→ باب الأسد والشغبر الناسك وهو ابن آوى | كليلة ودمنة باب إيلاذ وبلاذ وايراخت المؤلف: عبد الله بن المقفع |
باب اللبوة والإسوار والشغبر ← |
باب إيلاذ وبلاذ وايراخت
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل، فاضرب لي مثلاً في الأشياء التي يجب على الملك أن يلزم بها نفسه، ويحفظ ملكه ويثبت سلطانه، ويكون ذلك رأس أمره وملاكه: أبالحلم أم بالمروءة أم بالشجاعة أم بالجود؟ قال بيدبا: إن أحق ما يحفظ به الملك ملكه الحلم، وبه تثبت السلطنة، والحلم رأس الأمور وملاكها، وأجود ما كان في الملوك: كالذي زعموا من أنه كان ملك يدعى بلاذ، وكان له وزير يدعى إيلاذ. وكان متعبداً ناسكاً. فنام الملك ذات ليلة، فرأى في منامه ثمانية أحلام أفزعته، فاستيقظ مرعوباً. فدعا البراهمة، وهم النسّاك ليعبروا رؤياه. فلما حضروا بين يديه قص عليهم ما رأى. فقالوا بأجمعهم: لقد رأى الملك عجباً فإن أمهلتنا سبعة أيام جئناه بتأويله. قال الملك: قد أمهلتكم فخرجوا من عنده ثم اجتمعوا في منزل أحدهم وأتمروا بينهم. وقالوا: قد وجدتم علماً واسعاً تدركون به ثأركم و تنقمون به من عدوكم، وقد علمتم أنه قتل منا بالأمس اثنى عشر ألفا. وها هو قد أطلعنا على سره وسألناه تفسير رؤياه: فهلم نغلظ له القول ونخوفه حتى يحمله الفرق والجزع على أن يفعل الذي نريد ونأمر. فنقول: ادفع إلينا أحباءك ومن يكرم عليك حتى نقتلهم: فإن قد نظرنا في كتابنا فلم نر أن يدفع عنك ما رأيت لنفسك وما وقعت فيه من هذا للشر إلا بقتل من نسمي لك فإن قال الملك: وما تريدون أن تقتلوا؟ سموهم لي. قلنا نريد الملكة ايراخت أم جوير المحمودة أكرم نسائك عليك. ونريد جوير أحب بنيك إليك وأفضلهم عندك. ونريد ابن أخيك الكريم، وإيلاذ خليلك وصاحب أمرك. ونريد كالا الكاتب صاحب سرك وسيفك الذي لا يوجد مثله والفيل الأبيض الذي لا تلحقه الخيل والفرس الذي هو مركبك في القتال. ونريد الفيلين الآخرين العظيمين الذين يكونان مع الفيل الذكر. ونريد البختي السريع القوي. ونريد كباريون الحكيم الفاضل العالم بالأمور لننتقم منه بما فعل بنا. ثم نقول: إنما ينبغي لك أيها الملك أن تقتل هؤلاء الذين سميناهم لك، ثم تجعل دماءهم في حوض تملؤه، ثم تقعد فيه. فإذا خرجت من الحوض اجتمعنا نحن معاشر البراهمة من الآفاق الأربعة نجول حولك فنرقيك ونتفل عليك ونمسح عنك الدم ونغسلك بالماء والدهن الطيب. ثم تقوم إلى منزلك البهيّ فيدفع الله بذلك البلاء الذي نتخوفه عليك. فإن صبرت، أيها الملك، وطابت نفسك عن أحبائك الذين ذكرنا لك، وجعلتهم فداءك، تخلصت من البلاء، واستقام لك ملكك وسلطانك، واستخلفت من بعدهم من أحببت. وإن أنت لم تفعل تخوّفنا عليك أن يغضب ملكك أو تهلك. فإن هو أطاعنا فيما نأمره قتلناه أي قتلة شئنا. فلما أجمعوا على ما أتمروا به رجعوا إليه في اليوم السابع. وقالوا له: أيها الملك، إنّا نظرنا في كتبنا في تفسير ما رأيت، وفحصنا عن الرأي فيما بيننا. فلتكن لك أيها الملك الطاهر الصالح الكرامة. ولسنا نقدر أن نعلمك بما رأينا إلا أن تخلو بنا. فأخرج الملك من كان عنده وخلا بهم. فحدثوا بالذي ائتمروا به. فقال لهم: الموت خير لي من الحياة إن أنا قتلت هؤلاء الذين هم عديل نفسي. وأنا ميت لا محالة، والحياة قصيرة، ولست كل الدهر ملكاً، وإن الموت عندي وفراق الأحباء سواء. قال له البراهمة: إن أنت لم تغضب أخبرناك. فأذن لهم.
فقالوا: أيها الملك إنك لم تقل صواباً حين تجعل نفس غيرك أعز عندك من نفسك. فاحتفظ بنفسك وملكك. واعمل هذا الذي لك فيه الرجاء العظيم على ثقة ويقين. وقرّ عيناً بملكك في وجوه أهل مملكتك الذين شرفت وكرمت بهم. ولا تدع الأمر العظيم وتأخذ بالضعيف فتهلك نفسك إيثاراً لمن تحب. واعلم أيها الملك أن الإنسان إنما يحب الحياة محبة لنفسه. وأنه لا يحب من أحب من الأحباء إلا ليتمتع بهم في حياته. وإنما قوام نفسك بعد الله تعالى بملكك. وإنك لم تنل ملكك إلا بالمشقة والعناء الكثير في الشهور والسنين. وليس ينبغي أن ترفضه ويهون عليك. فاستمع كلامنا. فانظر لنفسك مناها، ودع ما سواها: فإنه لا خطر له. فلما رأى الملك أن البراهمة قد أغلظوا له في القول واجترءوا عليه في الكلام اشتد غمّه وحزنه. وقام من بين ظهرانيهم ودخل إلى حجرته فخرّ على وجهه يبكي ويتقلب كما تتقلب السمكة إذا خرجت من الماء، وجعل يقول في نفسه: ما أدري أي الأمرين أعظم في نفسي؟ المملكة أم قتل أحبائي؟ ولن أنال الفرح ما عشت. وليس ملكي بباق عليّ إلى الأبد. ولست بالمصيب سؤلي في ملكي. وإني لزاهد في الحياة إذا لم أرى إيراخت. وكيف أقدر على القيام بملكي إذا هلك وزيري إيلاذ؟ وكيف أضبط أمري إذا هلك فيلي الأبيض وفرسي الجواد؟ وكيف أدعى ملكاً وقد قتلت من أشار البراهمة بقتله؟ وما أصنع بالدنيا بعدهم؟ ثم إن الحديث فشا في الأرض بحزن الملك وهمّه. فلما رأى إيلاذ ما نال الملك من الهم والحزن فكّر بحكمته ونظر وقال: ما ينبغي لي أن أستقبل الملك فأسأله عن هذا الأمر الذي قد ناله من غير أن يدعوني. ثم انطلق إلى إيراخت فقال: إني منذ خدمت الملك إلى الآن لم يعمل عملاً إلا بمشورتي ورأيي. وأراه يكتم عني أمراً لا أعلم ما هو. ولا أراه يظهر منه شيئاً. وإني رأيته خالياً مع الجماعة البرهميين منذ ليال. وقد احتجب عنّا فيها. وأنا خائف أن يكون قد أطلعهم على شيء من أسراره. فلست آمنهم أن يشيروا عليه بما يضره ويدخل عليه منه السوء. فقومي وادخلي عليه فاسأليه عن أمره وشأنه. واخبريني بما هو عليه وأعلميني: فإني لست أقدر على الدخول عليه. فلعلّ البرهميين قد زينوا له أمراً أو حملوه على خطة قبيحة. وقد علمت أن من خُلُقِ الملك أنه إذا غضب لا يسأل أحداً. وسواء عنده صغير الأمور وكبيرها. فقالت إيراخت: إنه كان بيني وبين الملك بعض العتاب فلست بداخلة عليه بهذه الحال. فقال لها إيلاذ: لا تحملي عليه الحقد في مثل هذا. ولا يخطرنّ ذلك على بالك فليس يقدر على الدخول عليه أحد سواك. وقد سمعته كثيراً يقول: ما أشتد غمّي ودخلت عليّ إيراخت إلا سرِّى عني، فقومي إليه واصفحي عنه. وكلميه بما تعلمين أنه تطيب به نفسه ويذهب الذي يجده. وأعلميني بما يكون جوابه: فإنه لنا ولأهل المملكة أعظم الراحة. فانطلقت إيراخت فدخلت على الملك فجلست عند رأسه. فقالت: ما الذي بك أيها الملك المحمود؟ وما الذي سمعت من البراهمة؟ فإني أراك محزوناً. فأعلمني ما بك، فقد ينبغي لنا أن نحزن معك ونواسيك بأنفسنا. فقال الملك: أيتها السيدة لا تسأليني عن أمري فتزيديني غمّاً وحزناً: فإنه أمر لا ينبغي أن تسأليني عنه. قالت: أو قد نزلت عندك منزلة من يستحق هذا؟ إنما أحمد الناس عقلاً من إذا نزلت به النازلة كان لنفسه أشد ضبطاً، وأكثرهم استماعاً من أهل النصح حتى ينجو من تلك النازلة بالحيلة والعقل والبحث والمشاورة. فعظيم الذنب لا يقنط من الرحمة. ولا تدخلّن عليك شيئاً من الهم والحزن. فإنهما لا يردان شيئاً مقضياً. إلا أنهما ينحلان الجسم ويشفيان العدو. قال لها الملك: لا يسأليني عن شيء فقد شققت عليّ. والذي تسألينني عنه لا خير فيه: لأن عاقبته هلاكي وهلاكك وهلاك كثير من أهل مملكتي ومن هو عديل نفسي. وذاك أن البراهمة زعموا أنه لا بد من قتلك وقتل كثير من أهل مودتي. ولا خير في العيش بعدكم. وهل أحد يسمع بهذا إلا اعتراه الحزن؟. فلما سمعت ذلك إيراخت جزعت. ومنعها عقلها أن تظهر للملك جزعاً. فقالت: أيها الملك لا تجزع فنحن لك الفداء. ولك في سواي ومثلي من الجواري ما تقر به عينك. ولكني أطلب منك، أيها الملك، حاجة يحملني على طلبها حبي لك وإيثاري إياك. وهي نصيحتي لك. قال الملك: وما هي؟ قالت: أطلب منك أن لا تثق بعدها بأحد من البراهمة. ولا تشاورهم في أمر حتى تتثبت في أمرك. ثم تشاور فيه ثقاتك مراراً: فإن القتل أمر عظيم، ولست تقدر على أن تحيي من قتلت. وقد قيل في الحديث: إذا لقيت جوهراً لا خير فيه فلا تلقيه من يدك حتى تريه من يعرفه. وأنت أيها الملك لا تعرف أعداءك. واعلم أن البراهمة لا يحبونك.
وقد قتلت منهم بالأمس اثني عشر ألفاً. ولا تظن أن هؤلاء ليسو من أولئك. ولعمري ما كنت جديراً أن تخبرهم برؤياك، ولا أن تطلعهم عليها. وإنما قالوا لك ما قالوا لأجل الحقد الذي بينك وبينهم: لعلهم يهلكونك ويهلكون أحباءك ووزيرك: فيبلغوا قصدهم منك. فأظنك لو قبلت منهم فقتلت من أشاروا بقتله ظفروا بك وغلبوك على ملكك، فيعود الملك إليهم كما كان. فانطلق إلى كباريون الحكيم، فهو عالم فطن فاخبره عمّا رأيت في رؤياك واسأله عن وجهها وتأويلها. فلما سمع الملك ذلك سرّى عنه وما كان يجده من الغم. فأمر بفرسه فأسرج فركبه ثم انطلق إلى كباريون الحكيم. فلما انتهى إليه نزل عن فرسه وسجد له، وقام مطأطئاً الرأس بين يديه. فقال له الحكيم: ما بالك أيها الملك؟ وما لي أراك متغير اللون؟ فقال له الملك إني رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة. وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيم أمر مما سمعت من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن يغصب مني ملكي أو أن أغلب عليه. فقال له الحكيم: إن شئت فاقصص رؤياك عليّ. فلما قص عليه الملك رؤياه. قال: لا يحزنك أيها الملك هذا الأمر ولا تخف منه: أما السمكتان الحمراوان اللتان رأيتهما قائمتين على أذنابهما فإنه يأتيك رسول من ملك نهاوند بعلبة فيها عقدان من الدر والياقوت الأحمر، قيمتهما أربعة آلاف رطل من ذهبٍ فيقوم بين يديك. وأما الوزتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك: فإنه يأتيك من ملك بلخ فرسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك. وأما الحية التي رأيتها تدب على رجلك اليسرى: فإنه يأتيك من ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديد لا يوجد مثله. وأما الدم الذي رأيت كأنه خضب به جسدك: فإنه يأتيك من ملك كازرون من يقوم بين يديك بلباس معجب يسمى حلّة أرجوان يضيء في الظلمة. وأما ما رأيت من غسلك جسمك بالماء: فإنه يأتيك من ملك رهزين من يقوم بين يديك بثياب كتان من لباس الملوك. وأما ما رأيت من أنك على جبل أبيض: لا تلحقه الخيل. وأما ما رأيت على رأسك شبيهاً بالنار: فإنه يأتيك من ملك أرزن من يقوم بين يديك بإكليل من ذهب مكللٍ بالدر والياقوت. وأما الطير الذي رأيته ضرب رأسك بمنقاره: فلست مفسراً ذلك اليوم. وليس بضارك، فلا توجلن منه. ولكن فيه بعض السخط والإعراض عمّن تحبه: فهذا تفسيره رؤياك أيها الملك، وأما هذه الرسل والبرد فإنهم يأتونك بعد سبعة أيامٍ جميعاً فيقومون بين يديك. فلما سمع الملك ذلك سجد لكباريون ورجع إلى منزله.
فلما كان بعد سبعة أيام جاءت البشائر بقدوم الرسل فخرج الملك فجلس على التخت، وأذن للأشراف، وجاءته الهدايا كما اخبره كباريون الحكيم. فلما رأى الملك ذلك اشتد عجبه وفرحه من علم كباريون. وقال: ما وفقت حين قصصت رؤياي على البراهمة فأمروني بما أمروني به. ولولا أن الله تعالى تداركني برحمته لكنت قد هلكت وأهلكت؛ وكذلك لا ينبغي لكل أحد أن يسمع إلا من الأخلاء ذوي العقول. وإن إيراخت أشارت بالخير فقلبته. ورأيت به النجاح. فضعوا الهدية بين يديها لتأخذ منها ما اختارت. ثم قال لإيلاذ: خذ الإكليل واحملها واتبعني بها إلى مجلس النساء. ثم إن الملك دعا إيراخت وحورقناه أكرم نسائه بين يديه. فقال لإيلاذ: ضع الكسوة والإكليل بين يدي إيراخت لتأخذ أيها شاءت. فوضعت الهدايا بين يدي إيراخت. فأخذت منها الإكليل، وأخذت حورقناه كسوة من أفخر الثياب وأحسنها. وكان من عادة الملك أن يكون ليلة عند إيراخت وليلة عند حورقناه. وكان من سنة الملك أن تهيء له المرأة التي يكون عندها في ليلتها أرزاً بحلاوة فتطعمه إياه. فأتى الملك إيراخت في نوبتها. وقد صنعت له أرزاً. فدخلت عليه بالصّحفة والإكليل على رأسها. فعلمت حورقناه بذلك فغارت من إيراخت. فلبست تلك الكسوة. ومرت بين يدي الملك وتلك الثياب تضيء عليها مع نور وجهها كما تضيء الشمس. فلما رآها الملك أعجبته. ثم التفت إلى إيراخت فقال: إنك جاهلة حين أخذت الإكليل وتركت الكسوة إلي ليس في خزائننا مثلها. فلما سمعت إيراخت مدح الملك لحورقناه وثناءه عليها وتجهيلها هي وذمّ رأيها أخذها من ذلك الغيرة والغيظ. فضربت بالصحفة رأس الملك. فسال الأرز على وجهه. فقام الملك من مكانه ودعا بإيلاذ. فقال له: ألا ترى، وأنا ملك العالم، كيف حقرتني هذه الجاهلة، وفعلت بي ما ترى؟ فانطلق بها فاقتلها ولا ترحمها. فخرج إيلاذ من عند الملك وقال: لا أقتاها حتى يسكن عنه الغضب. فالمرأة عاقلة سديدة الرأي من الملكات إلي ليس لها عديل في النساء. وليس الملك بصابر عنها. وقد خلصته من الموت، وعملت أعمالاً صالحة. ورجاؤنا فيها عظيم. ولست آمنة أن يقول: لمَ لمْ تؤخر قتلها حتى تراجعني؟ فلست قاتلها حتى أنظر رأي الملك فيها ثانية: فإن رأيته نادماً حزيناً على ما صنع جئت بها حية. وكنت قد عملت عملاً عظيماً. وأنجيت إيراخت من القتل. وحفظت قلب الملك. واتخذت عند عامة الناس بذلك يداً. وإن رأيته فرحاً مستريحاً مصوّباً رأيه في الذي فعله وأمر به فقتلها لا يفوت. ثم انطلق بها إلى منزله، ووكل بها خادماً من أمنائه، وأمره بخدمتها وحراستها، حتى ينظر ما يكون من أمرها وأمر الملك. ثم خضب سيفه بالدم ودخل على الملك كالكئيب الحزين. فقال أيها الملك: إني قد أمضيت أمرك في إيراخت. فلم يلبث الملك أن سكن عنه الغضب، وذكر جمال إيراخت وحسنها. واشتد أسفه عليها. وجعل يعزي نفسه عنها. ويتجلد وهو مع ذلك يستحي أن يسأل إيلاذ: أحقاً أمضى أمره فيها أم لا؟ ورجا لما عرف من عقل إيلاذ ألا يكون قد فعل ذلك. ونظر إليه إيلاذ بفضل عقله فعلم الذي به، فقال له: لا تهتم ولا تحزن أيها الملك: فإنه ليس في الهم والحزن منفعة. ولكنهما ينحلان الجسم ويفسدانه. فاصبر أيها الملك على ما لست بقادر عليه أبداً. وإن أحب الملك حدثته بحديث يسليه. قال: حدثني.
قال إيلاذ: زعموا أن حمامتين ذكراً وأنثى ملا عشهما من الحنطة والشعير. فقال الذكر للأنثى: إنا إذا وجدنا في الصحارى ما نعيش به فلسنا نأكل مما هاهنا شيئاً. فإذا جاء الشتاء ولم يكن في الصحارى شيء رجعنا إلى ما في عشنا فأكلناه. فرضيت الأنثى بذلك. وقالت له: نعم ما رأيت. وكان ذلك الحب ندياً حين وضعاه في عشهما. فانطلق الذكر فغاب. فلما جاء الصيف يبس الحب وانضمر. فلما رجع الذكر رأى الحب ناقصاً. فقال لها: أليس كنا أجمعنا رأينا على ألا نأكل منه شيئاً؟ فلم أكلته؟ فجعلت تحلف أنها ما أكلت منه شيئاً. وجعلت تعتذر إليه. فلم يصدقها. وجعل ينقرها حتى ماتت. فلما جاءت الأمطار ودخل الشتاء تندى الحب وامتلأ العش كما كان. فلما رأى الذكر ذلك ندم. ثم اضطجع إلى جانب حمامته وقال: ما ينفعني الحب والعيش بعدك إذا طلبتك فلم أجدك، ولم أقدر عليك، وإذا فكرت في أمرك وعلمت أني قد ظلمتك، ولا أقدر على تدارك ما فات. ثم استمر على حزنه فلم يطعم طعاماً ولا شراباً حتى مات إلى جانبها. والعاقل لا يعجل في العذاب والعقوبة، ولا سيما من يخاف الندامة، كما ندم الحمام الذكر. وقد سمعت أيضاً أن رجلاً دخل الجبل وعلى رأسه كارة من العدس فوضع الكارة عن ظهره ليستريح. فنزل قرد من شجرة فأخذ ملء كفه من العدس وصعد إلى الشجرة. فسقطت من يده حبة فنزل في طلبها فلم يجدها. وانتثر ما كان في يده من العدس أجمع. وأنت أيضاً أيها الملك عندك ستة عشر ألف امرأة تدع أن تلهو بهن وتطلب التي لا تجد؟؟! فلما سمع الملك ذلك خشي أن تكون إيراخت قد هلكت. فقال لإيلاذ: لم لا تأنيت وتثبت؟ بل أسرعت عند سماع كلمة واحدة فتعلقت بها، وفعلت ما أمرتك به من ساعتك؟ قال إيلاذ: إن الذي قوله واحد لا يختلف هو الله الذي لا تبديل لكلماته ولا اختلاف لقوله. قال الملك: لقد أفسدت أمري وشددت حزني بقتل إيراخت. قال إيلاذ: إثنان ينبغي لهما أن يحزنا: الذي يعمل الإثم في كل يوم، والذي لم يعمل خيراً قط: لأن فرحهما في الدنيا ونعيمهما قليل. وندامتهما إذ يعاينان الجزاء طويلة لا يستطاع إحصاؤها. قال الملك: لئن رأيت إيراخت حيةً لا أحزن على شيءٍ أبداً. قال إيلاذ: اثنان لا ينبغي لهما أن يحزنا: المجتهد في البر كل يوم، والذي لم يأثم قط. قال الملك: ما أنا بناظرٍ إلى إيراخت أكثر مما نظرت قال إيلاذ: اثنان لا ينظران: الأعمى والذي لا عقل له. وكما أن العمى لا ينظر السماء ونجومها وأرضها ولا ينظر القرب والبعد، كذلك الذي لا عقل له لا يعرف الحسن من القبيح ولا المحسن من المسيء. قال الملك: لو رأيت إيراخت لاشتد فرحي. قال إيلاذ: اثنان هما الفرحان: البصير والعالم. فكما أن البصير يبصر أمور العالم وما فيه من زيادة ونقصان والقريب والبعيد، فكذلك العالم يبصر البر والإثم، ويعرف عمل الآخرة، ويتبين له نجاته، ويهتدي إلى صراط المستقيم. قال الملك: ينبغي لنا أن نتباعد منك يإيلاذ ونأخذ الحذر ونلزم الاتقاء. قال إيلاذ: اثنان يجب أن نتباعد منهما: الذي يقول لا بر ولا إثم ولا عقاب ولا ثواب ولا شيء على مما أنا فيه، والذي لا يكاد فيه يصرف بصره عما ليس له بمحرم ولا أذنه عن استماع السوء، ولا قلبه عما تهم به نفسه من الإثم والحرص. قال الملك: صارت يدي من إيراخت صفراً. قال إيلاذ: ثلاثة أشياء أصفار: النهر الذي ليس فيه ماء، والأرض التي ليس فيها ملك، والمرأة التي ليس لها بعل، قال الملك: إنك يا إيلاذ لتلقي الجواب. قال إيلاذ: ثلاثة يلقون بالجواب: الملك الذي يعطي ويقسم من خزائنه، والمرأة المهداة التي تهوى من ذوي الحسب، والرجل العالم الموفق للخير.
ثم إن إيلاذ لما رأى الملك أشتد به الأمر، قال: أيها الملك إن إيراخت بالحياة. فلما سمع الملك ذلك اشتد فرحه. وقال يإيلاذ: إنما منعني من الغضب ما أعرف من نصيحتك وصدق حديثك. وكنت أرجو لمعرفتي بعلمك ألا تكون قد قتلت إيراخت. فإنها وإن كانت أتت عظيماً وأغلظت في القول فلم تأته عداوة ولا طلب مضرة، ولكنها فعلت ذلك للغيرة. وقد كان ينبغي لي أن أعرض عن ذلك وأتحمله، ولكنك يا إيلاذ أردت أن تختبرني وتتركني في شك من أمرها. وقد أخذت عندي أفضل الأيدي. وأنا لك شاكر. فانطلق فأتني بها. فخرج من عند الملك فأتي إيراخت وأمرها أن تتزين ففعلت ذلك. وانطلق بها إلى الملك. فلما دخلت سجدت له. ثم قامت بين يديه. وقالت: أحمد الله تعالى ثم أحمد الملك الذي أحسن إلي: قد أذنبت الذنب العظيم الذي لم أكن للبقاء أهلاً بعده، فوسعه حلمه وكرم طبعه ورأفته، ثم أحمد إيلاذ الذي آخر أمري، وأنجاني من الهلكة، لعلمه برأفة الملك وسعة حلمه وجوده وكرم جوهره ووفاء عهده. وقال الملك لإيلاذ: ما أعظم يدك عندي وعند إيراخت وعند العامة: إذ قد أحييتها بعد ما أمرت بقتلها: فأنت الذي وهبتها لي اليوم: فإني لم أزل واثقاً بنصيحتك وتدبيرك. وقد ازددت اليوم عندي كرامة وتعظيماً. وأنت محكّمٌ في ملكي تفعل فيه بما ترى، وتحكم عليه بما تريد. فقد جعلت ذلك إليك ووثقت بك. قال إيلاذ: أدام الله لك أيها الملك المُلكَ والسرور. فلست بمحمود على ذلك. فإنما أنا عبدك. لكن حاجتي ألاّ يعجل الملك في الأمر الجسيم الذي يندم على فعله، وتكون عاقبته الغم والحزن. ولا سيما في مثل هذه الملكة الناصحة المشفقة التي لا يوجد في الأرض مثلها: فقال الملك بحق قلت يا إيلاذ، وقد قبلت قولك، ولست عاملاً بعدها عملاً صغيراً ولا كبيراً، فضلاً عن مثل هذا الأمر العظيم الذي ما سلمت منه، إلا بعد المؤامرة والنظر والتردد إلى ذوي العقول ومشاورة أهل المودة والرأي. ثم أحسن الملك جائزة لإيلاذ، ومكّنه من أولئك البراهمة الذين أشاروا بقتل أحبائه فأطلق فيهم السيف، وقرت عين الملك وعيون عظماء أهل مملكته، وحمدوا الله وأثنوا على كباريون بسعة علمه وفضل حكمته: لأنه بعلمه خلّص الملك ووزيره الصالح وامرأته الصالحة. باب اللبوة والإسوار والشغبر
قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف: قد سمعت هذا المثل. فاضرب لي مثلاً في شأن من يدع ضرّ غيره إذا قدر عليه لما يصيبه من الضرّ، ويكون له فيما ينزل به واعظ وزاجر عن ارتكاب الظلم والعداوة لغيره. قال الفيلسوف: إنه لا يقدم على طلب ما يضر الناس وما يسوءهم إلا أهل الجهالة والسفه وسوء النظر في العواقب من أمور الدنيا والآخرة، وقلة العلم بما يدخل عليهم في ذلك من حلول النقمة، وبما يلزمهم من تبعة ما اكتسبوا مما لا تحيط به العقول. وإن سلم بعضهم من ضرر بعض بمنية عرضت له قبل أن ينزل به وبال ما صنع: فإن من لم يفكر في العواقب لم يأمن المصائب، وحقيق ألا يسلم من المعاطب. وربما اتعظ الجاهل واعتبر بما يصيبه من المضرة من غيره، فارتدع عن أن يغشى أحداً بمثل ذلك من الظلم والعدوان، وحصل له نفع ما كفَّ عنه من ضرر لغيره في العاقبة، فنظير ذلك حديث اللبوة والإسوار والشغبر. قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أن لبؤة كانت في غيضة، ولهما شبلان، وأنها خرجت قي طلب الصيد وخلفتهما في كهفهما، فمرّ بهما إسوار فحمل عليهما ورماهما فقتلهما، وسلخ جلديهما فاحتقبهما، وانصرف بهما إلى منزله، ثم إنها رجعت. فلما رأت ما حلّ بهما من الأمر الفظيع اضطربت ظهراً لبطن وصاحت وضجّت. وكان إلى جانبها شغبر. فلما سمع ذلك من صياحها قال لها: ما هذا الذي تصنعين؟ وما نزل بك؟ فأخبريني به. قالت اللبؤة شبلاي مرّ بهما إسوار فقتلهما، وسلخ جلديهما فاحتقبهما، ونبذهما بالعراء. قال لها شغبر: لا تضجِّي وأنصفي من نفسك، واعلمي أن هذا الإسوار لم يأت إليك شيئاً إلا وقد كنت تفعلين بغيرك مثله، وتأتين إلى غير واحد مثل ذلك، ممن كان يجد بحميمه ومن يعز عليه مثل ما تجدين بشبليك. فاصبري على فعل غيرك كما صبر غيرك على فعلك: فإنه قد قيل: كما تدين تدان. ولكل عمل ثمرة من الثواب والعقاب. وهما على قدره في الكثرة والقلة. كالزرع إذا حضر الحصاد أعطى على حسب بذره. قالت اللبؤة: بين لي ما تقول، وأفصح لي عن إشارته. قال الشغبر: كم أتى لك من العمر؟ قالت اللبؤة: مائة سنة. قال الشغبر: ما كان قوتك؟ قالت اللبؤة: لحم الوحش. قال الشغبر: من كان يطعمك إياه؟ قالت اللبؤة: كنت أصيد الوحش وآكله. قال الشغبر: أرأيت الوحش التي كنت تأكلين، أما كان لها آباء وأمهات؟ قالت: بلى. قال الشغبر: فما بالي لا أرى ولا أسمع لتلك الآباء والأمهات من الجزع والضجيج ما أرى وأسمع لك؟ أما أنه لم ينزل بك ما نزل إلا لسوء نظرك في العواقب وقلة تفكيرك فيها، وجهالتك بما يرجع عليك من ضرها. فلما سمعت اللبؤة ذلك من كلام الشغبر عرفت أن ذلك مما جنت على نفسها، وأن عملها كان جوراً وظلماً، فتركت الصيد، وانصرفت عن أكل اللحم إلى الثمار والمسك والعبادة. فلما رأى ذلك ورشان الذي كان صاحب تلك الغيضة وكان عيشه من الثمار. قال لها: قد كنت أظن أن الشجرة عامنا هذا لم تحمل: لقلة الماء، فلما أبصرتك تأكلينها، وأنت آكلة اللحم، فتركت رزقك وطعامك وما قسم الله لك، وتحولت إلى رزق غيرك فانتقصته، ودخلت عليه فيه؛ علمت أن الشجر العام أثمرت كما كانت تثمر قبل اليوم، وإنما أتت قلة الثمر من جهتك. فويل للشجر وويل للثمار وويل لمن عيشه منها! ما أسرع هلاكهم إذا دخل عليهم في أرزاقهم، وغلبهم عليها من ليس له فيها حظ ولم يكن معتاداً لأكلها! فلما سمعت اللبؤة ذلك من كلام الورشان تركت أكل الثمار وأقبلت على أكل الحشيش والعبادة. وإنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن الجاهل ربما انصرف بضرٍ يصيبه عن ضرِّ الناس، كاللبؤة التي انصرفت لما لقيت في شبليها عن أكل اللحم ثم عن أكل الثمار بقول الورشان، وأقبلت على النّسك والعبادة. والناس أحق بحسن النظر في ذلك: فإنه قد قيل: ما لا ترضاه لنفسك لا تصنعه لغيرك: فإن في ذلك العدل: وفي العدل رضا الله تعالى ورضا الناس.