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم».
وقد ذكر ابن هشام في المغني هذا المعنى للكاف، فراجعهُ.
وفي الإتقان: «الكاف حرف جر له معان، أشهرها التشبيه.. والتعليل نحو {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ} [البقرة: 151]، قال الأخفش: أي لأجل إرسالنا فيكم رسولا منكم فاذكروني، {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198]، أي لأجل هدايته إياكم..».
10- يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات، فإنه إذا تم له ذلك هان عليه الخطب، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق، فلا يحتاج إن كان راغبًا في الحق قانعًا به إلى الإعراض عن شيء جاء من معدن الحق، ولا إلى أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا ينظر إلى ما يجيئه من معدن الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق، والله الموفق.