الرئيسيةبحث

مؤلف:ابن المعتز

ابن المعتز
(861–908)

يمثل شعرنا العربي القديم، زمنياً، وفي مختلف عصوره مصدراً خصباً لتأملات لا تنتهي في التجربة البشرية وشقاء الإنسان ونعيمه وفي علاقاته المتعددة وموقفه من الكون والحياة. إن متعة قراءة نص شعري جيد قديم مضمونة الفائدة وتخلق درجة من اللذة الجمالية والنشوة العميقة يعرفها جيداً كلُّ من أدمن قراءة ذلك الشعر. كما أنها خاصية يشترك فيها كل شعر جيد. وغني عن القول الإشارة إلى أن مبعث تلك الهزة ليس الصوت الخطابي العالي، وإنما جملة من الخصائص الفنية والجمالية والذاتية التي تميـِّز كل نص كما تميز كل منتج. وبالنسبة للدارس فإنه عندما تعوزه الوثائق التاريخية المتصلة بحياة شاعر ما فإن إنتاجه نفسه سيمد الباحث بالكثير من المعلومات الأدق والأضبط حول حياته وفنه.

وربما يعزى سقوط بعض الدراسات الأدبية في إعطاء صورة دقيقة لشاعر ما أنها اعتمدت اعتماداً تاماً أو شبه تام على وثائق تاريخية ولم تعد للوثيقة الأصح وهي إنتاجه الشعري. والعكس صحيح، فإن الدراسات الأدبية الناجحة هي تلك التي تنطلق من الشعر ولا تفارقه في تمحيص أفكار قد تكون مدسوسة على الشاعر أو مقولات بها مغالطات شاعت وتناقلها الدارسون وكأنها مسلمات لا يلحقها التشكيك.

وفي دراسة لنا سعدنا فيها بالاقتراب من تجربة شعرية نعدها مميزة من تجارب الشعر العربي اجمالاً والعباسي تحديداً وهي تجربة الشاعر الأمير عبدالله بن المعتز بن المتوكل (247-296هـ/861-908م) بما فيها من ثراء واشتغال خلاق لإحكام أهم مكون من مكونات الشعر وهو الصورة الفنية، وبما فيها من انتصار لحركة التغيير المرتبطة بتيار الحداثة في مقابل التيار العنيف الرافض لها. وسنورد من شعر ابن المعتز بعض الشواهد لتوضيح ما نقول ولإمداد القارىء ببعض من نماذجه الشعرية خاصة أن ديوانه طبع عدة مرات في طبعات تجارية شوهت شعره، بل حتى النماذج القليلة التي استشهد له بها أدونيس في مختاراته للشعر العربي يشوبها الكثير من التشويش لاعتمادها على تلك الطبعات التجارية. ولم يظهر جهد حقيقي في إخراج ديوانه سوى ما قام به لاحقاً الدكتور يونس أحمد السامرائي.

لقد تعرضّت صورة الشاعر ابن المعتز للتنميط في إطار «الأمير الأرستقراطي المرفـّـه»، وبالتالي فإن إنتاجه عامة الشعري وغير الشعري قد وسم بأنه لا يحمل تميّزاً يذكر، فهو مشغول بقصفه ولهوه ووصف ماعون بيته. والعبارة الأخيرة للشاعر ابن الرومي الذي نيل من شأن صوره وأهميتها، وقيل له: لم لا نجد عندك من التشبيهات الرائعة ما نجده عند ابن المعتز؟ فقال: حيث يقول ماذا؟ فأجيب: حيث يقول مصوراً الهلال:

انظر إليه كزورق من فضة

قد أثقلته حمولة من عنبر

فقال ابن الرومي، مقالة جنت لاحقاً على ابن المعتز لأنها نمطته في الإطار المشار إليه،: واغوثاه، إنه يصف ماعون بيته. أي أنه أمير مرفّه يرى الفضة والعنبر فيشبه بهما. ثم إن ابن الرومي انتصر لنفسه قائلاً ومتابعاً: ولكن انظروا ما أصنع عندما أشبِّه فاقول:

إن أنس لا أنس خبازاً مررت به

يدحو الرقاق كلمح العين بالبصر

ما بين رؤيتها في كفِّه كرةً

وبين رؤيتها قوراء كالقمر

إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ

في لجة الماء يلقى فيه بالحجر

ثم جاءت دراسات المحدثين فعززت هذه الرؤية كما فعل الدكتور طه حسين الذي رأى في كتابه من حديث الشعر والنثر أن ابن المعتز أمير من «... أمراء هذا القصر العباسي العظيم، وهو سلالة مباشرة لجماعة من كبار الخلفاء الإسلاميين، فأبوه المعتز كان خليفة وجده المتوكل ثم المعتصم ثم الرشيد ... والذي يعنيني هو هذه البيئة الخاصة التي نشأ فيها ابن المعتز والذي كان لها في تكوينه الفني أثر بعيد جداً ...». والأثر الذي يومئ إليه طه حسين هو ما يشيع من ارستقراطية الفن عند ابن المعتز. وقد تبعه جملة من الدارسين من بينهم عبد العزيز سيد الأهل وعبد العزيز الكفراوي ومصطفى الشكعة وعبد الله التطاوي. وإن كان بينهم من أشار إشارات خاطفة إلى شقاء يمكن أن يلمس في شعر ابن المعتز دون أن يكمل الاستقصاء متأثراً، ربما، بالصورة الشائعة.

غير أن القراءة المتأنية تكشف عن تجربة مختلفة لحمتها الشقاء وسداها الألم، وتكشف عن شعرية لها طابع خاص في تلك الفترة المليئة بالتجارب الشعرية المتنوعة من العصر العباسي. كما تكشف عن وهج نقدي أثرى المرحلة بنظرات لها طابع الموضوعية والسبق في الحكم المعتدل على ذلكم الجديد.

كتب ابن المعتز شعراً في معظم الأغراض المطروقة، ومن أبرزها المديح والرثاء والفخر والهجاء والطرد والخمريات والغزل والحكمة. وفي تلك الأغراض ومع اختلاف الموضوعات الجزئية التي يتناولها نجد قاسماً مشتركاً وهو حضور ملفت على مستوى المشبه به لصوره الفنية يرتبط بالجواهر والعطور والمواد الكمالية الثمينة. فالممدوح في بهائه وحسن أخلاقه صيغ من درٍّ وعنبر:

أفْرِغَ من درّة وعَنْبَرَة

حُسْناوطيباً في خُلْقـِه ائتلفا

أما مغنيته السوداء التي يتعشقها فيلفته إليها إلى جانب إتقانها لصنعتها سواد شعرها الذي هو كالليل وبياض أسنانها التي هي كالدرِّ وعذوبة وسحر ريقها الذي هو كالخمر:

وظاهرة في نصفِ شهر لمنْ يَرى

وَلكنّها مكتــــومــةٌ آخــرَ الــشّــــهْـر

تـداخــلُ فـي لـيل المحــاق بـمـثـْلِـهِ

وتَضْحَكُ عَنْ دروتَسْقيكَ مِنْ خَمْر

وفي الرثاء لا يغيب ذلك المصدر المشار إليه. ففي مرثيته لعمه محمد بن المتوكل يصف دموعه بالجمان المنتثر:

ذكرتُ على بعد اللقاءِ محمدا

ففاضتْ دموعي كالجُمان الُمبدّد

أما بكاء الفرح فهو ممزوج بياقوت ودرٍّ:

وقالوا لِمْ بكيتَ دما ودمــعـاً

وقدْ لاقيتَ بعدَ العُسر يُسْرا

فـقـلـتُ لـفـرحتي برضاهُ عنّي:

بـكـيـتُ عـلـيْـهِ يـاقــوتاودرّا

وفي شعر الوصف نستمتع بجملة من الصور التي تستقى من هذه المواد الثمينة؛ ذهباً وفضة وياقوتاً وعنبراً كما في الأبيات التالية التي قالها في التين والنارنج، بل والجزر:

أنعم بتين طابَ طعماواكتسى

حُسْناوقاربَ مخرجاَ مِنْ منــظـر

فـي بــردِ ثـلـج في نقا تبر وفي

ريح العبيروطيب طعم السكّر

وكـأنّـمـا النارنـجُ في أغصانِـه

مِنْ خالص الذهب الذي لم يُخــلـط

كرةٌ رماها الصولجانُ إلى الهوا

فـتـعـلـقـتْ فـي جــوّه لــمْ تَسْقُط

انظرْ إلى الجزر الذي

يحكي لنا لَهَبَ الحريقْ

كَمَذَبّة مِنْ سُنْدُس

وبها نصاب منْ عَقيقْ

أما القمر في مراحله المختلفة والنجوم فقد حازا على نصيب وافر من هذه التشبيهات الكاشفة عن ولع ابن المعتز بملاحقة التناظر الخارجي في الشكل واللون والهيئة بين طرفي الصورة، فالقمر ترس من اللجين:

ومِصْباحُنا قمرٌ مُشْرِقٌ

كَتـِرس اللجين يَشِقُّ الدُّجى

والهـلال نصـف سـوار فــي صــورة أخــرى. والبدر ومـن خلفـه السمـاء كالدرهـم الملقـى عــلى ديباجة زرقاء:

والبدرُ في أفْق السماءِ كدرهم

ملقى على ديباجةٍ زرقاءِ

والانطباع الأول الذي قد يتكون عند القارئ من خلال الأبيات المذكورة يصب في اتجاه ترسيخ تلك الصورة النمطية التي أشرنا إليها آنفاً. غير أن قراءة متأنية لشعر ابن المعتز تكشف ان وراء الأكمة ما وراءها، وأن هذا الفرح الظاهر والاستقبال الباهر بالحياة حزن مقيم وقلق مستمر يكاد لا يهدأ حتى تتصاعد حدته ثانية. وأن هذا الإكثار من ذكر الجواهر وما شابهها ما هو إلا هروب من واقع مرير يحاصر الشاعر. ويتأكد لدينا هذا الفهم من جملة معطيات نجدها في شعر ابن المعتز، من بينها شكوى مستمرة من واقع مسفٍ لا يعترف بحقوق ابن المعتز ولا بإمكانياته.

لئِنْ عــرِّيتُ مِـن دوَلٍ أراهــا

تــجَـدَّدُ كـــلَّ يـوم لـلـكِـلابِ

لقـدْ أخلَـفـُتهـا بَـعْـدَ ابـتـذالٍ

لها، ومَللتُها قَبْلَ الذَّهابِ

وكالعادة عندما يستولي على مجريات السياسة أذناب ليسوا أهلاً يستبدون بالأمر ويستبعدون كل منافس جدير، كما يقول ابن المعتز مصوِّراً ضآلة مستوى الواقع الذي عليه أن يجاريه:

إذا أبصرت في حظي فتوراً

وخطي والبلاغة والبلاغة والبيان

فلا ترتب بفهمي إن رقصي

على مقدار إيقاع الزمان

ومن شأن هذا الوضع أن يضيِّق على الشاعر في حياته وتحركاته أيما تضييق، خاصة أنه له بالسياسة والخلافة علاقة وشيجة يُخشى من أن يطلبها فأُقصيَ وزجَّ به في السجن عدة مرات - لا لمنكر أتاه ولكن لمنع ما عساه أن يحدث- عند فراغ منصب الخلافة وقبل أن يمتلئ بمن يريده المسيطرون على الأمر آنذاك.

ثمة معطى آخر يتصل بالصورة الشعرية وما نجده فيها من تفكك طبيعة العلاقة بين طرفي الصورة الواحدة، حيث نجدها تحمل عناصر تثير مشاعر متناقضة، إذ ترتبط بعض الموضوعات الايجابية بصور تثير انفعالات سلبية مما يشوش الأثر العام للصورة. فوصف مجالس الشراب بما فيها من متع وما يرتبط بذلك من انفعالات ايجابية نجدها يتسرب إليها التشويش بصورة للزق تقطع تلك المتعة:

أتْـلَـفَ المالوما جَـمـّعتُـهُ

طـلــبُ اللــذاتِ فـي مـاءِ العـنـبْ

واستباءُ الزِّقِّ من حانوتِها

شائلَ الرجلين مـعـصوب الذّنبْ

كـلّـمـا كـبّ لـِشرب خِـلـتـهُ

حـبشيـاً قـطـِّعـتْ مـنـه الرُّكبْ

وصورة خمرية أخرى تربط الخمر بالدم:

لَمّـا وَجاها وَجْيةً في نَحرِها

بـِمُـذلّـق لِـطـعـانِها مُعتادِ

جـادَتْ لـه بـِدَم كأنّ نَـفـيّــه

ُ شَرَرٌ يُطيِّرُهُ بـِقَـرْع زِنادِ

ويبدو أن الدم عنده لا يثير المشاعر نفسها التي يثيرها عند الآخرين من اشمئزاز أو تقزز، فهو يحضر كثيراً في مواضع لا نتوقعها.

ومن مجموعة صور التشظي لديه يمكن أن تقدم صورة القمر الذي نجده شديد الحضور في شعره وقد سبق إيراد أمثلة له. أما الصور التالية فنجد القمر فيها مصوراً بشكل يثير انفعالات سلبية أو غير مرغوبة على الأقل، فهو في تقوّسه كظهر الجرذ:

وباتَ كما سَرّ أعداءَهُ

إذا رامَ قُـوتـاً مـن الـنـوم شَـــّذْ

تُغرّزُهُ شَرراتُ البَـعــو

ض في قمر مثل ظهر الجُرَذْ

وفي صورة أخرى كجزء محتقر من الإنسان وهو قلامة الظفر:

ولاحَ ضوءُ هِلال كادَ يَفْضَحُهُ

مثل القُلامةِ قد قُصّتْ من الظُّفُر

أما الصورة الأخيرة فيظهر فيها موقف الشاعر من القمر بشكل أوضح عبر محاولاته المتتالية في البحث له عن شبيه مناسب. لكنه لا يجد للقمر شبيهاً يظهر درجة احتقاره له، ولذا نجده يصفه بجملة من الأوصاف الذميمة وتشبيهاً وحيداً مقززاً يظهر في النهاية:

يا سارقَ الأنوار من شمس الضُّحَى

يا مُثْكِلي طِيبَ الكَرَىومُنَغِّصِي

أمّـا ضـيـاءُ الـشمـس فـيـكَ فَناقِصٌ

وأرَى حـرارةَ نـارِهـا لـم تَنقُص

لَمْ يـظـفَـر الـتـشـبـيـهُ مـنكَ بطائل

مُـتَسَـلِّخٌ بَـهَـقاً كلون الأبرص

هذه الصور وغيرها كثير مما لا يتسع المجال لذكره تكشف عن ألم كبير في حياة الشاعر ابن المعتز وتجربة مريرة أثَّرت عليه وانعكست على إنتاجه.

وشعره سجل دقيق لذلك العذاب الذي عاناه في صباه وفي رجولته لاحقاً. فتجارب سجنه المتتالية حين شغور منصب الخلافة مما أومأنا إليه سابقاً وإقصاؤه عن المشاركة في مجريات الحكم إضافة إلى ما ضرب عليه مما يشبه الإقامة الجبرية والمراقبة الدائمة لسلوكه وعلاقاته. كل ذلك جعل حياته أبعد ما تكون من حياة أمير مرفّه يستمتع بصنوف ملاذ الحياة، وإنما آض أميراً يعيش على ذكرى مجد غابر لأسرته العباسية، وعلى ذكرى سعادة خاطفة عاشها أبّان حكم أبيه الذي لم يدم، كما سنشير بعد قليل.

عاش ابن المعتز فيما يعرف بالعصر العباسي الثاني (٢٣٢-334 هـ) الذي بدأ بنهاية حكم جده الخليفة المتوكل آخر العباسيين العظام المتتابعين. ويوسم هذا العصر بأنه العصر التركي إذ نجد أمراء العسكر من الترك هم المسيطرون على الخلافة ومجريات الدولة في أول غلبة للعنصر الأجنبي على العنصر العربي. ويلي هذه المرحلة مرحلة ثالثة (334-447 هـ) تحكّم فيها عنصر من أصل فارسي هم البويهيون. ثم أخيراً، المرحلة الثالثة (447-٦٥٦ هـ) مرحلة السلاجقة وهم خليط من العنصرين التركي والفارسي. إذن فالإطار التارخي العام الذي كان فيه ابن المعتز هو العهد الذي شهد ضعف النفوذ العربي في بعض من المراحل المتقدمة والمتأخرة إلى نفوذ شكلي يصبح الخليفة لا سلطة له سوى السلطة الشكلية في الدعاء له في الجمع وضرب النقود باسمه. ويحاول الخلفاء العباسيون ومن بينهم أب شاعرنا الخليفة المعتز تقليص ذلك النفوذ التركي أملاً في التخلص منه لاحقاً بوسائل شتى من إدخال قوى جديدة تخلخل من سيطرة الترك ومن محاولة ضرب أمراء الترك ببعضهم من باب «فرِّق تسد». غير أن هذه المحاولات باءت في معظمها بالفشل في إحراز هدفها والنجاح في استمرار درجة غليان الحياة داخل القصر العباسي بين هجوم وهجوم مضاد، واغتيالات سياسية ومؤامرات لا تنتهي.

وتبدأ رحلة الألم في السنة الأولى من حياة شاعرنا حين يقتل جده العظيم المتوكل وأُلقي بأبيه المعتز في السجن ليظل به طوال سنوات ثلاث قادمة. لقد قتل المتوكل في قصره بمؤامرة دبرها ابنه المنتصر وأحد الموالي يسمى وصيف. لقد التقت مطامح هاتين الشخصيتين وهدفا معاً للتخلص من الخليفة. كان المتوكل يميل إلى إقصاء ابنه المنتصر من ولاية العهد لصالح ابنه الآخر المعتز، ابن زوجته الجميلة والمفضلة قبيحة.

وبعد سنوات خمس مرت كلمح البصر، نعم خلالها شاعرنا بهدوء نسبي في كنف والده المعتز الذي صار خلفه بعد أخيه المنتصر، وحاول أن يخفف عن الأمير الصبي ثقل التجارب التي مرَّ بها فأحضر له المعلمين وأدناه من مجلسه ليسعد بقربه وليتعلم منه أصول الحكم. وفي عام 255 هـ/ ٨٦٨ م، وعندما كان الشاعر في عمر التاسعة تقريباً نكب في أبيه المعتز الذي قتل بمؤامرة أخرى من قبل قادة الجند الترك، وهجِّر الشاعر وجدته قبيحة إلى مكة. وبغض النظر عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة للتخلص من المعتز فإن نهايته كانت غاية في البشاعة. ويحكي المسعودي في كتابه مروج الذهب تلك النهاية قائلاً:

«والأشهر في الأخبار ... أنّه أدخل حماماً وأكره في دخوله إياه، وكان الحمام محمياً ومنع من الخروج منه ؛ ثم تنازع هؤلاء: فمنهم من قال إنه ترك في الحمام حتى فاضت نفسه، ومنهم من ذكر أنه أخرج بعد أن كادت نفسه تتلف للحمّى، ثمّ أسقي شربة ماء مقرور بثلج فنثرت كبده وأمعاءه، فخمد من فوره.»

ومضت حياة ابن المعتز في قلق دائم وخوف مستمر من أن يسجن دون ذنب أو أن يقتل خلسة. والأكثر أن ذلك الخوف من الصراعات السياسية هو الذي جعله يصرف جل عنايته إلى الأدب نظماً وتنظيراً، فنفوز من خلاله بشاعر له مذهب في صنعة الصورة الحسيّة محكم، وبناقد ذي بصيرة حاذقة. ولعلنا في كتابات قادمة نعود إلى هذين الموضوعين بشيء من التفصيل. ونحن نعرف - من خلال التاريخ - أن ما اتقاه ابن المعتز طوال حياته وابتعد عنه وقع فيه أخيراً، فلم يستطع أن يقاوم نزعة السلطة ولم يقاوم إحساسه بالواجب وما عليه أن يصنع لتستعيد الخلافة العباسية ألقها، وتعود إلى سيرتها عند الخلفاء العباسيين الأوائل. غير أن الدنيا كانت مدبرةوابن المعتز وأمثاله من المخلصين الصادقين لا طاقة لهم بمكائدها وأساليبها الملتوية. ووُعد ابن المعتز بالمناصرة ثم ما عتم أن وجد نفسه وحيداً يحيط به الأعداء، وتنتهي خلافته في مدة قد تكون أقصر مدة عرفها التاريخ أو من بين أقصرها، إذ استمرت ليوم وليلة فقط، لقي بعدها ابن المعتز مصير جده ووالده؛ القتل.