كتاب تيسير العزيز الحميد
كتاب تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد
قال المصنف رحمه الله تعالى بسم الله الرحمن الرحيم افتتح المصنف رحمه الله كتابه بالبسملة اقتداء بالكتاب العزيز وعملا بالحديث كل امر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو اقطع رواه الحافظ عبدالقادر الرهاوي في الاربعين من حديث أبي هريرة مرفوعا واخرجه الخطيب في الجامع بنحوه فإن قلت هل جمع المصنف بين البسملة والحمدلة لما روى ابن ماجة والبيهقي عن أبي هريرة مرفوعا كل امر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع وفي رواية لأحمد لا يفتتح بذكر الله فهو أبتر وأقطع قيل المراد الافتتاح بما يدل على المقصود من حمد الله والثناء عليه لأن الحمد متعين لأن القدر الذي يجمع ذلك هو ذكر الله وقد حصل بالبسملة وأيضا فليس في الحديث ما يدل على أنه تتعين كتابتها معه النطق بها فقد يكون المصنف نطق بذلك في نفسه واتفق العلماء على أن الجار والمجرور متعلق بمحذوف قدره الكوفيون فعلا مقدما والتقدير ابدأ وقدره البصريون اسما مقدما والتقدير ابتدائي كائن أو مستقر قال فالجار والمجرور في موضع نصب على الأول وعلى الثاني في موضع رفع وذكر ابن كثير ان القولين متقاربان وكل قد ورد به القران أما من قدره باسم تقديره باسم الله ابتدائي فلقوله تعالى وقال اركبوا فيها باسم الله مجراها ومرساها ومن قدره بالفعل أمرا أو خبرا نحو أبدأ باسم الله أو ابتدأت باسم الله فلقوله تعالى اقرأ باسم ربك الذي خلق وكلاهما صحيح فان الفعل لا بد له من مصدر فلك أن تقدر الفعل وتصدره وذلك بحسب الفعل الذي سميته قبله إن كان قياما أو
قعودا أو أكلا أو شربا أو قراءة أو وضوءا أو صلاة فالمشروع ذكر اسم الله تعالى في ذلك كله تبركا وتيمنا واستعانة على الاتمام والتقبل وقدره الزمخشري فعلا مؤخرا أي باسم الله أقرأ او أتلو لأن الذي يتلوه مقروء وكل فاعل يبدأ في فعله باسم الله كان مضمرا ما تجعل التسمية مبدأ له كما ان المسافر اذا حل أو ارتحل فقال بسم الله كان المعنى بسم الله أحل وبسم الله أرتحل وهذا أولى من أن يضمر ابدأ لعدم ما يطابقه ويدل عليه او ابتدائي لزيادة الاضمار فيه وانما قدم المحذوف متأخرا وقدم المعمول لأنه أهم وأدل على الاختصاص وأدخل في التعظيم وأوفق للوجود فإن اسم الله تعالى مقدم على القراءة كيف وقد جعل آلة لها من حيث ان الفعل لا يعتد به شرعا ما لم يصدر باسمه تعالى وأما ظهور فعل القراءة في قوله اقرأ باسم ربك فلأن الأهم ثمة القراءة ولذا قدم الفعل فيها على متعلقه بخلاف البسملة فإن الأهم فيها الإبتداء قاله البيضاوي وهذا القول أحسن الاقوال وأظنه اختيار شيخ الإسلام وقد ألم به ابن كثير إلا انه جعل المحذوف مقدرا قبل البسملة وذكر ابن القيم لحذف العامل في بسم الله فوائد عديدة منها أنه موطن لا ينبغي ان يتقدم فيه سوى ذكر الله تعالى فلو ذكرت الفعل وهو لا يستغني عن فاعله كان ذلك مناقضا للمقصود فكان في حذفه مشاكلة اللفظ للمعني ليكون المبدوء به اسم الله كما تقول في الصلوة الله أكبر ومعناه من كل شيء ولكن لا تقول هذا القدر ليكون اللفظ مطابقا لمقصود الجنان وهو ان لا يكون في القلب إلا ذكر الله وحده فكما تجرد ذكره في قلب المصلي تجرد ذكره في لسانه ومنها أن الفعل اذا حذف صح الابتداء بالتسمية في كل عمل وقول وحركة وليس فعل أولى بها من فعل فكان الحذف أعم من الذكر فأي فعل
ذكرته كان المحذوف اعم منه الله علم على الرب تبارك وتعالى ذكر سيبويه انه أعرف المعارف ويقال إنه الاسم الأعظم لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر إلى اخر السورة فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات له واختلفوا هل هو اسم جامد او مشتق على قولين أصحهما أنه مشتق قال ابن جرير فانه على ما روي لنا عن ابن عباس قال الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين وذكر سيبويه عن الخليل أن أصله إله مثل فعال فأدخلت الالف واللام بدلا من الهمزة قال سيبويه مثل الناس أصله أناس وقال الكسائي والفراء أصله الإله خذفوا الهمزة أدمغوا اللام الاولى في الثانية وعلى هذا فالصحيح انه مشتق من أله الرجل اذا تعبد كما قرأ ابن عباس ويذرك وإلهتك اي عبادتك وأصله الإله اي المعبود فحذفت الهمزة التي هي فاء الكلمة فالتقت اللام التي هي عينها مع اللام التي للتعريف فأدغمت إحداهما في الاخرى فصارتا في اللفظ لاما واحدة مشددة وفخمت تعظيما فقيل الله قال ابن القيم القول الصحيح أن الله أصله الإله كما هو قول سيبوبه وجمهور أصحابه إلا من شذ منهم وان اسم الله تعالى هوالجامع لجميع معاني الاسماء الحسنى والصفات العلى قال وزعم السهيلي وشيخه أبو بكر بن العربي ان اسم الله غير مشتق لان الاشتقاق يستلزم مادة يشتق منها واسمه تعالى قديم
ولا القديم مادة له فيستحيل الاشتقاق ولا ريب أنه أريد بالاشتقاق هذا المعنى وأنه مستمد من أصل آخر فهو باطل ولكن الذين قالوا بالإشتقاق لم يريدوا هذا المعنى ولا ألم بقلوبهم وإنما ارادوا انه دال على صفة له تعالى وهي الإلهية كسائر أسمائه الحسنى كالعليم والقدير والغفور والرحيم والسميع والبصير فان هذه الاسماء مشتقة من مصادرها بلا ريب وهي قديمة والقديم لا مادة له فما كان جوابكم عن هذه الاسماء فهو جواب القائلين باشتقاق اسم الله تعالى ثم الجواب عن الجميع أنا لا نعني بالاشتقاق إلا أنها ملاقية لمصادرها في اللفظ والمعني لا أنها متولدة منه تولد الفرع من أصله وتسمية النحاة للمصدر والمشتق منه أصلا وفرعا ليس معناه أن أحدهما تولد من الآخر وإنما هو باعتبار أن أحدهما يتضمن الآخر وزيادة وذكر ابن القيم لهذا الاسم الشريف عشر خصائص لفظية ثم قال وأما خصائصه المعنوية فقد قال فيها أعلم الخلق به ﷺ لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وكيف تحصى خصائص اسم مسماه كل كمال على الاطلاق وكل مدح وكل حمد وكل ثناء وكل مجد وكل جلال وكل إكرام وكل عز وكل جمال وكل خير واحسان وجود وبر وفضل فله ومنه فما ذكر هذا الاسم في قليل إلا كثره ولا عند خوف إلا أزاله ولا عند كرب إلا كشفه ولا عند هم وغم إلا فرجه ولا عند ضيق إلا وسعه ولا تعلق به ضعيف إلا أفاده القوة ولا ذليل إلا أناله العز ولا فقير إلا أصاره غنيا ولا مشتوحش إلا آنسه ولا مغلوب إلا أيده ونصره ولا مضطر إلا كشف ضره ولا شريد إلا آواه فهو الاسم الذي تكشف به الكربات وتستنزل به البركات والدعوات وتقال به
العثرات وتستدفع به السيئات وتستجلب به الحسنات وهو الاسم الذي به قامت السموات والأرض وبه انزلت الكتب وبه ارسلت الرسل وبه شرعت الشرائع وبه قامت الحدود وبه شرع الجهاد وبه انقسمت الخليقة الى السعداء والأشقياء وبه حقت الحاقة ووقعت الواقعة وبه وضعت الموازين القسط ونصب الصراط وقام سوق الجنة والنار وبه عبد رب العالمين وحمد وبحقه بعثت الرسل وعنه السؤال في القبر ويوم البعث والنشور وبه الخصام واليه المحاكمة وفيه الموالاة والمعاداة وبه سعد من عرفه وقام بحقه وبه شقي من جهله وترك حقه فهو سر الخلق والامر وبه قاما وثبتا واليه انتهيا فالخلق والامر به واليه ولأجله فما وجد خلق ولا أمر ولا ثواب ولا عقاب الا مبتدءا منه منتهيا اليه وذلك موجبه ومقتضاه ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار الى اخر كلامه رضي الله عنه الرحمن الرحيم قال ابن كثير اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ورحمان اشد مبالغة من رحيم قال ابن عباس هما اسمان رقيقان احدهما أرق من الآخر اي اوسع رحمة وقال ابن المبارك الرحمن اذا سئل أعطى والرحيم اذا لم يسأل يغضب قلت كأن فيه اشارة الى معنى كلام ابن عباس لان رحمته تعالى تغلب غضبه وعلى هذا فالرحمن أوسع معنى من الرحيم كما يدل عليه زيادة البناء وقال ابو علي الفارسي الرحمن اسم عام في جميع انواع الرحمة يختص به الله تعالى والرحيم انما هو في جهة المؤمنين قال الله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما ونحوه قال بعض السلف ويشكل عليه قوله تعالى ان الله بالناس لرؤوف رحيم
وقوله ﷺ في الحديث رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما فالصواب إن شاء الله تعالى ما قاله ابن القيم ان الرحمان دال على الصفة القائمة به سبحانه والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم فكان الاول للوصف والثاني للفعل فالاول دال على ان الرحمة صفته والثاني دال على انه يرحم خلقه برحمته واذا اردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى وكان بالمؤمنين رحيما انه بهم رؤوف رحيم ولم يجيء قط رحمان بهم فعلم ان رحمان هو الموصوف بالرحمة ورحيم هو الراحم برحمته والرحمن الرحيم نعتان لله تعالى واعترض بورود اسم الرحمن غير تابع لاسم قبله قال تعالى الرحمن على العرش استوى فهو علم فكيف ينعت به والجواب ما قاله ابن القيم أن اسماء الرب تعالى هي أسماء ونعوت فانها دالة على صفات كماله فلا تنافي فيها بين العلمية والوصفية فالرحمن اسمه تعالى ووصفه تعالى لا ينافي اسميته فمن حيث هو صفة جرى تابعا لاسم الله تعالى ومن حيث هو اسم ورد في القرآن غير تابع بل ورد الاسم العلم ولما كان هذا الاسم مختصا به سبحانه حسن مجيئه مفردا غير تابع كمجيء اسم الله وهذا لا ينافي دلالته على صفة الرحمة كاسم الله فانه دال على صفة الالوهية فلم يجىء قط تابعا لغيره بل متبوعا وهذا بخلاف العليم والقدير والسميع والبصير ونحوها ولهذا لا تجيء هذه مفردة بل تابعة قلت قوله عن اسم الله ولم يجىء قط تابعا لغيره بل لقد جاء في قوله تعالى الى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السموات والارض على قراءة
الجر وجواب ذلك من كلامه المتقدم فيقال فيه ما قاله في اسم الرحمن - كتاب التوحيد الكتاب مصدر كتب يكتب كتابا وكتابة وكتبا ومدار المادة على الجمع ومنه تكتب بنو فلان اذا اجتمعوا والكتيبة لجماعة الخيل والكتابة بالقلم لاجتماع الكلمات والحروف وسمي الكتاب كتابا لجمعه ما وضع له ذكره غير واحد والتوحيد مصدر وحد يوحد توحيدا اي جعله واحدا وسمي دين الاسلام توحيدا لأن مبناه على ان الله واحد في ملكه وافعاله لا شريك له وواحد في ذاته وصفاته لا نظير له وواحد في إلهيته وعبادته لا ند له والى هذه الانواع الثلاثة ينقسم توحيد الانبياء والمرسلين الذين جاؤوا به من عند الله وهي متلازمة كل نوع منها لا ينفك عن الآخر فمن أتى بنوع منها ولم يأت بالآخر فما ذاك الا أنه لم يأت به على وجه الكمال المطلوب وان شئت قلت التوحيد نوعان توحيد في المعرفة والاثبات وهو توحيد الربوبية والاسماء والصفات وتوحيد في الطلب والقصد وهو توحيد الالهية والعبادة ذكره شيخ الاسلام وابن القيم وذكر معناه غيرهما النوع الأول توحيد الربوبية والملك وهو الاقرار بأن الله تعالى رب كل شيء ومالكه وخالقه ورازقه وأنه المحيي المميت النافع الضار المتفرد بإجابة الدعاء عند الاضطرار الذي له الامر كله وبيده الخير كله القادر على ما يشاء ليس له في ذلك شريك ويدخل في ذلك الايمان بالقدر وهذا التوحيد لا يكفي العبد في حصول الاسلام بل لا بد ان يأتي مع ذلك بلازمه من توحيد الآلهية لان الله تعالى حكى عن المشركين أنهم مقرون بهذا التوحيد لله وحده قال تعالى قل من يرزقكم من السماء والارض امن يملك السمع والابصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الامر فسيقولون الله
فقل أفلا تتقون وقال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله وقال و لئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وقال تعالى أمن يجيب المضطر اذا دعاه الآية فهم كانوا يعلمون أن جميع ذلك لله وحده ولم يكونوا بذلك مسلمين بل قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون قال مجاهد في الآية إيمانهم بالله قولهم إن الله خلقنا ويرزقنا ويميتنا فهذا إيمان مع شرك عبادتهم غيره رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وعن ابن عباس وعطاء والضحاك نحو ذلك فتبين أن الكفار يعرفون الله ويعرفون ربوبيته وملكه وقهره وكانوا مع ذلك يعبدونه ويخلصون له أنواعا من العبادات كالحج والصدقة والذبح والنذر والدعاء وقت الاضطرار ونحو ذلك ويدعون أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام فأنزل الله تعالى ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين وبعضهم يؤمن بالبعث والحساب وبعضهم يؤمن بالقدر كما قال زهير ... يؤخر فيوضع في كتاب فيدخر ... ليوم الحساب أو يعجل فينقم ... وقال عنترة ... ياعبل اين من المنية مهرب ... إن كان ربي في السماء قضاها ... ومثل هذا يوجد في اشعارهم فوجب على كل من عقل عن الله تعالى ان ينظر ويبحث عن السبب الذي اوجب سفك دمائهم وسبي نسائهم وإباحة أموالهم مع هذا الاقرار والمعرفة وما ذاك الا لاشراكهم في توحيد العبادة الذي هو معنى لا اله الا الله
النوع الثاني توحيد الأسماء والصفات وهو الاقرار بأن الله بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه الحي القيوم الذي لا تأحذه سنة ولا نوم له المشيئة النافذة والحكمة البالغة وأنه سميع بصير رؤوف رحيم على العرش استوى وعلى الملك احتوى وأنه الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون الى غير ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى وهذا أيضا لا يكفي في حصول الاسلام بل لا بد مع ذلك من الإتيان بلازمه من توحيد الربوبيه والالهية والكفار يقرون بجنس هذا النوع وإن كان بعضهم قد ينكر بعض ذلك إما جهلا وإما عنادا كما قالوا لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة فأنزل الله فيهم وهم يكفرون بالرحمن قال حافظ ابن كثير والظاهر أن إنكارهم هذا إنما هو جحود وعناد وتعنت في كفرهم فانه قد وجد في بعض أشعار الجاهلية تسمية الله بالرحمن قال الشاعر ... وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق ... وقال الآخر ... ألا قضب الرحمن ربي يمينها ... وهما جاهليان وقال زهير ... فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم ... قلت ولم يعرف عنهم إنكار شيء من هذا التوحيد إلا في اسم الرحمن خاصة ولو كانوا ينكرونه لردوا علىالنبي صلىالله عليه وسلم ذلك كما ردوا عليه توحيد الآلهية فقالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب لا سيما السور المكية مملوءة بهذا التوحيد
النوع الثالث توحيد الآلهية المبني على إخلاص التأله لله تعالى من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والرغبة والرهبة والدعاء لله وحده وينبني على ذلك إخلاص العبادات كلها ظاهرها وباطنها لله وحده لا شريك له لا يجعل فيها شيئا لغيره لا لملك مقرب ولا لنبي مرسل فضلا عن غيرهما وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى اياك نعبد واياك نستعين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون وقوله تعالى فان تولوا فقل حسبي الله لا اله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله تعالى رب السموات والأرض وما بينهما فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا وقوله تعالى عليه توكلت واليه أنيب وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله واعبد ربك حتى يأتيك اليقين وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره وباطنه وظاهره وهو اول دعوة الرسل وآخرها وهو معنى قول لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة والخشية والاجلال والتعظيم وجميع انواع العبادة ولأجل هذا التوحيد خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار وسعداء اهل الجنة وأشقياء أهل النار قال الله تعالى يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون فهذا
أول أمر في القرآن وقال تعالى لقد أرسلنا نوحا الى وقومه فقال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره فهذا دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك وقال هود لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال صالح لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال شعيب لقومه اعبدوا الله ما لكم من إله غيره وقال ابراهيم عليه السلام لقومه اني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين وقال تعالى وما ارسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فأعبدون وقال تعالى واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون وقال تعالى وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي ﷺ ما يقول لكم قال يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم وقال النبي ﷺ لمعاذ انك تأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية ان يوحدوا الله وهذا التوحيد هو أول واجب على المكلف لا النظر ولا القصد الى النظر ولا الشك في الله كما هي أقوال لمن لم يدر ما بعث الله به رسوله ﷺ من معاني الكتاب والحكمة فهو أول واجب وآخر واجب وأول ما يدخل به الاسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا كما قال ﷺ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة حديث صحيح وقال
أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله متفق عليه وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الافصاح وأبدأ فيه وأعاد وضرب لذلك الأمثال بحيث أن كل سورة في القرآن ففيها الدلالة على هذا التوحيد ويسمى هذا النوع توحيد الآلهية لأنه مبني على إخلاص التآله وهو أشد المحبة لله وحده وذلك يستلزم إخلاص العبادة وتوحيد العبادة لذلك وتوحيد الارادة لأنه مبني على إرادة وجه الله بالاعمال وتوحيد القصد لأنه مبني على إخلاص القصد المستلزم لإخلاص العبادة لله وحده وتوحيد العمل لأنه مبني على إخلاص العمل لله وحده قال الله تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين وقال قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل الله اعبد مخلصا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه الى قوله ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل هل يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون الى قوله قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته الآية إلى قوله اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية الى قوله وأنيبوا الى ربكم واسلموا له من قبل ان يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون إلى قوله قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين الى آخر السورة
فكل هذه السور في الدعاء إلى هذا التوحيد والأمر به والجواب عن الشبهات والمعارضات وذكر ما أعد الله لأهله من النعيم المقيم وما أعد لمن خالفه من العذاب الأليم وكل سورة في القرآن بل كل آية في القرآن فهي داعية إلى هذا التوحيد شاهدة به متضمنة له لأن القرآن إما خبر عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله وهو توحيد الربوبية وتوحيد الصفات فذاك مستلزم لهذا متضمن له وإما دعاء الى عبادته وحده لا شريك له وخلع ما يعبد من دونه أوامر بانواع من العبادات ونهي عن المخالفات فهذا هو توحيد الالهية والعبادة وهو مستلزم للنوعين الأولين متضمن لهما ايضا واما خبر عن إكرامه لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرههم به في الآخرة فهو جزاء توحيده وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من الوبال فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد وهذا التوحيد هو حقيقة دين الاسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه كما قال النبي ﷺ بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وايتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت رواه البخاري ومسلم فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال فدل على أن الاسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له بفعل المأمور وترك المحظور والاخلاص في ذلك لله وقد تضمن ذلك جميع أنواع العبادة فيجب إخلاصها لله تعالى فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في شيء فليس بمسلم
فمنها المحبة فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك كما قال تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله الى قوله تعالى وما هم بخارجين من النار ومنها التوكل فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين وعلى الله فليتوكل المؤمنون والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر ومنا الخوف فلا يخاف خوف السر إلا من الله ومعنى خوف السر هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى ان يصيبه مكروه بمشيئته و قدرته وإن لم يباشره فهذا شرك أكبر لأنه اعتقاد للنفع والضر في غير الله قال الله تعالى فأياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم ومنها الرجاء فيما لا يقدر عليه إلا الله كمن يدعو الأموات أو غيرهم راجيا حصول مطلوبه من جهتهم فهذا شرك أكبر قال الله تعالى ان الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله وقال علي رضي الله عنه لا يرجون عبد إلا ربه ومنها الصلاة والركوع والسجود قال الله تعالى فصل لربك وانحر
وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم الاية ومنها الدعاء فيما لا يقدر عليه إلا الله سواء كان طلبا للشفاعة أو غيرها من المطالب قال الله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني استجب لكم ان الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وقال تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين وقال تعالى ام اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا الآية ومنها الذبح قال الله تعالى قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية والنسك الذبح ومنها النذر قال الله تعالى وليوفوا نذورهم وقال تعالى يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا ومنها الطواف فلا يطاف إلا ببيت الله قال الله تعالى وليطوفوا بالبيت العتيق ومنها التوبة فلا يتاب إلا لله قال الله تعالى ومن يغفر الذنوب الا الله
وقال تعالى وتوبوا الى الله جميعا ايها المؤمنون لعلكم تفلحون ومنها الاستعاذة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ومنها الاستغاثة فيما لا يقدر عليه إلا الله قال الله تعالى اذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم فمن أشرك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق تعالى من هذه العبادات أو غيرها فهو مشرك وإنما ذكرنا هذه العبادات خاصة لأن عباد القبور صرفوها للاموات من دون الله تعالى أو أشركوا بين الله تعالى وبينهم فيها وإلا فكل نوع من انواع العبادة من صرفه لغير الله أو شرك بين الله تعالى وبين غيره فيه فهو مشرك قال الله تعالى واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وهذا الشرك في العبادة هوالذي كفر الله به المشركين وأباح به دماءهم وأموالهم ونساءهم وإلا فهم يعلمون أن الله هو الخالق الرازق المدبر ليس له شريك في ملكه وانما كانوا يشركون به في هذه العبادات ونحوها وكانوا يقولون في تلبيتهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك فأتاهم النبي ﷺ بالتوحيد الذي هو معنى لا إله إلا الله الذي مضمونه أن لا يعبد إلا الله لا ملك مقرب ولا نبي مرسل فضلا عن غيرهما فقالوا أجعل الآلهة الها واحدا إن هذا لشيء عجاب
وكانوا يجعلون من الحرث والأنعام نصيبا لله وللآلهة مثل ذلك فإذا صار شيء من الذي لله الى الذي للآلهة تركوه لها وقالوا الله غني واذا صار شيء من الذي للآلهة الى الذي لله تعالى ردوه وقالوا الله غني والالهة فقيرة فأنزل الله تعالى وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون وهذا بعينه يفعله عباد القبور بل يزيدون على ذلك فيجعلون للأموات نصيبا من الأولاد إذا تبين هذا فاعلم أن الشرك ينقسم ثلاثة أقسام بالنسبة الى أنواع التوحيد وكل منها قد يكون أكبر وأصغر مطلقا وقد يكون أكبر بالنسبة الى ما هو أصغر منه ويكون أصغر بالنسبة إلى ما هو أكبر منه القسم الأول الشرك في الربوبية وهو نوعان أحدهما شرك التعطيل وهو أقبح أنواع الشرك كشرك فرعون إذ قال وما رب العالمين ومن هذا شرك الفلاسفة القائلين بقدم العالم وأبديته وأنه لم يكن معدوما أصلا بل لم يزل ولا يزال والحوادث بأسرها مستندة عندهم إلى اسباب ووسائط اقتضت إيجادها يسمونها العقول والنفوس ومن هذا شرك طائفة أهل وحدة الوجود كابن عربي وابن سبعين والعفيف التلمساني وابن الفارض ونحوهم من الملاحدة الذين كسوا الإلحاد حلية الاسلام ومزجوه بشيء من الحق حتى راج أمرهم على خفافيش البصائر ومن هذا شرك من عطل أسماء الرب وأوصافه من غلاة الجهمية والقرامطة
النوع الثاني شرك من جعل معه إلها آخر ولم يعطل أسماءه وصفاته وربوبيته كشرك النصارى الذين جعلوه ثالث ثلاثة وشرك المجوس القائلين باسناد حوادث الخير الى النور و حوادث الشر إلى الظلمة ومن هذا شرك كثير ممن يشرك بالكواكب العلويات ويجعلها مدبرة لأمر هذا العالم كما هو مذهب مشركي الصابئة وغيرهم قلت ويلتحق به من و جه شرك غلاة عباد القبور الذين يزعمون أن أرواح الأولياء تتصرف بعد الموت فيقضون الحاجات ويفرجون الكربات وينصرون من دعاهم ويحفظون من التجأ اليهم ولاذ بحماهم فإن هذه من خصائص الربوبية كما ذكره بعضهم في هذا النوع القسم الثاني الشرك في توحيد الأسماء والصفات وهو أسهل مما قبله وهو نوعان أحدهما تشبيه الخالق بالمخلوق كمن يقول يد كيدي وسمع كسمعي وبصر كبصري واستواء كاستوائي وهو شرك المشبهة الثاني اشتقاق أسماء للآلهة الباطلة من أسماء الإله الحق قال الله تعالى ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون قال ابن عباس يلحدون في أسمائه يشركون وعنه سموا اللات من الاله والعزى من العزيز القسم الثالث الشرك في توحيد الآلهية والعبادة قال القرطبي أصل الشرك المحرم اعتقاد شريك لله تعالى في الآلهية وهو الشرك الأعظم وهو شرك الجاهلية ويليه في الرتبة اعتقاد شريك لله تعالى في الفعل وهو قول
من قال إن موجودا ما غير الله تعالى يستقل بإحداث فعل وإيجاد وإن لم يعتقد كونه الها هذا كلام القرطبي وهو نوعان احدهما أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويسأله الشفاعة كما يسأل الله ويرجوه كما يرجو الله ويحبه كما يحب الله ويخشاه كما يخشى الله وبالجملة فهو أن يجعل لله ندا يعبده كما يعبد الله وهذا هو الشرك الأكبر وهو الذي قال الله فيه واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون وقال تعالى الله الذي خلق السموات والارض في ستة أيام ثم استوى على العرض ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تذكرون والآيات في النهي عن هذا الشرك وبيان بطلانه كثيرة جدا الثاني الشرك الأصغر كيسير الرياء والتصنع للمخلوق وعدم الإخلاص لله تعالى في العبادة بل يعمل لحظ نفسه تارة ولطلب الدنيا تارة ولطلب المنزلة والجاه عند الخلق تارة فلله من عمله نصيب ولغيره منه نصيب ويتبع هذا النوع الشرك بالله في الألفاظ كالحلف بغير الله وقول ما شاء الله وشئت ومالي إلا الله وأنت وأنا في حسب الله وحسبك ونحوه وقد يكون ذلك شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده هذا حاصل كلام ابن القيم وغيره
وقد استوفى المصنف رحمه الله بيان جنس العبادة التي يجب إخلاصها لله بالتنبيه على بعض أنواعها وبيان ما يضادها من الشرك بالله تعالى في العبادات والإرادات والألفاظ كما سيمر بك ان شاء الله تعالى مفصلا في هذا الكتاب فالله تعالى يرحمه ويرضى عنه فان قلت هلا أتى المصنف رحمه الله بخطبه تنبىء عن مقصده كما صنع غيره قيل كأنه والله أعلم اكتفى بدلالة الترجمة الأولى على مقصوده فانه صدره بقوله كتاب التوحيد وبالآيات التي ذكرها وما يتبعها مما يدل على مقصوده فكأنه قال قصدت جمع أنواع توحيد الالهية التي وقع أكثر الناس في الإشراك فيها وهم لا يشعرون وبيان شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك فاكتفى بالتلويح عن التصريح والألف واللام في التوحيد للعهد الذهني قوله وقول الله تعالى وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون يجوز في قول الله الرفع والجر وهكذا حكم ما يمر بك من هذا الباب قال شيخ الاسلام العبادة هي طاعة الله بامتثال ما أمر به على ألسنة الرسل وقال أيضا العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والاعمال الباطنة والظاهرة قال ابن القيم ومدارها على خمس عشرة قاعدة من كملها كمل مراتب العبودية وبيان ذلك أن العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح والأحكام التي للعبودية خمسة واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهن لكل واحد من القلب واللسان والجوارح وقال القرطبي
أصل العبادة التذلل والخضوع وسميت وظائف الشرع على المكلفين عبادات لأنهم يلتزمونها ويفعلونها خاضعين متذللين لله تعالى وقال ابن كثير العبادة في اللغة من الذلة يقال طريق معبد وغير معبد أي مذلل وفي الشرع عبارة عما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف وهكذا ذكر غيرهم من العلماء ومعنى الآية أن الله تعالى أخبر أنه ما خلق الإنس والجن إلا لعبادته فهذا هو الحكمة في خلقهم ولم يرد منهم ما تريده السادة من عبيدها من الإعانة لهم بالرزق والإطعام بل هو الرازق ذو القوة المتين الذي يطعم ولا يطعم كما قال تعالى قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السموات والأرض وهو يطعم ولا يطعم الآية وعبادته هي طاعته بفعل المأمور وترك المحظور وذلك هو حقيقة دين الإسلام لأن معنى الاسلام هو الاستسلام لله المتضمن غاية الانقياد في غاية الذل والخضوع قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في الاية إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم الى عبادتي وقال مجاهد إلا لآمرهم وأنهاهم واختاره الزجاج وشيخ الاسلام قال ويدل على هذا قوله أيحسب الانسان أن يترك سدى قال الشافعي لا يؤمر ولا ينهى وقوله قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم أي لولا عبادتكم اياه وقد قال في القرآن في غير موضع اعبدوا ربكم اتقوا ربكم فقد أمرهم بما خلقوا له وأرسل الرسل الى الجن والانس بذلك وهذا المعنى هو الذي قصد بالآية قطعا وهو الذي يفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية
عليه ويقرون أن الله إنما خلقهم ليعبدوه العبادة الشرعية وهي طاعته وطاعة رسله لا ليضيعوا حقه الذي خلقهم له قال وهذه الآية تشبه قوله تعالى ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم وقوله وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع باذن الله ثم قد يطاع وقد يعصى وكذلك ماخلقهم إلا للعبادة ثم قد يعبدون وقد لا يعبدون وهو سبحانه لم يقل إنه فعل الأول وهو خلقهم ليفعل بهم كلهم الثاني وهو عبادته ولكن ذكر الأول ليفعلوا هم الثاني فيكونوا هم الفاعلين له فيحصل لهم بفعله سعادتهم ويحصل ما يحبه ويرضاه منهم ولهم انتهى والآية دالة على وجوب اختصاص الخالق تعالى بالعبادة لأنه سبحانه هو ابتدأك بخلقك والإنعام عليك بقدرته ومشيئته ورحمته من غير سبب منك أصلا وما فعله بك لا يقدر عليه غيره ثم إذا احتجت إليه في جلب رزق أو دفع ضر فهو الذي يأتي بالرزق لا يأتي به غيره وهوالذي يدفع الضر لا يدفعه غيره كما قال تعالى أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور وهو سبحانه ينعم عليك ويحسن اليك بنفسه فإن ذلك موجب ما تسمى به ووصف به نفسه اذ هو الرحمن الرحيم الودود المجيد وهو قادر بنفسه وقدرته من لوازم ذاته وكذلك رحمته وعلمه وحكمته لا يحتاج إلى خلقه بوجه من الوجوه بل هو الغني عن العالمين فمن شكر فإنما يشكر لنفسه
ومن كفر فإن ربي غني كريم فالرب سبحانه غني بنفسه وما يستحقه من صفات الكمال ثابت له بنفسه واجب له من لوازم ذاته لا يفتقر في شيء من ذلك إلى غيره ففعله وإحسانه وجوده من كماله لا يفعل شيئا لحاجة إلى غيره بوجه من الوجوه بل كل ما يريد فعله فإنه فعال لما يريد وهو سبحانه بالغ أمره فكل ما يطلبه فهو يبلغه ويناله ويصل إليه وحده ولا يعينه أحد ولا يعوقه أحد لا يحتاج في شيء من اموره الى معين وما له من المخلوقين من ظهير وليس له ولي من الذل قاله شيخ الإسلام قال وقوله ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت قالوا الطاغوت مشتق من الطغيان وهو مجاوزة الحد وقد فسره السلف ببعض أفراده قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الطاغوت الشيطان وقال جابر رضي الله عنه الطواغيت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين رواهما ابن أبي حاتم وقال مجاهد الطاغوت الشيطان في صورة الإنسان يتحاكمون اليه وهو صاحب أمرهم وقال مالك الطاغوت كل ما عبد من دون الله قلت وهو صحيح لكن لا بد فيه من استثناء من لا يرضى بعبادته وقال ابن القيم الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إلى غير الله ورسوله أو يعبدونه من دون الله أو يتبعونه على غير بصيرة من الله أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة الله فهذه طواغيت العالم اذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله الى عبادة الطاغوت وعن طاعته أو متابعة رسوله ﷺ إلى طاعة الطاغوت ومتابعته
وأما معنى الآيه فأخبر تعالى أنه بعث في كل أمة أي في كل طائفة وقرن من الناس رسولا بهذه الكلمة أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت أي اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه فلهذا خلقت الخليقة وأرسلت الرسل وأنزلت الكتب كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال تعالى قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به اليه أدعو وإليه مآب وهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله فإنها تضمنت النفي والاثبات كما تضمنته لا لله إله إلا الله ففي قوله اعبدوا الله الاثبات وفي قوله اجتنبوا الطاغوت النفي فدلت الآية على أنه لا بد في الاسلام من النفي والاثبات فيثبت العبادة لله وحده وينفي عبادة ما سواه وهو التوحيد الذي تضمنته سورة قل يا أيها الكافرون وهو معنى قوله فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم قال ابن القيم وطريقة القرآن في مثل هذا أن يقرن النفي بالاثبات فينفي عبادة ما سوى الله وثبت عبادته وهذا هو حقيقة التوحيد والنفي المحض ليس بتوحيد وكذلك الاثبات بدون النفي فلا يكون التوحيد إلا متضمنا للنفي والاثبات وهذا حقيقة لا إله إلا الله انتهى ويدخل في الكفر بالطاغوت بغضه وكراهته وعدم الرضى بعبادته بوجه من الوجوه ودلت الآية على أن الحكمة في إرسال الرسل هو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وان أصل دين الانبياء واحد وهو الإخلاص في العبادة لله وان اختلفت شرائعهم كما قال تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وانه لابد في الايمان من العمل ردا على المرجئة
قال قوله وقضى ربك ألا تعبدوا إلا أياه وبالوالدين إحسانا هكذا ثبت في بعض الأصول لم يذكر الآية بكمالها قال مجاهد وقضى يعني وصى وكذلك قرأ أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس وغيرهم وروى ابن جرير عن ابن عباس في قوله وقضى ربك يعني أمر وقوله ألا تعبدوا إلا إياه أن هي المصدرية وهي في محل جر بالباء والمعنى أن تعبدوه ولا تعبدوا غيره ممن لا يملك ضرا ولا نفعا بل هو إما فقير محتاج إلى رحمة ربه يرجوها كما ترجونها وأما جماد لا يستجيب لمن دعاه وقوله وبالوالدين إحسانا أي وقضى أن تحسنوا بالوالدين إحسانا كما قضى بعبادته وحده لا شريك له وعطف حقهما على حق الله تعالى دليل على تأكد حقهما وأنه أوجب الحقوق بعد حق الله وهذا كثير في القرآن يقرن بين حقه تعالى وبين حق الوالدين كقوله ان اشكر لي ولوالديك إلى المصير وقال وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا ولم يخص تعالى نوعا من أنواع الإحسان ليعم أنواع الاحسان وقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ بالأمر ببر الوالدين والحث على ذلك وتحريم عقوقهما كما في القرآن ففي صحيح البخاري عن ابن مسعود قال سألت النبي ﷺ أي الأعمال أحب إلى الله قال الصلاة على وقتها قلت ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ولو استزدته لزادني وعن أبي بكرة قال قال رسول الله صلىالله عليه وسلم ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قلنا بلى يا رسول الله قال الإشراك بالله وعقوق الوالدين وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور ألا و شهادة الزور فما زال يكررها
حتى قلنا ليته سكت رواه البخاري ومسلم وعن أبي هريرة قال قال رجل يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أمك قال ثم من قال أبوك أخرجاه وعن عبدالله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ رضى الرب في رضى الوالدين وسخطه في سخط الوالدين رواه الترمذي وصححه ابن حبان والحاكم وعن أبي أسيد الساعدي قال بينا نحن جلوس عند النبي ﷺ اذ جاء رجل من بني سلمة فقال يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما فقال نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما من بعدهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما رواه ابو داود وابن ماجه وابن حبان في صحيحه والأحاديث في هذا كثيرة قد أفردها العلماء بالتصنيف وذكر البخاري منها شطرا صالحا في كتاب الادب المفرد قال وقوله قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا الآيات قال ابن كثير يقول الله تعالى النبيه ورسوله محمد ﷺ قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم وكل ذلك فعلوه بآرائهم الفاسدة وتسويل الشيطان لهم تعالوا اي هلموا وأقبلوا أتل ما حرم ربكم عليكم أي أقصص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقا لا تخرصا ولا ظنا بل وحي منه وأمر من عنده الا تشركوا به شيئا قال وكأن في الكلام محذوفا دل عليه السياق وتقديره وصاكم ان لا تشركوا به شيئا ولهذا قال في آخر الآية ذلكم وصاكم به قلت ابتدأ تعالى هذه
الآيات المحكمات بتحريم الشرك والنهي عنه فحرم علينا أن نشرك به شيئا فشمل ذلك كل مشرك به وكل مشرك فيه من أنواع العبادة فإن شيئا النكرات فيعم جميع الاشياء وما أباح تعالى لعباده ان يشركوا به شيئا فإن ذلك أظلم الظلم وأقبح القبيح ولفظ الشرك يدل على ان المشركين كانوا يعبدون الله ولكن يشركون به غيره من الأوثان والصالحين والأصنام فكانت الدعوة واقعة على ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وكانت لا إله إلا الله متضمنة لهذا المعنى فدعاهم النبي ﷺ الى الاقرار بها نطقا وعملا واعتقادا ولهذا إذا سئلوا عما يقول لهم قالوا يقول اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم كما قاله ابو سفيان وقوله وبالوالدين إحسانا قال القرطبي الاحسان الى الوالدين برهما وحفظهما وصيانتهما وامتثال أمرهما وإزالة الرق عنهما وترك السلطنة عليهما و إحسانا نصب على المصدرية وناصبة فعل مضمر من لفظه تقديره وأحسنوا بالوالدين إحسانا وقوله ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم الاملاق الفقر أي لا تئدوا بناتكم خشية العيلة والفقر فإني رازقكم و اياهم وكان منهم من يفعل ذلك بالاناث والذكور خشية الفقر ذكره القرطبي وفي الصحيحين عن ابن سعود قال قلت يا رسول الله أي الذنب اعظم عند الله قال إن تجعل لله ندا وهو خلقك قلت ثم أي قال أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك قلت ثم أي قال ان تزاني حليلة جارك ثم تلا رسول الله ﷺ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن قال ابن عطية نهي عام عن جميع أنواع الفواحش وهي المعاصي وظهر وبطن حالتان تستوفيان أقسام ما جعلت له من الأشياء وفي
التفسير المنسوب إلى أبي علي الطبري من الحنفية وهو تفسير عظيم و لا تقربوا الفواحش أي القبائح وعن ابن عباس والضحاك والسدي أن من الكفار من كان لا يرى بالزنا بأسا إذا كان سرا وقيل الظاهر ما بينك وبين الخلق والباطن ما بينك وبين الله انتهى وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا أحد أعير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق قال ابن كثير هذا مما نص تعالى على النهي عنه تأكيدا وإلا فهو داخل في النهي عن الفواحش وفي الصحيحين عن ابن مسعود مرفوعا لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا باحدي ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة وعن ابن عمر مرفوعا من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما رواه البخاري ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون قال ابن عطية ذلكم إشارة الى هذه المحرمات والوصية الأمر المؤكد المقرر وقوله لعلكم تعقلون ترج بالاضافة الينا أي من سمع هذه الوصية يرجى وقوع أثر العقل بعدها قلت هذا غير صحيح والصواب أن لعل هنا للتعليل أي ان الله وصانا بهذه الوصايا لنعقلها عنه ونعمل بها كما قال وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكوة وفي تفسير الطبري الحنفي ذكر أولا تعقلون ثم تذكرون ثم تتقون لأنهم اذا
عقلوا تذكروا فإذا فإذا تذكروا تذكروا خافوا واتقوا المهالك ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده قال ابن عطية هذا نهي عن القرب الذي يعم وجوه التصرف وفيه سد الذريعة ثم استثنى ما يحسن وهو التشمير والسعي في نمائه قال مجاهد التي هي أحسن التجارة فيه فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذا ثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرهما ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه من ربح نظره وإلا دعت الضرورة إلى ترك مال اليتيم دون نظر فالأحسن أن ينظر ويأكل بالمعروف قاله ابن زيد وقوله حتى يبلغ أشده قال مالك وغيره هو الرشد وزوال السفه مع البلوغ قال ابن عطية وهو أصح الأقوال وأليقها بهذا الموضع قلت وقد روي نحوه عن زيد ابن أسلم والشعبي وربيعة وغيرهم ويدل عليه قوله تعالى وابتلوا اليتامى حتى اذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا اليهم أموالهم فاشترط تعالى للدفع اليهم ثلاثة شروط الأول ابتلاؤهم وهو اختبارهم وامتحانهم بما يظهر به معرفتهم لمصالح أنفسهم وتدبير أموالهم والثاني البلوغ والثالث الرشد وأوفوا الكيل والميزان بالقسط قال ابن كثير يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد عليه في قوله ويل للمطففين الذين اذا اكتالوا على الناس يستوفون واذا كالوهم أوزنوهم يخسرون إلى قوله يوم يقوم الناس لرب العالمين وقد
أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان وقال غيره القسط العدل وقد روى الترمذي وغيره باسناد ضعيف عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لأصحاب الكيل والميزان انكم وليتم أمرا هلكت فيه الأمم السالفة قبلكم وروي عن ابن عباس موقوفا باسناد صحيح لانكلف نفسا إلا وسعها قال ابن كثير أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه فان اخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه وقد روى ابن مردويه عن سعيد المسيب مرفوعا اوفوا الكيل والميزان بالقسط لا يكلف نفسا إلا وسعها قال من أوفى على يده في الكيل والميزان والله يعلم صحة نيته بالوفاء فيهما ما لم يؤاخذ وذلك تأويل وسعها قال هذا مرسل غريب قلت وفيه رد على القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى هذا أمر بالعدل في القول والفعل على القريب والبعيد قال الحنفي العدل في القول في حق الولي والعد لا يتغير بالرضى والغضب بل يكون على الحق والصدق وإن كان ذا قربى فلا يميل الى الحبيب ولا الى القريب ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى وبعهد الله أوفوا قال ابن جرير يقول وبوصية الله التي وصاكم بها فأوفوا وانقادوا لذلك بأن تطيعوه فيما أمر به ونهاكم عنه وتعملوا بكتابه وسنة رسوله وذلك هو الوفاء بعهد الله وكذا قال غيره قلت وهو حسن ولكن الظاهر أن الآية فيما هو خص كالبيعة والذمة
والأمان والنذر ونحو ذلك وهذه الآية كقوله وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم فهذا هوالمقصود بالآية وان كانت شاملة لما قالوا بطريق العموم ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون يقول تعالى هذا وصاكم وأمركم به وأكد عليكم فيه لعلكم تذكرون أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ش قال القرطبي هذه آية عظيمة عطفها الله على ما تقدم فانه لما نهى وأمر حذر عن اتباع غير سبيله وأمر فيا باتباع طريقه على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف وأن في موضع نصب أي واتلوا أن هذا صراطي عن الفراء والكسائي قال الفراء ويجوز أن يكون خفضا أي وصاكم به وبأن هذا صراطي قال والصراط الطريق الذي هو دين الاسلام مستقيما نصب على الحال ومعناه مستويا قويما لا اعوجاج فيه فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد ﷺ وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق فمن سلك الجادة نجا ومن خرج الى تلك الطرق أفضت به الى النار قال الله تعالى ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله أي تميل انتهى وروى أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال خط رسول الله ﷺ خطا بيده ثم قال هذا سبيل الله مستقيما ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط وعن شماله ثم قال وهذه السبل ليس منها سبيل الا عليه شيطان يدعو اليه ثم قرأ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
وعن النواس بن سمعاس مرفوعا قال ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة وعلى الصراط داع يقول يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا وداع يدعو من جوف الصراط فاذا أراد الانسان أن يفتح شيئا من تلك الابواب قال لا تفتحه فانك إن تفتحه تلجه فالصراط الإسلام والسوران حدود الله والأبواب المفتحة محارم الله وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم رواه احمد والترمذي والنسائي وابن جرير ابن ابي حاتم وعن مجاهد في قوله ولا تتبعوا السبل قال البدع والشبهات رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه السبل تعم اليهودية والنصرانية والمجوسية وعباد القبور وسائر أهل الملل والاوثان والبدع والضلالات من أهل الشذوذ والأهواء والتعمق في الجدل والخوض في الكلام فاتباع هذه من اتباع السبل التي تذهب بالإنسان عن الصراط المستقيم الى موافقة أصحاب الجحيم كما قال النبي ﷺ من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد وفي رواية كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد حديث صحيح قال ابن مسعود تعلموا العلم قبل أن يقبض وقبضه ذهاب أهله الا وإياكم والتنطع والتعمق والبدع وعليكم بالعتيق رواه الدارمي قلت العتيق هو القديم يعني ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه من الهدى دون ما حدث بعدهم فالهرب الهرب و النجاء النجاء والتمسك
بالطريق المستقيم والسنن القويم وهو الذي كان عليه السلف الصالح وفيه المتجر الرابح قاله القرطبي وقال سهل بن عبدالله عليكم بالأثر والسنة فاني أخاف أنه سيأتي عن قليل زمان إذا ذكر إنسان النبي صلىالله عليه وسلم والاقتداء به في جميع أحواله ذموه ونفروا عنه وتبرؤا منه وأذلوه وأهانوه قلت رحم الله سهلا ما أصدق فراسته فلقد كان ذلك وأعظم وهو أن يكفر الانسان بتجريد التوحيد والمتابعة والأمر بإخلاص العبادة لله وترك عبادة ما سواه والأمر بطاعة رسول الله ﷺ وتحكيمه في الدقيق والجليل قال ابن القيم رحمه الله تعالى ولنذكر في الصراط المستقيم قولا وجيزا فان الناس قد تنوعت عباراتهم عنه وترجمتهم عنه بحسب صفاته ومتعلقاته وحقيقته بشيء واحد وهو طريق الله الذي نصبه لعباده موصلا لهم اليه ولا طريق اليه سواه بل الطرق كلها مسدودة على الخلق الا طريقه الذي نصبه على ألسن رسله وجعله موصولا لعباده اليه وهو إفراده بالعبودية وإفراد رسوله بالطاعة فلا يشرك به أحد في عبوديته ولا يشرك برسوله أحد في طاعته فيجرد التوحيد ويجرد متابعة الرسول ﷺ وهذا معنى قول بعض العارفين إن السعادة كلها والفلاح كله مجموع في شيئين صدق محبة وحسن معاملة وهذا كله مضمون شهادة أن لا اله الا الله وأن محمد رسول الله فأي شيء فسر به الصراط المستقيم فهو داخل في هذين الأصلين ونكتة ذلك أن تحبه بقلبك كله وترضيه بجهدك كله فلا يكون في قلبك موضع الا معمور بحبه ولا يكون لك إرادة إلا متعلقة بمرضاته فالأول يحصل بتحقيق شهادة أن لا اله الا الله والثاني يحصل بتحقيق شهادة أن محمدا رسول الله وهذا هوالهدى ودين الحق وهو معرفة الحق والعمل به وهو
معرفة ما بعث الله به رسوله والقيام به فقل ماشئت من العبارات التي هذا اخيتها وقطب رحاها قال وقوله واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا هكذا أثبت في نسخة بخط شيخنا ولم يذكر الآية قال ابن كثير يأمر تعالى عباده بعبادته وحده لا شريك له فإنه الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئا من مخلوقاته قلت هذا أول أمر في القرآن وهو الأمر بعبادته وحده لا شريك له والنهي عن الشرك كما في قوله يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون وتأمل كيف أمر تعالى بعبادته أي فعلها خالصة له ولم يخص بذلك نوعا من أنواع العبادة لا دعاء ولا صلاة ولا غيرهما ليعم جميع أنواع العبادة ونهى عن الشرك به ولم يخص أيضا نوعا من أنواع العبادة بجواز الشرك فيه في هذه الآية واللواتي قبلها دليل على أن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه والا فكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره فأسروا بالتوحيد وهو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه وفيهن دليل على أن التوحيد أول واجب على المكلف وهو الكفر بالطاغوت والايمان بالله المستلزم لعبادته وحده لا شريك له وأن من عبد غير الله بنوع من أنواع العبادة فقد أشرك سواء كان المعبود ملكا أو نبيا أو صالحا أو صنما قال ابن مسعود من أراد ان ينظر الى وصية محمد صلىالله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ قال تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم الى قوله وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه الاية
ابن مسعود هو عبدالله بن مسعود بن غافل بمعجمة وفاء ابن حبيب الهذلي أبو عبدالرحمن صحابي جليل من السابقين الأولين وأهل بدر وبيعة الرضوان ومن كبار العلماء من الصحابة أمره عمر على الكوفة ومات سنة اثنتين وثلاثين وهذا الأثر رواه الترمذي وحسنه وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى أبو عبيد وعبد بن حميد عن الربيع بن خيثم نحوه قال بعضهم ما معناه أي من أراد أن ينظر الى الوصية التي كأنها كتبت وختم عليها ثم طويت فلم تغير ولم تبدل تشبيها لها بالكتاب الذي كتب ثم ختم عليه فلم يزد فيه ولم ينقص لأن النبي ﷺ كتبها وختم عليها وأوصى بها فإن النبي ﷺ لم يوص الا بكتاب الله كما قال فيما رواه مسلم واني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله قلت وقد روى عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث ثم تلا قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم حتى فرغ من ثلاث آيات ثم قال من وفى بهن فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ومن أخره الى الآخرة كان أمره الى الله ان شاء أخذه وان شاء عفا عنه رواه ابن أبي حاتم والحاكم وصححه فهذا يدل على ان النبي ﷺ يعتني بهن ويبالغ في الحث على العمل بهن وعن معاذ بن جبل قال كنت رديف النبي ﷺ على حمار فقال لي يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله فقلت الله ورسوله أعلم قال حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا فقلت يا رسول الله أفلا أبشر الناس قال لاتبشرهم فيتكلوا اخرجاه في الصحيحين
هذا الحديث في الصحيحين وبعض رواياته نحو ما ذكر المصنف ومعاذ هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الانصاري الخزرجي أبو عبدالرحمن صحابي مشهور من أعيان الصحابة شهد بدرا وما بعدها وكان اليه المنتهى في العلم بالاحكام والقرآن رضي الله عنه مات سنة ثمان عشرة بالشام قوله كنت رديف النبي ﷺ فيه جواز الارداف على الدابة وفضيلة لمعاذ من جهة ركوبه خلف النبي صلىالله عليه وسلم قوله على حمار في رواية اسمه عفير بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة قال ابن الصلاح وهو الحمار الذي كان له ﷺ قيل انه مات في حجة الوداع وفيه تواضعه صلىالله عليه وسلم للارداف ولركوب الحمار خلاف ما عليه أهل الكبر قوله أتدري ما حق الله على العباد الدراية هي المعرفة وأخرج السؤال بصيغة الاستفهام ليكون أوقع في النفس وأبلغ في فهم المتعلم فان الانسان اذا سئل عن مسألة لا يعلمها ثم أخبر بها بعد الامتحان بالسؤال عنها فان ذلك وعى لفهمها وحفظها وهذا من حسن ارشاده وتعليمه ﷺ وحق الله على العباد هو ما يستحقه عليهم ويجعله متحتما وحق العباد على الله معناه أنه متحقق لا محالة لأنه قد وعدهم ذلك جزاء لهم على توحيده ووعده حق إن الله لا يخلف الميعاد وقال شيخ الإسلام كون المطيع يستحق الجزاء هو استحقاق إنعام وفضل ليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوق على المخلوق فمن الناس من يقول لا معنى للاستحقاق إلا أنه أخبر بذلك ووعده صدق ولكن أكثر الناس يثبتون استحقاقا زائدا على هذا كما دل عليه الكتاب والسنة قال تعالى وكان حقا علينا نصر المؤمنين ولكن أهل السنة يقولون هو الذي كتب على نفسه الرحمة وأوجب هذا الحق على نفسه لم يوجبه عليه مخلوق والمعتزلة
يدعون أنه واجب عليه بالقياس على الخلق وأن العباد هم الذين أطاعوه بدون أن يجعلهم مطيعين له وأنهم يستحقون الجزاء بدون أن يكون هو الموجب وغلطوا في ذلك وهذا الباب غلطت فيه القدرية والجبرية تباع جهم والقدرية النافية قوله فقلت الله ورسوله أعلم فيه حسن أدب المتعلم وأنه ينبغي لمن سئل عما لا يعلم أن يقول ذلك بخلاف أكثر المتكلفين قوله ان يعبدوه ولا يشركوا به شيئا أي يوحدوه بالعبادة وحده ولا يشركوا به شيئا وفائدة هذه الجملة بيان أن التجرد من الشرك لابد منه في العبادة والا فلا يكون العبد آتيا بعبادة الله بل مشرك وهذا هو معنى قول المصنف إن العبادة هي التوحيد لأن الخصومة فيه وفيه معرفة حق الله على العباد وهو عبادته وحده لا شريك له فيا من حق سيده الاقبال عليه والتوجه بقلبه اليه لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره فما هذه الاساءة القبيحة في معاملته مع هذا التشريف والصيانة فهو يعظمك ويدعوك الى الاقبال وأنت تأبى الا مبارزته بقبائح الأفعال في بعض الآثار الالهية إني والجن والانس في نبأ عظيم أخلق ويعبد غيري ورزق ويشكر سواي خيري الى العباد نازل وشرهم الى صاعد أتحبب اليهم بالنعم ويتبغضون الى بالمعاصي وكيف يعبده حق عبادته من صرف سؤاله ودعاءه وتذلله واضطراره وخوفه ورجاءه وتوكله وإنابته وذبحه ونذره لمن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا من ميت رميم في التراب أو بناء مشيد من القباب فضلا مما هو شر من ذلك قوله وحق العباد على الله ان لا يعذب من لا يشرك به شيئا قال الخلخالي تقديره أن لا يعذب من يعبده ولا يشرك به شيئا والعبادة هي
الاتيان بالأوامر والانتهاء عن المناهي لأن مجرد عدم الاشتراك لا يقتضي نفي العذاب وقد علم ذلك من القرآن والأحاديث الواردة في تهديد الظالمين والعصاة وقال الحافظ اقتصر على نفي الاشراك لأنه يستدعي التوحيد بالاقتضاء ويستدعي إثبات الرسالة بالزوم إذ من كذب رسول الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو مثل قول القائل من توضا صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به قلت وسيأتي تقرير هذا في الباب الذي بعده إن شاء الله تعالى قوله أفلا أبشر الناس فيه استحباب بشارة المسلم بما يسره وفيه ما كان عليه الصحابة من الاستبشار بمثل هذا نبه عليه المصنف قوله قال لا تبشرهم فيتكلوا وفي رواية إني أخاف أن يتكلوا أي يعتمدوا على ذلك فيتركوا التنافس في الأعمال الصالحة وفي رواية فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي تحرجا من الأثم قال الوزير أبو المظفر لم يكن يكتمها إلا عن جاهل يحمله جهله على سوء الأدب بترك الخدمة في الطاعة فأما الأكياس الذين إذا سمعوا بمثل هذا ازدادوا في الطاعة ورأوا أن زيادة النعم تستدعي زيادة الطاعة فلا وجه لكتمانها عنهم وقال الحافظ دل هذا على أن النهي للتبشير ليس على التحريم وإلا لما أخبر به أصلا أو أنه ظهر له أن المنع إنما هو من الاخبار عموما فبادر قبل موته فأخبر بها خاصا من الناس وفي الباب من الفوائد غير ما تقدم التنبيه على عظمة حق الوالدين وتحريم
عقوقهما والحث على إخلاص العبادة لله تعالى وأنها لا تنفع مع الشرك بل لا تسمى عبادة شرعا والتنبيه على عظمة الآيات المحكمات في سورة الأنعام ذكره المصنف وجواز كتمان العلم للمصلحة ولا سيما أحاديث الرجاء التي إذا سمعها الجهال ازدادوا من الآثام كما قال بعضهم ... فأكثر ما استطعت من الخطايا ... اذا كان القدوم على كريم ... وتخصيص بعض الناس بالعلم دون بعض وفضيلة معاذ ومنزلته من العلم لكونه خص بما ذكر واستئذان المتعلم في إشاعة ما خص به من العلم والخوف من الاتكال على سعة رحمة الله وأن الصحابة لا يعرفون مثل هذا إلا بتعليمه ﷺ ذكره المصنف قوله أخرجاه في الصحيحين أي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما وإنما أضمرهما للعلم بهما والبخاري هو الامام محمد بن إسماعيل بن ابراهيم الجعفي مولاهم الحافظ الكبير صاحب الصحيح والتاريخ والأدب الفرد وغير ذلك من مصنفاته روى عن الامام أحمد بن حنبل والحميدي وابن المديني وطبقتهم وروى عنه مسلم والترمذي والنسائي والفربري راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة أربع وتسعين ومائة ومات سنة ست وخمسين ومائتين ومسلم هو ابن الحجاج بن مسلم أبو الحسين القشيري النيسابوري صاحب الصحيح والعلل والوحدان وغير ذلك روى عن أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وطبقتهم
روى عنه الترمذي وابراهيم بن محمد بن سفيان راوي الصحيح وغيرهم ولد سنة اربع ومائتين ومات سنة احدى وستين ومائتين بنيسابور رحمه الله تعالى باب فضل التوحيد وما يكفر من الذنوب باب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا باب بيان فضل التوحيد وبيان ما يكفر من الذنوب وما يجوز أن تكون موصولة أي وبيان ما يكفره من الذنوب ويجوز أن تكون مصدرية أي وبيان تكفيره الذنوب وهذا أرجح لأن الأول يوهم أن ثم ذنوبا لا يكفرها التوحيد وليس بمراد ولما ذكر معنى التوحيد ناسب ذكر فضله وتكفيره للذنوب ترغيبا فيه وتحذيرا من الضد وقول الله تعالى الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون قال بعض الحنفية في تفسيره هذا ابتداء قال ابن زيد وابن إسحاق هذا من الله على فصل القضاء بين ابراهيم وقومه قال الزجاج سأل ابراهيم واجاب بنفسه وعن ابن مسعود قال لما نزلت هذه الآية قالوا فأينا لم يظلم قال عليه السلام إن الشرك لظلم عظيم وكذا عن أبي بكر الصديق أنه فسره بالشرك فيكون الأمن من تأبيد العذاب وعن عمر أنه فسره بالذنب فيكون الأمن من كل عذاب وقال الحسن والكلبي أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا انتهى وانما ذكرته لأن فيه شاهدا لكلام شيخ الاسلام الآتي في الحديث الذي ذكره حديث صحيح في الصحيح والمسند وغيرهما وفي لفظ لأحمد عن عبد الله قال لما نزلت الذين آمنوا
ولم يلبسوا إيمانهم بظلم شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ فقالوا يارسول الله فأينالا يظلم نفسه قال إنه ليس الذي تعنون ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح يا بني لا تشرك بالله ان الشرك لظلم عظيم إنما هو الشرك قال شيخ الإسلام والذي شق عليهم ظنوا ان الظلم المشروط هو ظلم العبد لنفسه وأنه لا أمن ولا اهتداء الا لمن لم يظلم نفسه فبين لهم النبي ﷺ ما دلهم على ان الشرك ظلم في كتاب الله وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس ايمانهم بهذا الظلم فمن لم يلبس ايمانه به كان من اهل الأمن والأهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلمه لنفسه بذنب إذا لم يتب كما قال فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقد سأل أبو بكر رضي الله عنه النبي ﷺ عن ذلك فقال يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن أليس تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به فبين أن المؤمن الذي اذا مات دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه قال فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة يعني الظلم الذي هو الشرك وظلم العباد وظلمه لنفسه بما دون الشرك كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلم نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا بمعنى أنه لا بد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى وقد هداه الله الى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه الى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من ايمانه بظلمه لنفسه ليس مراد النبي ﷺ بقوله إنما هو الشرك أن من لم يشرك الشرك الأكبر
يكون له الأمن التام والاهتداء التام فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين الى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من غير عذاب يحصل لهم بل معهم أصل الاهتداء الى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولا بد لهم من دخول الجنة وقوله إنما هو الشرك إن أراد به الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد الى ذلك وان كان مراده جنس الشرك فيقال ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر وحبه ما يبغض الله حتي يقدم هواه على محبة الله شرك أصفر ونحو ذلك فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار انتهى ملخصا وبه تظهر مطابقة الآية للترجمة فدلت على فضل التوحيد وتكفيره للذنوب لأن من أتى به تاما فله الأمن التام والاهتداء التام ودخل الجنة بلا عذاب ومن أتى به ناقصا بالذنوب التي لم يتب منها فإن كانت صغائر كفرت باجتناب الكبائر لآية النساء والنجم وان كانت كبائر فهو في حكم المشيئة إن شاء الله غفر له وان شاء عذبه ومآله الى الجنة والله أعلم عن عبادة بن الصامت قال قال رسول الله ﷺ من شهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل أخرجاه عبادة هو بن الصامت بن قيس الأنصاري الخزرجي أبو الوليد أحد النقباء بدري مشهور من جلة الصحابة مات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله
اثنتان وسبعون سنة وقيل عاش الى خلافة معاوية قوله من شهد أن لا اله الا الله أي من تكلم بهذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها باطنا وظاهرا كما دل عليه قوله فاعلم أنه لا إله إلا الله وقوله إلا من شهد بالحق وهم يعلمون أما النطق بها من غير معرفة لمعناها ولا عمل بمقتضاها فان ذلك غير نافع بالاجماع وفي الحديث ما يدل على هذا وهو قوله من شهد اذ كيف يشهد وهو لا يعلم ومجرد النطق بشيء لا يسمي شهادة به قال بعضهم أداة الحصر لقصر الصفة على الموصوف قصر افراد لأن معناه الألوهية منحصرة في الله الواحد في مقابلة من يزعم اشتراك غيره معه وليس قصر قلب لأن أحدا من الكفار لم ينفها عن الله وإنما اشرك معه غيره وقال النووي هذا حديث عظيم جليل الموقع وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد فانه ﷺ جمع فيه ما يخرج عن ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها فاقتصر ﷺ في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم انتهى ومعنى لا اله الا الله أي لا معبود بحق إلا إله واحد وهو الله وحده لاشريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول الا نوحي اليه انه لا اله الا أنا فاعبدون مع قوله تعالى ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فصح أن معنى الا له هو المعبود ولهذا لما قال النبي ﷺ لكفار قريش قولوا لا إله إلا الله قالوا اجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وقال قوم هود أجئتنا لنعبد الله وحده
ونذر ما كان يعبد آباؤنا وهو إنما دعاهم إلى لا اله الا الله فهذا هو معنى لاإله إلا الله وهو عبادة الله وترك عبادة ما سواه وهو الكفر بالطاغوت وايمان بالله فتضمنت هذه الكلمة العظيمة إن ما سوى الله ليس بإله وأن الهية ما سواه أبطل الباطل وإثباتها أظلم الظلم فلا يستحق العبادة سواه كما لا تصلح الالهية لغيره فتضمنت نفي الالهية عما سواه وإثباتها له وحده لا شريك له وذلك يستلزم الأمر باتخاذه الها وحده والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والاثبات كما إذا رأيت رجلا يستفتي أو يستشهد من ليس أهلا لذلك ويدع من هو أهل له فتقول هذا ليس بمفت ولا شاهد المفتي فلان والشاهد فلان فإن هذا أمر منه ونهي وقد دخل في الالهيه جميع أنواع العبادة الصادرة عن تأله القلب لله بالحب والخضوع والانقياد له وحده لا شريك له فيجب إفراد الله تعالى بها كالدعاء والخوف والمحبة والتوكل والإنابة والتوبة والذبحح والنذر والسجود وجميع أنواع العبادة فيجب صرف جميع ذلك لله وحده لا شريك له فمن صرف شيئا مما لا يصلح الا لله من العبادات لغير الله فهو مشرك ولو نطق لا إله إلا الله إذ لم يعمل بما تقتضيه من التوحيد والاخلاص ذكر نصوص العلماء في معنى الإله قال ابن عباس رضي الله عنه الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه اجمعين رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال الوزير أبو المظفر في الافصاح قوله شهادة أن لا إله إلا الله يقتضي أن يكون الشاهد عالما بأن لا إله إلا الله كما قال الله تعالى فاعلم أنه لا إله إلا الله وينبغي أن يكون الناطق بها شاهدا فيها فقد قال الله عز
وجل ما أوضح به أن الشاهد بالحق إذا لم يكن عالما بما شهد به فإنه غير بالغ من الصدق به مع من شهد من ذلك بما يعلمه في قوله تعالى إلا من شهد بالحق وهم يعلمون قال واسم الله تعالى مرتفع بعد الأمن حيث إنه الواجب له الالهية فلا يستحقها غيره سبحانه قال واقتضى الاقرار بها أن تعلم أن كل ما فيه أمارة للحدث فانه لا يكون إلها فإذا قلت لا إله إلا الله فقد اشتمل نطقك هذا على أن ما سوى الله ليس باله فيلزمك إفراده سبحانه بذلك وحده قال وجملة الفائدة في ذلك أن تعلم ان هذه الكلمة هي مشتملة على الكفر بالطاغوت والايمان بالله فانك لما نفيت الالهية وأثبت الايجاب لله سبحانه كنت ممن كفر بالطاغوت وآمن بالله وقال أبو عبد الله القرطبي في التفسير لا إله إلا هو أي لا معبود إلا هو وقال الزمخشري الإله من أسماء الاجناس كالرجل والفرس اسم يقع على كل معبود بحق أو بباطل ثم غلب على المعبود بحق وقال شيخ الإسلام الاله هو المعبود المطاع وقال أيضا في لا إله إلا الله إثبات انفراده بالآلهية والإلهية تتضمن كمال علمه وقدرته ورحمته وحكمته ففيها إثبات إحسانه الى العباد فان الاله هو المألوه والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب المخضوع له غاية الخضوع وقال ابن القيم رحمه الله الإله هو الذي تألهه القلوب محبة وإجلالا وإنابة وإكراما وتعظيما وذلا وخضوعا وخوفا ورجاء وتوكلا وقال ابن رجب رحمه الله الإله هو الذي يطاع فلا يعصى هيبة له وإجلالا ومحبة وخوفا ورجاء وتوكلا عليه وسؤالا منه ودعاء له ولا يصلح ذلك كله
إلا لله تعالى فمن أشرك مخلوقا في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحا في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقصا في توحيده وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك وهذا كله من فروع الشرك وقال البقاعي لا إله إلا الله أي انتفى انتفاء عظيما أن يكون معبود بحق غير الملك الأعظم فإن هذا العلم هو أعظم الذكرى المنجية من أهوال الساعة وإنما يكون علما إذا كان نافعا وإنما يكون نافعا إذا كان الاذعان والعمل بما تقتضيه وإلا فهو جهل صرف وقال الطيبي الإله فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب من إله ! أي عبد عبادة وهذا كثير جدا في كلام العلماء وهو إجماع منهم أن الإله هو المعبود خلافا لما يعتقده عباد القبور وأشباههم في معنى الإله أنه الخالق أو القادر على الاختراع أو نحو هذه العبارات ويظنون أنهم إذا قالوها بهذا المعنى فقد أتوا من التوحيد بالغاية القصوى ولو فعلوا ما فعلوا من عبادة غير الله كدعاء الأموات والاستغاثة بهم في الكربات وسؤالهم قضاء الحاجات والنذر لهم في الملمات وسؤالهم الشفاعة عند رب الأرض والسموات إلى غير ذلك من أنواع العبادات وما شعروا أن إخوانهم من كفار العرب يشاركونهم في هذا الاقرار ويعرفون أن الله هو الخالق القادر على الإختراع ويعبدونه بأنواع من العبادات فليهن أبا جهل وأبو لهب ومن تبعهما من الإسلام بحكم عباد القبور وليهن أيضا إخوانهم عباد ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر إذ جعل هؤلاء دينهم هو الإسلام المبرور ولو كان معناها ما زعمه هؤلاء الجهال لم يكن بين الرسول ﷺ وبينهم نزاع بل كانوا يبادرون الى إجابته ويلبون دعوته إذ يقول لهم قولوا لا إله إلا الله بمعنى أنه
لا قادر على الاختراع إلا الله فكانوا يقولون سمعنا وأطعنا قال الله تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم قل من يرزقكم من السماء والارض أمن يملك السمع والأبصار الآيه إلى غير ذلك من الآيات لكن القوم أهل اللسان العربي فعلموا أنها تهدم عليهم دعاء الأموات والأصنام من الأساس وتكب بناء سؤال الشفاعة من غير الله وصرف الالهية لغيره لأم الرأس فقالوا ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى هؤلاء شفعاؤنا عند الله أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب فتبا لمن كان أبو جهل ورأس الكفر من قريش وغيرهم أعلم منه لا إله إلا الله قال تعالى إنهم كانوا إذا قيل لا إله إلا الله يستكبرون ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون فعرفوا أنها تقتضي ترك عبادة ما سوى الله وإفراد الله بالعبادة وهكذا يقول عباد القبور إذا طلبت منهم إخلاص الدعوة والعبادة لله وحده أنترك سادتنا وشفعاءنا في قضاء حوائجنا فقال لهم نعم وهذا الترك والإخلاص هو الحق كما قال تعالى بل جاء بالحق وصدق المرسلين ولا إله إلا الله اشتملت على نفي وإثبات فنفت الإلهية عن كل ما سوى الله تعالى فكل ما سواه من الملائكة والأنبياء فضلا عن غيرهم فليس باله ولا له من العبادة شيء وأثبتت الالهية لله وحده بمعنى أن العبد لا يأله غيره أي لا يقصده بشيء من التأله وهو تعلق القلب الذي يوجب قصده بشيء
من أنواع العبادة كالدعاء والذبح والنذر وغير ذلك وبالجمله فلا يأله إلا الله أي لا يعبد إلا هو فمن قال هذه الكلمة عارفا لمعناها عاملا بمقتضاها من نفي الشرك وإثبات الوحدانية لله مع الاعتقاد الجازم لما تضمنته من ذلك والعمل به فهذا هو المسلم حقا فان عمل به ظاهرا من غير اعتقاد فهو المنافق وان عمل بخلافها من الشرك فهو الكافر ولو قالها إلا ترى أن المنافقين يعملون بها ظاهرا وهم في الدرك الأسفل من النار واليهود يقولونها وهم على ما هم عليه من الشرك والكفر فلم تنفعهم وكذلك من ارتد عن الإسلام بإ نكار شيء من لوازمها وحقوقها فانها لا تنفعه ولو قالها مائة الف فكذلك من يقولها ممن يصرف أنواع العبادة لغير الله كعباد القبور والأصنام فلا تنفعهم ولا يدخلون في الحديث الذي جاء في فضلها وما أشبهه من الأحاديث وقد بين النبي ﷺ ذلك بقوله وحده لا شريك له تنبيها على أن الانسان قد يقولها وهو مشرك كاليهود والمنافقين وعباد القبور لما رأوا ان النبي ﷺ دعا قومه إلى قول لا إله إلا الله ظنوا أنه إنما دعاهم الى النطق بها فقط وهذا جهل عظيم وهو عليه السلام إنما دعاهم اليها ليقولوها ويعملوا بمعناها ويتركوا عبادة غير الله ولهذا قالوا أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون وقالوا أجعل الآلهة إلها واحدا فلهذا أبوا عن النطق بها وإلا فلو قالوها وبقوا على عبادة اللات والعزى ومناة لم يكونوا مسلمين ولقاتلهم عليه السلام حتى يخلعوا الأنداد ويتركوا عبادتها ويعبدوا الله وحده لا شريك له وهذا أمر معلوم بالاضطرار من الكتاب والسنة والاجماع وأما عباد القبور فلم يعرفوا معنى هذه الكلمة ولا عرفوا الالهية المنفية عن غير الله الثابتة له وحده لا شريك له بل لم يعرفوا من معناه إلا ما أقربه المؤمن والكافر واجتمع
عليه الخلق كلهم من أن معناها لا قادر على الاختراع أو أن معناها الإله هو الغني عما سواه الفقير اليه كل ما عداه ونحو ذلك فهذا حق وهو من لوازم الالهية ولكن ليس هو المراد بمعنى لا إله إلا الله فان هذا القدر قد عرفه الكفار وأقروا به ولم يدعوا في آلهتهم شيئا من ذلك بل يقرون بفقرهم وحاجتهم إلى الله وإنما كانوا يعبدونهم على معنى أنهم وسائط وشفعاء عند الله في تحصيل المطالب ونجاح المآرب وإلا فقد سلموا الخلق والملك والرزق والإحياء والإماتة والأمر كله لله وحده لا شريك له وقد عرفوا معنى لا إله إلا الله وأبوا عن النطق والعمل بها فلم ينفعهم توحيد الربوبية مع الشرك في الالهية كما قال تعالى وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون وعباد القبور نطقوا بها وجهلوا معناها وأبوا عن الإتيان به فصاروا كاليهود الذين يقولونها ولا يعرفون معناها ولا يعملون به فتجد أحدهم يقولها وهو يأله غير الله بالحب والاجلال والتعظيم والخوف والرجاء والتوكل والدعاء عند الكرب ويقصده بأنواع العبادة الصادرة عن تأله قلبه لغير الله مما هو أعظم مما يفعله المشركون الأولون ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الايمان صادقا أو كاذبا ولو قيل له احلف بحياة الشيخ فلان أو بتربته ونحو ذلك لم يحلف إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أعظم في قلبه من رب الأرباب وما كان الأولون هكذا بل كانوا إذا أرادوا التشديد في اليمين حلفوا بالله تعالى كما في قصة القسامة التي وقعت في الجاهلية وهي في صحيح البخاري وكثير منهم وأكثرهم يرى أن الاستغاثة بإلهه الذي يعبده عند قبره أو غيره أنفع وأنجح من الاستغاثة بالله في المسجد ويصرحون بذلك والحكايات عنهم بذلك فيها
أطول وهذا امر ما بلغ إليه شرك الاولين وكلهم إذا أصابتهم الشدائد أخلصوا للمدفونين في التراب وهتفوا باسمائهم ودعوهم ليكشفوا ضر المصاب في البر والبحر والسفر والإياب وهذا أمر ما فعله الأولون بل هم في هذه الحال يخلصون للكبير المتعال فاقرأ قوله تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين الاية وقوله ثم اذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم اذا فريق منكم بربهم يشركون وكثير منهم قد عطلوا المساجد وعمروا القبور والمشاهد فإذا قصد أحدهم القبر الذي يعظمه أخذ في دعاء صاحبه باكيا خاشعا ذليلا خاضعا بحيث لا يحصل له ذلك في الجمعة والجماعات وقيام الليل وإدبار الصلوات فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب والنجاة من النار وأن يحطوا عنهم الأوزار فكيف يظن عاقل فضلا عن عالم أن التلفظ بلا إله إلا الله مع هذه الأمور تنفعهم وهم إنما قالوها بألسنتهم وخالفوها باعتقادهم وأعمالهم ولا ريب أنه لو قالها أحد من المشركين ونطق أيضا بشهادة أن محمدا رسول الله ولم يعرف معنى الإله ولا معنى الرسول وصلى وصام وحج ولا يدري ما ذلك إلا أنه رأى الناس يفعلونه فتابعهم ولم يفعل شيئا من الشرك فانه لا يشك أحد في عدم إسلامه وقد أفتى بذلك فقهاء المغرب كلهم في أول القرن الحادي عشر أو قبله في شخص كان كذلك كما ذكره صاحب الدر الثمين في شرح المرشد المعين من المالكية ثم قال شارحه وهذا الذي افتوا به جلي في غاية الجلاء لا يمكن إن يختلف فيه اثنان انتهى ولا ريب ان عباد القبور أشد من هذا لأنهم اعتقدوا الالهية في أرباب متفرقين فإن قيل قد تبين معني الإله والالهية فما الجواب عن قول من قال بان معنى الإله القادر على الاختراع ونحو هذه العبارة
قيل الجواب من وجهين أحدهما أن هذا قول مبتدع لا يعرف أحد قاله من العلماء ولا من أئمة اللغة وكلام العلماء وأئمة اللغة هو معنى ما ذكرنا كما تقدم فيكون هذا القول باطلا الثاني على تقدير تسليمه فهو تفسير باللازم للاله الحق فان اللازم له أن يكون خالقا قادرا على الاختراع ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق وإن سمي الها وليس مراده أن من عرف أن الاله هو القادر على الاختراع فقد دخل في الإسلام وأتى بتحقيق المرام من مفتاح دار السلام فان هذا لا يقوله أحد لأنه يستلزم أن يكون كفار العرب مسلمين ولو قدر أن بعض المتأخرين أرادوا ذلك فهو مخطىء يرد عليه بالدلائل السمعية والعقلية قوله وأن محمدا عبده ورسوله أي وشهد بذلك وهو معطوف على ما قبله فتكون الشهادة واقعة على هذه الجملة وما قبلها وما بعدها فإن العامل في المعطوف وما عطف عليه واحد ومعنى العبد هنا يعني المملوك العابد أي مملوك لله تعالى وليس له من الربوبية والإلهية شيء إنما هو عبد مقرب عند الله و رسوله أرسله الله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا الآيات قيل وقدم العبد هنا على الرسول ترقيا من الأدنى إلى الأعلى وجمع بينهما لدفع الإفراط والتفريط الذي وقع في شأن عيسى عليه السلام وقد أكد النبي ﷺ هذا المعنى بقوله لاتطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله وذلك يتضمن تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والإنتهاء عما عنه زجر فلا يكون كامل الشهادة له بالرسالة من ترك أمره وأطاع غيره وارتكب نهيه
قوله وان عيسى عبد الله ورسوله وفي رواية وابن أمته أي خلافا لما يعتقده النصارى أنه الله أو ابن الله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون فيشهد بأنه عبد الله أي عابد مملوك لله لا مالك فليس له من الربوبية و لا من الالهية شيء ورسول صادق خلافا لقول اليهود إنه ولد بغي بل يقال فيه ما قال عن نفسه كما قال تعالى قال إني عبد الله أتاني الكتاب وجعلني نبيا الآيات وقال تعالى لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون قال القرطبي ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم قوله وكلمته إنما سمي عليه السلام كلمة الله لصدوره بكلمة كن بلا أب قاله قتادة وغيره من السلف قال الامام أحمد فيما أملاه في الرد على الجهمية الكلمة التي ألقاها الى مريم حين قال له بكن فكان عيسى كن وليس عيسى هو بكن ولكن كن كان فكن من الله قول وليس كن مخلوقا وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالت عيسى روح الله وكلمته إلا أن الكلمة مخلوقة وقالت النصارى عيسى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال إن هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة انتهى يعني به ما قال قتادة وغيره
قوله ألقاها الى مريم قال ابن كثير خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه تعالى فكان عيسى باذن الله تعالى وصارت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم والجميع مخلوق لله تعالى ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه لأنه لم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له كن فكان والروح التي أرسل بها جبرائيل عليه السلام قوله وروح منه قال أبي بن كعب عيسى روح من الأرواح التي خلقها الله تعالى واستنطقها بقوله ألست بربكم قالوا بلى بعثه الله إلى مريم فدخل فيها رواه عبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن جرير وابن ابي حاتم وغيرهم وقال أبو روق وروح منه أي نفخة منه إذ هي من جبرائيل بأمره وسمي روحا لأنه حدث من نفخة جبرائيل عليه السلام وقال الامام أحمد وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره وقال شيخ الاسلام المضاف إلى الله تعالى إذا كان معنى لا يقوم بنفسه ولا بغيره من المخلوقات وجب أن يكون صفة لله تعالى قائما به وامتنع أن تكون إضافته إضافة مخلوق مربوب وإن كان المضاف عينا قائمة بنفسها كعيسى وجبرائيل عليهما السلام وأرواح بني آدم امتنع أن تكون صفة لله تعالى
لأن ما قام بنفسه لا يكون صفة لغيره لكن الأعيان المضافة إلى الله تعالى على وجهين أحدهما أن تكون تضاف إليه لكونه خلقها وأبدعها فهذا شامل لجميع المخلوقات كقولهم سماء الله وأرض الله ومن هذا الباب فجميع المخلوقين عبيدالله وجميع المال مال الله وجميع البيوت والنوق لله الوجه الثاني أن يضاف اليه لما خصه به من معنى يحبه ويأمر به ويرضاه كما خص البيت العتيق بعبادة فيه لا تكون في غيره وكما يقال عن مال الفيء والخمس هو مال الله ورسوله ومن هذا الوجه فعباد الله هم الذين عبدوه وأطاعوا أمره فهذه إضافة تتضمن ألوهيته وشرعه ودينه وتلك إضافة تتضمن ربوبيته وخلقه انتهى ملخصا والمقصود منه أن إضافة روح إلى الله هو من الوجه الثاني والله أعلم قوله والجنة حق والنار حق أي وشهد أن الجنة التي أخبر بها الله بها في كتابه أنه أعدها لمن آمن به وبرسوله حق أي ثابتة لا شك فيها وشهد أن النار التي أخبر الله في كتابه أنه أعدها للكافرين به وبرسله حق كذلك كما قال تعالى سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله الاية وقال تعالى فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين وفيهما دليل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن خلافا لأهل البدع الذين قالوا لا يخلقان إلا في يوم القيامة وفيه دليل على المعاد وحشر الأجساد قوله أدخله الله الجنة على ما كان من العمل هذه الجملة جواب الشرط وفي رواية أدخله الله الجنة من أي أبواب الجنة الثمانية قال القاضي عياض
وما ورد في حديث عبادة يكون خصوصا لمن قال ما ذكره ﷺ وقرن بالشهادتين حقيقة الايمان والتوحيد الذي ورد في حديثه فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة قال ولهما من حديث عتبان فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله قوله ولهما أي للبخاري ومسلم في صحيحيهما وهذا الحديث طرف من حديث طويل أخرجه الشيخان كما قال المصنف وعتبان بكسر المهمله بعدها مثناة فوقيه ثم موحدة ابن مالك بن عمر بن العجلان الأنصاري من بني سالم بن عوض صحابي شهير مات في خلافة معاوية قوله فان الله حرم على النار الحديث اعلم أنه قد وردت أحاديث ظاهرها أنه من أتى بالشهادتين حرم على النار كهذا الحديث وحديث أنس قال كان النبي ﷺ ومعاذ رديفه على الرجل فقال يا معاذ قال لبيك يا رسول وسعديك قال ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله إلا حرمه على النار قال يا رسول الله إلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال إذا يتكلوا فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أخرجاه ولمسلم عن عبادة مرفوعا من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله حرم الله عليه النار ووردت أحاديث فيها أن من أتى بالشهادتين دخل الجنة وليس فيها أنه يحرم على النار منها حديث عبادة الذي تقدم قبل هذا وحديث أبي هريرة أنهم كانوا
مع النبي ﷺ في غزوة تبوك الحديث وفيه فقال رسول الله ﷺ أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقى الله عبد بهما غير شاك فيهما فيحجب عن الجنة رواه مسلم وحديث أبي ذر في الصحيحين مرفوعا ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة الحديث وأحسن ما قيل في معناه ما قاله شيخ الإسلام وغيره ان هذه الأحاديث إنما هي فيمن قالها ومات عليها كما جاءت مقيدة وقالها خالصا من قلبه مستيقنا بها قلبه غير شاك فيها بصدق ويقين فإن حقيقة التوحيد انجذاب الروح الى الله جملة فمن شهد أن لا إله إلا الله خالصا من قلبه دخل الجنة لأن الإخلاص هو انجذاب القلب الى الله تعالى بأن يتوب من الذنوب توبة نصوحا فإذا مات على تلك الحال نال ذلك فانه قد تواترت الأحاديث بأنه يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة وما يزن خردلة وما يزن ذرة وتواترت بأن كثيرا ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ثم يخرج منها وتواترت بأن الله حرم على النار أن تأكل أثر السجود من ابن آدم فهؤلاء كانوا يصلون ويسجدون لله وتواترت بأنه يحرم على النار من قال لا إله إلا الله ومن شهد أن لا إله إلا الله وان محمد رسول الله لكن جاءت مقيدة بالقيود الثقال وأكثر من يقولها لا يعرف الإخلاص ولا اليقين ومن لا يعرف ذلك يخشى عليه أن يفتن عنها عند الموت فيحال بينه وبنيها وأكثر من يقولها إنما يقولها تقليدا أو عادة ولم يخالط الإيمان بشاشه قلبه وغالب من يفتن عند الموت وفي القبور أمثال هؤلاء كما في الحديث سمعت الناس يقولون شيئا فقلته وغالب أعمال هؤلاء إنما هو تقليد واقتداء بأمثالهم
وهم أقرب الناس من قوله تعالى إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون وحينئذ فلا منافاه بين الأحاديث فانه إذا قالها باخلاص ويقين تام لم يكن في هذه الحال مصرا على ذنب أصلا فإن كمال اخلاصه ويقينه يوجب أن يكون الله أحب اليه من كل شيء فإذا لا يبقى في قلبه إرادة لما حرم الله ولا كراهية لما أمر الله وهذا هو الذي يحرم من النار وإن كانت له ذنوب قبل ذلك فإن هذا الإيمان وهذه التوبة وهذا الإخلاص وهذه المحبة وهذا اليقين لا يتركون له ذنبا إلا يمحى كما يمحى الليل بالنهار فإذا قالها على وجه الكمال المانع من الشرك الأكبر والأصغر فهذا غير مصر على ذنب أصلا فيغفر له ويحرم على النار وان قالها على وجه خلص به من الشرك الأكبر دون الأصغر ولم يأت بعدها بما يناقض ذلك فهذه الحسنة لا يقاومها شيء من السيئات فيرجح بها ميزان الحسنات كما في حديث البطاقة فيحرم على النار ولكن تنقص درجته في الجنة بقدر ذنوبه وهذا بخلاف من رجحت سيئاته على حسناته ومات مصرا على ذلك فإنه يستوجب النار وان قال لا إله إلا الله وخلص بها من الشرك الأكبر لكنه لم يمت على ذلك بل أتى بعد ذلك بسيئات رجحت على حسنة توحيده فانه في حال قولها كان مخلصا لكنه أتى بذنوب أوهنت ذلك التوحيد والإخلاص فأضعفته وقويت نار الذنوب حتى أحرقت ذلك بخلاف المخلص المستيقن فإن حسناته لا تكون إلا راجحة على سيئاته ولا يكون مصرا على سيئة فإن مات على ذلك دخل الجنة وإنما يخاف على المخلص أن يأتي بسيئات راجحة يضعف إيمانه فلا يقولها باخلاص ويقين مانع من جميع السيئات ويخشى عليه من الشرك الأكبر والأصغر
فإن سلم من الأكبر بقي معه من الأصغر فيضيف الى ذلك سيئات تنضم الى هذا الشرك فيرجح جانب السيئات فإن السيئات تضعف الإيمان واليقين فيضعف بذلك قول لا اله إلا الله فيمتنع الإخلاص في القلب فيصير المتكلم بها كالهاذي أو النائم أو من يحسن صوته بآية من القرآن من غير ذوق طعم ولا حلاوة فهؤلاء لم يقولوها بكمال الصدق واليقين بل يأتون بعدها بسيئات تنقص ذلك الصدق واليقين بل يقولونها من غير يقين وصدق ويموتون من ذلك ولهم سيئات كثيرة تمنعهم من دخول الجنة وإذا كثرت الذنوب ثقل على اللسان قولها وقسى القلب عن قولها وكره العمل الصالح وثقل عليه سماع القرآن واستبشر بذكر غيره واطمأن الى الباطل واستحلى الرفث ومخالطة أهل الغفلة وكره مخالطة أهل الحق فمثل هذا إذا قالها قال بلسانه ما ليس في قلبه وبغيه مالا يصدق عمله كما قال الحسن ليس الايمان بالتحلي ولا بالتمني ولكن ما وقر في القلوب وصفته الاعمال فمن قال خيرا وعمل خيرا قبل منه ومن قال شرا وعمل شرا لم يقبل منه وقال بكر بن عبدالله المزني ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بشيء وقر في قلبه فمن قال لاإله إلا الله ولم يقم بموجبها بل اكتسب مع ذلك ذنوبا وسيئات وكان صادقا في قولها موقنا بها لكن ذنوبه أضعاف أضعاف صدقه ويقينه وانضاف الى ذلك الشرك الأصغر العملي رجحت هذه الأشياء على هذه الحسنة ومات مصرا على الذنوب بخلاف من يقولها بيقين وصدق تام فإنه لا يموت مصرا على الذنوب إما أن لا يكون مصرا على سيئة أصلا أو يكون توحيده المتضمن لصدقه ويقينه رجح حسناته والذين يدخلون النار ممن يقولها قد فاتهم أحد هذين الشرطين إما أنهم لم يقولها بالصدق واليقين التامين المنافيين للسيئات أو لرجحان السيئات أو قالوها واكتسبوا بعد
ذلك سيئات رجحت على حسناتهم ثم ضعف لذلك صدقهم ويقينهم ثم لم يقولوها بعد ذلك بصدق ويقين تام لأن الذنوب قد أضعف ذلك الصدق واليقين من قلوبهم فقولها من مثل هؤلاء لا يقوى على محو السيئات بل ترجح سيئاتهم على حسناتهم انتهى ملخصا وقد ذكر معناه غيره كابن القيم وابن رجب والمنذري و القاضي عياض وغيرهم وحاصله أن لا أله إلا الله سبب لدخول الجنة والنجاة من النار ومقتض لذلك ولكن المقتضي لا يعمل عمله الا بإستجماع شروطه وانتفاء موانعه فقد يتخلف عنه مقتضاه لفوات شرط من شروطه أو لوجود مانع ولهذا قيل للحسن إن ناسا يقولون من قال لا إله إلا الله دخل الجنة فقال من قال لا إله إلا الله فإدى حقها وفرضها دخل الجنة وقال وهب بن منبه لمن سأله أليس لا إله إلا الله مفتاح الجنه قال بلى ولكن ما من مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له اسنان فتح لك وإلا لم يفتح ويدل على ذلك أن الله رتب دخول الجنة على الإيمان والأعمال الصالحة وكذلك النبي ﷺ كما في الصحيحين عن أبي أيوب ان رجلا قال يا رسول الله اخبرني بعمل يدخلني الجنة فقال تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصل وتصل الرحم وفي المسند عن بشر بن الخصاصية قال اتيت النبي ﷺ لأبايعه فاشترط علي شهادة ان لا أله إلا الله وأن ومحمدا عبده ورسوله وان اقيم الصلاة وأن أوتي الزكاة وأن أحج حجة الإسلام وأن اصوم رمضان وان أجاهد في سبيل الله فقلت يا رسول الله اما اثنتين فو الله ما أطيقها الجهاد و الصدقة فقبض رسول الله ﷺ يده ثم حركها وقال فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذا قلت يا رسول الله أبايعك عليهن كلهن ففي الحديث ان الجهاد والصدقة شرط في
دخول الجنة مع حصول التوحيد والصلاة والحج والصيام والأحاديث في هذا الباب كثيرة وفي الحديث دليل على أنه لا يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد وبالعكس وفيه تحريم النار على أهل التوحيد الكامل وفيه أن العمل لا ينفع إلا إذا كان خالصا لله تعالى قال وعن ابي سعيد الخدري عن رسول ﷺ قال قال موسى يارب علمني شيئا أذكرك وأدعوك به قال قل يا موسى لا إله إلا الله قال كل عبادك يقولون هذا قال يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري والأرضون السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله رواه ابن حبان والحاكم وصححه أبو سعيد اسمه سعد بن مالك بن سنان بن عبيد الانصاري الخزرجي صحابي جليل وأبوه أيضا كذلك استصغر أبو سعيد بأحد ثم شهد ما بعدها مات بالمدينة سنة ثلاث أو أربع أو خمس وستين وقيل أربع وسبعين قوله أذكرك هو بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي أنا أذكرك وقيل بل هو صفة وأدعوك معطوف عليه أي أثني عليك وأحمدك به وأدعوك أي أتوسل به اليك إذا دعوتك قوله قل يا موسى لا إله إلا الله فيه أن الذاكر بها يقولها كلها ولا يقتصر على لفظ الجلالة كما يفعله جهال المتصوفة ولا يقول أيضا هو كما يقوله غلاة جهالهم فإذا أرادوا الدعاء قالوا يا هو فإن ذلك بدعة وضلالة وقد صنف جهالهم في المسألتين وصنف ابن عربي كتابا سماه كتاب الهو قوله كل عبادك يقولون هذا هكذا ثبت بخط المصنف يقولون بالجمع مراعاة لمعنى كل والذي في الأصول يقول بالإفراد مراعاة للفظها دون معناها لكن قد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو وهذا الحديث بهذا اللفظ الذي
ذكره المصنف أطول منه وفي سنن النسائي والحاكم وشرح السنة بعد قوله كل عبادك يقولون هذا إنما أريد ان تخصني به أي بذلك الشيء من بين عموم عبادك فإن من طبع الإنسان أن لا يفرح فرحا شديدا إلا بشيء يختص به دون غيره كما إذا كانت عنده جوهرة ليست موجودة عند غيره مع أن من رحمة الله وسنته المطردة أن ما اشتدت اليه الحاجة والضرورة كان أكثر وجودا كالبر والملح والماء ونحو ذلك دون الياقوت واللؤلؤ ولما كان بالناس بل بالعالم كله من الضرورة إلى لا إله إلا الله ما لا نهاية في الضرورة فوقه كانت أكثر الإذكار وجودا وأيسرها حصولا وأعظمها معنى والعوام والجهال يعدلون عنها إلى الأسماء الغريبة والدعوات المبتدعة التي لا أصل لها في الكتاب والسنة كالأحزاب والاوراد التي ابتدعها جهلة المتصوفة قوله وعامرهن غيري هو بالنصب عطف على السموات أي لو أن السموات السبع ومن فيهن من العمار غير الله والأرضين السبع ومن فيهن وضعوا في كفة الميزان ولا إله إلا الله في الكفة الأخرى مالت بهن لا إله إلا الله وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أن نوحا عليه السلام قال لابنه عند موته آمرك بلا إله إلا الله فإن السموات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ولا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله ولو أن السموات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن لا إله إلا الله وفيه دليل على أن الله تعالى فوق السموات قوله في كفة بكسر الكاف وتشديد الفاء من كفة الميزان قال بعضهم ويطلق لكل مستدير قوله مالت بهن لا إله إلا الله أى رجحت عليهن وذلك لما اشتملت
عليه من توحيد الله الذي هو أفضل الأعمال وأساس الملة ورأس اللبن فمن قالها بإخلاص ويقين وعمل بمقتضاها ولوازمها واستقام على ذلك فهو من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون كما قال تعالى إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أن لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون نزلا من غفور رحيم والحديث يدل على أن لا إله إلا الله أفضل الذكر كما في حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير رواه احمد الترمذي وعنه أيضا مرفوعا يصاح برجل من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم يقال أتنكر من هذا شيئا فيقول لا يا رب فيقال ألك عذر أو حسنة فيهاب الرجل فيقول لا فيقال بلى ان لك عندنا حسنات وانه لا ظلم عليك فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله فيقول يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات فيقال إنك لا تظلم فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة رواه الترمذي وحسنه والنسائي وابن حبان والحاكم وقال صحيج على شرط مسلم وقال الذهبي في تلخيصه صحيح قال ابن القيم فالاعمال لا تتفاضل بصورها وعددها وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب فتكون صورة العمل واحدة وبينهما من التفاضل كما
بين السماء والأرض قال تأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ويقابلها تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر فتثقل البطاقة وتطيش السجلات فلا يعذب ومعلوم أن كل موحد له هذه البطاقة وكثير منهم يدخل النار بذنوبه وعن أبي هريرة مرفوعا ما قال عبد لا إله إلا الله مخلصا قط الا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي الى العرش ما اجتنبت الكبائر رواه الترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وقال على شرط مسلم قوله رواه ابن حبان والحاكم ابن حبان اسمه محمد بن حبان بكسر المهمله وتشديد الموحدة ابن أحمد بن حبان أبو حاتم التميمي البستي الحافظ صاحب التصانيف كالصحيح والتاريخ والضعفاء والثقات وغير ذلك قال الحاكم كان من أوعية العلم في الفقه واللغة والحديث والوعظ ومن عقلاء الرجال مات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة بمدينة بست بالمهملة واما الحاكم فاسمه محمد بن عبد الله بن محمد الضبي النيسابوري أبو عبدالله الحافظ ويعرف بابن البيع ولد سنة احدى وعشرين وثلاثمائة وصنف التصانيف كالمستدرك وتاريخ نيسابور وغيرهما ومات سنة خمس واربعمائة قال وللترمذي وحسنه عن أنس سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله تعالى يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لاتشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها مغفرة الترمذي اسمه محمد بن عيسى بن سورة بفتح المهملة ابن موسى بن الضحاك السلني أبو عيسى صاحب الجامع وأحد الأئمة الحفاظ كان ضرير البصر روى عن قتيبة وهناد والبخاري وخلق ومات سنة تسع وسبعين ومئتين
وأنس هو ابن مالك بن النضر الأنصاري الخزرجي خادم رسول الله ﷺ خدمه عشر سنين ودعا له النبي ﷺ فقال اللهم أكثر ماله وولده وأدخله الجنة ومات سنة اثنتين وقيل ثلاث وتسعين وقد جاوز المائة والحديث قطعة من حديث رواه الترمذي من طريق كثير بن فائد حدثنا سعيد بن عبيد سمعت بكر بن عبد الله المزني يقول حدثنا أنس بن مالك قال سمعت رسول الله ﷺ يقول قال الله تعالى يا ابن آدم إنك دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض الحديث قال ابن رجب واسناده لا بأس به وسعيد بن عبيد هو الهنائي ذكره ابن حبان في الثقات وقال الدارقطني تفرد به كثير بن فائد عن سعيد بن عبيد مرفوعا قال ابن رجب وتابعه على رفعه أبو سعيد مولى بني هاشم فرواه عن سعيد بن عبيد مرفوعا وقد رواه الإمام احمد من حديث أبي ذر بمعناه واخرجه الطبراني من حديث ابن عباس عن النبي ﷺ وروى مسلم من حديث أبي ذر عن النبي ﷺ قال يقول الله من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا الحديث وفيه ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا لا يشرك بي شيئا لقيته بقرابها مغفرة قوله لو أتيتني بقراب الأرض قراب الأرض بضم القاف وقيل بكسرها والضم أشهر وهو ملؤها أو ما يقارب ملأها قوله ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا شرط ثقيل في الوعد بحصول المغفرة وهو السلامة من الشرك كثيره وقليله صغيره وكبيره ولا يسلم من ذلك إلا من سلمه الله وذلك هو القلب السليم كما قال تعالى يوم لا ينفع مال ولا
بنون الا من أتى الله بقلب سليم قال ابن رجب من جاء مع التوحيد بقراب الأرض خطايا لقيه الله بقرابها مغفرة لكن هذا مع مشيئة الله تعالى فإن شاء غفر له وأن شاء أخذه بذنوبه ثم كان عاقبته أن لا يخلد في النار بل يخرج منها ثم يدخل الجنة فان كمل توحيد العبد وإخلاصه لله تعالى فيه وقام بشروطه بقلبه ولسانه وجوارحه او بقلبه ولسانه عند الموت أوجب ذلك مغفرة ما سلف من الذنوب كلها ومنعه من دخول النار بالكلية فمن تحقق بكلمة التوحيد قلبه أخرجت منه كل ما سوى الله محبة وتعظيما وإجلالا ومهابة وخشية وتوكلا وحينئذ تحرق ذنوبه وخطاياه كلها ولو كانت مثل زبد البحر وربما قلبتها حسنات فإن هذا التوحيد هو الإكسير الأعظم فلو وضع منه ذرة على جبال الذنوب والخطايا لقلبها حسنات وقال شيخ الإسلام الشرك نوعان أكبر وأصغر فمن خلص منهما وجبت له الجنة ومن مات على الأكبر وجبت له النار ومن خلص من الأكبر وحصل له بعض الأصغر مع حسنات راجحة على ذنوبه دخل الجنة فإن تلك الحسنات توحيد كثير مع يسير من الشرك الأصغر ومن خلص من الأكبر ولكن كثر الأصغر حتى رجحت به سيئاته دخل النار فالشرك يؤاخذ به العبد إذا كان أكبر أو كان كثيرا أصغر والأصغر القليل في جانب الإخلاص الكثير لا يؤاخذ به وفي هذه الأحاديث كثرة ثواب التوحيد وسعة كرم الله وجوده ورحمته حيث وعد عباده أن العبد لو أتاه بملء الأرض خطايا وقد مات على التوحيد فإنه يقابله بالمغفرة الواسعة التي تسع ذنوبه والرد على الخوارج الذين
يكفرون المسلم بالذنوب وعلى المعتزلة الذين يقولون بالمنزلة بين المنزلتين وهي منزلة الفاسق فيقولون ليس بمؤمن ولا كافر ويخلد في النار والصواب في ذلك قول أهل السنة أنه لا يسلب عنه اسم الايمان على الإطلاق ولا يعطاه عى الاطلاق بل يقال هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن عاص أو مؤمن بايمانه فاسق بكبيرته وعلى هذا يدل الكتاب والسنة واجماع سلف الأمة وقال المصنف تأمل الخمس اللواتي في حديث عبادة فإنك إذا جمعت بينه وبين حديث عتبان تبين لك معنى قول لا إله إلا الله وتبين لك خطأ المغرورين وفيه إن الأنبياء يحتاجون للتنبيه على معنى قول لا إله إلا اللهوفيه التنبيه لرجحانها بجميع المخلوقات مع أن كثيرا ممن يقولها يخف ميزانه وفيه أنك إذا عرفت حديث أنس عرفت أن قوله في حديث عتبان ان الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله إذا ترك الشرك ليس قولها باللسان انتهى ملخصا باب من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب أي ولا عذاب وتحقيق التوحيد هو معرفته والاطلاع على حقيقته والقيام بها علما وعملا وحقيقة ذلك هو انجذاب الروح الى الله محبة وخوفا وإنابة وتوكلا ودعاء واخلاصا وإجلالا وهيبة وتعظيما وعبادة وبالجملة فلا يكون في قلبه شيء لغير الله ولا إرادة لما حرم الله ولا كراهة لما أمر الله وذلك هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله هو المألوه المعبود ووما أحسن ما قال ابن القيم ... فلو احد كن واحدا في واحد ... أعني سبيل الحق والإيمان ... وذلك هو حقيقة الشهادتين فمن قام بهما على هذا الوجه فهو من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب
قوله وقال تعالى ان ابراهيم كان أمة قانتا لله حنيفا ولم يك من المشركين مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف ابراهيم عليه السلام في هذه الآية بهذه الصفات الجليلة التي هي أعلى درجات تحقيق التوحيد ترغيبا في اتباعه في التوحيد وتحقيق العبودية باتباع الأوامر وترك النواهي فمن اتبعه في ذلك فإنه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب كما يدخلها إبراهيم عليه السلام الاولى أنه كان أمة أي قدوة وإماما معلما للخير وإماما يقتدى به روي معناه عن ابن مسعود وما كان كذلك إلا لتكميله مقام الصبر واليقين اللذين بهما تنال الإمامة في الدين كما قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون الثانية أنه كان قانتا لله أي خاشعا مطيعا دائما على عبادته وطاعته كما قال شيخ الإسلام القنوت في اللغة دوام الطاعة والمصلي إذا طال قيامه أو ركوعه او سجوده فهو قانت في ذلك كله قال تعالى امن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه فجعله قانتا في حال السجود والقيام انتهى فوصفه في هاتين الصفتين بتحقيق العبودية في نفسه أولا علما وعملا وثانيا دعوة وتعليما واقتداء به وما كان يقتدى به إلا لعمله به في نفسه ووصفه في الثانية بالاستقامة على ذلك كما قال تعالى ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال انني من المسلمين فتضمنت العلم والعمل والاستقامة والدعوة الدعوة الثالثة انه كان حنيفا والحنف الميل أي مائلا منحرفا قصدا عن الشرك كما قال تعالى حكاية عنه وجهت وجهي للذي فطر السموات
والأرض حنيفا وما أنا من المشركين قال تعالى فأقم وجهك للدين حنيفا الرابعة أنه ما كان من المشركين أي هو موحد خالص من شوائب الشرك مطلقا فنفى عنه الشرك على أبلغ وجوه النفي بحيث لا ينسب اليه شرك وان قل تكذيبا لكفار قريش في زعمهم أنهم على ملة ابراهيم عليه السلام وقال المصنف في الكلام على هذه الآيه إن إبراهيم كان أمة لئلا يستوحش سالك الطريق من قلة السالكين قانتا لله لا للملوك ولا للتجار المترفين حنيفا لا يميل يمينا ولا شمالا كفعل العلماء المفتونين ولم يك من المشركين خلافا لمن كثر سوادهم وزعم انه من المسلمين قلت وهو من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية لكنه ينبه بالأدنى على الأعلى وقوله لئلا يستوحش تنبيه على بعض معنى الآية وهو المنفرد وحده في الخير وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله إن إبراهيم كان أمة قانتا كان على الإسلام ولم يكن في زمانه من قومه أحد على الإسلام غيره فلذك قال الله كان أمة قانتا ولا تنافي بينه وبين كلام ابن مسعود المتقدم قوله وقال والذين هم بربهم لا يشركون مناسبة الآية للترجمة من جهة أن الله تعالى وصف المؤمنين السابقين إلى الجنات بصفات أعظمها الثناء عليهم بأنهم بربهم لا يشركون أي شيئا من الشرك في وقت من الأوقات فإن الإيمان النافع مطلقا لا يوجد إلا بترك الشرك مطلقا ولما كان المؤمن قد يعرض له ما يقدح في إيمانه من شرك جلي أو خفي نفى عنهم ذلك ومن كان كذلك فقد بلغ من تحقيق التوحيد النهاية وفاز بأعظم التجارة ودخل الجنة بلا حساب و لا عذاب
قال ابن كثير والذين هم بربهم لا يشركون أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله أحد صمد لم يتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه لا نظير له قال عن حصين بن عبد الرحمن قال كنت عند سعيد بن جبير فقال أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة فقلت أنا ثم قلت أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت قال فما صنعت قلت ارتقيت قال فما حملك على ذلك قلت حديث حدثناه الشعبي قال وما حدثكم الشعبي قلت حدثنا عن بريدة بن الحصيب أنه قال لا رقية إلا من عين أو وحمة فقال قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي ﷺ قال عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي فقيل لي هذا موسى وقومه فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك فقال بعضهم فلعلهم الذين صحبوا رسول الله ﷺ وقال بعضهم فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا فخرج عليهم رسول الله ﷺ فأخبروه فقال هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال انت منهم ثم قال رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال سبقك بها عكاشة ش هكذا اورد المصنف هذا الحديث غير مزور وقد رواه البخاري مختصرا ومطولا ومسلم واللفظ له والترمذي والنسائي
قوله عن حصين بن عبد الرحمن هو السلمي أبو الهذيل الكوفي ثقة تغير حفظه في الآخر مات سنة ست وثلاثين ومائة وله ثلاث وتسعون سنه وسعيد بن جبير هو الامام الفقيه من جلة أصحاب ابن عباس روايته عن عائشة وأبي موسى مرسلة وهو كوفي مولى لبني أسد قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ولم يكمل الخمسين قوله انقض هو بالقاف والضاد المعجمة أي سقط والبارحة هي أقرب ليلة مضت قال أبو العباس ثعلب يقال قبل الزوال رأيت الليلة وبعد الزوال رأيت البارحة وهكذا قال غيره وهي مشتقة من برح إذا زال قوله أما إني لما كن في صلاة القائل هو حصين خاف أن يظن الحاضرون انه ما رأي النجم إلا لأنه يصلي فأراد أن ينفي عن نفسه ايهام العبادة وأنه يصلي مع أنه لم يكن فعل ذلك وهذا يدل على فضل السلف الصالح وحرصهم على الاخلاص وشدة ابتعادهم عن الرياء بخلاف من يقول فعلت وفعلت ليوهم الأغمار أنه من الاولياء وربما علق السبحه في عنقه أو أخذها في يده يمشي بها بين الناس اعلاما للناس أنه يسبح عدد ما فيها من الخرز وقد قال الإمام محمد بن وضاح حدثنا أسد عن جرير بن حازم عن الصلت بن برهام قال مر ابن مسعود بامرأة تسبح به فقطعه وألقاها ثم مر برجل يسبح بحصى فضربه برجله ثم قال لقد جئتم ببدعة ظلما أو لقد غلبتم أصحاب محمد ﷺ علما قوله ولكني لدغت هو بضم أوله وكسر ثانية مبني لما يسم فاعله أي لذغته عقرب أو نحوها قوله قلت ارتقيت لفظ مسلم استرقيت أي طلبت من يرقينى قوله فما حمله على ذلك فيه طلب الحجة على صحة المذهب
قوله حديث حدثناه الشعبي حملني عليه حديث حدثناه الشعبي واسمه عامر بن شرحبيل الهمداني بسكون الميم الشعبي ولد في خلافة عمر وهو من ثقات التابعين وحفاظهم وفقهائهم مات سنة ثلاثة ومائة قوله عن بريدة بضم أوله وفتح ثانيه تصغير بردة بن الحصيب بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن عبد الله بن الحارث الأسلمي صحابي شهير مات سنة ثلاث وستين قاله ابن سعد قوله لارقية إلا من عين أو حمة هكذا روي هنا موقوفا وقد رواه أحمد وابن ماجه عنه مرفوعا ورواه أحمد وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين به مرفوعا قال الهيثمي رجال أحمد ثقات والعين هي إصابة العائن غيره بعينه والحمة بضم المهملة وتخفيف الميم سم العقرب وشبهها قال الخطابي ومعنى الحديث لا رقية أشفى أو أولى من رقية العين والحمة وقد رقي النبي ﷺ ورقي قلب وسيأتي ما يتعلق بالرفى أن نشاء الله تعالى قوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع أي من أخذ بما بلغه من العلم وعمل به فقد أحسن لأنه أدى ما وجب وعمل بما بلغه من العلم بخلاف من يعمل بجهل أو لا يعمل بما يعلم فإنه مسيء آثم وفيه فضيلة علم السلف وحسن أدبهم وهديهم وتلطفهم في تبليغ العلم وارشادهم من أخذ بشيء وإن كان مشروعا الى ما هو أفضل منه وإن من عمل بما بلغه عن الله وعن رسوله فقد أحسن ولا يتوقف العمل به على معرفة كلام أهل المذاهب أو غيرهم قوله ولكن حدثنا ابن عباس هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب الهاشمي ابن عم النبي ﷺ دعا له النبي ﷺ فقال اللهم فقهه في الدين وعلمه التاويل فكان كذلك قال عمر لوأدرك ابن عباس اسناننا ما عشره منا أحد
أي ما بلغ عشره في العلم مات بالطائف سنة ثمان وستين قال المصنف فيه عمق علم السلف لقوله قد أحسن من انتهى الى ما سمع ولكن كذا وكذا فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني قوله عرضت علي الأمم في رواية الترمذي والنسائي من رواية عبشر ابن القاسم عن حصين بن عبدالرحمن أن ذلك كان ليلة الاسراء ولفظة لما أسري بالنبي ﷺ جعل يمر بالنبي ومعه الواحد قال الحافظ فإن كان ذلك محفوظا كانت فيه قوة لمن ذهب الى تعدد الاسراء وأنه وقع بالمدينة أيضا غير الذي وقع بمكة كذا قال وليس بظاهر بل قد يكون رأي ذلك ليلة الاسراء ولم يحدث به الا في المدينة وليس في الحديث ما يدل على أنه حدث به قريبا من العرض عليه قوله فرأيت النبي ومعه الرهط هو الجماعه دون العشرة قاله النووي قوله والنبي ومعه الرجل والرجلان والنبي وليس معه أحد فيه أن الأنبياء متفاوتون في عدد أتباعهم وأن بعضهم لا يتبعه أحد وفيه الرد على من احتج بالأكثر وزعم أن الحق محصور فيهم وليس كذلك بل الواجب اتباع الكتاب والسنة مع من كان وأين كان قوله اذ رفع لي سواد عظيم السواد ضد البياض والمراد هنا الشخص الذي يرى من بعيد أي رفع لي أشخاص كثيرة قوله فظننت أنهم أمتي استشكل الاسماعيلي كونه ﷺ لم يعرف أمته حتى ظن أنهم أمة موسى عليه السلام وقد ثبت حديث أبي هريرة كيف تعرف من لم تر من أمتك فقال إنهم غر محجلون من أثر الوضوء وأجاب بأن الأسخاص التي رآها في الأفق لا يدرك منها الا الكثرة من غير تمييز لأعيانهم وأما ما في حديث أبي هريرة فمحمول على ما إذا قربوا منه
ذكره الحافظ قوله فقيل لي هذا موسى وقومه أي موسى بن عمران كليم الرحمن وقومه الذين اتبعوه وفيه فضيلة موسى وقومه قوله فنظرت فإذا سواد عظيم لفظ مسلم بعد قوله هذا موسى وقومه ولكن انظر الى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لى انظر الى الأفق الآخر فنظرت فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك قوله ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلاحساب ولا عذاب أي لتحقيقهم التوحيد قال الحافظ المراد بالمعية المعنوية فإن السبعين ألفا المذكورين من جملة أمته لكن لم يكونوا في الذين عرضوا إذ ذاك فأريد الزيادة في تكثير أمته بإضافة السبعين ألفا اليهم قلت وما قاله ليس بظاهر فإن في رواية ابن فضيل ويدخل الجنة من هؤلاء من أمتك سبعون ألفا وقد ورد في حديث أبي هريره في الصحيحين وصف السبعين ألفا بأنهم تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر وفيهما عنه مرفوعا أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر والذين على آثارهم كأحسن كوكب دري في السماء إضاءة وجاء في أحاديث أخر أن مع السبعين ألفا زيادة عليهم فروى أحمد والبهيقي في البعث حديث أبي هريرة في السبعين ألفا فذكره وزاد قال فاستزدت ربي فزادني مع كل الف سبعين الفا قال الحافظ وسنده جيد وفي الباب عن أبي أيوب عند الطبراني وعن حديفة عند احمد وعن أنس عند البزار وعن ثوبان عند أبي عاصم قال فهذه طرق يقوي بعضها بعضا قال وجاء في احاديث أخر أكثر من ذلك فأخرج الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان في صحيحه من حديث أبي أمامة رفعه وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين الفا مع كل ألف سبعين كذا الفا لا حساب عليهم ولا عذاب وثلاث حثيات من حثيات ربي وروى أحمد وأبو يعلى من
حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ أعطيت سبعين الفا يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر قلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي تعالى فزادني امع كل واحد سبعين ألفا قال الحافظ وفي سنده راويان احدهما ضعيف الحفظ والآخر لم يسم قلت وفيه أن كل أمة تحشر مع نبيها قوله ثم نهض أي قام قوله فخاض الناس في اولئك قال النووي هو بالخاء والضاد المعجمتين أي تكلموا وتناظروا قال وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على وجهة الاستفادة وإظهار الحق وفيه عمق علم السلف لمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعلم وفيه حرصهم على الخير ذكره المصنف قوله فقال هم الذين لا يسترقون هكذا ثبث في الصحيحين وفي رواية مسلم التي ساقها المصنف هنا زيادة ولا يرقون وكان المصنف اختصرها كغيرها لما قيل انها معلولة قال شيخ الإسلام هذه الزيادة وهم من الراوي لم يقل النبي ﷺ لا يرقون لأن الراقي محسن الى أخيه وقد قال ﷺ وقد سئل عن الرقى قال من استطاع منكم أن ينفع إخاه فلينفعه وقال لا بأس بالرقى ما لم تكن شركا قال وأيضا فقد رقى جبريل النبي ﷺ ورقى النبي ﷺ أصحابه قال والفرق بين الراقي والمسترقي أن المسترقي سائل مستعط ملتفت إلى غير الله بقلبه والراقي محسن قال وإنما المراد وصف السبعين الفا بتمام التوكل فلا يسألون غيرهم أن يرقيهم ولا يكويهم ولا يتطيرون وكذا قال ابن القيم ولكن اعترضه بعضهم بأن قال تغليط الراوي مع إمكان تصحيح الزيادة لا يصار اليه والمعنى الذي حمله على التغليط موجود في المرقى لأنه اعتل بأن الذي لا يطلب من غيره أن يرقيه تام التوكل فكذا يقال والذي
يفعل به غيره ذلك ينبغبي ! أن لا يمكنه منه لأجل تمام التوكل وليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام دلالة على المدعى ولا في فعل النبي ﷺ له أيضا دلالة في مقام التشريع وتبيين الأحكام كذا قال هذا القائل وهو خطأ من وجوه الأول أن هذه الزيادة لا يمكن تصحيحها إلا بحملها على وجوه لا يصح حملها عليها كقول بعضهم المراد لا يرقون بما كان شركا أو احتمله فإنه ليس في الحديث ما يدل على هذا اصلا وايضا فعلى هذا لا يكون للسبعين مزية على غيره فإن جملة المؤمنين لا يرقون بما كان شركا الثاني قوله فكذا يقال الخ لا يصح هذا القياس فإنه من أفسد القياس وكيف يقاس من سأل وطلب على من لم يسأل مع أنه قياس مع وجود الفارق الشرعي فهو فاسد الاعتبار لأنه تسوية بين ما فرق الشارع بينهما بقوله من اكتوى أو استرقى فقد برىء من التوكل رواه أحمد والترمذي وصححه وابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم أيضا وكيف يجعل ترك الإحسان إلى الخلق سببا للسبق الى الجنان وهذا بخلاف من رقى أو رقي من غير سؤال فقد رقى جبريل النبي صلى الله عليه و سلم ولا يجوز أن يقال إنه عليه السلام لم يكن متوكلا في تلك الحال الثالث قوله ليس في وقوع ذلك من جبريل عليه السلام الخ كلام غير صحيح بل هما سيداالمتوكلين فإذا وقع ذلك منهما دل على أنه لا ينافي التوكل فاعلم ذلك قوله ولا يكتوون أي لا يسألون غيرهم ان يكويهم كما لا يسألون غيرهم أن يرقاهم استسلاما للقضاء وتلذذا بالبلاء أما الكي في نفسه فجائز كما في
الصحيح عن جابر بن عبدالله أن النبي صلىالله عليه وسلم بعث الى أبي بن كعب طبيبا فقطع له عرقا وكواه وفي صحيح البخاري عن أنس أنه كوى من ذات الجنب والنبي ﷺ حي وروى الترمذي وغيره عن أنس أن النبي ﷺ كوى أسعد بن زرارة من الشوكة وفي صحيح البخاري عن ابن عباس مرفوعا الشفاء في ثلاث شربه عسل وشرطه محجم وكية نار وأنا أنهى عن الكي وفي لفظ وما احب أن أكتوي قال ابن القيم فقد تضمنت أحاديث الكي أربعة أنواع أحدها فعله والثاني عدم محبته له والثالث الثناء على من تركه والرابع النهي عنه ولا تعارض بينهما بحمد الله فإن فعله له يدل على جوازه وعدم محبته له لا يدل علىالمنع منه وأما الثناء على تاركيه فيدل على أن تركه أولى وأفضل وأما النهي عنه فعلى سبيل الاختيار والكراهية قوله ولا يتطيرون أي لا يتشاءمون بالطيور ونحوها وسيأتي بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها إن شاء الله تعالى قوله وعلى ربهم يتوكلون ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء اليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء والرضى به ربا وإلها والرضى بقضائه بل ربما أوصل العبد الى التلذذ بالبلاء وعده من النعماء فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء والله ذو الفضل العظيم واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلا كما يظنه الجهلة فان مباشرة الأسباب في الجملة أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه حتى الحيوان البهيم بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب كما قال
تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه إنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجتهم إليها توكلا على الله كالاسترقاء والاكتواء فتركهم له ليس لكونه سببا لكن لكونه سببا مكروها لاسيما والمريض يتشبث بما يظنه سببا لشفائه بخيط العنكبوت أما نفس مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهية فيه فغير قادح في التوكل فلا يكون تركه مشروعا كما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء وعن أسامة بن شريك قال كنت عند النبي ﷺ وجاءت الأعراب فقالوا يا رسول الله أنتداوى فقال نعم يا عباد الله تداووا فإن الله تعالى لم يضع داءا إلا وضع له شفاء غير داء واحد قالوا ما هو قال الهرم رواه أحمد قال ابن القيم فقد تضمنت هذه الاحاديث إثبات الأسباب والمسببات وإبطال قول من أنكرها والامر بالتداوي وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع داء الجوع والعطش والحر والبرد بأضدداها بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله مقتضيات لمسبباتها قدرا وشرعا وان تعطيلها يقدح بمباشرته في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى من التوكل فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله في حصول ما ينفع العبد في دينه و دنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب وإلا كان معطلا للأمر والحكمة والشرع فلا يجعل العبد عجزه توكلا ولا توكله عجزا وقد اختلف العلماء في التداوي هل هو مباح وتركه أفضل أو مستحب أو واجب فالمشهور عن أحمد الأول لهذا الحديث وما في
معناه ولكن على ما تقدم لا يتم الاستدلال به على ذلك والمشهور عند الشافعي الثاني حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر قال ومذهب أبو حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب قال ومذهب مالك أنه يستوى فعله وتركه فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه وقال شيخ الإسلام ليس بواجب عند جماهير الأئمة إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد قوله فقام اليه عكاشة بن محصن بضم العين و تشديد الكاف ويجوز تخفيفها ومحصن بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان بضم المهملة وسكون الراء وبعدها مثلثة الأسدي من بني أسد بن خزيمة ومنه خلفاء بني أمية كان من السابقين إلى الإسلام ومن أجمل الرجال هاجر وشهد بدرا وقاتل فيها قال ابن اسحق وبلغني أن النبي ﷺ قال خير فارس في العرب عكاشة ومناقبه مشهورة استشهد في قتال أهل الردة مع الردة بيدي طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة ثم أسلم طليحة بعد ذلك قوله قال ادع الله أن يجعلني منهم فقال أنت منهم في رواية البخاري فقال اللهم اجعله منهم وكذلك في حديث أبي هريرة عند البخاري مثله وفي بعض الروايات أمنهم أنا يا رسول الله قال نعم قال الحافظ ويجمع بأنه سأل الدعاء أولا فدعا له ثم استفهم هل أجيب فأخبره وفيه طلب الدعاء من الفاضل قوله ثم قام اليه رجل آخر لم نقف على تسميته إلا في طريق واهية
ذكرها الخطيب في المبهمات من رواية أبي حذيفة اسحق بن بشر أحد الضعفاء من طريقين له عن مجاهد أن رسول الله ﷺ لما انصرف من غزاة بني المصطلق فساق قصة طويلة فيها ذلك قال الحافظ وهذا مع ضعفه وإرساله يستبعد من جهة جلالة سعد بن عبادة فإن كان محفوظا فلعله آخر باسم سيد الخزرج واسم أبيه فإن في الصحابة كذلك آخر له في مسند بقي ابن مخلد وفي الصحابة سعد بن عمارة فلعل اسم ابيه تحرف قوله سبقك بها عكاشة قال ابن بطال معنى قوله سبقك أي إلى إحراز هذه الصفات وهي التوكل وعدم التطير وما ذكر معه وعدل عن قوله لست منهم أو لست على أخلاقهم تلطفا بأصحابه وحسن أدب معهم وقال القرطبي لم يكن عند الثاني من الأحوال ما كان عند عكاشة فلذلك لم يجب إذ لو أجابه لجاز أن يطلب ذلك كل من كان حاضرا فيتسلسل الأمر فسد الباب بقوله ذلك وهذا اولى من قول من قال كان منافقا لوجهين أحدهما أن الاصل في الصحابة عدم النفاق فلا يثبت ما يخالف ذلك إلا بنقل صحيح والثاني أنه قل أن يصدر مثل هذا السؤال إلا عن قصد صحيح ويقين بتصديق الرسول ﷺ وكيف يصدر ذلك من منافق قلت هذا أولى ما قيل في تأويله وإليه مال شيخ الإسلام قال المصنف وفيه استعمال المعاريض وحسن خلقه ﷺ باب الخوف من الشرك ش لما كان الشرك أعظم ذنب عصي الله به ولهذا رتب عليه من عقوبات الدنيا والآخرة ما لم يرتبه على ذنب سواه من إباحة دماء أهله وأموالهم وسبي نسائهم وأولادهم وعدم مغفرته من بين الذنوب إلا بالتوبة منه نبه
المصنف بهذه الترجمة على أنه ينبغي للمؤمن أن يخاف منه ويجذره ويعرف أسبابه ومبادئه وأنواعه لئلا يقع فيه ولهذا قال حذيقة كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه رواه البخاري وذلك أن من لم يعرف إلا الخير قد يأتيه الشر ولا يعرف أنه شر فأما أن يقع فيه وأما أن لا ينكره كما ينكره الذي عرفه ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية قال شيخ الإسلام وهو كما قال عمر فإن كمال الإسلام هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتمام ذلك بالجهاد في سبيل الله ومن نشأ في المعروف فلم يعرف غيره فقد لا يكون عنده من العلم بالمنكر وضرره ما عند من علمه ولا يكون عنده من الجهاد لأهله ما عند الخبير بهم ولهذا يوجد الخبير بالشر وأسبابه إذا كان حسن القصد عنده من الاحتراز عنه والجهاد لهم ما ليس عند غيره ولهذا كان الصحابة أعظم إيمانا وجهادا ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر لما علموه من حسن حال الإيمان والعمل الصالح وقبح حال الكفر والمعاصي قال وقول الله إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء قال ابن كثير أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك أي من الذنوب لمن يشاء من عباده قلت فتبين بهذا أن الشرك أعظم الذنوب لأن الله تعالى أخبر أنه لا يغفره أي إلا بالتوبة منه وما عداه فهو داخل تحت مشيئة الله إن شاء غفره بلا توبة
وإن شاء عذب به وهذا يوجب للعبد شدة الخوف من هذا لذنب الذي هذا شأنه عند الله وإنما كان كذلك لأنه أقبح القبح وأظلم الظلم إذ مضمونه تنقيص رب العالمين وصرف خالص حقه لغيره وعدل غيره به كما قال تعالى ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ولأنه مناقض للمقصود بالخلق والأمر مناف له من كل وجه وذلك غاية المعاندة لرب العالمين والاستكبار عن طاعته والذل له والانقياد لأوامره الذي لاصلاح للعالم الا بذلك فمتى خلا منه خرب و قامت القيامة كما قال ﷺ لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله رواه مسلم ولأن الشرك تشبيه للمخلوق بالخالق تعالى وتقدس في خصائص الإلهية من ملك الضر والنفع والعطاء والمنع الذي يوجب تعلق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل وأنواع العبادة كلها بالله وحده فمن علق ذلك لمخلوق فقد شبهه بالخالق وجعل من لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا فضلا عن غيره شبيها بمن له الخلق كله وله الملك كله وبيده الخير كله وإليه يرجع الأمر كله فأزمة الأمور كلها بيديه سبحانه ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع الذي إذا فتح للناس رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فأقبح التشبيه تشبيه العاجر الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات ومن خصائص الآلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه ولك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده والتعظيم والاجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة
والتوكل والتوبة والاستعانة وغاية الحب مع غاية الذل كل ذلك يجب عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لله وحده ويمتنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره فمن فعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثل له ولا ند له وذلك أقبح التشبيه وأبطله فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة هذا معنى كلام ابن القيم وفي الآية رد على الخوارج المكفرين بالذنوب وعلى المعتزلة القائلين بأن أصحاب الكبائر يدخلون النار ولا بد ولا يخرجون منها وهم أصحاب المنزلة بين المنزلتين ووجه ذلك أن الله تعالى جعل مغفرة ما دون الشرك معلقة بالمشيئة ولا يجوز أن يحمل هذا على التأكيد فإن التائب لا فرق في حقه بين الشرك وغيره كما قال تعالى في الآية الأخرى قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا فهنا عمم وأطلق لأن المراد به التائب وهناك خص وعلق لأن المراد به ما لم يتب قاله شيخ الإسلام قوله وقال الخليل عليه السلام واجنبني وبني أن نعبد الأصنام الصنم ما كان منحوتا على صورة البشر والوثن ما كان منحوتا على غير ذلك ذكره الطبري عن مجاهد والظاهر أن الصنم ما كان مصورا على أي صورة والوثن بخلافه كالحجر والبنية وإن كان الوثن قد يطلق على الصنم ذكر معناه غير واحد ويروي عن بعض السلف ما يدل عليه وقوله واجنبني أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيني وبينها قيل واراد بذلك بنيه وبناته من صلبه ولم يذكر البنات لدخولهم تبعا في البنين وقد
استجاب الله دعاءه وجعل بنيه أنبياء وجنبهم عبادة الأصنام وإنما دعا ابراهيم عليه السلام بذلك لأن كثيرا من الناس افتتنوا بها كما قال رب إنهن أضللن كثيرا من الناس فخاف من ذلك ودعا الله ان يعافيه وبنيه من عبادتها فإذا كان ابراهيم عليه السلام يسأل الله أن يجنبه ويجنب بنيه عبادة الأصنام فما ظنك بغيره كما قال ابراهيم التيمي ومن يأمن من البلاء بعد ابراهيم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذا يوجب للقلب الحي أن يخاف من الشرك لا كما يقول الجهال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة ولهذا أمنوا الشرك فوقعوا فيه وهذا وجه مناسبة الآية للترجمة قال وفي الحديث أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث مختصرا غير معرف وقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي الدنيا والبيهقي في الزهد وهذا لفظ أحمد قال حدثنا يونس ثنا ليث عن يريد يعني ابن الهاد عن عمرو عن محمود بن لبيد أن رسول الله ﷺ قال إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله قال الرياء يقول الله يوم القيامة اذا جزى الناس بأعمالهم اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا فانظروا هل تجدون عندهم جزاء قال المنذري ومحمود بن لبيد رأى النبي ﷺ ولم يصح له منه سماع فيما أرى وذكر ابن أبي حاتم أن البخاري قال له صحبه قال وقال بي لا تعرف له صحبة ورجح ابن عبد البر والحافظ أن له صحبه وقال رجل روايته عن الصحابة وقد رواه الطبراني باسناد جيد عن محمود ابن لبيد عن رافع بن خديج وقيل إن حديث محمود هو الصواب دون ذكر رافع مات محمود سنة ست وتسعين وقيل سنة سبع وله تسع وتسعون سنة
قوله إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر هذا من رحمته ﷺ لأمته وشفقته عليهم وتحذيره مما يخاف عليهم فانه ما من خير إلا دلهم عليه وأمر به وما من شر إلا وأخبرهم به وحذرهم عنه كما قال ﷺ فيما صح عنه ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شر ما يعلمه لهم ولما كانت النفوس مجبولة على محبة الرياسة والمنزلة في قلوب الخلق الامن سلم الله كان هذا أخوف ما يخاف على الصالحين لقوة الداعي الى ذلك والمعصوم من عصمه الله وهذا بخلاف الداعي الى الشرك الأكبر فإنه إما معدوم في قلوب المؤمنين الكاملين ولهذا يكون الإلقاء في النار أسهل عندهم من الكفر وإما ضعيف هذا مع العافية وإما مع البلاء فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء فلذلك صار خوفه ﷺ على أصحابه من الرياء أشد لقوة الداعي وكثرته دون الشرك الأكبر لما تقدم مع أنه أخبر أنه لا بد من وقوع عبادة الأوثان في أمته فدل على أنه ينبغي للإنسان أن يخاف على نفسه الشرك الأكبر إذا كان الأصغر مخوفا على الصالحين من الصحابة مع كمال إيمانهم فينبغي للإنسان أن يخاف الأكبر لنقصان إيمانه ومعرفته بالله فهذا وجه ايراد المصنف له هنا مع أن الترجمة تشمل النوعين قال المصنف وفيه أن الرياء من الشرك وأنه من الأصغر وأنه أخوف ما يخاف على الصالحين وفيه قرب الجنة والنار والجمع بين قربهما في حديث واحد على عمل واحد متقارب في الصورة قال وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال من مات وهو
يدعو لله ندا دخل النار رواه البخاري ش قال ابن القيم الند الشبه يقال فلان ند فلان ونديده أي مثله وشبهه انتهى وهذا كما قال تعالى فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون وقال تعالى وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار أي من مات وهو يدعو لله ندا أي يجعل لله ندا فيما يختص به تعالى ويستحقه من الربوبيه والإلهية دخل النار لأنه مشرك فان الله تعالى هو المستحق للعبادة لذاته لأنه المألوه المعبود الذي تألهه القلوب وترغب اليه وتفزع إليه عند الشدائد وما سواه فهو مفتقر اليه مقهور بالعبودية له تجري عليه أقداره وأحكامه طوعا وكرها فكيف يصلح أن يكون ندا قال الله تعالى وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين وقال إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا الآيتان وقال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد فبطل أن يكون له نديد من خلقه تعالى عن ذلك علوا كبيرا ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون واعلم أن دعاء الند على قسمين أكبر وأصغر فالأكبر لا يغفره الله إلا بالتوبة منه وهو الشرك الأكبر والأصغر كيسير الرياء وقول الرجل ما شاء الله وشئت ونحو ذلك فقد ثبت أن النبي ﷺ لما قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده رواه أحمد وابن أبي شيبة
والبخاري في الأدب المفرد والنسائي وابن ماجه وقد تقدم حكمه في باب فضل التوحيد قال ولمسلم عن جابر أن رسول الله ﷺ قال من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ومن لقيه يشرك به شيئا دخل النار ش جابر هو ابن عبد الله بن عمرو بن حرام بمهملتين الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل مكثر ابن صحابي له ولأبيه مناقب مشهورة رضي الله عنهما مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله من لقي الله لا يشرك به شيئا قال القرطبي أي من لم يتخذ معه شريكا في الإلهية ولا في الخلق ولا في العبادة ومن المعلوم من الشرع المجمع عليه عند أهل السنة أن من مات على ذلك فلا بد له من دخول الجنة وإن جرت عليه قبل ذلك أنواع من العذاب والمحنة وإن مات على الشرك لا يدخل الجنة ولا يناله من الله رحمة ويخلد في النار أبد الآباد من غير انقطاع عذاب ولا تصرم آماد وهذا معلوم ضروري من الدين مجمع عليه بين المسلمين وقال النووي أما دخول المشرك إلى النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة من المرتدين والمعطلين ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره ولا بين من خالف ملة الاسلام وبين من انتسب اليها ثم حكم بكفره بحمده وغير ذلك وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة ولا وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة فإن عفا عنه دخل الجنة أولا وإلا عذب في النار ثم أخرج فيدخل الجنة وقال غيره اقتصر على نفي الشرك لاستدعائه التوحيد بالاقتضاء
واستدعائه إثبات الرسالة باللزوم إذ من كذب رسل الله فقد كذب الله ومن كذب الله فهو مشرك وهو كقولك من توضأ صحت صلاته أي مع سائر الشروط فالمراد من مات حال كونه مؤمنا بجميع ما يجب الايمان به إجمالا في الاجمالي تفصيلا في التفصيلي قلب قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك في باب فضل التوحيد قال المصنف وفيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري في صحيحه يعني أن معنى لا اله إلا إلله ترك الشرك وافراد الله بالعبادة والبراءة ممن عبد سواه كما بينه الحديث وفيه فضيلة من سلم من الشرك باب الدعاء الى شهادة أن لا اله الاالله ش لما بين المصنف رحمه الله الأمر الذي خلقت له الخليقة وفضله وهو التوحيد وذكر الخوف من ضده الذي هو الشرك وأنه يوجب لصاحبه الخلود في النار نبه بهذه الترجمة على أنه لا ينبغي لمن عرف ذلك أن يقتصر على نفسه كما يظن الجها ل ويقولون اعمل بالحق واترك الناس وما يعنيك من الناس بل يدعو الى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن كما كان ذلك شأن المرسلين وأتباعهم الى يوم الدين وكما حرى للمصنف وأشباهه من أهل العلم والدين والصبر واليقين وإذا أراد الدعوة الى ذلك فليبدأ بالدعوة إلى التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ لا تصح الاعمال إلا به فهو اصلها الذي تبنى عليه ومتى لم يوجد لم ينفع العمل بل هو حابط إذ لا تصح العبادة مع الشرك كما قال تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون ولأن معرفة معنى هذه الشهادة هو أول واجب على العباد فكان أول ما يبدأ به في الدعوة
قال وقوله تعالى قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني ش قال ابن كثير يقول تعالى لرسوله ﷺ آمرا له أن يخبر الناس أن هذه سبيله أي طريقته وسنته وهي الدعوة الى شهادة أن لا إله إلا الله يدعو الى الله بها على بصيرة من ذلك ويقين وبرهان هو وكل من اتبعه تدعو الى ما دعا اليه رسول الله ﷺ على بصيرة وبرهان عقلي شرعي وقوله سبحان الله أي وأنزه الله وأجل وأعظم عن أن يكون له شريك ونديد تبارك وتعالى عن ذلك علوا كبيرا قلت فتبين وجه المطابقة بين الآية والترجمة قيل ويظهر ذلك إذا كان قوله ومن اتبعني عطفا على الضمير في أدعو الى الله فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة إلى الله تعالى وان كان عطفا على الضمير المنفصل فهو صريح في أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون من عداهم والتحقيق أن العطف يتضمن المعنيين فأتباعه هم أهل البصيرة الذين يدعون الى الله وفي الآية مسائل نبه عليها المصنف منها التنبيه على الأخلاص لأن كثيرا ولو دعا إلى الحق فهو يدعو إلى نفسه ومنها أن البصيرة من الفرائض ووجه ذلك أن اتباعه ﷺ وليس أتباعه حقا إلا أهل البصيرة فمن لم يكن منهم فليس من أتباعه فتعين أن البصيرة من الفرائض ومنها دلائل حسن التوحيد أنه تنزيه الله تعالى عن المسبة ومنها أن من أقبح الشرك كونه مسبة لله ومنها ابعاد المسلم عن المشتركين لا يصير معهم ولو لم يشرك وكل هذه الثلاث في قوله سبحان الله الآية قال وعن ابن عباس أن رسول الله ﷺ لما بعث معاذا إلى اليمن قال له إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه
شهادة أن لا إله إلا الله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله فان هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فإن هم أطاعوك لذلك فاياك وكرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب أخرجاه ش قوله لما بعث معاذا إلى اليمن قال الحافظ كان بعث معاذا إلى اليمن سنة عشر قبل حج النبي ﷺ كما ذكره المصنف يعني البخاري في أواخر المغازي وقيل كان ذلك في آخر سنة تسع عند منصرفه من تبوك رواه الواقدى باسناده الى كعب بن مالك وأخرجه ابن سعد في الطبقات عنه ثم حكى ابن سعد أنه كان في ربيع الآخر سنة عشر وقيل بعثه عام الفتح سنة ثمان واتفقوا أنه لم يزل على اليمن إلى أن قدم في عهد أبي بكر ثم توجه إلى الشام فمات بها واختلف هل كان معاذ واليا أو قاضيا فجزم ابن عبد البر بالثاني والغساني بالأول قلت الظاهر انه كان واليا قاضيا قوله إنك تاتي قوما من أهل الكتاب قال القرطبي يعني به اليهود والنصارى لأنهم كانوا في اليمن أكثر من مشركي العرب أو أغلب وانما نبهه على هذا ليتهيأ لمناظرتهم ويعد الأدلة لإمتحانهم لأنهم أهل علم سابق بخلاف المشركين وعبدة الأوثان وقال الحافظ هو كالتوطئة للوصية ليجمع همته عليها ثم ذكر معنى كلام القرطبي قلت وفيه أن مخاطبة العالم ليست كمخاطبة الجاهل والتنبيه على أنه ينبغي للانسان أن يكون على بصيرة في دينه لئلا يبتلى بمن يورد عليه شبهة من علماء المشركين ففيه التنبيه على الاحتراز من الشبه والحرص على طلب العلم
قوله فليكن أول ما تدعوهم اليه شهادة أن لا إله إلا الله يجوز رفع أول مع نصب شهادة وبالعكس قوله وفي رواية إلى أن يوحدوا الله هذه الرواية في التوحيد من صحيح البخاري وفي بعض الروايات فادعهم الى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وفي بعضها وأن محمدا رسول الله واكثر الروايات فيها ذكر الدعوة إلى الشهادتين وأشار المصنف رحمه الله بايراد هذه الرواية إلى التنبيه على معنى شهادة أن لا إله إلا الله إذ معناها توحيد الله بالعبادة وترك عبادة ما سواه فلذلك جاء الحديث مرة بلفظ شهادة أن لا إله إلا الله ومرة إلى أن يوحدواالله ومرة فليكن أول ما تدعوهم اليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات وذلك هو الكفر بالطاغوت والإيمان بالله الذي قال الله فيه فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها ومعنى الكفر بالطاغوت هو خلع الأنداد والآلهة التي تدعى من دون الله من القلب وترك الشرك بها رأسا وبغضه وعداوته ومعنى الإيمان بالله هو إفراده بالعبادة التي تتضمن غاية الحب بغاية الذل والانقياد لأمره وهذا هو الإيمان بالله المستلزم للإيمان بالرسل عليهم السلام المستلزم ولإخلاص العبادة لله تعالى وذلك هو توحيد الله تعالى ودينه الحق المستلزم للعلم النافع والعمل الصالح وهو حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله وحقيقة المعرفة بالله وحقيقة عبادته وحده لا شريك له فلله ما أفقه من روى هذا الحديث بهذه الالفاظ المختلفة لفظا المتفقة معنى فعرفوا أن المراد من شهادة أن لا إله إلا الله هو الإقرار بها علما ونطقا وعملا خلافا لما يظنه بعض الجهال أن المراد من هذه الكلمة هو مجرد النطق بها أو الإقرار بوجود الله أو ملكه لكل شيء من غير
شريك فإن هذا القدر قد عرفه عباد الأوثان وأقروا به فضلا عن أهل الكتاب ولو كان كذلك لم يحتاجوا الى الدعوة اليه وفيه دليل على أن التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وترك عبادة ما سواه هو أول واجب فلهذا كان أول ما دعت اليه الرسل عليهم السلام كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقال ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ققال شيخ الإسلام رحمه الله وقد علم بالاضطرار من دين الرسول ﷺ واتفقت عليه الأمة أن أصل الإسلام وأول ما يؤمر به الخلق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فبذلك يصير الكافر مسلما والعدو وليا والمباح دمه وماله معصوم الدم والمال ثم إن كان ذلك من قلبه فقد دخل في الإيمان وإن قاله في بلسانه دون قلبه فهو في ظاهر الإسلام دون باطن الإيمان وفيه البدءاة في الدعوة والتعليم بالأهم فالأهم واستدل به من قال من العلماء إنه لا يشترط في صحة الإسلام النطق بالتبري من كل دين يخالف دين الإسلام لأن اعتقاد الشهادتين يستلزم ذلك وفي ذلك تفصيل وفيه أنه لا يحكم بإسلام الكافر إلا بالنطق بالشهادتين قال شيخ الإسلام فأما الشهادتان إذا لم يتكلم بهما مع القدرة فهو كافر باتفاق المسلمين وهو كافر باطنا وظاهرا عند سلف الأمة وأئمتها وجماهير علمائها قلت هذا والله أعلم فيمن لا يقربهما أو باحداهما أما من كفره مع الإقرار بهما ففيه بحث والظاهر أن إسلامه هو توبته عما كفر به وفيه أن الإنسان قد يكون قارئا عالما وهو لا يعرف معنى لا إله إلا الله
أو يعرفه ولا يعمل به نبه عليه المصنف وقال بعضهم هذا الذي أمر به النبي ﷺ معاذا هو الدعوة قبل القتال التي كان يوصي بها النبي ﷺ أمراءه قلت فعلى هذا فيه استحباب الدعوة قبل القتال لمن بلغته الدعوة أما من لم تبلغه فتجب دعوته قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي شهدوا وانقادوا لذلك قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات فيه أن الصلاة بعد التوحيد والإقرار بالرسالة أعظم الواجبات وأحبها واستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع حيث دعاهم أولا إلى التوحيد فقط ثم دعوا إلى العمل ورتب ذلك عليها بالفاء وأيضا فإن قوله فإن هم أطاعوك لذلك فأخبرهم يفهم منه أنهم لو لم يطيعوا لم يجب عليهم شيء قال النووي وهذا الاستدلال صعيف فإن المراد أعلمهم بأنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام ولا يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها ويزاد في عذابهم بسببها في الآخرة قال ثم اعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهي عنه هذا قول المحققين والأكثرين قلت ويدل عليه قوله تعالى قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين الآيات وفيه دليل على أن الوتر ليس بفرض إذ لو كان فرضا لكان صلاة سادسة لا سيما وهذا في آخر الأمر قوله فإن هم أطاعوك لذلك أي آمنوا بأن الله افترضها عليهم وفعلوها قوله فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم فيه دليل على أن الزكاة أوجب الأركان بعد الصلاة وأنها تؤخذ من الأغنياء وتصرف إلى الفقراء وإنما خص النبي ﷺ الفقراء بالذكر مع أنها تدفع إلى المجاهد والعامل ونحوهما وان كانوا اغنياء لأن الفقراء والله أعلم هم أكثر من
تدفع اليهم أو لأن حقهم آكد وفيه أن الإمام هو الذي يتولى قبض الزكاة وصرفها إما بنفسه أو نائبه فمن امتنع عن أدائها إليه أخذت منه قهرا قيل وفيه دليل على أنه يكفي إخراج الزكاة في صنف واحد كما هو مذهب مالك وأحمد وعلى ما تقدم لا يكون فيه دليل وفيه أنه لا يجوز دفعها إلى غني ولا كافر وأن الفقير لا زكاة عليه وأن من ملك نصابا لا يعطى من الزكاة من حيث أنه جعل المأخوذ منه غنيا وقابله بالفقير ومن ملك النصاب فالزكاة مأخوذة منه فهو غني والغنى مانع من إعطاء الزكاة إلا من استثني وأن الزكاة واجبة في مال الصبي والمجنون كما كما هو قول الجمهور لعموم قوله من أغنيائهم قوله فإياك وكرائم أموالهم هو بنصب كرائم على التحذير والكرائم جمع كريمة أي نفيسة قال صاحب المطالع هي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة أو كثرة لحم وصوف ذكره النووي وفيه أنه يحرم على العامل اخذ كرائم المال في الزكاة بل يأخذ الوسط ويحرم على صاحب المال إخراج شر المال بل يخرج الوسط فإن طابت نفسه بإخراج الكريمة جاز قوله واتق دعوة المظلوم أي احذر دعوة المظلوم واجعل بينك وبينها وقاية بفعل العدل وترك الظلم لئلا يدعو عليك المظلوم وفيه تنبيه على المنع من جميع أنواع الظلم والنكتة في ذكره عقب المنع من أخذ الكرائم إشارة إلى أن أخذها ظلم ذكره الحافظ قوله فانه أي الشأن ليس بينها وبين الله حجاب أي لا تحجب عن الله تعالى بل ترفع إليه فيقبلها وإن كان عاصيا كما في حديث أبي هريرة عند أحمد مرفوعا دعوة المظلوم مستجابة وإن كان فاجرا ففجوره على نفسه واسناده
حسن قاله الحافظ وقال أبو بكر بن العربي هذا وإن كان مطلقا فهو مقيد بالحديث الآخر أن الداعي على ثلاث مراتب إما ان يعجل له ما طلب وإما ان يدخر له أفضل منه وإما ان يدفع عنه من السوء مثله وهذا كما قيد مطلقا قوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه بقوله تعالى فيكشف ما تدعون اليه إن شاء وفي الحديث أيضا قبول خبر الواحد العدل ووجوب العمل به وأن الإمام يبعث العمال لجباية الزكاة وأنه يعظ عماله وولاته ويأمرهم بتقوى الله ويعلمهم ما يحتاجون اليه وينهاهم عن الظلم ويعرفهم قبح عاقبته والتنبيه على التعليم بالتدريج ذكره المصنف وآعلم انه لم يذكر في هذا الحديث ونحوه الصوم والحج مع أن بعث معاذ كان في آخر الامر كما تقدم فأشكل ذلك على كثير من العلماء قال شيخ 4 الاسلام أجاب بعض الناس أن الرواة اختصر بعضهم الحديث وليس الأمر كذلك فإن هذا طعن في الرواة لأن هذا إنما يقع في الحديث الواحد مثل حديث عبد القيس حيث ذكر بعضهم الصيام وبعضهم لم يذكره فأما الحديثان المفصلان فليس الأمر فيهما كذلك ولكن عن هذا جوابان أحدهما أن ذلك بحسب نزول الفرائض وأول ما فرض الله الشهادتان ثم الصلاة فإنه أمر بالصلاة في أول أوقات الوحي ولهذا لم يذكر وجوب الحج في عامة الأحاديث إنما جاء في الأحاديث المتأخرة قلت وهذا من الأحاديث المتأخرة ولم يذكر فيها الجواب الثاني أنه كان يذكر في كل مقام ما يناسبه فيذكر تارة الفرائض التي يقاتل عليها كالصلاة والزكاة ويذكر تارة الصلاة والصيام إن لم يكن عليه زكاة ويذكر تارة الصلاة والزكاة والصيام فإما أن يكون قبل فرض الحج كما في حديث عبد القيس ونحوه وإما أن يكون المخاطب بذلك لا حج عليه
وأما الصلاة والزكاة فلهما شأن ليس لسائر الفرائض ولهذا ذكر الله تعالى في كتابه القتال عليهما لأنهما عبادتان ظاهرتان بخلاف الصوم فإنه أمر باطن وهو مما ائتمن عليه الناس فهو من جنس الوضوء والاغتسال من الجنابة ونحو ذلك مما يؤتمن عليه العبد فإن الإنسان يمكنه أن لا ينوي الصوم وأن يأكل سرا كما يمكنه أن يكتم حدثه وجنابته بخلاف الصلاة والزكاة وهو ﷺ يذكر في الإعلام الأعمال الظاهرة التي يقاتل الناس عليها ويصيرون مسلمين بفعلها فلهذا علق ذلك بالصلاة والزكاة دون الصيام وإن كان واجبا كما في آيتي براءة فإن براءة نزلت بعد فرض الصيام باتفاق الناس وكذلك لما بعث معاذ بن جبل إلى اليمن لم يذكر في حديثه الصيام لأنه تبع وهو باطن ولا ذكر الحج لأن وجوبه خاص ليس بعام وهو لا يجب في العمر إلا مرة واحدة انتهى ملخصا بمعناه قوله أخرجاه أي أخرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وأخرجه أيضا أحمد وأبو دا 4 ود والترمذي والنسائى وابن ماجه قال ولهما عن سهل بن سعد أن رسول الله ﷺ قال يوم خيبر لأعطين الراية غدارجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها فقال أين علي بن أبي طالب فقيل هو يشتكي عينيه قال فأرسلوا إليه فأتي به فبصق في عينيه ودعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الرايه وقال انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم الى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم يدوكون أي يخوضون
ش قال شيخ الاسلام هذا الحديث أخح ما روي لعلي رضي الله عنه من الفضائل أخرجاه في الصحيحين من غير وجه قوله عن سهل هو سهل بن سعد بن مالك بن خالد الأنصاري الخزرجي الساعدي أبو العباس صحابي شهير وابوه صحابي ايضا مات سنة ثمان وثمانين وقد جاوز المائة قوله قال يوم خيبر أي في غزوة خيبر في الصحيحين واللفظ لمسلم عن سلمة بن الأكوع قال كان علي رضى الله عنه قد تخلف عن النبي ﷺ في خيبر وكان رمدا فقال انا تخلفت عن رسول الله ﷺ فخرج علي رضي الله عنه فلحق بالنبي ﷺ فلما كان مساء الليلة التي فتحها الله تعالى في صباحها قال رسول الله ﷺ لأعطين الراية أو ليأخذن بالراية غدا رجل يحبه الله ورسوله أو قال يحب الله ورسوله يفتح الله عليه فإذا نحن بعلي وما نرجوه فقالوا هذا علي فأعطاه رسول الله ﷺ الراية ففتح الله عليه وهذا يبين أن عليا رضي الله عنه لم يشهد أول خيبر وأنه عليه السلام قال هذه المقالة مساء الليلة التي فتحها الله في صباحها قوله لأعطين الراية قال الحافظ في رواية بريدة إني دافع اللواء إلى رجل يحبه الله ورسوله والراية بمعني اللواء وهو العلم الذي يحمل في الحرب يعرف به موضع صاحب الجيش وقد يحمله أمير الجيش وقد يدفعه لمقدم العسكر وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما لكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس كانت راية رسول الله ﷺ سوداء ولواؤه أبيض ومثله عند الطبراني عن بريده وعند ابن عدي عن أبي هريرة وزاد مكتوب فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله وهو ظاهر في التغاير فلعل التفرقة بينهما عرفية
قوله يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله فيه فضيلة عظيمة لعلي رضي الله عنه لأن النبي ﷺ شهد له بذلك ولكن ليس هذا من خصائصه قال شيخ الإسلام ليس هذا الوصف مختصا بعلي ولا بالأئمة فإن الله ورسوله يحب كل مؤمن تقي يحب الله ورسوله لكن هذا الحديث من أحسن ما يحتج به على النواصب الذي يتبرؤون منه ولا يتولونه بل لقد يكفرونه أو يفسقونه كالخوارج لكن هذا الاحتجاج لا يتم على قول الرافضة الذين يجعلون النصوص الدالة على فضائل الصحابة كانت قبل ردتهم فإن الخوارج تقول في علي مثل ذلك لكن هذا باطل فإن الله ورسوله لا يطلق مثل هذا المدح على من يعلم أنه يموت كافرا وفيه إثبات صفة المحبة لله وفيه إشارة إلى أن عليا تام الاتباع لرسول الله ﷺ حتى أحبه الله ولهذا كانت محبته علامة الإيمان وبغضه علامة النفاق ذكره الحافظ بمعناه قوله يفتح الله على يديه صريح في البشارة بحصول الفتح على يديه فكان الأمر كذلك ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله قوله فبات الناس يدوكون ليلتهم هو بنصب ليلتهم على الطرفية ويدوكون قال المصنف يخوضون والمراد انهم باتوا تلك الليلة في خوض واختلاف فيمن يدفعها اليه وفيه حرص الصحابة على الخير ومزيد اهتمامهم به وذلك يدل على علو مراتبهم في العلم والايمان قوله أيهم يعطاها فهو يرفع أي على البناء قوله فلما أصبحوا غدوا على رسول الله ﷺ كلهم يرجو أن يعطاها وفي رواية أبي هريرة عند مسلم أن عمر قال ما أحببت الإمارة إلا يومئذ فإن قلت أن كانت هذه الفضيلة لعلي رضي الله عنه ليست من خصائصه فلماذا تمنى بعض الصحابة أن يكون له ذلك قيل الجواب كما قال شيخ
الاسلام أن في ذلك شهادة النبي ﷺ لعلي بإيمانه باطنا وظاهرا واثبات لموالاته لله ورسوله ووجوب موالاة المؤمنين له وإذا شهد النبي ﷺ لمعين بشهادة أو دعا له بدعاء أحب كثير من الناس أن يكون له مثل تلك الشهادة ومثل ذلك الدعاء وإن كان النبي ﷺ يشهد بذلك لخلق كثير ويدعو به لخلق كثير وكان تعيينه لذلك المعين من أعظم فضائله ومناقبه وهذا كالشهادة بالجنة لثاتب بن قيس وعبد الله بن سلام وغيرهما وإن كان قد شهد بالجنة لآخرين والشهادة لمحبة الله ورسوله للذي ضرب في الخمر قلت وفي هذه الجملة أيضا حرص الصحابة على الخير قوله فقال أين علي بن أبي طالب قال بعضهم كأنه ﷺ استبعد غيبته عن حضرته في مثل ذلك الموطن لا سيما وقد قال لأعطين الراية إلى آخره وقد حضر الناس وكلهم طمع بأن يكون هذا الذي يفوز بذلك الوعد وفيه سؤال الإمام عن رعيته وتفقده أحوالهم وسؤاله عنهم في مجامع الخير قوله فقيل له هو يشتكي عينيه اي من الرمد كما في صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص فقال ادعوا لي عليا فأتي به أرمد فبصق في عينيه قوله قال فأرسلوا إليه بهمزة قطع أمر من الإرسال أمرهم بأن يرسلو اليه فيدعوه له ولمسلم من طريق اياس بن سلمة عن أبيه قال فأرسلني الى علي فجئت به أقوده أرمد فبصق في عينيه فبرأ قوله فبصق بفتح الصاد أي تفل قوله ودعا له فبرأ وهو بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب ويجوز الكسر بوزن علم أي عوفي في الحال عافية كاملة كأن لم يكن به وجع من رمد ولا ضعف بصر أصلا وعند الطبراني من حديث على فما رمدت ولا صدعت منذ دفع إلي النبي ﷺ الراية وفيه دليل على الشهادتين
قوله فأعطاه الراية قال المصنف فيه الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع ومنعا عمن سعى وفيه التوكل على الله والاقبال بالقلب اليه وعدم الالتفات الى الاسباب وان فعلها لا ينافي التوكل قوله وقال انفذ على رسلك أما انفذ فهو بضم الفاء أي امض لوجهك ورسلك بكسر الراء وسكون السين أي على رفقك ولينك من غير عجلة يقال لمن يعمل الشيء برفق وساحتهم فناء أرضهم وهو حواليها وفيه الأدب عند القتال وترك الطيش والأصوات المزعجة التي لا حاجة اليها وفيه أمر الإمام عماله بالرفق واللين من غير ضعف ولا انتقاض عريمة كما يشير اليه قوله حتى تنزل بساحتهم قوله ثم ادعهم الى الاسلام أي الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ومن هذا الوجه طابق الحديث الترجمة وفي حديث أبي هريرة عند مسلم فدعا رسول الله ﷺ علي بن أبي طالب فأعطاه الراية وقال أمش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك فسار علي شيئا ثم وقف ولم يلتفت فصرخ يا رسول الله على ماذا أقاتل الناس فقال قاتلهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفيه أن الدعوة الى شهادة أن لا إله ألا الله المراد بها الدعوة الى الإخلاص بها وترك الشرك وإلا فاليهود يقولونها ولم يفرق النبي ﷺ في الدعوة اليها بينهم وبين من لا يقولها من مشركي العرب فعلم أن المراد من هذه الكلمة هو اللفظ بها واعتقاد معناها والعمل به وذلك هو معنى قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وقوله قل إنما أمرت أن
أعبد الله ولا أشرك به شيئا إليه أدعو واليه مآب وذلك هو معنى قوله ثم ادعهم إلى الاسلام الذي هو الاستسلام لله تعالى والانقياد له بفعل التوحيد وترك الشرك وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداء لأن النبي ﷺ أغار على بني المصطلق وهم غارون وتستحب دعوتهم لهذا الحديث وما في معناه وان كانوا لم تبلغهم وجبت دعوتهم وقوله وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه أي في الاسلام أي إذا اجابوا الى الاسلام فأخبرهم بما يجب عليهم من حقوقه التي لابد من فعلها كالصلاة والزكاة وهذا كقوله في حديث أبي هريرة فإذا فعلوا ذلك فعد منعوا منك دماءهم وأموالهم إلا بحقها وقد فسره أبو بكر الصديق لعمر رضي الله عنهما لم قاتل أهل الردة الذين يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقال له عمر كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتي يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها قال أبو بكر فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها الى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعها وحاصله أنهم إذا أجابوا الى الاسلام الذي هو التوحيد فأخبرهم بما يجب عليهم بعد ذلك من حق الله تعالى في الاسلام من الصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك من شرائع الإسلام الظاهرة وحقوقه فإن أجابوا إلى ذلك فقد أجابوا إلى الإسلام حقا وإن امتنعوا عن شيء من ذلك فالقتال باق بحاله اجماعا فدل على أن النطق بكلمتي الشهادة دليل العصمة لا أنه عصمة أو يقال هو العصمة لكن بشرط العمل يدل على ذلك
قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا الآية ولو كان النطق بالشهادتين عاصما لم يكن للتثبت معنى يدل على ذلك قوله تعالى فإن تابوا أي عن الشرك وفعلوا التوحيد وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم فدل على ان القتال يكون على هذه الأمور وفيه ان لله تعالى حقوقا في الاسلام من لم يأت بها لم يكن مسلما كإخلاص العبادة له والكفر بما يعبد من دونه وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله كما كان النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون يفعلون وفيه تعليم الإمام أمراءه وعماله ما يحتاجون إليه قوله فو الله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم أن هي المصدرية واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم وأن ومدخولها مسبوك بمصدر مرفوع على أنه مبتدأ خبره خير وحمر بضم المهملة وسكون الميم والنعم بفتح النون والعين المهملة أي خير لك من الإبل الحمر وهي أنفس أموال العرب يضربون بها المثل في نفاسة الشيء قيل المراد خير من أن تكون لك فتتصدق بها وقيل تقتنيها وتملكها قلت هذا هو الأظهر والأول لا دليل عليه أي انكم تحبون متاع الدنيا وهذا خير منه قال النووي وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من الآخرة خير من الارض بأسرها وأمثالها معها وفيه فضيلة الدعوة إلى الله وفضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد وجواز الحلف على الفتيا والقضاء والخبر والحلف من غير استحلاف باب تفسير التوحيد وشهادة ان لا إله إلا الله ش أي تفسير هاتين الكلمتين والعطف لتغاير اللفظين وإلا فالمعنى
واحد ولما ذكر المصنف في الابواب السابقة التوحيد وفضائله والدعوة اليه والخوف من ضده الذي هو الشرك فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة هذا الامر الذي خلقت له الخليقة والذي بلغ من شأنه عند الله أن من لقيه به غفر له وإن لقيه بملء الارض خطايا بين رحمه الله في هذا الباب أنه ليس اسما لا معنى له أو قولا لا حقيقة له كما يظنه الجاهلون الذين يظنون أن غاية التحقيق فيه هو النطق بكلمة الشهادة من غير اعتقاد القلب بشيء من المعاني والحاذق منهم يظن أن معنى الاله هو الخالق المتفرد بالملك فتكون غاية معرفته هو الإقرار بتوحيد الربوبية وهذا ليس هو المراد بالتوحيد ولا هو أيضا معنى لا إله إلا الله وإن كان لا بد منه في التوحيد بل التوحيد اسم لمعنى عظيم وقول له معنى جليل هو أجل من جميع المعاني وحاصله هو البراءة من عبادة كل ما سوى الله والإقبال بالقلب والعبادة على الله وذلك هو معنى الكفر بالطاغوت والإيمان بالله وهو معنى لا إله إلا الله كما قال تعالى وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم وقال تعالى حكاية عن مؤمن يس ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم قل الله أعبد مخلصا له ديني وقال تعالى حكاية عن مؤمن آل فرعون ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار لا جرم أن
ما تدعوننى إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة والايات في هذا كثيرة تبين أن معنى لإ إله إلا الله هو البراءة من عبادة ما سوى الله من الشفعاء والأنداد وإفراد الله بالعبادة فهذا هو الهدى ودين الحق الذي أرسل الله به رسله وأنزل به كتبه أما قول الإنسان لا إله إلا الله من غير معرفة لمعناها ولا عمل به أو دعواه أنه من أهل التوحيد وهو لا يعرف التوحيد بل ربما يخلص لغير الله من عباداته من الدعاء والخوف والذبح والنذر والتوبة والإنابة وغير ذلك من أنواع العبادات فلا يكفي في التوحيد بل لا يكون إلا مشركا والحالة هذه كما هو شأن عباد القبور ثم ذكر المصنف آيات تدل على هذا فقال وقول الله تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه الآية قلت يبين معنى هذه الآية التي قبلها وهي قوله قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا اولئك الذين يدعون الآية قال ابن كثير يقول تعالى قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم من دونه من الأنداد وارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم أي بالكلية ولا تحويلا أي أن يحولوه الى غيركم والمعنى إن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لاشريك له قال العوفي عن ابن عباس في الآية كان أهل الشرك يقولون نعبد الملائكة والمسيح ووهم الذين يدعون يعني الملائكة وعزيزا وقوله أولئك الذين يدعون الآية وروى البخاري عن ابن مسعود في الآية قال ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا
وفي رواية كان ناس من الانس يعبدون ناسا من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم وقال السدي عن ابي صالح عن ابن عباس في الآية قال عيسى وامه وعزير وقال مغيرة عن إبراهيم كان ابن عباس يقول في هذه الآية هم عيسى وعزير والشمس والقمر وقال مجاهد عيسى وعزير والملائكة وقوله ويرجون رحمته ويخافون عذابه لاتتم العبادة إلا بالخوف والرجاء وفي التفسير المنسوب إلى الطبري الحنفي قل للمشركين يدعون أصنامهم دعاء استغاثة فلا يقدرون كشف الضر عنهم ولا تحويلا إلى غيرهم أولئك الذين يدعون أي الملائكة المعبودة لهم يتبادرون إلى طلب القربة إلى الله فيرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا أي مما يحذره كل عاقل وعن الضحاك وعطاء أنهم الملائكة وعن ابن عباس أولئك الذين يدعون عيسى وأمه وعزيرا قال شيخ الإسلام وهذه الأقوال كلها حق فإن الآية تعم من كان معبوده عابدا لله سواء كان من الملائكة أو من الجن أو من البشر والسلف في تفسيرهم يذكرون جنس المراد بالآية على نوع التمثيل كما يقول الترجمان لمن سأله ما معنى لفظ الخبز فيريه رغيفا فيقول هذا فالإشارة إلى نوعه لا إلى عينه وليس مرادهم بذلك تخصيص نوع دون نوع مع شمول فالآية خطاب للنوعين فاية خطاب لكل من دعا دون الله مدعوا وذلك المدعو يبتغي إلى الله الوسيلة ويرجو رحمته ويخاف عذابه فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين سواء كان بلفظ الاستغاثة أو غيرها فقد تناولته هذه الآية كما تتناول من دعا الملائكة والجن ومعلوم أن هؤلاء كلهم يكونون وسائط فيما يقدره الله بأفعالهم ومع هذا فقد نهى الله عن دعائهم وبين أنهم لا يملكون كشف الضر عن الداعين
ولا تحويله لا يرفعونه بالكلية ولا يحولونه من موضع إلى موضع كتغيير صفته أو قدره ولهذا قال ولا تحويلا فذكر نكرة تعم أنواع التحويل فكل من دعا ميتا أو غائبا من الأنبياء والصالحين أو دعا الملائكة أو دعا الجن فقد دعا من لا يغيثه ولا يملك كشف الضر عنه ولا تحويله انتهى وبنحو ما تقدم من كلام هؤلاء قال جميع المفسرين فتبين أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو ترك ما عليه المشركون من دعوة الصالحين والاستشفاع بهم إلى الله في كشف الضر وتحويله فكيف ممن أخلص لهم الدعوة وإنه لا يكفي في التوحيد دعواه والنطق بكلمة الشهادة من غير مفارقة لدين المشركين وإن دعاء الصالحين لكشف الضر أو تحويله هو الشرك الأكبر نبه عليه المصنف قال وقوله وإذ قال ابراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها إنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه أي هذه الكلمة وهي عبادة الله وحده لا شريك له وخلع ما سواه من الأوثان وهي لا إله إلا الله أي جعلها في ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام لعلهم يرجعون أي اليها قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله وجعلها كلمة باقية في عقبه يعني لا إله إلا
الله لا يزال في ذريته من يقولها وقال ابن زيد كلمة الإسلام وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة قلت وروى ابن جرير عن قتادة في قولة إلا الذي فطرني قال خلقني وعنه إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني قال إنهم يقولون إن الله ربنا ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فلم يبرأ من ربه رواه عبد بن حميد قلت يعني أن قوم إبراهيم يعبدون الله ويعبدون غيره فتبرأ مما يعبدون إلا الله لا كما يظن الجهال أن الكفار لا يعرفون الله ولا يعبدونه أصلا وروى ابن جرير وابن المنذر عن قتادة وجعلها كلمة باقية في عقبه قال الإخلاص والتوحيد لا يزال في ذريته من يوحد الله ويعبده فتبين بهذا أن معنى لا إله إلا الله هو البراءة مما يعبد من دون الله وإفراد الله بالعبادة وذلك هو التوحيد لا مجرد الإقرار بوجود الله وملكه وقدرته وخلقه لكل شيء فإن هذا يقربه الكفار وذلك هو معنى قوله إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فاستثنى من المعبودين ربه وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله قاله المصنف قال وقوله تعالى اتخدوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية ش الأحبار هم العلماء والرهبان هم العباد وهذه الآية قد فسرها رسول الله ﷺ لعدي بن حاتم وذلك أنه لما جاء مسلما دخل على رسول الله ﷺ وهو يقرأ هذه الآية قال فقلت إنهم لم يعبدوهم فقال إنهم حرموا عليهم الحلال وحللوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم اياهم رواه أحمد والترمذي وحسنه وعبد بن حميد وابن سعد وابن أبي حاتم والطبراني
وغيرهم من طرق وهكذا قال جميع المفسرين قال السدي استنصحوا الرجال ونبذوا كتاب الله وراء طهورهم ولهذا قال تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله الا الله أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله حل وما شرعه اتبع سبحانه تعالى عما يشركون أي تعالى وتقدس عن الشركاء والنظراء والأضداد والأنداد لا إله إلا هو ولا رب سواه ومراد المصنف رحمه الله بإيراد الآية هنا أن الطاعة في تحريم الحلال وتحليل الحرام من العبادة المنفية من غير الله تعالى ولهذا فسرت العبادة بالطاعة وفسر الإله بالمعبود المطاع فمن أطاع مخلوقا في ذلك فقد عبده اذ معنى التوحيد وشهادة أن لا اله الا الله يقتضي افراد الله بالطاعة وافراد الرسول بالمتابعة فإن من أطاع الرسول ﷺ فعد أطاع الله وهذا أعظم ما يبين التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأنها تقتضي نفي الشرك في الطاعة فما ظنك بشرك العبادة كالدعاء والاستغاثة والتوبة وسؤال الشفاعة وغير ذلك من انواع الشرك في العبادة وسيأتي مزيد لهذا ان شاء الله تعالى في باب من أطاع العلماء والأمراء قال وقوله ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا يحبونهم كحب الله الآية ش قال المصنف رحمه في مسائله ومنها اي من الأمور المبينة لتفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم وما هم بخارجين من النار وذكر أنهم يحبون اندادهم كحب الله فدل على أنهم يحبون الله حبا عظيما ولم يدخلهم في الإسلام فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله قلت مراده أن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله هو إفراد الله بأصل الحب الذي
يستلزم إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له وعلى قدر التفاضل في هذا الأصل وما ينبني عليه من الأعمال الصالحة يكون تفاضل الإيمان والجزاء عليه في الآخرة فمن أشرك بالله تعالى في ذلك فهو المشرك لهذه الآية أخبر تعالى عن أهل هذا الشرك أنهم يقولون لآلهتهم وهم في الجحيم تالله إن كنا لفي ضلال مبين أذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الخلق والرزق والملك وانما ساووهم به في المحبة والإلهية والتعظيم والطاعة فمن قال لا اله الا الله وهو مشرك بالله في هذه المحبة فما قالها حق القول وان نطق بها اذ هو قد خالفها بالعمل كما قال المصنف فكيف بمن أحب الند حبا أكبر من حب الله وسيأتي الكلام على هذه الآية في بابها أن شاء الله تعالى قال في الصحيح عن النبي ﷺ قال من قال لا إله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه وحسابه على الله ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه عن النبي ﷺ فذكره وأبو مالك اسمه سعد بن طارق كوفي ثقه مات في حدود الأربعين ومائة وأبوه طارق بن أشيم بالمعجمة والمثناة التحتيه وزن أحمر ابن مسعود الأشجعي صحابي له أحاديث قال مسلم لم يرو عنه غير ابنه قوله من قال لا اله الا الله وكفر بما يعبد من دون الله اعلم أن النبي ﷺ في هذا الحديث علق عصمة المال والدم بأمرين الأول قول لا اله الا الله الثاني الكفر فيمن يعبد من دون الله فلم يكتف بلفظ المجرد عن المعني بل لا بد من قولها والعمل بها قال المصنف وهذا من أعظم ما يبين معنى لا اله الا الله فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع التلفظ بها بل ولا الإقرار بذلك بل ولا كونه لا يدعو الا الله وحده لا شريك له بل لا
يحرم دمه وماله حتى يضيف الى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله فإن شك أو تردد لم يحرم ماله ودمه فيا لها من مسألة ما أجلها وياله من بيان ما أوضحه وحجة ما أقطعها للمنازع قلت وقد أجمع العلماء على معنى ذلك فلا بد في العصمة من الإتيان بالتوحيد والتزام أحكامه وترك الشرك كما قال تعالى وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله والفتنة هنا الشرك فدل على أنه إذا وجد الشرك فالقتال باق بحاله كما قال تعالى وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة وقال تعالى فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم فأمر بقتالهم على فعل التوحيد وترك الشرك وإقامه شعائر الدين الظاهرة فإذا فعلوها خلي سبيلهم ومتى ابوا عن فعلها أو فعل شيء منها فالقتال باق بحاله إجماعا ولو قالوا لا إله إلا الله وكذلك النبي ﷺ علق العصمة بما علقها الله به في كتابه كما في هذا الحديث وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة مرفوعا أمرت أن اقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله وفي الصحيحين عنه قال لما توفي رسول الله ﷺ وكفر من كفر من العرب فقال عمر بن الخطاب لأبي بكر كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن
قال لا إله إلا الله فقد عصم منى ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله فقال أبو بكر والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة فإن الزكاة حق المال والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله ﷺ لقاتلتهم على منعه فقال عمر بن الخطاب فو الله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر ابي بكر للقتال فعرفت أنه الحق لفظ مسلم فانظر كيف فهم صديق الأمة أن النبي ﷺ لم يرد مجرد اللفظ بها من غير إلزام لمعناها وأحكامها فكان ذلك هو الصواب واتفق عليه الصحابة ولم يختلف فيه منهم اثنان إلا ما كان من عمر حتى رجع إلى الحق وكان فهم الصديق هو الموافق لنصوص القرآن والسنة وفي الصحيحين أيضا عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوه عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله فهذا الحديث كأية برآءة بين فيه ما يقاتل عليه الناس ابتدآء فإذا فعلوه وجب الكف عنهم إلا بحقه فإن فعلوا بعد ذلك ما يناقض هذا الإقرار والدخول في الإسلام وجب القتال حتى يكون الدين كله لله بل لو أقروا بالأركان الخمسة وفعلوها وأبوا عن فعل الوضوء للصلاة ونحوه أو عن تحريم بعض محرمات الإسلام كالربا أو الزنا أو نحو ذلك وجب قتالهم إجماعا ولم تعصمهم لا إله إلا الله و لا ما فعلوه من الأركان وهذا من أعظم ما بين معنى لا إله إلا الله وأنه ليس المراد منها مجرد النطق فإذا كانت لا تعصم من استباح محرما أو أبى عن فعل الوضوء مثلا بل يقاتل على ذلك حتى يفعله فكيف تعصم من دان بالشرك وفعله واحبه ومدحه وأثنى على أهله ووالى عليه وعادى عليه وأبغض التوحيد الذي هو إخلاص العبادة لله وتبرأ منه وحارب أهله وكفرهم وصد عن سبيل الله كما هو شأن عباد القبور
وقد أجمع العلماء على أن من قال لا إله إلا الله وهو مشرك أنه يقاتل حتى يأتي بالتوحيد ذكر التنبيه على كلام العلماء في ذلك فإن الحاجة داعية إليه لدفع شبه عباد القبور في تعلقهم بهذه الأحاديث وما في معناها مع أنها حجة عليهم بحمد الله لا لهم قال ابو سليمان الخطابي في قوله امرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون لا إله إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف وقال القاضي عياض اختصاص عصم المال والنفس بمن قال لا إله إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان وأن المراد بذلك مشركو العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد وهم كانوا أول من دعي إلى الاسلام وقوتل عليه فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفى في عصمته بقوله لا إله إلا الله إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده فلذلك جاء في الحديث الآخر ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وقال النووي لابد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله ﷺ وكما جاء في الرواية الأخرى ويؤمنوا بي وبما جئت به وقال شيخ الإسلام لما سئل عن قتال التتار مع التمسك بالشهادتين ولما زعموا من اتباع أصل الإسلام فقال كل طائفة ممتنعة من التزام شرائع الاسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم أو غيرهم فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين وملتزمين بعض شرائعه كما قاتل ابو بكر والصحابة رضي الله عنهم ما نعي الزكاة وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم
قال فأيما طائفة ممتنعة امتنعت عن بعض الصلوات المفروضات أو الصيام أو الحج أو عن التزام تحريم الدماء أو الاموال أو الخمر أو الميسر أو نكاح ذوات المحارم أو عن التزام جهاد الكفار أو ضرب الجزية على أهل الكتاب أو غير ذلك من التزام واجبات الدين أو محرماته التي لا عذر لأحد في جحودها أو تركها التي يكفر الواحد بجحودها فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها وإن كانت مقرة بها وهذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء قال وهؤلاء عند المحققين من العلماء ليسوا بمنزلة البغاة بل هم خارجون عن الإسلام بمنزلة ما نعي الزكاة ومثل هذا كثير في كلام العلماء والمقصود التنبيه على ذلك ويكفي العاقل المنصف ما ذكره العلماء من كل مذهب في باب حكم المرتد فإنهم ذكروا فيه أشياء كثيرة يكفر بها الإنسان ولو أتى بحميع الدين وهو صريح في كفر عباد القبور ووجوب قتالهم إن لم ينتهوا حتى يكون الدين لله وحده فإذا كان من التزام شرائع الدين كلها إلا تحريم الميسر أو الربا أو الزنا يكون كافرا يجب قتاله فكيف بمن أشرك بالله ودعي إلى اخلاص الدين لله والبراءة والكفر بمن عبد غير الله فأبي عن ذلك واستكبر وكان من الكافرين قوله وحسابه على الله أي الى الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى حسابه فإن كان صادقا من قلبه جازاه بجنات النعيم وان كان منافقا عذبه العذاب الأليم وأما في الدنيا فالحكم على الظاهر فمن أتى بالتوحيد والتزم شرائعه ظاهرا وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك واستدل الشافعية بالحديث على قبول توبة الزنديق وهو الذي يظهر الإسلام ويسر الكفر والمشهور في مذهب أحمد ومالك أنها
لا تقبل لقوله تعالى الا الذين تابو وأصلحوا وبينوا والزنديق لا يتبين رجوعه لأنه مظهر للاسلام مسر للكفر فإذا أظهر التوبه لم يزد على ما كان منه قبلها والحديث محمول على المشرك ويتفرع على ذلك سقوط القتل وعدمه أما في الآخرة فإن كان دخل في الإسلام صادقا قبلت وفيه وجوب الكف عن الكافر إذا دخل في الإسلام ولو في حال القتال حتى يتبين منه ما يخالف ذلك وفيه أن الإنسان قد يقول لا اله الا الله ولا يكفر بما يعبد من دون الله وفيه أن شرط الايمان الاقرار بالشهادة والكفر بما يعبد من دون الله مع اعتقاد ذلك واعتقاد جميع ما جاء به الرسول ﷺ وفيه أن أحكام الدنيا على الظاهر وأن مال المسلم ودمه حرام الا في حق كالقتل قصاصا ونحوه وتغريمه قيمة ما يتلفه قوله وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب يعني أن ما يأتي بعد هذه الترجمة من الأبواب شرح للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله لأن معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله أن لا يعبد إلا الله ولا يعتقد النفع والضر إلا في الله وأن يكفر بما يعبد من دون الله ويتبرأ منها ومن عابديها وما بعد هذا من الأبواب بيان لأنواع من العبادات والاعتقادات التي يجب إخلاصها لله تعالى وذلك هو معنى التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله والله أعلم باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما لرفع البلاء أو دفعه ش رفع البلاء إزالته بعد حصوله ودفعه منعه قبله ومن هنا ابتدأ
المصنف في تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله بذكر شيء مما يضاد ذلك من أنواع الشرك الأكبر والأصغر فإن الضد لا يعرف إلا بضده كما قيل وبضدها تتبين الأشياء فمن لا يعرف الشرك لم يعرف التوحيد وبالعكس فبدأ بالأصغر الاعتقادي انتقالا من الأدني إلى الأعلى فقال وقول الله تعالى أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن إرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره ش قال ابن كثير في تفسيرها أي لا تستطيع شيئا من الأمر قل حسبي الله أي الله كافي من توكل عليه وعليه يتوكل المتوكلون كما قال هود عليه السلام حين قال له قومه إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها قلت حاصله أن الله تعالى أمر نبيه ﷺ أن يقول للمشركين أرأيتم أي أخبروني عما تدعون من دون الله أي تعبدونهم وتسألونهم من الأنداد والأصنام والآلهة المسميات بأسماء الإناث الدالة أسماؤهن على بطلانهن وعجزهن لأن الأنوثة من باب اللين والرخاوة كاللات والعزى إن أرادني الله بضر أي بمرض أو فقر أو بلاء أو شدة هل هن كاشفات ضره أي لا يقدرون على ذلك أصلا أو أرادني برحمة أي صحة وعافية وخير وكشف بلاء هل هن ممسكات رحمته قال مقاتل فسألهم النبي ﷺ وسلم فسكتوا أي لأنهم لا يعتقدون ذلك فيها وإنما كانوا يدعونها على معنى أنها وسائط وشفعاء عند الله لا لأنهم يكشفون الضر ويجيبون دعاء المضطر فهم يعلمون أن ذلك لله
وحده كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقد دخل في ذلك كل من دعي من دون الله من الملائكة والأنبياء والصالحين فضلا عن غيرهم فلا يقدر أحد على كشف ضر ولا إمساك رحمة كما قال تعالى ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم وإذا كان كذلك بطلت عبادتهم من دون الله وإذا بطلت عبادتهم فبطلان دعوة الآلهة والأصنام أبطل وأبطل وليس الحلقة والخيط لرفع البلاء أو دفعه كذلك فهذا وجه استدال المصنف بالآية وان كانت الترجمة في الشرك الأصغر فان السلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما استدل حذيفة وابن عباس وغيرهما وكذلك من جعل رؤوس الحمر ونحوها في البيت والزرع لدفع العين كما يفعله أشباه المشركين فإنه يدخل في ذلك وقد يحتجون على ذلك بما رواه أبو داود في المراسيل عن علي بن الحسين مرفوعا احرثوا فان الحرث مبارك وأكثروا فيه من الجماجم وعنه أجوبة أحدها أنه حديث ساقط مرسل وأبو داود لم يشترط في مراسيله جمع المراسيل الصحيحة الاسناد وقد ضعفه السيوطي وغيره الثاني أنه اختلف في تفسير الجماجم فقيل هي البذر ذكره العزيزي في شرح الجامع وقيل الخشبة التي يكون في رأسها سكة الحرث قاله أبو السعادات ابن الأثير في النهاية وقيل هي جماجم رؤوس الحيوان ذكره العزيزي وغيره وعلى هذا فقيل أمر يجعلها لدفع الطير ذكره العزيزي وغيره وهذا هو الأقرب لو ثبت الحديث مع أنه باطل وقيل بل لدفع
العين وفيه حديث ساقط أنه أمر بالجماجم في الزرع من أجل العين وهو مع ذلك منقطع ذكره السيوطي وغيره وهذا المعني هو الذي تعلق به أشباه المشركين ولا ريب أنه معنى باطل لم يرده النبي صلىالله عليه وسلم لو كان الحديث صحيحا وكيف يريده وقد أمر بقطع الأوتار كما في الصحيح وقال من تعلق شيئا وكل اليه وقال من تعلق ودعة فلا ودع الله له وكانوا يجعلون ذلك من أجل العين كما سيأتي فهلا أرخص لهم فيه الثالث أن هذا مضاد لدين الإسلام الذي بعث الله به رسله فانه تعالى إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يشرك به شيء لا في العبادة ولا في الاعتقاد وهذا من جنس فعل الجاهلية الذين يعتقدون البركة والنفع والضر فيما لم يجعل الله فيه شيئا من ذلك ويعلقون التمائم والودع ونحوهما على أنفسهم لدفع الأمراض والعين فيما زعموا فان قيل الفاعل لذلك لم يعتقد النفع فيه استقلالا فإن ذلك لله وحده فهو النافع الضار وإنما اعتقد أن الله جعله سببا كغيره من الأسباب قيل هذا باطل أيضا فإن الله لم يجعل ذلك سببا أصلا وكيف يكون الشرك سببا لجلب الخير ولدفع الضر ولو قدر أن فيه بعض النفع فهو كالخمر والميسر فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمها أكبر من نفعهما فإن قيل كيف يكون شركا وقد روى أبو داود ذلك في مراسيله وغيره من العلماء يروون الحديث ولم ينكروه قيل أهل العلم يروون الأحاديث الضعيفة والموضوعة لبيان حالها وإسنادها لا للاعتماد عليها واعتقادها وكتب المحدثين مشحونة بذلك فبعضهم يذكر علة الحديث ويبين حاله وضعفه إن كان ضعيفا ووضعه ان كان موضوعا وبعضهم يكتفي بايراد الحديث باسناده ويرى أنه قد برىء من عهدته اذا أورده
باسناده لظهور حال رواته كما يفعل ذلك الحافظ أبو نعبم وأبو القاسم بن عساكر وغيرهما فليس في رواية من رواه وسكوته عند دليل علىأنه عنده صحيح أو حسن أو ضعيف بل قد يكون موضوعا عنده فلا يدل سكوته عنه على جواز العمل به عنده وسيأتي في الكلام على حديث قطع الأوتار ما يدل على النهي عن هذا من كلام العلماء قال عن عمران بن حصين أن النبي ﷺ رأى رجلا في يده حلقة من صفر فقال ما هذه قال من الواهنة فقال انزعها فإنها لا تزيدك الا وهنا فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا رواه أحمد بسند لا بأس به ش هذا الحديث ذكره المصنف بمعناه أما لفظه فقال الامام أحمد حدثنا خلف بن الوليد ثنا المبارك عن الحسن قال أخبرني عمران بن حصين أن النبي ﷺ أبصر على عضد رجل حلقة قال أراه قال من صفر فقال ويحك ما هذه قال من الواهنة قال أما إنها لا تزيدك إلا وهنا انبذها عنك فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا ورواه ابن ماجه دون قوله انبذها الى آخره وابن حبان في صحيحه وقال فانك إن مت وكلت اليها والحاكم وقال صحيح الاسناد واقره الذهبي قال المنذري رووه كلهم عن مبارك بن فضالة عن الحسن عن عمران ورواه ابن حبان أيضا بنحوه عن أبي عامر الخزاز عن الحسن وهذه متابعة جيدة إلا أن الحسن اختلف في سماعه من عمران قال ابن المدني وغيره لم يسمع منه وقال الحاكم وأكثر مشايخنا على أنه سمع منه قلت رواية الإمام أحمد ظاهرة في سماعه منه فهو الصواب قوله عن عمران بن حصين أي ابن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد
بنون وجيم مصغر صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر ومات سنة اثنتين وخمسين بالبصرة قوله رأى رجلا في رواية الحاكم دخلت على رسول الله ﷺ وفي عضدي حلقة صفر فقال ما هذه قلت من الواهنة فقال انبذها فالمبهم في رواية أحمد ومن وافقه هو عمران راوي الحديث قوله فقال ما هذا يحتمل أن الاستفهام للاستفصال هل لبسها تحليا أم لا ويحتمل أن يكون للانكار فظن اللابس أنه استفصل قوله من الواهنة قال أبو السعادات الواهنة عرق يأخذ في المنكب وفي اليد كلها فيرقى منها وقيل هو مرض يأخذ في العضد وربما علق عليها جنس من الخرز يقال له خرز الواهنة وهي تأخذ الرجال دون النساء قال وإنما نهاه عنها لأنه اتخذها على معنى أنها تعصمه من الألم فكان عنده في معنى التمائم المنهي عنه قلت وفيه استفصال المفتي واعتبار المقاصد قوله انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا لفظ الحديث انبذها وهو أبلغ أي اطرحها والنزع هو الجذب بقوة والنبذ يتضمن ذلك وزيادة وهو الطرح والابعاد أمره بطرحها عنه وأخبر أنها لا تنفعه بل تضره فلا تزيده إلا وهنا أي ضعفا وكذلك كل أمر نهى عنه فإنه لا ينفع غالبا اصلا وإن نفع بعضه فضره أكبر من نفعه وفيه النهي عن تعليق الحلق والخرز ونحوهما على المريض أو غيره والتنبيه على النهي عن التداوي بالحرام وروى أبو داود بإسناد حسن والبيهقي عن أبي الدرداء مرفوعا في حديث تداووا ولا تداووا بحرام فإن قيل كيف قال ﷺ لا تزيدك إلا وهنا وهي ليس لها تأثير وقيل هذا والله أعلم يكون عقوبة له على شركه لأنه وضعها لدفع الواهنة فعوقب بنقيض مقصوده
قوله فإنك لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا أي لأنه مشرك والحالة هذه والفلاح هو الفوز والظفر والسعادة قال المصنف فيه شاهد لكلام الصحابة أن الشرك الأصغر أكبر الكبائر وأنه لم يعذر بالجهالة والإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك قلت وفيه أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح أبدا ففيه رد على المغرورين الذين يفتخرون بكونهم من ذرية الصالحين أو من اصحابهم ويظنون أنهم يشفون لهم عند الله وإن فعلوا المعاصي وفيه أن رتب الإنكار متفاوتة فإذا كفى الكلام في إزالة المنكر لم يحتج إلى ضرب ونحوه وفيه أن المسلم إذا فعل ذنبا وأنكر عليه فتاب منه فإن ذلك لا ينقصه وأنه ليس من شرط أولياء الله عدم الذنوب قوله رواه أحمد بسند لا بأس به هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي إمام أهل عصره وأعلمهم بالفقه والحديث وأشدهم ورعا ومتابعة للسنة روى عن الشافعي ويزيد بن هرون وابن مهدي ويحيى القطان وأبن عيينة وعفان وخلف وروى عنه ابناه عبدالله وصالح والبخاري ومسلم وأبو داود وأبو بكر الأثرم والمروزي وخلق لا يحصون مات سنة إحدى وأربعين ومائتين وله سبع وسبعون سنة قال وله عن عقبة بن عامر مرفوعا من تعلق تميمة فلا أثم الله له ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له وفي رواية من تعلق تميمة فقد أشرك ش الحديث الأول رواه أحمد كما قال المصنف ورواه أيضا أبو يعلى والحاكم وقال صحيح الإسناد وأقره الذهبي وقوله وفي رواية هذا يوهم أن هذا في بعض الأحاديث المذكورة وليس
كذلك بل المراد أنه في حديث آخر رواه أحمد أيضا فقال حدثنا عبدالصمد ابن عبدالوارث ثنا عبدالعزيز ابن مسلم ثنا يزيد بن أبي منصور عن دحين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني أن رسول الله ﷺ أقبل إليه رهط فبايع تسعة وأمسك عن واحد فقالوا يا رسول الله بايعت تسعة وأمسكت عن هذا قال إن عليه تميمة فأدخل يده فقطعها فبايعه وقال من علق تميمة فقد أشرك ورواه الحاكم بنحوه ورواته ثقات وقوله في هذا الحديث فأدخل يديه فقطعها أي الرجل بينه الحاكم في روايته قوله عن عقبة بن عامر هو الجهني صحابي مشهور وكان فقيها فاضلا ولي إمارة مصر لمعاوية ثلاث سنين ومات قريبا من الستين قوله من تعلق تميمة أي متمسكا بها عليه وعلى غيره من طفل أو دابة ونحو ذلك قال المنذري يقال انها خرزة كانوا يعلقونها يرون أنها تدفع عنهم الآفات واعتقاد هذا الرأي جهل وضلالة إذ لا مانع ولا دافع غير الله تعالى وقال أبو السعادات التمائم جمع تميمة وهي خرزات كانت العرب تعلقها على أولادهم يتقون بها العين في زعمهم فأبطله الإسلام قال كأنهم كانوا يعتقدون أنها تمائم الدواء والشفاء قوله فلا أتم الله له دعاء عليه بأن الله لا يتم له أموره قوله ومن تعلق ودعة بفتح الواو وسكون المهملة قال في مسند الفردوس شيء يخرج من البحر يشبه الصدف يتقون به العين قوله فلا ودع الله له بتخفيف الدال أي لا جعله في دعة وسكون وقيل هو لفظ بني من الودعة أي لا خفف الله عنه ما يخافه قال أبو السعادات وهذا دعاء عليه فيه وعيد شديد لمن فعل ذلك فإنه مع كونه شركا فقد دعا عليه رسول الله ﷺ بنقيض مقصوده
قوله من تعلق تميمة فقد أشرك قال ابن عبد البر إذا اعتقد الذي علقها أنها ترد العين فقد ظن أنها ترد القدر واعتقاد ذلك شرك وقال أبو السعادات إنما جعلها شركا لأنهم أرادوا دفع المقادير المكتوبة عليهم وطلبوا دفع الأذى من غير الله الذي هو دافعه قال ولابن أبي حاتم عن حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن الحسين بن إبرايهم بن اشكاب ثنا يونس بن محمد ثنا حماد بن مسلمة عن عاصم الأحول عن عزرة قال دخل حذيفة على مريض فرأى في عضده سيرا فقطعه أو انتزعه ثم قال وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون وابن أبي حاتم هو الإمام أبو محمد عبدالرحمن ابن أبي حاتم محمد بن إدريس الرازي التميمي الحنظلي الحافظ ابن الحافظ صاحب الجرح والتعديل والتفسير وغيرهما مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة وحذيفة هو ابن اليمان واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغرا ويقال حسل بكسر ثم سكون العبسي بالموحدة حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين ويقال صاحب السر وأبوه أيضا صحابي مات حذيفة في أول خلافة علي سنة ست وثلاثين قوله رأى رجلا في يده خيط من الحمى أي من أجل الحمى لدفعها وكان الجهال يعلقون لذلك التمائم والخيوط ونحوها وروى وكيع عن حذيفة أنه دخل على مريض يعوده فلمس عضده فإذا فيه خيط فقال ما هذا
فقال شيء رقي لي فيه فقطعه فقال لو مت وهو عليك ما صليت عليك قوله فقطعه فيه إنكار هذا وإن كان يعتقد أنه سبب فإن الأسباب لا يجوز منها إلا ما أباحه الله ورسوله ﷺ مع عدم الاعتماد عليه فكيف بما هو شرك كالتمائم والخيوط والخرز والطلاسم ونحو ذلك مما يعلقه الجهال وفيه إزالة المنكر باليد بغير إذن الفاعل وإن كان يظن أن الفاعل يزيله وان إتلاف آلات المنكر واللهو جائزة وإن لم يأذن صاحبها قوله وتلا قوله وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون استدل حذيفه بهذه الآية على أن تعليق الخيط ونحوه لما ذكر شرك أي أصغر كما تقدم في الحديث ففيه صحة الاستدلال بما نزل في الاكبر على الأصغر ومعنى الآية أن الله أخبر عن المشركين أنهم يجمعون بين الإيمان بالله أي بوجوده وأنه الخالق الرازق المحيي المميت ثم مع ذلك يشركون في عبادته فسرها بذلك ابن عباس وعطاء ومجاهد والضحاك وابن زيد وغيرهم باب ما جاء في الرقى والتمائم ش أي في حكمها ولما كانت الرقى على ثلاثة أقسام قسم يجوز وقسم لا يجوز وقسم في جوازه خلاف لم يجزم المصنف بكونهما من الشرك لأن في ذلك تفصيلا بخلاف لبس الحلقة والخيط ونحوهما لما ذكر فان ذلك شرك مطلقا قال في الصحيح عن أبي بشير الانصاري أنه كان مع النبي ﷺ في بعض أسفاره فأرسل رسولا أن لا يبقين في رقبة بغير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت
ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله عن أبي بشير بفتح أوله وكسر المعجمة الانصاري قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد وقال ابن عبد البر لا يوقف له على اسم صحيح وهو صحابي شهد الخندق ومات بعد الستين يقال جاوز المائة قوله في بعض أسفاره قال الحافظ لم أقف على تعيينها قوله فأرسل رسولا هو زيد بن حارثة وروى ذلك الحارث ابن أبي اسامة في مسنده قاله الحافظ قوله أن لا يبقين هو بالمثناة والقاف المفتوحتين وفي رواية لا تبقين بحذف أن والمثناه الفوقية والقاف المفتوحتين أيضا وقلادة مرفوع على أنه فاعل والوتر بفتحتين واحد أوتار القوس قوله أو قلادة إلا قطعت هو برفع قلادة أيضا عطف على الأول ومعناه أن الراوي شك هل قال شيخه قلادة من وتر فقيد القلادة بأنها من وتر وقال قلادة وأطلق ولم يقيد ويؤيده ما روي عن مالك أنه سئل عن القلادة فقال ما سمعت بكراهتها إلا في الوتر وفي رواية أبي دواد ولا قلادة بغير شك والأولى أصح لاتفاق الشيخين عليها وللرخصة في القلائد إلا الأوتار وكما روى أبو داود والنسائي من حديث أبي وهب الجيشاني مرفوعا اربطوا الخيل وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار ولأحمد عن جابر مرفوعا مثله وإسناده جيد قال البغوي في شرح السنن تأول مالك أمره عليه السلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون بتلك الأوتار والتمائم والقلائد ويعلقون عليها العوذ يظنون أنها تعصم من الآفات فنهاهم النبي ﷺ عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئا وقال أبو عبيد القاسم بن
سلام كانوا يقلدون الإبل الأوتار لئلا تصيبها العين فأمرهم النبي ﷺ بإزالتها إعلاما لهم بإن الأوتار لا ترد شيئا وكذلك قال ابن الجوزي وغيره قال الحافظ ويؤيده حديث عقبة بن عامر رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه ابو داود وهي ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك انتهى فعلى هذا يكون تقليد الإبل وغيرها الأوتار وما في معناها لهذا المعنى حراما بل شركا لانه من تعليق التمائم المحرمة ومن تعلق تميمة فقد أشرك ولم يصب من قال إنه مكروه كراهة تنزيه قال وعن ابن مسعود سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود ش الحديث رواه أحمد وأبو داود كما قال المصنف وفيه قصة كأن المصنف اختصرها ولفظ أبي داود عن زينب امرأة عبدالله بن مسعود أن عبدالله بن مسعود رأى في عنقي خيطا فقال ما هذا قلت خيط رقي لي فيه قالت فأخذه فقطعه ثم قال أنتم آل عبدالله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله ﷺ يقول إن الرقى والتمائم والتولة شرك فقلت لم تقول هكذا لقد كانت عيني تقذف وكنت أختلف إلى فلان اليهودي فإذا رقاها سكنت فقال عبدالله إنما ذلك عمل الشيطان ينخسها بيده فإذا رقى كف عنها إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله ﷺ يقول أذهب البأس رب الناس واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك سفاء لا يغادر سقما ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال صحيح وأقره الذهبي قوله إن الرقى قال المصنف الرقى هي التي تسمى العزائم وخص منه الدليل ما خلا من الشرك فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين
والحمة يشير الى أن الرقى الموصوفة بكونها شركا هي الرقى التي منها شرك من دعاء غير الله والاستغاثة والاستعاذة به كالرقى باسماء الملائكة والانبياء والجن ونحو ذلك أما الرقى بالقرآن وأسماء الله وصفاته ودعائه والاستعاذة به وحده لا شريك له فليست شركا بل ولا ممنوعة بل مستحبة أو جائزة قوله فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة تقدم ذلك في باب من حقق التوحيد وكذلك رخص فيه من غيرها كما في صحيح مسلم عن عوف بن مالك قال كنا نرقي في الجاهلية فقلنا يا رسول الله كيف ترى في ذلك فقال اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيه شرك وفيه عن أنس قال رخص رسول الله ﷺ في الرقية من العين والحمة والنملة وعن عمران بن حصين مرفوعا لا رقية الا من عين أو حمة او دم رواه أبو داود في باب أحاديث كثيرة قال الخطابي وكان عليه السلام قد رقى ورقي وأمر بها وأجازها فاذا كانت بالقرآن أو باسماء الله تعالى فهي مباحة أو مأمور بها وإنما جاءت الكراهية والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك قال ويحتمل أن يكون الذي يكره من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التي يتعاطونها وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون ذلك من قبل الجن ومعونتهم قلت ويدل على ذلك قول علي بن أبي طالب إن كثيرا من هذه الرقى والتمائم شرك فاجتنبوه رواه وكيع فهذا يبين معنى حديث ابن مسعود ونحوه وقال ابن التين الرقى بالمعوذات وغيرها من أسماء الله تعالى هو الطب الرباني فاذا كان على لسان الابرار من الخلق حصل الشفاء باذن الله تعالى فلما
عفي عن هذا النوع فزع الناس الى الطب الجسماني وتلك القرى المنهي عنها التي يستعملها المعزم وغيره ممن يدعي تسخير الجن له فيأتي بأمور مستبهة مركبة من حق وباطل يجمع الى ذكرالله تعالى وأسمائه ما يشوبه من ذكر الشياطين والاستعانة بهم والتعوذ بمردتهم ويقال إن الحية لعداوتها الانسان بالطبع تصادق الشياطين لكونهم أعداء بني آدم فاذا عزم على الحية بأسماء الشياطين جابت وخرجت من مكانها وكذا اللديغ إذا رقي بتلك الاسماء سالت سمومها من بدن الانسان ولذلك كره الرقى ما لم تكن بآيات الله وأسمائه خاصة وباللسان العربي الذي يعرف معناه ليكون بريئا من سوب الشرك وعلى كراهية الرقى بغير كتاب الله علماء الأمة قال شيخ الإسلام كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلا عن أن يدعو به ولو عرف معناه لأنه يكره الدعاء بغير العربية وإنما يرخص لمن لا يعرف العربية فأما جعل الألفاظ العجمية شعارا فليس من الإسلام قلت وسئل ابن عبدالسلام عن الحروف المقطعة فمنع منها مالا يعرف لئلا يكون فيه كفر وقال السيوطي قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن يكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته وباللسان العربي وبما يعرف معناه وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى فتلخص أن الرقية ثلاثة أقسام قوله والتمائم تقدم كلام المنذري وابن الأثير في معناه في الباب قبله وظاهر تخصيص التمائم بما ذكراه وقال المصنف التمائم شيء يعلق على الأولاد من العين وقال الخلخالي التمائم جمع تميمة وهي ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين وهذا منهي عنه لأنه لا دافع إلا الله ولا يطلب دفع المؤذيات إلا بالله وأسمائه وصفاته وظاهره أن ما علق لدفع العين وغيرها فهو
تميمة من أي شيء كان وهذا هو الصحيح وقد يقال إن كلام المنذري وابن الأثير وغيرهما لا يخالفه قال المصنف لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهي عنه منهم ابن مسعود اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا في جواز تعليق التمائم التي من القرآن وأسماء الله وصفاته فقالت طائفة يجوز ذلك وهو قول عبدالله بن عمرو بن العاص وغيره وهو ظاهر ما روي عن عائشة وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد في رواية وحملوا الحديث على التمائم الشركية أما التي فيها القرآن وأسماء الله وصفاته فكالرقية بذلك قلت وهو ظاهر اختيار ابن القيم وقالت طائفة لا يجوز ذلك وبه قال ابن مسعود وابن عباس وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم رضي الله عنه وبه قال جماعة من التابعين منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد في روايه اختارها كثير من أصحابه وجزم بها المتأخرون واحتجوا بهذا الحديث وما في معناه فإن ظاهره العموم لم يفرق بين التي في القرآن وغيرها بخلاف الرقى فقد فرق فيها ويؤيد ذلك أن الصحابة الذين رووا الحديث فهموا العموم كما تقدم عن ابن مسعود وروى أبو داود عن عيسى بن حمزة قال دخلت على عبدالله بن عكيم وبه حمرة فقلت ألا تعلق تميمة فقال نعوذ بالله من ذلك قال رسول الله ﷺ من تعلق شيئا وكل إليه وروى وكيع عن ابن عباس قال اتفل بالمعوذتين ولا تعلق وأما القياس على الرقية بذلك فقد يقال بالفرق فكيف يقاس التعليق الذي لا بد فيه من ورق أو جلود ونحوهما على مالا يوجد ذلك فيه فهذا الى الرقى المركبة من حق باطل أقرب هذا اختلاف العلماء في تعليق القرآن وأسماء الله وصفاته فما ظنك بما حدث بعدهم من الرقى
بأسماء الشياطين وغيرهم وتعليقها بل والتعلق عليهم والاستعاذة بهم والذبح لهم وسؤالهم كشف الضر وجلب الخير مما هو شرك مخض وهو غالب على كثير من الناس إلا من سلم الله فتأمل ما ذكره النبي ﷺ وما كان عليه أصحابه والتابعون وما ذكره العلماء بعدهم في هذا الباب وغيره من أبواب الكتاب ثم انظر الى ما حدث في الخلوف المتأخرة يتبين لك دين الرسول ﷺ وغربته الآن في كل شيء فالله المستعان قوله والتولة شرك قال المصنف هو شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة الى زوجها والزوج الى امرأته وكذا قال غيره أيضا وبهذا فسره ابن مسعود راوي الحديث كما في صحيح ابن حبان والحاكم قالوا يا ابا عبدالرحمن هذه الرقى والتمائم قد عرفناهما فما التولة قال شيء يضعه النساء يتحببن الى ازواجهن قال الحافظ التولة بكسر المثناه وفتح الواو واللام مخففا شيء كانت المرأة تجلب به محبة زوجها وهو ضرب من السحر وإنما كان ذلك من الشرك لأنهم أرادوا دفع المضار وجلب المنافع من عند غير الله قال وعن عبدالله بن عكيم مرفوعا من تعلق شيئا وكل اليه رواه احمد والترمذي ش ورواه أيضا أبو داود والحاكم قوله عن عبدالله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرا ويكنى ابا معبد الجهني الكوفي قال البخاري أدرك زمن النبي ﷺ ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم قال معناه أبو زرعة وابن حبان وابن منده وأبو نعيم وقال البغوي يشك في سماعه وقال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقه وذكر ابن سعد عن غيره أنه
مات في ولاية الحجاج وظاهر كلام هؤلاء الأئمة أن الحديث مرسل قوله من تعلق شيئا وكل اليه التعلق يكون بالقلب ويكون بالفعل ويكون بهما جميعا أي من تعلق شيئا بقلبه أو تعلقه بقلبه وفعله وكل اليه أي وكله الله إلى ذلك الشيء الذي تعلقه فمن تعلقت نفسه بالله وأنزل حوائجه بالله والتجأ إليه وفوض أمره كله اليه كفاه كل مؤنة وقرب اليه كل بعيد ويسر له كل عسير ومن تعلق بغيره أو سكن إلى علمه وعقله ودوائه وتمائمه واعتمد على حوله وقوته وكله الله إلى ذلك وخذله وهذا معروف بالنصوص والتجارب قال الله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه وقال الامام أحمد حدثنا هشام بن القاسم ثنا أبو سعيد المؤدب ثنا من سمع عطاء الخراساني قال لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت له حدثني حديثا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز قال نعم أوحى الله تبارك وتعالى إلى داود يا داود أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبيدي دون خلقي أعرف ذلك من نيته فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له من بينهن مخرجا أما وعزتي وعظمتي لا يعتصم عبد من عبيدي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته الا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالي بأي واد هلك قال وروى الامام أحمد عن رويفع قال قال لي رسول الله ﷺ يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فان محمدا بريء منه ش الحديث رواه الامام أحمد عن يحيى بن اسحق والحسن بن موسى
الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة وفيه قصة فاختصرها المصنف وهذا لفظ الحسن قال حدثنا ابن لهيعة ثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال ثنا رويفع بن ثابت قال كان أحدنا في زمان رسول الله ﷺ يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما يغنم وله النصف حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش والآخر القدح ثم قال قال لي رسول الله ﷺ يا رويفع لعل الحياة تطول بك فأخبر الناس أنه من عقد لحيته أو تقلد وترا أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه ثم رواه أحمد عن يحيى بن غيلان ثنا المفضل حدثني عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شيبان القتباني يقول استخلف مسلمة بن مخلد رويفع بن ثابت الأنصاري على أسفل الأرض قال فسرنا معه فقال قال لي رسول الله ﷺ الحديث وفي الإسناد الأول ابن لهيعة وفيه مقال وفي الثاني شيبان القتباني قيل فيه مجهول وبقية رجالهما ثقات ورواه أبو داود من طريق المفضل به مطولا وسكت عليه ثم قال حدثنا يزيد بن خالد أنا مفضل عن عياش أن شييم بن بيتان أخبره أيضا بهذا الحديث عن أبي سالم الجيشاني عن عبدالله ابن عمرو يذكر ذلك وهو معه مرابط بحصن باب البون قال أبو داود حصن البون بالفسطاط على جبل قلت وهذا اسناد جيد رواه النسائي من رواية شييم عن رويفع وصرح بسماعه منه ولم يذكر شيبان فان كان ذكر شيبان وهما فالاسناد صحيح وحسنه النووي وصححه بعضهم قال الحافظ أبو زرعة في شرح أبي داود ورواه الطحاوي مختصرا فذكر منه الاستنجاء برجيع دابة أو عظم فقط رواه محمد بن الربيع الجيزي في كتاب من دخل مصر من الصحابة مطولا وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة
قوله فأخبر الناس دليل على وجوب إخبار الناس بذلك على رويفع وليس هذا مختصا به بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج اليه الناس وجب عليه تبليغه للناس وإعلامهم به فان اشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية هذا كلام أبي زرعة قوله لعل الحياة تطول بك علم من إعلام النبوة لأنه وقع كما أخبر به ﷺ فإن رويفعا طالت حياته إلى سنة ست وخمسين فمات فيها ببرقة من أعمال مصر أميرا عليها وهو من الأنصار وقيل مات سنة ثلاث وخمسين قاله ابن يونس قوله أن من عقد لحيته بكسر اللام لا غير قاله في المشارق والجمع لحى بالكسر والضم قال الجوهري قال الخطابي وأما نهيه عن عقد اللحية فإن ذلك يفسر على وجهين أحدهما ما كانوا يفعلونه من ذلك في الحروب كانوا في الجاهلية يعقدون لحاهم وذلك من زي بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها قلت كأنهم كانوا يفعلونه تكبرا وعجبا كما ذكره أبو السعادات قال ثانيهما أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد وذلك من فعل أهل التوضيع والتأنيث وقال أبو زرعة ابن العراقي والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع المتقدم ذكرها فهو موافق للحديث الصحيح في النهي عن كف الشعر والثوب فإن عقد اللحية فيه كفها وزيادة قوله أو تقلد وترا أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته ونحو ذلك وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وترا يريد تميمة فهذا يدل على أنهم كانوا يتقلدون الأوتار من أجل العين إذ فسره بالتميمة وهي تجعل لذلك
قوله أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدا بريء منه قال النووي أي بريء من فعله وقال بهذه الصيغة ليكون أبلغ في الزجر قلت فيه النهي عن الاستنجاء برجيع الدواب والعظام وقد ورد في ذلك أحاديث منها ما في صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنه زاد إخوانكم من الجن وعلى هذا فلا يجزىء الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد واختار شيخ الإسلام وجماعة الإجزاء وان كان محرما قالوا لأنه لم ينه عنه لكونهما لا ينقيان بل لافسادهما قلت الأول أولى لما رواه ابن خزيمة والدارقطني من طريق الحسن ابن الفرات عن أبيه عن ابي حازم الأشجعي عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نهى أن يستنجى بعظم أو روث وقال إنما لا يطهران وهذا إسناد جيد قال وعن سعيد بن جبير قال من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة رواه وكيع ش هذا عند أهل العلم له حكم الرفع لأن مثل ذلك لا يقال بالراي فيكون على هذا مرسل لأن سعيدا تابعي وفيه فضل قطع التمائم لأنها من الشرك ووكيع هو ابن الجراح بن وكيع الكوفي ثقة إمام صاحب تصانيف منها الجامع وغيره روى عنه الإمام أحمد وطبقته مات سنة سبع وتسعين ومائة قال وله عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن
ابراهيم هو إبراهيم بن يزيد النخعي الكوفي يكنى أبا عمران ثقة إمام من كبار فقهاء الكوفة قال المزني دخل على عائشة ولم يثبت له سماع منها مات سنة ست وتسعين وله خمسون سنة ونحوها قوله كانوا يكرهون التمائم إلى آخره مراده بذلك أصحاب عبدالله بن مسعود كعلقمة والاسود وابي وائل والحارث بن سويد وعبيدة السلماني ومسروق والربيع بن خيثم وسويد بن غفلة وغيرهم من أصحاب ابن مسعود وهم من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم في حكاية قوالهم كما بين ذلك الحفاظ كالعراقي وغيره باب من تبرك بشجرة او حجر ونحوهما ش كبقعة وغار وعين وقبر ونحو ذلك مما يعتقد كثير من عباد القبور وأشباههم فيه البركة فيقصدونه رجاء البركة ويعني بقوله تبرك أي طلب البركة ورجاها واعتقدها أي ما حكمه هل هو شرك أم لا قال وقول الله تعالى أفرأيتم اللات والعزى الآيات ش هكذا ثبت في خط المصنف الآيات يعني إلى قوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى قال القرطبي لما ذكر الوحي الى النبي ﷺ وذكر من آثار قدرته ما ذكر حاج المشركين إذ عبدوا ما لا يعقل وقيل أفرأيتم هذه الآلهة التي تعبدونها أو حين اليكم شيئا كما أوحي إلى محمد ﷺ وكانت اللات لثقيف والعزى لقريش وبني كنانة ومناة لبني هلال وقال ابن هشام كانت مناة لهذيل وخزاعة
ذكر صفة هذه الأوثان ليعرف المؤمن كيفية الأوثان وكيفية عبادتها وما هو شرك العرب الذين كانوا يفعلونه حتى يفرق بين التوحيد والاخلاص وبين الشرك والكفر فأما اللات فقرأ الجمهور بتخفيف التاء وقرأ ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وحميد وأبو صالح ورويس عن يعقوب اللات بتشديد التاء فعلى الأولى قال الأعمش سمو اللات من الآله والعزى من العزيز قال ابن جرير وكانوا قد اشتقوا اسمها من الله تعالى فقالوا اللات مؤنثة منه تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا قال وكذا العزى من العزيز قال ابن كثير وكانت صخرة بيضاء منقوشة عليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء معظم عند أهل الطائف وهم ثقيف ومن تابعها يفتخرون به على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش قال ابن هشام وكانت في موضع مسجد الطائف اليسرى فلم يزل كذلك إلى أن أسلمت ثقيف فبعث رسول الله ﷺ المغيرة بن شعبة فهدمها وحرقها بالنار وعلى الثانية قال ابن عباس كان رجلا يلت السويق للحاج فلما مات عكفوا على قبره ذكره البخاري وقال ابن عباس كان يبيع السويق والسمن عند صخرة ويلته عليها فلما مات ذلك الرجل عبدت ثقيف تلك الصخرة إعظاما لصاحب السويق وعن مجاهد نحوه وقال فلما مات عبدوه رواه سعيد بن منصور والفاكهي وكذا روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم عبدوه وقال ابن جريج كان رجل من ثقيف يلت السويق بالزيت فلما توفي جعلوا إلى قبره وثنا وبنحو ذلك قال جماعة من أهل العلم ولا تخالف بين القولين فإن من قال إنها صخرة لم ينف أن تكون صخرة على القبر أو حواليه
فعظمت وعبدت تبعا لا قصدا فالعبادة إنما أرادوا بها صاحب القبر فهو الذي عبدوه بالأصالة يدل على ذلك ما روى الفاكهي عن ابن عباس أن اللات لما مات قال لهم عمرو بن لحي إنه لم يمت ولكنه دخل الصخرة فعبدوها وبنوا عليها بيتا فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووزان بينه وبين بناء القباب على القبور والعكوف عندها ودعائها وجعلها ملاذا عند الشدائد وأما العزى فقال ابن جرير كانت شجرة عليها بناء وأستار بنخلة بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد لنا العزى ولا عزى لكم فقال رسول الله ﷺ قولوا الله مولانا ولا مولى لكم وروى النسائي وابن مردويه عن أبي الطفيل قال لما فتح رسول الله ﷺ مكة بعث خالد بن الوليد إلى نخلة وكانت بها العزى فأتاها خالد وكانت على ثلاث سمرات فقطع السمرات وهدم البيت الذي كان عليها ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فقال ارجع فإنك لم تصنع شيئا فرجع خالد فلما أبصرته السدنة وهم حجبتها امتنعوا في الجبل وهم يقولون يا عزى يا عزى فأتاها خالد فإذا امرأة عريانة ناشرة شعرها تحفن التراب على رأسها فعلاها بالسيف حتى قتلها ثم رجع إلى رسول الله ﷺ فأخبره فقال تلك العزى قال ابن هشام وكانوا يسمعون منها الصوت وقال أبو صالح العزى نخلة كانوا يعلقون عليها السيور والعهن رواه عبد بن حميد وابن جرير فتأمل فعل المشركين مع هذا الوثن ووازن بينه وبين ما يفعله عباد القبور من دعائها والذبح عندها وتعليق الخيوط وإلقاء الخرق في ضرائح الأموات ونحو ذلك فالله المستعان وأما مناة فكانت بالمشلل عند قديد بين مكة والمدينة وكانت خزاعة والأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة وأصل
اشتقاقها من اسم الله المنان وقيل من منى الله الشيء إذا قدره وقيل سميت مناة لكثرة ما يمنى أي يراق عندها من الدماء للتبرك بها قال ابن هشام فبعث رسول الله ﷺ عليا فهدمها عام الفتح قال ابن اسحق في السيرة وقد كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت وهي بيوت تعظمها كتعظيم الكعبة لها سدنة وحجاب وتهدي لها كما يهدى للكعبة وتطوف بها وتنحر عندها وهي تعرف فضل الكعبة عليها لانها كانت قد عرفت أنها بيت إبراهيم عليه السلام ومسجده قلت هذا الذي ذكره ابن اسحق من شرك العرب هو بعينه الذي يفعله عباد القبور بل زادوا على الاولين إذا تبين هذا فمعنى الآية كما قال القرطبي إن فيها حذفا تقديره أفرأيتم هذه الآلهة هل نفعت أو ضرت حتى تكون شركاء لله وقال غيره ومناة الثالثة الأخرى ذم وهي المتأخرة الوضيعة المقدار كقوله وقالت أولاهم لأخراهم أي وضعاؤهم لرؤسائهم وقوله ألكم الذكر وله الأنثى قال ابن كثير أي أتجعلون له ولدا وتجعلون ولده أنثى وتختارون لكم الذكور وقال غيره يجوز أن يراد اللات والعزى ومناة إناث وقد جعلتموهن لله شركاء ومن شأنكم أن تحتقروا أناث وتستنكفوا من أن يولدن لكم أو ينسبن إليكم فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا لله وتسمونهن آلهة قلت ما أقرب هذا القول إلى سياق الآية وقوله تلك إذا قسمة ضيزى أي جور وباطلة فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة التي لو كانت بين مخلوقين كانت جورا وسفها
فتنزهون أنفسكم عن الاناث وتجعلونهن لله تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا وقوله إن هي اسماء سميتموها أنتم وآباؤكم قال ابن كثير ثم قال منكرا عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من الكذب والافتراء والكفر من عبادة الاصنام وتسميتها آلهة إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم أي من تلقاء أنفسكم ما أنزل الله بها من سلطان أي من حجة إن يتبعون إلا الظن أي ليس لهم مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم وإلاحظ أنفسهم في رياستهم وتعظيم آبائهم الأقدمين وقوله ولقد جاءهم من ربهم الهدى ش قال ابن كثير ولقد أرسل الله إليهم الرسل بالحق المنير والحجة القاطعة ومع هذا ما تبعوا ما جاؤوهم به ولا انقادوا له قلت في هذه الآيات من الدلائل القطعية على بطلان عبادة هذه الطواغيت وأشباهها مالا مزيد عليه فسبحان من جعل كلامه شفاء وهذى ورحمة وبشرى للمسلمين منها أنها أسماء مؤنثة دالة على اللين والرخاوة وما كان كذلك فليس بإله ومنها أنكم قاسمتم الله بزعمكم فجعلتم له هذه الاسماء المؤنثة شركاء ودعوتم له الاولاد ثم جعلتموهم بنات واختصصتم بالذكور فجعلتم له المكروه الناقص ولكم المحبوب الكامل للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم ومنها أنها أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم وابتدعتموها ومنها ما أنزل الله بها من سلطان أي حجة وبرهان ومنها
أنكم لم تستندوا في تسميتها إلى علم ويقين وإنما استندتم في ذلك إلى الظن والهوى الذين هما اصلا الهلاك دنيا وأخرى ومنها ولقد جاءهم من ربهم الهدى أي بإبطال عبادتها وما كان كذلك فهو عين المحال البين البطلان وكل واحد من هذه الأدلة كاف شاف في بطلان عبادتها فان قلت فأين دليل الترجمة من الآيات قيل هو بين بحمد الله لأنه إن كان التبرك بالشجر والقبور والأحجار من الأكبر فواضح وإن كان من الأصغر فالسلف يستدلون بما نزل في الأكبر على الأصغر قال وعن أبي واقد الليثي قال خرجنا مع رسول الله ﷺ الى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله ﷺ الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنوا إسرائيل لموسى اجعل لنا آلها كما لهم آلهة قال أنكم قوم تجهلون لتركبن سنن من كان قبلكم رواه الترمذي وصححه ش الحديث روله الترمذي كما قال المصنف ولفظه حدثنا سعيد ابن عبد الرحمن المخزومى حدثنا سفيان عن الزهرى عن سنان بن ابي سنان عن أبي واقد الليثى أن رسول الله لما خرج إلى الحنين مر بشجرة للمشركين يقال لها ذات أنواط يعقلون عليها أسلحتهم قالوا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال النبي سبحان الله هذا كما قال قوم موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده لتركبن سنة من كان قبلكم هذا حديث حسن صحيح وأبو واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف وفي الباب عن أبي سعيد وابى هريرة هذا لفظ الترمذي بحروفه
وفيه مخالفة لما في الكتاب لفظا ومعنى وقد اتفق اللفظان على المقصود هنا وقد رواه أحمد وأبو داود وأبو يعلى وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني بنحوه وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه والطبراني من طريق كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن ابيه عن جده نحوه أيضا قوله عن أبي واقد الليثي اسمه الحارث بن عوف كما قال الترمذي وقيل الحارث بن مالك صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين وله خمس وثمانون سنة قوله خرجنا مع رسول الله ﷺ إلى حنين في حديث عمرو بن عوف قال غزونا مع رسول الله ﷺ يوم الفتح ونحن ألف ونيف حتى إذا كنا بين حنين والطائف ولا مخالفة بينهما في المعنى فإن غزوة الفتح وحنين كانتا في سفر واحد قوله ونحن حدثاء عهد بكفر أي قريبوا عهد بكفر ففيه دليل أن غيرهم لا يجهل هذا وان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يأمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادات الباطلة ذكره المصنف قوله يعكفون عندها الاعتكاف هو الإقامة على الشيء بالمكان ولزومها ومنه قوله ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون وكانوا يعكفون عند هذه السدرة تبركا بها وفي حديث عمرو بن عوف قال كان يناط بها السلاح فسميت ذات أنواط وكانت تعبد من دون الله فلما رآها رسول الله ﷺ صرف عنها في يوم صائف إلى ظل هو أدنى منها الحديث فيجمع بينهما بأن عبادتها هي العكوف عندها رجاء لبركتها قوله وينوطون بها أسلحتهم أي يعلقونها عليها للبركة
قوله يقال لها ذات أنواط قال أبو السعادات سألوه أن يجعل لهم مثلها فنهاهم عن ذلك وأنواط جمع نوط وهو مصدر سمي به المنوط قوله فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط أي شجرة مثلها نعلق عليها ونعكف حواليها ظنوا أن هذا أمر محبوب عند الله فقصدوا التقرب إلى الله بذلك وإلا فهم أجل قدرا وان كانوا حديثي عهد بكفر عن قصد مخالفة النبي ﷺ قوله فقال النبي ﷺ الله اكبر هكذا في بعض الروايات وفي رواية الترمذي سبحان الله والمقصود باللفظين واحد لأن المراد تعظيم الله وتنزيهه عن الشرك والتقرب به إليه وفيه تكبير الله وتنزيهه عند التعجب أو ذكر الشرك خلافا لمن كرهه قوله أنها السنن بضم السين أي الطرق قوله قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو اسرائيل لموسى اجعل لنا إلها الخ أخبر ﷺ أن هذا الامر الذي طلبوه منه وهو اتخاذ شجرة للعكوف عندها وتعليق الأسلحة بها تبركا كالأمر الذي طلبه بنو اسرائيل من موسى عليه السلام حيث قالوا اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فإذا كان اتخاذ شجرة لتعليق الأسلحة والعكوف عندها اتخاذ إله مع الله مع أنهم لا يعبدونها ولا يسألونها فما الظن بما حدث من عباد القبور من دعاء الأموات والأستغاثة بهم والذبح والنذر لهم والطواف بقبورهم وتقبيلها وتقبيل أعتابها وجدرانها والتمسح بها والعكوف عندها وجعل السدنة والحجاب لها وأي نسبة بين هذا وبين تعليق الأسلحة على شجرة تبركا قال الإمام أبو بكر الطرطوشي من أئمة المالكية فانظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس ويعظمونها ويرجون البرء
والشفاء من قبلها ويضربون بها المسامير والخرق فهي ذات أنواط فاقطعوها وقال الحافظ ابو محمد عبدالرحمن بن اسماعيل الشافعي المعروف بأبي شامة في كتاب البدع والحوادث ومن هذا القسم أيضا ما قد عم الابتلاء به من تزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد وسرج مواضع مخصوصة في كل بلد يحكي لهم حاك أنه رأى في منامه بها أحدا ممن شهر بالصلاح والولاية فيفعلون ذلك ويحافظون عليه مع تضييعهم فرائض الله تعالى وسننه ويظنون أنهم متقربون بذلك ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم فيعظمونها ويرجون الشفاء لمرضاهم وقضاء حوائجهم بالنذر لهم وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر وفي مدينة دمشق صانها الله من ذلك مواضع متعددة كعونية الحما خارج باب توما والعمود المخلق داخل باب الصغير والشجرة الملعونة اليابسة خارج باب النصر في نفس قارعة الطريق سهل الله قطعها واجتثاثها من أصلها فما أشبهها بذات أنواط الواردة في الحديث ثم ذكر الحديث المتقدم وكلام الطرطوشي الذي ذكرنا ثم قال ولقد أعجبني ما صنعه الشيخ أبو اسحق الجبنياني رحمه الله تعالى أحد الصالحين ببلاد افريقية في المائة الرابعة حكى عنه صاحبه الصالح ابو عبد الله محمد ابن أبي العباس المؤدب أنه كان إلى جانبه عين تسمى عين العافية كان العامة قد افتتنوا بها يأتونها من الآفاق من تعذر عليها نكاح أو ولد قالت امضوابي إلى العافية فتعرف بها الفتنة قال أبو عبد الله فأنا في السحر ذات ليلة إذ سمعت أذان أبي اسحق نحوها فخرجت فوجدته قد هدمها وأذن الصبح عليها ثم قال اللهم إني هدمتها لك فلا ترفع لها رأسا قال فما رفع لها رأس إلى الآن قلت أبو إسحق الذي هدمها إمام مشهور من أئمة المالكية زاهد اسمه ابراهيم بن أحمد بن علي بن أسلم وكان الإمام أبو محمد ابن أبي زيد يعظم شأنه ويقول
طريق أبي اسحق خالية لا يسلكها أحد في الوقت وكان القابسي يقول الجبنياني إمام يقتدى به مات سنة تسع وستين وثلاثمائة وذكر ابن القيم نحو ما ذكره أبو شامة ثم قال فما أسرع اهل الشرك إلى اتخاذ الأوثان من دون الله ولو كانت ما كانت ويقولون إن هذا الحجر وهذه الشجرة وهذه العين تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة وقربة يتقرب بها الناذر الى المنذور له وسيأتي شيء يتعلق بهذا الباب عند قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد وفي هذه الجملة من الفوائد أن ما يفعله من يعتقد في الأشجار والقبور والأحجار من التبرك بها والعكوف عندها والذبح لها هو الشرك ولا يغتر بالعوام والطغام ولا يستبعد كون هذا شركا ويقع في هذه الأمة فإذا كان بعض الصحابة ظنوا ذلك حسنا وطلبوه من النبي ﷺ حتى بين لهم أن ذلك كقول بني اسرائيل اجعل لنا إلها فكيف بغيرهم مع غلبة الجهل وبعد العهد بآثار النبوة وفيها أن الاعتبار في الأحكام بالمعاني لا بالأسماء ولهذا جعل النبي ﷺ طلبتهم كطلبة بني اسرائيل ولم يلتفت إلى كوتهم سموها ذات أنواط فالمشرك وإن سمى شركه ما سماه كمن يسمي دعاء الأموات والذبح لهم والنذر ونحو ذلك تعظيما ومحبة فإن ذلك هو الشرك وإن سماه ما سماه وقس على ذلك وفيها أن من عبد فهو إله لأن بني إسرائيل والذين سألوا النبي ﷺ لم يريدوا من الأصنام والشجرة الخلق والرزق وإنما أرادوا البركة والعكوف عندها فكان ذلك اتخاذا له مع الله تعالى وفيها أن معنى الإله هو المعبود وأن من أراد أن يفعل الشرك جهلا فنهي عن ذلك فانتهى لا يكفر وأن لا إله إلا الله تنفي هذا الفعل مع دقته وخفائه على أولئك الصحابة ذكره المصنف فكيف بما هو أعظم منه ففيه رد على الجهال الذين يظنون أن معناها الإقرار بأن الله خالق كل شيء وأن ما سواه مخلوق ونحو
ذلك من العبارات والإغلاظ على من وقع منه ذلك جهلا قوله لتركبن بضم الموحدة أي لتتبعن أنتم أيها الأمة سنن من كان قبلكم بضم السين أي طرقهم ومناهجهم وأفعالهم ويجوز فتح السين وهذا خبر صحيح وجد كما أخبر ﷺ ففيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم النهي عن التشبه بأهل الجاهلية من أهل الكتاب والمشركين وأنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر فصار فيها التنبيه على مسائل القبر أما من ربك فواضح وأما من نبيك فمن إخباره بأنباء الغيب وأما ما دينك فمن قولهم اجعل لنا إلها إلى آخره قاله المصنف وفيه أن الشرك لابد أن يقع في هذه الأمة كما وقع فيمن قبلها ففيه رد على من قال إن الشرك لا يقع في هذه الأمة وفيه سد الذرائع والغضب عند التعليم وأن ما ذم الله به اليهود والنصارى فإنه لنا لنحذره ذكر ذلك المصنف تنبيه ذكر بعض المتأخرين أن التبرك بآثار الصالحين مستحب كشرب سؤرهم والتمسح بهم أو بثيابهم وحمل المولود إلى أحد منهم ليحنكه بتمرة حتى يكون أول ما يدخل جوفه ريق الصالحين والتبرك بعرقهم ونحو ذلك وقد أكثر من ذلك أبو زكريا النووي في شرح مسلم في الأحاديث التي فيها أن الصحابة فعلوا شيئا من ذلك مع النبي ﷺ وظن أن بقية الصالحين في ذلك كالنبي ﷺ وهذا خطأ صريح لوجوه منها عدم المقاربة فضلا عن المساواة للنبي ﷺ في الفضل والبركة ومنها عدم تحقق الصلاح فإنه لا يتحقق إلا بصلاح القلب وهذا أمر لا يمكن الاطلاع عليه إلا بنص كالصحابة الذين أثني الله عليهم ورسوله أو أئمة التابعين أو من شهر بصلاح ودين كالأئمة الأربعة ونحوهم من الذين تشهد لهم الأمة بالصلاح وقد عدم أولئك أما
غيرهم فغاية الأمر أن نظن أنهم صالحون فنرجو لهم ومنها انا لو ظننا صلاح شخص فلا نأمن أن يختم له بخاتمة سوء والأعمال بالخواتيم فلا يكون أهلا للتبرك بآثاره ومنها أن الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك مع غيره لا في حياته ولا بعد موته ولو كان خيرا لسبقونا إليه فهلا فعلوه مع أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ونحوهم من الذين شهد لهم النبي ﷺ بالجنة وكذلك التابعون هلا فعلوه مع سعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وأويس القرني والحسن البصري ونحوهم ممن يقطع بصلاحهم فدل أن ذلك مخصوص بالنبي ﷺ ومنها أن فعل هذا مع غيره ﷺ لا يؤمن أن يفتنه وتعجبه نفسه فيورثه العجب والكبر والرياء فيكون هذا كالمدح في الوجه بل أعظم باب ما جاء في الذبح لغير الله أي من الوعيد وهل يكون شركا أم لا قال وقول الله تعالى قل أن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له الآية ش قال ابن كثير يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه وحده لا شريك له وهذا كقوله فصل لربك وانحر أي أخلص له صلاتك وذبيحتك فإن المشركين يعبدون الاصنام ويذبحون لها فأمر الله بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه
والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى قال مجاهد في قوله صلاتي ونسكي قال النسك الذبح في الحج والعمرة وقال الثوري عن السدي عن سعيد بن جبير ونسكي ذبحي وكذا قال الضحاك وقال غيره ومحياي ومماتي أي وما آتيه في حياتي وأموت عليه من الإيمان والعمل الصالح لله رب العالمين خالصة لوجهه لا شريك له وبذلك من الإخلاص أمرت وأنا أول المسلمين لأن إسلام كل نبي متقدم لإسلام أمته كما قال قتادة وأنا أول المسلمين أي من هذه الأمة قال ابن كثير وهو كما قال فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الاسلام وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وأخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه فان توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين وذكر آيات في هذا المعنى قلت وفي الآية دلائل متعددة على أن الذبح لغير الله شرك كما هو بين عند التأمل وفيها بيان العبادة وأن التوحيد مناف للشرك مضاد له قال وقوله فصل لربك وانحر قال شيخ الإسلام أمره الله أن يجمع بين هاتين العبادتين وهما الصلاة والنسك الدالتان على القرب والتواضع والافتقار وحسن الظن وقوة اليقين وطمأنينة القلب إلى الله والى عدته عكس حال أهل الكبر والنفرة وأهل الغني عن الله الذين لا حاجة لهم في صلاتهم إلى ربهم يسألونه إياها والذين لا ينحرون له خوفا من الفقر ولهذا جمع بينهما في قوله قل إن صلاتي ونسكي الآية والنسك الذبيحة لله تعالى ابتغاء وحهه
فإنها أجل ما يتقرب به إلى الله فانه أتى فيهما بالفاء الدالة على السبب لان فعل ذلك سبب للقيام بشكر ما أعطاه الله من الكوثر وأجل العبادات البدنية الصلاة وأجل العبادات المالية النحر وما يجتمع للعبد في الصلاة لا يجتمع له في غيرها كما عرفه آرباب القلوب الحية وما يجتمع له في النحر إذا قارنه الايمان والإخلاص من قوة اليقين وحسن الظن أمر عجيب وكان ﷺ كثير الصلاة كثير النحر وقال غيره أي فاعبد ربك الذي أعزك بإعطائه وشرفك وصانك من منن الخلق مراغما لقومك الذين يعبدون غير الله وانحر لوجهه وباسمه إذا نحرت مخالفا لهم في النحر للأوثان انتهى وهذا هو الصحيح في تفسيرها وأما ما رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب قال لما نزلت هذه السورة على النبي ﷺ إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر قال رسول الله ﷺ لجبريل ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي قال إنها ليست بنحيرة ولكن يأمرك إذا أحرمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبرت وإذا ركعت وإذا رفعت رأسك من الركوع الحديث فهو حديث منكر جدا وفي إسناده اسرائيل بن حاتم ثم قال ابن حبان يروي عن مقاتل الموضوعات وغيره من الثقات الأوابد والطامات يروي عن مقاتل بن حيان ما وضعه عليه ابن عمر بن صبيح كان يسرقها منه وروى عن مقاتل عن الأصبغ بن نباته عن علي لما نزلت فصل لربك وانحر الحديث قال عن علي رضي الله عنه قال حدثني رسول الله ﷺ بأربع كلمات لعن الله من ذبح لغير الله ولعن الله من لعن والديه ولعن الله من آوى محدثا ولعن الله من غير منار الارض رواه مسلم ش الحديث رواه مسلم من طرق بمعنى ما ذكره المصنف وفيه قصة
ورواه الإمام أحمد كذلك وعلي بن أبي طالب هو الإمام أبو الحسن الهاشمي ابن عم النبي ﷺ وزوج ابنته فاطمة الزهراء واسم ابي طالب عبد مناف ابن عبد المطلب ابن هاشم القرشي كان من السابقين الأولين إلى الإسلام ومن أهل بدر وبيعة الرضوان وأحد العشرة لهم بالجنة ورابع الخلفاء الراشدين ومناقبه كثيرة رضي الله عنه قتله ابن ملجم الخارجي في رمضان سنة أربعين قوله لعن الله قولوا اللعنة البعد عن مظان الرحمة ومواطنها قيل واللعين والملعون من حقت عليه اللعنة أودعي عليه بها قال أبو السعادات أصل اللعنة الطرد والإبعاد من الله ومن الخلق السب والدعاء قوله من ذبح لغير الله قال النووي المراد به أن يذبح باسم غير اسم الله تعالى كمن يذبح للصنم أو للصليب أو لموسى أو لعيسى صلى الله عليهما وسلم أو للكعبة ونحو ذلك وكل هذا حرام ولا تحل هذه الذبيحة سواء كان الذابح مسلما أو نصرانيا أو يهوديا نص عليه الشافعي واتفق عليه أصحابنا فإن قصد مع ذلك تعظيم المذبوح له غير الله و العبادة له كان ذلك كفرا فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ذكره في شرح مسلم ونقله غير واحد من الشافعية وغيرهم وقال شيخ الإسلام قوله تعالى وما أهل به لغير الله ظاهره أنه ما ذبح لغير الله مثل أن يقال هذه ذبيحة لكذا وإذا كان هذا هو المقصود فسواء لفظ به أو لم يلفظ وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم وقال فيه باسم المسيح ونحوه كما أن ما ذبحناه متقربين الى الله كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم وقلنا عليه بسم الله فإن عبادة الله بالصلاة له والنسك له أعظم من
الاستعانة باسمه في فواتح الأمور فكذلك الشرك بالصلاة لغيره والنسك لغيره أعظم من الاستعانة باسم غيره في فواتح الأمور فإذا حرم ما قيل فيه باسم المسيح أو الزهرة فلأن يحرم ما قيل فيه لأجل المسيح أو الزهرة أو قصد به ذلك أولى فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله وعلى هذا فلو ذبح لغير الله متقربا إليه لحرم وإن قال فيه باسم الله كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح والنجوم ونحو ذلك وإن كان هؤلاء مرتدين لاتباح ذبيحتهم بحال لكن يجتمع في الذبيحة مانعان ومن هذا الباب ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن ولهذا روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن ذبائح الجن قلت هذا الحديث رواه البيهقي عن الزهري مرسلا وفي إسناده عمر بن هارون وهو ضعيف عند الجمهور إلا أن أحمد بن سيار روى عن قتيبة أنه كان يوثقه ورواه ابن حبان في الضعفاء من وجه آخر عن عبدالله بن أذينة عن ثور بن يزيد عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة مرفوعا قال ابن حبان وعبدالله يروي عن ثور ما ليس من حديثه قال الزمخشري كانوا إذا اشتروا دارا أو بنوها أو استخرجوا عينا ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن فأضيفت الذبائح إليهم لذلك قال النووي وذكر الشيخ إبراهيم المروذي من أصحابنا أن ما ذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه أفتى أهل بخارى بتحريمه لأنه مما أهل به لغير الله قال الرافعي هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه فهو كذبح العقيقة لولادة المولود قلت إن كانوا يذبحون استبشارا كما ذكر الرافعي فلا يدخل في ذلك وإن كانوا يذبحونه تقربا إليه فهو داخل في الحديث قوله لعن الله من لعن والديه قال بعضهم يعني أباه وأمه وإن عليا
وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ قال إن من الكبائر شتم الرجل والديه قالوا يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه قال نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه فإذا كان هذا حال المتسبب فما ظنك بالمباشر قوله ولعن الله من آوى محدثا أما آوى بفتح الهمزة ممدوة أي ضم إليه وحمى وقال أبو السعادات يقال أويت إلى المنزل وآويت غيري وأويته وأنكر بعضهم المقصور المتعدي وقال الأزهري هي لغة فصيحة وأما محدثا فقال أبو السعادات يروى بكسر الدال وفتحها على الفاعل والمفعول فمعنى الكسر من نصر جانيا وآواه وأجاره من خصمه وحال بينه وبين أن يقتص منه والفتح هو الأمر المبتدع نفسه ويكون معنى الإيواء فيه الرضى به والصبر عليه فإنه إذا رضي بالبدعة وأقر عليها فاعلها ولم ينكر عليه فقد آواه قلت الظاهر أنه على الرواية الأولى يعم المعنيين لأن المحدث أعم من أن يكون بجناية أو ببدعة في الدين بل المحدث بالبدعة في الدين شر من المحدث بالجناية فإيواؤه أعظم إثما ولهذا عده ابن القيم في كتاب الكبائر وقال هذه الكبيرة تختلف مراتبها باختلاف مراتب الحدث في نفسه فكلما كان الحدث في نفسه أكبر كانت الكبيرة أعظم قوله ولعن الله من غير منار الأرض قال المصنف هي المراسيم التي تفرق بينك وبين جارك وقال النووى منار الأرض بفتح الميم علامات حدودها والمعنى واحد قيل وتغييرها أن يقدمها أو يؤخرها فيكون هذا من ظلم الأرض الذي قال فيه ﷺ من ظلم شبرا من الأرض طوقه يوم القيامة من سبع أرضين رواه البخارى ومسلم وفي الحديث دليل على جواز
لعن أنواع الفساق كقوله لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ونحو ذلك فأما لعن الفاسق المعين ففيه قولان ذكرهما شيخ الإسلام أحدهما أنه جائز اختاره ابن الجوزي وغيره والثاني لا يجوز اختاره أبو بكر عبدالعزيز وشيخ الإسلام قال والمعروف عن أحمد كراهة لعن المعين كالحجاج وأمثاله وأن يقول كما قال الله تعالى ألا لعنة الله على الظالمين قال وعن طارق بن شهاب أن رسول الله ﷺ قال دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب قالوا وكيف ذلك يا رسول الله قال مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجاوزه أحد حتى يقرب له شيئا فقالوا لأحدهما قرب قال ما عندي شيء قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله تعالى فضربوا عنقه فدخل الجنة رواه أحمد ش هذا الحديث ذكره المصنف معزوا لأحمد وأظنه تبع ابن القيم في عزوه لأحمد قال ابن القيم قال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن سليمان بن ميسرة عن طارق بن شهاب يرفعه قال دخل رجل الجنة في ذباب الحديث وقد طالعت المسند فما رأيته فيه فلعل الإمام رواه في كتاب الزهد أو غيره قوله عن طارق بن شهاب أي البجلي الأحمسي أبو عبدالله رأى النبي ﷺ وهو رجل ويقال إنه لم يسمع منه شيئا
قال البغوي ونزل الكوفة قال أبو حاتم ليست له صحبة والحديث الذي رواه مرسل وقال أبو داود رأى النبي ﷺ ولم يسمع منه شيئا قال الحافظ إذا ثبت أنه لقي النبي ﷺ فهو صحابي على الراجح وإذا ثبت أنه لم يسمع منه فروايته عن مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح وقد أخرج له النسائي عدة أحاديث وذلك مصير منه إلى اثباب صحبته وكانت وفاته على ما جزم به ابن حبان سنه ثلاث وثمانين قوله دخل الجنة رجل في ذباب أي من أجل ذباب قوله قالوا وكيف ذلك يا رسول الله سألوا عن هذا الأمر العجيب لأنهم قد علموا أن الجنة لا يدخلها أحد إلا بالاعمال الصالحة كما قال تعالى ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون وأن النار لا يدخلها أحد إلا بالاعمال السيئة فكانهم تقالوا ذلك وتعجبوا واحتقروه فبين لهم النبي ﷺ ما صير هذا الأمر الحقير عندهم عظيما يستحق هذا عليه الجنة ويستحق الآخر عليه النار ولعل هذين الرجلين من بني اسرائيل فإن النبي ﷺ يحدثهم عن بني اسرائيل كثيرا قوله فقال مر رجلان من قوم لهم صنم الصنم ما كان منحوتا على صورة قوله لا يجاوزه أي لا يمر به ولا يتعداه حد حتى يقرب له شيئا وإن قل قوله قالوا قرب ولو ذبابا فقرب ذبابا فخلوا سبيله فدخل النار في هذا بيان عظمة الشرك ولو في شيء قليل وأنه يوجب النار ألا ترى إلى هذا لما قرب لهذا الصنم أرذل الحيوان وأخسه وهو الذباب كان جزاؤه النار
لاشراكه في عبادة الله إذ الذبح على سبيل القربة والتعظيم عبادة وهذا مطابق لقوله تعالى إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وفيه الحذر من الذنوب وإن كانت صغيرة في الحسبان كما قال أنس إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول لله ﷺ من الموبقات رواه البخاري قال المصنف ما معناه وفيه أنه دخل النار بسبب لم يقصده بل فعله تخلصا من شرهم وفيه أن الذي دخل النار مسلم لأنه لو كان كافرا لم يقل دخل النار في ذباب وفيه أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان قوله وقالوا للآخر قرب قال ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله تعالى إلى آخره في هذا بيان فضيلة التوحيد والإخلاص قال المصنف وفيه معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين كيف صبر على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر وفيه شاهد للحديث الصحيح الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك قلت وفيه التنبيه على سعة مغفرة الله وشدة عقوبته وأن الأعمال بالخواتيم باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله ش أي أن ذلك لا يجوز لما سيذكره المصنف قال وقول الله تعالى لاتقم فيه أبدا الآية
ش حاصل كلام المفسرين في الآية أن الله نهى رسوله ﷺ أن يقوم في مسجد الضرار في الصلاة فيه أبدا والأمة تبع له في ذلك ثم حثه على الصلاة في مسجد قباء الذي أسس من أول يوم بني فيه على التقوى وهي طاعة الله ورسوله ﷺ وجمعا لكلمة المؤمنين ومعقلا ومنزلا للاسلام وأهله بقوله لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه والسياق إنما هو في مسجد قباء ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله ﷺ قال صلاة في مسجد قباء كعمرة وفي الصحيح أن رسول الله ﷺ كان يزور قباء راكبا وماشيا وقد صرح بأن المسجد المؤسس على التقوى هو مسجد قباء ذكره جماعة من السلف منهم ابن عباس وعروة وعطية والشعبي والحسن وغير واحد وقيل هو مسجد رسول الله ﷺ لحديث أبي سعيد قال تمارى رجلان في المسجد الذي اسس على التقوى من أول يوم فقال رجل هو مسجد قباء وقال الآخر هو مسجد رسول الله ﷺ فقال رسول الله ﷺ هو مسجدي هذا رواه مسلم وهو قول عمر وابنه وزيد بن ثابت وغيرهم قال ابن كثير وهذا صحيح ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد اسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله ﷺ بطريق الأولى وهذا بخلاف مسجد الضرار الذي اسس على معصية الله تعالى كما قال تعالى والذين اتخذوا مسجدا ضرارا وكفرا وتفريقا بين المؤمنين وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفن إن أردنا إلا الحسني والله يشهد إنهم لكاذبون فلهذه الأمور نهى الله نبيه ﷺ عن القيام فيه للصلاة وكان المنافقون الذين بنوه جاؤوا إلى النبى قبل خروجه إلى تبوك فسألوه أن يصلي فيه ليحتجوا بصلاته فيه على تقريره وذكروا أنهم إنما بنوه للضعفاء وأهل العلة
في الليلة الشاتية فعصمه الله من الصلاة فيه فقال أنا على سفر ولكن إذا رجعنا إن شاء الله فلما قفل عليه السلام راجعا إلى المدينة ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم نزل الوحي بخبر السمجد فبعث إليه فهدمه قبل مقدمه إلى المدينة ووجه الدلالة من الآية على الترجمة من جهة القياس لأنه إذا منع الله رسوله ﷺ عن القيام لله تعالى في هذا المسجد المؤسس على هذه المقاصد الخبيثة مع أنه لا يقوم فيه إلا لله فكذلك المواضع المعدة للذبح لغير الله لا يذبح فيها الموحد لله لأنها قد اسست على معصية الله والشرك به يؤيده حديث ثابت بن الضحاك الآتي وقوله فيه رجال يحبون أن يتطهروا روى الإمام أحمد وابن خزيمة والطبراني والحاكم عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي ﷺ أتاهم في مسجد قباء فقال إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به فقالوا والله يا رسول الله ما نعلم شيئا إلا أنه كان لنا جيران من اليهود فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط فغسلنا كما غسلوا وفي رواية عن جابر وأنس مرفوعا هو ذاك فعليكموه رواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والدارقطني والحاكم وقوله والله يحب المطهرين أي الذين يتنزهون من القاذورات والنجاسات بعد ما يتنزهون من أوضار الشرك وأقذاره قال أبو العالية إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المتطهرون من الذنوب قال ابن كثير وفيه دليل على استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين المتنزهين عن ملابسة القاذورات المحافظين على إسباغ الوضوء قلت وفيه إثبات المحبة
قال عن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة فسأل النبي ﷺ فقال هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول الله ﷺ أوف بنذرك فإنه لاوفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه أبو داود وإسناده على شرطهما ش هذا الحديث رواه أبو داود فقال حدثنا داود بن رشيد قال ثنا شعيب بن اسحق عن الأوزاعي قال حدثني يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبو قلابة قال حدثني ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ أن ينحر إبلا ببوانة فأتى النبي ﷺ فقال إني نذرت أن أنحر إبلا ببوانة فقال النبي ﷺ هل كان فيها وثن الحديث وهذا إسناد جيد وروى أبو داود أيضا عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن امرأة أتت النبي ﷺ فقالت إني نذرت أن أذبح بمكان كذا وكذا مكان كان يذبح فيه أهل الجاهلية قال لصنم قالت لا قال لوثن قالت لا قال أوف بنذرك مختصر ومعنى قوله لصنم الى آخره هل يذبحون فيه لصنم أو وثن فيكون كحديث ثابت قوله عن ثابت بن الضحاك أى أن ابن خليفة الأشهلي صحابي مشهور روى عنه أبو قلابة وغيره ومات سنه أربع وستين قوله نذر رجل يحتمل أن يكون هو كردم بن سفيان والد ميمونة لما روى أبو داود عنها قالت خرجت مع أبي في حجة رسول الله ﷺ فرأيت رسول الله ﷺ قالت فدنا اليه أبي فقال يا رسول الله إني نذرت إن ولد لي ولد ذكر أن أنحر على رأس بوانة في عقبة من الثنايا عدة من
النعم قال لا أعلم إلا أنها قالت خمسين فقال رسول الله ﷺ هل بها من هذه الأوثان شيء قال لا قال فأوف بما نذرت لله وذكر الحديث قوله أن ينحر إبلا في حديث ميمونة قال فأوف بما نذرت لله قال فجمعها فجعل يذبحها فانفلتت منه شاة فطلبها وهو يقول اللهم أوف بنذري فظفر بها فذبحها فيحتمل أن يكون نذر إبلا وغنما ويحتمل أن يكون ذلك قضيتبن قوله ببوانة بضم الباء وقيل بفتحها قال البغوي موضع في أسفل مكة دون يلملم وقال أبو السعادات هضبة من وراء ينبع قوله فقال هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد قال في عروة المفتاح الصنم هو ما له صورة والوثن ما ليس له صورة قلت هذا هو الصحيح في الفرق بينهما وقد جاء عن السلف ما يدل على ذلك وفيه المنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان وثن من أوثانهم ولو بعد زواله ذكره المصنف قوله فهل كان فيها عيد من أعيادهم قال شيخ الاسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائد إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك والمراد به هنا الاجتماع المعتاد من اجتماع الجاهلية فالعيد يجمع أمورا منها يوم عائد كيوم الفطر ويوم الجمعة ومنها اجتماع فيه ومنها أعمال تتبع ذلك من العبادات والعادات وقد يختص العيد بمكان بعينه وقد يكون مطلقا وكل من هذه الأمور قد يسمى عيدا فالزمان كقول النبي ﷺ في يوم الجمعة إن هذا يوم جعله الله للمسلمين عيدا والاجتماع والاعمال كقول ابن عباس شهدت العبد مع رسول الله ﷺ والمكان كقوله لا تتخذوا قبري عيدا وقد يكون لفظ العيد
اسما لمجموع اليوم والعمل فيه وهو الغالب كقول النبي ﷺ لابي بكر دعهما يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا انتهى وفيه استفصال المفتي والمنع من الوفاء بالنذر إذا كان في المكان عيد من أعياد الجاهلية ولو بعد زواله والحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده ذكره المصنف قوله فأوف بنذرك هذا يدل على أن الذبح لله في المكان الذي يذبح فيه المشركون لغيره أو في محل أعيادهم معصية لأن قوله فأوف بنذرك تعقيب للوصف بالحكم بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف سبب الحكم فيكون سبب الأمر بالوفاء وجود النذر خاليا عن هذين الوصفين فيكونان مانعين من الوفاء ولو لم يكن معصية لجاز الوفاء به ولأنه عقبه بقوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله فدل أن الصورة المسؤول عنها مندرجة في هذا اللفظ العام لأن العام إذا أورد على سبب فلا بد أن يكون السبب مندرجا فيه ولأنه لو كان الذبح فيما ذكر جائزا لسوغ ﷺ للناذر الوفاء به كما سوغ لمن نذرت الضرب بالدف أن تضرب به لأنه عليه السلام استفصل فلما قالوا لا قال له فأوف بنذرك وهذا يقتضي أن كون البقعة مكانا لعيدهم أو بها وثن من أوثانهم مانع من الذبح بها وإن نذر وإلا لما حسن الاستفصال هذا معنى كلام شيخ الإسلام وفيه أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع قوله فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله دليل على أن هذا نذر معصية لا يجوز الوفاء به لما تقدم وعلى أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به وقد أجمع العلماء على ذلك لهذا الحديث وحديث عائشة الآتي وما في معناهما
واختلفوا هل تجب فيه كفارة يمين على قولين هما روايتان عن أحمد أحدهما تجب وهو المذهب المشهور عن أحمد وروي عن ابن مسعود وابن عباس وبه قال أبو حنيفة وأصحابه لحديث عائشة مرفوعا لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين رواه أحمد وأهل السنن وأحتج به أحمد واسحق والثاني لا كفارة عليه روي ذلك عن مسروق والشعبي والشافعي لحديث الباب وحديث عائشة الآتي ولم يذكر فيهما كفارة وجوابه أن عدم ذكر الكفارة لا يدل على عدم وجوبها قوله ولا فيما لا يملك ابن آدم قال في شرح المصابيح يعني إذا أضاف النذز إلى معين لا يملكه بأن قال إن شفى الله مريضي فلله علي أن أعتق عبد فلان أو أتصدق بثوبه ونحو ذلك فأما إذا التزم في الذمة شيئا لا يملكه فيصح نذره مثاله إن شفي الله مريضي فلله علي أن أعتق رقبة وهو في ذلك الحال لا يملك رقبة ولا قيمتها فيصح نذره وإذا شفي ثبت النذر في ذمته قوله رواه أبو داود وإسناده على شرطيهما أي شرط البخاري ومسلم وأضمرهما للعلم بذلك وأبو داود اسمه سليمان بن الأشعث بن اسحق بن بشر بن شداد الأزدي السجستاني صاحب الإمام أحمد ومصنف السنن وغيرها ثقة امام حافظ من كبار العلماء مات سنة خمس وسبعين ومائتين باب من الشرك النذر لغير الله ش أي إنه من العبادة فيكون صرفه لغير الله شركا فإذا نذر طاعة
وجب عليه الوفاء بها وهو عبادة وقربة إلى الله ولهذا مدح الله الموفين به فإن نذر لمخلوق تقربا إليه ليشفع له عند الله ويكشف ضره ونحو ذلك فقد أشرك في عبادة الله تعالى غيره ضرورة كما أن من صلى لله وصلى لغيره فقد أشرك كذلك هذا لقوله تعالى يوفون بالنذر وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى مدح الموفين بالنذر والله تعالى لا يمدح إلا على فعل واجب أو مستحب أو ترك محرم لا يمدح على فعل المباح المجرد وذلك هو العباده فمن فعل ذلك لغير الله متقربا إليه فقد أشرك قال وقوله وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه وجه الدلالة من الآية على الترجمة أن الله تعالى أخبر بأن ما أنفقناه من نفقة أو نذرناه من نذر متقربين بذلك إليه أنه يعلمه ويجازينا عليه فدل ذلك أنه عبادة وبالضرورة يدري كل مسلم أن من صرف شيئا من انواع العبادة لغير الله فقد أشرك قال ابن كثير يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يعمله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده إذا علمت ذلك فهذه النذور الواقعة من عباد القبور وأشباههم لم يعتقدون فيه نفعا أو ضرا فيتقرب اليه بالنذر ليقضي حاجته أو ليشفع له كل ذلك شرك في العبادة وهو شبيه بما ذكر الله عن المشركين في قوله وجعلوا لله مما ذرا من الحرث والانعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل الى شركائهم ساء ما يحكمون روى ابن أبي حاتم في
الآية يعني جعلوا لله جزءا من الحرث ولشركائهم ولأوثانهم جزءا فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه وقالوا الله عن هذا غني وما ذهبت به الريح من جزء أوثانهم الى جزء الله أخذوه وعباد القبور يجعلون لله جزءا من أموالهم بالنذر والصدقة وللأموات والطواغيت جزءا كذلك وقد نص غير واحد من العلماء على أن النذر لغير الله شرك قال شيخ الإسلام وأما ما نذره لغير الله كالنذر للأصنام والشمس والقمر والقبور ونحو ذلك فهو بمنزلة أن يحلف بغير الله من المخلوقات والحالف بالمخلوقات لا وفاء عليه ولا كفارة وكذلك الناذر للمخلوق ليس عليه وفاء ولا كفارة فإن كلاهما شرك والشرك ليس له حرمة بل عليه أن يستغفر الله من هذا العقد ويقول ما قال النبي ﷺ حيث قال من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وقال أيضا فيمن نذر للقبور ونحوها دهنا لتنور به ويقول إنها تقبل النذر كما يقول بعض الضالين فهذا النذر معصية باتفاق العلماء لا يجوز الوفاء به وكذلك إذا نذر مالا من النقد أو غيره للسدنة أو المجاورين العاكفين بتلك البقعة فإن هؤلاء السدنة فيهم شبه من السدنة التي كانت للات والعزى ومناة يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والمجاورون هناك فيهم شبه من العاكفين الذين قال فيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون والذين اجتاز بهم موسى عليه السلام وقوله تعالى وجاوزنا ببني اسرائيل التحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم فالنذر لأولئك السدنة والمجاورين في هذه البقاع التي لا فضل للشريعة في في المجاورة فيها نذر معصية وفيه شبه من النذر لسدنة الصلبان المجاورين عندها أو لسدنة الأبدال التي في الهند والمجاورين عندها
ثم هذا المال إذا صرفه في جنس تلك العبادة من المشروع مثل أن يصرفه في عمارة المساجد أو للصالحين من فقراء المسلمين يستعينون بالمال على عبادة الله كان حسنا وقد تقدم كلام ابن القيم في قوله ويقولون إنها تقبل النذر أي تقبل العبادة من دون الله فإن النذر عبادة إلى آخره وقال الإمام الأذرعي في شرح منهاج النووي وأما النذر للمشاهد التي بنيت على قبر ولي أو شيخ أو على اسم من حلها من الأولياء أو تردد في تلك البقعة من الأنبياء والصالحين فإن قصد الناذر بذلك وهو الغالب أو الواقع من قصود العاقد في تعظيم البقعة والمشهد والزاوية أو تعظيم من دفن بها أو نسبت اليه أو بنيت على اسمه فهذا النذر باطل غير منعقد فإن معتقدهم أن لهذه الأماكن خصوصيات لأنفسها ويرون أنها مما يدفع به البلاء ويستجلب به النعماء ويستشفى بالنذر لها من الأدواء حتى انهم ينذرون لبعض الأحجار لما قيل إنه جلس اليها أو استند اليها عبد صالح وينذرون لبعض القبور السرج والشموع والزيت ويقولون القبر الفلاني أو المكان الفلاني يقبل النذر يعنون بذلك أنه يحصل به الغرض المأمول من شفاء مريض وقدوم غائب وسلامة مال وغير ذلك من أنواع نذر المجازاة فهذا النذر على هذا الوجه باطل لا شك فيه بل نذر الزيت والشمع ونحوهما للقبور باطل مطلقا من ذلك نذر الشموع الكثيرة العظيمة وغيرها لقبر الخليل عليه السلام ولقبر غيره من الأنبياء والأولياء فإن الناذر لا يقصد بذلك إلا الايقاد على القبر تبركا وتعظيما ظانا أن ذلك قربة فهذا مما لاريب في بطلانه والانقياد المذكور محرم سواء انتفع به هناك منتفع أم لا إلى آخر كلامه وقال الشيخ قاسم الحنفي في شرح درر البحار النذر الذي ينذره
أكثر العوام على ما هو مشاهد كأن يكون للانسان غائب أو مريض أو له حاجة ضرورية فيأتي إلى بعض الصلحاء ويجعل على رأسه سترة ويقول ياسيدي فلان إن رد الله غائبي أو عوفي مريضي أو قضيت حاجتي فلك من الذهب كذا أو من الفضة كذا أو من الطعام كذا أو من الماء ومن الشمع والزيت كذا فهذا النذر باطل بالإجماع لوجوه منها أنه نذر لمخلوق والنذر للمخلوق لا يجوز لأنه عبادة والعبادة لا تكون لمخلوق ومنها أن المنذور له ميت والميت لا يملك ومنها أنه ظن أن الميت يتصرف في الأمور دون الله واعتقاد ذلك كفر إلى أن قال إذا علمت هذا فما يؤخذ من الدراهم والشمع والزيت وغيرها وينقل إلى ضرائح الأولياء تقربا إليهم فحرام بإجماع المسلمين نقله عنه ابن نجيم في البحر الرائق في آخر كتاب الصوم ومنه نقله المرشدي أيضا في تذكرته ونقله غيرهما عنه وزاد وقد ابتلي الناس بهذا لاسيما في مولد أحمد البدوي وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في الرد على من أجاز الذبح والنذر للأولياء وأثبت الأجر في ذلك فهذا الذبح والنذر إن كان على اسم فلان وفلان فهو لغير الله فيكون باطلا وفي التنزيل ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وقوله قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له أي صلاتي وذبحي لله كما فسر به قوله فصل لربك وانحر وفي الحديث لا نذر في معصية الله رواه أبو داود وغيره والنذر لغير الله إشراك مع الله إلى أن قال فالنذر لغير الله كالذبح لغيره
وقال الفقهاء خمسة لغير الله شرك الركوع والسجود والنذر والذبح واليمين قال والحاصل أن النذر لغير الله فجور فمن أين تحصل لهم الأجور انتهى ملخصا وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي قد نهي عن النذر وندب إلى الدعاء والسبب فيه أن الدعاء عبادة عاجلة ويظهر به التوجه إلى الله تعالى والتضرع له وهذا بخلاف النذر فإن فيه تأخير العبادة إلى حين الحصول وترك العمل إلى حين الضرورة فقد نص أبو بكر على ان الدعاء والنذر عبادتان ولا يمتري مسلم أن من عبد غير الله فقد اشرك ولكن كما قال تعالى وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون قال وفي الصحيح عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال من نذر أن يطيع الله فليطعه ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله عن عائشة هي أم المؤمنين وزوج النبي ﷺ وبنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما تزوجها النبي ﷺ وهي بنت سبع سنين ودخل بها وهي بنت تسع سنين وهي أفقه النساء مطلقا وأفضل أزواج النبي ﷺ إلا خديجة ففيهما خلاف كثير ماتت سنة سبع وخمسين على الصحيح قاله الحافظ قوله من نذر أن يطيع الله فليطعه أي فليفعل ما نذره من طاعة الله وقد أجمع العلماء على أن من نذر طاعة بشرط يرجوه كقوله إن شفى الله مريضي فعلي أن أتصدق بكذا ونحو ذلك وجب عليه أن يوفي بها مطلقا إذا حصل الشرط إلا أنه حكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزمه الوفاء بما لا أصل له في الوجوب كالاعتكاف وعيادة المريض والحديث حجة عليه لأنه لم يفرق
بين ما له أصل في الوجوب وما لا أصل له فان نذر ابتداء كقوله لله تعالى علي صوم شهر فالحكم أيضا كذلك في قول الأكثرين وعن بعضهم أنه لا يلزم والحديث حجة عليه أيضا لأنه لم يفرق بين ما علقه على شرط وبين ما نذره ابتداء قوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه زاد الطحاوي وليكفر عن يمينه قال ابن القطان عندي شك في رفع هذه الزيادة أي لا يفعل المعصية التي نذرها وقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز الوفاء بنذر المعصية قال الحافظ في الفتح واتفقوا على تحريم النذر في المعصية وتنازعوا هل ينعقد موجبا للكفارة أم لا وقد تقدم ذلك في الباب قبله وقد يستدل بقوله ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه بصحة النذر في المباح كما هو مذهب أحمد وغيره يؤيده ما رواه أبو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ورواه أحمد والترمذي عن بريدة أن امرأة قالت يا رسول الله إني نذرت أن أضرب على رأسك بالدف فقال أوف بنذرك وإذا صححناه فحكمه حكم الحلف على فعله فيخير بين فعله وكفارة اليمين وأما نذر اللجاج والغضب فهو يمين عند أحمد فيخير بين فعله وكفارة اليمين لحديث عمران بن حصين مرفوعا لا نذر في غضب وكفارته كفارة يمين رواه سعيد واحمد والنسائي وله طرق وفيه كلام فان نذر مكروها كالطلاق استحب ان يكفر ولايفعله باب من الشرك الاستعاذة بغير الله الاستعاذه الالتجاء والاعتصام والتحرز وحقيقتها الهرب من شيء
تخافه إلى من يعصمك منه ولهذا يسمى المستعاذ به معاذا وملجأ ووزرا فالعائذ بالله قد هرب مما يؤذيه أو يهلكه الى ربه ومالكه وفر اليه وألقى نفسه بين يديه واعتصم به واستجار به والتجأ اليه وهذا تمثيل وتفهيم وإلا فما يقوم بالقلب من الالتجاء إلى الله والاعتصام به والاطراح بين يدي الرب والافتقار اليه والتذلل بين يديه أمر لا تحيط به العبارة هذا معنى كلام ابن القيم وقال ابن كثير الاستعاذة هي الالتجاء إلى الله والالتصاق بجنابه من شر كل ذي شر والعياذ يكون لدفع الشر واللياذ لطلب الخير وهذا معنى كلام غيرهما من العلماء فتبين بهذا أن الاستعاذة بالله عبادة لله ولهذا أمر الله بالاستعاذة به في غير آية وتواترت السنن عن النبي ﷺ بذلك قال الله تعالى وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم وقال وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب ان يحضرون وقال فاستعذ بالله انه هو السميع البصير وقال قل اعوذ برب الفلق وقال تعالى قل اعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس فإذا كان تعالى هو ربنا وملكنا وإلهنا فلا مفزع لنا في الشدائد سواه ولا ملجأ لنا منه إلا اليه ولا معبود لنا غيره فلا ينبغي أن يدعى ولا يخاف ولا يرجى ولا يحب غيره ولا يذل ولا يخضع لغيره ولا يتوكل إلا عليه لأن من تخافه وترجوه وتدعوه وتتوكل عليه إما أن يكون مربيك والقيم بأمورك ومتولي
شأنك فهو ربك فلا رب لك سواه وتكون مملوكه وعبده الحق فهو ملك الناس حقا وكلهم عبيده ومماليكه أو يكون معبودك وإلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين بل حاجتك اليه أعظم من حاجتك الى حياتك وروحك فهو الإ له الحق إله الناس فمن كان ربهم وملكهم وإلههم فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره ولا يستنصروا بسواه ولا يلجأوا الى غير حماه فهو كافيهم وحسبهم وناصرهم ووليهم ومتولي أمورهم جميعا بربوبيته وملكه وإلهيته لهم فكيف لا يلتجىء العبد عند النوازل ونزول عدوه به الى ربه وملكه وإلهه وهذه طريقه القرآن يحتج عليهم باقرارهم بهذا التوحيد على توحيد الإلهية هذا معنى كلام ابن القيم فاذا تحقق العبد بهذه الصفات الرب والملك والاله وامتثل أمر الله واستعاذ به فلا ريب أن هذه عبادة من أجل العبادات بل هو من حقائق توحيد الالهية فإن استعاذ بغيره فهو عابد لذلك الغير كما أن من صلى لله وصلى لغيره يكون عابدا لغير الله كذلك في الاستعاذة ولا فرق إلا أن المخلوق يطلب منه ما يقدر عليه ويستعاذ به فيه بخلاف ما لايقدر عليه إلا الله فلا يستعاذ فيه إلا بالله كالدعاء فإن الاستعاذة من أنواعه قال وقول الله تعالى وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا ش المعنى والله اعلم على قول أن الانس زادوا الجن باستعاذتهم بهم رهقا أي إثما وطغيانا وشرا فضمير الفاعل على هذا للعائذين من الإنس وضمير المفعول للمستعاذ بهم من الجن وعلى القول الثاني بالعكس وزيادتهم للانس رهقا باغوائهم وإضلالهم وذلك أن الرجل من العرب كان إذا أمسى في
واد قفر في بعض مسائره وخاف على نفسه قال اعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه يريد الجن وكبيرهم قال مجاهد كانوا يقولون إذا هبطوا واديا نعوذ بعظيم هذا الوادي فزادوهم رهقا قال زادوا الكفار طغيانا رواه عبد بن حميد وابن المنذر والآثار بذلك عن السلف مشهورة ووجه الاستدلال بالآية على الترجمة أن الله حكى عن مؤمني الجن أنهم لما تبين لهم دين الرسول ﷺ وآمنوا به ذكروا أشياء من الشرك كانوا يعتقدونها في الجاهلية من جملتها الاستعاذة بغير الله وقد أجمع العلماء على أنه لا تجوز الاستعاذة بغير الله ولهذا نهوا عن الرقى التي لا يعرف معناها خشية ان يكون فيها شيء من ذلك قال ملا علي القاري الحنفي ولا يجوز الاستعاذة بالجن فقد ذم الله الكافرين على ذلك فقال وأنه كان رجال من الانس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا الى إن قال وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض الآية فاستمتاع الإنسي بالجني في قضاء حوائجه وامتثال أوامره أو إخباره بشيء من المغيبات واستمتاع الجني بالإنسي تعظيمه إياه واستعاذته به واستغاثته وخضوعه له وفيه أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيويه من كف شرا وجلب نفع لا يدل على أنه ليس من الشرك ذكره المصنف قال وعن خولة بنت حكيم قالت سمعت رسول الله ﷺ يقول من نزل منزلا فقال أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك رواه مسلم
قوله عن خولة بنت حكيم أي ابن أمية السلمية يقال لها أم شريك ويقال لها خويلة بالتصغير ويقال إنها هي الواهبة وكانت قبل تحت عثمان بن مظعون قال ابن عبد البر وكانت صالحة فاضلة قوله أعوذ بكلمات الله التامات هذا ما شرعه الله لأهل الإسلام أن يستعيذوا به بدلا عما يفعله أهل الجاهلية من الاستعاذة بالجن فشرع الله للمسلمين أن يستعيذوا به أو بصفاته قال القرطبي في المفهم قيل معناه الكاملات اللاتي لا يلحقها نقص ولا عيب كما يلحق كلام البشر وقيل معناه الشافية الكافية وقيل الكلمات هنا هي القرآن فان الله أخبر عنه بأنه هدى وشفاء وهذا الأمر على جهة الارشاد إلى ما يدفع به الأذى ولما كان ذلك استعاذة بصفات الله تعالى والالتجاء اليه كان ذلك من باب المندوب إليه المرغب فيه وعلى هذا فحق المتعوذ بالله تعالى وبأسمائه وصفاته أن يصدق الله في التجائه إليه ويتوكل في ذلك عليه ويحضر ذلك في قلبه فمتى فعل ذلك وصل إلى منتهى طلبه ومغفرة ذنبه وقال غيره وقد اتفق العلماء على أن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز واستدلوا بحديث خولة وقالوا فيه دليل على أن كلمات الله غير مخلوقة وردوا به على الجهيمة والمعتزلة في قولهم بخلق القرآن قالوا فلو كانت كلمات الله مخلوقة لم يأمر النبي ﷺ بالاستعاذة بها لان الاستعاذة بالمخلوق شرك وقال شيخ الإسلام وقد نص الأئمة كأحمد وغيره على أنه لا يجوز الإستعاذة بمخلوق وهذا مما استدلوا به على أنه كلام الله غير مخلوق قالوا لأنه ثبت عن النبي ﷺ أنه استعاذ بكلمات الله وأمر بذلك ولهذا نهى العلماء عن التعازيم والتعاويذ التي لا يعرف معناها خشية أن يكون
فيها شرك وقال ابن القيم ومن ذبح للشيطان ودعاه واستغاث به وتقرب إليه بما يحب فقد عبده وإن لم يسم ذلك عبادة ويسميه استخداما وصدق هو استخدام الشيطان له فيصير من خدم الشيطان وعابديه وبذلك يخدمه الشيطان لكن خدمة الشيطان له ليست خدمة عبادة فإن الشيطان لا يخضع له ويعبده كما يفعل هو به قوله من شر ما خلق أي من كل شر في أي مخلوق قام به الشر من حيوان أو غيره إنسيا كان أو جنيا أو هامة أو دابة أو ريحا أو صاعقة أي نوع كان من أنواع البلاء في الدنيا والآخرة وما ههنها موصولة ليس إلا وليس المراد بها العموم الاطلاقي بل المراد التقييدي الوصفي والمعنى من شر كل مخلوق فيه شر لامن شر كل ما خلقه الله تعالى فإن الجنة والملائكة والانبياء ليس فيهم شر هذا معنى كلام ابن القيم قال والشر يقال على شيئين على الألم وعلى ما يفضي اليه قوله لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك قال القرطبي هذا الخبر صحيح وقول صادق علمنا صدقه دليلا وتجربة فإني منذ سمعت هذا الخبر عملت عليه فلم يضرني شيء إلى أن تركته فلدغتني عقرب بالمهدية ليلا فتفكرت في نفسى فإذا بي قد نسيت أن أتعوذ بتلك الكلمات قال المصنف فيه فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره ش قال شيخ الإسلام الاستغاثة هي طلب الغوث وهو إزالة الشدة
كالاستنصار طلب النصر والاستعانة طلب العون وقال غيره الفرق بين الاستغاثة والدعاء أن الاستغاثة لا تكون إلا من المكروب كما قال تعالى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه وقال إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم والدعاء أعم من الاستغاثة لأنه يكون من المكروب وغيره فعلى هذا عطف الدعاء على الاستغاثه من عطف العام على الخاص وقال أبو السعادات الاغاثة الإعانة فعلى هذا تكون الاستغاثة هي الاستعانة ولا ريب أن من استغاثك فأغثته فقد أعنته إلا أن لفظ الاستغاثة مخصوص بطلب العون في حالة الشدة بخلاف الاستعانة وقوله أو يدعو غيره المراد بالدعاء هنا هو دعاء المسألة فيما لا يقدر عليه إلا الله تعالى فإن ذلك شرك لما سيذكره المصنف من الآيات واعلم أن الدعاء نوعان دعاء عبادة ودعاء مسألة كما حققه غير واحد منهم شيخ الاسلام وابن القيم وغيرهما ويراد به في القرآن هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما وهما متلازمان فدعاء المسألة هو طلب ما ينفع الداعي من جلب نفع أو كشف ضر فالمعبود لا بد أن يكون مالكا للنفع والضر ولهذا أنكر الله تعالى على من عبد من دونه مالا يملك ضرا ولا نفعا كقوله قل أتعبدون من دون الله مالا يملك لكم ضرا و لا نفعا والله السميع العليم وقوله ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وذلك كثير في القرآن يبين أن المعبود لابد وأن يكون مالكا للنفع والضر فهو يدعى للنفع والضر دعاء المسألة ويدعى خوفا ورجاء دعاء العبادة فعلم أن النوعين متلازمان فكل دعاء
عبادة مستلزم لدعاء المسألة وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة وبهذا التحقيق يندفع عنك ما يقوله عباد القبور إذ احتج عليهم بما ذكر الله في القرآن من الأمر بإخلاص الدعاء له قالوا المراد به العبادة فيقولون في مثل قوله تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا أي لا تعبدوا مع الله أحدا فيقال لهم وإن أريد به دعاء العبادة فلا ينفي أن يدخل دعاء المسألة في العبادة لأن دعاء العبادة مستلزم لدعاء المسألة كما أن دعاء المسألة متضمن لدعاء العبادة هذا لو لم يرد في دعاء المسألة بخصوصه من القرآن إلا الآيات التي ذكر فيها دعاء العبادة فكيف وقد ذكر الله في القرآن في غير موضع قال الله تعالى ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه لا يحب المعتدين وقال تعالى وادعوه خوفا وطمعا وقال تعالى والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله وقال تعالى واسألوا الله من فضله وقال تعالى قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أوتتكم الساعة أغير الله تدعون إن كنتم صادقين بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون وقال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام إن ربي لسميع
الدعاء وقال عنه أيضا وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقيا فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله الآية وقال تعالى ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وقال تعالى وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا وقال تعالى قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى وقال تعالى عن زكريا عليه السلام قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم الآية وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون فكفى بهذه الآيات نجاة وحجة وبرهانا في الفرق بين التوحيد والشرك عموما وفي هذه المسألة خصوصا وقال تعالى فابتغوا عند الله الرزق وقال تعالى وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبا اليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو اليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار وقال تعالى
والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم وقال تعالى وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين وغير ذلك من الآيات وفي الأحاديث عن النبي ﷺ مالا يحصى منها قوله ﷺ فيما رواه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي إنكم تخطؤون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم رواه مسلم وقوله ﷺ ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر ثم يقول من يدعوني فأستجب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له رواه البخاري ومسلم وقوله ليس شيء أكرم على الله من الدعاء رواه أحمد والترمذي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وصححه وقوله من لم يدع الله يغضب عليه رواه أحمد وابن أبي شيبه والحاكم وقوله سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل رواه الترمذي وقوله الدعاء سلاح المؤمن وعماد الدين ونور السموات والارض رواه الحاكم وصححه وقوله الدعاء هو العبادة رواه أحمد والترمذي وفي حديث آخر الدعاء مخ العبادة رواه الترمذي وقوله لما سئل أي العبادة أفضل قال دعاء المرء لنفسه رواه البخاري في الأدب وقوله لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء يا عباد الله رواه أحمد وقوله سلوا الله كل شيء حتى الشسع
إذا انقطع فإنه إن لم ييسره لم يتيسر رواه أبو يعلى بإسناد صحيح وقوله ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع وحتى يسأله الملح رواه البزار بإسناد صحيح وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إني لا أحمل هم الإجابة ولكن هم الدعاء فإذا ألهمت الدعاء علمت أن الإجابة معه وقال ابن عباس رضي الله عنهما أفضل العبادة الدعاء وقرأ وقال ربكم ادعوني أستجب لكم رواه ابن المنذر والحاكم وصححه وقال مطرف تذكرت ما جماع الخير فاذا الخير كثير الصلاة والصيام وإذا هو في يد الله تعالى وإذا انت لا تقدر على ما في يد الله إلا أن تسأله فيعطيك رواه أحمد والأحاديث والآثار في ذلك لا يحيط بها إلا الله تعالى فثبت بهذا أن الدعاء عبادة من أجل العبادات بل هو أكرمها على الله كما تقدم فإن لم يكن الإشراك فيه شركا فليس في الارض شرك وإن كان في الارض شرك فالشرك في الدعاء أولى أن يكون شركا من الإشراك في غيره من أنواع العبادة بل الإشراك في الدعاء وهو أكبر شرك المشركين الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ فإنهم يدعون الأنبياء والصالحين والملائكة ويتقربون إليهم ليشفعوا لهم عند الله ولهذا يخلصون في الشدائد لله وينسون ما يشركون حتى جاء أنهم إذا جاءتهم الشدائد في البحر يلقون أصنامهم في البحر ويقولون يا الله يا الله لعلمهم أن آلهتهم لا تكشف الضر ولا تجيب المضطر وقال تعالى أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون فهم كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده وأن آلهتهم ليس عندها شيء من ذلك ولهذا احتج سبحانه وتعالى عليهم بذلك على أنه هو الإله
الحق وعلى بطلان الهية ما سواه وقال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر إذا هم يشركون فهذه حال المشركين الأولين وأما عباد القبور اليوم فلا إله إلا الله كم ذا بينهم وبين المشركين الأولين من التفاوت العظيم في الشرك فإنهم إذا أصابتهم الشدائد برا وبحرا أخلصوا لآلهتهم وأوثانهم التي يدعونها من دون الله واكثرهم قد اتخذ ذكر إلهه وشيخه دبدنه وهجراه إن قام وإن قعد وإن عثر هذا يقول يا علي وهذا يقول يا عبد القادر وهذا يقول يابن علوان وهذا يدعو البدوي وهذا يدعو العيدروس وبالجملة ففي كل بلد في الغالب أناس يدعونهم ويسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات بل بلغ الأمر إلى أن سألوهم مغفرة الذنوب وترجيح الميزان ودخول الجنة والنجاة من النار والتثبيت عند الموت والسؤال وغير ذلك من أنواع المطالب التي لا تطلب إلا من الله وقد يسألون ذلك من أناس يدعون الولاية وينصبون أنفسهم لهذه الأمور وغيرها من أنواع النفع والضر التي هي خواص الإلهية ويلفقون ! لهم من الأكاذيب في ذلك عجائب منها أنهم يدعون أنهم يخلصون من التجأ إليهم ولاذ بحماهم من النار والعذاب فيقول أحدهم إنه يقف عند النار فلا يدع أحدا ممن يرتجيه ويدعوه يدخلها أو نحو هذا وقد قال تعالى لسيد المرسلين صلى الله عليه وعليهم أجمعين أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار فإذا كان النبي ﷺ لا يقدر على تخليص أحد من النار فكيف بغيره بل كيف بمن يدعي نفسه أنه هو يفعل ذلك ومنها أن أكثرهم يلفق حكايات في أن بعض الناس استغاث بفلان فأغاثه أو دعا الولي الفلاني فأجابه أو في كربة ففرج عنه وعند عباد القبور من ذلك شيء كثير من جنس ما عند
عباد الأصنام الذين استولت عليهم الشياطين ولعبوا بهم لعب الصبيان بالكرة ويوجد شيء من ذلك في أشعار المادحين لسيد المرسلين ﷺ الذين جاوزوا الحد في مدحه ﷺ وعصوه في نهيه من الغلو فيه وإطرائه كما أطرت النصارى ابن مريم وصار حظهم منه ﷺ هو مدحه بالأشعار والقصائد والغلو الزائد مع عصيانهم له في أمره ونهيه فتجد هذا النوع من أعصى الخلق له صلوات الله عليه وسلامه ويقع من ذلك كثير في مدح غيره فإن عباد القبور لا يقتصرون على بعض من يعتقدون فيه الضر والنفع بل كل من ظنوا فيه ذلك بالغوا في مدحه وأنزلوه منزلة الربوبية وصرفوا له خالص العبودية حتى انهم اذا جاءهم رجل وادعى أنه رأى رؤيا مضمونها أنه دفن في المحل الفلاني رجل صالح بادروا الى المحل وبنوا عليه قبة وزخرفوها بأنواع الزخارف وعبدوها بأنواع من العبادات واما القبور المعروفة أو المتوهمة فأفعالهم معها وعندها لا يمكن حصره فكثير منهم اذا رأوا القباب التي يقصدونها كشفوا الرؤوس فنزلوا عن الاكوار فإذا أتوها طافوا بها واستلموا أركانها وتمسحوا بها وصلوا عندها ركعتين وحلقوا عندها الرؤوس ووقفوا باكين متذللين متضرعين سائلين مطالبهم وهذا هو الحج وكثير منهم يسجدون لها إذا رأوها ويعفرون وجوههم في التراب تعظيما لها وخضوعا لمن فيها فإن كان الإنسان منهم حاجة من شفاء مريض أو غير ذلك نادى صاحب القبر يا سيدي فلان جئتك قاصدا من مكان بعيد لا تخيبنى وكذلك اذا قحط المطر أو عقرت المرأة عن الولد أو دهمهم عدو أو جراد فزعوا الى صاحب القبر وبكوا عنده فإن جرى المقدور بحصول شيء مما يريدون استبشروا وفرحوا ونسبوا ذلك الى صاحب القبر فإن لم يتيسر شيء من ذلك اعتذروا عن
صاحب القبر بأنه إما غائب في مكان آخر أو ساخط لبعض أعمالهم أو ان اعتقادهم في الولي ضعيف أو أنهم لم يعطوه نذره ونحو هذه الخرافات ومن بعض أشعار المادحين لسيد المرسلين ﷺ قول البوصيري ... يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به ... سواك عند حلول الحادث العمم ... ولن يضيق رسول الله جاهك بي ... إذا الكريم تحلى باسم منتقم ... فان لي ذمة منه بتسميتي ... محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم ... إن لم يكن في معادي آخذا بيدي ... فضلا وإلا فقل يا زلة القدم ... فتأمل ما في هذه الأبيات من الشرك منها أنه نفى أن يكون له ملاذا إذا حلت به الحوادث إلا النبي ﷺ وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا هو الثاني أنه دعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار اليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب الا من الله وذلك هو الشرك في الالهية الثالث سؤاله منه أن يشفع له في قوله ولن يضيق رسول الله البيت وهذا هو الذي أراده المشركون ممن عبدوه وهو الجاه والشفاعة عند الله وذلك هو الشرك وأيضا فان الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فلا معنى لطلبها من غيره فإن الله تعالى هو الذي يأذن للشافع أن يشفع لأن الشافع يشفع ابتداء الرابع قوله فان لي ذمة الى آخره
كذب على الله وعلى رسوله ﷺ فليس بينه وبين من اسمه محمد ذمة إلا بالطاعة لا بمجرد الاشراك في الاسم مع الشرك الخامس قوله إن لم يكن في معادي البيت تناقض عظيم وشرك ظاهر فإنه طلب أولا أن لا يضيق به جاهه ثم طلب هنا أن يأخذ بيده فضلا وإحسانا وإلا فيا هلاكه فيقال كيف طلبت منه أولا الشفاعة ثم طلبت منه هنا أن يتفضل عليك فان كنت تقول إن الشفاعة لا تكون إلا بعد إذن الله فكيف تدعو النبي ﷺ وترجوه وتسأله الشفاعة فهلا سألتها من له الشفاعة الامن بعد إذانه فهذا يبطل عليك طلب الشفاعة من غير الله وإن قلت ما أريد إلا جاهه وشفاعته بإذن الله قيل فكيف سألته أن يتفضل عليك ويأخذ بيدك في يوم الدين فهذا مضاد لقوله تعالى وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله فكيف يجتمع في قلب عبد الايمان بهذا وهذا وإن قلت سألته أن يأخذ بيدي ويتفضل علي بجاهه وشفاعته قيل عاد الأمر إلى طلب الشفاعة من غير الله وذلك هو محض الشرك السادس في هذه الأبيات من التبري من الخالق تعالى وتقدس والاعتماد على المخلوق في حوادث الدنيا والآخرة مالا يخفى على مؤمن فأين هذا من
قوله تعالى إياك نعبد وإياك نستعين وقوله تعالى فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى بذنوب عباده خبيرا وقوله تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته فإن قيل هو لم يسأله أن يتفضل عليه وإنما أخبر أنه إن لم يدخل في عموم شفاعته فيا هلاكه قيل المراد بذلك سؤاله وطلب الفضل منه كما دعاه أول مرة وأخبر أنه لاملاذ له سواه ثم صرح بسؤال الفضل والإحسان بصيغة الشرط والدعاء والسؤال كما يكون بصيغة الطلب يكون بصيغة الشرط كما قال نوح عليه السلام وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين ومن شعر البرعي قوله ... ماذا تعامل يا شمس النبوة من ... أضحى إليك من الأشواق في كبدي ... فامنع جناب صريع لا صريخ له ... نائي المزار غريب الدار مبتعدي ... حليف ودك واه الصبر منتظر ... لغارة منك يا ركني ويا عضدي ... أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل ... أرجو النجاة به إن أنت لم تجد ... وجرى في شركه الى أن قال ... وحل عقدة كربي يا محمد من ... هم على خطرات القلب مطرد ... أرجوك في سكرات الموت تشهدني ... كيما يهون إذ الأنفاس في صعد ... وإن نزلت ضريحا لا أنيس به ... فكن أنيس وحيد فيه منفرد
وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن ... يليه من أجله وانعشه وافتقد ... وإن دعا فأجبه واحم جانبه ... من حاسد شامت أو ظالم نكد ... وقوله من أخرى ... يا رسول الله ياذا الفضل يا ... بهجة الحشر جاها ومقاما ... عد على عبد الرحيم الملتجي ... بحمى عزك ياغوث اليتامى ... وأقلني عثرتي يا سيدي ... في اكتساب الذنب فى خمسين عاما ... وقوله ... يا سيدي يا رسول الله يا أملي ... يا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني ... هبني بجاهك ما قدمت من زلل ... جودا ورجح بفضل منك ميزاني ... واسمع دعائي واكشف ما يساورني ... من الخطوب ونفس كل أحزاني ... فأنت أقرب من ترجى عواطفه ... عندي وإن بعدت داري وأوطاني ... إني دعوتك من نيابتي برع ... وأنت أسمع من يدعوه ذو شان ... فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبي ... برحمة وكرامات وغفران ... لقد أنسانا هذا ما قبله وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى عليه السلام إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله وهذا لم يطلقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها وترك الاسم إذ في الاسم نوع تمييز فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعنى دون الاسم قرب الى ترويج الباطل وقبوله عند ذوي العقول السخيفة إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه فأخذ المعنى وأعطاه البرعي وأضرابه وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندري ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب فالله المستعان
وهذا كثير جدا في أشعار المادحين لرسول الله ﷺ وهو حجة أعداء دينه الذين يجوزون الشرك بالله ويحتجون بأشعار هؤلاء ولم يقتصروا أيضا على طلب ذلك من النبي ﷺ بل يطلبون مثل ذلك من غيره كما حدث بعض التقاة أنه رأى في رابية صاحب مشهد من المشاهد هذه راية البحر التيار به أستغيث وأستجير وبه أعوذ من النار وقال بعضهم من قصيدة في بعض آلهتهم ... يا سيدي ويا صفي الدين يا سندي ... يا عمدتي بل ويا ذخري ومفتخري ... أنت الملاذ لما أخشى ضرورته ... وأنت لي ملجأ من حادث الدهر ... الى أن قال ... وامنن علي بتوفيق وعافية ... وخير خاتمة مهما انقضى عمري ... وكف عنا أكف الظالمين اذا امتدت ... بسوء لأمر مؤلم نكري ... فإنني عبدك الراجي بودك ما ... أملته يا صفي السادة الغرر ... قال بعض العلماء فلا ندري أي معنى اختص به الخالق تعالى بعد هذه المنزلة وماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث لخالقه من الأمر فان المشركين أهل الأوثان ما يؤهلون من عبدوه لشيء من هذا انتهى وكثير من عباد القبور ينادون الميت من مسافة شهر وأكثر يسألونه حوائجهم ويعتقدون أنه يسمع دعاءهم ويستجيب لهم وتسمع عندهم حال ركوبهم البحر واضطرابه من دعاء الأموات والاستغاثة بهم ما لايخطر على بال وكذلك إذا أصابتهم الشدائد من مرض أو كسوف أو ريح شديدة أو غير ذلك فالولي في ذلك نصب أعينهم والاستغاثة به هي ملاذهم ولو ذهبنا نذكر ما يشبه هذا لطال الكلام اذا عرفت هذا فقد تقدم ذكر دعاء المسألة
وأما دعاء العبادة فهو عبادة الله تعالى بأنواع العبادات من الصلاة والذبح والنذر والصيام والحج وغيرها خوفا وطمعا يرجو رحمته ويخاف عذابه وان لم يكن في ذلك صيغة سؤال وطلب فالعابد الذي يريد الجنة ويهرب من النار وهو سائل راغب راهب يرغب في حصول مراده ويذهب من فواته وهو سائل لما يطلبه بامتثال الأمر في فعل العبادة وقد فسر قوله تعالى ادعوني أستجب لكم بهذا وهذا قيل اعبدوني وامتثلوا أمري أستجب لكم وقيل سلوني أعطكم وعلى هذا القول تدل الاحاديث والآثار اذا تبين ذلك فاعلم أن العلماء أجمعو على أن من صرف شيئا من نوعي الدعاء لغير الله فهو مشرك ولو قال لا إله الا الله محمد رسول الله صلى وصام اذ شرط الاسلام مع التلفظ بالشهادتين أن لا يعب الا الله فمن أتى بالشهادتين وعبد غير الله ما أتى بهما حقيقة وان تلفظ بهما كاليهود الذين يقولون لا اله الا الله وهم مشركون ومجرد التلفظ بهما لا يكفي في الاسلام بدون العمل بمعناهما واعتقاده إجماعا ذكر شيء من كلام العلماء في ذلك وإن كنا غنيين بكتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه و سلم عن كل كلام إلا أنه قد صار بعض الناس منتسبا إلى طائفة معينة فلو أتيته بكل آية من كتاب الله وكل سنة عن رسول الله ﷺ لم يقبل حتى تأتيه بشيء من كلام العلماء أو بشيء من كلام طائفته التي ينتسب اليها قال الامام أبو الوفاء علي بن عقيل الحنبلي صاحب كتاب الفنون الذي ألفه في نحو أربعمائة مجلد وغيره من التصانيف قال في الكتاب المذكور لما صعبت التكاليف على الجهال والطغام عدلوا عن أوضاع الشرع
إلى تعظيم أوضاع وضعوها لأنفسهم فسهلت عليهم إذ لم يدخلوا بها تحت أمر غيرهم وهم عندي كفار لهذه الأوضاع مثل تعظيم القبور وخطاب الموتي بالحوائج وكتب الرقاع فيها يا مولاي افعل بي كذا وكذا أو إلقاء الخرق على الشجر اقتداء بمن عبد اللات والعزى نقله غير واحد مقررين له راضين به منهم الامام أبو الفرج بن الجوزي والامام ابن مفلح صاحب كتاب الفروع وغيرهما وقال شيخ الاسلام في الرسالة السنيه فإذا كان على عهد النبي ﷺ من انتسب إلى الاسلام من مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب الى الاسلام والسنة في هذه الازمان أيضا قد يمرق أيضا من الاسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم الآية وكذلك الغلو في بعض المشايخ بل الغلو في علي بن أبي طالب بل الغلو في المسيح عليه السلام فكل من غلا في نبي أو رجل صالح وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول يا سيدي فلان انصرني أو أغثني أو ارزقني أو اجبرني أو أنا في حسبك ونحو هذه الاقوال فكل هذا شرك وضلال يستتاب صاحبه فإن تاب وإلا قتل فان الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب ليعبد وحده ولا يدعى معه إله آخر والذين يدعون مع الله آلهة أخرى مثل المسيح والملائكة والاصنام لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق أو تنزل المطر أو تنبت النبات وإنما كانوا يعبدونهم أو يعبدون قبورهم أو يعبدون صورهم يقولون إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله فبعث الله رسله تنهى
ان يدعى أحد من دونه لا دعاء عبادة ولا دعاء استغاثة انتهى وقد نص الحافظ أبو بكر أحمد بن علي المقريزي صاحب كتاب الخطط في كتاب له في التوحيد على أن دعاء غير الله شرك وقال شيخ الاسلام من جعل بينه وبين الله وسائط يتوكل عليهم يدعوهم ويسألهم كفر إجماعا نقله عنه غير واحد مقررين له منهم ابن مفلح في الفروع وصاحب الانصاف وصاحب الغاية وصاحب الاقناع وشارحهم وغيرهم ونقله صاحب القواطع في كتابه عن صاحب الفروع قلت وهو إجماع صحيح معلوم بالضرورة من الدين وقد نص العلماء من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم في باب حكم المرتد على أن من أشرك بالله فهو كافر أي عبد مع الله غيره بنوع من أنواع العبادات وقد ثبت بالكتاب والسنة والاجماع أن دعاء الله عبادة له فيكون صرفه لغير الله شركاء وقال الامام ابن النحاس الشافعي في كتاب الكبائر ومنها إيقادهم السرج عند الأحجار والأشجار والعيون والآبار ويقولون انها تقبل النذر وهذه كلها بدع شنيعة ومنكرات قبيحة تجب إزالتها ومحو أثرها فان أكثر الجهال يعتقدون إنها تنفع وتضر وتجلب وتدفع وتشفي المرض وترد الغائب إذا نذر لها وهذا شرك ومحادة لله تعالى ولرسوله ﷺ قلت فصرح رحمه الله أن الاعتقاد في هذه الأمور أنها تضر وتنفع وتجلب وتدفع وتشفي المريض وترد الغائب إذا نذر لها أن ذلك شرك وإذا ثبت أنه شرك فلا فرق في ذلك بين اعتقاده في الملائكة والنبيين ولا بين اعتقاده في الأصنام والأوثان إذ لا يجوز الاشراك بين الله تعالى وبين مخلوق فيما يختص بالخالق سبحانه كما قال تعالى ولا يأمركم أن
تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذا أنتم مسلمون وهذا بعينه هو الذي يعتقده من دعا الأنبياء والصالحين ولهذا يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات وشفاء ذوي الأمراض والعاهات فثبت أن ذلك شرك وقال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في شرح المنازل ومن أنواعه أي الشرك طلب الحوائج من الموتى والاستغاثة بهم والتوجه إليهم وهذا أصل شرك العالم فإن الميت قد انقطع عمله وهو لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا لمن استغاث به أو سأله أن يشفع إلى الله وهذا من جهله بالشافع والمشفوع عنده فإن الله سبحانه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه والله سبحانه لم يجعل سؤال غيره سببا لأذنه وإنما السبب لأذنه كمال التوحيد فجاء هذا المشرك بسبب يمنع الإذن والميت محتاج إلى من يدعو له كما أمرنا النبي ﷺ إذا زرنا قبور المسلمين أن نترحم عليهم وندعو لهم ونسأل لهم العافية والمغفرة فعكس المشركون هذا وزاروهم زيادة العبادة وجعلوا قبورهم أوثانا تعبد فجمعوا بين الشرك بالمعبود وتغيير دينه ومعاداة أهل التوحيد ونسبتهم إلى التنقص بالأموات وهم قد تنقصوا الخالق سبحانه بالشرك وأولياءه الموحدين بذمهم ومعاداتهم وتنقصوا من أشركوا به غاية التنقص إذ ظنوا أنهم راضون منهم بهذا وأنهم أمروهم به وهؤلاء هم أعداء الرسل في كل زمان ومكان وما أكثر المستجيبين لهم ولله در خليله ابراهيم E حيث قال واجنبني وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس وما نجا من أشرك بهذا الشرك الأكبر إلا من جرد توحيده لله وعادى المشركين في الله وتقرب بمقتهم إلى الله
وقال الأمام الحافظ ابن عبد الهادي في رده على البكي وقوله أي قول البكي إن المبالغة في تعظيمه أي تعظيم الرسول ﷺ واجبة يراد بها المبالغة بحسب ما يراه كل أحد تعظيما حتى الحج إلى قبره والسجود له والطواف به واعتقاد أنه يعلم الغيب وأنه يعطي ويمنع ويملك لمن استغاث به من دون الله الضر والنفع وأنه يقضي حوائج السائلين ويفرج كربات المكروبين وأنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء فدعوى المبالغة في هذا التعظيم مبالغة في الشرك وانسلاخ من جملة الدين قلت هذا هو اعتقاد عباد القبور فيمن هو دون الرسول ﷺ فضلا عن الرسول ﷺ كما تقدم بعض ذلك والأمر أعظم وأطم من ذلك وفي الفتاوى البزازية من كتب الحنفية قال علماؤنا من قال أرواح المشايخ حاضرة تعلم يكفر فإن أراد بالعلماء علماء الشريعة فهو حكاية للاجماع على كفر معتقد ذلك وان اراد علماء الحنفية خاصة فهو حكاية لاتفاقهم على كفر معتقد ذلك وعلى التقديرين تأمله تجده صريحا في كفر من دعى أهل القبور لأنه ما دعاهم حتى اعتقد أنهم يعلمون ذلك ويقدرون على إجابة سؤاله وقضاء مأموله وقال الشيخ صنع الله الحلبي الحنفي في كتابه الذي ألفه في الرد على من ادعى ان للأولياء تصرفا في الحياة وبعد الممات على سبيل الكرامة هذا وانه قد ظهر الآن فيما بين المسلمين جماعات يدعون أن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات ويستغاث بهم في الشدائد والبليات وبهممهم تكشف المهمات فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات مستدلين على أن ذلك منهم كرامات وقالوا منهم أبدال ونقباء وأوتاد ونجباء وسبعون وسبعة وأربعون وأربعة والقطب هو الغوث للناس وعليه المدار بلا التباس وجوزوا لهم الذبائح والنذور وأثبتوا لهم فيها الأجور قال وهذا
الكلام فيه تفريط وإفراط بل فيه الهلاك الأبدي والعذاب السرمدي لما فيه من روائح الشرك المحقق ومصادمة الكتاب العزيز المصدق ومخالف لعقائد الأئمة وما اجتمعت عليه الأمة وفي التنزيل ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصير الى أن قال الفصل الاول فيما انتحلوه من الإفك الوخيم والشرك العظيم إلى أن قال فأما قولهم إن للأولياء تصرفات في حياتهم وبعد الممات فيرده قوله تعالى أإله مع الله ألا له الخلق والأمر لله ملك السموات والأرض ونحوه من الآيات الداله على أنه المنفرد بالخلق والتدبير والتصرف والتقدير ولا شيء لغيره في شيء ما بوجه من الوجوه فالكل تحت ملكه وقهره تصرفا وملكا وإحياء وإماتة وخلقا وتمدح الرب سبحانه بانفراده في ملكه بآيات من كتابه كقوله هل من خالق غير الله والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فقوله في الآيات كلها من دونه أي من غيره فإنه عام يدخل فيه من اعتقدته من ولي وشيطان تستمده فإن من لم يقدر على نصر نفسه كيف يمد غيره إلى أن قال فكيف يتصور لغيره من ممكن أن يتصرف إن هذا من السفاهة لقول وخيم وشرك عظيم إلى أن قال وأما القول بالتصرف بعد الممات فهو أشنع وأبدع من القول بالتصرف في الحياة قال جل ذكره إنك ميت وإنهم ميتون الله يتوفى الأنفس حين
موتها والتي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت كل نفس ذائقة الموت كل نفس بما كسبت رهينة وفي الحديث أذا مات ابن آدم انقطع عمله الحديث فجميع ذلك وما هو نحوه دال على انقطاع الحس والحركة من الميت وأن أرواحهم ممسكة وأن أعمالهم منقطعة عن زيادة ونقصان فدل ذلك أن ليس للميت تصرفا في ذاته فضلا عن غيره بحركة وأن روحه محبوسة مرهونة بعملها من خير وشر فاذا عجز عن حركة نفسه فكيف يتصرف في غيره فالله سبحانه يخبر أن الأرواح عنده وهؤلاء الملحدون يقولون إن الأرواح مطلقة متصرفة قل أأنتم أعلم أم الله قال وأما اعتقادهم أن هذه التصرفات لهم من الكرامات فهو من المغالطة لأن الكرامة شيء من عند الله يكرم بها أولياءه لا قصد لهم فيه ولا تحدي ولا قدرة ولا علم كما في قصة مريم بنت عمران وأسيد بن حضير وأبي مسلم الخولاني قال وأما قولهم فيستغاث بهم في الشدائد فهذا أقبح مما قبله وأبدع لمصادمته قوله جل ذكره أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض ءإله مع الله قل من ينجيكم من ظلمات البر والبحر وذكر آيات في هذا المعنى ثم قال فإنه جل ذكره قرر أنه الكاشف للضر لا غيره وأنه المتعين لكشف الشدائد والكرب وأنه المتفرد بإجابة المضطرين وأنه المستغاث لذلك كله وأنه القادر على دفع الضر والقادر على إيصال الخير فهو المنفرد بذلك فإذا تعين هو جل ذكره خرج
غيره من ملك ونبي وولي قال والاستغاثة تجوز في الأسباب الظاهرة العادية من الأمور الحسية في قتال أو إدراك عدو أو سبع ونحوه كقولهم يا لزيد يا لقوم يا للمسلمين كما ذكروا ذلك في كتب النحو بحسب الأسباب الظاهرة بالفعل وأما الاستغاثة بالقوة والتأثير أو في الأمور المعنوية من الشدائد كالمرض وخوف الغرق والضيق والفقر وطلب الرزق ونحوه فمن خصائص الله فلا يطلب فيها غيره قال وأما كونهم معتقدين التأثير منهم في قضاء حاجاتهم كما تفعله جاهلية العرب والصوفية الجهال وينادونهم ويستنجدون بهم فهذا من المنكرات إلى أن قال فمن اعتقد أن لغير الله من نبي أو ولي أو روح أو غير ذلك في كشف كربه أو قضاء حاجته تأثيرا فقد وقع في وادي جهل خطير فهو على شفا حفرة من السعير وأما كونهم مستدلين على أن ذلك منهم كرامات فحاشى لله أن تكون أولياء الله بهذه المثابة فهذا ظن أهل الأوثان كذا أخبر الرحمن هؤلاء شفعاؤنا عند الله ما نعبدهم إلا ليقربونا الى الله زلفى ءأتخذ من دونه الهة إن يردن الرحمن بضر لاتغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون فان ذكر ما ليس من شأنه النفع ولا دفع الضر من نبي وولي وغيره على وجه الإمداد منه إشراك مع الله إذ لا قادر على الدفع غيره ولا خير إلا خيره قال وأما ما قالوه من أن منهم أبدالا ونقباء وأوتادا ونجباء وسبعين وسبعة وأربعين وأربعة والقطب هو الغوث للناس فهذا من موضوعات إفكهم كما ذكره القاضي المحدث ابن العربي في سراج المريدين وابن الجوزي وابن تيمية انتهى باختصار
ومثل هذا يوجد في كلام غيرهم من العلماء والمقصود ان أهل العلم ما زالوا ينكرون هذه الأمور ويبينون أنها شرك وإن كان بعض المتأخرين ممن ينتسب إلى العلم والدين ممن اصيب في عقله ودينه قد يرخص في بعض هذه الأمور وهو مخطىء في ذلك ضال مخالف لكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وإجماع المسلمين فكل أحد مأخوذ من قوله ومتروك إلا قول ربنا وقول رسوله ﷺ فإن ذلك لا يتطرق إليه الخطأ بحال بل واجب على الخلق اتباعه في كل زمان على أنه لو أجمع المتأخرون على جواز هذا لم يعتد باجماعهم المخالف لكلام الله وكلام رسوله في محل النزاع لأنه إجماع غير معصوم بل هو من زلة العالم التي حذرنا من اتباعها وأما الإحماع المعصوم فهو إجماع الصحابة والتابعين وما وافقه وهو السواد الأعظم الذي ورد الحث على اتباعه وإن لم يكن عليه إلا الغرباء الذين أخبر بهم ﷺ في قوله بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء رواه مسلم لا ما كان عليه العوام والطغام والخلف المتأخرون الذين يقولون مالا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون قال وقول الله تعالى ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فان فعلت فإنك اذا من الظالمين وإن يمسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ش قال ابن عطية معناه قيل لي ولا تدع فهو عطف على أقم وهذا الأمر والمخاطبة للنبي ﷺ إذا كانت هكذا فأحرى أن يتحذر من ذلك غيره وقال غيره فإن فعلت معناه فإن دعوت من دون الله ما لاينفعك ولا يضرك فكني عنه بالفعل إيجازا فإنك إذا من الظالمين إذا جزاء للشرط
وجواب لسؤال مقدر كأن سائلا سأل عن تبعة عبادة الأوثان وجعل من الظالمين لأنه لا ظلم أعظم من الشرك إن الشرك لظلم عظيم قلت حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى نهى رسوله ﷺ أن يدعو من دونه مالا ينفعه ولا يضره والمراد به كل ما سوى الله فإنهم لا ينفعون ولا يضرون وساء في ذلك الأنبياء والصالحون وغيرهم كما قال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال النبي ﷺ لابن عباس إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رواه الترمذي وقال حسن صحيح وفي الآية تنبيه على أن المدعو لابد أن يكون مالكا للنفع والضرر حتى يعطي من دعاه أو يبطش بمن عصاه وليس ذلك إلا لله وحده فتعين أن يكون هو المدعو دون ما سواه والآية شاملة لنوعي الدعاء وقوله فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين أي المشركين وهذا كقوله فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وقوله ولقد أوحي اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين وقوله في الأنبياء ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون فإذا كان هذا الأمر لا يصدر من الأنبياء وحاشاهم من ذلك لم يفكوا أنفسهم من عذاب الله فما ظنك بغيرهم فلم يبق شيء يقرب الى الله ويباعد من سخطه إلا توحيده والعمل بما يرضاه لا الاعتماد على شخص أو قبر أو صنم او وثن أو مال أو غير ذلك من
الاسباب ومن يدع مع الله الها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون والآية نص في أن دعاء غير الله والاستغاثة به شرك أكبر ولهذا قال وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله لأنه المتفرد بالملك والقهر والعطاء والمنع ولازم ذلك إفراده بتوحيد الإلهية لأنهما متلازمان وإفراده بسؤال كشف الضر وجلب الخير لأنه لا يكشف الضر إلا هو ولا يجلب الخير إلا هو ما يفتح الله للناس من رحمه فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم فتعين أن لا يدعى لذلك إلا هو وبطل دعاء من سواه ممن لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وهذا ضد ما عليه عباد القبور فإنهم يعتقدون أن الأولياء والطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب ينفعون ويضرون ويمسون بالضر ويكشفونه وأن لهم التصرف المطلق في الملك أي على سبيل الكرامة وهذا فوق شرك كفار العرب وإما على سبيل الوساطة بينهم وبين الله بالشفاعة وهذا شرك الذين قالوا ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وفي الآية دليل على أن أصلح الناس لو يفعله إرضاء لغيره صار من الظالمين ذكره المصنف وقوله يصيب به من يشاء من عباده فلا يرده عنه راد لأنه العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ولا راد لقضائه ولا معقب لحكمه فأي فائدة في دعاء غيره لشفاعة أو غيرها فإنه تعالى فعال لما يريد لا يغنبه عنه شفيع ولا غيره بل لا يتكلم أحد عنده إلا باذنه ولا يشفع أحد إلا باذنه ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا
تتذكرون وقوله وهو الغفور الرحيم أي لمن تاب إليه وأقبل عليه حتى ولو كان من الشرك قال وقوله فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه الآية ش أمر الله تعالى بابتغاء الرزق عنده لا عند غيره ممن لا يملك رزقا من الأوثان والأصنام وغيرها كما قال في أول الآية إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا قال ابن كثير وهذا أبلغ في الحصر كقوله إياك نعبد وإياك نستعين رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ولهذا قال فابتغوا عند الله الرزق أي لا عند غيره لأنه المالك له وغيره لا يملك شيئا من ذلك فاعبدوه أي أخلصوا له العبادة وحده لا شريك له واشكروا له أي على ما أنعم عليكم وإليه ترجعون أي فيجازي كل عامل بعمله قلت في الآية الرد على المشركين الذين يدعون غير الله ليشفعوا لهم عنده في جلب الرزق فما ظنك بمن دعاهم أنفسهم واستغاث بهم ليرزقوه وينصروه كما هو الواقع من عباد القبور وقال المصنف وفيه أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله كما أن الجنة لا تطلب إلا منه قال وقوله ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له الى يوم القيامة الآيتين ش حاصل كلام المفسرين أن الله تعالى حكم بأنه لا أضل ممن يدعو
من دون الله لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة واستغاثة من هذه حاله ومعنى الاستفهام فيه إنكار أن يكون في الضلال كلهم أبلغ ضلالا ممن عبد غير الله ودعاه حيث يتركون دعاء السميع المجيب القادر على تحصيل كل بغية ومرام ويدعون من دونه من لا يستجيب لهم ولا قدرة به على استجابة أحد منهم ما دام في الدنيا وإلى أن تقوم القيامة كما قال تعالى له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال وقوله وهم عن دعائهم غافلون أي لا يشعرون بدعاء من دعاهم لأنهم إما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم كالملائكة وإما أموات كالأنبياء والصالحين وإما أصنام وأوثان وقوله وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء أي إذا قامت القيامة وحشر الناس للحساب عادوهم وكانوا بعبادتهم الدعاء وغيره من أنواع العبادة كافرين كما قال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا فليسوا في الدارين إلا على نكد ومضرة لا تتولاهم بالاستجابة في الدنيا وتجحد عبادتهم في الآخرة وهم أحوج ما كانوا إليها وفي الآيتين مسائل نبه عليها المصنف أحدها أنه لا أضل ممن دعا غير الله الثانية أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه الثالثة أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له الرابعة تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو الخامسة كفر المدعو بتلك العبادة السادسة أن هذه الأمور هي سبب كونه اضل الناس
قال وقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ش يقرر تعالى أنه الاله الواحد الذي لا شريك له ولا معبود سواه مما يشترك في معرفته المؤمن والكافر لأن القلوب مفطورة على ذلك فمتى جاء الاضطرار رجعت القلوب الى الفطرة وزال ما ينازعها فالتجأت إليه وأنابت إليه وحده لا شريك له كما قال تعالى ثم إذا مسكم الضر فاليه تجأرون ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون وقال تعالى فإذا مس الانسان ضر دعا ربه منبيا اليه ثم اذا خوله نعمة منه ننسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلا إنك من أصحاب النار ومثل هذا كثير في القرآن يبين تعالى أنه المدعو عند الشدائد الكاشف للسوء وحده فيكون هو المعبود وحده وكذا قال في هذه الآية أمن يجيب المضطر إذا دعاه أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا اليه والذي لا يكشف ضر المصطرين سواه ومن المعلوم أن المشركين كانوا يعلمون أنه لا يقدر على هذه الأمور إلا الله وحده وإذا جاءتهم الشدائد أخلصوا الدعاء لله كما قال تعالى فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم الى البر اذا هم يشركون فتبين أن من اعتقد في غير الله أنه يكشف السوء أو يجيب دعوة المضطر أو دعاه لذلك فقد اشرك شركا أكبر من شرك العرب كما هو الواقع من عباد القبور
قال وروى الطبراني باسناده أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين فقال بعضهم قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ من هذا المنافق فقال النبي ﷺ إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله ش قوله روى الطبراني هو الإمام الحافظ الثقة سليمان بن أحمد ابن أيوب بن مطير اللخمي الطبراني صاحب المعاجم الثلاثة وغيرها روى عن النسائي واسحق بن ابراهيم الديري وخلق كثير ومات سنة ستين وثلاثمائة وقد بيض المصنف لاسم الراوي وكأنه والله أعلم نقله عن غيره أو كتبه من حفظه والحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قوله أنه كان في زمن النبي ﷺ منافق يؤذي المؤمنين هذا المنافق لم أقف على تسميته ويحتمل أن يكون هو عبدالله بن أبي فانه معروف بالأذى للمؤمنين بالكلام في أعراضهم ونحو ذلك أما أذاهم ينحو ضرب أو زجر فلا نعلم منافقا بهذه الصفة قوله فقال بعضهم أي بعض المؤمنين وهذا البعض القائل لذلك يحتمل أن يكون واحدا وان يكون جماعة والظاهر أنه واحد وأظن في بعض الروايات أنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه قوله قوموا بنا نستغيث برسول الله ﷺ مرادهم الاستغاثة به فيما يقدر عليه بكف المنافق عن أذاهم بنحو ضربه أو زجره لا الاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله قوله إن لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله قال بعضهم فيه التصريح بأنه لا يستغاث بالنبي ﷺ في الأمور وإنما يستغاث بالله والظاهر أن مراده ﷺ إرشادهم الى التأدب مع الله في الالفاظ لإن استغاثتهم به
ﷺ من المنافق من الأمور التي يقدر عليها إما بزجره أو تعزيره ونحو ذلك فظهر أن المراد بذلك الإرشاد إلى حسن اللفظ والحماية منه ﷺ لجانب التوحيد وتعظيم الله تبارك وتعالى فإذا كان هذا كلامه ﷺ في الاستغاثة به فيما يقدر عليه فكيف بالاستغاثة به أو بغيره في الأمور المهمة التي لا يقدر عليها أحد إلا الله كما هو جار على ألسنة كثير من الشعراء وغيرهم وقل من يعرف أن ذلك منكر فضلا عن معرفة كونه شركا فإن قلت ما الجمع بين هذا الحديث وبين قوله تعالى فاستغاثه الذين من شيعته على الذي من عدوه فإن ظاهر الحديث المنع من إطلاق لفظ الاستغاثة على المخلوق فيما يقدر عليه وظاهر الآية جوازه قيل تحمل الآية على الجواز والحديث على الأدب والاولى والله أعلم وقد تبين بما ذكر في هذا الباب وشرحه من الآيات والأحاديث واقوال العلماء أن دعا الميت والغائب والحاضر فيما لا يقدر عليه إلا الله والاستفاثة بغير الله في كشف الضر أو تحويله هو الشرك الاكبر بل هو أكبر انواع الشرك لأن الدعاء مخ العبادة ولأن من خصائص الإلهية إفراد الله بسؤال ذلك إذ معنى الإله هو الذي يعبد لأجل هذه الأمور ولأن الداعي إنما يدعو إلهه عند انقطاع مله مما سواه وذلك هو خلاصة التوحيد وهو انقطاع الأمل مما سوى الله فمن صرف شيئا من ذلك لغير الله فقد ساوى بينه وبين الله وذلك هو الشرك ولهذا يقول المشركون لآلهتم وهم في الحيم ج تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ولكن لعباد القبور على هذا شبهات ذكر المصنف كثيرا منها في كشف الشبهات ونحن نذكر هنا ما
لم يذكره فمن ذلك أنهم احتجوا بحديث رواه الترمذي في جامعه حيث قال حدثنا محمود بن غيلان ثنا عثمان بن عمرو ثنا شعبة عن أبي جعفر عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ﷺ فقال ادع الله أن يعافيني قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه فأمره أن يتوضا ويحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت به إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي اللهم فشفعه في قال هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من رواية أبي جعفر وهو غير الخطمي هكذا رواه الترمذي ورواه النسائي وابن شاهين والبيهقي كذلك وفي بعض الروايات يا محمد إني أتوجه إلى آخره وهذه اللفظة هي التي تعلق بها المشركون وليست عند هؤلاء الأئمة قالوا فلو كان دعاء غير الله شركا لم يعلم النبي ﷺ الأعمى هذا الدعاء الذي فيه نداء غير الله والجواب من وجوه الأول أن هذا الحديث من أصله وإن صححه الترمذي فإن في ثبوته نظرا لأن الترمذي يتساهل في التصحيح كالحاكم لكن الترمذي أحسن نقدا كما نص على ذلك الأئمة ووجه عدم ثبوته أنه قد نص أن أبا جعفر الذي عليه مدار هذا الحديث هو غير الخطمي وإذا كان غيره فهو لا يعرف ولعل عمدة الترمذي في تصحيحه أن شعبة لا يروي إلا عن ثقة وهذا فيه نظر فقد قال عاصم بن علي سمعت شعبة يقول لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم إلا عن ثلاثة وفي نسخة عن ثلاثين ذكره الحافظ العراقي وهذا اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره فينظر في حاله و يتوقف الاحتجاج به على ثبوب صحته الثاني أنه في غير محل النزاع فأين طلب الأعمى من النبي ﷺ أن يدعو له وتوجهه بدعائه مع حضوره من دعاء الأموات والسجود لهم ولقبورهم والتوكل عليهم
والاتجاء إليهم في الشدائد والنذرو والذبح لهم وخاطبهم بالحوائج من الأمكنة البعيدة يا سيدي يا مولاي افعل في كذا فحديث الأعمى شيء ودعاء غير الله تعالى والاستغاثة به شيء آخر فليس في حديث الأعمى شيء غير انه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له ويشفع له فهو توسل بدعائه وشفاعته ولهذا قال في آخره اللهم فشفعه في فعلم أنه شفع له وفي رواية أنه طلب من النبي ﷺ أن يدعو له فدل الحديث على أنه ﷺ شفع له بدعائه وأن النبي ﷺ أمره هو أن يدعو الله ويسأله قبول شفاعته فهذا من أعظم الأدلة أن دعاء غير الله شرك لأن النبي ﷺ أمره أن يسأل قبول شفاعته فدل على أن النبي ﷺ لا يدعى ولأنه ﷺ لم يقدر على شفائه الا بدعاء الله له فأين هذا من تلك الطوام والكلام إنما هو في سؤال الغائب أو سؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله أما أن تأتي شخصا يخاطبك فتسأله أن يدعو لك فلا إنكار في ذلك على ما في حديث الأعمى فالحديث سواء كان صحيحا او لا وسواء ثبت قوله فيه يا محمد او لا لا يدل على سؤال الغائب ولا على شؤال المخلوق فيما لا يقدر عليه إلا الله بوجه من وجوه الدلالات ومن ادعى ذلك فهو مفتر على الله وعلى رسوله ﷺ لأنه إن كان سأل النبي ﷺ نفسه فهو لم يسأل منه إلا ما يقدر عليه وهو أن يدعو له وهذا لا إنكار فيه وإن كان توجه به من غير سؤال منه نفسه فهو لم يسأل منه وإنما سأل من الله به سواء كان متوجها بدعائه كما هو نص أول الحديث وهو الصحيح أو كان متوجها بذاته على قول ضعيف فإن التوجه بذوات المخلوقين والإقسام بهم على الله بدعة منكرة لم تأت عن النبي ﷺ ولا عن أحد من أصحابه والتابعين لهم بإحسان ولا الأئمة الأربعة ونحوهم من أئمة الدين قال أبو حنيفة لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به وقال أبو يوسف أكره بحق فلان
وبحق أنبيائك ورسلك وبحق البيت والمشعر الحرام وقال القدوري المسألة بحق المخلوق لا تجوز فلا يقول أسألك بفلان أو بملائكتك أو أنبيائك ونحو ذلك لأنه لا حق للمخلوق على الخالق واختاره العز بن عبدالسلام إلا في حق النبي ﷺ خاصة إن ثبت الحديث يشير إلى حديث الأعمى وقد تقدم أنه على تقدير ثبوته ليس فيه إلا أنه توسل بدعائه لابذاته وقد ورد في ذلك حديث رواه الحاكم في مستدركه فأبعد النجة من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه إلى العرش فقال أسألك بحق محمد إلا غفرت لي الحديث وهو حديث ضعيف بل موضوع لأنه مخالف للقرآن قال تعالى قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين فهذا هو الذي قاله آدم قال الذهبي في هذا الحديث أظنه موضوعا وعبدالرحمن بن زيد متفق على ضعفه قال ابن معين ليس حديثه بشيء الثالث أن قوله يا محمد إني أتوجه الخ لم تثبت في اكثر الروايات وبتقدير ثبوتها لا يدل على جواز دعاء غير الله لأن هذا خطاب لحاضر معين يراه ويسمع كلامه ولا إنكار في ذلك فإن الحي يطلب منه الدعاء كما يطلب منه ما يقدر عليه فأين هذا من دعاء الغائب والميت لو كان أهل البدع والشرك يعلمون واحتجوا ايضا بحديث رواه أبو يعلى وابن السني في عمل اليوم والليلة فقال ابن السني حدثنا أبو يعلى ثنا الحسن بن عمر وبن شقيق ثنا معروف بن حسان ثنا أبو معاذ السمرقندي عن سعيد عن قتادة عن أبي بردة عن أبيه عن عبدالله بن مسعود قال قال رسول الله ﷺ إذا انفلتت دابة أحدكم بأرض فليناد يا عباد الله احبسوا هكذا في كتاب ابن السني وفي الجامع الصغير فإن لله تعالى في الأرض
حاضرا سيحبسه عليكم والجواب أن هذا الحديث مداره على معروف ابن حسان وهو أبو معاذ السمرقندي فقوله في الأصل ثنا أبو معاذ السمرقندي خطأ أظنه من الناسخ قال ابن عدي منكر الحديث وقال الذهبي في الميزان قال ابن عدي منكر الحديث قد روى عن عمرو بن ذر نسخة طويلة كلها غير محفوظة وقال السيوطي حديث ضعيف وأقول بل هو باطل إذ كيف يكون عند سعيد عن قتاده ثم يغيب عن أصحاب سعيد الحفاظ الأثبات مثل يحيى القطان واسمعيل بن علية وأبي أسامة وخالد ابن الحارث وأبي خالد الأحمر وسفيان وشعبة وعبدالوارث وابن المبارك والأنصاري وغندر وابن أبي عدي ونحوهم حتى يأتي به هذا الشيخ المجهول المنكر الحديث فهذا من أقوى الأدلة على وضعه وبتقدير ثبوته لا دليل فيه لأن هذا من دعاء الحاضر فيما يقدر عليه كما قال فإن لله في الأرض حاضرا سيحبسه عليكم واحتجوا أيضا بحديث رواه الطبراني في المعجم الكبير فقال حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المصري ثنا أصبغ بن الفرج ثنا ابن وهب عن أبي سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المديني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته فلقي ابن حنيف فشكا إليه ذلك فقال له عثمان بن حنيف أئت الميضأة فتوضأ ثم أئت المسجد فصل فيه ركعتين ثم قل اللهم إني أسألك وأتوجه اليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك ليقضي لي حاجتي الحديث والجواب من وجوه الأول أن راوية طاهر بن عيسى ممن لا يعرف بالعدالة بل هو مجهول قال الذهبي طاهر بن عيسى بن قيرس أبو الحسين المصري المؤدب عن سعيد
ابن أبي مريم ويحيى بن بكير وأصبغ بن الفرج وعنه الطبراني توفي سنة اثنتين و تسعين ومائتين ولم يذكر فيه حرجا ولا تعديلا فهو إذا مجهول الحال لا يجوز الاحتجاج بخبره لا سيما فيما يخالف نصوص الكتاب والسنة الثاني قوله عن أبي سعيد المكي أشد جهالة من الأول فإن مشايخ ابن وهب المكيين معروفون كداود بن عبدالرحمن وزمعة بن صالح وابن عيينة وطلحة بن عمرو الحضرمي وابن جريج وعمر بن قيس ومسلم بن خالد الزنجي وليس فيهم من يكنى ابا سعيد فتبين أنه مجهول الثالث إن قلنا بتقدير ثبوته فليس فيه دليل على دعاء الميت والغائب غاية ما فيه أنه توجه به في دعائه فأين هذا من دعاء الميت فإن التوجه بالمخلوق سؤال به لا سؤال منه والكلام إنما هو في سؤال المخلوق نفسه ودعائه والاستغاثة به فيما لا يقدر عليه إلا الله وكل أحد يفرق بين سؤال الشخص وبين السؤال به فإنه في السؤال به قد أخلص الدعاء لله ولكن توجه على الله بذاته أو بدعائه وأما في سؤاله نفسه مالا يقدر عليه إلا الله فقد جعله شريكا لله في عبادة الدعاء فليس في حديث الأعمى وحديث ابن حنيف هذا إلا إخلاص الدعاء لله كما هو صريح فيه إلا قوله يا محمد إني أتوجه بك وهذا ليس فيه المخاطبة لميت فيما لا يقدر عليه إنما فيه مخاطبته مستحضرا له في ذهنه كما يقول المصلي السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته الرابع أنهم زعموا أنه دليل على دعاء كل غائب وميت من الصالحين فخرجوا عما فهموه من الحديث بفهمهم الفاسد الى أنه دليل على دعاء كل غائب وميت صالح ولا دليل فيه اصلا على دعاء الرسول ﷺ بعد موته ولا في حياته فيما لا يقدر عليه ثم لو كان فيه دليل على ذلك لم يكن فيه دليل على دعاء الغائب والميت مطلقا لأن هذا قياس مع وجود الفارق وهو باطل
الإجماع إذا ما ثبت للنبي ﷺ من الفضائل والكرامات لا يساويه فيه أحد فلا يجوز قياس غيره عليه وأيضا فالقياس إنما يجوز للحاجة ولا حاجة إلى قياس غيره عليه فبطل قياسهم بنفس مذهبهم هذا غاية ما احتجوا به مما هو موجود في بعض الكتب المعروفة وما سوى هذه الأحاديث الثلاثة فهو مما وضعوه بأنفسهم كقولهم إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور وقولهم لو حسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه قال ابن القيم وهو من وضع المشركين عباد الأوثان باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون ولا يستطيعون لهم نصرا الآية ش المراد من هذه الترجمة بيان حال المدعوين من دون الله أنهم لا ينفعون ولا يضرون وسواء في ذلك الملائكة والأنبياء والصالحون والأصنام فكل من دعي من دون الله فهذه حاله كما قال تعالى يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ويكفيك في ذلك قوله تعالى لأكرم الخلق قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته وقال قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا
ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا ومن المعلوم أنهم كانوا قد عبدوا الملائكة والأنبياء والصالحين ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن الملائكة أنه يتبرؤون منهم يوم القيامة كما قال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون إذا تبين ذلك فحاصل كلام المفسرين على الآية المترجم لها أن قوله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وهم يخلقون توبيخ وتعنيف للمشركين بأنهم يعبدون مع الله تعالى عبادا لا تخلق شيئا وليس فيها ما تستحق به العبادة من الخلق والرزق والنصر لأنفسهم أو لمن عبدهم وهم مع ذلك مخلوقون محدثون ولهم خالق خلقهم وإن خرج الكلام مخرج الاستفهام فالمراد به ما ذكرناه وقوله ولا يستطيعون لهم نصرا ولا أنفسهم ينصرون أي ويشركون به ويعبدون من هذه حاله لا يستطيع نصر عابديه ولا نصر نفسه بأن يدفع عن نفسه من أراد به الضر ومن هذه حاله فهو في غاية العجز فكيف يكون إلها معبودا وجميع الأنبياء والملائكة والصالحين وغيرهم داخلون في هذه الأوصاف فلا يقدر أحد منهم أن يخلق شيئا ولا يستطيعون لمن عبدهم نصرا ولا ينصرون أنفسهم وإذا كان كذلك بطلت دعوتهم من دون الله قال وقوله تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير الآية ش حاصل كلام المفسرين كابن كثير وغيره انه تعالى يخبر عن حال
المدعوين من دونه من الملائكة والأنبياء والأصنام وغيرها بما يدل على عجزهم وضعفهم وأنهم قد انتفت عنهم الشروط التي لا بد أن تكون في المدعو وهي الملك وسماع الدعاء والقدرة على استجابته فمتى عدم شرط بطل أن يكون مدعوا فكيف اذا عدمت كلها فنفى عنهم الملك بقوله ما يملكون من قطمير قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وعطاء والحسن وقتادة القطمير اللفافة التي تكون على نواة التمر أي ولا يملكون من السموات والأرض شيئا ولا بمقدار هذا القطمير كما قال ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السموات والأرض شيئا ولا يستطيعون وقال قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآية فمن كان هذا حاله فكيف يدعى من دون الله ونفى عنهم سماع الدعاء بقوله إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم يعني أن الآلهة التي تدعونها لا يسمعون دعاءكم لأنهم أموات أو ملائكة مشغولون بأحوالهم مسخرون لما خلقوا له أو جماد فلعل المشرك يقول هذا في الأصنام أما الملائكة والأنبياء والصالحون فيسمعون ويستجيبون فنفى سبحانه ذلك بقوله ولو سمعوا ما استجابوا لكم أي لا يقدرون على ما تطلبون منهم وما خص تعالى الأصنام بل عم جميع من يدعى من دونه ومن المعلوم أنهم كانوا يعبدون الملائكة والأنبياء والصالحين كما ذكر الله تعالى ذلك في كتابه فلم يرخص في دعاء أحد منهم لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة وقوله ويوم القيامة
يكفرون بشرككم كقوله واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وهذا نص صريح على ان من دعا غير الله فقد أشرك بشرطه وان المدعوين يكفرون به يوم القيامة ويتبرؤون منهم كقوله تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب فهل على كلام رب العزة استدراك ولهذا قال ولا ينبئك مثل خبير أي ولا يخبرك بعواقب الامور ومآلها وما تصير اليه مثل خبير بها قال قتادة يعني نفسه تبارك وتعالى فإنه أخبر بالواقع لا محالة قال وفي الصحيح عن أنس قال شج النبي ﷺ يوم أحد فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين فعلقه البخاري عن حميد وثابت عن أنس ووصله أحمد والترمذي والنسائي عن حميد عن أنس به ووصله مسلم عن ثابت عن أنس وقال ابن اسحق في المغازي حدثني حميد الطويل عن أنس قال كسرت رباعية النبي ﷺ يوم أحد وشج في وجهه فجعل الدم يسيل على وجهه وجعل يمسح الدم وهو يقول كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم وهو يدعوهم الى ربهم فأنزل الله الآية قوله شج النبي ﷺ قال أبو السعادات الشج في الرأس خاصة في الأصل وهو أن يضربه بشيء فيجرحه فيه ويشقه ثم استعمل في غيره من الأعضاء وذكر ابن هشام من حديث أبي سعيد الخدري أن عتبة بن أبي
وقاص هو الذي كسر رباعية النبي ﷺ السفلى وجرح شفته السفلى وأن عبدالله بن شهاب الزهري هو الذي شجه في جبهته وأن عبدالله بن قمئة جرحه في وجنته فدخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته وأن مالك بن سنان مص الدم من وجه رسول الله ﷺ ثم ازدرده فقال له لن تمسك النار وروى الطبراني من حديث أبي أمامة قال رمى عبدالله بن قمئة رسول الله ﷺ يوم أحد فشجه في وجهه وكسر رباعيته فقال خذها وأنا ابن قمئة فقال رسول الله ﷺ مالك أقمأك الله فسلط الله عليه تيس جبل فلم يزل ينطحه حتى قطعه قطعة قطعة قال القرطبي والرباعية بفتح الراء وتخفيف الياء وهي كل سن بعد ثنية قال النووي وللانسان أربع رباعيات قال الحافظ والمراد أنها كسرت فذهب منها فلقة ولم تقلع من أصلها قلت فظهر بهذا أن قول بعضهم إنه شج في رأسه فيه نظر قال النووي وفي هذا وقوع الاسقام والابتلاء بالانبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر والثواب ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم قال القرطبي وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات ويلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى وغيرهم قوله يوم أحد جبل معروف إلى الآن كانت عنده الواقعة المشهورة فأضيفت اليه قوله فقال كيف يفلح قوم شجوا نبيهم زاد مسلم من طريق ثابت عن أنس وكسروا رباعيته وأدموا وجهه
قوله فأنزل الله ليس لك من الامر شيء قال ابن عطية كان النبي ﷺ لحقه في تلك الحال يأس من فلاح كفار قريش فمالت نفسه إلى أن يستأصلهم الله ويريح منهم فقيل له بسبب ذلك ليس لك من الأمر شيء أي عواقب الأمور بيد الله فامض أنت لشأنك ودم على الدعاء لربك وقال غيره المعنى أن الله تعالى مالك أمرهم فإما أن يهلكهم أو يكبتهم أو يتوب عليهم إن أسلموا أو يعذبهم إن أصروا وليس لك من أمرهم شيء وإنما أنت عبد مأمور بانذارهم وجهادهم فعلى هذا يكون قوله ليس لك من الأمر شيء اعتراض المعطوف والمعطوف عليه وقال ابن اسحق أي ليس لك من الحكم بشيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم قال وفيه عن ابن عمر أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيره من الفجر اللهم العن فلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله ليس لك من شيء في رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام فنزلت ليس لك من الأمر شيء ش قوله وفيه أي في الصحيح والمراد به صحيح البخاري ورواه النسائي قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب صحابي جليل من عباد الصحابة شهد له رسول الله ﷺ بالصلاح مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي تليها قوله إنه سمع رسول الله ﷺ إلى آخره هذا القنوت على هؤلاء هو بعد ما شج وكسرت رباعيته يوم أحد قوله اللهم العن فلانا وفلانا قال أبو السعادات أصل اللعن
الطرد والابعاد من الله ومن الخلق السب و الدعاء قلت الظاهر أنه من الخلق طلب طرد الملعون وإبعاده من الله بلفظ اللعن لا مطلق السب والشتم قوله فلانا وفلانا يعني صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام كما بينه في الرواية التي بعدها وفيه جواز الدعاء على المشركين في الصلاة وتسمية المدعو عليهم ولهم بأسمائهم في الصلاة وأن ذلك لا يضر الصلاة قوله بعد ما يقول سمع الله لمن حمده قال أبو السعادات اي أجاب حمده وتقبله وقال السهيلي مفعول سمع محذوف لأن السمع متعلق بالأقوال والأصوات دون غيرها فاللام تؤذن بمعنى زائد وهو الاستجابة المقارنة للسمع فاجتمع في الكلمة الإيجاز والدلالة على الزائد وهو الاستجابة لمن حمده وقال ابن القيم رحمه الله تعالى ما معناه عدى سمع الله لمن حمده باللام لتضمنه معنى استجاب له ولا حذف هناك وإنما هو مضمن قوله ربنا ولك الحمد في بعض روايات البخاري باسقاط الواو قال النووي لا ترجيح لأحداهما على الأخرى وقال ابن دقيق العيد كأن إثباتها دال على معنى زائد لأنه يكون التقدير مثلا ربنا استجب ولك الحمد فيشتمل على معنى الدعاء ومعنى الخبر قال شيخ الاسلام والحمد ضد الذم والحمد يكون على محاسن المحمود مع المحبة له كما أن الذم يكون على مساوئه مع البغض له وكذا قال ابن القيم وفرق بينه وبين المدح بأن الاخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا عن حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد فالقائل إذا قال الحمد
لله او قال ربنا ولك الحمد تضمن كلامه الخبر عن كل ما يحمد عليه تعالى باسم جامع محيط متضمن لكل فرد من أفراد الجملة المحققة والمقدرة وذلك يستلزم إثبات كل كمال يحمد عليه الرب تعالى ولهذا لا تصلح هذه اللفظة على هذا الوجه ولا تنبغي إلا لمن هذا شأنه وهو الحميد المجيد وفيه التصريح بأن الإمام يجمع بين التسميع والتحميد وهو قول الشافعي وأحمد وأبي يوسف وخالف في ذلك مالك وأبو جنيفة فقالا يقتصر على قول سمع الله لمن حمده قوله وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام إنما دعا عليهم رسول الله ﷺ لأنهم رؤساء المشركين يوم أحد والسبب في تلك الأفاعيل التي جرت على سيد المرسلين ﷺ هم وابو سفيان ومع ذلك فما استجيب له فيهم بل أنزل الله عليه ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون فتاب الله عليهم وآمنوا مع أنهم فعلوا أشياء لم يفعلها أكثر الكفار منها غزوهم نبيهم ﷺ في بلاده وشجهم له وكسر رباعيته وقتلهم بني عمهم المؤمنين وقتلهم الأنصار والتمثيل بقتلى المسلمين وإعلانهم بشركهم وكفرهم ومع هذا كله لم يقدر النبي ﷺ أن يدفعهم عن نفسه ولا عن أصحابه كما قال تعالى قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل اني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته بل لجأ ﷺ الى ربه المالك القادر على النفع والضر وإهلاكهم ودعا عليهم ﷺ في الصلاة المكتوبة جهرا وخلفه سادات الأولياء يؤمنون على دعائه ومع هذا كله ما استجاب الله له فيهم بل تاب عليهم وآمنوا فلو كان عنده ﷺ من النفع والضر شيء لكان يفعل بهم ما يستحقونه على هذه الأفعال العظيمة ولكن الأمر كما قال تعالى هذا
بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب فأين هذا مما يعتقده عباد القبور في الأولياء والصالحين بل في الطواغيت الذين يسمونهم المجاذيب والفقراء أنهم ينفعون من دعاهم وينصرون من لاذ بحماهم ويدعونهم برا وبحرا في غيبتهم وحضرتهم قال وفيه عن أبي هريرة قال قام رسول الله ﷺ حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين قال يا معشر قريش أو كلمة نحوها اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئا يا عباس بن عبدالمطلب لا أغني عنك من الله شيئا يا صفية عمة رسول الله ﷺ لا إغني عنك من الله شيئا ويا فاطمة بنت محمد سليني من مالي ما شئتي لا أغني عنك من الله شيئا ش قوله وفيه أي في صحيح البخاري قوله عن أبي هريرة اختلف الحفاظ في اسمه على أكثر من ثلاثين قولا صحح النووي أن اسمه عبدالرحمن بن صخر كما رواه الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة قال كان اسمي في الجاهلية عبد شمس بن صخر فسميت في الاسلام عبد الرحمن وقال غيره اسمه عبدالله بن عمرو وقيل ابن عامر وقال ابن الكلبي اسمه عمير بن عامر ويقال كان اسمه في الجاهلية عبد شمس وكنيته أبو الأسود فسماه رسول الله ﷺ عبدالله وكناه أبا هريرة وروى الدولابي بإسناده عن أبي هريرة أن النبي ﷺ سماه عبدالله وهو دوسي من فضلاء الصحابة وحفاظهم وعلمائهم حفظ عن النبي ﷺ أكثر مما حفظه غيره وروي له في كتب السنة أكثر من خمسة آلاف حديث ومات سنة سبعة أو ثمان أو تسع وخمسين وهو ابن ثمان وسبعين سنة قوله قام رسول الله ﷺ في الصحيح من رواية ابن عباس صعد النبي
ﷺ على الصفا قوله حين أنزل الله عليه وأنذر عشيرتك الأقربين عشيرة الرجل هم بنو أبيه الأدنون أو قبيلته والأقربين أي الأقرب فالأقرب منهم لأنهم أحق الناس ببرك وإحسانك الديني والدنيوي كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا قو أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة الآية وقال النبي ﷺ لمن قال له من ابر قال أمك قال ثم من قال ثم أباك ثم أختك وأخاك ولأنه إذا قام عليهم في أمر الله كان أدعى لغيرهم إلى الانقياد والطاعة له ولئلا يأخذه ما يأخذ القريب للقريب من الرأفة والمحاباة فيحابيهم في الدعوة والتخويف ولذلك أمر بانذارهم خاصة وقد أمره الله أيضا بالنذارة العامة كما قال لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا وقال لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون ولا تنافي بينهما لأن النذارة الخاصة فرد من أفراد العامة قوله يا معشر قريش المعشر كمسكن الجماعة قوله أو كلمة نحوها هو بنصب كلمة على أنه معطوف على ما قبله أي أو قال كلمة نحو قوله يا معشر قريش أي بمعناها قوله اشتروا أنفسكم أي بتوحيد الله وإخلاص العبادة له وعدم الإشراك به وطاعته فيما أمر والانتهاء عما عنه زجر فإن جميع ذلك ثمن النجاة والخلاص من عذاب الله لا الاعتماد على الأنساب وترك الأسباب فإن ذلك غير نافع عند رب الأرباب ودفع بقوله لا أغني عنكم من الله شيئا ما عساه أن يتوهم بعضهم أنه يغني عنهم من الله شيئا
بشفاعته فإذا كان لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا ولا يدفع عن نفسه عذاب ربه لو عصاه كما قال تعالى قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم فكيف يملك لغيره نفعا أو ضرا أو يدفع عنه عذاب الله وأما شفاعته ﷺ في بعض العصاة فهو أمر من الله ابتداء فضلا عليه وعليهم لا أنه يشفع فيمن يشاء ويدخل الجنة من يشاء وفي صحيح البخاري بعد قوله لا أغني عنكم من الله شيئا يا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا فلعل المصنف اختصرها قوله يا عباس بن عبدالمطلب بنصب ابن و يجوز في عباس الرفع والنصب وكذا القول في قوله ويا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت محمد ﷺ قوله سليني من مالي ما شئت في رواية مسلم عن عائشة قالت لما نزلت وأنذر عشيرتك الأقربين قام رسول الله ﷺ فقال يا فاطمة بنت محمد يا صفية بنت عبد المطلب يا بني عبدالمطلب سلوني من مالي ما شئتم فبين ﷺ أنه لا ينجيهم من عذاب الله ولا يدخلهم الجنة ولا يقربهم إلى الله وإنما الذي يقرب إلى الله ويدخل الجنة وينجي من النار برحمة الله هو طاعة الله وأما ما يقدر عليه ﷺ من أمور الدنيا فلا يبخل بها عنهم كما قال سلوني مالي ما شئتم وكما قال ألا إن لكم رحما سأبلها ببلالها رواه أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر وهو عند مسلم في حديث آخر فإذا صرح وهو سيد المرسلين لأقاربه المؤمنين وغيرهم خصوصا سيدة نساء العالمين وعمه وعمته وآمن الانسان أنه لا يقول إلا الحق ثم نظر إلى ما وقع في قلوب كثير من الناس من الاعتقاد فيه وفي غيره من
الانبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون ويغنون من عذاب الله حتى يقول صاحب البردة ... فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ... تبين له التوحيد وعرف غربة الدين فأين هذا من قول صاحب البردة والبرعي وأضرابهما من المادحين له ﷺ بما هو يتبرأ منه ليلا ونهارا ويبين اختصاصه بالخالق تعالى وتقدس كما قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لا ستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون تالله لقد تاهت عقول تركت كلام ربها وكلام نبيها لوساوس صدرها وما ألقاه الشيطان في نفوسها ومن العجب أن اللعين كادهم مكيدة أدرك بها مأموله فأظهر لهم هذا الشرك في صورة محبته ﷺ وتعظيمه ومحبة الصالحين وتعظيمهم ولعمر الله ان تبرئتهم من هذا التعظيم والمحبة هوالتعظيم لهم والمحبة وهوالواجب المتعين وأظهر لهم التوحيد والإخلاص في صورة بغض النبي ﷺ وبغض الصالحين والتنقص بهم وما شعروا أنهم تنقصوا الخالق سبحانه وتعالى وبخسوه حقه وتنقصوا النبي ﷺ والصالحين بذلك أما تنقصهم للخالق تعالى فلأنهم جعلوا المخلوق العاجز مثل الرب القادر في القدرة على النفع والضر وأما بخسهم حقه تعالى فلأن العبادة بجميع أنواعها حق لله تعالى فإذا جعلوا شيئا منها لغيره فقد بخسوه حقه
وأما تنقصهم للنبي ﷺ وللصالحين فلأنهم ظنوا أنهم راضون منهم بذلك أو أمروهم به وحاشا لله أن يرضوا بذلك أو يأمروا به كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وفي الحديث من الفوائد غير ما تقدم جده ﷺ في هذا الأمر بحيث فعل ما نسب به إلى الجنون وكذلك لو يفعله مسلم الآن قاله المصنف وفيه دليل على الاجتهاد في الأعمال وترك البطالة والاعتماد على مجرد الانتساب إلى الأشخاص كما يفعله أهل الطيش والحمق ممن ينتسب إلى نبي أو صالح ونحو ذلك لأنه ﷺ إذا خاطب بنته وعمه وعمته وقرابته بهذا الخطاب كان تنبيها لذريتهم ونحوهم على ذلك لأنه إذا كان لا يغني عن هؤلاء شيئا كان ذريتهم أولى أن لا يغني عنهم من الله شيئا وقد قال تعالى لمن اكتفى بالانتساب إلى الأنبياء عن متابعتهم تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون وفيه أن أولى الناس برسول الله ﷺ هم أهل طاعته ومتابعته في محياه ومماته كما قال ﷺ ألا إن آل أبي يعني فلانا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين رواه مسلم وروى عبد بن حميد عن الحسن أن النبي ﷺ جمع أهل بيته قبل موته فقال ألا إن لي عملي ولكم عملكم ألا إني لا أغني عنكم من الله شيئا ألا إن أوليائي منكم المتقون ألا لا إعرفنكم يوم القيامة تأتون بالدنيا تحملونها على رقابكم ويأتي الناس يحملون الآخرة باب قول الله تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا
الحق وهو العلي الكبير ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة بيان حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم من عبد من دون الله فإذا كان هذا حالهم مع الله تعالى وهيبتهم منه وخشيتهم له فكيف يدعوهم أحد من دون الله وإذا كانوا لا يدعون مع الله تعالى لا استقلالا ولا وساطة بالشفاعة فغيرهم ممن لا يقدر على شيء من الأموات والأصنام أولى أن لا يدعى ولا يعبد ففيه الرد على جميع فرق المشركين الذين يدعون مع الله من لا يداني الملائكة ولا يساويهم في صفة من صفاتهم وقد قال تعالى فيهم وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون فهذه حالهم و صفاتهم وليس لهم من الربوبية والإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له وكذا قال في هذه الآية حتى إذا فزع عن قلوبهم أي زال الفزع عنها قاله ابن عباس وابن عمر وأبو عبدالرحمن السلمي والشعبي والحسن وغيرهم والضمير عائد على ما عادت عليه الضمائر التي للغيبة في قوله لا يملكون وفي أموالهم وماله منهم وحتى تدل على الغاية وليس في الكلام ما يدل على أن غاية له فقال ابن عطية في الكلام حذف يدل عليه الظاهر كأنه قال ولاهم شفعاء كما تزعمون أنتم بل هم عبدة مسلمون أبدا يعني منقادون حتى إذا فزع عن قلوبهم والمراد الملائكة على ما اختاره ابن جرير وغيره قال ابن كثير وهو الحق الذي لامرية فيه لصحة الأحاديث فيه والآثار وقال أبو حيان تظاهرت الأحاديث عن رسول الله ﷺ أن قوله
حتى إذا فزع عن قلوبهم إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي الى جبريل يأمر الله به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة قال وبهذا المعنى من ذكر الملائكة في صدر الآيات تتسق هذه الآية على الأولى ومن يشعر أن الملائكة مشار اليهم من أول قوله الذين زعمتم لم تتصل له هذه الآية بما قبلها وقال ابن كثير هذا مقام رفيع في العظمة وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السموات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي قاله ابن مسعود ومسروق وغيرهما وقوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق وذلك لأنهم إذا سمعوا كلام الله وصعقوا ثم أفاقوا أخذوا يتساءلون فيقولون ماذا قال ربكم فيقولون قال الحق قوله وهو العلي أي العالي فهو فوق كل شيء فهو تعالى على العرش الذي هو فوق السموات كما قال الرحمن على العرش استوى قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم ذلك حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير فيسمعها مسترق السمع ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض وصفه سفيان بكفه فحرفها وبدد بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري
قوله إذا قضى الله الأمر في السماء أي إذا تكلم الله بأمره الذي قضاه في السماء مما يكون كما روى سعيد بن مصنور وأبو داود وابن جرير عن ابن مسعود قال إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السماوات صلصلة كجر السلسلة على الصفوان وروى ابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس قال لما أوحى الجبار إلى محمد ﷺ دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي فلما كشف عن قلوبهم سألوا عما قال الله فقالوا الحق وعلموا أن الله لا يقول الا حقا قوله ضربت الملائكة بأجنحتها حضعانا لقوله أي لقول الله تعالى قال الحافظ خضعانا بفتحتين من الخضوع وفي رواية بضم أوله وسكون ثانيه وهو مصدر بمعنى خاضعين قوله كأنه سلسلة على صفوان أي كأن الصوت المسموع سلسلة على صفوان وهو الحجر الأملس قال الحافظ هو مثل قوله في بدء الوحي صلصلة كصلصلة الجرس وهو صوت الملك بالوحي وقد روى ابن مردويه من حديث ابن مسعود رفعه إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان الحديث قوله ينفذهم ذلك هو بفتح التحتية وسكون النون وضم الفاء والذال المعجمة ذلك أي القول والضمير في ينفذهم عائد على الملائكة اي ينفذ الله ذلك القول إلى الملائكة أي يلقيه أليهم وقيل وهو أظهر أي يخلص ذلك القول ويمضى في قلوب الملائكة حتى يفزعوا من ذلك كما في حديث النواس وفي حديث ابن عباس عن ابن مردويه من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عنه فلا ينزل على أهل سماء الا صعقوا وفي حديث ابن مسعود عند أبي داود وغيره مرفوعا إذا تلكم الله بالوحي سمع أهل السماء
الدنيا صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيصعقون فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل الحديث قوله حى إذا فزع عن قلوبهم أي أزيل عنها الخوف والغشي قوله قالوا ماذا قال ربكم أي قال الملائكة بعضهم لبعض ماذا قال ربكم قوله قالوا الحق أي قالوا قال الله الحق علموا أن الله لا يقول إلا حقا قوله فيسمعها مسترق السمع أي يسمع الكلمة التي قضاها الله مسترق السمع وهم الشياطين يركب بعضهم بعضا فيسمعون أصوات الملائكة بالأمر يقضيه الله كما قال تعالى وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين وفي صحيح البخاري عن عائشة مرفوعا إن الملائكة تنزل في العنان وهو السحاب فتذكر الأمر قضي في السماء فتسترق الشياطين السمع فتسمعه فتوحيه إلى الكهان فيكذبون معها مائة كذبة من عند أنفسهم وظاهر هذا أنهم لا يسمعون كلام الملائكة الذين في السماء الدنيا وإنما يسمعون كلام الملائكة الذين في السحاب قوله وصفه سفيان بكفه أي وصف ركوب بعضهم فوق بعض وسفيان هو بن عيينة أو محمد الهلالي الكوفي ثم المكي ثقة حافظ فقيه إمام حجة إلا أنه تغير حفظه بأخره وربما دلس لكن عن الثقات مات سنة ثمان وتسعين ومائة وله إحدى وتسعون سنة قوله فحرفها بحاء مهملة وراء مشددة وفاء
قوله وبدد أي فرق بين أصابعه قوله فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته أي يسمع المسترق الفوقاني الكلمة من الوحي فيلقيها إلى الشيطان الذي تحته ثم يلقيها الآخر من تحته حتى يلقيها على لسان الساحر والكاهن وحينئذ يقع الرجم قوله فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها الشهاب هو النجم الذي يرمى به أي ربما أدرك المسترق الشهاب إذا رمى به قبل أن يلقي الكلمة إلى من تحته وربما ألقاها المسترق قبل أن يدركه الشهاب وهذا يدل على أن الرجم بالنجوم كان قبل المبعث كما روى أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن معمر عن الزهري عن علي ابن حسين عن أبن عباس قال كان رسول الله ﷺ جالسا في نفر من اصحابه فرمى بنجم فاستنار فقال ما كنتم تقولون إذا كان هذا في الجاهلية قالوا كنا نقول يولد عظيم أو يموت عظيم قال فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلون حملة العرش فيقول الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ويخبر أهل كل سماء سماء حتى ينتهي الخبر الى هذه السماء وتخطف الجن السمع فيرمون فما جاؤوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يحرفونه ويزيدون فيه قال معمر قلت للزهري أكان يرمى بها في الجاهلية قال نعم قال أرأيت وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا قال غلظت وشدد أمرها حين بعث رسول الله ﷺ وفيه الرد على المنجمين الذين ينسبون الخير والشر والاعطاء والمنع إلى الكواكب بحسب السعود منها والنحوس وعلى حسب كونها في البروج الموافقة أو المنافرة ونحو ذلك لما في الرمي بها من الدلالة على تسخيرها
لما خلقت له كما قال تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره الا له الخلق والامر تبارك الله رب العالمين قوله فيكذب معها مائة كذبة أي يكذب الكاهن أو الساحر مع الكلمة التي ألقاها إليه وليه من الشياطين مائة كذبة بفتح الكاف وسكون الذال المعجمة أو يكذب الشيطان مع الكلمة التي استرقها مائة كذبة ويخبر بالجميع وليه من الانس فما جاؤوا به على وجهه فهو صدق وما خلط فيه فهو كذب ومع هذا فيفتتن الانس بالانس الساحر والكاهن ويفتتنان بوليهما من الشياطين ويقبلون ما جاؤوا به من الصدق والكذب لكونهم قد يصدقون فيما يأتون به من خبر السماء قوله فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا كذا هكذا بيض المصنف في هذا الموضع ولفظ الحديث في الصحيح فيقال أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا هكذا والمعنى أن الذين يأتون الكهان يصدقونهم في كذبهم ويستدلون على ذلك بكونهم يصدقون بعض الأحيان فيما سمعوه من الوحي ويذكرون أنه أخبرهم بشيء مرة فوجدوه حقا وتلك الكلمة من الحق كما في الصحيح عن عائشة قلت يا رسول الله إن الكهان كانوا يحدثونا بالشيء فنجده حقا قال تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة وفيه قبول النفوس للباطل كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمائة كذبة ذكره المصنف وفيه أن الشيء اذا كان فيه نوع من الحق لا يدل على أنه حق كله بل لا يدل على إباحته كما في الكهانة والسحر والتنجيم قوله فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من المساء أي يستدلون على صدقها
قال وعن النواس بن سمعان قال قال رسول الله ﷺ إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي أخذت السموات منه رجفة أو قال رعدة شديدة خوفا من الله تعالى فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا فيكون أول من يرفع رأسه جبريل فيكلمه الله من وحيه بما أراد ثم يمر جبريل على الملائكة كلما مر بسماء يسأله ملائكته ماذا قال ربنا يا جبريل فيقول جبريل قال الحق وهو العلي الكبير قال فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى ش قوله عن النواس بن سمعان بكسر السين أي ابن خالد الكلابي ويقال الأنصاري صحابي ويقال إن أباه صحابي أيضا قال أبو حاتم الرازي سكن الشام قوله إذا أراد الله أن يوحي بالأمر الخ هذا والله أعلم في جميع الأمور التي يقضيها الرب تبارك وتعالى كما يدل عليه عموم اللفظ ويدل على ذلك أيضا حديث أبي هريرة الذي تقدم وغيره من الأحاديث المتقدمة قوله أخذت السموات منه رجفة هو برفع رجفة على أنه فاعل أي أصاب السموات منه رجفة أي ارتجفت كما روى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال إذا قضى الله أمرا تكلم تبارك وتعالى رجفت السموات والأرض والجبال وخرت الملائكة كلهم سجدا قوله أو قال رعدة شديدة يعني أن الراوي شك هل قال النبي ﷺ رجفة أو قال رعدة وهو بفتح الراء بمعنى الأول قوله خوفا من الله تعالى لا ينكر أن السموات والأرض ترجف وترتعد خوفا من الله تعالى فقد قال تعالى تسبح له السموات السبع
والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا وقال تعالى فقال لها وللأرض أتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين وقال تعالى تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا وقال تعالى وإن من الحجارة لما يتفجر منه الانهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون وفي البخاري عن ابن مسعود قال كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل وفي حديث أبي ذر أن النبي ﷺ أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان وهو حديث مشهور في المسانيد وكذلك في الصحيح قصة حنين الجذع الذي كان يخطب عليه النبي ﷺ قبل اتخاذ المنبر ومثل هذا كثير قوله صعقوا وخروا لله سجدا أي يقع منهم الأمران الصعق وهو الغشي والسجود والله أعلم أيهما قبل الآخر فإن الواو لا تقتضي ترتيبا قوله فيكون أول من يرفع رأسه جبريل معنى جبريل عبدالله كما روى ابن جرير وأبو الشيخ الأصبهاني عن علي بن حسين قال اسم جبريل عبدالله واسم ميكائيل عبيدالله واسرافيل عبدالرحمن وكل شيء راجع الى إيل فهو معبد لله تعالى وفيه دليل على فضيلة جبريل عليه السلام كما قال تعالى إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين قال أبو صالح في قوله عند ذي العرش مكين قال جبريل يدخل في سعبن حجابا من نور بغير إذن وقد ورد في صفة جبريل أحاديث صحيحة منها ما رواه أحمد
باسناد صصحيح عن عبدالله بن مسعود قال رأى رسول الله ﷺ جبريل في صورته وله ستمائة جناح كل جناح منها قد سد الأفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت والله به عليم قوله ثم يمر جبريل على الملائكة إلى آخره معناه ظاهر فإذا كان هذا حال الملائكة الذين هم أقوى وأعظم ممن عبد من دون الله وشدة خشيتهم من الله وهيبتهم له مع ما أعطاهم الله من القوة العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ومع هذا فقد نفى عنهم الشفاعة بغير إذنه كما قال وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى وأخبر أنهم لا يملكون كشف الضر عمن دعاهم ولا تحويله فقال قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا وفي ضمن ذلك النهي عن دعائهم وعبادتهم الشفاعة أو غيرها كما قال تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا فكيف يدعوهم المشرك ويظن أنهم يشفعون له عند الله كما يشفع الوزراء عند الملوك وإذا بطلت دعوتهم مع أنهم أحياء ناطقون مقربون عند الله فدعاء غيرهم من الأموات الذين لا يستطيعون سمعا ولا يملكون ضرا ولا نفعا أولى بالبطلان إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين وقال والذين تدعون من دون الله لا يخلقون شيئا وهم يخلقون أموات غير أحياء وما يشعرون أيان يبعثون إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرةر وهم مستكبرون
قوله ثم ينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى قد بيض المصنف رحمه الله بعد هذا ولعله أراد أن يكتب تمام الحديث ومن رواه وتمامه إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض ورواه ابن جرير وابن خزيمة وابن أبي حاتم والطبراني وفي الحديث من الفوائد إثبات الكلام خلافا للجهمية وإثبات الصوت خلافا لهم وللأشاعرة باب الشفاعة لما كان المشركون في قديم الزمان وحديثه إنما وقعوا في الشرك لتعلقهم بأذيال الشفاعة كما قال تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله وقال تعالى والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى وكذلك قطع الله أطماع المشركين منها وأخبر أنه شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للخلق من دونه ولي أو شفيع كما قال تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون أراد المصنف في هذا الباب إقامة الحجج على أن ذلك هو عين الشرك وأن الشفاعة التي يظنها من دعا غير الله ليشفع له كما يشفع الوزير عند الملك منتفيه دنيا وأخرى وإنما الله هو الذي يأذن للشافع ابتداء لا يشفع ابتداء
كما يظنه أعداء الله فإن قلت اذا كان من اتخذ شفيعا عند الله إنما قصده تعظيم الرب تعالى وتقدس أن يتوصل اليه بالشفعاء فلما كان هذا القدر شركا قيل قصده للتعظيم لا يدل على أن ذلك تعظيم لله تعالى فكم من يقصد التعظيم لشخص ينقصه بتعظيمه ولهذا قيل في المثل المشهور يضر الصديق الجاهل ولا يضر العدو العاقل فإن اتخاذ الشفعاء والأنداد من دون الله هضم لحق الربوبية وتنقص للعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين كما قال تعالى ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية فإنهم ظنوا به ظن السوء حتى أشركوا به ولو أحسنوا به الظن لوحدوه حق توحيده ولهذا أخبر سبحانه وتعالى عن المشركين إنهم ما قدروه حق قدره وكيف يقدره حق قدره من اتخذ من دونه ندا أو شفيعا يحبه ويخافه ويرجوه ويذل له ويخضع له ويهرب من سخطه ويؤثر مرضاته ويدعوه ويذبح له وينذر وهذه هي التسوية التي أثبتها المشركون بين الله وبين آلهتهم وعرفوا وهم في النار أنها كانت باطلا وضلالا فيقولون وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين ومعلوم أنهم ما ساووهم به في الذات والصفات والأفعال ولا قالوا إن آلهتكم خلقت السموات والأرض وانها تحيي وتميت و إنما ساووهم به في المحبة والتعظيم والعبادة كما ترى عليه أهل الإشراك ممن ينتسب إلى الإسلام وإنما كان ذلك هضما لحق الربوبيه وتنقصا لعظمة الإلهية وسوء ظن برب العالمين لأن المتخذ للشفعاء والأنداد إما أن يظن أن الله سبحانه يحتاج إلى من يدبر أمر العالم معه من وزير أو ظهير أو معين وهذا أعظم التنقص لمن هو
غني عن كل ما سواه بذاته وكل ما سواه فقير إليه بذاته وإما أن يظن أن الله سبحانه إنما تتم قدرته بقدرة الشفيع وإما أن يظن أنه لا يعلم حتى يعلمه الشفيع أو لا يرحم حتى يجعله الشفيع يرحم أو لا يكفي وحده أو لا يفعل ما يريد العبد حتى يشفع عنده كما يشفع عند المخلوق أولا يجيب دعاء عباده حتى يسألوا الشفيع أن يرفع حاجتهم إليه كما هو حال ملوك الدنيا وهذا أصل شرك الخلق أو يظن أنه لا يسمع حتى يرفع الشفيع إليه ذلك أو يظن أن للشفيع عليه حقا فهو يقسم عليه بحقه ويتوسل إليه بذلك الشفيع كما يتوسل الناس إلى الأكابر والملوك بمن يعز عليهم ولا تمكنهم مخالفته وكل هذا تنقص للربوبية وهضم لحقها ذكر معناه ابن القيم فلهذه الأمور وغيرها أخبر سبحانه وتعالى أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه فقال ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون فإن قلت إنما حكم سبحانه وتعالى بالشرك على من عبد الشفعاء أما من دعاهم للشفاعة فقط فهو لم يعبدهم فلا يكون ذلك شركا قيل مجرد اتخاذ الشفعاء ملزوم للشرك والشرك لازم له كما أن الشرك ملزوم لتنقص الرب سبحانه وتعالى والتنقص لازم له ضرورة شاء المشرك أم أبى وعلى هذا فالسؤال باطل من أصله لا وجود له في الخارج وإنما هو شيء قدره المشركون في أذهانهم فإن الدعاء عبادة بل هو مخ العبادة فإذا دعاهم للشفاعة فقد عبدهم وأشرك في عبادة الله شاء أم أبى قال وقول الله تعالى وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع
ش الإنذار هو الاعلام بموضع المخافة وقوله به قال ابن عباس بالقرآن وقوله الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم أي أنذر يا محمد بالقرآن الذي هم من خشية ربهم مشفقون الذين يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب وهم المؤمنون كما روي ذلك عن ابن عباس والسدي وعن الفضيل بن عياض ليس كل خلقه عاتب إنما عاتب الذين يعقلون فقال وأنذر به الذين يخافون أن يحشرون إلى ربهم أي وهم المؤمنون أصحاب القلوب الواعية فإنهم المقصودون والمنظور اليهم لا أصحاب التجمل والسيادة فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم وقوله ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع قال الزجاج موضع ليس نصب على الحال كأنه قال متخلين من ولي وشفيع والعامل فيه يخافون وقال ابن كثير ليس لهم من دونه يؤمئذ ولي ولا شفيع من عذابه إن أرادهم به لعلهم يتقون فيعلمون في هذه الدار عملا ينجيهم الله به من عذابه يوم القيامة قلت فنفى سبحانه وتعالى عن المؤمنين أن يكون لهم ولي أو شفيع من دون الله كما هو دين المشركين فمن اتخذ من دون الله شفيعا فليس من المؤمنين ولا تحصل له الشفاعة وليس في الآية دليل على نفي الشفاعة لأهل الكبائر باذن الله كما ادعته المعتزلة بل فيها دليل على نفي اتخاذ الشفعاء من المؤمنين وعلى نفيها بغير إذن الله ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع كما قال ما من شفيع إلا من بعد إذنه ذلكم الله ربكم فاعبدوه أفلا تذكرون قال وقوله قل لله الشفاعة جميعا
ش هكذا أوردها المصنف ونتكلم عليها وعلى الآية التي قبلها ليتضح المعنى قال الله تعالى أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم اليه ترجعون فقوله أم اتخذوا أي بل اتخذوا اي المشركون والهمزة للانكار من دون الله شفعاء أي أتشفع لهم عند الله بزعمهم كما قال ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله الآية وقال والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ان الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون ان الله لا يهدي من هو كاذب كفار فكذبهم وكفرهم بذلك وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون فهذا هو مقصود المشركين ممن عبدوهم وهو الشفاعة لهم عند الله قوله من دون الله أي من دون إذنه وأمره والحال أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه وأن يكون المشفوع له مرتضى وههنا الشرطان مفقودان فإن الله سبحانه لم يجعل اتخاذ الشفعاء ودعاءهم من دونه سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لمنعه وغضبه قوله قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون أي أيشفعون ولو كانوا على هذه الصفة كما تشاهدونهم جمادات لا تقدر ولا تعلم أو أموات كذلك حتى ولا يملكون الشفاعة كما قال قل لله الشفاعة
جميعا أي هو مالكها كلها فليس لمن تدعونهم منها شيء قال البيضاوي لعله رد لما عسى يجيبون به وهو أن الشفعاء أشخاص مقربون هي تماثيلهم والمعنى أنه مالك الشفاعة كلها لا يستطيع أحد شفاعة إلا بإذنه ولا يستقل بها وقوله له ملك السموات والارض تفرير لبطلان اتخاذ الشفعاء من دونه بانه مالك الملك كله لا يملك أحد أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه فاندرج في ذلك ملك الشفاعة فإذا كان هو مالكها بطل اتخاذ الشفعاء من دونه كائن من كان وقوله ثم اليه ترجعون أي فتعلمون أنهم لا يشفعون ويخيب سعيكم في عبادتهم بل يكونون عليكم ضدا ويتبرؤون من عبادتكم كما قال تعالى كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقال تعالى ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم وقال شركاؤهم ما كنتم ايانا تعبدون فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم ان كنا عن عبادتكم لغافلين قال وقوله من ذا الذي يشفع عنده إلا باذنه في هذه الآية رد على المشركين الذين اتخذوا الشفعاء من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام المصورة على صور الصالحين وغيرهم وظنوا أنهم يشفعون عنده بغير إذنه فأنكر ذلك عليهم وبين عظيم ملكوته وكبريائه وأن أحدا لا يتمالك أن يتكلم يوم القيامة إلا إذا أذن له في الكلام كقوله لا يتكلمون
إلا لمن أذن له الرحمن وقوله يوم يأت لا تكلم نفس إلا بأذنه قال ابن جرير في هذه الآية نزلت لما قال الكفار ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفي فقال الله تعالى له ما في السموات وما في الأرض وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهم الأنبياء والعلماء وغيرهم والاذن راجع الى الأمر فيما نص عليه كمحمد ﷺ اذا قيل له اشفع تشفع وكذلك قاله غير واحد من المفسرين قال وقوله وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن ياذن الله لمن يشاء ويرضى ش قال أبو حيان كم خبرية ومعناها التكثير وهي في موضع رفع بالابتداء والخبر لا تغني والغناء جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغني وكم لفظها مفرد ومعناها جمع وإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله وررضاه أن يرضاه أهلا للشفاعة فكيف تشفع الاصنام لمن عبدها قلت في هذه الآيات من الرد على من عبد الملائكة والصالحين لشفاعة أو غيرها مالا يخفى لأنهم إذا كلوا لا يشفعون إلا بإذن من الله ابتداء فلأي معنى يدعون ويعبدون وأيضا فإن الله لا يأذن إلا لمن ارتضى قوله وعمله وهو الموحد لا المشرك كما قال يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا والله لا يرتضي الا التوحيد كما قال ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين وقال النبي ﷺ أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فلم يقل أسعد الناس بشفاعتي من
دعاني فإن قال المشرك أنا أعلم أنهم لا يشفعون إلا بإذنه لكن أدعوهم ليأذن الله لهم في الشفاعة لي قيل فإن الله لم يجعل الشرك به ودعاء غيره سببا لإذنه ورضاه بل ذلك سبب لغضبه ولهذا نهى عن دعاء غيره في غير آية كقوله ولا تدع من دون الله مالا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فانك إذا من الظالمين فتبين أن دعاء الصالحين من الملائكة والأنبياء وغيرهم شرك كما كان المشركون الأولون يدعونهم ليشفعوا لهم عند الله فأنكرالله عليهم ذلك وأخبر أنه لا يرضاه ولا يأمر به كما قال تعالى ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون وقال تعالى إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب الآية قال ابن كثير تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدنيا فتقول الملائكة تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا الآية روى سعيد ابن منصور والبخاري والنسائي وابن جرير عن ابن مسعود في الآية كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن فأسلم نفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فأنزل الله أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة كلاهما بالياء وروى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية
لكان أهل الشرك يعبدون الملائكة والمسيح وعزيرا وفي رواية عنه عندهما في قوله فلا يملكون كشف الضر عنكم قال عيسى وأمه وعزير وقال تعالى إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون إلى قوله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى الآية قال ابن اسحق لما ذكر قصة ابن الزبعرى ومخاصمته لرسول الله ﷺ عند نزول هذه الآية قال وأنزل الله إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون الآيتين أي عيسى وعزير ومن عبد من الأحبار والرهبان الذين مضوا على أمر الله فاتخذهم من يعبدهم من أهل الضلالة أربابا من دون الله وقال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان الآيات وروى ابن أبي حاتم عن الزهري قال نزلت سورة النجم وكان المشركون يقولون لو كان هذا الرجل يذكر آلهتنا بخير أقررناه وأصحابه ولكنه لا يذكر من خالف دينه من اليهود والنصارى بمثل الذي يذكر آلهتنا من السب والشتم والشر وكان رسول الله ﷺ قد اشتد عليه ما نال أصحابه من أذاهم وتكذيبهم واحزنه ضلالتهم فكان يتمنى هداهم فلما أنزل الله سورة النجم قال أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الاخرى ألقى الشيطان عندها كلمات حين ذكر الطواغيت فقال تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى وكان ذلك من سجع الشيطان وفتنته فوقعت هاتان الكلمتان في قلب كل مشرك بمكة وذلت بها ألسنتهم وتباشروا بها وقالوا إن محمدا
قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه فلما بلغ رسول الله ﷺ آخر النجم سجد وسجد كل من حضر من مسلم ومشرك ففشت تلك الكلمة في الناس وأظهرها الشيطان حتى بلغت أرض الحبشة فأنزل الله وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته الآيات فلما بين الله قضاءه وبرأه من سجع الشيطان انقلب المشركون بعداوتهم وضلالتهم للمسلمين واشتدوا عليه وهي قصة مشهورة صحيحة رويت عن ابن عباس من طرق بعضها صحيح ورويت عن جماعة من التابعين بأسانيد صحيحة منهم عروة وسعيد بن جبير وأبو العالية وأبو بكر بن عبدالرحمن وعكرمة والضحاك وقتادة ومحمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس والسدي وغيرهم وذكرها أيضا أهل السير وغيرهم وأصلها في الصحيحين والمقصود منها قوله تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى فإن الغرانيق هي الملائكة على قول وعلى آخر هي الأصنام ولا تنافي بينهما فإن المقصود بعبادتهم الأصنام الملائكة والصالحين كما تقدم عن البيضاوي فلما سمع المشركون هذا الكلام المقتضى لجواز عبادة الملائكة رجاء شفاعتهم عند الله ظنوا أن رسول الله ﷺ قاله فرضوا عنه وسجدوا معه وحكموا بأنه قد وافقهم على دينهم من دعاء الملائكة والأصنام للشفاعة حتى طارت الكلمة كل مطار وبلغ المهاجرين إلى الحبشة أنهم صالحوا رسول الله ﷺ فعرفت أن الفارق بينهم وبين رسول الله ﷺ هي مسألة الشفاعة لأنهم يقولون نريد من الملائكة والأصنام المصورة على صورهم بزعمهم أن يشفعوا لنا عند الله والرسول ﷺ قد
أتاهم بإبطال ذلك والنهي عنه وتكفير من دان به وتضليلهم وتسفيه عقولهم ولم يرخص لهم في سؤال الشفاعة من الملائكة ولا من الأنبياء ولا الأصنام بل أتاهم بقوله تعالى قل لله الشفاعة جميعا وقوله أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وهذا كثير جدا لمن تتبعه والمقصود أن المشركين الأولين يدعون الملائكة والصالحين ليشفعوا لهم عند الله كما تشهد به نصوص القرآن وكتب التفسير والسير والآثار طافحة بذلك ويكفي العاقل المنصف قوله تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون قال وقوله قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض الآيتين ش هذه الآية هي التي قال فيها بعض العلماء إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب لمن عقلها قال ابن القيم في الكلام عليها وقد قطع الله الأسباب التي يتعلق بها المشركون جميعها قطعا يعلم من تأمله وعرفه أن من اتخذ من دون الله وليا فمثله كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت فالمشرك إنما يتخذ معبدوه لما يحصل له به من النفع والنفع لا يكون إلا ممن يكون فيه خصلة من هذه الأربع إما مالك لما يريد عابده منه فإن لم يكن مالكا كان
شريكا للمالك فإن لم يكن شريكا له كان معينا له وظهيرا فإن لم يكن معينا ولا ظهيرا كان شفيعا عنده فنفى سبحانه المراتب الأربع نفيا مرتبا منتقلا من الأعلى إلى ما دونه فنفى الملك والشركة والمظاهرة والشفاعة التي يطلبها المشرك وأثبت شفاعة لا نصيب فيها لمشرك وهي الشفاعة بإذنه قال فهو الذي يأذن للشافع وإن لم يأذن له لم يتقدم في الشفاعة بين يديه كما يكون في حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها وأما كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه فكفى بهذه الآية نورا وبرهانا ونجاة وتجريدا للتوحيد وقطعا لأصول الشرك ومواده لمن عقلها والقرآن مملوء من أمثالها ونظائرها ولكن أكثر الناس لا يشعرون بدخول الواقع تحته وتضمنه له ويظنه في نوع وقوم قد خلوا من قبل ولم يعقبوا وارثا وهذا الذي يحول بين القلب وبين فهم القرآن ولعمر الله إن كان أولئك قد خلوا فقد ورثهم من هو مثلهم وشر منهم ودونهم وتناول القرآن لهم كتناوله لأولئك ولكن الأمر كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية وهذا لأنه إذا لم يعرف الجاهلية والشرك وما دعا به القرآن وذمه وقع فيه وأقره ودعا إليه وصوبه وحسنه وهو لا يعرف أنه الذي كان عليه الجاهلية أو نظيره أو شر منه أو دونه فتنتقض بذلك عرى الإسلام ويعود المعروف منكرا والمنكر معروفا والبدعة سنة والسنة بدعة ويكفر الرجل بمحض الإيمان و تجريد التوحيد ويبدع بتجريد متابعة الرسول ﷺ ومفارقة الأهواء والبدع ومن له بصيرة وقلب حي يرى ذلك عيانا فالله المستعان وقال
الله تعالى حاكيا عن أسلاف هؤلاء المشركين والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار فهذه حال من اتخذ من دون الله وليا يزعم أنه يقربه إلى الله تعالى وما أعز من يخلص من هذا بل ما اعز من يعادي من أنكره والذي في قلوب هؤلاء المشركين وسلفهم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله وهذا عين الشرك وقد أنكره الله عليهم في كتابه وأبطله وأخبر أن الشفاعة كلها له وأنه لا يشفع عنده أحد إلا لمن أذن الله تعالى أن يشفع له فيه ورضي قوله وعمله وهم أهل التوحيد الذين لم يتخذوا من دون الله شفعاء فإنه سبحانه وتعالى يأذن في الشفاعة فيهم لمن يشاء حيث لم يتخذوهم شفعاء من دونه فيكون أسعد الناس بشفاعته من يأذن الله تعالى له صاحب التوحيد الذي لم يتخذ شفيعا من دون الله والشفاعة التي أثبتها الله تعالى ورسوله ﷺ هي الشفاعة الصادرة عن إذنه لمن وحده والتي نفاها الله تعالى هي الشفاعة الشركية التي في قلوب المشركين المتخذين من دون الله شفعاء فيعاملون بنقيض مقصودهم من شفاعتهم ويفوز بها الموحدون انتهى ولكن تأمل الآية كيف أمرهم تعالى بدعاء الملائكة أمر تعجيز والمراد بيان أنهم لا يملكون شيئا فلا يدعون لا لشفاعة ولا غيرها ثم أخبر أنهم هم الذين اتخذوهم بزعمهم شفعاء فنسبه إلى زعمهم وإفكهم الذي ابتدعوه من غير برهان ولا حجة من الله وهذه الآية نزلت في دعوة الملائكة ودخول غيرهم فيها من باب الأولى كما روى ابن أبي حاتم عن السدي في قوله وما له منهم من ظهير يقول من عون من الملائكة وكما يدل عليه قوله تعالى حتى
إذا فزع عن قلوبهم كما تقدم فإذا كان اتخاذ الملائكة شفعاء من دون الله شركا فكيف باتخاذ الأموات كما يفعله عباد القبور أم كيف باتخاذ الفجار والفساق إخوان الشياطين من المجاذيب الذين جذبهم إبليس إلى جانبه وطاعته شفعاء وأعظم من ذلك اعتقاد الربوبية في هؤلاء الملاعين مع ما يشاهده الناس منهم من الفجور وأنواع الفسوق وترك الصلوات وفعل المنكرات والمشي في الأسواق عراة كما قال بعض المتأخرين ... كقوم عراة في ذرى مصر ما ... على عورة منهم هناك ثياب ... ... يدورون فيها كاشفين لعورة ... تواتر هذا لا يقال كذاب ... يعدونهم في مصر هم فضلاءهم ... دعاؤهم فيما يرون مجاب ... ومن العجب أنهم لم يأتوا بشيء يدل على كون هؤلاء الشياطين من جملة المسلمين فضلا عن كونهم أولياء فضلا عن كونهم يدعون ويستغاث بهم إلا بشيء من المخاريق والسحر والشعبذة يدعون أن لهم كرامات وأنهم أولياء لما ليظهرونه من المخاريق واعلم أن الضلال والكفر إنما استولى على أكثر المتأخرين بسبب نبذهم كتاب الله وراء ظهورهم وإحسان الظن بمن سحرهم ودعا إلى نفسه واقتصارهم على القوانين والدعاوي والأوضاع التي وضعوها لأنفسهم وإلا فلو قرؤوا كتاب الله وعلموا بما فيه ورجعوا عند الاختلاف إليه لوجدوا فيه الهدى والشفاء والنور ولكن نبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون وتقدم الكلام على بقية الآية
قال المؤلف قال أبو العباس نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن وأخبر النبي ﷺ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا ثم يقال له ارفع رأسك وقل يسمع واسأل تعط واشفع تشفع وقال له أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك قال من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه فقتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله ولاتكون لمن أشرك بالله وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وقد بين النبي ﷺ أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص انتهى كلامه ش قوله قال أبو العباس هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبدالسلام بن تيمية الإمام المشهور صاحب المصنفات شهرته وإمامته في علوم الإسلام وتفننه تغني عن الإطناب في وصفه قال الذهبي لم يأت قبله بخمس مائة سنة مثله وفي رواية بأبع مائة وقال أيضا لو حلفت بين الركن والمقام لحلفت أني لم أر مثله وما رأى بعينيه مثل نفسه رحمه الله وقال ابن دقيق العيد لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلا كل العلوم بين عينيه يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء وبالجملة فما أتى بعد عصر الإمام أحمد له نظير وكانت وفاته سنة ثمان وعشرين وسبع مئة
قوله نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون أي ان الله تعالى نفى في الآية المذكورة قبل ما يتعلق به المشركون من الاعتقاد في غير الله من الملك والشركة فيه والمعاونة والشفاعة فهذه الأمور الأربعة هي التي يتعلق بها المشركون قوله فنفى أن يكون لغيره ملك وذلك في قوله تعالى لا يملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ومن لا يملك هذا المقدار فليس بأهل أن يدعى قوله أو قسط منه أي من الملك والقسط بكسر القاف هو النصيب من الشيء وذلك في قوله وما لهم فيهما من شرك أي ما لمن تدعون من الملائكة وغيرهم فها أي في السموات والأرض من شرك ومن ليس بمالك ولا شريك للمالك فكيف يدعى من دون الله قوله أو أن يكون عونا لله وذلك في قوله وما لهم منهم من ظهير أي ما لله من تدعونهم عوين قوله ولم يبق إلا الشفاعة فتبين أنها لا تنفع إلا لمن أدن له الرب الخ جملة الشروط التي لا بد وان يكون أحدها في المدعو أربعة حتى يقدر على إجابة من دعاه الاول الملك فنفاه بقوله لايملكون مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض
الثاني إذا لم يكن مالكا فيكون شريكا للمالك فنفاه بقوله وما لهم فيهما من شرك الثالث إذا لم يكن مالكا ولا شريكا للمالك فيكون عونا ووزيرا فنفاه بقوله وما له منهم من ظهير الرابع إذا لم يكن مالكا ولا شريكا ولا عوينا فيكون شفيعا فنفى سبحانه وتعالى الشفاعة عنده إلا بإذنه فهو الذي يأذن للشافع ابتداء فيشفع فبنفي هذه الأمور بطلت دعوة غير الله إذ ليس عند غيره من النفع والضر ما يوجب قصده بشيء من العبادة كما قال تعالى واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولاحياة ولا نشورا وقال تعالى واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون وقال تعالى ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا قوله فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن يعني أن الشفاعة التي يطلبها المشركون من الشفعاء والأنبياء من دون الله منتفية دنيا وأخرى كما قال تعالى عن مؤمن يس أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين وقال تعالى عن مؤمن آل فرعون
لاجرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وقال تعالى فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون وقال تعالى فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب وقال تعالى ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتكم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون فهذه حال كل من دعي من دون الله لشفاعة أو غيرها في الدنيا والآخرة قوله وأخبر النبي ﷺ أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولا إلى آخره هذا ثابت في الصحيحين وغيرهما من حديث أنس وغيره عنه ﷺ في حديث الشفاعة قال فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين حتى أستأذن على ربي فإذا رأيته وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم قال ارفع محمد قل يسمع واشفع تشفع وسل تعطه فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود اليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثم يقول ارفع محمد قل يسمع فتعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الثالثة فإذا رأيت ربي وقعت له أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله
الله أن يدعين ثم يقال ارفع محمد قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع فأرفع راسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثم أعود الرابعة فأقول يا رب ما بقي إلا من حبسه القرآن الحديث فبين ﷺ أنه لا يشفع إلا بعد الإذن في الشفاعة وفي المشفوع فيهم كما قال فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة قوله وقال أبو هريرة من أسعد الناس بشفاعتك إلى آخره هذا الحديث رواه البخاري ومسلم والنسائي عن أبي هريرة قال قلت يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة فقال لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصا من قبل نفسه وفي رواية خالصا مخلصا من قلبه أو نفسه رواه أحمد من طريق آخر وصححه ابن حبان وفيه وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه قال شيخ الإسلام فجعل أسعد الناس بشفاعته أكملهم إخلاصا وقال في الحديث الصحيح من سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة ولم يقل كان أسعد الناس بشفاعتي فعلم أنما يحصل للعبد بالتوحيد والإخلاص من شفاعة الرسول ﷺ وغيرها مالا يحصل بغيره من الأعمال وإن كان صالحا لسؤال الوسيلة للرسول ﷺ فكيف بما لم يأمر به من الأعمال بل نهى عنه فذلك لا ينال به خير لا في الدنيا ولا في الآخرة مثل غلو النصارى في المسيح فإنه يضرهم ولا ينفعهم ونظير هذا في الصحيح عنه ﷺ أنه قال لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا وكذلك في أحاديث الشفاعة كلها إنما يشفع في أهل التوحيد فبحسب توحيد العبد لربه
وإخلاصه دينه لله تعالى يستحق كرامة الله بالشفاعة وغيرها وقال ابن القيم ما معناه تأمل هذا الحديث كيف جعل أعظم الأسباب التي تنال بها شفاعته تجريد التوحيد عكس ما عند المشركين من أن الشفاعة تنال باتخاذهم شفعاء وعبادتهم وموالاتهم من دون الله فقلب النبي ﷺ ما في زعمهم الكاذب وأخبر أن سبب الشفاعة تجريد التوحيد فحينئذ يأذن الله للشافع أن يشفع ومن جهل المشرك اعتقاده أن من اتخذه وليا أو شفيعا أنه يشفع له وينفعه عند الله كما يكون خواص الملوك والولاة تنفع من والاهم ولم يعلموا أن الله لا يشفع عنده إحد إلا بإذنه ولا يأذن في الشفاعة الا من رضي قوله وعمله كما قال تعالى في الفصل الأول من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه وفي الفصل الثاني ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وبقي فصل ثالث وهو أنه لا يرضى من القول والعمل إلا توحيده واتباع رسوله ﷺ فهذه ثلاثة فصول تقطع شجرة الشرك من قلب من وعاها وعقلها انتهى ملخصا وقال الحافظ المراد بهذه الشفاعة المسؤول عنها هنا بعض أنواع الشفاعة هي التي يقول ﷺ أمتي أمتي فيقال له أخرج من النار من كان في قلبه وزن كذا من الإيمان فأسعد الناس بهذه الشفاعة حتى يكن إيمانه أكمل ممن دونه وأما الشفاعة العظمى فالاراحة من كرب الموقف فأسعد الناس بها من يسبق إلى الجنة وهم الذين يدخلونها بغير حساب ثم الذين يلونهم وهو من يدخلها بغير عذاب بعد أن يحاسب ويستحق العذاب ثم من يصيبه لفح من النار ولا يسقط وأعم أن شفاعته ﷺ في القيامة ستة أنواع كما ذكره ابن القيم الأول الشفاعة الكبرى التي يتأخر عنها أولو العزم عليهم الصلاة والسلام حتى تنتهي اليه فيقول أنا لها وذلك حين يرغب الخلائق إلى
الانبياء ليشفعوا لهم إلى ربهم حتى يريحهم من مقامهم في الموقف وهذه شفاعة يختص بها لا يشركه فيها أحد الثاني شفاعته لأهل الجنة في دخولها وقد ذكرها أبو هريرة في حديثه الطويل المتفق عليه الثالث شفاعته لقوم من العصاة من أمته قد استوجبوا النار فيشفع لهم ان لا يدخلوها الرابع شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين دخلوا النار بذنوبهم والاحاديث بها متواترة عن النبي ﷺ وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال الخامس شفاعته لقوم من أهل الجنة في زيادة ثوابهم ورفع درجتهم وهذه مما لم ينازع فيها أحد السادس شفاعته في بعض الكفار من أهل النار حتى يخفف عذابه وهذه خاصة بأبي طالب وحده قوله وحقيقته أي حقيقة الأمر أي أمر الشفاعة أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود فهذا هو حقيقة الشفاعة لا كما يظن المشركون والجهال أن الشفاعة هي كون الشفيع يشفع ابتداء فيمن شاء فيدخله الجنة وينجيه من النار ولهذا يسألونها من الأموات وغيرهم إذا زاروهم وذلك أنهم قالوا إن الميت المعظم الذي لروحه قرب ومزية عند الله لا تزال تأتيه الألطاف من الله وتفيض على روحه الخيرات فإذا علق الزائر روحه به وأدناها منه فاض من روح المزور على روح الزائر من تلك
الألطاف بواسطتها كما ينعكس الشعاع من المرآة الصافية والماء ونحوه على الجسم المقابل له قالوا فتمام الزيارة أن يتوجه الزائر بروحه وقلبه إلى الميت ويعكف بهمته عليه ويوجه قصده كله وإقباله عليه بحيث لا يبقى فيه التفات إلى غيره وكل ما كان جمع الهمة والقلب عليه أعظم كان أقرب إلى انتفاعه به وشفاعته له قال ابن القيم وقد ذكر هذه الزيارة على هذا الوجه ابن سينا والفارابي وغيرهما وصرح بها عباد الكواكب في عبادتها وقالوا إذا تعلقت النفس الناطقة بالأرواح العلوية فاض عليها منها النور وبهذا السر عبدت الكواكب واتخذت لها الهياكل وصنفت لها الدعوات واتخذت الأصنام المجسدة لها وهذا بعينه هو الذي أوجب لعباد القبور اتخاذ أعياد وتعليق الستور عليها وإيقاد السرج عليها وبناء المساجد عليها وهو الذي قصد الرسول ﷺ إبطاله ومحوه بالكلية وسد الذرائع المفضية إليه فوقف المشركون في طريقه وناقضوه في قصده وكان ﷺ في شق وهؤلاء في شق وهذا الذي ذكره هؤلاء المشركون في زيارة القبور هو الشفاعة التي ظنوا أن آلهتهم تنفعهم بها وتشفع لهم عند الله قالوا فإن العبد إذا تعلقت روحه بروح الوجيه المقرب عند الله وتوجه بهمته اليه وعكف بقلبه عليه صار بينه وبينه اتصال يفيض به عليه منه نصيب مما يحصل له من الله وشبهوا ذلك بمن يخدم ذا جاه وحظوة وقرب من السلطان فهو شديد التعلق به فما يحصل لذلك السلطان من الإنعام والإفضال ينال ذلك المتعلق بحسب تعلقه به فهذا سر عبادة الأصنام وهو الذي بعث الله رسله وأنزل كتبه بإبطاله وتكفير أصحابه ولعنهم واباح دماءهم وأموالهم وسبي ذراريهم واوجب لهم النار والقرآن من أوله إلى
آخره مملوء من الرد على أهله وإبطال مذهبهم انتهى قوله وينال المقام المحمود أي المقام الذي يحمده فيه الخلائق كلهم وخالقهم تبارك وتعالى قال ابن جرير قال أكثر أهل التأويل ذلك المقام الذي يقومه ﷺ الشفاعة للناس ليريحهم ربهم مما هم فيه من شدة ذلك اليوم وقال ابن عباس المقام المحمود مقام الشفاعة وكذا قال ابن ابي نجيح عن مجاهد وقال قتادة هو أول من تنشق عنه الارض وأول شافع وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود قوله فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك يعني أن الشفاعة التي نفاها الله في القرآن هي الشفاعة التي فيها شرك بالله من دعاء غير الله وعبادته ليشفع له عند الله فإن الله سبحانه نفى هذه الشفاعة وأخبر أنها لا تكون أبدا بل أخبر أن ذلك شرك ونزه نفسه عنه ونفى أن يكون للمؤمنين ولي أو شفيع من دونه مع أن الشفاعة يوم القيامة لهم بإذنه لا للمشركين كما قال تعالى يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا فنفى سبحانه أن تنفع الشفاعة أحدا الا من أذن له الرحمن ورضي قوله وعمله وهو المؤمن المخلص وأما المشرك الداعي لغير الله ليشفع له فلا تنفعه الشفاعة ولا يؤذن لأحد في الشفاعة فيه كما قال فما تنفعهم شفاعة الشافعين وقال تعالى وقيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم ورأوا العذاب لو أنهم كانوا يهتدون قوله وقد بين النبي ﷺ إلى آخره تقدم ما يتعلق بذلك والله أعلم
باب قول الله تعالى إنك لا تهدي من أحببت الآية أراد المصنف رحمه الله الرد على عباد القبور الذين يعتقدون في الأنبياء والصالحين أنهم ينفعون ويضرون فيسألونهم مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وهداية القلوب وغير ذلك من أنواع المطالب الدنيوية والأخروية ويعتقدون أن لهم التصرف بعد الموت على سبيل الكرامة وقد وقفت على رسالة لرجل منهم في ذلك ويحتجون على ذلك بقوله لهم ما يشاؤون عند ربهم يقول قائلهم في حق رسول الله ﷺ ... فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ... فإذا عرف الانسان معنى هذه الآية ومن نزلت فيه تبين له بطلان قولهم وفساد شركهم لأن رسول الله ﷺ أفضل الخلق وأقربهم من الله وأعظمهم جاها عنده ومع ذلك حرص واجتهد على هداية عمه أبي طالب في حياة أبي طالب وعند موته فلم يتيسر ذلك ولم يقدر عليه ثم استغفر له بعد موته فلم يغفر له حتى نهاه الله عن ذلك ففي هذا أعظم البيان وأوضح البرهان على أنه ﷺ لا يملك ضرا ولا نفعا ولا عطاء ولا منعا وأن الأمر كله بيد الله فهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويعذب من يشاء ويرحم من يشاء ويكشف الضر عمن يشاء ويصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم وهو الذي من جوده الدنيا والآخرة وهو بكل شيء عليم ولو كان عنده ﷺ من هداية القلوب ومغفرة الذنوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس به وأولاهم
من قام معه أتم القيام ونصره وأحاطه من بلوغه ثمان سنين وإلى ما بعد النبوة بثمان سنين أو أكثر بل قال تعالى قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون وقال تعالى قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي الآية فهل يجتمع في قلب عبد الإيمان بهذه الآيات وما أشبهها والإيمان بذلك البيت وما أشبههه ولكن قاتل الله أعداءه الذين جاوزوا الحد في إطرائه والغلو فيه وأما معنى الآية فقال ابن كثير يقول تعالى لرسوله ﷺ إنك يا محمد لا تهدي من أحببت أي ليس إليك ذلك إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة كما قال تعالى ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وقال وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين وهذه الآية أحض من هذا كله فإنه قال إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين أي أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبي طالب وقد كان يحوطه وينصره ويقوم في حقه ويحبه حبا طبعيا لا حبا شرعيا فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله ﷺ إلى الايمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه واختطف من يده فاستمر على ما كان عليه من الكفر ولله الحجة البالغة فإن قلت قال الله تعالى وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم فالجمع بينها وبين الآية المترجم لها قيل الهداية التي تصح نسبتها لغير الله بوجه ما هي هداية الإرشاد والدلالة كما قال وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم اي ترشد وتبين والهداية المنفية عن غير الله هي هداية التوفيق وخلق القدرة على الطاعة ذكره بعضهم بمعناه قال في الصحيح عن ابن المسيب عن أبيه قال لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله ﷺ وعنده عبدالله بن أبي أمية وابو جهل فقال يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب فأعاد عليه النبي ﷺ فأعادا فكان آخر ما قال هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا اله الا الله فقال النبي ﷺ لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فأنزل الله تعالى ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى وأنزل الله في أبي طالب انك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله عن ابن المسيب هو سعيد بن المسيب بن حزن بن أبي وهب بن عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم القرشي المخزومي أحد العلماء الأثبات الفقهاء الكبار الحافظ العباد اتفقوا على أن مرسلاته أصح المراسيل وقال ابن المديني لا أعلم في التابعين أوسع علما منه مات بعد التسعين وقد ناهز الثمانين وابوه المسيب صحابي بقي الى خلافة عثمان رضي الله عنه وكذلك جده حزن صحابي استشهد باليمامة قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة أي حضرت علامات الوفاة وإلا فلو كان انتهى إلى المعاينة لم ينفعه الإيمان لو آمن ويدل على ذلك ما وقع من المراجعة بينه وبينهم ويحتمل أن يكون انتهى إلى تلك الحالة لكن رجا
النبي ﷺ أنه إذا أقر بالتوحيد ولو في تلك الحالة أن ذلك ينفعه يخصوصه ويسوغ فيه شفاعته ﷺ ولهذا قال أجادل لك بها وأشهد لك بها وأحاج لك بها ويدل على الخصوصية أنه بعد أن امتنع من الإقرار بالتوحيد ومات على الامتناع منه لم يترك النبي ﷺ الشفاعة له بل شفع له حتى خفف عنه العذاب بالنسبة إلى غيره وكان ذلك من الخصائص في حقه قوله جاءه رسول الله ﷺ يحتمل أن يكون المسيب حضر هذه القصة فإن المذكورين من بني مخزوم وهو أيضا مخزومي وكانوا يومئذ كفارا فمات أبو جهل على كفره وأسلم الآخران وقول بعض الشراح إن هذا الحديث من مراسيل الصحابة مردود وفي هذا جواز عيادة المشرك إذا رجي إسلامه وجواز حمل العلم إذا كان فيه مصلحة راجحة على عدمه قوله يا عم منادى مضاف يجوز فيه إثبات الياء وحذفها قوله قل لا إله إلا الله أي قل هذه الكلمة عارفا لمعناها معتقدا له في هذه الحال وإن لم تعمل به إذ لا يمكن عند الموت إلا ذلك ولا بد مع ذلك من شهادة أن محمدا رسول الله قوله كلمة قال القرطبي أحسن ما تقيد كلمة بالنصب على أنه بدل من لا إله إلا الله ويجوز رفعها على احتمال المبتدأ قوله أحاج لك بها عند الله هو بتشديد الجيم من المحاجة وهي مفاعلة من الحجة والجيم مفتوحة على الجزم وجواب الأمر أي أشهد لك بها عند الله كما في الرواية الأخرى وفيه دليل على أن الأعمال بالخواتيم لأنه لو قالها لنفعته وإن مات على التوحيد نفعته الشفاعة وان لم يعمل شيئا غير ذلك وأن من كان كافرا يجحدها إذا قالها عند الموت أجريت عليه أحكام الإسلام فإن كان صادقا من قلبه نفعته عند الله إلا فليس لنا إلا الظاهر بخلاف من كان
يتكلم بها في حال كفره قوله فقالا له أترغب عن ملة عبدالمطلب ذكراه الحجة الملعونة التي يتعلق بها المشركون من الأولين والآخرين ويردون بها على الرسل وهي تقليد الآباء والكبراء وأخرجا الكلام مخرج الاستفهام مبالغة في الإنكار لعظمة هذه الحجة في قلوب الضالين وكذلك اكتفيا بها في المجادلة مع مبالغته ﷺ وتكريره فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصرا عليها قال المصنف وفيه تفسير لا إله الا الله بخلاف ما عليه أكثر من يدعي العلم وفيه أن ابا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي ﷺ اذا قال الرجل قل لا اله الا الله فقبح الله من أبو جهل أعلم منه بأصل الإسلام قوله فأعاد عليه النبي ﷺ وأعادا أي أعاد عليه النبي ﷺ مقالته وأعادا عليه مقالتهما مبالغة منه ﷺ وحرصا على اسلام عمه ومع ذلك لم يقدر النبي ﷺ على ذلك ولا على تخليصه من عذاب الله بل سبق فيه القضاء المحتوم واستمر على كفره ليعلم الناس أن لا إله إلا الله فلو كان عن النبي ﷺ من هداية القلوب وتفريج الكروب شيء لكان أحق الناس بذلك وأولاهم عمه الذي فعل معه ما فعل وفيه الحرص في الدعوة إلى الله والصبر على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وان رد ذلك على صاحبه وتكريره وعدم الاكتفاء بمرة واحدة قوله فكان آخر ما قال هو بنصب آخر على الظرفية أي آخر زمن تكليمه اياهم ويجوز رفعه قوله هو على ملة عبدالمطلب الظاهر أن ابا طالب قال أنا فغيره الراوي أنفة أن يحكي كلام أبي طالب استقباحا للفظ المذكور وهي من
المتصرفات الحسنة قاله الحافظ وقد رواه الإمام أحمد بلفظ أنا فدل على ما ذكرناه قوله وأبى أن يقول لا إله إلا الله قال الحافظ هذا تأكيد من الراوي في نفي وقوع ذلك من أبي طالب وكأنه استند في ذلك إلى عدم سماعه منه في تلك الحال كذا قال وفيه نظر بل نفيه مستند إلى إباء أبي طالب عن قولها بقوله وهو على ملة عبد المطلب قال المصنف وفيه الرد على من زعم إسلام عبدالمطلب وأسلافه ومضرة أصحاب السوء على الإنسان ومضرة تعظيم الأسلاف والأكابر أي زيادة على المشروع بحيث يجعل أقوالهم حجة يرجع اليها عند التنازع قوله فقال النبي لاستغفرن لك ما لم أنه عنك أقسم ﷺ ليسغفرن له إلا أن ينهى عن ذلك كما في رواية مسلم أما والله لأستغفرن لك قال النووي وفيه جواز الحلف من غير استحلاف وكأن الحلف هنا لتأكيد العزم على الاستغفار وتطييبا لنفس أبي طالب وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل قال ابن فارس مات أبو طالب ولرسول الله ﷺ تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثمانية أيام قوله فأنزل الله ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين أي ما ينبغي لهم ذلك وهو خبر بمعنى النهي وقد روى الطبراني عن عمرو بن دينار قال قال رسول الله ﷺ استغفر إبارهيم لأبيه وهو مشرك فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى نهاني عنه ربي فقال أصحابه نستغفر بائنا كما استغفر نبيا لعمه فنزل ما كان للنبي والذين آمنوا أن
يستغفروا للمشكرين ولو كانوا أولي قربى من عبد ما تبين أنهم لهم أصحاب الجحيم وما كان استغفار إبراهيم لآبيه الا عند موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وهذا فيه إشكال لأن وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة اتفاقا وقد ثبت أن النبي ﷺ أتى قبر أمه لما اعتمر فاستأذن ربه أن يستغفر لها فنزلت هذه الآية وفيه دلالة على تأخر نزول الآية عن وفاة أبي طالب ولكن يحتمل أن يكون نزول الآية تأخر وإن كان سببها تقدم ويكون لنزولها سببان متقدم وهو أمر أبي طالب ومتأخر وهو أمر أمه ويؤيد تأخر النزول استغفاره ﷺ للمنافقين حتى نزل النهي عن ذلك فإن ذلك يقتضي تأخر النزول وإن تقدم السبب ويشير إلى ذلك أيضا قوله في حديث الباب وأنزل الله في أبي طالب إنك لا تهدي من أحببت لأنه يشعر بأن الأولى نزلت في أبي طالب وفي غيره والثانية فيه وحده ويؤيد تعدد السبب ما أخرج أحمد عن علي قال سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان فذكرت ذلك للنبي ﷺ فأنزل الله ما كان للنبي الآية قاله الحافظ وفيه تحريم الاستغفار للمشركين وتحريم موالاتهم ومحبتهم لأنه إذا حرم الاستغفار لهم فموالاتهم ومحبتهم أولى باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم وهو الغلو في الصالحين أما تركهم فهو مجرور عطفا على المضاف إليه ولما ذكر المصنف رحمه الله بعض ما يفعله عباد القبور مع الأموات من الشرك أراد أن يبين السبب
في ذلك ليحذر وهو الغلو مطلقا لا سيما في الصالحين فإنه أصل الشرك قديما وحديثا لقرب الشرك بالصالحين من النفوس فإن الشيطان يظهره في قالب المحبة والتعظيم وقول الله تعالى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم قال العلماء الغلو هو مجاوز الحد في مدح الشيء أو ذمه وضابطه تعدي ما أمر الله به وهو الطغيان الذي نهى الله عنه في قوله ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي وكذا قال تعالى في هذه الآية يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم أي لاتتعددوا ما حدد الله لكم وأهل الكتاب هنا هم اليهود والنصارى فنهاهم عن الغلو في الدين ونحن كذلك كما قال تعالى فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير والغلو كثير في النصارى فإنهم غلوا في عيسى عليه السلام فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدون الله بل غلوا فيمن زعم أنه على دينه من أتباعه فادعوا فيهم العصمة فاتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا وناقضتهم اليهود في أمر عيسى عليه السلام فغلوا فيه فحطوه من منزلته حتى جعلوه ولد بغي قال شيخ الإسلام ومن تشبه من هذه الأمة بالهيود والنصارى وغلا في الدين بإفراط فيه أو تفريط وضاهاهم في ذلك فقد شابههم كالخوارج المارقين من الإسلام الذين خرجوا في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقاتلهم حين خرجوا على المسلمين بأمر النبي ﷺ كما ثبت ذلك من عشرة أوجه في الصحاح والمساند وغير ذلك وكذلك من غلا في دينه من الرافضة والقدرية
والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وقال أيضا فإذا كان على عهد النبي ﷺ من انتسب إلى الإسلام وقد مرق منه مع عبادته العظيمة فليعلم أن المنتسب إلى الإسلام والسنة في هذه الأزمان قد يمرق أيضا من الإسلام وذلك بأسباب منها الغلو الذي ذمه الله في كتابه حيث قال يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حرق الغالية من الرافضة فأمر بأخاديد خدت لهم عند باب كندة فقذفهم فيها واتفق الصحابة رضي الله عنهم على قتلهم لكن ابن عباس كان مذهبه أن يقتلوا بالسيف من غير تحريق وهو قول أكثر العلماء قال في الصحيح عن بن عباس في قول الله تعالى وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا قال هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان الى قومهم أن أنصبوا الى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا ولم تعبد حتى اذا هلك أولئك ونسي العلم عبدت ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري وهذا الأثر اختصره المصنف وقد رواه البخاري عن ابن عباس ولفظه صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح ف العرب بعد أما ود فكانت لكلب بدومة الجندل وأما سواع فكانت لهذيل وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ وأما يعوق فكانت لهمدان وأما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع أسماء رجال صالحين في قوم نوح إلى آخره وهكذا روي عن عكرمة والضحاك وابن اسحق نحو هذا وقال ابن جرير حدثنا بن حميد حدثنا مهران عن سفيان عن موسى عن محمد بن قيس أن يغوث ويعوق ونسر كانوا قوما
صالحين من بني آدم وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم لو صورناهم كانوا اشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم فصوروهم فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم قال سفيان عن أبيه عن عكرمة قال كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام وروى ابن أبي حاتم عن عروة ابن الزبير أنهم كانوا أولاد آدم لصلبه وكان ود أكبرهم وأبرهم به هكذا رواه عمر بن شيبة في أخبار مكة من طريق محمد بن كعب القرظي وذكر السهيلي في التعريف أن يغوث بن شيث بن آدم فيما قيل وكذا سواع وما بعده فكانوا يتبركون بدعائهم وكلما مات منهم أحد مثلوا صورته وتمسحوا بها إلى زمن مهلاييل فعبدوها بتدريج الشيطان لهم ثم صارت سنة في العرب في الجاهلية ولا أدري من أين سرت تلك الأسماء أمن قبل الهند فقد قيل إنهم كانوا المبدأ في عبادة الأصنام بعد نوح عليه السلام أم الشيطان الهم العرب ذلك انتهى وقد روى الفاكهي عن ابن الكلبي قال كان لعمرو بن ربيعة رئي من الجن فأتاه فقال أجب أبا ثمامة وادخل بلا ملامة ثم أئت سيف جدة تجد بها أصناما معده ثم أوردها تهامة ولا تهب ثم ادع العرب إلى عبادتها تجب قال فأتى عمرو ساحل جدة فوجد بها وردا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهي الأصنام التي عبدت على عهد نوح وإدريس ثم إن الطوفان طرحها هناك فسفى عليها الرمل فاستثارها عمرو وخرج بها إلى تهامة وحضر الموسم ودعا إلى عبادتها فأجيب
وعمرو بن ربيعة هو عمرو بن لحي قاله الحافظ قلت وهو سيد خزاعة وكان أول من سيب السوائب وغير دين ابراهيم عليه السلام وكانت العرب قبله على دين أبيهم إبراهيم عليه السلام حتى نشأ فيهم عمرو فأحدث الشرك كما روى ابن جرير عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لأكثم بن الجون يا أكثم رأيت عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار فما رايت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك فقال أكثم أتخشى أن يضرني شبهه يا رسول الله فقال رسول الله ﷺ إنك مؤمن وهو كافر إنه أول من غير دين إبراهيم وبجر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامي إسناده حسن وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعا رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار كان أول من سيب السوائب قوله أن انصبوا بكسر الصاد المهملة قوله أنصابا جمع نصب وأصله ما نصب كغرض ونحوه والمراد به هنا الأصنام المصورة على صورهم المنصوبة في مجالسهم قوله حتى إذا هلك أولئك أي الذين نصبوها ليكون أشوق إليهم إلى العبادة وليتذكروا برؤيتها أفعال أصحابها قوله ونسي العلم أي زالت المعرفة بحالها وما قصده من صورها وغلب الجهال الذين لا يميزون بين التوحيد والشرك وذهب العلماء الذين يعرفون ذلك قوله عبدت تقدم انه دب اليهم إبليس فقال إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم وفي رواية أنهم قالوا ما عظم أولنا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله فعبدوهم فهذا هو السبب في عبادة هؤلاء
الصالحين وهو رجاء شفاعتهم عند الله وكذلك هو السبب في عبادة صورهم وهذه هي الشبهة التي ألقاها الشيطان على المشركين من الأولين والآخرين وقد بين الله ذلك في القرآن بيانا شافيا وتقدم في هذا الكتاب من الكلام على ذلك ما يكفي لمن هداه الله قال وقال ابن القيم قال غير واحد من السلف لما ماتوا عكفوا على قبورهم ثم صوروا تماثيلهم ثم طال عليهم الأمر فعبدوهم ش قوله وقال ابن القيم هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بابن قيم الجوزية تلميذ شيخ الإسلام وصاحب المصنفات الكثيرة في فنون العلم قال الحافظ السخاوي في حقه العلامة الحجة المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان المجمع عليه بين الموافق والمخالف صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة مات سنة احدى وخمسين وسبعمائة قوله قال غير واحد من السلف إلى آخره الظاهر أن ابن القيم ذكر ذلك بالمعنى لا باللفظ وقد روى عن غير واحد من السلف معنى ذلك منهم ابو جعفر الباقر وغيره وتقدم ما يدل على ذلك قوله ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم أي طال عليهم الزمان ونسوا ما قصده الأولون بتصوير صورهم فعبدوهم فتبين أن مبدأ الشرك بالصالحين هو الغلو فيهم كما أن سبب الشرك بالنجوم هو الغلو فيها واعتقاد النحوس فيها والسعود ونحو ذلك وهذا هو الغالب على الفلاسفة ونحوهم كما أن ذاك هو الغالب على عباد القبور ونحوهم وهو أصل عبادة الأصنام فإنهم عظموا الأموات تعظيما مبتدعا فصوروا صورهم وتبركوا بها فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن صورته وهذا أول شرك حدث في الأرض وهو الذي أوحاه الشيطان إلى عباد القبور في هذه الأزمان فإنه ألقى اليهم أن البناء
على القبور والعكوف عليها من محبة الصالحين وتعظيمهم وأن الدعاء عندها أرجى في الاجابة من الدعاء في المسجد الحرام والمساجد فاعتادوها لذلك فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى الدعاء به والاقسام على الله به قال ابن القيم رحمه الله تعالى وهذا أعظم من الذي قبله فإن شان الله اعظم من أن يقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله واتخاذ قبره وثنا يعكف عليه وتعلق عليه القناديل والستور ويطاف به ويستلم ويقبل ويحج إليه ويذبح عنده فإذا تقرر ذلك عندهم نقله منه إلى دعاء الناس إلى عبادته واتخاذه عيدا ومنسكا ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم وكل هذا مما قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله ﷺ من تجريد التوحيد لله وأن لا يعبد إلا الله فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن من نهى عن ذلك فقد تنقص أهل الرتب العالية وحطهم عن منزلتهم وزعم أنهم لا حرمة لهم ولا قدر وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى واذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة واذا ذكر الذين من دونه اذا هم يستبشرون وسرى ذلك في نفوس كثير من الجهال والطغام وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين حتى عادوا أهل التوحيد ورموهم بالعظائم ونفروا الناس عنهم ووالوا أهل الشرك وعظموهم وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله ويأبى الله ذلك وما كانوا أولياءه إن أولياؤه الا المتقون قلت وفي القصة فوائد نبه المنصف على بعضها منها ان من فهم هذا الباب وما بعده تبين له غربة الإسلام ورأى من
قدرة الله وتقليبه القلوب العجب ومنها معرفة أن أول شرك حدث في الأرض بشبهة محبة الصالحين ومنها معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء ومنها معرفة سبب قبول البدع من كون الشرائع والفطر تنكرها ومنها أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل فالأول محبة الصالحين والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم انهم رادوا غيره ومنها معرفة جبلة الانسان في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد ومنها أن فيها شاهدا لما نقل عن بعض السلف أن البدعة سبب للكفر وأنها أحب إلى ابليس من المعصية لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها ومنها معرفة الشيطان بما تؤول اليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل ومنها معرفة القاعدة الكلية وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول اليه ومنها مضرة العكوف على قبر لأجل عمل صالح ومنها معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها ومنها معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة اليها مع الغفلة عنها ومنها وهي أعجب قرائتهم اياها في كتب التفسير الحديث ومعرفتهم بمعنى الكلام وكون الله حال بين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات واعتقدوا أن نهي الله ورسوله هو الكفر المبيح للدم والمال ومنها التصريح أنهم لم يريدوا إلا الشفاعة ومنها ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك ومنها التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم ففيها معرفة قدر وجوده ومضرة فقده
ومنها أن سبب فقد العلم موت العلماء انتهى بمعناه ومنها شدة حاجة الخلق بل ضرورتهم إلى الرسالة وأن ضرورتهم اليها أشد وأعظم من ضرورتهم إلى الطعام والشراب ومنها الرد على من يقدم الشبهات التي يسميها عقليات على ما جاء من عند الله لأن ذلك الذي أوقع المشركين في الشرك ومنها مضرة التقليد وكيف آل بأهله إلى المروق من الإسلام قال وعن عمر أن رسول الله ﷺ قال لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أخرجاه ش قوله عن عمر هو بن الخطاب بن نفيل بنون وفاء مصغرا بن عبد العزى بن رياح بتحتانية بن عبدالله بن قرط بضم القاف بن رزاح براء ثم زاي خفيفة بن عدي بن كعب القرشي العدوي أمير المؤمنين وأفضل الصحابة بعد الصديق رضي الله عنهما ولي الخلافة عشر سنين ونصفا فامتلأت الدنيا عدلا وفتحت في أيامه ممالك كسرى وقيصر واستشهد في ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين قوله لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم الإطراء مجاوزة الحد في المدح والكذب فيه قاله أبو السعادات وقال غيره لا تطروني بضم التاء وسكون الطاء المهملة من الاطراء أي لا تمدحوني بالباطل أو لا تجاوزوا الحد في مدحي قوله إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية وإنما أنا عبدلله فصفوني بذلك كما وصفني به ربي وقولوا عبدالله ورسوله فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره وارتكابا لنهيه وناقضوه اعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبدالله ورسوله وأنه لا يدعى ولا يستغاث به ولا ينذر له ولا يطاف بحجرته وأنه ليس له من الأمر شيء ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله أن
في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره فرفعوه فوق منزلته وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه فسألوه مغفرة الذنوب وتفريج الكروب وقد ذكر شيخ الاسلام في كتب الاستغاثة عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول ﷺ في كل ما يستغاث فيه بالله وصنف فيه مصنفا وكان يقول إن النبي ﷺ يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول ان النبي ﷺ يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه وإن هذا السر انتقل بعده إلى الحسن ثم انتقل في ذرية الحسن إلى أبي الحسن الشاذلي وقالوا هذا مقام القطب الغوث الفرد الجامع ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى وسبحوه بكرة وأصيلا إن الرسول ﷺ هو الذي يسبح بكرة وأصيلا ومنهم من يقول نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا قلت وقال البوصيري ... فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ... فجعل الدنيا والآخرة من جوده وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ وهذا هو الذي حكاه شيخ الإسلام عن ذلك المدرس وكل ذلك كفر صريح ومن العجب أن الشيطان أظهر لهم ذلك في صورة محبته عليه السلام وتعظيمه ومتابعته وهذا شأن اللعين لابد وأن يمزج الحق بالباطل ليروج على أشباه الأنعام اتباع كل ناعق الذين لم يستضيؤا بنور العلم ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق لأن هذا ليس بتعظيم فإن التعظيم محله القلب واللسان والجوارح وهم أبعد الناس منه فإن التعظيم بالقلب ما يتبع اعتقاد كونه عبدا رسولا من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين ويصدق هذه المحبة أمران
أحدهما تجريد التوحيد فإنه ﷺ كان أحرص الخلق على تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات حتى قال له رجل ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده ونهى أن يحلف بغير الله وأخبر أن ذلك شرك ونهى أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج بل مدار دينه على هذا الأصل الذي هو قطب رحا النجاة ولم يقرر أحد ما قرره ﷺ بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له فتعظيمه ﷺ بموافقته على ذلك لا بمناقضته فيه الثاني تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين وفروعه والرضى بحكمه والانقياد له والتسليم والاعراض عما خالفه وعدم الالتفات إلى ما خالفه حتى يكون وحده هو الحاكم المتبع المقبول قوله المردود ما خالفه كما كان ربه تعالى وحده هو المعبود المألوه المخوف المرجو المستغاث به المتوكل عليه الذي اليه الرغبة والرهبة الذي يؤمل وحده لكشف الشدائد ومغفرة الذنوب الذي من جوده الدنيا والآخرة الذي خلق الخلق وحده ورزقهم وحده ويبعثهم وحده ويغفر ويرحم ويهدي ويضل ويسعد ويشقي وحده وليس لغيره من الأمر شيء كائنا من كان لا النبي ﷺ ولا جبريل عليه السلام ولا غيرهما فهذا هو التعظيم الحق المطابق لحال المعظم النافع للمعظم في معاشه ومعاده والذي هو لازم إيمانه وملزومه أما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما هو أهله مما أثنى به عليه ربه وأنثى على نفسه من غير غلو ولا تقصير كما فعل عباد القبور فإنهم غلوا في مدحه إلى الغاية وأما التعظيم بالجوارح فهل العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه وبالجملة فالتعظيم النافع هو التصديق فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء
عما عنه نهى وزجر والموالاة والمعاداة والحب والبعض لأجله وتحكيمه وحده والرضى بحكمه وأن يتخذ من دونه طاغوت يكون التحاكم إلى أقواله فما وافقها من قوله ﷺ قبله وما خالفها رده أو تأوله أو أعرض عنه والله سبحانه يشهد وكفى به شهيدا وملائكته ورسله وأولياؤه أن عباد القبور وخصوم الموحدين ليسوا كذلك والله المستعان وقال المصنف قال رسول الله ﷺ إياكم والغلو فانما أهلك من كان قبلكم الغلو ش هكذا ثبت هذا البياض في أصل المصنف وذكره أيضا غير معزو والحديث رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجه عن ابن عباس وهذا لفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا أبو أسامة عن عوف عن زياد ابن الحصين عن أبي العالية عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ غداة العقبة وهو على ناقته القظ لي حصى فلقطت له سبع حصيات هن حصى الحذف فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين وهذا إسناد صحيح وعوف هو الأعرابي ثقة مشهور قوله إياكم والغلو إلى آخره قال شيخ الاسلام هذا عام في جميع أنواع الغلو في الاعقادات والأعمال وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه مثل الرمي بالحجارة الكبار بناء على أنه أبلغ من الصغار ثم علله بما يقتضي مجانبة هديهم أي هدي من كان قبلنا إبعادا عن الوقوع فيما هلكوا به وأن المشارك لهم في بعض هديهم يخاف عليه من الهلاك قال ولمسلم عن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال هلك المتنطعون قالها ثلاثا
ش قوله هلك المتنطعون قال الخطابي المتنطع المتعمق في الشيء المتكلف البحث عنه على مذاهب أهل الكلام الداخلين فيما لا يعنيهم الخائضين فيما لا تبلغه عقولهم وقال أبو السعادات هم المتعمقون الغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم مأخوذ من النطع وهو الغار الأعلى من الفم ثم استعمل في كل متعمق قولا وفعلا وقال غيره هم الغالون في عبادتهم بحيث تخرج عن قوانين الشريعة ويسترسل مع الشيطان في الوسوسة وكل هذه الأقوال صحيحة فإن المتكلفين من أهل الكلام متنطعون والمتقعرون في الكلام ومخارج الحروف متنطعون والغالون في عبادتهم متنطعون وبالجملة فالتنطع التعمق في قول أو فعل كما قال أبو السعادات وقال النووي فيه كراهة المتقعر في الكلام بالتشدق وتكلف الفصاحة واستعمال وحشي اللغة ودقائق الإعراب في مخاطبة العوام ونحوهم قوله قالها ثلاثا أي قال هذه الكلمة ثلاث مرات مبالغة في التحذير والتعليم فصلوات الله وسلامه على من بلغ البلاغ المبين فما ترك شيئا يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا أخبرنا به وإنما ضل الأكثرون بمخالفة هذه الأحاديث وما في معناها فغلوا وتنطعوا فهلكوا ولو اقتصروا على ما جاءهم من ربهم على يدي رسول الله ﷺ لسلموا وسعدوا قال تعالى أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم مؤمنون باب ما جاء من التغليظ فيمن عبد الله عند قبر رجل صالح فكيف اذا عبده
أي عبد القبر أو الرجل الصالح ولما كان عباد القبور إنما دهوا من حيث ظنوا أنهم محسنون فرأوا أن أعمالهم القبيحة حسنة كما قال تعالى أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا الآية نوع المصنف التحذير من الافتتان بالقبور وأخرجه في أبواب مختلفة ليكون أوقع في القلب وأحسن في التعليم وأعظم في الترهيب فإذا كان قصد قبور الصالحين لعبادة الله عندها فيه من النهي والوعيد ما سيمر بك إن شاء الله فكيف بعبادة أربابها من دون الله واعتيادها لذلك في اليوم والأسبوع والشهر مرات كثيرة قال في الصحيح عن عائشة أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور فقال أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور أولئك شرار الخلق عند الله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين فتنة القبور وفتنة التماثيل ش قوله في الصحيح أي في الصحيحين قوله أن أم سلمة هي هند بنت أبي أمية بن المغيرة بن عبدالله بن عمرو بن مخزوم القرشية المخزومية تزوجها النبي ﷺ بعد أبي سلمة سنة أربع وقيل ثلاث وكانت قد هاجرت مع أبي سلمة إلى الحبشة ماتت سنة اثنتين وستين قوله ذكرت لرسول الله ﷺ كان ذكر أم سلمة هذه الكنيسة للنبي ﷺ في مرض موته كما جاء مبينا في رواية في الصحيح وفي الصحيحين أن أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا ذلك لرسول الله ﷺ قوله كنيسة وفي رواية يقال لها مارية وهي بفتح الكاف
وكسر النون معبد النصارى قوله أولئك بفتح الكاف وكسرها قوله إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح هذا والله أعلم شك من بعض رواة الحديث هل قال النبي ﷺ هذا أو هذا ففيه التحري في الرواية وجواز رواية الحديث بالمعنى قوله ينبوا على قبره مسجدا أي موضعا للعبادة وإن لم يسم مسجدا كالكنائس والمشاهد قوله وصوروا فيه تلك الصور الإشارة بتلك الصور إلى ما ذكرت أم سلمة وأم حبيبة من التصاوير التي في الكنيسة كما في بعض ألفاظ الحديث فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها قوله أولئك شرار الخلق عند الله مقتضى هذا تحريم ما ذكر لا سيما وقد ثبت اللعن عليه قال البيضاوي لما كانت اليهود والنصارى يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لشأنهم ويجعلونها قبلة يتوجهون في الصلاة نحوها واتخذوها أوثانا لعنهم النبي ﷺ ومنع المسلمين عن مثل ذلك قال القرطبي وإنما صور أوائلهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون الله عند قبورهم ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم ووسوس لهم الشيطان أن أسلافكم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها فحذر النبي ﷺ عن مثل ذلك سدا للزريعة المؤدية إلى ذلك قوله فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين إلى آخره هذا من كلام شيخ الإسلام ذكره المصنف عنه يعني ان الذين بنوا هذه الكنيسة جمعوا فيها بين فتنتين ضل بها كثير من الخلق الأولى فتنة القبور لأنهم افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها تعظيما مبتدعا فآل بهم إلى الشرك وهي أعظم
الفتنتين بل هي مبدأ الفتنة الثانية وهي فتنة التماثيل اي الصور فإنهم لما افتتنوا بقبور الصالحين وعظموها وبنوا عليها المساجد وصوروا فيها الصور للقصد الذي ذكره القرطبي فآل الأمر إلى أن عبدت الصور ومن هي صورته من دون الله وهاتان الفتنتان هما سبب عبادة الصالحين كاللات وود وسواع ويغوث ويعوق ونسر وغيرهم من الصالحين قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى وهذه العلة التي لأجلها نهى الشارع عن اتخاذ المساجد على القبور وهي التى أوقعت كثيرا من الأمم اما في الشرك الأكبر أو فيما دونه من الشرك فإن النفوس قد أشركت بتماثيل القوم الصالحين وتماثيل يزعمون أنها طلاسم لكواكب ونحو ذلك فإن الشرك بقبر الرجل الذي يعتقد صلاحه أقرب إلى النفوس من الشرك بخشبه أو حجر ولهذا تجد أهل الشرك يتضرعون عندها ويخشعون ويخضعون ويعبدون بقلوبهم عبادة لا يفعلونها في بيوت الله ولا وقت السحر ومنهم من يسجد لها وأكثرهم يرجون من بركة الصلاة عندها والدعاء ما لا يرجونه في المساجد فلأجل هذه المفسدة حسم النبي ﷺ مادتها حتى نهى عن الصلاة في المقبرة مطلقا وإن لم يقصد المصلي بركة البقعة بصلاته كما يقصد بصلاته بركة المساجد كما نهى عن الصلاة وقت طلوع الشمس وغروبها لأنها أوقات يقصد المشركون فهيا الصلاة للشمس فنهى أمته عن الصلاة حينئذ وإن لم يقصد ما قصده المشركون سدا للذريعة قال وأما إذا قصد الرجل الصلاة عند القبور متبركا بالصلاة في تلك البقعة فهذا عين المحادة لله ورسوله والمخالفة لدينه وابتداع دين لم يأذن به الله فإن المسلمين قد أجمعوا على ما علموه بالاضطرار من دين رسول الله ﷺ أن الصلاة عند القبور منهي عنها وأنه لعن من اتخذها مساجد فمن أعظم المحدثات وأسباب الشرك الصلاة عندها واتخاذها مساجد وبناء المساجد عليها فقد تواترت النصوص عن النبي ﷺ
بالنهي عن ذلك والتغليظ فيه وقد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد عليها متابعة منهم للسنة الصحيحة الصريحة وصرح أصحاب أحمد وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريم ذلك وطائفة أطلقت الكراهة والذي ينبغي ان تحمل على كراهة التحريم إحسانا للظن بالعلماء وأن لا يظن بهم أن يجوزوا فعل ما تواتر عن رسول الله ﷺ لعن فاعله والنهي عنه قال ولهما عنها قالت لما نزل برسول الله ﷺ طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم بها كشفها فقال وهو كذلك لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولولا ذلك أبرز قبره غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا أخرجاه ش هكذا ثبت في أول هذا الحديث ولهما وفي آخره أخرجاه بخط المصنف وأحد اللفظين يغني عن الآخر لأن المراد صاحبا الصحيحين قوله لما نزل هو بضم النون وكسر الزاي أي نزل به ملك الموت والملائكة الكرام عليهم السلام قوله طفق بكسر الفاء وفتحها والكسر أفصح وبه جاء القرآن ومعناه جعل قوله خميصة بفتح المعجمة كساء له أعلام قوله فإذا اغتم بها كشفها أي إذا احتبس نفسه عن الخروج كشفها عن وجهه قوله لعن الله اليهود والنصارى إلى آخره لعنهم ﷺ على هذا الفعل بعينه وهو اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد أي كنائس وبيع يتعبدون ويسجدون فيها لله وإن لم يسموها مساجد فإن الاعتبار بالمعنى لا بالاسم ومثل ذلك القباب والمشاهد المبينة على قبور الأنبياء والصالحين فإنها هي
المساجد الملعون من بناها على قبورهم وإن لم يسمها من بناها مساجد وفيه رد على من أجاز البناء على قبور العلماء والصالحين تمييزا لهم عن غيرهم فإذا كان ﷺ لعن من بنى المساجد على قبور الأنبياء فكيف بمن بناها على قبور غيرهم قوله يحذر ما صنعوا الظاهر أن هذا من كلام عائشة رضي الله عنها أي أن الرسول ﷺ لعن اليهود والنصارى على ذلك تحذيرا لأمته أن تصنع ما صنعوا قال القرطبي وكل ذلك لقطع الذريعة المؤدية إلى عبادة من فيها كما كان السبب في عبادة الأصنام قوله ولولا ذلك أي لولا تحذير النبي ﷺ ما صنعوا ولعن من فعل ذلك قوله لأبرز قبره أي لدفن خارج بيته ومنه الحديث كان رسول الله ﷺ يوما بارزا للناس أي جالسا خارج بيته قوله غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا روي بفتح الخاء وضمها بالبناء للفاعل والمفعول قالوا فأما رواية الفتح فإنها تقتضي أن النبي ﷺ هو الذي أمرهم بذلك وأما رواية الضم فيحتمل أن تكون عائشة هي التي خشيت كما في لفظ آخر غير أني أخشى أو هي ومن معها من الصحابة قلت وهذا أظهر ورواية غير أني أخشى لا تخالفه قال القرطبي ولهذا بالغ المسلمون في سد الذريعة في قبر النبي ﷺ فأعلو حيطان تربته وسدوا المداخل اليها وجعلوها محدقة بقبره ثم خافوا أن يتخذ موضع قبره قبلة إذا كان مستقبل المصلين فتصور الصلاة إليه بصورة العبادة فبنوا جدارين من ركني القبر الشماليين وحرفوهما حتى التقيا على زاوية مثلثة من ناحية الشمال حتى لا يتمكن أحدا من استقبال قبره
قلت وفي الحديثين مسائل نبه المصنف على بعضها منها ما ذكر الرسول ﷺ فيمن بني مسجدا يعبد الله فيه على قبر رجل صالح ولو صحت نية الفاعل ومنها النهي عن التماثيل بتغليظ الأمر ومنها نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر ومنها أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم ومنها لعنه إياهم على ذلك ومنها مراده بذلك تحذيره إيانا عن قبره ومنها العلة في عدم إبراز قبره ومنها ما بلي به ﷺ من شدة النزع قلت ومنها التنبيه على علة تحريم ذلك وعلة لعن من فعله قال ولسلم عن جندب بن عبدالله قال سمعت النبي ﷺ قبل أن يموت بخمس وهو يقول إني إبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فان الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا ألا وان من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك فقد نهى عنه وهو في آخر حياته ثم إنه لعن وهو في السياق من فعله والصلاة عندها من ذلك وان لم يبن مسجدا وهو معنى قوله أخشى أن يتخذ مسجدا فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا كما قال ﷺ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ش قوله عن جندب بن عبدالله أي ابن سفيان البجلي أبو عبدالله وينسب إلى جده صحابي مشهور مات بعد الستين قوله إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل أي أمتنع من هذا وأنكره والخليل هو المحبوب غاية المحبة مشتق من الخلة بفتح
الخاء وهي تخلل المودة في القلب كما قال الشاعر ... قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا ... هذا هو الصحيح في معناه كما ذكره شيخ الإسلام وابن القيم وابن كثير وغيرهم قال القرطبي وإنما كان في ذلك لأن قلبه ﷺ قد امتلأ من محبة الله وتعظيمه ومعرفته فلا يسع لمخالة غيره قوله فإن الله قد اتخذني خليلا فيه التصريح بأن الخلة أكمل من المحبة قال ابن القيم وأما ما يظنه بعض الغالطين من أن المحبة أكمل من الخلة وأن ابراهيم خليل الله ومحمد ﷺ حبيب الله فمن جهلهم فإن المحبة عامة والخلة خاصة وهي نهاية المحبة قال وقد أخبر النبي ﷺ أن الله قد اتخذه خليلا ونفى أن يكون له خليل غير ربه مع إخباره بحبه لعائشة ولأبيها ولعمر بن الخطاب رضي الله عنهم وغيرهم وأيضا فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ويحب الصابرين وخلته خاصة بالخليلين وفيه جواز ذكر الانسان ما فيه من الفضل إذا دعت الحاجة الشرعية إلى ذلك قوله ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت ابا بكر خليلا فيه دليل على أن الصديق أفضل الصحابة حيث صرح ﷺ أنه لو اتخذ خليلا غير ربه لاتخذ ابا بكر ففيه رد على الرافضة وعلى الجهمية الذين هم شر أهل البدع بل أخرجهم بعض السلف من الثنتين والسبعين فرقة وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور وهم أول من بنى عليها المساجد قاتلهم الله قاله المصنف وفيه اشارة إلى خلافته لأن من كانت محبته لشخص أشد فهو أحق الناس بالنيابة عنه لا سيما وقد قال ذلك في مرض موته خصوصا وقد استخلفه على الصلاة بالناس وغضب لما صلى بهم عمر واسم أبي بكر عبدالله ابن عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تميم بن مرة الصديق
الأكبر خليفة رسول الله ﷺ وأفضل الصحابة باجماع من يعتد به من اهل السنة مات في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون سنة قوله ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد إلى آخر الحديث قال الخلخالي وإنكار النبي صلى الله لعيه وسلم صنيعهم هذا يخرج على وجهين أحدهما أنهم يسجدون لقبور الأنبياء تعظيما لهم والثاني أنهم يجوزون الصلاة في مدافن الأنبياء والسجود في مقابرهم والتوجه إليها حالة الصلاة نظرا منهم بذلك إلى عبادة الله والمبالغة في تعظيم الأنبياء والأول هو الشرك الجلي والثاني الخفي فلذلك استحقوا اللعن قلت الحديث أعم من ذلك فيشمله ويشمل بناء المساجد والقباب عليها قوله فقد نهى عنه في آخر حياته أي كما في حديث جندب قوله ثم انه لعن وهو في السياق من فعله أي كما في حديث عائشة قوله والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجدا يعني أن الصلاة عند القبور وإليها من اتخاذها مساجد الملعون من فعله وإن لم يبن مسجدا فتحرم الصلاة في المقبرة وإلى القبور بل لا تنعقد أصلا لما في هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من لعن من اتخذها مساجد وروى مسلم عن أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا اليها وعن أبي سعيد الخدري مرفوعا الأرض كلها مسجد الا المقبرة والحمام رواه أحمد وأهل السنن وصححه ابن حبان والحاكم من طرق على شرط الشيخين وفي صحيح البخاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أنس بن مالك يصلي عند قبر فقال القبر القبر وهذا يدل على أنه كان من المستقر عند الصحابة ما نهاهم عنه نبيهم ﷺ من الصلاة عند القبور وفعل
انس لا يدل على اعتقاد جوازه فإنه لعله لم يره ولم يعلم أنه قبر أو ذهل عنه فلما نبهه عمر تنبه وفي هذا كله إبطال قول من زعم أن النهي عن الصلاة فيها لأجل النجاسة فهذا أبعد شيء عن مقاصد الرسول ﷺ بل العلة في ذلك الخوف على الأمة أن يقعوا فيما وقعت فيه اليهود والنصارى وعباد اللات والعزى من الشرك ويدل على ذلك أن النبي ﷺ لعن اليهود والنصارى على اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد ومعلوم قطعا أن هذا ليس لأجل النجاسة لأن قبور الأنبياء من اطهر البقاع فإن الله حرم على الأرض أن تأكل أجسادهم فهم في قبورهم طريون وقد لعن النبي ﷺ متخذي المساجد عليها وموقدي السرج عليها ومعلوم أن إيقاد السرج عليها إنما هو لعن فاعله لكونه وسيلة إلى تعظيمها وجعلها نصبا يوفض اليها المشركون كما هو الواقع فهكذا اتخاذ المساجد عليها قال ابن القيم وبالجملة فمن له معرفة بالشرك وأسبابه وذرائعه وفهم عن الرسول ﷺ مقاصده جزم جزما لا يحتمل النقيض أن هذه المبالغة واللعن والنهي بصيغتيه صيغة لا تفعلوا وصيغة إني أنهاكم ليس لأجل النجاسة بل هو لأجل نجاسة الشرك اللاحقة بمن عصاه وارتكب ما عنه نهاه واتبع هواه ولم يخش ربه ومولاه وقل نصيبه أو عدم من تحقيق لا إله الا الله فإن هذا وأمثاله من النبي ﷺ صيانة لحمى التوحيد أن يلحقه الشرك ويغشاه وتجريد له وغضب لربه أن يعدل به سواه فأبى المشركون إلا معصية لأمره وارتكابا لنهيه وغرهم الشيطان بأن هذا التعظيم لقبور المشايخ والصالحين وكلما كنتم أشد لهاتعظيما وأشد فيهم غلوا كنتم بقربهم أسعد ومن أعدائهم أبعد ولعمر الله من هذا الباب بعينه دخل على عباد يغوث ويعوق ونسر ودخل على عباد الأصنام منذ كانوا إلى يوم القيامة فجمع المشركون بين الغلو فيهم والطعن في طريقتهم وهدى الله أهل التوحيد
لسلوك طريقهم وإنزالهم منازلهم التي أنزلهم الله إياها من العبودية وسلب خصائص الالهية قلت وممن علل بخوف الفتنة والشرك الشافعي وأبو بكر الأثرم وأبو محمد المقدسي وشيخ الاسلام وغيرهم وهو الحق قوله فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا أي لما علموا من تشديده في ذلك وتغليظه ولعن من فعله فكيف يتخذون على قبره مسجدا وإنما خشوا أن يعتاده بعض الجهال للصلاة عنده من غير شعور من الصحابة بذلك فلذلك دفنوه في بيته قوله وكل موضع قصدت الصلاة فيه فقد اتخذ مسجدا أي وإن لم يبن مسجدا قوله بل كل موضع يصلى فيه يسمى مسجدا الظاهر أن الأول في الأمكنة المعدة للصلاة وإن لم يبن فيها مسجدا وهذا في أي موضع صلى فيه وإن يعد لذلك كالمواضع التي يصلي فيها المسافر ونحو ذلك فعلى هذا إذا صلى عند القبور ولو مرة واحدة وإن لم يكن هناك مسجد فقد اتخذها مساجد قوله كما قال ﷺ جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا أي فسمى الأرض مسجدا وليست مسجد مبنيا لكن لما كانت يسجد فيها سميت مسجدا فدل هذا الحديث أن من صلى عند القبور أو اليها فقد اتخذها مساجد وهذا الحديث طرف من حديث صحيح متفق عليه عن جابر قال البغوي في شرح السنة أراد أن أهل الكتاب لم تبح لهم الصلاة إلا في بيعهم وكنائسهم واباح الله لهذه الأمة الصلاة حيث كانوا تخفيفا عليهم وتيسيرا ثم خص من جميع المواضع الحمام والمقبرة والمكان النجس وقوله طهورا أراد به التيمم وفي حديث جندب من الفوائد أيضا
العبرة في مبالغته ﷺ في النهي عن بناء المساجد على القبور كيف بين لهم ذلك أولا ثم قبل موته بخمس قال ما قال ثم لما كان في النزع لم يكتف بما تقدم بل لعن من فعل ذلك فدلت هذه الأحاديث الصحيحة الصريحة على تحريم البناء على القبور مطلقا فلذلك اكتفى المصنف بايرادها عن غيرها كحديث جابر أن النبي ﷺ نهى أن يجصص القبر وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه رواه مسلم وغره وزاد أبو داوود والحاكم وأن يكتب عليه قال ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود مرفوعا ان من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء والذين يتخذون القبور مساجد رواه أبو حاتم في صحيحه ش قوله إن من شرار الناس هو بكسر الشين جمع شر قوله من تدركهم الساعة وهم أحياء أي من تقوم عليهم الساعة بحيث ينفخ في الصور وهم احياء وهذا كحديثه الآخر الذي في مسلم لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق فإن قلت ما الجمع بين هذا وبين حديث ثوبان لا تزال طائفة من أمتي على الحق وما في معناه قيل حديث ثوبان مستغرق للأزمنة عام فيها وهذا مخصص وسيأتي زيادة لذلك عند الكلام على حديث ثوبان إن شاء الله تعالى قوله والذين يتخذون القبور مساجد الذين في محل نصب عطفا على من الموصولة أي إن من شرار الناس الذين يتخذون القبور مساجد بالصلاة عندها وإليها وبناء المساجد عليها وهذا المعنى متواتر عن النبي ﷺ معلوم بالاضطرار من دينه وكل ذلك شفقة على الأمة وخوفا عليهم أن يقودهم ذلك إلى الشرك بها وبأصحابها كما قاد إلى ذلك اليهود
والنصارى فأبى عباد القبور إلا الضرب بهذه الأحاديث الجدار ونبذها وراء الظهر أو الدفع في صدورها وأعجازها بحمل ذلك على غير قبور الأنبياء والصالحين أما قبورهم فتجوز الصلاة إليها وعندها وبناء المساجد والقباب عليها رجاء أن تصل اليهم العواطف الروحانية ولا ريب أن هذا مراغمة ومحادة لله ورسوله وهذا هو قول اليهود سمعنا وعصينا فإن النبي ﷺ إنما لعن من اتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد كما هو نص حديث عائشة رضي الله عنها وغيره وقبور غيرهم إنما أخذ النهي عن البناء عليها من هذه الأحاديث ونحوها بقياس الأولى أو من عموم أحاديث أخر فمن أعظم المراغمة والمناسبة والمحادة لله ورسوله أن تحمل على غير ما وردت فيه ويباح ما وردت بالنهي عنه ولعن من فعله ولكن هذا شأن عباد القبور إنما يتبعون اهواءهم ومن اضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ان الله لا يهدي القوم الظالمين وقد أجمع العلماء على النهي عن البناء على القبور وتحريمه ووجوب هدمه لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا مطعن فيها بوجه من الوجوه ولا فرق في ذلك بين البناء في مقبرة مسبلة أو مملوكة إلا أنه في المملوكة أشد ولا عبرة بمن شذ من المتأخرين فأباح ذلك إما مطلقا واما في المملوكة قال الإمام أبو محمد بن قدامة ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لأن النبي ﷺ قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا ولأن تخصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب اليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها وقال شيخ الإسلام أما بناء المساجد على القبور فقد صرح عامة علماء الطوائف بالنهي عنه متابعة للأحاديث
الصحيحة وصرح أصحابنا وغيرهم من أصحاب مالك والشافعي بتحريمه قال ولا ريب في القطع بتحريمه ثم ذكر الأحاديث في ذلك إلى أن قال فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين أو الملوك وغيرهم تتعين إزالتها بهدم أو بغيره هذا مما لا أعلم فيه خلافا بين العلماء المعروفين وقال ابن القيم يجب هدم القباب التي على القبور لأنها أسست على معصية الرسول ﷺ وقال أبو حفص تحرم الحجرة بل تهدم فإذا كان هذا كلامه في الحجرة فكيف بالقبة وقال الشافعي أكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس وقال أيضا تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع وتكون على وجه الأرض وقد أفتى جماعة من الشافعية بهدم ما في القرافة من الأبنيه منهم من بن الجميزى والظهير الترميني وغيرهما وقال القاضي بن كج ولا يجوز أن تجصص القبور ولا أن يبنى عليها قباب ولا غير قباب والوصية بها باطلة وقال الأذرعي وما بطلان الوصية ببناء القباب وغيرها من الأبنية العظيمة وإنفاق الأموال الكثيرة فلا ريب في تحريمه قلت وجزم النووي في شرح المهذب بتحريم البناء مطلقا وذكر في شرح مسلم نحوه أيضا وقال القرطبي في حديث جابر نهى أن يجصص القبر أو يبنى عليه وبظاهر هذا الحديث قال مالك وكره البناء والجص على القبور وقد أجازه غيره وهذا الحديث حجة عليه ووجه النهي عن البناء والتجصيص في القبور أن ذلك مباهاة واستعمال زينة الدنيا في أول منازل الآخرة وتشبه بمن كان يعبد القبور ويعظمها وباعتبار هذه المعاني وبظاهر هذا النص ينبغي أن يقال هو حرام كما قال به بعض أهل العلم وقال ابن مرشد كره مالك البناء على القبر وجعل البلاطة المكتوبة وهو من بدع أهل الطول احدثوه إرادة الفخر
والمباهاة والسمعة وهو مما لا اختلاف فيه وقال الزيلعي في شرح الكنز ويكره أن يبني على القبر وفي الخلاصة ولا يجصص القبر ولا يطين ولا يرفع عليه بناء وذكر أيضا قاضي خان أنه لا يجصص القبر ولا يبنى عليه لما روي عن النبي ﷺ أنه نهى عن التجصيص وعن البناء فوق القبر والمراد بالكراهة عند الحنفية كراهة التحريم التي هي في مقابلة ترك الواجب وقد ذكر ذلك ابن نجيم في شرح الكنز ومثل هذا كثير في كلام العلماء أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم والمقصود أن كلام العلماء موافق لما دلت عليه السنة الصحيحة في النهي عن البناء على القبور واعلم أنه قد وقع بسبب البناء على القبور من المفاسد التي لا يحيط بها على التفصيل إلا الله ما يغضب لله من أجله كل من في قلبه رائحة إيمان كما نبه عليه ابن القيم وغيره فمنها اعتيادها للصلاة عندها وقد نهى النبي ﷺ عن ذلك ومنها تحري الدعاء عندها ويقولون من دعا الله عند قبر فلان استجاب له وقبر فلان الترياق المجرب وهذا بدعة منكرة ومنها ظنهم ان لها خصوصيات بأنفسها في دفع البلاء وجلب النعماء ويقولون إن البلاء يدفع عن اهل البلدان بقبور من فيها من الصالحين ولا ريب أن هذا مخالف للكتاب والسنة والاجماع فالبيت المقدس كان عنده من قبور الأنبياء والصالحين ما شاء الله فلما عصوا الرسول وخالفوا ما أمرهم الله به سلط الله عليهم من انتقم منهم وكذلك أهل المدينة لما تغيروا بعض التغير جرى عليهم عام الحرة من النهب والقتل وغير ذلك من المصائب ما لم يجر عليهم قبل ذلك وهذا أكثر من أن يحصر ومنها الدخول في لعنة رسول الله ﷺ باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها أن ذلك يتضمن عمارة المشاهد وخراب المساجد كما هو الواقع ودين الله بضد ذلك ومنها اجتماعهم لزيارتها واختلاط النساء
بالرجال وما يقع في ضمن ذلك من الفواحش وترك الصلوات ويزعمون أن صاحب التربة تحملها عنهم بل اشتهر أن البغايا يسقطن أجرتهن على البغاء في أيام زيادة المشايخ كالبدوي وغيره تقربا إلى الله بذلك فهل بعد هذا في الكفر غاية ومنها كسوتها بالثياب النفيسة المنسوجة بالحرير والذهب والفضة ونحو ذلك ومنها جعل الخزائن والأموال ووقف الوقوف لما يحتاج اليه من ترميمها ونحو ذلك ومنها إهداء الأموال ونذر النذور ولسدنتها العاكفين عليها الذين هم أصل كل بلية وكفر فإنهم الذين يكذبون على الجهال والطغام بأن فلانا دعا صاحب التربة فأجابه واستغاثه فأغاثه ومرادهم بذلك تكثير النذر والهدايا لهم ومنها جعل السدنة لها كسدنة عباد الأصنام ومنها الاقسام على الله في الدعاء بالمدفون فيها ومنها أن كثيرا من الزوار إذا رأى البناء الذي على قبر صاحب التربة سجد له ولا ريب أن هذا كفر بنص الكتاب والسنة وإجماع الأمة بل هذا هو عبادة الأوثان لأن السجود للقبة عبادة لها وهو من جنس عبادة النصارى للصور التي في كنائسهم على صور من يعبدونه بزعمهم الباطل فإنهم عبدوها ومن هي صورته وكذلك عبادة القبور لما بنوا القباب على القبور آل بهم إلى أن عبدت القباب ومن بنيت عليه من دون الله تعالى ومنها النذر للمدفون فيها وفرض نصيب من المال والولد وهذا هو الذي قال الله فيه وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا الآية بل هذا أبلغ فإن المشركين ما كانوا يبيعون أولادهم لأوثانهم ومنها أن المدفون فيها أعظم في قلوب عباد القبور من الله وأخوف ولهذا
لو طلبت من أحدهم اليمين بالله تعالى أعطاك ما شئت من الأيمان كاذبا أو صادقا وإذا طلبت بصاحب التربة لم يقدم إن كان كاذبا ولا ريب أن عباد الأوثان ما بلغ شركهم إلى هذا الحد بل كانوا إذا أرادوا تغليظ اليمين غلظوها بالله كما في قصة القسامة وغيرها ومنها سؤال الميت قضاء الحاجات وتفريج الكربات والاخلاص له من دون الله في اكثر الحالات ومنها التضرع عند مصارع الأموات والبكاء بالهيبة والخشوع لمن فيها أعظم مما يفعلونه مع الله في المساجد والصلوات ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله وهي المساجد فيعتقدون أن العبادة والعكوف فيها أفضل من العبادة والعكوف في المساجد وهذا أمر ما بلغ اليه شرك الأولين فإنهم يعظمون المسجد الحرام أعظم من بيوت الأصنام يرون فضله عليها وهؤلاء يرون العكوف المشاهد أفضل من العكوف في المساجد ومنها أن الذي شرعه الرسول ﷺ في زيارة القبور إنما هو تذكرة الآخرة كما قال روا القبور فإنها تذكركم الآخرة والإحسان إلى المزور بالترحم عليه والدعاء له والاستغفار وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب عباد القبور الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم ونصرهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى نفوسهم وإلى الميت ولو لم يكن إلا بحرمانه بركة ما شرعه الله من الدعاء والترحم عليه والاستغفار له ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله عباد القبور بها فإنه يؤذيهم ما يفعلونه عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهة كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى
وكذلك غيره من الأنبياء والأولياء يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب لهم إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون واذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين ومنها محادة الله ورسوله ومناقضة ما شرعه فيها ومنها التعب العظيم مع الوزر الكبير والإثم العظيم وكل هذه المفاسد العظيمة وغيرها مما لم يذكر إنما حدثت بسبب البناء على القبور ولهذا تجد القبور التي ليس عليها قباب لا يأتيها أحد ولا يعتادها لشيء مما ذكر إلا ما شاء الله وصاحب الشرع أعلم بما يؤول إليه هذا الأمر فلذلك غلظ فيه وأبدأ وأعاد ولعن من فعله فالخير والهدى في طاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته والعجب ممن يشاهد هذه المفاسد العظيمة عند القبور ثم يظن أن النبي ﷺ إنما نهى عن اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة كما يظنه بعض متاخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة كما يظنه بعض متأخري الفقهاء ولو كان ذلك لأجل النجاسة لكان ذكر المجازر والحشوش بل ذكر التحرز من البول والغائط أولى وإنما ذلك لأجل نجاسة الشرك التي وقعت من عباد القبور لما خالفوا ذلك ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا تعبد من دون الله ش أراد المصنف رحمه الله بهذه الترجمة أمورا الأول التحذير من الغلو في قبور الصالحين الثاني أن الغلو فيها يؤول إلى عبادتها الثالث
أنها اذا عبدت سميت اوثانا ولو كانت قبور الصالحين الرابع التنبيه على العلة في المنع من البناء عليها واتخاذها مساجد والأوثان هي المعبودات التي لا صورة لها كالقبور والأشجار والعمد والحيطان والأحجار ونحوها وقد تقدم بيان ذلك وقيل الوثن هو الصنم والصنم هو الوثن وهذا غير صحيح إلا مع التجريد فأحدهما قد يعنى به الآخر وأما مع الاقتران فيفسر كل واحد بمعناه قال روى مالك في الموطا أن رسول الله ﷺ قال اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ش هذا الحديث رواه مالك في باب جامع الصلاة مرسلا عن زيد ابن أسلم عن عطاء بن يسار ان رسول الله ﷺ قاله ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن أبي خالد الأحمر عن ابن عجعلان عن زيد بن أسلم به ولم يذكر عطاء ورواه البزار عن عمر بن محمد عن زيد عن عطاء عن أبي سعيد الخدري مرفوعا وعمر بن محمد بن زيد بن عبدالله بن عمر بن الخطاب ثقة من أشراف أهل المدينة روى عنه مالك والثوري وسليمان بن بلال فالحديث صحيح عند من يحتج بمراسيل الثقات وعند من قال بالمسند لإسناد عمر بن محمد له بلفظ الموطأ سواء وهو ممن تقبل زيادته وله شاهد عند الإمام أحمد والعقيلي من طريق سفيان عن حمزة بن المغيرة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة رفعه اللهم لاتجعل قبري وثنا يعبد لعن الله قوما اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد قوله روى مالك في الموطأ هو الإمام مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمر الأصبحي أبو عبدالله المدني الفقيه إمام دار الهجرة وأحد الأئمة الأربعة وأحد المتقنين في الحديث حتى قال البخاري أصح الأسانيد
كلها مالك عن نافع عن ابن عمر مات سنة تسع وسبعين ومائة وكان مولده سنة ثلاث وتسعين وقال الواقدي بلغ تسعين سنة قوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد قد استجاب الله دعاء رسوله ﷺ فمنع الناس من الوصول إلى قبره لئلا يعبد استجابة لدعاء رسوله ﷺ كما قال ابن القيم فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران ودل الحديث عن أن قبر الرسول ﷺ لو عبد لكان وثنا فما ظنك بقبر غيره من القبور التي عبدت هي واربابها من دون الله وإذا أريد تغيير شيء من ذلك انف عبادها واشمأزت قلوبهم واستكبرت نفوسهم وقالوا تنقص أهل الرتب العالية ورموهم بالعظائم فماذا يقولون لو قيل لهم إنها أوثان تعبد من دون الله فالله المستعان على غربة الإسلام وهذه هي الفتنة العظمى التي قال فيها عبد الله بن مسعود كيف انتم إذا لبستكم فتنة يهرم فيها الكبير وينشأ فيها الصغير تجري على الناس يتخذونها سنة إذا غيرت قيل غيرت السنة ويؤخذ من الحديث المنع من تتبع آثار الأنبياء والصالحين كقبورهم ومجالسهم ومواضع صلاتهم للصلاة والدعاء عندها فإن ذلك من البدع أنكره السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم ولا نعلم أحدا أجازه أو فعله إلا ابن عمر على وجه غير معروف عند عباد القبور وهو إرادة التشبه برسول الله ﷺ في الصلاة فيما صلى فيه ونحو ذلك ومع ذلك فلا نعلم أحدا وافقه عليه من الصحابة بل خالفه أبوه وغيره لئلا يفضي ذلك إلى اتخاذها أوثانا كما وقع قال ابن عبد الباقي في شرح الموطأ روى أشهب عن مالك أنه كره لذلك ان يدفن في المسجد قال وإذا منع من ذلك فسائر آثاره أحرى بذلك وقد كره مالك طلب موضع شجرة بيعة الرضوان مخالفة لليهود والنصارى انتهى وقال ابن وضاح سمعت عيسى بن يونس يقول أمر عمر بن الخطاب
بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي ﷺ فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها فخاف عليهم الفتنة قال عيسى بن يونس وهو عندنا من حديث ابن عون عن نافع أن الناس كانوا يأتون الشجرة فقطعها عمر رضي الله عنه وقال المعرور بن سويد صليت مع عمر بن الخطاب في طريق مكة صلاة الصبح فقرأ فيها ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل و لإيلاف قريش ثم رأى الناس يذهبون مذاهب فقال أين يذهب هؤلاء فقيل يا أمير المؤمنين مسجد صلى فيه رسول الله ﷺ فهم يصلون فيه فقال إنما أهلك من كان قبلكم بمثل هذا كانوا يتتبعون آثار أنبيائهم ويتخذونها كنائس وبيعا فمن أدركته الصلاة في هذه المساجد فليصل ومن لا فليمض ولا يتعمدها وفي مغازي بن اسحق من زيادات يونس بن بكير عن أبي خلدة خالد بن دينار حدثنا أبو العالية قال لما فتحنا تستر وجدنا في بيت مال الهرمزان سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر فدعا له ركعبا فنسخه بالعربية فأنا أول رجل قرأه من العرب قرأته مثل ما أقرأ القرآن فقلت لأبي العالية ما كان فيه قال سيرتكم وأموركم ولحون كلامكم وما هو كائن بعد قلت فما صنعتم بالرجل قال حضرنا له بالنهار ثلاثة عشرة قبرا متفرقة فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعمينه على الناس لا ينبشونه قلت وما يرجون منه قال كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون فقلت من كنتم تظنون الرجل قال رجل يقال له دانيال فقلت منذ كم وجدتموه مات قال منذ ثلاث مائة سنة قلت ما كان تغير منه شيء قال لا إلا شعيرات من قفاه إن لحوم الأنبياء لا تبليها الأرض قال ابن القيم رحمه الله تعالى ففي هذه القصة ما فعله المهاجرون والأنصار من تعمية قبره
لئلا يفتتن به ولم يبرزوه للدعاء عنده والتبرك به ولو ظفر به المتأخرون لجالدوا عليه بالسيوف ولعبدوه من دون الله قال شيخ الإسلام رحمه الله وهو إنكار منهم لذلك فمن قصد بقعة يرجو الخير بقصدها ولم يستحب الشارع قصدها فهو من المنكرات وبعضه أشد من بعض سواء قصدها ليصلي عندها أو ليدعو عندها أو ليقرأ عندها أو ليذكر الله عندها أو ليسك عندها بحيث يخص تلك البقعة بنوع من العبادة التى لم يشرع تخصيصها به لا نوعا ولا عينا لأن ذلك قد يجوز بحكم الاتفاق لا لقصد الدعاء فيها من يدعو الله في طريقه ويتفق أن يمر في طريقه بالقبور أو كمن يزورها ويسلم عليها ويسأل العافية له وللموتى كما جاءت به السنة فإن ذلك ونحوه لا بأس به وأما تحري الدعاء عندها بحيث يستشعر أن الدعاء هناك أجوب منه في غيره فهذا هو المنهي عنه والفرق بين النوعين ظاهر فإن الرجل لو كان يدعو الله واجتاز في ممره بصنم أو صليب أو كنيسة أو دخل إليها ليبيت فيها مبيتا جائزا ودعا الله في الليل أو أتى بعض أصدقائه ودعا الله في بيته لم يكن بهذا بأس ولو تحرى الدعاء عند هذه المواضع لكان من العظائم بل قد يكون كفرا قوله اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد هذه الجملة بعد الأولى تنبيه على سبب لحوق اللعن بهم وهو توسلهم بذلك إلى أن تصير أوثانا تعبد ففيه إشارة إلى ما ترجم له المصنف وفيه تحريم البناء على القبور وتحريم الصلاة عندها وقد روى أصحاب مالك عنه أنه كره أن يقول القائل زرت قبر النبي ﷺ وعلل وجه الكراهة بقوله اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد فكره إضافة هذا اللفظ إلى القبر لئلا يقع التشبه بفعل أولئك سدا للذريعة وحسما للباب ذكره الطبري وفيه أنه ﷺ لم يستعذ إلا مما
يخاف وقوعه ذكره المصنف قال ولأبن جرير بسنده عن سفيان عن منصور عن مجاهد أفرأيتم اللات والعزى قال كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس كان يلت السويق للحاج ش قوله ولابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ وغيرهما قال ابن خزيمة لا اعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من الأئمة المجتهدين لا يقلد أحدا وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ولد سنة اربع وعشرين ومائتين ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة قوله عن سفيان هو أحد السفيانيين إما ابن عيينة وإما الثوري فإن كان ابن عيينة فقد تقدمت ترجمته وإن كان الثوري وهو الأظهر فهو سفيان بن سعيد بن مسروق أبو عبدالله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام حجة عابد وكان مجتهدا له أتباع وأصحاب يتفقهون على مذهبه مات سنة إحدى وستين ومائة وله أربع وستون سنة قوله عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي أو عتاب بمثناة ثقيلة ثم موحدة الكوفي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة قوله عن مجاهد هو ابن جبر بالجيم والموحدة أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير والعلم أخذ التفسير عن ابن عباس وغيره مات سنة أربع ومائة قاله يحيى القطان وقال ابن حبان مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد وكان مولده سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه
قوله كان يلت لهم السويق فمات فعكفوا على قبره لت السويق هو خلطه بسمن ونحوه وقد قيل إن اسم الرجل صرمة بن غنم وعن ابن عباس كان يلت السويق على الحجر فلا يشرب منه أحد إلا سمن فعبدوه رواه ابن أبي حاتم وعن مجاهد كان اللات رجلا في الجاهلية وكان له غنم فكان يسلو من رسلها ويأخذ من زبيب الطائف والاقط فيجعل منه حيسا ويطعم من يمر من الناس فلما مات عبدوه وقالوا هو اللات وكان يقرأ اللات مشددة رواه سعيد بن منصور والفاكهي قوله وكذا قال أبو الجوزاء إلى آخره هو أوس بن عبدالله الربعي بفتح الراء والباء ثقة مشهور مات سنة ثلاث وثمانين وهذا الاثر ذكره المصنف ولم يعزه وقد رواه البخاري ولا تخالف بين هذا التفسير والقراءة وبين قراءة من قرأ بالتخفيف وقال إنه كان حجر فعبدوه واشتقوا له من اسم الله الإله كما تقدم تقريره في باب من تبرك بشجرة وأيضا فيجاب على الأول بأن أصله التشديد وخفف لكثرة الاستعمال وأما كونهم اشتقوا هذا الاسم من اسم الله الاله فلا ينافي ذلك أيضا فقد رأيت أن سبب عبادة اللات هو الغلو في قبره حتى صار وثنا يعبد كما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين ود وسواع ويغوث ويعوق نسر وغيرهم وكما كان ذلك هو السبب في عبادة الصالحين من الأموات وغيرهم اليوم فإنهم غلوا فيهم وبنوا على قبورهم القباب والمشاهد وجعلوها ملاذا لقضاء المآرب وبالجملة فالغلو أصل الشرك في الأولين والأخرين إلى يوم القيامة وقد أمرنا الله تعالى بمحبة أوليائه وإنزالهم منازلهم من العبودية وسلب خصائص الإلهية عنهم وهذا غاية تعظيمهم وطاعتهم ونهانا عن الغلو فيهم
فلا نرفعهم فوق منزلتهم ولا نحطهم منها لما يعلمه تعالى في ذلك من الفساد العظيم فما وقع الشرك إلا بسبب الغلو فيهم فإن الشرك بهم غلو فيهم وأنزلوهم منازل الالهية وعصوا أمرهم وتنقصوهم في صورة التعظيم لهم فتجد أكثر هؤلاء الغالين فيهم العاكفين على قبورهم معرضين عن طريقة من فيها وهديه وسنته عائبين لها مشتغلين بقبورهم عما أمروا به ودعوا إليه وتعظيم الانبياء والصالحين ومحبتهم إنما هي باتباع ما دعوا اليه من العلم النافع والعمل الصالح واقتفاء آثارهم وسلوك طريقتهم دون عبادتهم وعبادة قبورهم والعكوف عليها كالذين يعكفون على الاصنام واتخاذها أعيادا ومجامع للزيارات والفواحش وترك الصلوات فإن من اقتفى آثارهم كان متسببا في تكثير أجورهم باتباعه لهم ودعوته الناس إلى اتباعهم فإذا أعرض عما دعوا إليه واشتغل بضده حرم نفسه وحرمهم ذلك الأجر فأي تعظيم لهم واحترام في هذا قال وعن ابن عباس قال لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج رواه أهل السنن ش قوله لعن رسول الله ﷺ زائرات القبور أي من النساء وهذا يدل على تحريم زيارة القبور عليهن كما هو مذهب أحمد وطائفة وقيل في تعليل ذلك أنه يخرجها إلى الجزع والندب والنياحة والافتتان بها وبصورتها وتأذي الميت ببكائها كما في حديث آخر فإنكن تفتن الحي وتؤذن الميت وإذا كان زيارة النساء مظنة وسببا للأمور المحرمة في حقهن وحق الرجال وتقدير ذلك غير مضبوط لأنه لا يمكن حد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك ولا التمييز بين نوع ونوع ومن أصول الشريعة أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم
بمظنتها فتحرم سدا للذريعة كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة لما في ذلك من الفتنة وكما حرمت الخلوة بالأجنبية وليس في زيارتها من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة لأنه ليس في زيارتها إلا دعواها للميت أو اعتبارها به وذلك ممكن في بيتها وقد روى الامام أحمد وابن ماجة والحاكم عن حسان بن ثابت مرفوعا لعن الله زوارات القبور وعن أبي هريرة أن رسول الله صلىالله عليه وسلم لعن زوارات القبور رواه أحمد وابن ماجه والترمذي وصححه وضعفه عبدالحق وحسنة ابن القطان ولا يعارض هذا حديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها رواه مسلم وغيره لأن هذا إن سلم دخول النساء فيه فهو عام والأول خاص والخاص مقدم عليه وأيضا ففي دخول النساء في خطاب الذكور خلاف عندالأصوليين قوله والمتخذين عليها المساجد تقدم في الباب قبله شرحه وتعليله قوله والسرج هذا دليل على تحريم اتخاذ السرج على القبور قال أبو محمد المقدسي لو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله لأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور أشبه تعظيم الأصنام وقال ابن القيم اتخاذها مساجد وايقاد السرج عليها من الكبائر ووجه إيراد المصنف هذا الحديث في هذا الباب دون الذي قبله هو أنه لعن المتخذين عليها المساجد والسرج وقرن بينهما فهما قرينان في اللعنة فدل ذلك على أنه ليس المنع من اتخاذ المساجد عليها لأجل النجاسة بل لأجل نجاسة الشرك ولذلك قرن بينه وبين من لا سراج عليها وليس النهي عن الاسراج لأجل النجاسة فكذلك البناء
قوله رواه أهل السنن يعني هنا أبا داود وابن ماجه والترمذي فقط ولم يروه النسائي باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ جناب التوحيد وسده كل طريق يوصل إلى الشرك الجناب هو الجانب واعلم أن في الأبواب المتقدمة شيئا من حمايته ﷺ لجناب التوحيد ولكن أراد المصنف هنا بيان حمايته الخاصة ولقد بالغ ﷺ وحذر وأنذر وأبدأ وأعاد وخص وعم في حماية الحنيفية السمحة التي بعثه الله بها فهي حنيفية في التوحيد سمحة في العمل كما قال بعض العلماء هي أشد الشرائع في التوحيد والابعاد عن الشرك وأسمح الشرائع في العمل قال وقوله تعالى لقد جاءكم رسول من أنفسكم الآية ش قوله لقد جاءكم رسول هذا خطاب من الله تعالى للعرب في قول الجمهور وهذا على جهة تعديده نعمه عليهم إذ جاءهم بلسانهم وبما يفهمونه من الأغراض والفصاحة وشرفوا به أبد الآبدين وقوله رسول أي رسول عظيم أرسله الله اليكم من أنفسكم أي ترجعون معه إلى نفس واحدة لأنه وأنتم من أب قريب كما قال تعالى عن ابراهيم عليه السلام أنه قال ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم
آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم وذلك أقرب وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحك واللجاجة وهذا يقتضي مدحا لنسب النبي ﷺ وأنه من صميم العرب قال جعفر بن محمد في قوله من أنفسكم قال لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية وقوله عزيز عليه أي شديد عليه جدا ما عنتم أي عنتكم وهو لحاق الأذى الذي يضيق به الصدر ولا يهتدي للمخرج وهي هنا لفظ عام أي ما شق عليكم من كفر وضلال وقتل وأسر وامتحان بسبب الحق و ما مصدرية وهي مبتدأ و عزيز خبر مقدم ويجوز أن يكون ما عنتم فاعلا به عزيز و عزيز صفة للرسول وهذا أصوب وقوله حريص عليكم أي بليغ الحرص عليكم أي على نفعكم وإيمانكم وهداكم والحرص شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه وروى الطبراني باسناد جيد عن أبي ذر رضي الله عنه قال تركنا رسول الله ﷺ وما طائر يقلب جناحيه في الهوى إلا وهو يذكر لنا منه علما قال وقال ما بقي شيء يقرب من الجنة ويباعد من النار إلا وقد بينته لكم وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ مثلي كمثل رجل استوقد نارا فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب التي في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيتقحمن فيها قال فذلك مثلي ومثلكم أنا آخذ بحجزكم عن النار هلم عن النار هلم عن النار فتغلبونني وتقحمون فيها
وقوله بالمؤمنين أي لا بغيرهم كما يفيده تقديم الجار رؤوف أي بليغ الشفقة قال أبو عبيدة الرأفة أرق الرحمة رحيم أي بليغ الرحمة كما هو اللائق بشريف منصبه وعظيم خلقه فتأمل هذه الآية وما فيها من أوصافه الكريمة ومحاسنه الجمة التي تقتضي أن ينصح لأمته ويبلغ البلاغ المبين ويسد الطرق الموصلة إلى الشرك ويحمي جناب التوحيد غاية الحماية ويبالغ أشد المبالغة في ذلك لئلا تقع الأمة في الشرك وأعظم ذلك الفتنة بالقبور فإن الغلو فيها هو الذي جر الناس في قديم الزمان وحديثه إلى الشرك لاجرم فعل النبي ﷺ ذلك وحمى جناب التوحيد حتى في قبره الذي هو أشرف القبور حتى نهى عن جعله عيدا ودعا الله أن لا يجعله وثنا يعبد وفي الآية مسائل منها التنبيه على هذه النعمةالعظيمة وهي إرسال الرسول ﷺ فينا كما قال تعالى لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ومنها كونه منا نعمة أخرى عظيمة ومنها كونه بهذه الصفات نعم متعددة ومنها مدح نسبه ﷺ فهو أشرف العرب بيتا ونسبا ومنها رأفته بالمؤمنين ومنها غلظته على الكفار والمنافقين قال عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فان صلاتكم تبلغني حيث كنتم رواه أبو داود بإسناد حسن رواته ثقات ش قوله لا تجعلوا بيوتكم قبورا قال شيخ الإسلام نور الله ضريحه أي لاتعطلوها من الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري العبادة في البيوت ونهى عن تحريها عند القبور عكس ما يفعله
المشركون من النصارى ومن تشبه بهم وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعا اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا وفي صحيح مسلم عن ابن عمر مرفوعا لا تجعلوا بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي يسمع سورة البقرة تقرأ فيه وفيه أن الصلاة في المقبرة لا تجوز وأن التطوع في البيت أفضل منه في المسجد وفي حديث أبي هريرة الذي ذكرنا كراهة القراءة في المقابر وكل هذا إبعاد لأمته عن الشرك قوله ولا تجعلوا قبري عيدا قال شيخ الإسلام العيد اسم لما يعود من الاجتماع العام على وجه معتاد عائدا إما بعود السنة أو بعود الأسبوع أو الشهر ونحو ذلك وتقدم ذلك وقال ابن القيم رحمه الله تعالى العيد ما يعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان مأخوذ من المعاودة والاعتياد فإن كان اسما للمكان فهو المكان الذي يقصد فيه الاجتماع وانتيابه للعبادة أو لغيرها كما أن المسجد الحرام ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر جعلها الله عيدا للحنفاء ومثابة كما جعل أيام العيد فيها عيدا وكان للمشركين أعياد زمانية ومكانية فلما جاء الله بالاسلام أبطلها وعرض الحنفاء منها عيد الفطر وعيد النحر وأيام منى كما عوضهم عن أعياد المشركين المكانية بالكعبة ومنى ومزدلفة وعرفة والمشاعر وقال غيره هذا أمر بملازمة قبره والعكوف عنده واعتياد قصده وانتيابه ونهى أن يجعل كالعيد الذي إنما يكون في العام مرة أو مرتين فكأنه قال لا تجعلوه كالعيد الذي يكون من الحول إلى الحول واقصدوه كل ساعة وكل وقت قال ابن القيم رحمه الله وهذا مراغمة ومحادة ومناقضة لما قصده الرسول ﷺ
وقلب للحقائق ونسبه الرسول ﷺ إلى التلبيس والتدليس بعدالتناقض فقاتل الله أهل الباطل أنى يؤفكون ولا ريب أن من أمر الناس باعتياد أمر وملازمته وكثرة انتيابه بقوله لا تجعلوا عيدا فهو إلى التلبيس وضد البيان أقرب منه إلى الدلالة والبيان وهكذا غيرت أديان الرسل ولولا أن الله أقام لدينه الأنصار والأعوان الذابين عنه لجرى عليه ما جرى على الأديان قبله ولو أراد رسول الله ﷺ ما قاله هؤلاء الضلال لم ينه عن اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ويلعن فاعل ذلك فإنه إذا لعن من اتخذها مساجد يعبد الله فيها فكيف يأمر بملازمتها والعكوف عندها وأن يعتاد قصدها وانتيابها ولا تجعل كالعيد الذي يجيء من الحول إلى الحول وكيف يسال ربه أن لا يجعل قبره وثنا يعبد وكيف يقول أعلم الخلق بذلك ولولا ذلك لأبرز قبره ولكن خشي أن يتخذ مسجدا وكيف يقول لا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم وكيف لم يفهم أصحابه وأهل بيته من ذلك ما فهمه هؤلاء الضلال الذين جمعوا بين الشرك والتحريف وهذا أفضل التابعين من أهل بيته علي بن الحسين رضي الله عنهما نهى ذلك الرجل ان يتحرى الدعاء عند قبره ﷺ واستدل بالحديث وهو الذي رواه وسمعه من أبيه الحسين عن جده علي رضي الله عنهما هوأعلم بمعناه من هؤلاء الضلال وكذلك ابن عمه الحسن بن الحسن شيخ أهل بيته كره أن يقصد الرجل القبر إذا لم يكن يريد المسجد ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا انتهى قلت وكيف يريد النبي ﷺ هذا المعنى ويعبر عنه بهذا الكلام مع أنه أفصح الخلق وأنصحهم وكان يمكنه أن يقول أكثروا زيارة قبري أو اجعلوه عيدا تعتادون المجيء إليه والعبادة عنده فظهر بطلان هذا القول اذا تبين ذلك فمعنى الحديث نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص
واجتماع معهود كالعيد الذي يكون على وجه مخصوص في زمان مخصوص وذلك يدل على المنع في جميع القبور وغيرها لأن قبر رسول الله ﷺ أفضل قبر على وجه الأرض وقد نهى عن اتخاذه عيدا فقبر غيره أولى بالنهي كائنا من كان قال المصنف وفيه النهي عن الاكثار من الزيارة قوله وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم قال شيخ الإسلام يشير بذلك إلى أن ما ينالني منكم من الصلاة والسلام يحصل مع قربكم من قبري وبعدكم فلا حاجة بكم إلى اتخاذه عيدا انتهى وقد روى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا ما من احد يسلم علي الا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام وعن أوس بن أوس مرفوعا أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة وليلة الجمعة فإن صلاتكم معروضة علي قالوا يا رسول الله كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت قال إن الله حرم على الأرض أن تأكل لحوم الأنبياء رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه فهذه الأحاديث وغيرها تدل على أن صلاتنا عليه تبلغه سواء كنا عند قبره أو لم نكن فلا مزية لمن سلم عليه أو صلى عند قبره كما قال الحسن بن الحسن ما أنتم ومن بالأندلس الاسواء وأما حديث من صلى علي عند قبري سمعته ومن صلى علي غائبا بلغته فرواه البيهقي وغيره من حديث العلى بن عمرو الحنفي حدثنا أبو عبدالرحمن عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ فذكره قال البيهقي أبو عبدالرحمن هذا هو محمد بن مروان السدي فيما أرى وفيه نظر قلت محمد بن مروان السدي الصغير قال فيه يحيى بن معين ليس بثقة وقال الجوزجاني ذاهب الحديث وقال النسائي متروك الحديث وكذلك قال أبو حاتم الرازي والازدي وقال صالح بن محمد كان يضع الحديث على أن معناه صحيح معلوم من أحاديث أخر كاخباره بسماع الموتى لسلام من يسلم عليهم اذا
مر على قبورهم فان قيل اذا سمع سلام المسلم عليه عند قبره حصلت المزية بسماعه قيل هذا لو حصل الوصول الى قبره أما وقد منع الناس من الوصول إليه بثلاثة الجدران فلا تحصل مزية فسواء سلم عليه عند قبره أو في مسجده اذا دخله أو في أقصى المشرق والمغرب فالكل يبلغه كما وردت به الأحاديث وليس في شيء منها أنه يسمع صوت المصلي والمسلم بنفسه إنما فيها أن ذلك يعرض عليه ويبلغه ﷺ ومعلوم أنه أراد بذلك الصلاة والسلام الذي أمر الله به سواء صلى عليه في مسجده أو في مدينته أو في مكان آخر فعلم أن ما أمر الله به من ذلك فإنه يبلغه وأما من سلم عليه عند قبره فانه يرد عليه وذلك كالسلام على سائر المؤمنين ليس هو من خصائصه ولكن لا يوصل إلى قبره ﷺ قال وعن على بن الحسين أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي ﷺ فيدخل فيها فيدعو فنهاه وقال ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله ﷺ قال لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم رواه في المختارة ش هذان الحديثان جيدان حسنا الاسنادين أما الحديث الأول فرواه أبو داود وغيره من حديث عبا الله بن نافع الصائغ قال أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة فذكره ورواته ثقات مشاهير لكن عبدالله بن نافع فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال ابن معين هو ثقه وقال أبو زرعة لا بأس به وقال أبو حاتم الرازي ليس بالحافظ تعرف وتنكر قال شيخ الإسلام رحمه الله ومثال هذا قد يخاف أن يغلط أحيانا فاذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ وهذا له شواهد متعددة وقال الحافظ ابن عبدالهادي
هو حديث حسن جيد الإسناد وله شواهد كثيرة يرتقى بها إلى درجة الصحة وأما الحديث الثاني فرواه أبو يعلى والقاضي اسماعيل والحافظ الضياء في المختارة قال أبو يعلى حدثنا أبو بكر ابن أبي شيبة ثنا زيد بن الحباب ثنا جعفر ابن ابراهيم من ولد ذي الجناحين ثنا علي بن عمر عن أبيه عن علي بن حسين فذكره وعلي بن عمر هو علي بن عمر بن علي بن الحسين قال شيخ الإسلام فانظر كيف هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة وأهل البيت الذين لهم من رسول الله ﷺ قرب النسب وقرب الدار لأنهم الى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا أضبط قلت وللحديثين شواهد منها ما رواه ابن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سهيل عن جبير بن حنين قال قال رسول الله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي حيث ما كنتم فإن صلاتكم تبلغني وقال سعيد بن منصور حدثنا عبدالعزيز ابن محمد أخبرني سهيل بن أبي سهيل قال أتى الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عند القبر فناداني وهو في بيت فاطمة يتعشى فقال هلم إلى العشاء فقلت لا أريده فقال ما لي رأيتك عند القبر فقلت سلمت على النبي ﷺ فقال اذا دخلت المسجد فسلم ثم قال إن الرسول ﷺ قال لاتتخذوا قبري عيدا ولا تتخذوا بيوتكم مقابر وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم لعن الله اليهود اتخذوا قبور انبيائهم مساجد ما أنتم ومن بالأندلس الا سواء ورواه القاضي اسماعيل في كتاب فضل الصلاة على النبي ﷺ ولم يذكر ما أنتم ومن بالأندلس إلا سواء وقال سعيد أيضا حدثنا حبان ابن علي ثنا محمد بن عجلان عن أبي سعيد مولى المهري قال قال رسول الله ﷺ لا تتخذوا قبري عيدا ولا بيوتكم قبورا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني قال شيخ الإسلام فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على
ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وذلك يقتضي ثبوته عنده هذا لو لم يرو من وجوه مسنده غير هذين فكيف وقد تقدم مستدا قوله عن علي بن الحسين أي ابن علي بن أبي طالب المعروف بزين العابدين رضي الله عنه وهو أفضل التابعين من أهل بيته وأعلمهم قال الزهري ما رأيت قرشيا أفضل منه مات سنة ثلاث وتسعين على الصحيح وأبوه الحسين سبط النبي ﷺ وريحانته حفظ عن النبي ﷺ واستشهد يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وله ست وخمسون سنة قوله انه رأى رجلا يجيء إلى فرجة هو بضم الفاء وسكون الراء واحدة الفرج وهي الكوة في الجدار والخوخة ونحوهما قوله فيدخل فيها فيدعو فنهاه إلى آخر الحديث هذا يدل على النهي عن قصد القبور والمشاهد لأجل الدعاء والصلاة عندها كما تقدم بعض ذلك لأن ذلك من اتخاذها عيدا كما فهمه علي بن الحسين من الحديث فنهى ذلك الرجل عن المجيء إلى قبر النبي صلى الله علعه وسلم للدعاء عنده فكيف بقبر غيره ويدل أيضا على أن قصد الرجل القبر لأجل السلام إذا لم يكن يريد المسجد من اتخاذه عيدا المنهي عنه ولهذا لما رأى الحسن بن الحسن سهيلا عند القبر نهاه عن ذلك وذكر له الحديث مستدلا به وأمر بالسلام عليه عند دخول المسجد قال شيخ الإسلام ما علمت أحدا أي من علماء السلف رخص فيه لأن ذلك نوع من اتخاذه عيدا ويدل أيضا على أن قصد القبر للسلام إذا دخل المسجد ليصلي منهي عنه لأن ذلك من اتخاذه عيدا وكره مالك لأهل المدينة كلما دخل انسان المسجد أن يأتي قبر النبي ﷺ لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك قال ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها بل كان الصحابة والتابعون يأتون إلى مسجده ﷺ فيصلون خلف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي
رضي الله عنهم ثم إذا قضوا الصلاة قعدوا أو خرجوا ولم يكونوا يأتون القبر للسلام لعلمهم أن الصلاة والسلام عليه في الصلاة أكمل وأفضل وأما دخولهم عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك أو للصلاة والدعاء فلم يشرعه لهم بل نهاهم بقوله لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني فبين أن الصلاة تصل اليه من بعد وكذلك السلام ولعن من اتخذ قبور الأنبياء مساجد وكانت الحجرة في زمانهم يدخل اليها من الباب إذ كانت عائشة فيها وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون اليه لا لسلام ولا لصلاة ولا لدعاء لأنفسهم ولا لغيرهم ولا لسؤال عن حديث أو علم ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمهم كلاما او سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج كما طمع الشيطان في غيرهم فأضلهم عن قبره وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر يأمرهم وينهاهم ويفتيهم ويحدثهم في الظاهر وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت تكلمهم وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي ﷺ ليلة المعراج والمقصود أن الصحابة ما كانوا يعتادون الصلاة والسلام عليه عند قبره كما يفعله من بعدهم من الخلوف وإنما كان بعضهم يأتي من خارج فيسلم عليه إذا قدم من سفر كما كان ابن عمر رضي الله عنه يفعل قال عبيد الله بن عمر عن نافع كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي ﷺ فقال السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا أبا بكر السلام عليك يا أبتاه ثم ينصرف قال عبيد الله ما نعلم أحدا من أصحاب النبي ﷺ فعل ذلك إلا ابن عمر وهذا يدل على أنه لا يقف عند القبر للدعاء إذا سلم كما يفعله كثير قال شيخ الإسلام إن ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة فكان بدعة محضة وفي
المبسوط قال مالك لا أرى أن يقف عند قبر النبي ﷺ ولكن ليسلم ويمضي والحكاية التي رواها القاضي عياض بإسناده عن مالك في قصته مع المنصور وأنه قال لمالك يا أبا عبدالله استقبل القبلة وأدعو أم استقبل رسول الله ﷺ فقال ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله يوم القيامة بل استقبله واستشفع به يشفعه الله فيك فهذه الرواية ضعيفة أو موضوعة لأن في إسنادها من يتهم محمد بن حميد ومن تجهل حاله ونص أحمد أنه يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره لئلا يستدبره وذلك بعد تحيته والسلام عليه فظاهر هذا أنه يقف للدعاء بعد السلام وذكر أصحاب مالك أنه يدعو مستقبلا القبلة يوليه ظهره وبالجملة فقد اتفق الأئمة على أنه إذا دعا لا يستقبل القبر وتنازعوا هل يستقبله عند السلام عليه أم لا ومن الحجة في ذلك ما روى ابن زبالة وهو في أخبار المدينة عن عمر بن هارون عن سلمة بن وردان وهما ساقطان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي ﷺ ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره ﷺ وإلى غيره من القبور والمشاهد لأن ذلك من اتخاذها أعيادا بل من أعظم الأسباب الإشراك بأصحابها كما وقع من عباد القبور الذين يشدون اليها الرحال وينفقون في ذلك الكثير من الأموال وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركا بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك هذه المسألة التي أفتى فيها شيخ الإسلام اعني من سافر لمجرد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ومشاهدهم ونقل فيها اختلاف العلماء في الإباحة والمنع فمن مبيح لذلك كأبي حامد الغزالي وأبي محمد المقدسي ومن مانع لذلك كابن بطة وابن عقيل وأبي محمد الجويني والقاضي عياض وهو قول الجمهور نص عليه مالك ولم يخالفه أحد من الأئمة وهو الصواب فقام عليه بعض المعاصرين له كالسبكي ونحوه فنسبه
إلى إنكار الزيارة مطلقا وهو لم ينكر منها إلا ما كان بشد رحل كما أنكره جمهور العلماء قبله أوالزيارة التي يكون فيها دعاء الأموات والإستغاثة بهم في الملمات مع ما ينضم إلى ذلك من أنواع المنكرات ومما يدل على النهي عن شد الرحال إلى القبور ونحوها ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد عن النبي ﷺ قال لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فدخل في ذلك شدها لزيارة القبور والمشاهد فإما أن يكون نهيا وإما أن يكون نفيا للإستحباب وقد جاء في رواية في الصحيح بصيغة النهي صريحا فتعين أن يكون للنهي ولهذا فهم منه الصحابة المنع كما في الموطأ والسنن عن بصرة بن أبي بصرة الغفاري أنه قال لأبي هريرة وقد أقبل من الطور لو أدمتك قبل أن تخرج اليه لما خرجت سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى وروى الإمام أحمد وعمر بن شبة في أخبار المدينة بإسناد جيد عن قزعة قال اتيت ابن عمر فقلت إني أريد الطور فقال إنما تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام ومسجد المدينة والمسجد الأقصى فدع عنك الطور فلا تأته وروى أحمد وعمر بن شبة أيضا عن شهر بن حوشب قال سمعت أبا سعيد وذكر عنده الصلاة في الطور فقال قال رسول الله ﷺ لا ينبغي للمطي أن تشد رحالها الى مسجد يبتغى فيه الصلاة غير المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى فأبو سعيد جعل الطور مما نهى عن شد الرحال إليه مع أن اللفظ الذي ذكره إنما فيه النهي عن شدها إلى المساجد فدل على أنه علم أن غير المساجد أولى بالنهي والطور إنما يسافر من يسافر اليه لفضيلة البقعة وأن الله تعالى سماه الوادي المقدس
والبقعة المباركة وكلم الله موسى هناك وهذا ظاهر لا يخفى على أحد ممن يقول بفحوى الخطاب وتنبيهه وهم الجمهور الأئمة الأربعة وأتباعهم ولهذا لم يوجبوا على من نذر ان يسافر إلى أثر نبي من الأنبياء قبورهم أو غير قبورهم الوفاء بذلك بل لو سافر إلى مسجد قباء من بلد بعيد لم يكن هذا مشروعا باتفاق الأئمة الأربعة مع أن النبي ﷺ كان يأتيه كل سبت راكبا وماشيا وإن كان في وجوب الوفاء بنذر إتيانه خلاف والجمهور على أنه لا يجب وقد صرح مالك وغيره بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد النبي ﷺ أوفي بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبر من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره قال لأن النبي ﷺ قال لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد ذكره إسماعيل ابن اسحق في المبسوط ومعناه في المدونة والجلاب وغيرهما من كتب أصحاب مالك وبالجملة فقد تنازع العلماء في جواز شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة فالجمهور على المنع وطائفة من المتأخرين على الجواز فاستحباب شد الرحال إلى القبور والمشاهد والتقرب به إلى الله كما ظنه السبكي وغيره قول مبتدع مخالف للإجماع قبله والأحاديث التي احتج بها كحديث من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي ونحوها لا يصح منها شيء عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من أصحابه البتة بل هي ما بين ضعيف وموضوع أو كلها موضوعة كما قد بين عللها شيخ الإسلام وغيره وكثير منها لا يدل على محل النزاع إذ ليس فيه إلا مطلق الزيارة وذلك لا ينكره شيخ الاسلام ولا غيره من العلماء لأنه محمول على الزيارة الشرعية الجارية على وفق مراد النبي ﷺ وهي التي لا يكون فيها شرك ولا شد رحل إلى قبر وبتقدير ثبوتها لا تدل على شد الرحال إلى قبر غيره والسبكي أجاز ذلك
في سائر القبور فخالف الأحاديث وخرق الإجماع والله أعلم قال المصنف وفيه أنه ﷺ في البرزخ تعرض عليه أعمال أمته في الصلاة والسلام قوله رواه في المختارة المختارة كتاب جمع فيه مؤلفه الأحاديث الجياد الزائدة على الصحيحين ومؤلفه هو أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي الحافظ ضياء الدين الحنبلي أحد الأعلام وحفاظ الحديث قال الذهبي أفنى عمره في هذا الشأن مع الدين المتين والورع والفضيلة التامة والثقة والإتقان انتفع الناس بتصانيفه والمحدثون بكتبه فالله يرحمه ويرضى عنه وقال شيخ الإسلام تصحيحه في مختارته خير من تصحيح الحاكم بلا ريب مات سنة ثلاث واربعين وستمائة باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان ش أراد المصنف بهذه الترجمة الرد على عباد القبور الذين يفعلون الشرك ويقولون أنه لا يقع في هذه الأمة المحمدية وهم يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله فبين في هذا الباب من كلام الله وكلام رسوله ﷺ ما يدل على تنوع الشرك في هذه الأمة ورجوع كثير منها إلى عبادة الأوثان وإن كانت طائفة منها لا تزال على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى قال وقوله تعالى ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب
يؤمنون بالجبت والطاغوت ش يقول تعالى لنبيه ﷺ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا أي أعطوا نصيبا أي خطا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش ألا ترى إلى هذا الصنبر المنتبر من قومه يزعم أنه خير منا ونحن أهل الحجيج وأهل السدنة وأهل السقاية قال أنتم خير قال فنزلت فيهم إن شانئك هو الأبتر ونزل ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب إلى نصير وروى ابن أبي حاتم عن عكرمة قال جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة فقالوا لهم أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا وعن محمد فقال ما أنتم وما محمد فقالوا نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن ونفك العناة ونسقي الحجيج ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو فقالوا أنتم خير وأهدى سبيلا فأنزل الله ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجبت السحر والطاغوت الشيطان وكذلك قال ابن عباس وأبو العالية ومجاهد والحسن وغيرهم وعن ابن عباس وعكرمة وأبي مالك الجبت الشيطان زاد ابن عباس بالحبشية وعن ابن عباس أيضا الجبت الشرك وعنه الجبت الأصنام وعنه الجبت حيي بن أخطب وعن الشعبي الجبت الكاهن وعن مجاهد الجبت كعب بن الأشرف قلت الظاهر أنه يعم ذلك كله كما قال الجوهري الجبت كلمة تقع على الصنم
والكاهن والساحر ونحو ذلك وفي الحديث الطيرة والعيافة والطرق من الجبت قال وهذا ليس من محض العربية لإجتماع الجيم والباء في حرف واحد من غير حرف ذو لقي قال المصنف وفيه معرفة الإيمان بالجبت والطاغوت في الموضع هل هو اعتقاد قلب أو هو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها وأما الطاغوت فتقدم الكلام عليه في أول الكتاب قال وقوله تعالى قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ش يقول تعالى لنبيه محمد ﷺ قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من أهل الكتاب الطاعنين في دينكم الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادة دون ما سواه قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بناهم أنتم أيها المتصفون بهذه الصفات المذمومة المفسرة بقوله من لعنه الله أي أبعده وطرده من رحمته وغضب عليه أي غضبا لا يرضى بعده وجل منهم القردة والخنازير أي مسخ منهم الذين عصوا أمره فجعلهم قردة وخنازير كما قال تعالى ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين وذلك أن الله تعالى أخذ عليهم تعظيم السبت والقيام بأمره وترك الاصطياد فيه وكانت الحيتان لا تأتيهم إلا يوم السبت فتحيلوا على اصطيادها فيه بما وضعوه لها من الشصوص والحبائل والبرك قبل يوم السبت فلما جاءت الحيتان يوم السبت على عادتها نشبت تلك الحبائل فلم تخلص منها يومها ذلك فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت فلما فعلوا ذلك مسخهم الله
تعالى إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بانسان حقيقة فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن فكان جزاؤهم من جنس عملهم قال العوفي عن ابن عباس في قوله فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين فجعل الله منهم القردة والخنازير فزعم أن شباب القوم صاروا قردة والمشيخة صاروا خنازير وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود قال سئل رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله فقال إن الله لم يهلك قوما أو قال لم يمسخ قوما فيجعل الله لهم نسلا ولا عاقبة وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك وفي هذه القصة دليل قاطع على تحريم الحيل التي يتوصل بها إلى تحليل الحرام وتحريم الحلال ونحو ذلك وقوله وعبد الطاغوت قال شيخ الإسلام الصواب أنه معطوف على قوله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير فهو فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية أي من لعنه الله ومن غضب عليه ومن جعل منهم القردة والخنازير ومن عبد الطاغوت لكن الأفعال المقدمة الفاعل فيها هو اسم الله مظهرا ومضمرا وهنا الفاعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد ولم يعد سبحانه لفظ من لأنه جعل هذه الأفعال كلها صفة لصنف واحد وهم اليهود قال وقوله قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ش يخبر تعالى عن الذين غلبوا على أمر أصحاب الكهف أنهم قالوا هذه المقالة لنتخذن عليهم مسجدا وقد حكى ابن جرير في القائلين في ذلك قولين
أحدهما أنهم المسلمون والثاني أنهم المشركون وعلى القولين فهم مذمومون لأن النبي ﷺ قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد يحذر ما فعلوا رواه البخاري ومسلم ولما يفضي إليه ذلك من الإشراك بأصحابها كما هو الواقع ولهذا لما فعلته اليهود والنصارى جرهم ذلك إلى الشرك فدل ذلك على أن هذه الأمة تفعله كما فعلته اليهود والنصارى فيجرها ذلك إلى الشرك لأن ما فعلته اليهود والنصارى ستفعله هذه الأمة شبرا بشبر وذراعا بذراع كما أخبر بذلك الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وبهذا يظهر وجه استشهاد المصنف بهذه الآيات قال عن ابي سعيد ان رسول الله ﷺ قال لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن أخرجاه ش هذا الحديث أورده المصنف بهذا اللفظ معزوا للصحيحين ولعله نقله عن غيره ولفظهما والسياق لمسلم عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن ويحتمل أن يكون مرويا عند غيرهما باللفظ الذي ذكره المصنف وأراد أصله لا لفظه قوله لتتبعن هو بضم العين وتشديد النون قوله سنن بفتح المهملة أي طريق من كان قبلكم اي الذين قبلكم قال المهلب الفتح أولى وقال ابن التين قرأناه بضمها قوله حذو القذة بالقذة هو بنصب حذو على المصدر والقذة بضم القاف واحدة القذذ وهي ريش السهم وله قذتان متساويتان أي
لتفعلن أفعالهم ولتتبعن طرائقهم حتى تشبهوهم وتحاذوهم كما تشبه قذة السهم القذة الأخرى ثم ان هذا لفظ خبر معناه النهي عن متابعتهم ومنعهم من الالتفات لغير دين الإسلام لأن نوره قد بهر الأنوار وشريعته نسخت الشرائع وهذا من معجزاته فقد اتبع كثير من أمته سنن اليهود والنصارى وفارس في شيمهم ومراكبهم وملابسهم وإقامة شعارهم في الأديان والحروب والعادات من زخرفة المساجد وتعظيم القبور واتخاذها مساجد حتى عبدوها ومن فيها من دون الله وإقامة الحدود والتعزيرات على الضعفاء دون الأقوياء وترك العمل يوم الجمعة والتسليم بالأصابع وعدم عيادة المريض يوم السبت والسرور بخميس البيض وأن الحائض لا تمس عجينا واتخاذ الأحبار والرهبان اربابا من دون الله والإعراض عن كتاب الله والإقبال على كتب الضلال من السحر والفلسفة والكلام والتكذيب بصفات الله التي وصف الله بها نفسه أو وصفه بها رسوله ﷺ ووصفه بما لا يليق به من النقائص والعيوب إلى غير ذلك مما اتبعوا فيه اليهود والنصارى قوله حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه الجحر بضم الجيم بعدها حاء مهملة معروف وفي حديث آخر حتى لو كان فيهم من أتى أمه علانية لكان في أمتي من يصنع ذلك وفي حديث آخر حتى لو أن أحدهم جامع امرأته في الطريق لفعلتموه صحت بذلك الأحاديث فأخبر أن امته ستفعل ما فعلته اليهود والنصارى وفارس من الأديان والعادات والإختلاف قال شيخ الإسلام هذا خرج مخرج الخبر والذم لمن يفعله كما كان يخبر عما يكون بين يدي الساعة من الأشراط والأمور المحرمة وقال غيره وجمع ذلك أن كفر اليهود أشد من جهة عدم العمل بعلمهم فهم يعلمون الحق ولا يتبعونه عملا ولا قولا وكفر النصارى من جهة عملهم بلا علم فهم يجتهدون في أصناف العبادات بلا شريعة من الله ويقولون مالا يعلمون ففي هذه الأمة من يحذو حذو الفريقين ولهذا كان السلف كسفيان بن عيينة يقولون من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود ومن فسد من عبادنا ففيه شبه من النصارى
وقضاء الله نافذ بما أخبر به رسوله ﷺ بما سبق في علمه لكن ليس الحديث إخبارا عن جميع الأمة لما تواتر عنه أنها لا تجتمع على ضلالة قوله قالوا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن هو برفع اليهود خبر مبتدأ محذوف اي أهم اليهود والنصارى الذين نتبع سنتهم وقوله قال فمن استفهام إنكار أي فمن هم غير أولئك ثم إنه فسر هنا باليهود والنصارى وفي رواية أبي هريرة في البخاري بفارس والروم ولا تعارض كما قال بعضهم لاختلاف الجواب بحسب اختلاف المقام فحيث قيل فارس والروم كان ثم قرينة تتعلق بالحكم بين الناس وسياسة الرعية وحيث قيل اليهود والنصارى كان هناك قرينة تتعلق بأمور الديانات صولها وفروعها كذا قال ولا يلزم وجود قرينة بل الظاهر أنه أخبر أن هذه الأمة ستفعل ما فعلته الأمم قبلها من الديانات والعادات والسياسات مطلقا والتفسير ببعض الأمم لا ينفي التفسير بأمة أخرى إذ المقصود التمثيل لا الحصر ووجه مطابقة الحديث للترجمة واضح لأن الأمم قبلنا وجد فيها الشرك فكذلك يوجد في هذه الأمة كما هو الواقع قال ولمسلم عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما ذوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ولا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من أقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ورواه البرقاني في صحيحه وزاد وإنما أخاف
على امتي الأئمة المضلين وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ش هذا الحديث رواه أبو داود في سننه وابن ماجه بالزيادة التي ذكرها المصنف ورواه الترمذي مختصرا ببعضها قوله عن ثوبان هو ثوبان مولى النبي ﷺ وصحبه ولازمه ونزل بعده الشام ومات بحمص سنة أربع وخمسين قوله زوى لي الأرض قال التوربشتي زويت الشيء جمعته وقبضته يريد به تقريب البعيد منها حتى اطلع عليه اطلاعه على القريب وحاصله أن الله طوى له الأرض وجعلها مجموعة كهيئة كف في مرآة نظره وقال القرطبي أي جمعها لي حتى أبصرت ما تملك أمتي من أقصى المشارق والمغارب منها وظاهر هذا اللفظ يقتضي أن الله تعالى قوى إدراك بصره ورفع عنه الموانع المعتادة فادرك البعيد من موضعه كما أدرك بيت المقدس من مكة وأخذ يخبرهم عن آياته وهو ينظر إليه وكما قال إني لأبصر قصر المدائن الأبيض ويحتمل أن يكون مثلها الله له والأول أولى قوله وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها قال القرطبي هذا الخبر وجد مخبره كما قاله فكان ذلك من دلائل نبوته وذلك أن ملك أمته اتسع إلى أن بلغ أقصى بحر طنجة بالنون والجيم الذي هو منتهى عمارة المغرب إلى أقصى المشرق ما وراء خرسان والنهر وكثير من بلاد الهند والسند والصغد ولم يتسع ذلك الإتساع من جهة الجنوب والشمال
ولذلك لم يفكر عليه السلام أنه أريه ولا أخبر أن ملك أمته يبلغه وقوله زوي يحتمل أن يكون مبنيا للفاعل وأن يكون مبنيا للمفعول والأول أظهر قوله وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض قال القرطبي يعني بهما كنز كسرى وهو ملك الفرس وكنز قيصر وهو ملك الروم وقصورهما وبلادهما وقد دل على ذلك قوله عليه السلام حين أخبر عن هلاكهما والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله وعبر بالأحمر عن كنز قيصر لأن الغالب عندهم كان الذهب وبالأبيض عن كنز كسرى لأن الغالب عندهم كان الجوهر والفضة وقد ظهر ذلك ووجد كذلك في زمان الفتوح في أمارة عمر رضي الله عنه فإنه سيق اليه تاج كسرى وحليته وما كان في بيوت أمواله وجميع ما حوته مملكته على سعتها وعظمتها وكذلك فعل الله بقيصر لما فتحت بلاده كذا قال في الغالب على كنوز كسرى وقيصر وعكس ذلك التوربشتي والخلخالي والأبيض والأحمر منصوبان على البدل قوله وإني سألت ربي لأمتي أن يهلكها بسنة بعامة هكذا ثبت في أصل المصنف بعامة بالباء هي رواية صحيحية في أصل مسلم وفي بعض أصوله بسنة عامة بحذفها قال القرطبي وكأنها زائدة لأن عامة صفة لسنة فكأنه قال بسنة عامة ويعني بالسنة الجدب العام الذي يكون به الهلاك العام ويسمى الجدب والقحط سنة ويجمع على سنين كما قال تعالى ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب المتوالي قوله من سوى أنفسهم أي من غيرهم يعني الكفار
قوله فيستبيح بيضتهم قال الجوهري بيضة كل شيء حوزته وبيضة القوم ساحتهم وعلى هذا فيكون معنى الحديث ان الله تعالى لا يسلط العدو على كافة المسلمين حتى يستبيح جميع ما حازوه من البلاد والأرض ولو اجتمع عليهم كل من بين اقطار الأرض وهو جوانبها وقيل بيضتهم معظمهم وجماعتهم قلت وهذا هو الظاهر وأن الله تعالى لا يسلط الكفار على معظم المسلمين وجماعتهم وإمامهم ما داموا بضد هذه الأوصاف المذكورة في قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا فأما إذا وجدت هذه الأوصاف فقد يسلط الكفار على جماعتهم ومعظمهم وإمامهم كما وقع قوله وإن ربي قال يا محمد إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد قال بعضهم أي إذا حكمت حكما مبرما فإنه نافذ لا يرد بشيء ولا يقدر احد على رده بل كل جميع الخلق تمضي عليهم الأقدار طوعا وكرها كما قال النبي ﷺ لا راد لما قضيت قلت الظاهر أنه سواء في ذلك المبرم والمعلق فالكل لا يرد فإن هذا إخبار عن عدم الرد لجنس القضاء والنبي ﷺ سأل ذلك مطلقا فأجيب بهذا واستجاب له دعاءه ما لم يوجد الشرط المقتضي لتسليط العدو فإذا وجد ذلك وجد القضاء المعلق قوله حتى يكون بعضهم يهلك بعضا إلى آخره أي حتى يوجد ذلك منهم فإن وجد فإنه يسلط عليهم عدوهم من الكفار فيستبيح جماعتهم وإمامهم ومعظمهم لا كل الأمة ثم ايضا تكون العاقبة لهذه الأمة إن رجعوا عما هم فيه من الأسباب الموجبة للتسليط وكذلك وقع فإن هذه الأمة لما جعل بأسها بينها اقتتلوا فأهلك بعضهم بعضا وسبى بعضهم بعضا فلما فعلوا ذلك تفرقت جماعتهم واشتغل بعضهم ببعض عن جهاد العدو واستولوا عليهم كما وقع ذلك في المائة السابعة في المشرق والمغرب فاختلف ملوك
المشرق وتخاذلوا واستولى التتار على غالب أرض خرسان وعلى العراق وديار الروم وقتلوا الخليفة والعلماء والملوك الكبار وكذلك ملوك المغرب اختلفوا وتخاذلوا واستولت الإفرنج على جميع بلاد الأندلس والجزر القريبة منها فهي في أيديهم إلى اليوم بل استولوا على كثير من بلدان الشام حتىاستنقذها منهم صلاح الدين ابن أيوب وغيره قوله ورواه البرقاني في صحيحه البرقاني هو الحافظ الكبير أبو بكر محمد بن أحمد بن غالب الخوارزمي الشافعي ولد سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات سنة خمس وعشرين وأربع مائة قال الخطيب كان ثبتا ورعا لم نر في شيوخنا أثبت منه عارفا بالفقه كثير التصنيف صنف مسندا ضمنه ما اشتمل عليه الصحيحان وجمع حديث الثوري وحديث شعبة وطائفة وكان حريصا على العلم منصرف الهمة اليه قلت وهذا المسند الذي ذكره الخطيب هو صحيحه الذي عزا اليه المصنف قوله وانما أخاف على امتي الأئمة المضلين أي الأمراء والعلماء والعباد الذين يقتدي بهم الناس ويحكمون فيهم بغير علم فيضلون ويضلون فهم ضالون عن الحق مضلون لغيرهم كما قال تعالى عن أهل النار حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار وقال تعالى ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا وقال تعالى قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولشدة الضرورة إلى اتباع أئمة الهدى ومعرفتهم والتفريق بينهم وبين أئمة الضلال المغضوب عليهم والضالين
أمرنا الله أن نسأله الهداية إلى سلوك صراط أئمة الهدى وهم المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين غير المغضوب عليهم الذين يعلمون الحق ولا يعملون به ولا الضالين الذين يعملون على غير شرع من الله بل بما تهوى أنفسهم فصراط المنعم عليهم هو الجامع بين العلم بالهدى والعمل به وقد وصف النبي ﷺ أئمة الهدى لما ذكر التفرق من بعده بأنهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه كما رواه أبو داوود وغيره فمن كان على ما كان عليه النبي ﷺ وأصحابه فهو من الأئمة المهديين ومن خالفهم فهو من الضالين كالذي يقول لأصحابه من كانت له حاجة فليأت إلى قبري فإني أقضيها له ولا خير في رجل يحجبه عن أصحابه ذراع من تراب أو نحو هذا كالذي يدعي أنه يخلص أصحابه ومريديه من النار وأنه يحفظ الناس ويكلأهم إذا اعتقدوه ويضر بهم إذا كفروا به وحاربوه ويدعي أن ذلك من كراماته وكالذي يمشي في الأسواق عريانا ولا يشهد بصلاة ولا ذكر الله ولا علما بل يعيب علماء الشرع ويغمزهم ويسميهم أهل علم الظاهر ويدعي أنه صاحب علم الباطن وربما يدعي أنه يسعه الخروج من شريعة محمد ﷺ كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام ونحو ذلك من الكفر والهذيان وكالذين يدعي أن العبد يصل مع الله إلى حال تسقط عنه التكاليف أو يدعي أن الأولياء يدعون ويستغاث بهم في حياتهم ومماتهم وأنهم ينفعون ويضرون ويدبرون الأمور على سبيل الكرامة او أنه يطلع على اللوح المحفوظ ويعلم أسرار الناس وما في ضمائرهم أو يجوز بناء المساجد على قبور الأنبياء والصالحين وايقادها بالسرج والشموع وكسوتها بالحرير والديباج والفرش النفيسة أو يدعي أن من عمل بالقرآن والسنة في أصول الدين وفروعه فقد ضل وأضل وابتدع او ان ظواهر القرآن في آيات الصفات تشبيه وتمثيل وأن الهدى
لا يؤخذ منه في هذا الباب ولا في غيره وإنما يؤخذ من الشبهات الوهمية التي يسميها بزعمه براهين عقلية فكل هؤلاء وأشباههم من أئمة الضلال الذين خاف النبي ﷺ على أمته وحذر منهم والضابط في الفرق بين أئمة المتقين وبين الأئمة المضلين قوله تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يجببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم قل أطيعوا الله والرسول فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين فافهم عن ربك وكن على بصيرة ولا يغرك جلالة شخص أو عظمته في النفوس فربك أعظم واتباعك لكلامه وكلام رسوله ﷺ هوالقرض والعصمة منتفية عن غير الرسول وربك أدرى بما في الضمائر فرب من تعتقده إمام هدى ليس كذلك وقد قال تعالى لنبيه ﷺ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع اهواء الذين لا يعلمون فكل من أتى بشيء يخالف ما جاء عن الله وعن رسوله فهو من أهواء الذين لا يعلمون ومن لم يستجب للرسول ﷺ فإنما يتبع هواه قال الله تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وعن زياد بن حدير قال قال لي عمر هل تعرف ما يهدم الإسلام قلت لا قال يهدمه زلة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين رواه الدرامي وقال يزيد بن عميرة كان معاذ بن جبل لا يجلس مجلسا للذكر إلا قال حين يجلس الله حكم قسط هلك المرتابون الحديث وفيه واحذروا زيغة الحكيم فإن الشيطان قد يقول الضلالة على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق قلت لمعاذ ما يدريني
رحمك الله أن الحكيم قد يقول كلمة الضلالة وأن المنافق قد يقول كلمة الحق قال لي اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي يقال ما هذه ولا يثنيك ذلك عنه فإنه لعله يراجع الحق وتلق الحق إذا سمعته فإن على الحق نورا رواه أبو داود وغيره وما أحسن ما قال ابن المبارك رضي الله عنه ... وهل أفسد الدين إلا الملو ... ك وأحبار سوء ورهبانها ... قوله وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة أي إذا وقعت الفتنة والقتال بينهم بقي إلى يوم القيامةوكذلك وقع فإن السيف لما وضع فيهم بقتل عثمان رضي الله عنه لم يرتفع إلى اليوم وكذلك يكون إلى يوم القيامة ولكن يكثر تارة ويقل أخرى ويكون في جهة ويرتفع عن أخرى قوله ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين الحي واحد الأحياء وهي القبائل وفي رواية أبي داود ولا تقوم الساعة حتى يلحق قبائل من أمتي بالمشركين والمعنى أنهم ينزلون معهم في ديارهم ويصيرون منهم بالردة ونحوها قوله وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان الفئام مهموز الجماعات الكثيرة قاله أبو السعادات وفي رواية أبي داود وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان ومعناه ظاهر وهذا هو شاهد الترجمة ففيه الرد على من قال بخلافه من عباد القبور الذين ينكرون وقوع الشرك وعبادة الأوثان في هذه الأمة وفي معنى هذا ما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعا لا تقوم الساعة حتى تضطرب أليات لنساء دوس على ذي الخلصة قال وذو الخلصة طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية وروى ابن حبان عن معمر قال إن عليه الآن بيتا مبنيا مغلقا وفي صحيح مسلم عن عائشة مرفوعا لا يذهب الليل
والأنهار حتى تعبد اللات والعزى وقيل إن القبر المنسوب إلى ابن عباس بالطائف إنه قبر اللات وكانوا يعبدونه ويطوفون به ويقربون إليه القرابين وينذرون له النذور ويسألونه قضاء حاجتهم وتفريج كربتهم قوله وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون كلهم يزعم أنه نبي قال القرطبي وقد جاء عددهم معينا في حديث حذيفة قال قال رسول الله ﷺ يكون في أمتي كذابون دجالون سبع وعشرون منهم أربع نسوة أخرجه أبو نعيم وقال هذا حديث غريب تفرد به معاوية بن هشام قلت حديث ثوبان اصح من هذا قال القاضي عياض عدد من تنبأ من زمن رسول الله ﷺ إلى الآن ممن اشتهر بذلك وعرف واتبعه جماعة على ضلالته فوجد هذا العدد فيهم ومن طالع كتب الأخبار والتواريخ عرف صحة هذا وقال الحافظ قد ظهر مصداق ذلك في زمن النبي ﷺ فخرج مسيلمة الكذاب باليمامة والأسود العنسي باليمن ثم خرج في خلافة أبي بكر طليحة بن خويلد في بني أسد بن خزيمة وسجاح التميمية في بني تميم وقتل الأسود قبل أن يموت النبي ﷺ وقتل مسيلمة الكذاب في خلافة أبي بكر رضي الله عنه وتاب طليحة ومات على الإسلام على الصحيح في زمن عمر رضي الله عنه ويقال إن سجاح تابت أيضا ثم خرج المختار بن أبي عبيد الثقفي وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير فأظهر محبة أهل البيت ودعا الناس إلى طلب قتلة الحسين فاتبعهم فقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه فأحبه الناس ثم إنه زين له الشيطان أن يدعي النبوة وزعم أن جبريل عليه السلام يأتيه ومنهم الحارث الكذاب خرج في خلافة عبدالملك بن مروان فقتل وخرج في خلافة بني العباس جماعة وليس المراد بالحديث من ادعى النبوة مطلقا فإنهم لا يحصون كثرة لكون
غالبهم ينشأ عن جنون أو سوداء وإنما المراد من قامت له شوكة وبدت له شبهة كمن وصفنا وقد أهلك الله تعالى من وقع له منهم ذلك وبقي منهم من يلحقه بأصحابه وآخرهم الدجال الأكبر قوله وأنا خاتم النبيين الخاتم بفتح التاء بمعنى الطابع وبكسرها بمعنى فاعل الطبع والختم قال الحسن خاتم الذي ختم به أي آخر النبيين كما قال تعالى ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وإنما ينزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان حاكما بشريعة محمد ﷺ مصليا إلى قبلته فهو كآحاد أمته كما قال النبي ﷺ والذي نفسي بيده لينزلن فيكم ابن مريم حكما مقسطا فليكسرن الصليب وليقتلن الخنزير وليضعن الجزية قوله ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة لا يضرهم من خذلهم لا من خالفهم قال يزيد بن هارون وأحمد بن حنبل إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم وكذلك قال انهم أهل الحديث عبدالله بن المبارك وعلي بن المديني وأحمد بن سنان والبخاري وغيرهم وقال ابن المديني في رواية هم العرب واستدل برواية من روى هم أهل الغرب وفسر الغرب بالدلو العظيمة لأن العرب هم الذين يستقون بها قلت ولا تعارض بين القولين إذ يمتنع أن تكون الطائفة المنصورة لا تعرف الحديث ولا سنن رسول الله ﷺ بل لا يكون منصورا على الحق إلا من عمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ وهم اهل الحديث من العرب وغيرهم فإن قيل فلم خصصه بالعرب قيل المراد التمثيل لا الحصر أي أن العرب ان استقاموا على العمل بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهم الطائفة المنصورة حال استقامتهم قال القرطبي وفيه دليل
على أن الاجماع حجة لأن الأمة اذا أجمعت فقد دخل فيهم الطائفة المنصورة وقال المصنف وفيه الآية العظيمة أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم والبشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى بل لا تزال عليه طائفة قوله حتى يأتي أمر الله الظاهر أن المراد بأمر الله ما روي من قبض من بقي من المؤمنين بالريح الطيبة ووقوع الآيات العظام ثم لا يبقى إلا شرار الناس كما روى الحاكم وأصله في مسلم عن عبدالرحمن بن شماسة أن عبدالله ابن عمرو قال لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شرار من أهل الجاهلية فقال عقبة بن عامر لعبد الله أعلم ما تقول وأما أنا فسمعت النبي ﷺ يقول لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة على ذلك فقال عبد الله ويبعث الله ريحا ريحها المسك ومسها مس الحرير فلا تترك أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس فعليهم تقوم الساعة وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود مرفوعا لا تقوم الساعة إلا على شرار الناس وفي صحيحه أيضا لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله وذلك إنما يقع بعد طلوع الشمس من مغربها وخروج الدابة وسائر الآيات العظام وقد ثبت أن الآيات العظام مثل السلك إذا انقطع تناثر الخرز بسرعة رواه أحمد ويؤيده حديث عمران بن حصين مرفوعا لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم الدجال رواه أبو داود والحاكم وعلى هذا فالمراد بقوله في حديث عقبة وما أشبهه من الآحاديث حتى تأتيهم الساعة ساعتهم وهي وقت موتهم بهبوب الريح ذكره الحافظ وهو المعتمد وقد اختلف في محل هذه الطائفة فقال ابن بطال إنها تكون
ببيت المقدس حتى إلى أن تقوم الساعة كما روى الطبري من حديث أبي امامة قيل يا رسول الله وأين هم قال ببيت المقدس وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه هم بالشام وهذا قول اكثر الشارحين وفي كلام الطبري ما يدل على أنه لا يجب أن تكون في الشام أو في أول بيت المقدس دائما إلى أن يقاتلوا الدجال بل قد تكون في موضع آخر لكن لا تخلوا الأرض منها حتى يأتي أمر الله قلت وهذا هو الحق فإنه ليس في الشام منذ أزمان أحد بهذه الصفات بل ليس فيه إلا عباد القبور وأهل الفسق وأنواع الفواحش والمنكرات ويمتنع أن يكونوا هم الطائفة المنصورة وأيضا فهم منذ أزمان لا يقاتلون أحدا من أهل الكفر وإنما بأسهم وقتالهم بينهم وعلى هذا فقوله في الحديث هم ببت المقدس وقول معاذ هم بالشام المراد أنهم يكونون فيه بعض الأزمان دون بعض وكذلك الواقع فدل على ما ذكرنا قوله تبارك وتعالى قال ابن القيم البركة نوعان أحدهما بركة وهي فعله تبارك وتعالى والفعل منها بارك ويتعدى بنفسه تارة وبأداة على تارة وبأداة في تارة والمفعول منها مبارك وهو ما جعل كذلك فكان مباركا بجعله تعالى والنوع الثاني بركة تضاف إليه إضافة الرحمة والعزة والفعل منها تبارك ولهذا لا يقال لغيره ذلك ولا يصلح إلا له تعالى فهو سبحانه المتبارك وعبده ورسوله المبارك كما قال المسيح عليه السلام جعلني مباركا أينما كنت فمن بارك الله فيه وعليه فهو المبارك وأما صفة تبارك فمختصه به كما أطلقها على نفسه بقوله تبارك الله رب العالمين تبارك
الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير أفلا تراها كيف اطردت في القرآن جارية عليه مختصة به لا تطلق على غيره وجاءت على بناء السعة والمبالغة كتعالى وتعاظم ونحوه فجاءت تبارك على بناء تعالى الذي هو دال على كمال العلو ونهايته فكذلك تبارك دال على كمال بركته وعظمتها وسعتها وهذا معنى قول من قال من السلف تبارك تعاظم وقال ابن عباس جاء بكل بركة وأعلم أن هذا الحديث بجملته مما عد من الأدلة على الشهادتين فإن كل جملة منه وقعت كما أخبر بها ﷺ باب ما جاء في السحر ش السحر في اللغة عبارة عما خفي ولطف سببه ولهذا جاء في الحديث إن من البيان لسحرا وسمي السحور سحورا لأنه يقع خفيا آخر الليل وقال تعالى سحروا أعين الناس أي اخفوا عنهم علمهم ولما كان السحر من أنواع الشرك إذ لا يأتي السحر بدونه ولهذا جاء في الحديث ومن سحر فقد أشرك أدخله المصنف في كتاب التوحيد ليبين ذلك تحذيرا منه كما ذكر غيره من أنواع الشرك قال أبو محمد المقدسي في الكافي السحر عزائم ورقى وعقد يؤثر في القلوب والأبدان فيمرض ويقتل ويفرق المرء وزوجته ويأخذ احد الزوجين عن صاحبه قال الله تعالى فيتعلمون منهما ما يفرق بين المرء وزوجه وقال سبحانه
قل اعوذ برب الفلق إلى قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يعقدون في سحرهن وينفثن في عقدهن ولولا أن للسحر حقيقة لم يأمر بالاستعاذة منه وروت عائشة أن النبي ﷺ سحر حتى انه ليخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله وانه قال لها ذات يوم أتاني ملكان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال ما وجع الرجل قال مطبوب قال من طبه قال لبيد بن أعصم في مشط ومشاطة في جف طلعة ذكر في بئر ذي اروان رواه البخاري انتهى وقد زعم قوم من المعتزلة وغيرهم أن السحر تخييل لا حقيقة له هذا ليس بصحيح على إطلاقه بل منه ما هو تخييل ومنه ما له حقيقة كما يفهم مما تقدم قال وقول الله تعالى ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ش أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا السحر عن متابعة الرسل والإيمان بالله لمن اشتراه أي استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب الله ومتابعة رسله ما له في الأخرة من خلاق قال ابن عباس من نصيب قال قتادة وقد علم أهل الكتاب فيما عهد الله اليهم أن الساحر لا خلاق له في الآخرة وقال الحسن ليس له دين فدلت الآية على تحريم السحر وهو كذلك بل هو محرم في جميع أديان الرسل عليهم السلام كما قال تعالى ولا يفلح الساحر حيث اتى واستدل بها بعضهم على كفر الساحر لعموم قوله لمن اشتراه يدل عليه قوله فيتعلمون منها ما يفرقون به
بين المرء وزوجه وقد نص أصحاب أحمد على أنه يكفر بتعلمه وتعليمه وروى عبدالرزاق عن صفوان بن سليم قال قال رسول الله ﷺ من تعلم شيئا من السحر قليلا كان أو كثيرا كان آخر عهده من الله وهذا مرسل واختلفوا هل يكفر الساحر أولا فذهب طائفة من السلف إلى أنه يكفر وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد قال أصحابه إلا أن يكون سحره بأدوية وتدخين وسقي شيء يضر فلا يكفر وقيل لا يكفر إلا أن يكون في سحره شرك فيكفر وهذا قول الشافعي وجماعته قال الشافعي رحمه الله إذا تعلم السحر قلنا له صف لنا سحرك فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد اباحته كفر وعند التحقيق ليس بين القولين اختلاف فإن من لم يكفر لظنه أنه يتأتى بدون الشرك وليس كذلك بل لا يأتي السحر الذي من قبل الشياطين إلا بالشرك وعبادة الشيطان والكواكب ولهذا سماه الله كفرا في قوله انما نحن فتنة فلا تكفر وقوله وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا وفي حديث مرفوع رواه رزين الساحر كافر وقال أبو العالية السحر من الكفر وقال ابن عباس في قوله إنما نحن فتنة فلا تكفر وذلك أنهما علماه الخير والشر والكفر والإيمان فعرفا أن السحر من الكفر وقال ابن جريج في الآية لا يجترىء على السحر إلا الكافر وأما سحر الأدوية والتدخين ونحوه فليس بسحر وإن سمي سحرا فعلى سبيل المجاز كتسمية القول البليغ والنميمة سحرا ولكنه يكون حراما لمضرته يعزر من يفعله تعزيرا بليغا قال وقوله يؤمنون بالجبت والطاغوت
ش تقدم الكلام عليها في الباب الذي قبله ووجه إيرادها هنا ظاهر لأن السحر من الجبت كما قال عمر بن الخطاب قال المصنف قال عمر بن الخطاب الجبت السحر والطاغوت الشيطان ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم وغيره وفيه معرفة الجبت والطاغوت والفرق بينهما قال وقال جابر الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان في كل حي واحد هذا ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم بنحوه مطولا عن وهب بن منبه قال سألت جابر بن عبدالله عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها قال إن في جهينة واحدا وفي أسلم واحدا وفي هلال واحدا وفي كل حي واحدا وهم كهان تنزل عليهم الشياطين قوله قال جابر هو ابن عبدالله بن عمرو بن حرام أبو عبدالله الأنصاري ثم السلمي بفتحتين صحابي جليل ابن صحابي جليل مكثر عن النبي ﷺ مات بالمدينة بعد السبعين وقد كف بصره وله أربع وتسعون سنة قوله الطواغيت كهان إلى آخره المراد بهذا أن الكهان من الطواغيت لا أنهم الطواغيت لا غير وقوله كان ينزل عليهم الشيطان أراد الجنس لا الشيطان الذي هو ابليس فقط بل تتنزل عليهم الشياطين ويخاطبونهم ويخبرونهم ببعض الغيب مما يسترقونه من السمع فيصدقون مرة ويكذبون مائة قوله في كل حي واحد الحي واحد الأحياء وهم القبائل أي في كل قبيلة من قبائل العرب كاهن يتحاكمون إليه ويسألونه عن الغيب وكذلك كان الأمر قبل مبعث النبي ﷺ فأبطل الله ذلك بالإسلام وحرست السماء
بالشهب ومطابقة هذا للترجمة ظاهر من جهة أن الساحر طاغوت من الطواغيت إذ كان هذا الاسم يطلق على الكاهن فالساحر أولى لأنه أشر وأخبث قال عن أبي هريرة ان رسول الله ﷺ قال اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن قال الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ش هكذا أورد المصنف هذا الحديث غر معزو وقد رواه البخاري ومسلم قوله اجتنبوا السبع أي ابعدوا وهو أبلغ من لا تفعلوا لأن نهي القربان أبلغ من نهي المباشرة ذكره الطيبي قوله السبع الموبقات بموحدة وقاف أي المهلكات وسميت الكبائر موبقات لأنها تهلك فاعلها في الدنيا بما يترتب عليها من العقوبات وفي الآخرة من العذاب قلت هكذا ثبت في هذه الرواية عن السبع الموبقات وكذلك في كتاب عمرو بن حزم الذي أخرجه النسائي وابن حبان في صحيحه والطبراني من طريق سليمان بن داود عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم عن أبيه عن جده قال كتب رسول الله ﷺ كتاب الفرائض والديات والسنن وبعث به مع عمرو بن حزم إلى اليمن الحديث بطوله وفيه وكان في الكتاب وإن اكبر الكبائر الشرك فذكر مثل حديث أبي هريرة سواء وأخرجه البزار وابن المنذر من طريق عمرو بن أبي سلمة بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة رفعه الكبائر الشرك بالله وقتل النفس الحديث وذكر بدل السحر الانتقال إلى الأعرابية بعد الهجرة وكذلك في حديث عند الطبراني وقال عبد الرزاق انبأنا
معمر عن الحسن قال الكبائر الإشراك بالله فذكر مثل الأول سواء الا أنه قال اليمين الفاجرة بدل السحر وفي حديث ابن عمر عند البخاري في الأدب المفرد والطبري في التفسير وعبدالرزاق مرفوعا وموقوفا قال الكبائر تسع فذكر السبع المذكورة وزاد رد الالحاد في الحرم وعقوق الوالدين واخرج اسماعيل القاضي بسند صحيح إلى سعيد بن المسيب قال هن عشر فذكر السبع التي في الاصل وزاد عقوق الوالدين واليمين الغموس وشرب الخمر ولابن أبي حاتم عن علي قال الكبائر فذكر السبع إلا مال اليتيم وزاد العقوق والتعرب بعد الهجرة وفراق الجماعة ونكث الصفقة وللطبراني عن أبي أمامة أنهم تذاكروا الكبائر فقالوا الشرك ومال اليتيم والفرار من الزحف والسحر والعقوق وقول الزور والغلول والربا فقال رسول الله ﷺ فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليلا وقد جاء في أحاديث غير ما ذكرنا جملة من الكبائر منها اليمين الغموس وشهادة الزور والامن من مكر الله والقنوط من رحمة الله وسوء الظن بالله والزنا والسرقة وغير ذلك قال الحافظ ويحتاج عند هذا إلى الجواب عن الحكمة في الاقتصار على سبع ويجاب بأن مفهوم العدد ليس بحجة وهو جواب ضعيف أو بأنه أعلم أولا بالمذكورات ثم أعلم بما زاد فيجب الاخذ بالزائد أو أن الاقتصار وقع بحسب المقام بالنسبة للسائل أو من وقعت له واقعة ونحو ذلك وقد أخرج الطبري واسماعيل القاضي عن ابن عباس أنه قيل له الكبائر سبع فقال هن أكثر من سبع وفي رواية عنه هي إلى السبعين أقرب وفي رواية
الى السبع مئة وإذا تقرر ذلك عن فساد من عرف الكبيرة بأنها ما وجب فيها الحد لأن اكثر المذكورات لا يجب فيها الحد انتهى وسيأتي مزيد لذلك إن شاء الله قوله قال الشرك بالله هو أن يجعل لله ندا يدعوه كما يدعو الله ويرجوه كما يرجو الله ويخافه كما يخاف الله وبدأ به لانه أعظم ذنب عصي الله به كما في الصحيحين عن ابن مسعود سألت النبي ﷺ اي الذنب اعظم عند الله قال ان تجعل لله ندا وهو خلقك قوله والسحر تقدم معناه وهذا وجه إيراد المصنف لهذا الحديث في الباب قوله وقتل النفس التي حرم الله أي حرم قتلها إلا بالحق أي بفعل موجب للقتل كقتل المشرك المحارب والنفس بالنفس والزاني بعد الإحصان كما قال تعالى ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما وسواء في ذلك القتل عمدا أو شبه عمد كما صرح به طائفة من الشافعية بخلاف قتل الخطأ فإنه لا كبيرة ولا صغيرة لأنه غير معصية قلت ويلتحق بذلك قتل المعاهد كما صح في الحديث من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة الحديث قوله وأكل الربا أي تناوله بأي وجه كان كما قال تعالى الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس إلى قوله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون قال ابن
دقيق العيد وهو مجرب لسوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك قوله وأكل مال اليتيم يعنى التعدي فيه وعبر بالأكل لأنه أهم وجوه الانتفاع كما قال تعالى إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا قوله والتولي يوم الزحف أي الادبار من وجوه الكفار وقت ازدحام الطائفتين في القتال وإنما يكون كبيرة إذا فر إلى غير فئة أو غير منحرف لقتال كما قال تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير قوله وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات هو بفتح الصاد المحفوظات من الزنا وبكسرها الحافظات فروجهن منه والمراد الحرائر العفيفات ولا يختص بالمتزوجات بل حكم البكر كذلك بالاجماع كما ذكره الحافظ إلا إن كانت دون تسع سنين والمراد رميهن بزنا أو لواط والغافلات أي عن الفواحش وما رمين به لا خبر عندهن من ذلك فهو كناية عن البريئات لأن الغافل بريء عما بهت به من الزنا والمؤمنات أي بالله تعالى احترازا عن قذف الكافرات فإنه من الصغائر قال وعن جندب مرفوعا حد الساحر ضربه بالسيف رواه الترمذي وقال الصحيح أنه موقوف ش هذا الحديث رواه الترمذي كما قال المصنف من طريق اسماعيل ابن مسلم المكي وقال بعد أن رواه لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه واسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه واسماعيل بن
مسلم العبدي البصري قال وكيع هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوف انتهى ورواه أيضا الدارقطني والبيهقي والحاكم وقال صحيح غريب وقال الترمذي في العلل سألت عنه محمدا يعني البخاري فقال هذا لا شيء واسماعيل ضعيف جدا وقال الذهبي في الكبائر إنه من قول جندب وأشار مغلطاي إلى أنه وإن كان ضعيفا يتقوى بكثرة طرقه وقال خرجه جمع منهم البغوي الكبير والصغير والطبراني والبزار ومن لا يحصى كثرة قوله عن جندب ظاهر صنيع الطبراني في الكبير أنه جندب بن عبدالله البجلي لا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر فإنه رواه في ترجمة جندب البجلي من طريق خالد العبد عن الحسن عن جندب عن النبي ﷺ وذكره وخالد العبد ضعيف قال الحافظ والصواب أنه غيره فقد رواه ابن قانع والحسن بن سفيان من وجهين عن الحسن عن جندب الخير أنه جاء إلى ساحر فضربه بالسيف حتى مات وقال سمعت رسول الله ﷺ يقول فذكره وجندب الخير هو جندب بن كعب وقيل جندب بن زهير وقيل هما واحد كما قاله ابن حبان أبو عبد الله الأزدي الغامدي صحابي وروى ابن السكن من حديث بريدة أن النبي ﷺ قال يضرب ضربة فيكون أمة وحده قوله حد الساحر ضربه بالسيف روى بالهاء وبالتاء وكلاهما صحيح وبهذا الحديث أخذ أحمد ومالك وأبو حنيفة فقالوا يقتل الساحر وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عمر وحفصة وجندب بن عبدالله وجندب بن كعب وقيس بن سعد وعمر بن عبدالعزيز ولم ير الشافعي عليه القتل بمجرد السحر إلا إن عمل في سحره ما يبلغ الكفر وبه قال ابن المنذر وهو رواية
عن أحمد والأول أولى للحديث ولأثر عمر الذي ذكره المصنف وعمل به الناس في خلافته من غير نكير فكان إجماعا قال وفي صحيح البخاري عن بجالة بن عبدة قال كتب عمر ابن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة قال فقلنا ثلاث سواحر ش هذا الأثر رواه البخاري كما ذكره المصنف لكنه لم يذكر قتل السحرة ولفظه عن بجالة بن عبدة قال كنت كاتبا لجزء بن معاوية عم الأحنف فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة فرقوا بين كل محرم من المجوس ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبدالرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوسي هجر وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه ورواه الترمذي والنسائي مختصرا ورواه عبدالرزاق وأحمد وأبو داود والبيهقي مطولا ورواه القطيعي في الجزء الثاني من فوائده بزيادة فقال حدثنا أبو علي بشر بن موسى الأسدي ثنا هوذة بن خليفة ثنا عوف عن عمار مولى بني هاشم عن بجالة بن عبدة قال كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اعرضوا على من كان قبلكم من المجوس أن يدعوا نكاح أمهاتهم وبناتهم وأخواتهم ويأكلوا جميعا كيما نلحقهم بأهل الكتاب ثم اقتلوا كل كاهن وساحر قلت وإسناده حسن قوله عن بجالة هو بفتح الموحدة بعدها جيم ابن عبدة بفتحتين التيمي العنبري بصري ثقة قوله كتب إلينا عمر بن الخطاب أن اقتلوا كل ساحر وساحرة إلى آخره صريح في قتل الساحر والساحرة وهو من حجج الجمهور القائلين بأنه يقتل وظاهره أنه يقتل من غير استتابة وهو كذلك على المشهور عن أحمد وبه قال مالك إن الصحابة لم يستتيبوهم ولأن علم السحر لا يزول بالتوبة
وعن أحمد يستتاب فإن تاب قبلت توبته وخلي سبيله وبه قال الشافعي لأن ذنبه لا يزيد على الشرك والمشرك يستتاب وتقبل توبته فكذلك الساحر وعلمه بالسحر لا يمنع توبته بدليل ساحر أهل الكتاب إذا أسلم ولذلك صح إيمان سحرة فرعون وتوبتهم قلت الأول أصح لظاهر عمل الصحابة فلو كانت الاستتابة واجبه لفعلوها أو بينوها وأما قياسه على المشرك فلا يصح لأنه أكثر فسادا وتشبيها من المشرك وكذلك لا يصح قياسه على ساحر أهل الكتاب لأن الاسلام يجب ما قبله وهذا الخلاف إنما هو في اسقاط الحد عنه بالتوبة أما فيما بينه وبين الله فإن كان صادقا قبلت توبته قال وصح عن حفصة أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها ش هذا الأثر رواه مالك في الموطأ عن محمد بن عبدالرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي ﷺ قتلت جارية لها سحرتها وكانت قد دبرتها فأمرت بها فقتلت ورواه عبدالرزاق وحفصة هي أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب تزوجها النبي ﷺ بعد خنيس بن حذافة سنة ثلاث وماتت سنة خمس واربعين قال وكذا صح عن جندب ش المراد به هنا قطعا جندب الخير الأزدي قاتل الساحر وهو جندب ابن كعب بن عبدالله قال أبو حاتم جندب بن كعب قاتل الساحر ويقال جندب بن زهير فجعلها واحدا وفرق بينهما ابن الكلبي وغيره قال ابن عبد البر ذكر الزبير أن جندب بن زهير قاتل الساحر والصحيح أنه غيره وأشار المصنف بهذا إلى قتله الساحر كما رواه البخاري في تاريخه عن أبي عثمان النهدي قال كان عند الوليد رجل يلعب فذبح إنسانا وأبان رأسه فعجبنا فأعاد رأسه فجاء جندب الأزدي فقتله ورواه البيهقي في
الدلائل مطولا وفيه فقال الناس سبحان الله يحيى الموتى وراه رجل صالح من المهاجرين فنظر إليه فلما كان من الغد اشتمل على سيفه فذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنقه وقال إن كان صادقا فليحيي نفسه فأمر به الوليد فسجن وذكر القصة بتمامها ولها طرق كثيرة قوله قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ ش أحمد هو الامام أحمد بن محمد بن حنبل وقوله عن ثلاثة أي صح قتل الساحر عن ثلاثة أوجاء قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي ﷺ يعني عمر وحفصة وجندبا والله اعلم باب بيان شيء من أنواع السحر لما ذكر المصنف ما جاء في السحر أراد هنا أن يبين شيئا من أنواعه لكثرة وقوعها وخفائها على الناس حتى اعتقد كثير من الناس أن من صدرت عنه هذه الأمور فهو من الأولياء وعدوها من كرمات الأولياء وآل الأمر إلى أن عبد أصحابها ورجي منهم النفع والضر والحفظ والكلاءة والنصر أحياء وأمواتا بل اعتقد كثير في أناس من هؤلاء أن لهم التصرف التام المطلق في الملك ولا بد من ذكر فرقان يفرق به المؤمن بين ولي الله وبين عدو الله من ساحر وكاهن وعائف وزاجر ومتطير ونحوهم ممن قد يجري على يده شيء من الخوارق فاعلم أنه ليس كل من جرى على يده شيء من خوارق العادة يجب أن يكون وليا لله تعالى لأن العادة تنخرق بفعل
الساحر والمشعوذ وخبر المنجم والكاهن بشيء من الغيب مما يخبره به الشياطين المسترقون للسمع وفعل الشياطين بأناس ممن ينتسبون إلى دين وصلاح ورياضة مخالفة للشريعة كأناس من الصوفية وكرهبان النصارى ونحوهم فيطيرون بهم في الهواء ويمشون بهم على الماء ويأتون بالطعام والشراب والدراهم وقد يكون ذلك بعزائم ورقى شيطانية وبحيل وأدوية كالذين يدخلون النار بحجر الطلق ودهن النارنج وقد يكون برؤيا صادقة فيها وما يستدل به على وقوع ما لم يقع وهذه مشتركة بين ولي الله وعدوه وقد يكون ذلك بنوع طيرة يجدها الانسان في نفسه فتوافق القدر وتقع كما أخبر وقد يكون بعلم الرمل والضرب بالحصى وقد يكون ذلك استدراجا والأحوال الشيطانية كثيرة وقد فرق الله بين أوليائه وأعدائه في كتابه فاعتصم به وحده لا إله إلا هو فإنه لا يضل من اعتصم به ولا يشقى قال الله تعالى إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون فذكر تعالى أن أولياءه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون هم المؤمنون المتقون ولم يشترط ان يجري على أيديهم شيء من خوارق العادة فدل أن الشخص قد يكون وليا لله وإن لم يجر على يديه شيء من الخوارق إذا كان مؤمنا متقيا وقال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم فأولياء الله المحبوبون عند الله هم المتبعون للرسول ﷺ باطنا وظاهرا ومن كان بخلاف هذا فليس بمؤمن فضلا عن أن يكون وليا لله تعالى وإنما أحبهم الله تعالى لأنهم والوه فأحبوا ما يحب وأبغضوا ما يبغض ورضوا بما يرضى وسخطوا ما يسخط وأمروا بما يأمر ونهوا عما ينهى وأعطوا من يجب أن يعطى ومنعوا من
يجب أن يمنع وأصل الولاية المحبة والقرب وأصل العداوة البغض والبعد وبالجملة فأولياء الله هم أحبابه المقربون اليه بالفرائض والنوافل وترك المحارم الموحدون له الذين لا يشركون بالله شيئا وإن لم تجر على أيديهم خوارق فإن كانت الخوارق دليلا على ولاية الله فلتكن دليلا على ولاية الساحر والكاهن والمنجم والمتفرس ورهبان اليهود والنصارى وعباد الاصنام فإنهم يجري لهم من الخوارق ألوف ولكن هي من قبل الشياطين فإنهم يتنزلون عليهم لمجانستهم لهم في الأفعال والأقوال كما قال تعالى قل هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم وقال تعالى ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين وقد طارت الشياطين ببعض من ينتسب إلى الولاية فقال لا إله إلا الله فسقط وتجد عمدة كثير من الناس في اعتقادهم الولاية في شخص أنه قد صدر عنه مكاشفة في بعض الأمور أو بعض الخوارق للعادة مثل أن يشير إلى شخص فيموت أو يطير في الهواء إلى مكة أو غيرها أحيانا أو يمشي على الماء أو يملأ ابريقا من الهواء أو يخبر في بعض الأوقات بشيء من الغيب أو يختفي أحيانا عن أعين الناس أو يخبر بعض الناس بما سرق له أو بحال غائب أو مريض أو أن بعض الناس استغاث به وهو غائب أو ميت فرآه قد جاء فقضى حاجته أو نحو ذلك وليس في شيء من هذه الأمور ما يدل على أن صاحبها مسلم فضلا من أن يكون وليا لله بل قد اتفق أولياء الله على أن الرجل لو طار في الهواء ومشى على الماء لم يغتر به حتى ينظر متابعته لرسول الله ﷺ وموافقته لأمره ونهيه ومثل هذه الأمور قد يكون صاحبها وليا لله وقد يكون عدوا له فإنها قد تكون لكثير من الكفار والمشركين واليهود والنصارى والمنافقين وأهل البدع وتكون
لهؤلاء من قبل الشياطين أو تكون استدراجا فلا يجوز أن يظن أن كل من كان له شيء من هذه الأمور فهو ولي لله بل يعرف أولياء الله بصفاتهم وأحوالهم وأفعالهم التي دل عليها الكتاب والسنة وأكثر هذه الأمور قد توجد في أشخاص يكون أحدهم لا يتوضأ ولا يصلي المكتوبة ولا يتنظف ولا يتطهر الطهارة الشرعية بل يكون ملابسا للنجاسات معاشرا للكلاب يأوي إلى المزابل رائحته خبيثة ركابا للفواحش يمشي في الأسواق كاشفا لعورته غامزا للشرع مستهزئا به وبحملته يأكل العقارب والخبائث التي تحبها الشياطين كافرا بالله ساجدا لغير الله من القبور وغيرها يكره سماع القرآن وينفر منه ويؤثر سماع الأغاني والأشعار ومزامير الشيطان على كلام الرحمن فلو جرى على يدي شخص من الخوارق ماذا عساه أن يجري فلا يكون وليا لله محبوبا عنده حتى يكون متبعا لرسوله ﷺ باطنا وظاهرا فإن قلت فعلى هذا ما الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية قيل إن علمت ما ذكرنا عرفت الفرق لأنه إذا كان الشخص مخالفا للشرع فما يجري له من هذه الأمور ليس بكرامة بل هي إما استدراج وإما من عمل الشياطين ويكون سببها هو ارتكاب ما نهى الله عنه ورسوله ﷺ فإن المعاصي لا تكون سببا لكرامة الله ولا يستعان بالكرامات عليها فإذا كانت لا تحصل بالصلاة والذكر وقراءة القرآن والدعاء بل تحصل بما تحبه الشياطين كالاستغاثة بغير الله أو كانت مما يستعان بها على ظلم الخلق وفعل الفواحش فهي من الأحوال الشيطانية لا من الكرامات الرحمانية وكلما كان الإنسان أبعد عن الكتاب والسنة كانت الخوارق الشيطانية له اقوى وأكثر من غيره فإن الجن الذي يقترنون بالإنس
من جنسهم فإن كان كافرا ووافقهم على ما يختارونه من الكفر والفسوق والضلال والإقسام عليهم بأسماء من يعظمونه وللسجود لهم وكتابة اسماء الله أو بعض كلامه بالنجاسة فعلوا معه كثيرا مما يشتهيه بسبب ما برطلهم به من الكفر وقد يأتونه بما يهواه من امرأة وصبي بخلاف الكرامة فإنها لا تحصل إلا بعبادة الله والتقرب إليه ودعائه وحده لا شريك له والتمسك بكتابه واجتناب المحرمات فما يجري من هذا الضرب فهو كرامة وقد اتفق على هذا الفرق جميع العلماء وبالجملة فإن عرفت الأسباب التي بها تنال ولاية الله عرفت أهلها وعرفت أنهم أهل الكرامة وإن كنت ممن يسمع بالأولياء وهو لا يعرف الولاية ولا اسبابها ولا أهلها بل يميل مع كل ناعق وساحر وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ولشيخ الإسلام كتاب الفرقان بين اولياء الرحمن وأولياء الشيطان فراجعه فإنه أتى فيه بالحق المبين قال رحمه الله قال أحمد حدثنا محمد بن جعفر ثنا عوف ثنا حبان بن العلاء وثنا قطن بن قبيصة عن أبيه أنه سمع النبي ﷺ قال إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال العوف العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط في الأرض والجبت قال الحسن رنة الشيطان إسناده جيد ولأبي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه ش قوله قال احمد هو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل ومحمد بن جعفر هو المشهور بغندر الهذلي البصري ثقة مشهور ثبت في شعبة حتى فضله علي بن المديني فيه على عبدالرحمن بن مهدي بل أقر له ابن مهدي بذلك مات سنة ست ومائتين وعوف هو ابن أبي جميلة بفتح الجيم العبدي
البصري المعروف بعوف الأعرابي ثقة مات سنة ست أو سبع وأربعين ومائة وله ست وثمانون سنة وحبان بن العلاء هو بالتحية ويقال حيان بن مخارق ابو العلاء البصري مقبول وقطن بفتحتين أبو سهلة البصري صدوق قوله عن أبيه هو قبيصة بفتح أوله وكسر الموحدة ابن المخارق بضم الميم وتخفيف المعجمة أبو عبدالله الهلالي صحابي نزل البصرة قوله إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت قال عوف العيافة زجر الطير هذا التفسير ذكره غير واحد كما قال عوف وهو كذلك قال أبو السعادات العيافة زجر الطير والتفاؤل بأسمائها وأصواتها وممرها وهو من عادة العرب كثيرا وهو كثير في أشعارهم يقال عاف يعيف عيفا إذا زجر وحدس وظن قوله والطرق الخط يخط في الأرض هكذا فسره عوف وهو تفسير صحيح وقال أبو السعادات هو الضرب بالحصى الذي يفعله النساء قلت وايا ما كان فهو من الجبت وأما الطيرة فسيأتي الكلام عليها في بابها إن شاء الله تعالى قوله من الجبت أي من أعمال السحر قال القاضي والجبت في الاصل الفشل الذي لا خير فيه ثم استعير لما يعبد من دون الله وللساحر والسحر وقال الطيبي من فيه إما ابتدائية أو تبعيضية فعلى الأول المعنى الطيرة ناشئة من الساحر وعلى الثاني المعنى الطيرة من جملة السحر والكهانة أو من جملة عبادة غير الله أي الشرك يؤيده قوله في الحديث الآتي الطيرة شرك انتهى وفي الحديث دليل على تحريم التنجيم لأنه إذا كان الحظ ونحوه الذي هو من فروع النجامة من الجبت فكيف بالنجامة قوله قال الحسن رنة الشيطان لم أجد فيه كلاما
قوله ولابي داود والنسائي وابن حبان في صحيحه المسند منه يعني أن هؤلاء رووا الحديث واقتصروا على المرفوع منه ولم يذكروا التفسير الذي فسره به عوف وقد رواه أبو داود في التفسير المذكرو بدون كلام الحسن والنسائي هوالإمام الحافظ أحمد بن شعيب بن علي بن سنان بن بحر بن دينار أبو عبدالرحمن صاحب السنن وغيرها من المصنفات روى عن محمد بن المثنى وابن بشار وقتيبة بن سعيد وخلق وكان اليه المنتهى في الحفظ والعلم لعلل الحديث مات سنة ثلاث وثلاث مئة وله ثمان وثمانون سنة قال وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد رواه ابو داود بإسناد صحيح ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف باسناد صحيح وكذا صححه النووي والذهبي ورواه أحمد وابن ماجه قوله من اقتبس قال أبو السعادات قبست العلم واقتبسته إذا تعلمته انتهى وعلى هذا فالمعنى من تعلم قوله شعبة أي طائفة وقطعة من النجوم والشعبة الطائفة من الشيء والقطعة منه ومنه الحديث الحياء شعبة من الإيمان أي جزء منه قوله فقد اقتبس شعبة من السحر أي المعلوم تحريمه قال شيخ الإسلام فقد صرح رسول الله ﷺ بأن علم النجوم من السحر وقد قال الله تعالى ولا يفلح الساحر حيث أتى وهكذا الواقع فإن الاستقراء يدل على أن أهل النجوم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة قوله زاد ما زاد يعني كلما زاد من علم النجوم زاد له من الأثم مثل إثم
الساحر أو زاد اقتباس شعب السحر ما زاد اقتباس علم النجوم قلت والقولان متلازمان لأن زيادة الإثم فرع عن زيادة السحر وذلك لأنه تحكم على الغيب الذي استأثر الله بعلمه فعلم أن تأثير النجوم باطل محرم وكذا العمل بمقتضاه كالتقرب إليها بتقريب القرابين لها كفر قاله ابن رجب قال وللنسائي من حديث أبي هريرة من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئا وكل اليه ش هذا الحديث ذكره المصنف من حديث أبي هريرة وعزاه للنسائي ولم يبين هل هو موقوف أو مرفوع وقد رواه النسائي مرفوعا وذكر المصنف عن الذهبي أنه قال لا يصح وحسنه ابن مفلح قوله من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر اعلم أن السحرة إذا أرادوا عمل السحر عقدوا الخيوط ونفثوا على كل عقدة حتى ينعقد ما يريدونه من السحر ولهذا أمر الله بالاستعاذة من شرهم في قوله ومن شر النفاثات في العقد يعني السواحر اللاتي يفعلن ذلك والنفث هو النفخ مع ريق وهو دون التفل وهو مرتبة بينهما والنفث فعل الساحر فإذا تكيفت نفسه بالخبث والشر الذي يريده بالمسحور ويستعين عليه بالأرواح الخبيثة نفخ في تلك العقد نفخا معه ريق فيخرج من نفسه الخبيثة نفس مماذج للشر والأذى مقترن بالريق الممازج لذلك وقد تساعد هو والروح الشيطانية على أذى المسحور فيصيبه السحر بإذن الله الكوني الشرعي لا الإذن القدري قاله ابن القيم قوله ومن سحر فقد أشرك نص في أن الساحر مشرك إذ لا يتأتى السحر بدون الشرك كما حكاه الحافظ عن بعضهم
قوله ومن تعلق شيئا وكل اليه أي من تعلق قلبه شيئا بحيث يتوكل عليه ويرجوه وكله الله إلى ذلك الشيء فإن تعلق العبد على ربه والهه وسيده ومولاه رب كل شيء ومليكه وكله اليه فكفاه ووقاه وحفظه وتولاه ونعم المولى ونعم النصير كما قال تعالى أليس الله بكاف عبده ومن تعلق على السحر والشياطين وكله الله اليهم فأهلكوه في الدنيا والآخرة وبالجملة فمن توكل على غير الله كائنا من كان وكل اليه وأتاه الشر في الدنيا والآخرة من جهته مقابلة له بنقيض قصده وهذه سنة الله في عباده التي لا تبدل وعادته التي لا تحول أن من اطمأن إلى غيره أو وثق بسواه أو ركن إلى مخلوق يدبره أجرى الله تعالى له بسببه أو من جهته خلاف ما علق به أماله وهذا أمر معلوم بالنص والعيان ومن تأمل ذلك في أحوال الخلق بعين البصيرة النافذة رأى ذلك عيانا وفائدة هذه الجملة بعد ما قبلها الإشارة إلى أن الساحر متعلق على غير الله فإنه متعلق على الشياطين قال وعن ابن مسعود أن رسول الله ﷺ قال ألا هل أنبئكم ما العضه هي النميمة القالة بين الناس رواه مسلم ش قوله هل أنبئكم أي أخبركم قوله ما العضه هو بفتح العين المهملة وسكون المعجمة قال أبو السعادات هكذا تروى في كتب الحديث والذي جاء في كتب الغريب ألا أنبئكم ما العضة بكسر العين وفتح الضاد وفي حديث آخر اياكم والعضة قال الزمخشري أصلها العضهة فعلة من العضه وهو البهت فحذفت لامه كما حذفت من السنة والشفة وتجمع على عضين ثم فسره بقوله هي النميمة القالة بين الناس وعلى هذا فاطلق عليها العضة لأنها لا تنفك عن الكذب والبهتان غالبا ذكره
القرطبي قلت ظاهر ايراد المصنف لهذا الحديث هنا يدل على أن معنى العضه عنده هنا هو السحر ويدل على ذلك حديث كادت النميمة أن تكون سحرا رواه ابن لال في مكارم الأخلاق بإسناد ضعيف وذكر ابن عبد البر عن يحيى بن أبي كثير قال يفسد النمام والكذاب في ساعة مالا يفسد الساحر ف يسنة وقال ابو الخطاب في عيون المسائل ومن السحر السعي بالنميمة والإفساد بين الناس قال في الفروع ووجهه أنه يقصد الأذى بكلامه وعلمه على وجه المكر والحيلة أشبه السحر ولهذا يعلم بالعرف والعادة أنه يؤثر وينتج ما يعمله الساحر أو أكثر فيعطى حكمه تسوية بين المتماثلين أو المتقاربين لكنه يقال الساحر إنما كفر لوصف السحر وهو امر خاص ودليله خاص وهذا ليس بساحر وإنما يؤثر عمله ما يؤثره فيعطى حكمه إلا فيما اختص به من الكفر وعدم قبول التوبة انتهى ملخصا وبه يظهر مطابقة الحديث للترجمة والحديث دليل على تحريم النميمة وهو كذلك بالاجماع وقد قال أبو محمد بن حزم اتفقوا على تحريم الغيبة والنميمة في غير النصيحة الواجبة وفيه دليل على أنها من الكبائر وقوله القالة بين الناس قال أبو السعادات أي كثرة القول وايقاع الخصومة بين الناس بما يحكى للبعض عن البعض ومنه الحديث ففشت القالة بين الناس قال ولهما عن ابن عمر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال إن من البيان لسحرا ش البيان البلاغة والفصاحة قال صعصعة بن صوحان صدق نبي الله أما قوله إن من البيان لسحر فالرجل يكون عليه الحق وهو الحن الحجج من صاحب الحق فيسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق وقال ابن عبد البر
تأولته طائفة على الذم لأن السحر مذموم وذهب أكثر أهل العلم وجماعة أهل الأدب إلى أنه على المدح لأن الله تعالى مدح البيان قال وقد قال عمر بن عبدالعزيز لرجل سأله عن حاجة فأحسن المسألة فأعجبه قوله فقال هذا والله السحر الحلال قلت الأول أصح وهو أنه خرج مخرج الذم لبعض البيان لا كله وهو الذي فيه تصويب الباطل وتحسينه حتى يتوهم السامع انه حق أو يكون فيه بلاغة زائدة عن الحد أو قوة في الخصومة حتى يسحر القوم ببيانه فيذهب بالحق ونحو ذلك فسماه سحرا لأنه يستميل القلوب كالسحر ولهذا قال ﷺ لما جاءه رجلان من المشرق فخطبا فعجب الناس لبيانهما فقال رسول الله صلى الله عيله وسلم إن من البيان لسحرا كما رواه مالك والبخاري وغيرهم وأما جنس البيان فمحمود بخلاف الشعر فجنسه مذموم إلا ما كان حكما ولكن لا يحمد البيان إلا إذا لم يخرج إلى حد الإسهاب والإطناب أو تصوير الباطل في صورة الحق فإذا خرج إلى هذا الحد فهو مذموم وعلى هذا تدل الاحاديث كقوله ﷺ إن الله يبغض البليغ من الرجال الذي يتخلل بلسانه كما تتخلل البقرة بلسانها رواه أحمد وأبو داود وقوله لقد رأيت أو لقد أمرت أن أتجوز في القول فإن الجواز هو خير رواه أبو داود باب ما جاء في الكهان ونحوهم اعلم ان الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية لأن الله تعالى حرس
السماء بالشهب ولم يبق من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى فيلقيه الى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب وأما ما يخبر به الجني مواليه من الانس بما غاب عن غيره مما لا يطلع عليه الانسان غالبا فكثير جدا في أناس ينتسبون الى الولاية والكشف وهم من الكهان إخوان الشياطين لا من الأولياء ولما ذكر المصنف شيئا مما يتعلق بالسحر ذكر ما جاء في الكهان ونحوهم كالعراف لمشابهة هؤلاء للسحرة والكهانة ادعاء علم الغيب كالاخبار بما سيقع في الأرض مع الاستناد إلى سبب والأصل فيه استراق الجن السمع من كلام الملائكة فتلقيه في اذن الكاهن والكاهن لفظ يطلق على العراف والذي يضرب الحصى والمنجم وقال في المحكم الكاهن القاضي بالغيب وقال الخطابي الكهان فيما علم بشهادة الامتحان قوم لهم أذهان حادة ونفوس شريرة وطبائع نارية فهم يفزعون إلى الجن في أمورهم ويستفتونهم في الحوادث فيلقون اليهم الكلمات قال وروى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوما ش هذا الحديث رواه مسلم كما قال المصنف ولفظه حدثنا محمد بن المثنى العنزي ثنا يحيى بن سعيد عن عبيد الله في نسخة عبدالله عن نافع عن صفية عن بعض أزواج النبي ﷺ عن النبي ﷺ قال من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة اربعين يوما وليلة هكذا رواه وليس فيه فصدقه قوله عن بعض أزواج النبي ﷺ هي حفصة على ما ذكره أبو مسعود الدمشقي لأنه ذكر هذا الحديث في الأطراف في مسندها وكذلك سماه بعض الرواة
قوله من اتى عرافا فسأله عن شيء العراف سيأتي بيانه وهو من أنواع الكهان وظاهر الحديث أن هذا الوعيد مرتب على مجيئه وسؤاله سواء صدقه أو شك في خبره لأن اتيان الكهان منهي عنه كما في حديث معاوية ابن الحكم السلمي قلت يا رسول الله إن منا رجالا يأتون الكهان قال فلا تأتهم رواه مسلم ولأنه إذا شك في خبره فقد شك في أنه لا يعلم الغيب وذلك موجب للوعيد بل يجب عليه أن يقطع ويعتقد أنه لا يعلم الغيب إلا الله قوله لم تقبل له صلاة أربعين يوما إذا كانت هذه حال السائل فكيف بالمسؤول قال النووي وغيره معناه أنه لا ثواب له فيها وان كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى اعادة ونظير هذه الصلاة في ارض مغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء لكن لا ثواب له فيها قاله جمهور أصحابنا قالوا فصلاة الفرض إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض وحصول الثواب فإذا أداها في أرض مغصوبه حصل له الأول دون الثاني ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلاة أربعين ليلة فوجب تأويله هذا كلامه وهو مبني على الملازمة بين الإجراء وعدم الاعادة والصواب أن عدم الاعادة لا يستلزم الإجزاء لكن الصلاة في الارض المغصوبة في أجزائها نزاع والمشهور من مذهب أحمد أنها لا تجزىء وتجب إعادتها وفي الحديث النهي عن إتيان الكاهن ونحوه قال القرطبي يجب على من قدر على ذلك من محتسب وغيره أن يقيم على من يتعاطى شيئا من ذلك من التعزيرات وينكر عليهم أشد النكير وعلى من يجيء إليهم ولا يغتر بصدقهم في بعض الأمور ولا بكثرة من يجيء إليهم ممن ينسب إلى العلم فإنهم غير راسخين في العلم بل من الجهال بما في اتيانهم من المحذور قال وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال من أتى كاهنا فصدقه
بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ رواه أبو داود ش هذا الحديث رواه أبو داود ولفظه حدثنا موسى ابن اسماعيل ثنا حماد ح وحدثنا مسدد ثنا يحيى عن حماد بن سلمة عن حكيم الأثرم عن أبي تميمة عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال من أتى كاهنا قال موسى في حديثه فصدقه بما يقول أو أتى امرأة قال مسدد امرأته حائضا أو أتى أمرأة قال مسدد يعني امرأته في دبرها فقد برىء مما أنزل على محمد ﷺ ورواه الترمذي والنسائي وابن ماجه بنحوه وقال الترمذي لا نعرفه إلا من حديث الأثرم وضعف محمد هذا الحديث من جهة إسناده وقال البغوي سنده ضعيف وقال الذهبي ليس إسناده بالقائم قلت أطال أبو الفتح اليعمري في بيان ضعفه وادعى أن متنه منكر وأخطأ في إطلاق ذلك فإن إتيان الكاهن له شواهد صحيحة منها ما ذكره المصنف بعده وكذلك إتيان المرأة في الدبر له شواهد منها ما رواه عبد بن حميد بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا سأل ابن عباس عن إتيان المرأة في دبرها فقال تسألني عن الكفر ومنها ما رواه الترمذي والنسائي وابن حبان في صحيحه وصححه ابن حزم عن ابن عباس مرفوعا لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر والأحاديث في ذلك كثيرة وغاية ما ينكر من متنه ذكر إتيان الحائض والله أعلم قال وللأربعة والحاكم وقال صحيح على شرطهما عن من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ ش هكذا بيض المصنف اسم الراوي وقد رواه أحمد والبيهقي والحاكم عن أبي هريرة مرفوعا ولفظ أحمد
حدثنا يحيى بن سعيد عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة والحسن عن النبي ﷺ فذكره وهذا اسناد صحيح على شرط البخاري فقد روى عن عوف عن خلاس عن أبي هريرة حديث أن موسى كان رجلا حييا الحديث قال العراقي في أماليه حديث صحيح وقال الذهبي اسناده قوي وعلى هذا فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم واظنه تبع في ذلك الحافظ فإنه عزاه في الفتح إلى أصحاب السنن والحاكم فوهم ولعله أراد الذي قبله قوله من أتى كاهنا الى آخره قال بعضهم لا تعارض بين هذا الخبر وبين حديث من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة إذ الغرض في هذا الحديث أنه سأله معتقدا صدقه وأنه يعلم الغيب فإنه يكفر فإن اعتقد أن الجن تلقي اليه ما سمعته من الملائكة أو أنه بإلهام فصدقه من هذه الجهة لا يكفر كذا قال وفيه نظر وظاهر الحديث أنه يكفر متى اعتقد صدقه بأي وجه كان لاعتقاده أنه يعلم الغيب وسواء كان ذلك من قبل الشياطين أو من قبل الإلهام لا سيما وغالب الكهان في وقت النبوة إنما كانوا يأخذون عن الشياطين وفي حديث رواه الطبراني عن واثلة مرفوعا من أتى كاهنا فسأله عن شيء حجبت عنه التوبة أربعين ليلة فإن صدقه بما قال كفر قال المنذري ضعيف فهذا لو ثبت نص في المسألة لكن ما تقدم من الأحاديث يشهد له فإن الحديث الذي فيه الوعيد بعدم قبول الصلاة أربعين ليلة ليس فيه ذكر تصديقه والأحاديث التي فيها اطلاق الكفر مقيدة بتصديقه قوله فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ قال الطيبي المراد بالمنزل الكتاب والسنة أي من ارتكب الهناة فقد برىء من دين محمد ﷺ وما أنزل عليه انتهى وهل الكفر في هذا الموضع كفر دون كفر أو يجب التوقف
فلا يقال ينقل عن الملة ذكروا فيها روايتين عن أحمد وقيل هذا على التشديد والتأكيد أي قارب الكفر والمراد كفر النعمة وهذان القولان باطلان قال ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفا ش أبو يعلى اسمه أحمد بن علي بن المثنى الموصلي الإمام صاحب التصانيف ك المسند وغيره روى عن يحيى بن معين وابي خيثمة وأبي بكر بن أبي شيبة وخلق وكان من الأئمة الحفاظ مات سنة سبع وثلاثمائة وهذا الأثر رواه البزار أيضا واسناده على شرط مسلم ولفظه من أتى كاهنا أو ساحرا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ وفيه دليل على كفر الكاهن والساحر والمصدق لهما لأنهما يدعيان علم الغيب وذلك كفر والمصدق لهما يعقتد ذلك ويرضى به وذلك كفر أيضا قال وعن عمران بن الحصين مرفوعا ليس منا من تطير أو تطير له أو تكهن له أو سحر أو سحر له ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ رواه البزار بإسناد جيد ورواه الطبراني باسناد حسن من حديث ابن عباس دون قوله ومن أتى الى آخره ش هذا الحديث رواه الطبراني كما قال المصنف في الأوسط قال لمنذري اسناد الطبراني حسن واسناد البزار جيد قوله ليس منا أي ليس يفعل ذلك من هو من أشياعنا العاملين باتباعنا المقتفين لشرعنا قوله من تطير أي فعل الطيرة أو تطير له اي امر من يتطير له كذلك معنى تكهن او تكهن له أو سحر له قوله رواه البزار اسمه أحمد بن عمرو بن عبدالخالق أبو بكر البزار
البصري صاحب المسند الكبير الذي عزا اليه المصنف روى عن ابن بشار وابن المثنى وخلق قال الدارقطني ثقة يخطىء ويتكل على حفظه مات سنة اثنين وتسعين ومائتين قوله قال البغوي العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقد مات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك وقيل هو الكاهن والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل وقيل الذي يخبر عما في الضمير وقال أبو العباس ابن تيمية العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق ش البغوي بفتحتين اسمه الحسين بن مسعود بن الفراء المعروف بمحيي السنة الشافعي صاحب التصانيف وعالم أهل خراسان وكان ثقة فقيها زاهدا مات في شوال سنة ست عشرة وخمسمائة قوله العراف الذي يدعي معرفة الأمور الى آخره هذا تفسير حسن وظاهره يقتضي أن العراف هو الذي يخبر عن الواقع كالمسروق والضالة وأحسن منه كلام شيخ الإسلام أن العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم كالحازر الذي يدعي علم الغيب أو يدعي الكشف وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم العراف وعند بعضهم هو في معناه وقال أيضا والمنجم يدخل في اسم الكاهن عند الخطابي وغيره من العلماء وحكى ذلك عن العرب وعند آخرين من جنس الكاهن وأسوء حالا منه فيلحق به من جهة المعنى وقال الامام أحمد العراف طرف من السحر والساحر أخبث وقال ابو السعادات العراف المنجم والحازر الذي يدعي علم الغيب وقد استأثر الله تعالى به وقال ابن القيم من اشتهر باحسان الزجر عندهم سموه عائفا وعرافا والمقصود من هذا معرفة أن من يدعي علم شيء من المغيبات فهو إما داخل في اسم الكاهن وإما مشارك له في المعنى فيلحق به
وذلك أن إصابة المخبر ببعض الأمور الغائبة في بعض الأحيان يكون بالكشف ومنه ما هو من الشياطين ويكون بالفأل والزجر والطير والضرب بالحصى والخط في الأرض والتنجيم والكهانة السحر ونحو هذا من علوم الجاهلية ونعني بالجاهلية كل من ليس من اتباع الرسل كالفلاسفة والكهان المنجمين وجاهلية العرب الذين كانوا قبل مبعث النبي ﷺ فان هذه علوم قوم ليس لهم علم بما جاءت به الرسل عليهم السلام وكل هذه الأمور يسمى صاحبها كاهنا وعرافا أو في معناهما فمن أتاهم فصدقهم بما يقولون لحقه الوعيد وقد ورث هذه العلوم عنهم أقوام فادعوا بها علم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه وادعوا أنهم أولياء وأن ذلك كرامة ولا ريب أن من ادعى الولاية واستدل عليها بإخباره ببعض المغيبات فهو من أولياء الشيطان لا من أولياء الرحمن إذ الكرامة أمر يجريه الله على يد عبده المؤمن المتقي إما بدعاء أو أعمال صالحة لا صنع للولي فيها ولا قدرة له عليها بخلاف من يدعي أنه ولي لله ويقول للناس أعلموا إني أعلم المغيبات فإن مثل هذه الأمور قد تحصل بما ذكرنا من الأسباب وإن كانت أسبابا محرمة كاذبة في الغالب ولهذا قال ﷺ في وصف الكهان فيكذبون معها مائة كذبة فبين أنهم يصدقون مرة ويكذبون مائة وهكذا حال من سلك سبيل الكهان ممن يدعي الولاية والعلم بما في ضمائر الناس مع أن نفس دعواه دليل على كذبه لأن في دعواه الولاية تزكية النفس المنهي عنها بقوله فلا تزكوا أنفسكم وليس هذا من شأن الأولياء بل شأنهم الإزراء على نفوسهم وعيبهم لها وخوفهم من ربهم فكيف يأتون الناس يقولون اعرفوا أنا أولياء وأنا نعلم الغيب وفي
ضمن ذلك طلب المنزلة في قلوب الخلق واقتناص الدنيا بهذه الأمور وحسبك بحال الصحابة والتابعين وهم سادات الأولياء أفكان عندهم من هذه الدعاوى والشطحات شيء لا والله بل كان أحدهم لا يملك نفسه من البكاء إذا قرأ القرآن كالصديق وكان عمر يسمع نشيجه من وراء الصفوف يبكي في صلاته وكان يمر بالآية في ورده بالليل فيمرض منها ليالي يعودونه الناس وكان تميم الداري يتقلب في فراشه لا يستطيع النوم إلا قليلا خوفا من النار تم يقوم الى صلاته ويكفيك في صفات الأولياء ما ذكر الله تعالى من صفاتهم في سورة الرعد والمؤمنين والفرقان والذاريات والطور فالمتصفون بتلك الصفات هم الاولياء الأصفياء لا أهل الدعوى والكذب ومنازعة رب العالمين فيما اختص من الكبرياء والعظمة وعلم الغيب بل مجرد دعواه علم الغيب كفر فكيف يكون المدعي لذلك وليا لله ولقد عظم الضرر واشتد الخطب بهؤلاء المفترين الذين ورثوا هذه العلوم عن المشركين ولبسوا بها على خفافيش البصائر نسأل الله السلامة والعافية في الدنيا والآخرة فإن قلت كيف يكون علم الخط من الكهانة وقد روى أحمد ومسلم عن معاوية بن الحكم أنه قال لرسول الله ﷺ ومنا رجال يخطون فقال كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك قلت قال النووي معناه أن من وافق خطه فهو مباح له لكن لا طريق لنا إلى العلم باليقين بالموافقة فلا يباح والقصد أنه لا يباح الا بيقين الموافقة وليس لنا يقين وقال غيره المراد به النهي عنه والزجر عن تعاطيه لأن خط ذلك النبي كان معجزة وعلما لنبوته وقد انقطعت نبوته ولم يقل فذلك الخط حرام دفعا لتوهم ان خط ذلك النبي حرام قلت ويحتمل أن المعنى أن سبب إصابة
صاحب الخط هو موافقته لخط ذلك النبي فمن وافق خطه أصاب وإذا كان كذلك وكانت الاصابة نادرة بالنسبة الى الخط ولا طريق الى اليقين بالموافقة صار ذلك بالنسبة إلى من يتعاطاه من أنواع الكهانة لمشاركته لها في المعنى اذا علمت ذلك فاعلم أن مذهب الامام أحمد أن حكم الكاهن والعراف الاستتابة فإن تابا وإلا قتلا ذكره غير واحد من الأصحاب فأما المعزم الذي يعزم على المصروع ويزعم أنه يجمع الجن وأنها تطيعه والذي يحل السحر فقال في الكافي ذكرهما أصحابنا في السحرة الذين ذكرنا حكمهم وقد توقف أحمد لما سئل عن الرجل يحل السحر فقال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال ما أدري ما هذا قيل له فترى أن يؤتى مثل هذا يحل قال ما أدري ما هذا قال وهذا يدل على أنه لا يكفر صاحبه ولا يقتل قلت إن كان ذلك لا يحصل إلا بالشرك والتقرب إلى الجن فإنه يكفر ويقتل ونص أحمد لا يدل على أنه لا يكفر فإنه قد يقول مثل هذا في الحرام البين قوله وقال ابن عباس في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النحوم ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ش هذا الأثر ذكره المصنف عن ابن عباس ولم يعزه وقد رواه الطبراني عن ابن عباس مرفوعا وإسناده ضعيف ولفظه رب معلم حروف أبي جاد دارس في النجوم ليس له عند الله من خلاق يوم القيامة ورواه أيضا حميد بن زنجويه عنه بلفظ رب ناظر في النجوم ومتعلم حروف أبي جاد ليس له عند الله خلاق قوله ما أرى يجوز فتح الهمزة من أرى بمعنى لا أعلم له عند الله من خلاق أي من نصيب ويجوز ضمها بمعنى لا أظن ذلك لاشتغاله بما فيه من
اقتحام الخطر والجهالة وادعاء علم الغيب الذي استأثر الله به وكتابه أبي جاد وتعلمها لمن يدعي بها معرفة علم الغيب هو الذي يسمى علم الحروف ولبعض المبتدعة فيه مصنف فأما تعليمها للتهجي وحساب الجمل فلا بأس بذلك قوله وينظرون في النجوم هذا محمول على علم التأشير لا التسيير كما سيجيء في باب التنجيم وفيه عدم الاغترار بما يؤتاه أهل الباطل من معارفهم وعلومهم كما قال تعالى فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون باب ما جاء في النشرة لما ذكر المصنف حكم السحرة والكهانة ذكر ما جاء في النشرة لأنها قد تكون من قبل الشياطين والسحرة فتكون مضادة للتوحيد وقد تكون مباحة كما سيأتي تفصيله قال أبو السعادات النشرة ضرب من العلاج والرقية يعالج به من كان يظن أن به مسا من الجن سميت نشرة لأنه ينشر بها عنه ما خامره من الداء أي يكشف ويزال وقال الحسن النشرة من السحر وقد نشرت عنه تنشيرا ومنه الحديث فلعل طبا أصابه ثم نشره ب قل أعوذ برب الناس أي رقاه وقال غيره ونشرة أيضا إذا كتب له النشرة وهي كالتعويذ والرقية
وقال ابن الجوزي النشرة حل السحر عن المسحور ولا يكاد يقدر عليه إلا من يعرف السحر قال عن جابر أن رسول الله ﷺ سئل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان رواه أحمد بسند جيد وأبو داود قال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله ش هذا الحديث رواه أحمد ورواه عنه أبو داود في سننه والفضل بن زياد في كتاب المسائل عن عبدالرزاق عن عقيل بن معقل بن منبه عن عمه وهب بن منبه عن جابر فذكره قال ابن مفلح إسناد جيد وحسن الحافظ إسناده ورواه ابن أبي شيبة وابو داود في المراسبل عن الحسن رفعه النشرة من عمل الشيطان قوله سئل عن النشرة الألف واللام في النشرة للعهد أي النشرة المعهودة التي كان أهل الجاهلية يصنعونها هي من عمل الشيطان لا النشرة بالرقي والتعوذات الشرعية والأدوية المباحة فإن ذلك جائز كما قرره ابن القيم فيما سيأتي قوله وقال سئل أحمد عنها فقال ابن مسعود يكره هذا كله مراد أحمد والله أعلم أن ابن مسعود يكره النشرة التي من عمل الشيطان والنشرة التي بكتابة وتعليق كالتمائم فإن ابن مسعود كان يكره التمائم كلها من القرآن وغير القرآن أما النشرة بالتعويذ والرقي بأسماء الله وكلامه من غير تعليق فلا أعلم أحدا كرهه وكذلك ما رواه ابن أبي شيبة عن ابراهيم كانوا يكرهون التمائم والرقى والنشر محمول على ما ذكرنا قال وفي البخاري عن قتادة قلت لابن المسيب رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته أيحل عنه أو ينشر قال لا بأس به إنما يريدون
به الاصلاح فأما ما ينفع فلم ينه عنه ش هذا الأثر علقه البخاري ووصله أبو بكر الأثرم في كتاب السنن من طريق ابان العطار عن قتادة مثله ومن طريق هشام الدستوائي عن قتادة بلفظ يلتمس من يداويه فقال إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن قتادة هو ابن دعامة بكسر الدال السدوسي البصري ثقة ثبت فقيه من أحفظ التابعين يقال إنه ولد أكمه مات سنة بضع عشرة ومائة قوله رجل به طب بكسر الطاء أي سحر يقال طب الرجل بالضم أذا سحر ويقال كنوا عن السحر بالطب تفاؤلا كما قالوا للديغ سليم وقال ابن الأنباري الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء طب والسحر من الداء يقال له طب قوله أو يؤخذ بفتح الواو مهموز وتشديد الخاء المعجمة وبعدها ذال معجمة أي يحبس عن امرأته ولا يصل الى جماعها والأخذة بضم الهمزة الكلام الذي يقوله الساحر قوله يحل بضم الياء وفتح الحاء مبني للمفعول قوله وينشر بتشديد المعجمة قوله قال لا بأس به الى آخره يعني أن النشرة لا بأس بها لأنهم يريدون بها الاصلاح أي ازالة السحر ولم ينه عما يراد به الاصلاح إنما ينهى عما يضر وهذا الكلام من ابن المسيب يحمل على نوع من النشرة لا يعلم هل هو نوع من السحر ام لا فأما أن يكون ابن المسيب يفتي بجواز قصد الساحر الكافر المأمور بقتله ليعمل السحر فلا يظن به ذلك حاشاه منه ويدل على ذلك قوله إنما يريدون به الاصلاح فأي اصلاح في السحر بل كله فساد وكفر
والله أعلم قال وروي عن الحسن أنه قال لا يحل السحر الا ساحر ش هذا الأثر ذكره ابن الجوزي في جامع المسانيد بغير اسناد ولفظه لا يطلق السحر الا ساحر وروى ابن جرير في التهذيب من طريق يزيد بن زريع عن قتادة عن سعيد بن المسيب أنه كان لا يرى بأسا اذا كان بالرجل سحر أن يمشي الى من يطلق عنه فقال هو صلاح قال قتادة وكان الحسن يكره ذلك يقول لا يعلم ذلك الا ساحر قال فقال سعيد بن المسيب إنما نهى الله عما يضر ولم ينه عما ينفع قوله عن الحسن هو ابن أبي الحسن واسمه يسار بالتحتانية والمهملة البصري الأنصاري مولاهم ثقة فقيه إمام فاضل من خيار التابعين مات سنة عشر ومائة وقد قارب التسعين قوله قال ابن القيم النشرة حل السحر عن المسحور وهي نوعان حل بسحر مثله وهو الذي من عمل الشيطان وعليه يحمل قول الحسن فيتقرب الناشر والمنتشر الى الشيطان بما يحب فيبطل عمله عن المسحور والثاني النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية المباحة فهذا جائز ش هذا الثاني هو الذي يحمل عليه كلام ابن المسيب أو على نوع لا يدري هل هو من السحر أم لا وكذلك ما روي عن الامام أحمد من اجازة النشرة فإنه محمول على ذلك وغلط من ظن أنه أجاز النشرة السحرية وليس في كلامه ما يدل على ذلك بل لما سئل عن الرجل يحل السحر قال قد رخص فيه بعض الناس قيل إنه يجعل في الطنجير ماء ويغيب فيه فنفض يده وقال لا أدري ما هذا قيل له أفترى أن يؤتى مثل هذا قال لا أدري ما هذا وهذا صريح في النهي عن النشرة على الوجه المكروه وكيف
وهو الذي روى الحديث انها من عمل الشيطان لكن لما كان لفظ النشرة مشتركا بين الجائزة والتي من عمل الشيطان ورأوه قد أجاز النشرة ظنوا أنه قد أجاز التي من عمل الشيطان وحاشاه من ذلك ومما جاء في صفة النشرة الجائزة ما رواه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ليث بن أبي سليم قال بلغني أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر باذن الله تقرأ في إناء فيه ماء ثم تصب على رأس المسحور الآية التي في يونس فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر أن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين الى قوله ولو كره المجرمون وقوله فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون الى آخر أربع آيات وقوله ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى وقال ابن بطال في كتاب وهب بن منبه أنه يأخذ سبع ورقات من سدر أخضر فيدقه بين حجرين ثم يضربه بالماء ويقرأ فيه آية الكرسي والقواقل ثم يحسو منه ثلاث حسوات ثم يغتسل به فإنه يذهب عنه كل ما به وهو جيد للرجل اذا حبس عن أهله باب ما جاء في التطير مصدر تطير يتطير والطيرة أيضا بكسر الطاء وفتح الياء وقد تسكن مصدر تطير يقال تطير طيرة وتخير خيرة ولم يجيء من المصادر هكذا غيرهما وأصله فيما يقال التطير بالسوانح والبوارح من الطير والظباء وغيرهما وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم فإذا أرادوا أمرا فإن رأوا الطير مثلا طاديمنة تيمنوا به وإن طار يسره تشاءموا به فنفاه الشرع وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير في جلب
نفع أو دفع ضر قال المدائني سألت رؤبة بن العجاج ما السانح قال ما ولاك ميامنه قلت فما البارح قال ما ولاك مياسره قال والذي يجيء من أمامك فهو الناطح والنطيع والذي يجىء من خلفك هو القاعد والقعيد ولما كانت الطيرة بابا من الشرك منافيا للتوحيد أو لكماله لأنها من القاء الشيطان وتخويفه ووسوسته ذكره المصنف في كتاب التوحيد تحذيرا منها وإرشاد الى كمال التوحيد بالتوكل على الله وأعلم أن من كان معتنيا بها قابلا بها كانت اليه أسرع من السيل الى منحدره وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه وينكد عليه عيشه فالواجب على العبد التوكل على الله ومتابعة رسول الله ﷺ وأن يمضي لشأنه لا يرده شيء من الطيرة عن حاجته فيدخل في الشرك قال وقول الله تعالى ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون ش اول الآية قوله تعالى فإذا جاءتهم حسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه الآية المعنى أن آل فرعون إذا صابتهم الحسنة أي الخصب والسعة والعافية على ما فسره مجاهد وغيره قالوا لنا هذه اي نحن الجديرون الحقيقون به ونحن أهله وإن تصبهم سيئة أي بلاء وضيق وقحط يطيروا بموسى ومن معه فيقولون هذا بسبب موسى وأصحابه أصابنا بشؤمهم كما يقوله المتطير لمن يتطير به فأخبر سبحانه أن طائرهم عنده فقال ألا إنما طائرهم عند الله قال ابن عباس طائرهم ما قضي عليهم وقد لهم وفي رواية ذكرها ابن جرير عنه قال الأمر من قبل الله وفي رواية شؤمهم عند الله ومن قبله أي إنما جاءهم الشؤم من قبله بكفرهم وتكذيبهم بآياته ورسله
وقيل المعنى أن الشؤم العظيم هو الذي لهم عند الله من عذاب النار لا هذا الذي اصابهم في الدنيا والظاهر أن هذه الآية كقوله تعالى وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله أي ان الكل من الله لكن هذا الشؤم الذي اجراه عليهم من عنده هو بسبب أعمالهم لا بسبب موسى عليه السلام ومن معه وكيف يكون ذلك وما جاء به خير محض والطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير وقوله ولكن أكثرهم لا يعلمون أي ان أكثرهم جهال لا يدرون ولو فهموا أو عقلوا لعلموا أنه ليس فيما جاء به موسى عليه السلام شيء يقتضي الطيرة وقال ابن جرير يقول تعالى ذكره ألا إنما طائر آل فرعون وغيرهم وذلك أنصباؤهم من الرخاء والخصب وغير ذلك من انصباء الخير والشر عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون أن ذلك كذلك فلجهلهم بذلك كانوا يتطيرون بموسى ومن معه قال وقوله قالوا طائركم معكم الآية ش المعنى والله أعلم أي حظكم وما نالكم من خير وشر معكم بسبب أفعالكم وكفركم ومخالفتكم الناصحين ليس هو من أجلنا ولا بسببنا بل ببغيكم وعداوتكم فطائر الباغي الظالم معه وهو عندالله كما قال تعالى وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ولو فقهوا أو فهموا لما تطيروا بما جئت به لأنه ليس فيما جاء به الرسول ﷺ ما يقتضي الطيرة كأنه خير محض لا شر فيه وصلاح لا فساد فيه وحكمة لا عيب فيها ورحمة لا جور فيها فلو كان هؤلاء القوم من أهل الفهم والعقول السليمة لم يتطيروا من هذا لأن الطيرة إنما تكون بالشر لا بالخير
المحض والحكمة والرحمة بل طائرهم معهم بسبب كفرهم وشركهم وبغيهم وهو عند الله كسائر حظوظهم وانصبائهم التي ينالونها منه بأعمالهم ويحتمل أن يكون المعنى طائركم معكم أي راجع عليكم فالتطير الذي حصل لكم إنما يعود عليكم وهذا من باب القصاص في الكلام ونظيره قوله عليه السلام إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم ذكره ابن القيم وقوله أئن ذكرتم أي من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا بل أنتم قوم مسرفون وقال قتادة ائن ذكرناكم بالله تطيرتم بنا ومطابقة الآيتين لمقصود الباب ظاهر لأن الله تعالى لم يذكر النظير إلا عن اعدائه فهو من أمر الجاهلية لا من امر الاسلام قال عن أبي هريرة ان رسول الله ﷺ قال لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر أخرجاه زاد مسلم ولا نوء ولا غول ش قوله لا عدوى قال أبو السعادات العدوى اسم من الإعداء كالدعوى والبقوى من الادعاء والابقاء يقال أعداه الداء يعديه إعداء وهو أن يصيبه مثل ما بصاحب الداء وذلك أن يكون ببعير جرب مثلا يتقي مخالطته بابل أخرى حذار أن يتعدى ما به من الجرب اليها فيصيبها ما أصابه انتهى وفي بعض روايات هذا الحديث فقال أعرابي يا رسول الله فما بال الابل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها قال فمن أعدى الأول وفي رواية في مسلم أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى ويحدث عن النبي ﷺ أنه قال لا يورد ممرض على مصح ثم أن أبا هريرة اقتصر على حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه فقالوا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة فلا أدري أنسي ابو هريرة أو نسخ أحد
القولين الآخر وقد روى حديث لا عدوى جماعة من الصحابة منهم أنس بن مالك وجابر بن عبدالله والسائب بن يزيد وابن عمر وغيرهم فنسيان أبي هريرة له لا يضر وفي بعض روايات هذا الحديث وفر من المجذوم كما تفر من الأسد وقد اختلف العلماء في ذلك اختلافا كثيرا فردت طائفة حديث لا عدوى بأن أبا هريرة رجع عنه قالوا والأخبار الدالة على الاجتناب أكثر فالمصير إليها أولى وهذا ليس بشيء لأن حديث لا عدوى قد رواه جماعة كما تقدم وعكست طائفة هذا القول ورجحوا حديث لا عدوى وزيفوا ما سواه من الأخبار وأعلوا بعضها بالشذوذ كحديث فر من المجذوم فرارك من الأسد وبأن عائشة انكرته كما روى ابن جرير عنها أن امرأة سألتها عنه فقالت ما قال ذلك ولكنه قال لا عدوى وقال فمن أعدى الأول قالت وكان لي مولى به هذا الداء فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي وهذا أيضا ليس بشيء فإن الأحاديث في الاجتناب ثابتة وحملت طائفة أخرى الاثبات والنفي على حالتين مختلفتين فحيث جاء لا عدوى كان للمخاطب بذلك من قوي يقينه وصح توكله بحيث لا يستطيع أن يدفع عن نفسه اعتقاد العدوى كما يستطيع أن يدفع التطير الذي يقع في نفس كل واحد لكن القوي اليقين لا يتأثر به وهذا كما أن قوة الطبيعة تدفع العلة وتبطلها وحيث جاء الاثبات كان المراد به ضعيف الايمان والتوكل ذكره بعض أصحابنا واختاره وفيه نظر وقال مالك لما سئل عن حديث فر من المجذوم ما سمعت فيه بكراهية وما أرى ما جاء من ذلك الا مخافة أن يقع في نفس المؤمن شيء ومعنى هذا انه نفى العدوى أصلا وحمل الأمر
بالمجانية على حسم المادة وسد الذريعة لئلا يحدث للمخاطب شيء من ذلك فيظن أنه بسبب المخالطة فيثبت العدوى التي نفاها الشارع وإلى هذا ذهب أبو عبيد وابن جرير والطحاوي وذكره القاضي أبو يعلى عن أحمد قلت وأحسن من هذا كله ما قاله البيهقي وتبعه ابن الصلاح وابن القيم وابن رجب وابن مفلح وغيرهم أن قوله لا عدوى على الوجه الذي كانوا يعقتدونه في الجاهلية من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى وأن هذه الأمراض تعدي بطبعها وإلا فقد يجعل الله بمشيئته مخالطة الصحيح من به شيء من هذه العيوب سببا لحدوث ذلك ولهذا قال فر من المجذوم كما تفر من الأسد وقال لا يورد ممرض على مصح وقال في الطاعون من سمع به بأرض فلا يقدم عليه وكل ذلك بتقدير الله تعالى كما قال فمن اعدى الأول يشير إلى أن الأول انما جرب بقضاء الله وقدره فكذلك الثاني وما بعده وروى الإمام أحمد والترمذي عن بن مسعود مرفوعا لا يعدي شيء قالها ثلاثا فقال الاعرابي يا رسول الله النقبة من الجرب تكون بمشفر البعير أو بذنبه في الإبل العظيمة فتجرب كلها فقال رسول الله ﷺ فمن أجرب الأول لا عدوى ولا هامة ولا صفر خلق الله كل نفس وكتب حياتها ومصابها ورزقها فأخبر عليه السلام أن ذلك كله بقضاء الله وقدره كما دل عليه قوله تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها وأما أمره بالفرار من المجذوم ونهيه عن ايراد الممرض على المصح وعن الدخول إلى موضع الطاعون فإنه من باب اجتناب الأسباب التي خلقها الله تعالى وجعلها أسبابا للهلاك والأذى والعبد مأمور باتقاء أسباب الشر إذا
كان في عافية فكما أنه يؤمر أن لا يلقي نفسه في الماء أو في النار أو تحت الهدم أو نحو ذلك كما جرت العادة بأنه يهلك ويؤذي فكذلك اجتناب مقاربة المريض كالمجذوم وقدوم بلد الطاعون فإن هذه كلها أسباب للمرض والتلف والله تعالى هو خالق الأسباب ومسبباتها لا خالق غيره ولا مقدر غيره وأما اذا قوي التوكل على الله والإيمان بقضائه وقدره فقويت النفس على مباشرة بعض هذه الأسباب اعتمادا على الله ورجاء منه أن لا يحصل به ضرر ففي هذه الحال تجوز مباشرة ذلك لا سيما اذا كانت فيه مصلحة عامة أو خاصة وعلى هذا يحمل الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي أن النبي ﷺ أخذ بيد مجذوم فأدخلها معه في القصعة ثم قال كل باسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه وقد أخذ به الإمام أحمد وروي ذلك عن عمر وابنه وسلمان رضي الله عنهم ونظير ذلك ما روي عن خالد بن الوليد من أكل السم ومن مشي سعد بن أبي وقاص وابي مسلم الخولاني بالجيوش على متن البحر قاله ابن رجب قوله ولا طيرة قال ابن القيم هذا يحتمل أن يكون نفيا أو يكون نهيا أي لا تتطيروا ولكن قوله في الحديث ولا عدوى ولا صفر ولا هامة يدل على أن المراد النفي وابطال هذه الأمور التي كانت الجاهلية تعانيها والنفي في هذا أبلغ من النهي لأن النفي يدل على بطلان ذلك وعدم تأثيره والنهي إنما يدل على المنع منه وفي صحيح مسلم عن معاوية بن الحكم السلمي أنه قال لرسول الله ﷺ ومنا أناس يتطيرون فقال ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم فأخبر أن تأذيه وتشاؤمه بالتطير إنما هو في نفسه وعقيدته لا في المتطير به فوهمه وخوفه واشراكه هو الذي يطيره ويصده لا ما رآه وسمعه فأوضح ﷺ لأمته الأمر وبين لهم فساد الطيرة ليعلموا ان الله سبحانه لم يجعل لهم عليها علامة ولا فيها دلالة ولا نصبها سببا لما يخافونه ويحذرونه
ولتطمئن قلوبهم وتسكن نفوسهم الى وحدانيته تعالى التي أرسل بها رسله ونزل بها كتبه وخلق لأجلها السموات والأرض وعمر الدارين الجنة والنار بسبب التوحيد فقطع ﷺ علق الشرك من قلوبهم لئلا يبقى فيها علق منها ولا يتلبسوا بعمل من أعمال أهل النار البتة فما استمسك بعروة التوحيد الوثقى واعتصم بحبله المتين وتوكل على الله قطع هاجس الطيرة من قبل استقرارها وبادر خواطرها من قبل استمكانها قال عكرمة كنا جلوسا عند ابن عباس فمر طائر يصيح فقال رجل من القوم خير خير فقال ابن عباس لا خير ولا شر فبادره بالانكار عليه لئلا يعتقد تأثيره في الخير والشر وخرج طاووس مع صاحب له في سفر فصاح غراب فقال الرجل خير فقال طاووس وأي خير عند هذا لا تصحبني انتهى ملخصا ولكن يشكل عليه ما رواه ابن حبان في صحيحه عن أنس مرفوعا لا طيرة والطيرة على من تطير فظاهر هذا أنها تكون سببا لوقوع الشر بالمتطير وجوابه أن المراد بذلك من تطير تطيرا منهيا عنه وهو أن يعتمد على ما يسمعه ويراه حتى يمنعه مما يريده من حاجته فإنه قد يصيبه ما يكرهه عقوبة له فأما من توكل على الله ووثق به بحيث علق قلبه بالله خوفا ورجاء وقطعه عن الالتفات الى غير الله وقال وفعل ما أمر به فإنه لا يضره ذلك وأما من اتقى أسباب الضرر بعد انعقادها بالاسباب المنهي عنها فانه لا ينفعه ذلك غالبا كمن ردته الطيرة عن حاجته خشية أن يصيبه ما تطير به فانه كثيرا ما يصاب بما يخشى به وقد جاءت أحاديث ظن بعض الناس انها تدل على جواز الطيرة منها قوله عليه السلام الشؤم في ثلاث في المرأة والدابة والدار وفي رواية لا عدوى ولا طيرة والشؤم في ثلاث الحديث وفي حديث آخر أن كان
ففي الفرس والمرأة والمسكن رواهما البخاري فأنكرت عائشة رضي الله عنها ذلك وقالت كذب والذي أنزل الفرقان على أبي القاسم من حدث بها ولكن رسول الله ﷺ كان يقول كان أهل الجاهلية يقولون إن الطيرة في المرأة والدار والدابة ثم قرأت عائشة ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير رواه أحمد وابن خزيمة والحاكم وصححه بمعناه وقال الخطابي وابن قتيبة هذا مستثنى من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع والطلاق ونحوه ولا يقيم على الكراهة والتأذي به فانه شؤم وقالت طائفة لم يجزم النبي ﷺ بالشؤم في هذه الثلاثة بل علقه على الشرط كما ثبت ذلك في الصحيح ولا يلزم من صدق الشرطية صدق كل واحد بمفردها قالوا والراوي غلط قلت لا يصح تغليطه مع إمكان حملة على الصحة ورواية تعليقه بالشرط لا تدل على نفي رواية الجزم وقالت طائفة أخرى الشؤم بهذه الثلاثة إنما يلحق من تشاءم بها فيكون شؤمها عليه ومن توكل على الله ولم يتشاءم ولم يتطير لم تكن مشوؤمة عليه قالوا ويدل عليه حديث انس الطيرة على من تطير وقد يجعل الله سبحانه تطير العبد وتشاءمه سببا لحلول المكروه كما يجعل الثقة بها الشر وقال ابن القيم اخباره ﷺ بالشؤم في هذه الثلاثة ليس فيه اثبات الطيرة التي نفاها الله
وإنما غايته أن الله سبحانه قد يخلق أعيانا منها مشؤومة على من قاربها وسكنها وأعيانا مباركة لا يلحق من قاربها منها شؤم ولا شر وهذا كما يعطي سبحانه الوالدين ولدا مباركا يريان الخير على وجهه ويعطي غيرهما ولدا مشؤوما يريان الشر على وجهه وكذلك ما يعطاه العبد من ولاية أو غيرها فكذلك الدار والمرأة والفرس والله سبحانه خالق الخير والشر والسعود والنحوس فيخلق بعض هذه الأعيان سعودا مباركة ويقضي بسعادة من قاربها وحصول اليمن والبركة له ويخلق بعضها نحوسا ينتحس بها من قاربها وكل ذلك بقضائه وقدره كما خلق سائر الأسباب وربطها بمسبباتها المتضادة والمختلفة كما خلق المسك وغيره من الأرواح الطيبة ولذذ بها من قاربها من الناس وخلق ضدها وجعلها سببا لألم من قاربها من الناس والفرق بين هذين النوعين مدرك بالحس فكذلك في الديار والنساء والخيل فهذا لون والطيرة والشركية لون انتهى قلت ولهذا يشرع لمن استفاد زوجة أو أمة أو دابة أن يسأل الله من خيرها وخير ما جبلت عليه ويستعيذ من شرها وشر ما جبلت عليه وكذلك ينبغي لمن سكن دارا أن يفعل ذلك ولكن يبقى على هذا أن يقال هذا جار في كل مشؤوم فما وجه خصوصية هذه الثلاثة بالذكر وجوابه أن أكثر ما يقع التطير في هذه الثلاثة فخصت بالذكر لذلك ذكره في شرح السنن ومنها ما روى مالك عن يحيى بن سعيد قال جاءت امرأة إلى رسول الله صلىالله عليه وسلم فقالت يا رسول الله دار سكناها والعدد كثير والمال وافر فقل العدد وذهب المال فقال النبي ﷺ دعوها ذميمة رواه أبو داود عن أنس بنحوه وجوابه أن هذا ليس من الطيرة المنهي عنها بل أمرهم بالانتقال لأنهم استثقلوها واستوحشوا منها لما لحقهم فيها ليتعجلوا الراحة مما دخلهم من الجزع لأن الله قد جعل في غرائز الناس استثقال ما نالهم الشر فيه وإن كان لا سبب له في ذلك
وحب من جرى على يديه الخير لهم وإن لم يردهم به ولأن مقامهم فيها قد يقودهم الى الطيرة فيوقعهم ذلك في الشرك والشر الذي يلحق المتطير بسبب طيرته وهذا بمنزلة الخارج من بلد الطاعون غير فار منه ولو منع الناس الرحلة من الدار التي تتوالى عليهم فيها المصائب والمحن وتعذر الأرزاق مع سلامة التوحيد في الرحلة للزم كل من ضاق عليه رزق في بلد أو قلة فائدة صناعته أو تجارته فيها أن لا ينتقل عنها الى غيرها ومنها فان قيل ما الفرق بين الدار وبين موضع الوباء حيث رخص في الارتحال عن الدار دون موضع البلاء أجاب بعضهم أن الأمور بالنسبة الى هذا المعنى ثلاثة اقسام احدها ما لا يقع التطير منه نادرا أو لا مكررا فهذا لا يصغى اليه كنعي الغراب في السفر وصرخ بومة في دار وهذا كانت العرب تعتبره ثانيها ما يقع به ضرر ولكنه يعم ولا يخص يندر ولا يتكرر كالوباء فهذا لا يقدم عليه ولا يفر منه وثالثها سبب محض ولا يعم ويلحق به الضرر لطول الملازمة كالمرأة والفرس والدار فيباح له الاستبدال أو التوكل على الله والإعراض عما يقع في النفس ذكره في شرح السنن ومنها حديث اللقحة لما منع النبي ﷺ حربا ومرة من حلبها وأذن ليعيش رواه مالك وجوابه أن ابن عبد البر قال ليس هذا عندي من باب الطيرة لأنه محال أن ينهى عن شيء ويفعله وإنما هو من طلب الفأل الحسن وقد كان قد أخبرهم عن أقبح الاسماء أنه حرب ومرة فالمراد بذلك حتى لا يتسمى بهما أحد وقد روى ابن وهب في جامعه ما يدل على هذا فإنه قال في هذا الحديث فقام عمر بن الخطاب فقال اتكلم يا رسول الله أم أصمت فقال بل اصمت
واخبرك بما أردت ظننت يا عمر أنها طيرة ولا طير الا طيره لا خير الا خيره ولكن أحب الفأل الحسن وعلى هذا تجري بقية الأحاديث التي توهم بعضهم أنها من باب الطيرة قوله ولا هامة بتخفيف الميم على الصحيح قال الفراء الهامة طائر من طير الليل كأنه يعني البومة قال ابن الأعرابي كانوا يتشاءمون بها إذا وقعت على بيت أحدهم يقول نعت إلى نفسي أو أحدا من أهل داري وقال أبو عبيد كانوا يزعمون أن عظام الميت تصير هامة فتطير ويسمون ذلك الطائر الصدى وبه جزم ابن رجب قال وهذا شبيه باعتقاد أهل التناسخ أن أرواح الموتى تنتقل الى أجساد حيوانات من غير بعث ولا نشور وكل هذه اعتقادات باطله جاء الإسلام بابطالها وتكذيبها ولكن الذي جاءت به الشريعة أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تأكل من ثمار الجنة وتشرب من أنهارها الى أن يردها الله الى أجسادها وذكر الزبير بن بكار في الموفقيات أن العرب كانت في الجاهلية تقول إذا قتل الرجل ولم يؤخذ بثأره خرجت من رأسه هامة وهي دودة فتدور حول قبره وتقول اسقوني وفي ذلك يقول شاعرهم ... يا عمر وإن لا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني ... قال وكانت اليهود تزعم أنها تدور حول قبره سبعة أيام ثم تذهب قوله ولا صفر بفتح الفاء روى أبو عبيدة معمر بن المثنى في غريب الحديث له عن رؤبة أنه قال هي حية تكون في البطن تصيب الماشية والناس وهي أعدى من الجرب عند العرب فعلى هذا فالمراد بنفيه ما كانوا يعتقدونه من العدوى ويكون عطفه على العدوى من عطف الخاص على العام ومن قال بهذا سفيان بن عيينة وأحمد والبخاري وابن جرير وقال آخرون المراد به شهر
صفر والنفي لما كان أهل الجاهلية يفعلونه في النسيء وكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفر مكانه وهذا قول مالك وفيه نظر وروى أبو داود عن محمد ابن راشد عمن سمعه يقول إن أهل الجاهلية كانوا يستشئمون بصفر ويقولون إنه شهر مشؤوم فأبطل النبي ﷺ ذلك قال ابن رجب ولعل هذا القول أشبه الأقوال وكثير من الجهال يتشاءم بصفر وربما ينهي عن السفر فيه والتشاؤم بصفر هو من جنس الطيرة المنهي عنها وكذلك التشاؤم بيوم من الأيام كيوم الأربعاء وتشاؤم أهل الجاهلية بشوال في النكاح فيه خاصة قوله ولا نوء النوء واحد الأنواء وسيأتي الكلام عليه في باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء قوله ولا غول هو بالفتح مصدر معناه البعد والهلاك وبالضم الأسم وجمعه أغوال وغيلان وهو المراد هنا قال أبو السعادات الغول واحد الغيلان وهو جنس من الجن والشياطين كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس فتتغول تغولا أي تتلون تلونا في صور شتى وتغولهم أي تضلهم عن الطريق وتهلكهم فنفاه النبي ﷺ وأبطله وقيل قوله لا غول ليس نفيا لعين الغول ووجوده وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله فيكون المعنى بقوله لا غول أنها لا تستطيع أن تضل أحدا ويشهد له الحديث الآخر لا غول ولكن السعالي سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل ومنه الحديث إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان أي ادفعوا شرها بذكر الله وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها ومنه حديث أبي أيوب كان لي تمر في سهوة فكانت الغول تجيء فتأخذ قال ولهما عن أنس قال قال رسول الله ﷺ لا عدوى ولا طيرة
ويعجبني الفأل وقالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة ش قوله ويعجبني الفأل قال أبو السعادات الفأل مهموز فيما يسر ويسوء والطيرة لا تكون إلا فيما يسوء وربما استعملت فيما يسر يقال تفاءلت بكذا وتفاءلت على التخفيف والقلب وقد اولع الناس بترك الهمزة تخفيفا وإنما أحب الفأل لأن الناس إذا أملوا فائدة الله ورجوا عائدته عند كل سبب ضعيف أو قوي فهم على خير ولو غلطوا في جهة الرجاء فإن الرجاء لهم خير وإذا قطعوا املهم ورجاءهم من الله كان ذلك من الشر وأما الطيرة فإن فيها سوء الظن بالله وتوقع البلاء ومعنى التفاؤل مثل أن يكون رجل مريض فيتفاءل بما يسمع من كلام فيسمع آخر يقول يا سالم أو يكون طالب ضالة فيسمع آخر يقول يا واجد فيقع في ظنه أنه برىء من مرضه ويجد ضالته ومنه الحديث قيل يا رسول الله ما الفال فقال الكلمة الصالحة قوله قالوا وما الفأل قال الكلمة الطيبة بين لهم ﷺ ان الفأل يعجبه فدل أنه ليس من الطيرة المنهي عنها قال ابن القيم ليس في الاعجاب بالفأل ومحبته شيء من الشرك بل ذلك إبانة عن مقتضى الطبيعة ومن حب الفطرة الانسانية التي تميل إلى ما يوافقها ويلائمها كما أخبرهم أنه حبب اليه من الدنيا النساء والطيب وكان يحب الحلوى والعسل ويحب حسن الصوت بالقرآن والأذان ويستمع اليه ويجب معالى الاخلاق ومكارم الشيم وبالجملة يحب كل كمال وخير وما يفضي اليهما والله سبحانه وتعالى قد جعل في غرائز الناس الاعجاب بسماع الاسم الحسن ومحبته وميل نفوسهم اليه وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح والسلام والنجاح والتهنئة والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك فإذا قرعت هذه الاسماء الاسماع استبشرت بها النفس وانشرح لها الصدر وقوي بها القلب وإذا سمعت اضدادها أو جب لها ضد هذه الحال فأحزنها
ذلك وأثار لها خوفا وطيرة وانكماشا وانقباضا عما قصدت له وعزمت عليه فأورث لها ضررا في الدنيا ونقصا في الايمان ومقارفة للشرك وقال الحليمي وإنما كان ﷺ يعجبه الفأل لأن التشاؤم سؤء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق والتفاؤل حسن ظن به والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال قال ولأبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال ذكرت الطيرة عند رسول الله ﷺ فقال أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فاذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك ش قوله عن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد وصوابه عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما وهو مكي اختلف في نسبه فقال أحمد بن حنبل في روايته عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره الجهني واختلف في صحبته فقال الباوردي له صحبة وذكره ابن حبان في ثقات التابعين وقال المزي لا صحبة له تصح قوله فقال أحسنها الفأل قد تقدم أنه ﷺ كان يعجبه الفأل وروى الترمذي وصححه عن أنس أن النبي ﷺ كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح يا راشد وروى أبو داود عن بريدة أن النبي ﷺ كان لا يتطير من شيء وكان إذا بعث عاملا سأل عن اسمه فإذا أعجبه فرح به وإن كره اسمه رؤي كراهيته ذلك في وجهه واسناده حسن فهذا في استعمال الفأل قال ابن القيم في الكلام على الحديث المشروح أخبر ﷺ أن الفأل من الطيرة وهو خيرها فأبطل الطيرة وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد ونفع أحدهماومضرة الآخر ونظير
هذا منعه من الرقى بالشرك واذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك لما فيها من المنفعة الخالية عن المفسدة قوله ولا ترد مسلما قال الطيبي تعريض بأن الكافر بخلافه قوله اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت أي لا تأتي الطيرة بالحسنات ولا تدفع المكروهات بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات وهذا دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة وتصريح بأنها لا تجلب نفعا ولا تدفع ضرا ويعد من اعتقدها سفيها مشركا قوله ولا حول ولا قوة إلا بك استعانة بالله تعالى على فعل التوكل وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سببا لوقوع المكروه وعقوبة لفاعلها وذلك إنما يصدر من تحقيق التوكل الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات والحول التحول والانتقال من حال إلى حال والقوى على ذلك أي لا حول ولا قوة على ذلك الحول إلا بك وذلك يفيد التوكل علىالله لأنه علم وعمل فالعلم معرفة القلب بتوحد الله بالنفع والضر وعامة المؤمنين بل كثير من المشركين يعلمون ذلك والعمل هو ثقة القلب بالله وفراغه من كل ما سواه وهذا عزيز ويختص به خواص المؤمنين وهو داخل في هذه الكلمة لأن فيها التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته والاقرار بقدرته على كل شيء وبعجز العبد عن كل شيء إلا ما أقدره عليه ربه وهذا نهاية توحيد الربوبية الذي يثمر التوكل وتوحيد العبادة قال وعن ابن مسعود مرفوعا الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل رواه أبو داود والترمذي وصححه وجعل
آخره من قول ابن مسعود ش هذا الحديث رواه أيضا ابن ماجه وابن حبان ولفظ أبي داود الطيرة شرك الطيرة شرك ثلاثا قوله الطيرة شرك صريح في تحريم الطيرة وأنها من الشرك لما فيها من تعلق القلب على غير الله وقال ابن حمدان في الرعاية تكره الطيرة وكذا قال غير واحد من اصحاب أحمد قال ابن مفلح والأولى القطع بتحريمها ولعل مرادهم بالكراهة التحريم قلت بل الصواب القطع بتحريمها لأنها شرك وكيف يكون الشرك مكروها الكراهة الاصطلاحية فإن كان القائل بكراهتها أراد ذلك فلا ريب في بطلانه قال في شرح السنن وإنما جعل الطيرة من الشرك لأنهم كانوا يعتقدون أن التطير يجلب لهم نفعا أو يدفع عنهم ضرا إذا عملوا بموجبه فكأنهم شركوه مع الله تعالى قوله وما منا إلا قال أبو القاسم الأصبهاني والمنذري في الحديث إضمار والتقدير وما منا إلا وقد وقع في قلبه شيء من ذلك انتهى وحاصله وما منا إلا من يعتريه التطير ويسبق الى قلبه الكراهة فيه فحذف ذلك اعتمادا على فهم السامع وقال الخلخالي حذف المستثنى لما يتضمنه من الحالة المكروهة وهذا نوع من أدب الكلام قوله ولكن الله يذهبه بالتوكل أي ما منا إلا من يقع في قلبه ذلك ولكن لما توكلنا على الله وآمنا به واتبعنا ما جاء به الرسول ﷺ واعتقدنا صدقه أذهب الله ذلك عنا وأقر قلوبنا على السنة واتباع الحق قوله وجعل آخره من قول ابن مسعود قال الترمذي سمعت محمد بن اسماعيل يقول كان سليمان بن حرب يقول في هذا وما منا هذا عندي من
قول ابن مسعود فالترمذي نقل ذلك عن سليمان بن حرب ووافقه على ذلك العلماء قال ابن القيم وهو الصواب فإن الطيرة نوع من الشرك قال ولأحمد من حديث ابن عمرو من ردته الطيرة من حاجته فقد أشرك قالوا فما كفارة ذلك قال أن تقول اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك ولا إله غيرك ش هذا الحديث رواه الامام أحمد والطبراني عن عمرو بن العاص مرفوعا وفي اسناده ابن لهيعة وفيه اختلاف وبقية رجاله ثقات قوله من حديث ابن عمرو هو عبدالله بن عمرو بن العاص بن وائل السهمي أبو محمد وقيل أبو عبدالرحمن أحد السابقين المكثرين من الصحابة وأحد العبادلة الفقهاء مات في ذي الحجة ليالي الحرة على الأصح بالطائف قوله من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك وذلك أن التطير هو التشاؤم بالشيء المرئي أو المسموع فإذا استعملها الإنسان فرجع بها عن سفره وامتنع بها عما عزم عليه فقد قرع باب الشرك بل ولجه وبرىء من التوكل على الله وفتح على نفسه باب الخوف والتعلق بغير الله وذلك قاطع له عن مقام إياك نعبد وإياك نستعين فيصير قلبه متعلقا بغير الله وذلك شرك فيفسد عليه إيمانه ويبقى هدفا لسهام الطيرة ويقيض له الشيطان من ذلك ما يفسد عليه دينه ودنياه وكم ممن هلك بذلك وخسر الدنيا والآخرة قوله فما كفارة ذلك الى آخر الحديث هذا كفارة لما يقع من الطيرة ولكن يمضي مع ذلك ويتوكل على الله وفيه الاعتراف بأن الطير خلق مسخر مملوك لله لا يأتي بخير ولا يدفع شرا وأنه لا خير في الدنيا والآخرة إلا خير الله فكل خير فيهما فهو من الله تعالى تفضلا على عباده واحسانا اليهم وأن الالهية كلها لله ليس فيها لاحد من الملائكة والانبياء عليهم السلام شركة فضلا عن
أن يشرك فيها ما يراه ويسمعه مما يتشاءم به قوله من حديث الفضل بن العباس إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك ش هذا الحديث رواه أحمد في المسند ولفظه حدثنا حماد بن خالد قال ثنا بن علاثة عن مسلمة الجهني قال سمعته يحدث عن الفضل بن عباس قال خرجت مع رسول الله ﷺ يوما فبرح ظبي فمال في شقه فاحتضنته فقلت يا رسول الله تطيرت قال إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هكذا رواه أحمد وفي اسناده نظر وقرأت بخط المصنف فيه رجل مختلف فيه وفيه انقطاع أي بين مسلم وبين الفضل وهوابن العباس بن عبدالمطلب ابن عم النبي ﷺ وأكبر ولد العباس قال ابن معين قتل يوم اليرموك في عهد أبي بكر رضي الله عنه وقال غيره قتل يوم مرج الصفر سنة ثلاث عشرة وهو ابن اثنتين وعشرين سنة قال أبو داود قتل بدمشق كان عليه درع النبي ﷺ وقال الواقدي وابن سعد مات في طاعون عمواس قوله إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك هذا حد للطيرة المنهي عنها بأنها ما أوجب للانسان أن يمضي لما يريده ولو من الفأل فإن الفأل إنما يستحب لما فيه من البشارة والملاءمة للنفس فأما أن يعتمد عليه ويمضي لأجله مع نسيان التوكل على الله فإن ذلك من الطيرة وكذلك إذا رأى أو سمع ما يكره فتشاءم به ورده عن حاجته فإن ذلك أيضا من الطيرة باب ما جاء في التنجيم المراد هنا ذكر ما يجوز من التنجيم وما لا يجوز وما ورد فيه من الوعيد
قال شيخ الإسلام التنجيم هوالاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية وقال الخطابي علم النجوم المنهي عنه هو ما يدعيه أهل التنجيم من علم الكوائن والحوادث التي لم تقع وستقع في مستقبل الزمان كأوقات هبوب الرياح ومجي المطر وظهور الحر والبرد وتغير الأسعار وما كان في معناها من الأمور التي يزعمون أنهم يدركون معرفتها بمسير الكواكب في مجاريها واجتماعها وافتراقها ويدعون أن لها تأثيرا في السفليات وأنها تجري على قضايا موجباتها وهذا منهم تحكم على الغيب وتعاطي لعلم قد استأثر الله به لا يعلم الغيب سواه قلت واعلم أن التنجيم على ثلاثة أقسام أحدها ما هو كفر باجماع المسلمين وهو القول بأن الموجودات في العالم السفلي مركبة على تأثير الكوكب والروحانيات وأن الكوكب فاعلة مختارة وهذا كفر بأجماع المسلمين وهذا قول الصابئة المنجمين الذين بعث اليهم ابراهيم الخليل عليه السلام ولهذا كانوا يعظمون الشمس والقمر والكواكب تعظيما يسجدون لها ويتدللون لها ويسبحونها تسابيح معروفة في كتبهم ويدعونها دعوات لا تنبغي إلا لخالقها وفاطرها وحده لا شريك له ويبنون لكل كوكب هيكلا أي موضعا لعبادته ويصورون فيه ذلك الكوكب ويتخذونه لعبادته وتعظيمه ويزعمون أن روحانية ذلك الكوكب تنزل عليهم وتخاطبهم وتقضي حوائجهم وتلك الروحانيات هي الشياطين تنزلت عليهم وخاطبتهم وقضت حوائجهم وقد صنف بعض المتأخرين في هذا الشرك مصنفا وذكر صاحب التذكرة فيها الثاني الاستدلال على الحوادث الأرضية بمسير الكواكب واجتماعها وافتراقها ونحو ذلك ويقول إن ذلك بتقدير الله ومشيئته فلا ريب في تحريم ذلك واخلتف المتأخرون في تكفير القائل بذلك وينبغي أن يقطع بكفره
لأنها دعوى لعلم الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه بما لا يدل عليه الثالث ما ذكره المصنف في تعلم المنازل وسيأتي الكلام عليه قوله قال البخاري في صحيحه قال قتادة خلق الله هذه النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوما للشياطين وعلامات يهتدى بها فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف مالا علم له به ش هذا الأثر علقه البخاري في صحيحه كما قال المصنف وأخرجه عبدالرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابو الشيخ والخطيب في كتاب النجوم عن قتادة ولفظه قال إن الله إنما جعل هذه النجوم لثلاث خصال جعلها زينة للسماء وجعلها يهتدى بها وجعلها رجوما للشياطين فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه واضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به وإن ناسا جهلة بأمر الله قد أحدثوا في هذه النجوم كهانة من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ولعمري ما من نجم الا يولد به الأحمر والأسود والطويل والقصير والحسن والذميم وما علم هذه النجوم وهذه الدابة وهذا الطائر بشيء من هذاالغيب ولو أن أحدا علم الغيب لعلمه آدم الذي خلقه الله بيده وأسجد له ملائكته وعلمه اسماء كل شيء قوله خلق الله هذه النجوم لثلاث إلى آخره هذا مأخوذ من القرآن في قوله تعالى ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوما للشياطين وقوله تعالى وعلامات وبالنجم هم يهتدون وفيه إشارة إلى أن النجوم في السماء الدنيا كما هو ظاهر الآية وفيه حديث رواه ابن مردويه عن ابن مسعود قال
قال رسول الله ﷺ اما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان وجعل فيها سراجا وقمرا منيرا وزينها بمصابيح النجوم وجعلها رجوما للشياطين وحفظا من كل شيطان رجيم وقوله وعلامات أي دلالات على الجهات والبلدان ونحو ذلك يهتدى بها بصيغة المجهول أي يهتدي بها الناس في ذلك كما قال تعالى وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر وليس المراد يهتدون بها في علم الغيب ولهذا قال فمن تأول فيها ذلك أي زعم فيها غير ماذكر الله تعالى في هذه الثلاث فادعى بها علم الغيب فقد أخطأ أي حيث تكلم رجما بالغيب وأضاع نصيبه أي حظه من عمره لأنه اشتغل بما لا فائدة فيه بل مضرة محضة وتكلف ما لا علم له به أي تعاطى شيئا لا يتصور علمه لأن أخبار السماء والأمور المغيبة لا تعلم الا من طريق الكتاب والسنة وليس فيهما أزيد مما تقدم قال الداوودي قول قتادة في النجوم حسن الا قوله أخطأ وأضاع نصيبه فإنه قصر في ذلك بل قائل ذلك كافر فان قلت إن المنجمين قد يصدقون بعض الأحيان قيل صدقهم كصدق الكهان يصدقون مرة ويكذبون مئة وليس في صدقهم مرة ما يدل على أن ذلك علم صحيح كالكهان وقد استدل بعض المنجمين بآيات من كتاب الله على صحة علم التنجيم منها قوله وعلامات وبالنجم هم يهتدون والجواب انه ليس المراد بهذه الآية أن النجوم علامات على الغيب يهتدي بها الناس في علم الغيب وإنما المعنى وعلامات أي دلالات على قدرة الله وتوحيده وعن قتادة ومجاهد ان من النجوم ما يكون علامة لا يهتدى بها وقيل إن هذا
من تمام الكلام الاول وهو قوله والقى في الارض رواسي أن تميد بكم وانهارا وسبلا لعلكم تهتدون وعلامات أي وألقى لكم معالم يعلم بها الطريق والاراضي من الجبال الكبار والصغار يستدل بها المسافرون في طرقهم وقوله وبالنجم هم يهتدون قال ابن عباس في الآية وعلامات يعني معالم الطرق بالنهار وبالنجم هم يهتدون قال يهتدون به في البحر في اسفارهم رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فهذا القول ونحوه هو معنى الآية فالاستدلال بها على صحة علم التنجيم استدلال على ما يعلم فساده بالاضطرار من دين الاسلام بما لا يدل عليه لا نصا ولا ظاهرا وذلك أفسد انواع الاستدلال فإن الاحاديث جاءت عن النبي ﷺ بإبطال علم التنجيم وذمه منها حديث ومن اقتبس شعبة من علم النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر الحديث وقد تقدم وعن عبدالله بن محيريز التابعي الجليل أن سليمان بن عبدالملك دعاه فقال لو علمت علم النجوم فازددت إلى علمك فقال قال رسول الله ﷺ ان اخوف ما أخاف على أمتي ثلاث حيف الأئمة وتكذيب بالقدر وايمان بالنجوم وعن رجاء بن حيوة ان النبي ﷺ قال مما أخاف على أمتي التصديق بالنجوم والتكذيب بالقدر وحيف الأئمة رواهما عبد بن حميد فهذان المرسلان من هذين الوجهين المختلفين يدلان على ثبوت الحديث لا سيما وقد احتج به من أرسله وعن أبي محجن مرفوعا أخاف على امتي من بعدي ثلاثا حيف الائمة وايمانا بالنجوم وتكذيبا بالقدر رواه ابن عساكر وحسنه السيوطي وعن أنس مرفوعا أخاف على أمتي بعدي خصلتين تكذيبا بالقدر وإيمانا بالنجوم رواه أبو يعلى وابن عدي والخطيب في كتاب النجوم وحسنه السيوطي أيضا وروى الإمام أحمد والبخاري عن ابن عمر مرفوعا مفاتيح الغيب خمس
لا يعلمها إلاالله لا يعلم ما في غد إلا الله ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ولا يعلم متى يأت المطر أحد إلا الله ولا تدري نفس بأي أرض تموت ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله لفظ الخباري وعن العباس بن عبدالمطلب قال قال رسول الله ﷺ لقد طهر الله هذه الجزيرة من الشرك ما لم تضلهم النجوم رواه ابن مردويه وعن ابن عمر مرفوعا تعلموا من النجوم ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ثم انتهوا وعن أبي هريرة قال نهى رسول الله ﷺ عن النظر في النجوم رواهما ابن مردويه والخطيب وعن سمرة بن جندب أنه خطب فذكر حديثا عن رسول الله ﷺ أنه قال أما بعد فإن ناسا يزعمون أن كسوف هذه الشمس وكسوف هذا القمر وزوال هذه النجوم عن مواضعها لموت رجال عظماء من أهل الأرض وأنهم قد كذبوا ولكنها آيات من آيات الله يعتبر بها عباده لينظر من يحدث له منهم توبة ورواه أبو داود وفي الباب آحاديث وآثار غير ما ذكرنا فتبين بهذا أن الاستدلال بالآية على صحة أحكام النجوم من أفسد أنواع الاستدلال ومنها قوله تعالى عن ابراهيم فنظر نظرة في النجوم فقال إني سقيم والجواب أن هذا من جنس استدلاله بالآية الأولى في الفساد فأين فيها ما يدل على صحة أحكام النجوم بوجه من وجوه الدلالات وهل اذا رفع انسان بصره إلى النجوم فنظر إليها دل ذلك على صحة علم النجوم عنده وكل الناس ينظرون إلى النجوم فلا يدل ذلك على صحة علم أحكامها وكأن هذا ما شعر أن ابراهيم عليه السلام إنما بعث إلى الصابئة المنجمين مبطلا لقولهم مناظرا لهم على ذلك فإن قيل على هذا فما فائدة نظرته في النجوم
قيل نظرته في النجوم من معاريض الأفعال ليتوصل به إلى غرضه من كسر الأصنام كما كان قوله بل فعله كبيرهم هذا فمن ظن أن نظرته في النجوم ليستنبط منها علم الأحكام وعلم أن طالعه يقتضي عليه بالنحس فقد ضل ضلالا بعيدا ولهذا جاء في حديث الشفاعة الصحيح أنه عليه السلام يقول لست هنا كم ويذكر ثلاث كذبات كذبهن وعدها العلماء قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله لسارة هي أختي فلو كان قوله إني سقيم أخذه من علم النجوم لم يعتذر من ذلك وإنما هي من معاريض الأفعال فلهذا اعتذر منها كما اعتذر من قوله بل فعله كبيرهم ذكر ذلك ابن القيم لكن قوله وعدها العلماء يدل على أنه لم يستحضر الحديث الوارد في عدها وقد رواه أحمد والبخاري وأصحاب السنن وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لم يكذب ابراهيم عليه السلام غير ثلاث كذبات اثنتين في ذات الله قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وقوله في سارة هي أختي لفظ ابن جرير وروى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد مرفوعا في كلمات ابراهيم الثلاث التي قال ما منها كلمة إلا ما حال بها عن دين الله فقال إني سقيم وقال بل فعله كبيرهم هذا وقال للملك حين أراد امرأته هي أختي وفي اسناده ضعف وقال قتادة في الآية العرب تقول لمن تفكر نظر في النجوم قال ابن كثير يعني قتادة أنه نظر الى السماء متفكرا فيما يكذبهم به فقال إني سقيم أي ضعيف قال وكره قتادة تعلم منازل القمر ولم يرخص ابن عيينة فيه ذكره حرب عنهما ورخص في تعلم المنازل أحمد واسحق ش هذا هو القسم الثالث من علم التنجيم وهو تعلم منازل الشمس والقمر
للاستدلال بذلك على القبلة وأوقات الصلوات والفصول وهو كما ترى من اختلاف السلف فيه فما ظنك بذينك القسمين ومنازل القمر ثمانية وعشرون كل ليلة في منزلة منها فكره وقتادة وسفيان بن عينية تعلم المنازل وأجازه أحمد واسحق وغيرهما قال الخطابي أما علم النجوم الذي يدرك من طريق المشاهدة والخبر الذي يعرف به الزوال وتعلم به جهة القبلة فإنه غير داخل فيما نهي عنه وذلك أن معرفة رصد الظل ليس شيئا بأكثر من أن الظل ما دام متناقصا فالشمس بعد صاعدة نحو وسط السماء من الأفق الشرقي واذا أخذ في الزيادة فالشمس هابطة من وسط السماء نحو الأفق الغربي وهذا علم يصح دركه بالمشاهدة إلا أن أهل هذه الصناعه قد دبروها بما اتخذوا له من الألات التي يستغني الناظر فيها عن مراعات مدته ومراصدته وأما ما يستدل به من النجوم على جهة القبلة فإنها كواكب رصدها أهل الخبرة بها من الأئمة الذين لا نشك في عنايتهم بأمر الدين ومعرفتهم بها وصدقهم فيما أخبروا به عنها مثل أن يشاهدوها بحضرة الكعبة ويشاهدوها على حال الغيبة عنها فكان إدراكهم الدلالة منها بالمعاينة وادراكنا ذلك بقبول خبرهم إذ كانوا عندنا غير متهمين في دينهم ولا مقصرين في معرفته قلت وروى ابن المنذر عن مجاهد أنه كان لا يرى بأسا ان يتعلم الرجل منازل القمر قلت لأنه لا محذور في ذلك وعن ابراهيم أنه كان لا يرى بأسا أن يتعلم الرجل من النجوم ما يهتدي به رواه ابن المنذر قال ابن رجب والمأذون في تعلمه علم التسيير لا علم التأثير فإنه باطل محرم قليله وكثيره وأما علم التسيير فتلعم ما يحتاج اليه للاهتداء ومعرفة القبلة والطرق جائز عند الجمهور وما زاد عليه لا حاجة اليه لشغله عما هو أهم منه وربما أدى تدقيق النظر فيه إلى اساءة الظن بمحاريب المسلمين كما وقع من أهل هذا العلم قديما وحديثا وذلك يفضي
اعتقاده إلى خطأ السلف في صلاتهم وهو باطل انتهى مختصرا قلت وهذا هو الصحيح إن شاء الله ويدل على ذلك الآيات والأحاديث التي تقدمت وهل يدخل في النهي وقت الكسوف الشمسي والقمري أم لا رجح ابن القيم أنه لا يدخل قوله ذكره حرب عنهما هو الإمام الحافظ حرب بن إسماعيل أبو محمد الكرماني الفقيه من اجله أصحاب الإمام أحمد ورى عن أحمد وإسحق وابن المديني وابن معين وأبي خيثمة وابن أبي شيبة وغيرهم وله مصنفات جليلة منها كتاب المسائل التي سئل عنها الإمام أحمد وغيره وأورد فيها الأحاديث والآثار وأظنه روى أثر قتادة وابن عيينة فيها مات سنة ثمانين ومائتين واسحق هو ابراهيم بن مخلد أبو يعقوب الحنظلي النيسابوري الإمام المعروف بابن راهويه روى عن ابن المبارك وأبي أسامة وابن عيينة وطبقتهم قال أحمد اسحق عندنا إمام من أئمة المسلمين وروى عنه أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم وروى هو أيضا عن أحمد مات سنة تسع وثلاثين ومائتين قال وعن أبي موسى قال قال رسول الله ﷺ ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر وقاطع الرحم ومصدق بالسحر رواه أحمد وابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه أيضا الطبراني والحاكم وقال صحيح واقره الذهبي وتمام الحديث ومن مات وهو مدمن الخمر سقاه الله من نهر الغوطة نهر يجري من فروج المومسات يؤذي أهل النار ريح فروجهن قوله عن أبي موسى هو عبدالله بن قيس بن سليم بن حضار بفتح المهملة وتشديد الضاد المعجمة أبو موسى الأشعري صحابي جليل استعمله النبي ﷺ وأمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين مات سنة خمسين
قوله ثلاثة لا يدخلون الجنة هذا من نصوص الوعيد التي كره السلف تأويلها وقالوا أمروها كما جاءت وإن كان صاحبها لا ينتقل عن الملة عندهم وكان المصنف رحمه الله يميل إلى هذا القول وقالت طائفة هو على ظاهره فلا يدخل الجنة أصلا مدمن الخمر ونحوه ويكون هذا مخصصا لعموم الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار ودخولهم الجنة وحمله أكثر الشراح على من فعل ذلك مستحلا أو على معنى أنهم لا يدخلون الجنة إلا بعد العذاب إن لم يتوبوا والله أعلم قوله مدمن الخمر أي المداوم على شربها قوله وقاطع الرحم أي القرابة كما قال تعالى فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم قوله ومصدق بالسحر مطلقا ويدخل فيه التنجيم لحديث من اقتبس علما من النجوم اقتبس علما من السحر وهذا وجه مطابقة الحديث للباب قال الذهبي في الكبائر ويدخل فيه تعلم السيمياء وعملها وهو محض السحر وعقد المرء عن زوجته ومحبة الزوج لامرأته وبغضها وبغضه واشباه ذلك بكلمات مجهولة قال وكثير من الكبائر بل عامتها إلا الأقل يجهل خلق من الأمة تحريمه وما بلغه الزجر فيه ولا الوعيد عليه فهذا الضرب فيهم تفصيل فينبغي للعالم أن لا يجهل على الجاهل بل يرفق به ويعلمه سيما إذا قرب عهده بجهله كمن أسر وجلب إلى أرض الإسلام وهو تركي فبالجهد أن يتلفظ بالشهادتين فلا يأثم أحد إلا بعد العلم بحاله وقيام الحجة عليه
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء أي من الوعيد والمراد نسبة السقيا ومجيء المطر إلى الأنواء جمع نوء وهي منازل القمر قال ابو السعادات وهي ثمانيه وعشرون منزلة ينزل القمر كل ليلة منزلة منها ومنه قوله تعالى والقمر قدرناه منازل يسقط في الغرب كل ثلاث عشرة ليلة منزلة مع طلوع الفجر وتطلع أخرى مقابلتها ذلك الوقت في الشرق فتنقضي جميعها مع انقضاء السنة وكانت العرب تزعم أن مع سقوط المنزلة وطلوع رقيبها يكون مطر وينسبونه اليها فيقولون مطرنا بنوء كذا وإنما سمي نوءا لأنه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض وطلع قال وقول الله تعالى وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في المختارة عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ وتجعلون رزقكم يقول شكركم أنكم تكذبون يقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا وهذا أولى ما فسرت به الآية وروي ذلك عن علي وابن عباس وقتادة والضحاك وعطاء الخراساني وغيرهم وهو قول جمهور المفسرين وبه يظهر وجه استدلال المصنف بالآية على الترجمة فالمعنى على هذا وتجعلون شكركم لله على ما انزل اليكم من الغيث والمطر والرحمة أنكم تكذبون أي تنسبونه إلى غيره وقال ابن القيم أي تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم
التكذيب به يعني القرآن قال الحسن تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون قال وخسر عبد لا يكون حظه من كتاب الله الا التكذيب به قلت والآية تشمل المعنيين قال عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ قال أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة وقال النائحة اذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب رواه مسلم ش قوله عن أبي مالك الأشعري اسمه الحارث بن الحارث الشامي صحابي تفرد عنه بالرواية أبو سلام وفي الصحابة أبو مالك الأشعري اثنان غير هذا جزم به الحافظ قوله أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن أي من أفعال أهلها بمعنى أنها معاصي ستفعلها هذه الأمة إما مع العلم بتحريمها وإما مع الجهل بذلك كما كان أهل الجاهلية يفعلونها والمراد بالجاهلية هنا ما قبل المبعث سموا بذلك لفرط جهلهم وكل ما يخالف ما جاءت به الانبياء والمرسلون فهو جاهلية منسوبة الى الجاهل فإن ما كانوا عليه من الاقوال والاعمال إنما أحدثة لهم جاهل وإنما يفعله جاهل قال شيخ الاسلام أخبر أن بعض أمر الجاهلية لا يتركه الناس كلهم ذما لمن لم يتركه وهذا يقتضي أن ما كان من أمر الجاهلية وفعلهم فهو مذموم في دين الإسلام وإلا لم يكن في إضافة هذه المنكرات إلى الجاهلية ذم لها ومعلوم أن إضافتها إلى الجاهلية خرج مخرج الذم وهذا كقوله تعالى ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى فإن في
ذلك ذما للتبرج وذما لحال الجاهلية الاولى وذلك يقتضي المنع من مشابهتهم في الجملة قوله الفخر بالأحساب أي التشرف بالآباء والتعاظم بعد مناقبهم ومآثرهم وفضائلهم وذلك جهل عظيم إذ إلا شرف غلا بالتقوى كما قال تعالى وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى الا من آمن وعمل صالحا الآية وقال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم وروى أبو داود عن أبي هريرة مرفوعا إن الله قد اذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي الناس بنو آدم وآدم من تراب ليد عن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بأنفها النتن والأحساب جمع حسب وهو ما يعده الانسان له ولآبائه من شجاعة وفصاحة ونحو ذلك قوله والطعن في الانساب أي الوقوع فيها بالذم والعيب أو يقدح في نسب أحد من الناس فيقول ليس هو من ذرية فلان أو يعيره بما في آبائه من المطاعن ولهذا لما عير أبو ذر رضي الله عنه رجلا بأمه قال النبي ﷺ لأبي ذر اعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية متفق عليه فدل ذلك ان التعيير بالانساب من أخلاق الجاهلية وأن الرجل مع فضله وعلمه ودينه قد يكون فيه بعض هذه الخصال المسماة بجاهلية ويهودية ونصرانية ولا يوجب ذكر كفره وفسقه قاله شيخ الاسلام قوله والاستسقاء بالنجوم أي نسبة السقيا ومجيء المطر الى النجوم والانواء وهذا هو الذي خافه النبي ﷺ على امته كما روى الامام أحمد
وابن جرير عن جابر السوائي قال سمعت رسول الله ﷺ يقول أخاف على أمتي ثلاثا استسقاء بالنجوم وحيف السلطان وتكذيبا بالقدر إذا تبين هذا فالاستسقاء بالنجوم نوعان أحدهما أن يعتقد أن المنزل للمطر هو النجم فهذا كفر ظاهر إذ لا خالق إلا الله وما كان المشركون هكذا بل كانوا يعلمون أن الله هو المنزل للمطر كما قال تعالى ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الارض من بعد موتها ليقولن الله وليس هذا معنى الحديث فالنبي ﷺ اخبر أن هذا لا يزال في أمته ومن اعتقد أن النجم ينزل المطر فهو كافر الثاني أن ينسب إنزال المطر الى النجم مع اعتقاده أن الله تعالى هو الفاعل لذلك المنزل له لكن معنى أن الله تعالى أجرى العادة بوجود المطر عند ظهور ذلك النجم فحكى انب مفلح خلافا في مذهب أحمد في تحريمه وكراهته وصرح أصحاب الشافعي بجوازه والصحيح أنه محرم لأنه من الشرك الخفي وهو الذي أراده النبي وأخبر أنه من أمر الجاهلية ونفاه وابطله وهو الذي كان يزعم المشركون ولم يزل موجودا في هذه الأمة إلى اليوم وأيضا فإن هذا من النبي ﷺ حماية لجناب التوحيد وسد لذرائع الشرك ولو بالعبادات الموهمة التي لا يقصدها الانسان كما قال لرجل قال له ما شاء الله وشئت قال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده وفيه التنبيه على ما هو أولى بالمنع من نسبة السقيا إلى الانواء كدعاء الأموات وسؤالهم الرزق والنصر والعافية ونحو ذلك من المطالب فإن هذا من الشرك الاكبر سواء قالوا إنهم شفعاؤنا إلى الله كما قال المشركون هؤلاء شفعاؤنا عند الله او اعتقدوا أنهم يخلقون ويرزقون
وينصرون استقلالا على سبيل الكرامة كما ذكره بعض عباد القبور في رسالة صنفها في ذلك لأنه إذا منع من إطلاق نسبة السقيا إلى الانواء مع عدم القصد والاعتقاد فلأن يمنع من دعاء الأموات والتوجه اليهم في الملمات مع اعتقاد أن لهم انواع التصرفات أولى وأحرى قوله والنياحة أي رفع الصوت بالندب على الميت لأنها سخط لقضاء الله ومعارضة لأحكامه وسوء أدب مع الله ولا كذلك ينبغي أن يفعل المملوك مع سيده فكيف يفعله مع ربه وسيده ومالكه وإلهه الذي لا إله له سواه الذي كل قضائه عدل وأيضا ففيها تفويت الأجر مع ذهاب المصيبة وفي الحديث دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن هذه الأخبار من أنباء الغيب فأخبر بها النبي ﷺ فكان كما أخبر قوله وقال النائحه إذا لم تتب قبل موتها فيه تنبيه على أن الوعيد والذم لا يلحق من تاب من الذنب وهو كذلك بالاجماع فعلى هذا إذا عرف شخص بفعل ذنوب توعد الشرع عليها بوعيد لم يجز إطلاق القول بلحوقه لذلك الشخص المعين كما يظنه كثير من أهل البدع فإن عقوبات الذنوب ترتفع بالتوبة والحسنات الماحية والمصائب المكفرة ودعاء المؤمنين بعضهم لبعض وشفاعة نبيهم ﷺ فيهم وعفو الله عنهم وفيه أن من تاب قبل الموت ما لم يغرغر فإن الله يتوب عليه كما في حديث ابن عمر مرفوعا ان الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه قوله تقام يوم القيامة أي تبعث من قبرها وعليها سربال من قطران ودرع من جرب قال القرطبي السربال واحد السرابيل وهي الثياب
والقمص يعني أنهن يلطخن بالقطران فيصير لهن كالقميص حتى يكون اشتعال النار والتصاقها بأجسادهن أعظم ورائحتهن أنتن والمها بسبب الجرب أشد وروي عن ابن عباس أن القطران هو النحاس المذاب وروى الثعلبي في تفسيره عن عمر بن الخطاب أنه سمع نائحة فأتاها فضربها بالدرة حتى وقع خمارها فقيل يا أمير المؤمنين المرأة المرأة قد وقع خمارها قال انها لا حرمة لها قال ولهما عن زيد بن خالد قال صلى لنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية على اثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل الناس فقال هل تدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ش قوله عن زيد بن خالد أي الجهني المدني صحابي مشهور مات سنة ثمان وستين بالكوفة وقيل غير ذلك وله خمس وثمانون سنة قوله صلى لنا أي صلى بنا فاللام بمعنى الباء قال الحافظ وفيه جواز إطلاق ذلك مجازا وإنما الصلاة لله قوله بالحديبية بالمهملة والتصغير وتخفف ياؤها وتثقل قوله على إثر بكسر الهمزة وسكون المثلثة على المشهورة وهو ما يعقب الشيء قوله سماء أي مطر واطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهه السماء قوله فلما انصرف أي من صلاته لا من مكانه كما يدل عليه قوله أقبل على الناس أي التفت اليهم بوجهه الشريف ففيه دليل على أنه لا ينبغي
للامام إذا صلى أن يجلس مستقبل القبلة بل ينصرف الى المأمومين كما صحت بذلك الأحاديث قوله هل تدرون لفظ استفهام ومعناه التنبيه وفي رواية النسائي ألم تسمعوا ما قال ربكم الليلة وهذا من الأحاديث القدسية قال الحافظ وهي تحمل على ان النبي ﷺ أخذها عن الله بواسطة أو بلا واسطة وفيه إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليخبرهم وإخراج العالم التعليم للمسألة بالاستفهام فيها ذكره المصنف قوله قالوا الله ورسوله أعلم فيه حسن الأدب للمسؤول عما لا يعلم وإنه يقول ذلك او نحوه ولا يتكلف ما لا يعنيه قوله قال أصبح من عبادي الإضافة هنا للعموم بدليل التقسيم إلى مؤمن وكافر فان قيل هذا يدل على أن المراد بالكفر هنا هو الأكبر قيل ليس فيه دليل إذ الأصغر يصدر من الكفار قوله مؤمن بي وكافر المراد بالكفر هنا هو الأصغر بنسبة ذلك الى غير الله وكفران نعمته وإن كان يعتقد أن الله تعالى هو الخالق للمطر المنزل له بدليل قوله في الحديث فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته إلى آخره فلو كان المراد هو الأكبر لقال أنزل علينا المطر نوء كذا فأتى بباء السببية ليدل على أنهم نسبوا وجود المطر إلى ما اعتقدوه سببا وفي رواية فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي فلم يقل فأما من قال إني المنزل للمطر فذالك من آمن بي لأن المؤمنين والكفار يقولون ذلك فدل على أن المراد إضافة ذلك الى غير الله وإن كان يعتقد أن الفاعل لذلك هو الله وروى النسائي والإسماعيلي نحوه
وقال في آخره وكفر بي أو كفر نعمتي وفي رواية أبي صالح عن أبي هريرة عند مسلم قال الله تعالى ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين وله من حديث ابن عباس اصبح من الناس شاكر ومنهم كافر الحديث وفي حديث معاوية الليثي مرفوعا يكون الناس مجدبين فينزل الله عليهم رزقا من رزقه فيصبحون مشركين يقولون مطرنا بنوء كذا رواه أحمد فبين الكفر والشرك المراد هنا بأن نسبة ذلك إلى غيره تعالى بأن يقال مطرنا بنوء كذا قال ابن قتيبة كانوا في الجاهلية يظنون أن نزول الغيث بواسطة النوء إما بصنعه على زعمهم وإما بعلامته فأبطل الشرع قولهم وجعله كفرا فإن اعتقد قائل ذلك أن للنوء صنعا في ذلك فكفره كفر شرك وإن اعتقد أن ذلك من قبيل التجربة فليس بشرك لكن يجوز إطلاق الكفر عليه وارادة كفر النعمة لأنه لم يقع في شيء من طرق الحديث بين الكفر والشرك واسطة فيحمل الكفر فيه على المعنيين وقال الشافعي من قال مطرنا بنوء كذا على معنى مطرنا في وقت كذا فلا يكون كفرا وغيره من الكلام أحب إلى منه قلت قد يقال إن كلام الشافعي لا يدل على جواز ذلك وإنما يدل على أنه لا يكون كفر شرك وغيره من الكلام أحسن منه أما كونه يجوز إطلاق ذلك أو لا يجوز فالصحيح انه لا يجوز لما تقدم أن معنى الحديث هو نسبة السقيا إلى الأنواء لفظا وإن كان القائل لذلك يعتقد أن الله هو المنزل للمطر فهذا من باب الشرك الخفي في الألفاظ كقوله لولا فلان لم يكن كذا وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم فإن كثيرا من النعم قد تجر الانسان الى شر كالذين قالوا مطرنا بنوء كذا بسبب
نزول النعمة وفيه التفطن للايمان في هذا الموضع ذكره المصنف يشير إلى أن المراد به هنا نسبة النعمة إلى الله وحمده عليها كما في قوله فأما من حمدني على سقياي وثنى علي فذاك من آمن بي وقوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته الحديث وفيه أن من الكفر ما لا يخرج عن الملة ذكره المصنف قوله فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته أي من نسبه الى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى به عليه فقال مطرنا بفضل الله ورحمته وفي الرواية الأخرى فأما من حمدني على سقياي وأثنى علي فذاك من آمن بي وهكذا يجب على الانسان أن لا يضيف نعم الله إلى غيره ولا يحمدهم عليها بل يضيفها إلى خالقها ومقدرها الذي أنعم بها على العبد بفضله ورحمته ولا ينافي ذلك الدعاء لمن أحسن بها اليك وذكر ما أولاكم من المعروف إذا سلم لك دينك والسر في ذلك والله أعلم أن العبد يتعلق قلبه بمن يظن حصول الخير له من جهته وإن كان صنع له في ذلك وذلك نوع شرك خفي فمنع من ذلك قوله وأما من قال مطرنا بنوء كذا الى آخره كالصريح فيما ذكرنا أن المراد نسبة ذلك إلى غير الله وإن كان يعتقد أن المنزل للمطر هو الله ولهذا لم يقل فأما من قال أنزل علينا المطر أو أمطرنا نؤ كذا قال المصنف وفيه التفطن للكفر في هذا الموضع يشير إلى أن المراد بالكفر هنا هو نسبة النعمة إلى غير الله كالنوء ونحوه على ما تقدم ولما كان إنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده لما اشتمل عليه من منافعهم فلا يستغنون عنه أبدا كان من شكره الواجب عليهم ان يضيفوه الى البر الرحيم المنعم ويشكروه
فإن النفوس قد جبلت على حب من أحسن اليها والله تعالى هو المحسن المنعم على الإطلاق الذي ما بالعباد من نعمة فمنه وحده كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله قال ولهما من حديث ابن عباس معناه وفيه قال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا فأنزل الله هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم إلى قوله تكذبون ش قوله ولهما الحديث لمسلم فقط ولفظه عن ابن عباس قال مطر الناس على عهد النبي ﷺ فقال النبي ﷺ أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا قال فنزلت هذه الآية فلا أقسم بمواقع النجوم حتى بلغ وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون قوله قال بعضهم ذكر الواقدي في مغزيه عن أبي قتادة أن عبدالله بن أبي هو القائل في ذلك الوقت مطرنا بنوء الشعرى وفي صحة ذلك نظر قوله فلا أقسم بمواقع النجوم هذا قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمة المقسم به وتشريفه وتقديره اقسم بمواقع النجوم ويكون جوابه إنه لقرآن كريم فعلى هذا تكون لا صلة لتأكيد النفي فتقدير الكلام ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم قال ابن جرير قال بعض أهل العربية معنى قوله فلا أقسم فليس الأمر كما تقولون ثم استؤنف القسم بعد فقيل أقسم ومواقع النجوم قال ابن عباس يعني نجوم القرآن فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا
إلى السماء الدنيا ثم نزل مفرقا في السنين بعد ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ومواقعها نزولها شيئا بعد شيء وقيل النجوم هي الكواكب ومواقعها مساقطها عند غروبها قال مجاهد مواقع النجوم يقال مطالعها ومشارقها واختاره ابن جرير وعلى هذا فتكون المناسبة بين ذكر النجوم في القسم وبين المقسم عليه وهو القرآن من وجوه أحدها أن النجوم جعلها الله يهتدى بها في ظلمات البر والبحر وآيات القرآن هداية بها في ظلمات الغي والجهل فتلك هداية في الظلمات الحسية وآيات القرآن هداية في الظلمات المعنوية فجمع بين الهدايتين مع ما في النجوم من الزينة الظاهرة للعالم وفي القرآن من الزينة الباطنة ومع ما في النجوم من الرجوم للشياطين وفي آيات القرآن من رجوم شياطين الانس والجن والنجوم آياته المشهودة العيانية والقرآن آياته المتلوة السمعية مع ما في مواقعها عند الغروب من العبرة والدلالة على آياته القرآنية ومواقعها عند النزول ذكره ابن القيم وقوله وإنه لقسم لو تعلمون عظيم قال ابن كثر أيو إن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم عليه وقوله إنه لقرآن كريم هذا هو المقسم عليه وهو القرآن أي انه وحي الله وتنزيله وكلامه لا كما يقول الكفار إنه سحر وكهانة أو شعر بل هو قرآن كريم أي عظيم كثير الخير لأنه كلام الله قال ابن القيم فوصفه بما يقتضي حسنا وكثرة خيره ومنافعه وجلالته فإن الكريم هو البهي الكثير الخير العظيم النفع وهو من كل شيء أحسنه وأفضله والله سبحانه وصف نفسه بالكرم ووصف به كلامه ووصف به عرشه ووصف به ما كثر خيره وحسن منظره من النبات وغيره ولذلك فسر
السلف الكريم بالحسن قال الأزهري الكريم اسم جامع لما يحمده والله تعالى كريم جميل الفعال وإنه لقرآن كريم يحمد لما فيه من الهدى والبيان والعلم والحكمة وقوله في كتاب مكنون قال ابن كثير أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر وقال ابن القيم اختلف المفسرون في هذا فقيل هو اللوح المحفوظ والصحيح أنه الكتاب الذي بأيدي الملائكة وهو المذكور في قوله في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة ويدل على انه الكتاب الذي بأيدي الملائكة قوله لا يمسه إلا المطهرون فهذا يدل على أنه بأيديهم يمسونه وقوله لا يمسه الا المطهرون قال ابن عباس لا يمسه إلا المطهرون قال الكتاب الذي في السماء وفي رواية لا يمسه إلا المطهرون يعني الملائكة وقال قتادة لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس والمنافق الرجس قال وهي في قراءة ابن مسعود ما يمسه إلا المطهرون واختار هذا القول كثيرون منهم ابن القيم ورجحه وقال ابن زيد زعمت قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون كما قال وما تنزلت به الشياطين إلى قوله لمعزولون قال ابن كثير وهذا قول جيد وهو لا يخرج عن القول قبله وقال البخاري في صحيحه في هذه الآية لا يجد طعمه إلا من آمن به قال ابن القيم وهذا من اشارة الآية وتنبيهها وهو أنه لا يلتذ به وبقراءته وفهمه وتدبره إلا من يشهد أنه كلام الله تكلم به حقا وأنزله على رسوله وحيا ولا ينال معانيه إلا من
لم يكن في قلبه منه حرج بوجه من الوجوه وقال آخرون لا يمسه إلا المطهرون أي من الجنابة والحدث قالوا ولفظ الآية خبر ومعناه الطلب قالوا والمراد بالقرآن ههنا المصحف كما في حديث ابن عمر مرفوعا نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو واحتجوا على ذلك بما رواه مالك في الموطأ عن عبدالله بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو ابن حزم أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عيه وسلم لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن الا طاهر وقوله تنزيل من رب العالمين قال ابن كثير أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين وليس كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر بل هو الحق الذي لا مرية فيه وليس وراءه حق نافع وفي هذه الآية إثبات أنه كلام الله تكلم به قال ابن القيم ونظيره ولكن حق القول مني وقوله قل نزله روح القدس من ربك بالحق واثبات علو الله سبحانه على خلقه فإن النزول والتنزيل الذي تعقله العقول وتعرفه الفطر هو وصول الشيء من أعلى إلى أسفل ولا يرد عليه قوله وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج لأنا نقول إن الذي أنزلها فوق سمواته فأنزلها لنا بأمره قال ابن القيم وذكر التنزيل مضافا إلى ربوبيته للعالمين المستلزمة لملكه لهم وتصرفه فيهم وحكمه عليهم وإحسانه وإنعامه عليهم وأن من هذا شأنه مع الخلق كيف يليق به مع ربوبيته التامة أن يتركهم سدى ويدعهم هملا ويخلقهم عبثا لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم فمن أقر بأنه رب العالمين أقر بأن القرآن تنزيله على رسوله
واستدل بكونه رب العالمين على ثبوت رسالة رسوله وصحة ما جاء به وهذا الاستدلال أقوى وأشرف من الاستدلال بالمعجزات والخوارق وإن كانت دلالتها أقرب إلى أذهان عموم الناس وتلك إنما تكون لخواص العقلاء وقوله أفبهذا الحديث انتم مدهنون قال مجاهد أي تريدون أن تمالوا فيه وتركنوا اليهم قال ابن القيم ثم وبجهنم سبحانه على وضعهم الأوهان في غير موضعه وأنهم يداهنون فيما حقه أن يصدع به ويفرق به ويعض عليه بالنواجذ وتثنى عليه الخناصر وتعقد عليه القلوب والافئدة ويحارب ويسالم لأجله ولا يلتوي عنه يمنه ولا يسره ولا يكون للقلب التفات إلى غيره ولا محاكمة إلا إليه ولا مخاصمة إلا به ولا اهتداء في طرق المطالب العالية الا بنوره ولا شفاء الا به فهو روح الوجود وحياة العالم ومدار السعادة وقائد الفلاح وطريق النجاة وسبيل الرشاد ونور البصائر فكيف تطلب المداهنة بما هذا شأنه ولم ينزل للمداهنة وانما أنزل بالحق وللحق والمداهنة إنما تكون في باطل قوي لا تمكن ازالته أو في حق ضعيف لا تمكن إقامته فيحتاج المداهن إلى أن يترك بعض الحق ويلتزم بعض الباطل فأما الحق الذي قام به كل حق فكيف يداهن فيه وقوله وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون تقدم الكلام عليها أول الباب والله أعلم باب قول الله تعالى ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا
يحبونهم كحب الله ش لما كانت محبة الله سبحانه هي أصل دين الاسلام الذي يدور عليه قطب رحاها فبكمالها يكمل الإيمان وبنقصانها ينقص توحيد الانسان نبه المنصف رحمه الله على وجوبها على الاعيان ولهذا جاء في الحديث أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه الحديث رواه الترمذي والحاكم وفي حديث آخر أحبوا الله بكل قلوبكم وفي حديث معاذ بن جبل في حديث المنام وأسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربني إلى حبك رواه أحمد والترمذي وصححه وما أحسن ما قال القيم في وصفها هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون والى عملها شمر السابقون وعليها تفافي المحبون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده ففي بحار الظلمات والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الاسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام وهي روح الإيمان والاعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين الى بلاد لم يكونوا الا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم الى منازل لم يكونوا ابدا بدونها واصليها وتبوئهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولا هي داخليها تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة وقد قضى الله تعالى يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة ان المرء مع من أحب فيا لها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون ولقد تقدموا الركب بمراحل وهم في مسيرهم واقفون وأجابوا مؤذن الشوق إ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى
محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا اليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول مسراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وانما يحمد القوم السرى عند الصباح وأطال في وصفها فراجعه في المدارج واعلم أن المحبة قسمان مشتركة وخاصة فالمشتركة ثلاثة أنواع أحدها محبة طبيعية كمحبة الجائع للطعام والظمآن للماء ونحو ذلك وهذه لا تستلزم التعظيم الثاني محبة رحمة وإشفاق كمحبة الوالد لولده الطفل وهذه أيضا لا تستلزم التعظيم الثالث محبة أنس والف وهي محبة المشتركين في صناعة أو علم أو مرافقة أو تجارة أو سفر لبعضهم بعضا وكمحبة الإخوة بعضهم بعضا فهذه الأنواع الثلاثة التي تصلح للخلق بعضهم من بعض ووجودها فيهم لا يكون شركا في محبة الله ولهذا كان رسول الله ﷺ يحب الحلواء والعسل وكان يحب نساءه وعائشة أحبهن اليه وكان يحب أصحابه وأحبهم اليه الصديق رضي الله عنه القسم الثاني المحبة الخاصة التي لا تصلح الا لله ومتى أحب العبد بها غيره كان شركا لا يغفره الله وهي محبة العبودية المستلزمة للذل والخضوع والتعظيم وكمال الطاعة وايثاره على غيره فهذه المحبة لا يجوز تعلقها بغير الله أصلا كما حققه ابن القيم وهي التي سوى المشركون بين الله تعالى وبين آلهتهم فيها كما قال تعالى في الاية التي ترجم لها المصنف ومن الناس من يتخذ من دون الله اندادا قال ابن كثير يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الآخرة من العذاب والنكال حيث جعلوا لله أندادا أي امثالا ونظراء يحبونهم كحبه ويعبدونهم معه وهو
الله الذي لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه وقوله يحبونهم كحب الله أي يساوونهم بالله في المحبة والتعظيم ولهذا يقولون لاندادهم وهم في النار تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين فهذا هو مساواتهم برب العالمين وهو العدل المذكور في قوله ثم الذين كفروا بربهم يعدلون اما مساواتهم بالله في الخلق والرزق وتدبير الامور فما كان احد من المشركين يساوون اصنامهم بالله في ذلك وهذا القول رحجه شيخ الاسلام والثاني ان المعنى يحبون انداهم كما يحب المؤمنون الله ثم بين أن محبة المؤمنين لله أشد من محبة اصحاب الانداد لاندادهم قال شيخ الاسلام وهذا متناقض وهو باطل فان المشركين لا يحبون الانداد مثل محبة المؤمنين الله ودلت الآية على أن من أحب شيئا كحب الله فقد اتخذه ندا لله وذلك هو الشرك الأكبر قاله المصنف وعلى وجوب افراد الله بالمحبة الخاصة التي هي توحيد الالهية بل الخلق والامر والثواب والعقاب انما نشأ عن المحبة ولاجلها فهي الحق الذي خلقت به السموات والارض وهي الحق الذي تضمنه الامر والنهي وهي سر التأله وتوحيدها هو شهادة أن لا إله إلا الله او ليس كما زعم المنكرون أن الإله هو الرب الخالق فإن المشركين كانوا مقرين بأنه لا رب إلا الله ولا خالق سواه ولم يكونوا مقرين بتوحيد الالهية الذي هو حقيقة لا إله إلا الله فإن الإله الذي تألهه القلوب حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة إله بمعنى مألوه أي محبوب معبود واصله من التأله وهو التعبد الذي هو آخر مراتب الحب فالمحبة حقيقة العبودية ودلت ايضا على أن المشركين يعرفون الله ويحبونه وانما الذي أوجب كفرهم مساواتهم به الانداد في المحبة فكيف بمن لم
احب الأنداد اكبر من حب الله فكيف بمن لم يحب الله أصلا ولم يحب إلا الند وحده فالله المستعان وقوله والذين آمنوا أشد حبا لله نتكلم عليها لتعلقها بما قبلها تكميلا للفائدة وإن لم يذكرها المصنف وفيها قولان أحدهما وهو الصحيح أن المعنى والذين آمنوا إشد حبا لله من محبة المشركين بالانداد لله فإن محبة المؤمنين خالصة ومحبة أصحاب الانداد قد ذهبت اندادهم بقسط منها والمحبة الخالصة أشد من المشتركة والثاني والذين آمنوا أشد حبا لله من حب اصحاب الانداد لأندادهم التي يحبونها من دون الله قال ابن القيم والقولان مرتبان على القولين في قوله يحبونهم كحب الله وفي الآية دليل على أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا وأن الشرك محبط للأعمال قال وقوله قل إن كان آباؤكم إلى قوله أحب إليكم من الله ورسوله الآية هذا أمر من الله تعالى لنبيه محمد ﷺ أن يتوعد من أحب أهله وعشيرته وأمواله ومساكنه أو أحد هذه الأشياء على الله ورسوله وجهاد في سبيله وقد خوطب بهذا المؤمنون في آخر الأمر كما قاله شيخ الاسلام فقيل لهم إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها أي حصلتموها وتجارة تخشون كسادها أي رخصها وفوات وقت نفاقها ومساكن ترضونها أي لحسنها وطيبها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره أي انتظروا ماذا يحل بكم من عذاب الله والله لا يهدي القوم الفاسقين أي الخارجين عن طاعة الله
وهو تنبيه على أن من فعل ذلك فهو من الفاسقين فهذا تشديد ووعيد عظيم ولا يخلص منه إلا من صح إيمانه فخلص لله سره وإعلانه وعلى أن المحبة الصادقة تستلزم تقديم مراضي الله على هذه الثمانية كلها فكيف بمن آثر بعضها على الله ورسوله وجهاد في سبيله فإن قلت قد قال شيخ الإسلام إن كثيرا من المسلمين أو أكثرهم بهذه الصفة قيل مراده أن كثيرا من المسلمين قد يكون ما ذكر أحب اليه من الله ورسوله أي في إيثار ذلك على فعل أمر الله وأمر رسوله الذي ينشأ عن المحبة لا في الحب الذي يوجب قصد المحبوب بالتأله فإن من ساوى بين الله وبين غيره في هذا الحب فهو مشرك فكيف اذا كان غير الله أحب اليه كما هو الواقع من عباد القبور فإنهم يحبون أندادهم أعظم من حب الله وذلك أن أصل الحب يحتمل الشركة بخلاف الخلة فإنها لا تقبل الشركة أصلا ولهذا قال النبي ﷺ في الحسن وأسامة اللهم إني أحبهما وأحب من يحبهما حديث صحيح واعلم أن هذه الآية شبيهة بقوله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني فلما كثر المدعون لمحبة الله طولبوا بإقامة البينة فجاءت هذه الآية ونحوها فمن ادعى محبة الله وهو يحب ما ذكر على الله ورسوله فهو كاذب كمن يدعي محبة الله وهو على غير طريق النبي ﷺ فإنه كاذب إذ لو كان صادقا لكان متبعا له قال مبارك بن فضالة عن الحسن قال كان ناس على عهد النبي ﷺ يقولون يا رسول الله إننا نحب ربنا حبا شديدا فأحب الله أن يجعل لحبه علما فأنزل الله قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني
يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم وقد وقع لكثير من المدعين نوع انبساط في دعوى المحبة أخرجهم إلى شيء من الرعونة والدعاوي التي تنافي العبودية ويدعي أحدهم دعاوي تتجاوز حدود الانبياء ويطلبون من الله مالا يصلح بكل وجه إلا لله وسبب هذا ضعف تحقيق المحبة التي هي محض العبودية بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته ومدعي ذلك فيه شبه من اليهود والنصارى الذين قالوا نحن أبناء الله وأحباؤه وشرط المحبة موافقة المحبوب فتحب ما يحب وتكره ما يكره وتبغض ما يبغض وذلك كمن يدعي أن الذنوب لا تضره لكون الله يحبه فيصر عليها أو يدعي أنه يصل إلى حد في محبة الله تسقط عنه التكاليف وكقول بعضهم أي مريد لي ترك في النار أحدا فإنه بريء منه فقال الآخر أي مريد لي ترك أحدا من المؤمنين يدخل النار فإنه بريء منه ونحو ذلك من الدعاوي مع أن كثيرا من هذا ونحوه لا يصدر إلا من كافر والعاقل يتنبه وما هكذا كان سادات المحبين الانبياء والمرسلون والصحابة والتابعون فكن على حذر من ذلك فإن كثيرا من جهال المتصوفة وقع فيه وقد ينسب ذلك إلى بعض المشايخ المشهورين وهو إما كذب عليهم وإما خطأ منهم فإن العصمة منتفية عن غير الرسول ﷺ قال عن انس أن رسول الله ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب اليه من ولده ووالده والناس أجمعين أخرجاه ش قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الايمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول أحب
إليه من أهله وولده والناس أجمعين بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول أحب إليه من نفسه أيضا كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال للنبي ﷺ لأنت يا رسول الله أحب إلي من كل شيء إلا نفسي فقال والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك فقال له عمر فإنك الآن والله أحب إلي من نفسي فقال الآن يا عمر رواه البخاري فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافرا فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله الا إذا ترك بعض واجباته فأما إذا كان الفعل مستحبا في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب ولو صح هذا لنفي عن جمهور المؤمنين اسم الايمان والصلاة والزكاة والحج وحب الله ورسوله لأنه ما من عمل إلا وغيره أفضل منه وليس أحد يفعل أفعال البر مثل ما فعلها النبي ﷺ بل ولا أبو بكر ولا عمر فلو كان من لم يأت بكمالها المستحب يجوز نفيها عنه لجاز أن ينفى عن جمهور المسلمين من الأولين والآخرين وهذا لا يقوله عاقل وعلى هذا فمن قال عن المنفي هو الكمال فإن أراد أنه نفي الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق وإن أراد أنه نفي الكمال المستحب فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله ﷺ قاله شيخ الإسلام وأكثر الناس يدعي أن الرسول أحب إليه مما ذكر فلا بد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلا فالمدعي كاذب فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحبها كما قال تعالى قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله وقال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين الى قوله إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا الى الله
ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون فنفى الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول وأخبر أن المؤمنين اذا دعوا الى الله ورسوله سمعوا وأطاعوا فتبين أن هذا من لوازم الإيمان والمحبة لكن كل مسلم لابد أن يكون محبا بقدر ما معه من الإسلام كما أن كل مؤمن لا بد أن يكون مسلما وكل مسلم لا بد أن يكون مؤمنا وإن لم يكن مؤمنا الايمان المطلق لأن ذلك لا يحصل الا لخواص المؤمنين فإن الاستسلام لله ومحبته لا تتوقف على هذا الايمان الخاص قال شيخ الإسلام وهذا الفرق يجده الانسان من نفسه ويعرفه من غيره فعامة الناس اذا أسلموا بعد كفر أو ولدوا على الإسلام والتزموا شرائعه وكانوا من أهل الطاعة لله ورسوله وهم مسلمون ومعهم إيمان مجمل لكن دخول حقيقة الإيمان إلى قلوبهم يحصل شيئا فشيئا إن أعطاهم الله ذلك وإلا فكثير من الناس لا يصلون الى اليقين ولا الى الجهاد ولو شككوا لشكوا ولو أمروا بالجهاد لما جاهدوا وليسوا كفارا ولا منافقين بل ليس عندهم من علم القلب ومعرفته ويقينه ما يدرأ الريب ولا عندهم من قوة الحب لله ورسوله ما يقدمونه على الأهل والمال وهؤلاء إن عوفوا من المحنة وماتوا دخلوا الجنة وإن ابتلوا بمن يدخل عليهم شبهات توجب ريبهم فإن لم ينعم الله عليهم بما يزيل الريب وإلا صاروا مرتابين وانتقلوا الى نوع من النفاق انتهى قوله أحب هو بالنصب خبر كون قوله والناس أجمعين هو من عطف العام على الخاص وهو كثير وفي الحديث من الفوائد
إذا كان هذا شأن محبة الرسول ﷺ فما الظن بمحبة الله وفيه أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل وقد نفي الإيمان عمن لم يكن الرسول ﷺ أحب إليه مما ذكر فدل على ذلك وفيه أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام وفيه وجوب محبته ﷺ على ما ذكر ذكرهما المصنف قال ولهما عنه قال قال رسول الله ﷺ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وفي رواية لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى الى آخره ش قوله ثلاث أي ثلاث خصال وجاز الابتداء بثلاث لأن المضاف إليه منوي ولذلك جاء التنوين قوله من كن فيه أي وجدن وحصلن فهي تامة قوله وجد بهن حلاوة الايمان قال ابن أبي جمرة إنما عبر بالحلاوة لأن الله شبه الإيمان بالشجرة في قوله ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة قلت والشجرة لها ثمرة والثمرة لها حلاوة فكذلك شجرة الإيمان لابد لها من ثمرة ولا بد لتلك الثمرة من حلاوة لكن قد يجدها المؤمن وقد لا يجدها وإنما يجدها بما ذكر في الحديث قوله أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما أحب منصوب
لأنه خبر يكون قال البيضاوي المراد بالحب هنا الحب العقلي الذي هو إيثار ما يقتضي العقل السليم رجحانه وإن كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه بطبعه ويميل اليه بمقتضى عقله فيهوى تناوله فإذا تأمل المرء أن الشارع لا يأمر ولا ينهى إلا بما فيه صلاح عاجل أو خلاص آجل والعقل يقتضي رجحان جانب ذلك تمرن على الإئتمار بأمره بحيث يصير هواه تبعا له ويلتذ بذلك التذاذا عقليا إذ الإلتذاذ العقلي إدراك ما هو كمال وخير من حيث هو كذلك قلت وكلامه على قواعد الجهمية ونحوهم من نفي محبة المؤمنين لربهم لهم والحق خلاف ذلك بل المراد في الحديث أن يكون الله ورسوله عند العبد أحب اليه مما سواهما حبا قلبيا كما في بعض الأحاديث أحبوا الله بكل قلوبكم فيميل بكليته إلى الله وحده حتى يكون وحده محبوبه ومعبوده وإنما يحب من سواه تبعا لمحبته كما يحب الأنبياء والمرسلين والملائكة والصالحين لما كان يحبهم ربه سبحانه وذلك موجب لمحبة ما يحبه سبحانه وكراهة ما يكره وإيثار مرضاته على ما سواه والسعي فيما يرضيه ما استطاع وترك ما يكره فهذه علامات المحبة الصادقة ولوازمها وأما مجرد إيثار ما يقضي العقل رجحانه وان كان على خلاف هوى النفس كالمريض يعاف الدواء بطبعه فينفر عنه الى آخر كلامه فهذا قد يكون في بعض الأمور علامة على الحب ولازما له لا أنه هو الحب وقال شيخ الاسلام أخبر النبي ﷺ أن هذه الثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان لأن وجود الحلاوة للشيء يتبع المحبة له فمن أحب شيئا واشتهاه إذا حصل له مراده فإنه يجد الحلاوة واللذة والسرور بذلك واللذة أمر يحصل عقيب إدراك الملائم الذي هو المحبوب أو المشتهي قال فحلاوة الإيمان المتضمنة للذة والفرح يتبع كمال محبة العبد لله وذلك بثلاثة أمور تكميل هذه المحبة
وتفريعها ودفع ضدها فتكميلها أن يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما فإن محبة الله ورسوله لا يكتفى فيها بأصل الحب بل لا بد ان يكون الله ورسوله احب اليه مما سواهما قلت ولا يكون كذلك الا إذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه قال وتفريعها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله قلت فإن من أحب مخلوقا لله لا لغرض آخر كان هذا من تمام حبه لله فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب فإذا أحب أنبياء الله وأولياءه لأجل قيامهم بمحبوبات الله لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره قال ودفع ضدها أن يكره ضد الإيمان كما يكره أن يقذف في النار قلت وإنما كره الضد لما دخل قلبه من محبة الله فانكشف له بنور المحبة محاسن الاسلام ورذائل الجهل والكفران وهذا هو الحب الذي يكون مع من أحب كما في الصحيحين عن أنس أن رجلا سأل النبي ﷺ متى الساعة فقال ما أعددت لها قال ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ولكنى أحب الله ورسوله فقال رسول الله ﷺ أنت مع من أحببت وفي رواية للبخاري فقلنا ونحن كذلك قال نعم قال أنس ففرحنا يومئذ فرحا شديدا وقوله مما سواهما فيه جمع ضمير الرب سبحانه وضمير الرسول ﷺ وقد أنكره على الخطيب لما قال ومن يعصهما فقد غوى وأحسن ما قيل فيه قولان أحدهما ما قاله البيضاوي وغيره أنه ثنى الضمير هنا إيماء الى أن المعتبر هو المجموع المركب من المحبتين لا كل واحدة فإنها وحدها لاغية وأمر بالأفراد في حديث الخطيب إشعارا بأن كل واحد من العصيانين مستقل باستلزام الغواية إذ العطف في تقدير التكرير والأصل استقلال كل من المعطوفين في الحكم قلت وهذا جواب بليغ جدا
الثاني حمل حديث الخطيب على الأدب والأولى وهذا على الجواز وجواب ثالث وهو أن هذا ورد على الأصل وحديث الخطيب ناقل فيكون أرجح قوله كما يكره أن يقذف في النار أي يستوي عنده الأمران الإلقاء في النار والعود في الكفر قلت وفي الحديث من الفوائد أن الله تعالى يحبه المؤمنون وهو تعالى يحبهم كما قال يحبهم ويحبونه وفيه رد ما يظنه بعض الناس من أنه من ولد على الإسلام أفضل ممن كان كافرا فأسلم فمن اتصف بهذه الأمور فهو أفضل ممن لم يتصف بها مطلقا ولهذا كان السابقون الأولون أفضل ممن ولد على الإسلام وفيه رد على الغلاة الذين يتوهمون أن صدور الذنب من العبد نقص في حقه مطلقا والصواب أنه إن لم يتب كان نقصا وإن تاب فلا ولهذا كان المهاجرون والأنصار أفضل هذه الأمة وإن كانوا في أول الأمر كفارا يعبدون الأصنام بل المنتقل من الضلال الى الهدى ومن السيئات الى الحسنات يضاعف له الثواب قاله شيخ الإسلام وفيه دليل على عداوة المشركين وبغضهم لأن من أبغض شيئا أبغض من اتصف به فإذا كان يكره الكفر كما يكره أن يلقى في النار فكذلك يكره من اتصف به قوله وفي رواية لا يجد أحد هذه الرواية أخرجها البخاري في صحيحه ولفظه لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى يحب المرء لا يحبه إلا لله
وحتى أن يقذف في النار أحب اليه من أن يرجع الى الكفر بعد اذ أنقذه الله منه وحتى يكون الله ورسوله أحب اليه مما سواهما قال وعن ابن عباس قال من أحب في الله وأبغض في الله ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك ولن يجد عبد طعم الإيمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يكون كذلك وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا رواه ابن جرير ش هذا الأثر رواه ابن جرير بكماله كما قال المصنف وأخرج ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم الجملة الأولى منه فقط قوله من أحب في الله أي أحب المسلمين والمؤمنين في الله قوله وأبغض في الله أي أبغض الكفار والفاسقين في الله لمخالفتهم لربهم وإن كانوا أقرب الناس اليه كما قال تعالى لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم الآية قوله ووالى في الله هذا بيان للازم المحبة في الله وهو الموالاة فيه إشارة الى أنه لا يكفي في ذلك مجرد الحب بل لا بد مع ذلك من الموالاة التي هي لازم الحب وهي النصرة والاكرام والاحترام والكون مع المحبوبين باطنا وظاهرا قوله وعادى في الله هذا بيان للازم البغض في الله وهو المعاداة فيه أي اظهار العداوة بالفعل كالجهاد لأعداء الله والبراءة منهم والبعد عنهم باطنا وظاهرا اشارة الى أنه لا يكفي مجرد بغض القلب بل لا بد مع ذلك من الاتيان بلازمه كما قال تعالى قد كانت لكم أسوة حسنة في ابراهيم والذين معه
إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده فهذا علامة الصدق في البغض في الله قوله فإنما تنال ولاية الله بذلك يجوز فتح الواو وكسرها أي لا يكون العبد من أولياء الله ولا تحصل له ولاية الله الا بما ذكر من الحب في الله والبغض في الله والموالاة في الله والمعاداة في الله كما روى الإمام أحمد والطبراني عن النبي ﷺ قال لا يجد العبد صريح الإيمان حتى يحب لله ويبغض لله فإذا أحب لله وأبغض لله فقد استحق الولاية لله وفي حديث آخر أوثق عرى الايمان الحب في الله والبغض في الله تعالى رواه الطبراني وغيره وينبغي لمن أحب شخصا في الله أن يأتيه في بيته فيخبره أنه يحبه في الله كما روى أحمد والضياء عن أبي ذر مرفوعا إذا أحب أحدكم صاحبه فليأته في منزله فليخبره أنه يحبه لله وفي حديث ابن عمر عند البيهقي في الشعب فإنه يجد مثل الذي يجد له قوله ولن يجد عبد طعم الإيمان الى آخره أي لا يجد عبد طعم الايمان وإن كثرت صلاته وصومه حتى يحب في الله ويبغض في الله ويعادي في الله ويوالي في الله وهذا منتزع من حديث أنس السابق وفي حديث أبي أمامة مرفوعا من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الايمان رواه أبو داود والعجب ممن يدعي محبة الله وهو على خلاف ذلك وما أحسن ما قال ابن القيم ... أتحب أعداء الحبيب وتدعي ... حبا له ما ذاك في إمكان
قوله وقد صارت عامة مؤاخات الناس على أمر الدنيا وذلك لا يجدي على أهله شيئا أي المؤاخاة على امر الدنيا لا يجدي على أهله شيئا أي لا ينفعهم أصلا بل يضرهم كما قال تعالى الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين فهذا حال كل خلة ومحبة كانت في الدنيا على غير طاعة الله فإنها تعود عداوة وندامة يوم القيامة بخلاف المحبة والخلة على طاعة الله فإنها من أعظم القربات كما جاء في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه وفي الحديث القدسي الذي رواه مالك وابن حبان في صحيحه وجبت محبتي للمتحابين في وللمتجالسين في وللمتزاورين في وللمتباذلين في وهذا الكلام قاله ابن عباس رضي الله عنه في أهل زمانه فكيف لو رأى الناس فيه من المؤاخاة على الكفر والبدع والفسوق والعصيان ولكن هذا مصداق قوله عليه السلام بدأ الاسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ وفيه إشارة إلى ان الأمر قد تغير في زمن ابن عباس بحيث صار الأمر الى هذا بالنسبة إلى ما كان في زمن الخلفاء الراشدين فضلا عن زمن رسول الله ﷺ وقد روى ابن ماجه عن ابن عمر قال لقد رأيتنا على عهد رسول الله ﷺ وما منا أحد يرى أنه أحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم وأبلغ منه قوله تعالى ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فهذا كان حالهم في ذلك الوقت الطيب وهؤلاء هم المتحابون لجلال الله كما في الحديث القدسي يقول الله تعالى أين المتحابون لجلالي اليوم أظلهم في ظلي فهذه هي المحبة النافعة لا لمحبة الدنيا وهي التي اوجبت لهم المواساة والإيثار على الأنفس وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم قال المصنف وقال ابن عباس في قوله وتقطعت بهم الأسباب قال المودة
ش هذا الأثر رواه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قوله قال المودة أي المحبة التي كانت بينهم في الدنيا تقطعت بهم وخانتهم أحوج ما كانوا اليها وتبرأ بعضهم من بعض كما قال تعالى عن ابراهيم الخليل عليه السلام أنه قال لقومه إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين وهذه الآية وإن كانت نزلت في المشركين عباد الأوثان الذين يحبون أندادهم وأوثانهم كحب الله فإنها عامة لأن الإعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ولهذا قال قتادة وتقطعت بهم الأسباب قال أسباب الندامة يوم القيامة والأسباب المواصلة التي يتواصلون بها ويتحابون بها فصارت عداوة يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا رواه عبد بن حميد وابن جرير فهذا حال من كانت مودته لغير الله فاحذر من ذلك باب قول الله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين الخوف من أفضل مقامات الدين وأجلها فلذلك قال المصنف على وجوب إخلاصه لله تعالى وقد ذكره الله تعالى في كتابه عن سادات المقربين من الملائكة
والأولياء والصالحين قال الله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقال الله تعالى وهم من خشيته مشفقون وقال تعالى إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون وقال تعالى الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وأمر باخلاصه له فقال تعالى وإياي فارهبون وقال تعالى فلا تخشوا الناس واخشون وقال تعالى أفغير الله تتقون وهو على ثلاثة أقسام احدها خوف السر وهو أن يخاف من غير الله أن يصيبه بما يشاء من مرض أو فقر أو قتل ونحو ذلك بقدرته ومشيئته سواء ادعى أن ذلك كرامة للمخوف بالشفاعة أو على سبيل الاستقلال فهذا الخوف لا يجوز تعلقه بغير الله أصلا لأن هذا من لوازم الإلهية فمن اتخذ مع الله ندا يخافه هذا الخوف فهو مشرك وهذا هو الذي كان المشركون يعتقدونه في أصنامهم وآلهتهم ولهذا يخوفون بها أولياء الرحمن كما خوفوا ابراهيم الخليل E فقال لهم ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون وقال تعالى عن قوم هود إنهم قالوا له إن نقول الا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون
من دونه فيكيدوني جميعا ثم لا تنظرون وقال تعالى ويخوفونك بالذين من دونه وهذا القسم هو الواقع اليوم من عباد القبور فإنهم يخافون الصالحين بل الطواغيت كما يخافون الله بل أشد ولهذا إذا توجهت على أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الايمان كاذبا أو صادقا فإن كان اليمين بصاحب التربة لم يقدم على اليمين إن كان كاذبا وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله ولا ريب أن هذا ما بلغ إليه شرك الأولين بل جهد أيمانهم اليمين بالله تعالى وكذلك لو أصاب أحدا منهم ظلم لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب وإذا أراد أن يظلم أحدا فاستعاذ بالله أو ببيته لم يعذه ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يقدم عليه أحدا ولم يتعرض له بالأذى حتى ان بعض الناس أخذ من التجار أموالا عظيمة أيام موسم الحج ثم بعد أيام اظهر الإفلاس فقام عليه أهل الأموال فالتجأ الى قبر في جدة يقال له المظلوم فما تعرض له أحد بمكروه خوفا من سر المظلوم وأشباه هذا من الكفر وهذا الخوف لا يكون العبد مسلما إلا باخلاصه لله تعالى وإفراده بذلك دون من سواه الثاني أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف من الناس فهذا محرم وهو الذي نزلت فيه الآية المترجم لها وهو الذي جاء فيه الحديث إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن لا تغيره فيقول يا رب خشيت الناس فيقول إياي كنت أحق أن تخشى رواه أحمد الثالث خوف وعيد الله الذي توعد به العصاة وهو الذي قال الله فيه
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد وقال ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال تعالى قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين وقال تعالى ويخافون يوما كان شره مستطيرا وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان ونسبة الأول إليه كنسبة الاسلام إلى الإحسان وإنما يكون محمودا إذ لم يوقع في القنوط واليأس من روح الله ولهذا قال شيخ الإسلام هذا الخوف ما حجزك عن معاصي الله فما زاد على ذلك فهو غير محتاج اليه بقي قسم رابع وهو الخوف الطبيعي كالخوف من عدو وسبع وهدم وغرق ونحو ذلك فهذا لا يذم وهو الذي ذكره الله عن موسى عليه الصلاة والس في قوله فخرج منها خائفا يترقب إذا تبين هذا فمعنى قوله تعالى إنما ذلكم الشيطان يخوف اولياءه أي يخوفكم اولياءه ويوهمكم أنهم ذو باس وشدة قال الله تعالى فلا تخافوهم وخافون ان كنتم مؤمنين اي فاذا سول لكم وأوهمكم فتوكلوا على الا فإنه كافيكم وناصركم عليهم كما قال تعالى اليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه إلى قوله قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون وقال تعالى فقاتلوا اولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا قاله ابن كثير وقال ابن القيم ومن كيد عدو الله أنه يخوف المؤمنين من جنده واوليائه لئلا يجاهدوهم ولا يأمروهم بمعروف ولا ينهوهم عن منكر
فأخبر تعالى ان هذا من كيده وتخويفه ونهانا أن نخافهم قال والمعنى عند جميع المفسرين يخوفكم بأوليائه قال قتادة يعظمهم في صدوركم ولهذا قال فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه خوف أولياء الشيطان وكلما ضعف إيمان العبد قوي خوفه منهم قلت فأمر تعالى باخلاص هذا الخوف له وأخبر أن ذلك شرط في الإيمان فمن لم يأت به لم يأت بالإيمان الواجب ففيه ان إخلاص الخوف لله من الفرائض قال وقوله تعالى إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخشى الا الله الآية لما نفى تبارك وتعالى عمارة المساجد عن المشركين بقوله تعالى ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله الآية إذا لا تنفعهم عمارتها مع الشرك كما قال تعالى وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا أثبت تعالى في هذه الآية عمارة المساجد بالعبادة للمؤمنين بالله تعالى واليوم الآخر المقيمين الصلاة المؤتين الزكاة الذين لا يخشون الا الله ولا يخشون معه الها آخر كما قال تعالى ولا يخشون أحدا الا الله وكفى بالله حسيبا فهذه هي العمارة النافعة وهي الخالصة من الشرك فإنه نار تحرق الأعمال وقوله ولم يخش الا الله قال ابن عطية يريد خشية التعظيم والعبادة والطاعة ولا محالة أن الإنسان يخشى غيره ويخشى المحاذير الدنيوية وينبغي أن يخشى في ذلك كله قضاء الله وتصريفه
قلت ولهذا قال ابن عباس الآية لم يعبد الا الله فإن الخوف كما قال ابن القيم عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والإنابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب فلا يصلح الا لله كالذل والانابة والمحبة والتوكل والرجاء وغيرها من عبودية القلب وقوله فعسى اولئك ان يكونوا من المهتدين قال ابن ابي طلحة عن ابن عباس يقول إن أولئك المهتدون كقوله عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا وكل عسى في القرآن فهي واجبة وتضمنت الآية أن من عمر المساجد من المسلمين بالعبادة هو من المؤمنين كما في حديث إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالايمان قال الله انما يعمد مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر رواه أحمد والترمذي والحاكم قال وقوله ومن الناس من يقول آمنا بالله فاذا اوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله الآية قال ابن كثير يقول تعالى مخبرا عن قوم من الذين يدعون الايمان بألسنتهم ولم يثبت الايمان في قلوبهم بأنهم إذا جاءتهم محنة في الدنيا اعتقدوا أنها من نقمة الله بهم فارتدوا عن الاسلام قال ابن عباس يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله وقال ابن القيم الناس إذا أرسل اليهم الرسل بين أمرين إما أن يقول احدهم آمنا وإما أن لا يقول ذلك بل يستمر على السيئات والكفر فمن قال آمنا امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يعجز الله ويفوته ويسبقه فمن آمن
بالرسل وأطاعهم عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلى بما يؤلمه ومن لم يؤمن بهم ولم يطعهم عوقب في الدنيا والآخرة وحصل له ما يؤلمه وكان هذا الألم أعظم وأدوم من ألم أتباعهم فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة والمعرض عن الإيمان تصل له اللذة ابتداء ثم يصير له الألم الدائم والانسان لابد أن يعيش مع الناس والناس لهم ارادات وتصورات فيطلبون منه أن يوافقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه وان وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم كمن عنده دين وتقى حل بين قوم فجار ظلمة ولا يتمكنون من فجورهم الا بموافقته لهم أو سكوته عنهم فإن وافقهم أو سكت عنهم سلم من شرهم في الابتداء ثم يتسلطون عليه بالاهانة والاذى أضعاف ما كان يخافه ابتداء لو انكر عليهم وخالفهم وان سلم منهم فلا بد ان يهان ويعاقب على يد غيرهم فالحزم كل الحزم بما قالت ام المؤمنين لمعاوية من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا فمن هذاه الله وألهمه رشده ووقاه شر نفسه امتنع من الموافقة على فعل المحرم وصبر على عداوتهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم ثم أخبر عن حال الداخل في الايمان بلا بصيرة وأنه اذا أوذي في الله جعل فتنة الناس له وهي أذاهم له ونيلهم اياه بالمكروه وهو الألم الذي لا بد ان ينال الرسل وأتباعهم ممن خالفهم جعل ذلك في فراره منه وتركه السبب الذي يناله به كعذاب الله الذي فر منه المؤمنون بالايمان فالمؤمنون لكمال بصيرتهم فروا من ألم عذاب الله الى الإيمان وتحملوا ما فيه من الألم الزائل المفارق عن قرب وهذا لضعف بصيرته فر من ألم أعداء
الرسل إلى موافقتهم ومتابعتهم ففر من ألم عذابهم الى ألم عذاب الله فجعل ألم فتنة الناس في الفرار منه بمنزلة ألم عذاب الله وغبن كل الغبن اذا استجار من الرمضاء بالنار وفر من ألم ساعة الى ألم الأبد واذا نصر الله جنده وأولياءه قال إني كنت معكم والله عليم بما انطوى عليه صدره من النفاق انتهى قلت وإنما حمل ضعيف البصيرة على أن جعل فتنة الناس كعذاب الله هوالخوف منهم أن ينالوه بما يكره بسبب الإيمان بالله وذلك من جملة الخوف من غير الله وهذا وجه مطابقة الآية للترجمة وفي الآية رد على المرجئة والكرامية وفيها الخوف على نفسك والاستعداد للبلاء اذ لابد منه مع سؤال الله العافية قال عن أبي سعيد مرفوعا إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله وأن تحمدهم على رزق الله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله إن رزق الله لا يجره حوص حويص ولا يرده كراهية كاره ش هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي وأعله بمحمد ابن مروان السدي وقال ضعيف وفيه أيضا عطية العوفي أورده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال ضعفوة وموسى بن بلال قال الأزدي ساقط قلت اسناده ضعيف ومعناه صحيح وتمامه وإن الله بحكمته جعل الروح والفرح في الرضى واليقين وجعل الهم والحزن في الشك والسخط قوله ان من ضعف اليقين قال في المصباح والضعف بفتح الضاد في لغة تميم وبضمها في لغة قريش خلاف القوة والصحة واليقين المراد به الإيمان كله كما قال ابن مسعود اليقين الإيمان كله والصبر نصف الإيمان رواه الطبراني بسند صحيح ورواه أبو نعيم في الحلية والبيهقي في الزهد
من حديثه مرفوعا ولا يثبت رفعه قاله الحافظ ويدخل في ذلك تحقيق الايمان بالقدر السابق كما في حديث ابن عباس مرفوعا فإن استطعت أن تعمل بالرضى في اليقين فافعل وان لم تستطع فإن في الصبر على ما تكره خيرا كثيرا وفي رواية أخرى في اسنادها ضعف قلت يا رسول الله كيف أصنع باليقين قال أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك قوله أن ترضي الناس بسخط الله أي تؤثر رضاهم على رضي الله فترافقهم على ترك الأمور أو فعل المحظور استجلابا لرضاهم فلولا ضعف اليقين لما فعلت ذلك لأن من قوي يقينه علم أن الله وحده هوالنافع الضار وأنه لا معول الا على رضاه وليس لسواه من الأمر شيء كائنا ما كان فلا يهاب أحدا ولا يخشاه لخوف ضرر يلحقه من جهته كما قال تعالى ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا قوله وأن تحمدهم على رزق لله أي تحمدهم وتشكرهم على ما وصل إليك على أيديهم من رزق بأن تضيفه إليهم وتنسى المنعم المتفضل على الحقيقة وهو الله رب العالمين الذي قدر هذا الرزق لك وأوصله إليك بلطفه ورحمته فإنه لطيف لما يشاء وهو العليم الحكيم فإذا أراد أمرا قيض له أسبابا ولا ينافي ذلك حديث من لا يشكر الناس لا يشكر الله لأن المراد هنا اضافة النعمة إلى السبب ونسيان الخالق والمراد بشكر الناس عدم كفر احسانهم ومجازاتهم على ذلك بما استطعت فإن لم تجد فجازهم بالدعاء قوله وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله أي اذا طلبتهم شيئا فمنعوك ذمتهم على
ذلك فلو علمت يقينا ان المتفرد بالعطاء والمنع هو الله وحده وان المخلوق مدبر لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وان الله لو قدر لك رزقا أتاك ولو اجتهد الخلق كلهم في دفعه وان ارادك بمنع لم يأتك مرادك ولو اجتمع الخلق كلهم في ايصاله اليك لقطعت العلائق عن الخلائق وتوجهت بقلبك الى الخالق تبارك وتعالى ولهذا قرر ذلك بقوله ان رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره فلا ترض الخلق بما يسخط الله ولا تحمدهم على رزق الله ولا تذمهم على ما لم يؤتك الله طلبا لحصول رزق من جهتهم فما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم قال شيخ الاسلام اليقين يتضمن اليقين في القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره فإذا ارضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا لا بوعد الله ولا برزق الله فإنه انما يحمل الانسان على ذلك إما ميل إلى ما في أيديهم فيترك القيام فيهم بأمر الله لما يرجوه منهم وإما ضعف تصديقه بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب في الدنيا والآخرة فإنك اذا أرضيت الله نصرك ورزقك وكفاك مؤنتهم وإرضاؤهم بما يسخطه انما يكون خوفا منهم ورجاء لهم وذلك من ضعف اليقين وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك فالأمر في ذلك الى الله لا لهم فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فإذا ذممتهم على ما يقدر كان ذلك من ضعف يقينك فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك ولكن من حمده الله ورسوله منهم فهو المحمود ومن ذمه الله ورسوله فهو المذموم ولما قال بعض وفد بني تميم أي محمد أعطني فإن حمدي زين وذمي شين قال ﷺ ذاك الله وفي الحديث ان الإيمان يزيد وينقص وان الأعمال داخلة في الإيمان والالم
تكن هذه الثلاث من ضعفه واضدادها من قوته قال وعن عائشة أن رسول الله ﷺ قال من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس رواه ابن حبان في صحيحه ش هذا الحديث رواه ابن حبان بهذا اللفظ الذي ذكره المصنف ورواه الترمذي عن رجل من أهل المدينة قال كتب معاوية الى عائشة ان اكتبي لي كتابا توصيني فيه ولا تكثري علي فكتبت عائشة الى معاوية سلام عليك اما بعد فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول من التمس رضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس رضى الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس والسلام عليك رواه أبو نعيم وغيره قوله من التمس أي طلب قال شيخ الإسلام وكتبت عائشة إلى معاوية وروي أنها رفعته من ارضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن ارضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا هذا لفظ المرفوع ولفظ الموقوف من أرضى الله بسخط الناس رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاما هذا اللفظ المأثور عنها وهذا من أعظم الفقه في الدين والمأثور أحق وأصدق فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه وكان عبده الصالح والله يتولى الصالحين وهو كاف عبده ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب والله يكفيه مؤنة الناس بلا ريب وأما كون الناس كلهم يرضون عنه فقد يحصل ذلك لكن يرضون إذا سلموا من الاعراض وإذا تبين
لهم العاقبة ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئا كالظالم الذي يعض على يديه وأما كون حامده ينقلب ذاما فهذا يقع كفرا ويحصل في العاقبة فإن العاقبة للتقوى لا تحصل ابتداء عند أهوائهم قلت وإنما يحمل الانسان على إرضاء الخلق بسخط الخالق هو الخوف منهم فلو كان خوفه خالصا لله لما ارضاهم بسخطه فإن العبيد فقراء عاجزون لا قدرة لهم على نفع ولا ضر البتة وما بهم من نعمة فمن الله فكيف يحسن بالموحد المخلص أن يؤثر رضاهم على رضاء رب العالمين الذي له الملك كله وله الحمد كله وبيده الخير كله ومنه الخير كله وإليه يرجع الامر كله لا إله إلا هو العزيز الحكيم وقد أخبر تعالى أن ذلك من صفات المنافقين في قوله لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون وما أحسن ما قيل ... إذا صح منك الود يا غاية المنى ... فكل الذي فوق التراب تراب ... قال ابن رجب فمن تحقق أن كل مخلوق فوق التراب فهو تراب فكيف يقدم طاعة من هو تراب على طاعة رب الارباب أم كيف يرضي التراب بسخط الملك الوهاب ان هذا لشيء عجاب وفي الحديث عقوبة من خاف الناس وآثر رضاهم على رضى الله وأن العقوبة قد تكون في الدين عياذا بالله من ذلك فإن المصيبة في الأديان أعظم من المصيبة في الاموال والأبدان وفيه شدة الخوف على عقوبات الذنوب لا سيما في الدين فإن كثيرا من الناس يفعل
المعاصي ويستهين ولا يرى اثرا لعقوبتها ولا يدري المسكين بماذا أصيب فقد تكون عقوبته في قلبه كما قال تعالى فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا ما وعدوه وبما كانوا يكذبون اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك منك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك باب قول الله تعالى وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قال أبو السعادات يقال توكل بالأمر اذا ضمن القيام به ووكلت أمري الى فلان أي ألجأته واعتمدت عليه فيه وكل فلان فلانا إذا استكفاه أمره ثقة بكفايته أو عجز عن القيام بأمر نفسه انتهى ومراد المصنف بهذه الترجمة النص على أن التوكل فريضة يجب اخلاصه لله تعالى لأنه من أفضل العبادات وأعلى مقامات التوحيد بل لا يقوم به على وجه الكمال إلا خواص المؤمنين كما تقدم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ولذلك أمر الله به في غير آية من القرآن أعظم مما أمر بالوضوء والغسل من الجنابة بل جعله شرطا في الإيمان والاسلام ومفهوم ذلك انتفاء الإيمان والاسلام عند انتفائه كما في الآية المترجم لها وقوله تعالى إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقوله تعالى فاعبده وتوكل عليه وقوله رب المشرق
والمغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا وقوله ألا تتخذوا من دوني وكيلا وقوله وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا وقوله فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله الا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم وغير ذلك من الآيات وفي الحديث من سره أن يكون أقوى الناس إيمانا فليتوكل على الله رواه ابن أبي الدنيا وأبو يعلى والحاكم وفي حديث آخر لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا رواه أحمد وابن ماجه قال الامام أحمد التوكل عمل القلب وقال أبو اسماعيل الأنصاري التوكل كله الأمر إلى مالكه والتعويل على وكالته إذا تبين ذلك فمعنى الآية المترجم لها أن موسى عليه السلام أمر قومه بدخول الارض المقدسة التي كتبها الله لهم ولا يرتدوا على أدبارهم خوفا من الجبارين بل يمضوا قدما لا يهابونهم ولا يخشونهم متوكلين على الله في هزيمتهم مصدقين بصحة وعده لهم إن كانوا مؤمنين قال ابن القيم فجعل التوكل على الله شرطا في الإيمان فدل على انتفاء الإيمان عد انتفائه وفي الآية الأخرى وقال موسى يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين فجعل دليل صحة الاسلام التوكل وقال وعلى الله فليتوكل المؤمنون فذكر اسم الإيمان ههنا دون سائر أسمائهم دليل على استدعاء الإيمان للتوكل وأن قوة التوكل وضعفه بحسب قوة الإيمان وضعفه وكلما قوي ايمان العبد كان توكله أقوى واذا ضعف الإيمان ضعف التوكل واذا كان التوكل ضعيفا فهو دليل على ضعف الإيمان ولا بد والله تبارك وتعالى يجمع بين التوكل والعبادة وبين التوكل والإيمان وبين التوكل والتقوى وبين التوكل والإسلام وبين التوكل والهداية فظهر أن التوكل أصل لجميع مقامات
الايمان والاحسان ولجميع أعمال الاسلام وأن منزلته منها كمنزلة الجسد من الراس فكما لا يقوم الرأس إلا على البدن فكذلك لا يقوم الايمان ومقوماته إلا على ساق التوكل قلت وفي الآية دليل على أن التوكل على الله عبادة وعلى أنه فرض وإذا كان كذلك فصرفه لغير الله شرك قال شيخ الاسلام وما جاء أحد مخلوقا أو توكل عليه الا خاب ظنه فيه فإنه مشرك ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قلت لكن التوكل على غير الله قسمان أحدهما التوكل في الأمور التي لا يقدر عليها إلا الله كالذين يتوكلون على الأموات والطواغيت في رجاء مطالبهم من النصر والحفظ والرزق والشفاعة فهذا شرك أكبر فإن هذه الأمور ونحوها لا يقدر عليها إلا الله تبارك وتعالى الثاني التوكل في الأسباب الظاهرة العادية كمن يتوكل على أمير أو سلطان فيما جعله الله بيده من الرزق أو دفع الأذى ونحو ذلك فهذا نوع شرك خفي والوكالة الجائزة هي توكل الانسان في فعل مقدور عليه ولكن ليس له أن يتوكل عليه وإن وكله بل يتوكل على الله ويعتمد عليه في تيسير ما وكله فيه كما قرره شيخ الاسلام قال وقوله إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية قال ابن عباس في الآية المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ولا يتوكلون على الله
ولا يصلون إذا غابوا ولا يؤدون زكاة أموالهم فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ثم وصف المؤمنين فقال إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم فادوا فرائضه رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وهذه صفة المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي خاف من الله ففعل أوامره وترك زواجره فإن وجل القلب من الله يستلزم القيام بفعل المأمور وترك المحظور كما قال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ولهذا قال السدي في قوله إذا ذكر الله وجلت قلوبهم هو الرجل يريد أن يظلم أو قال يهم بمعصية فيقال له اتق الله فيجل قلبه رواه ابن أبي شيبة وابن جرير وابن أبي حاتم وقوله وإذا تليت عليهم آياته زادتهم ايمانا قد استدل الصحابة والتابعون ومن تبعهم بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان ونقصانه قال عمر بن حبيب الصحابي إن الإيمان يزيد وينقص فقيل له وما زيادته وما نقصانه قال إذا ذكرنا الله وخشيناه فذلك زيادته وإذا غفلنا ونسينا وضيعنا فذلك نقصانه رواه ابن سعد وقال مجاهد في هذه الآية الايمان يزيد وينقص وهو قول وعمل رواه ابن أبي حاتم وحكى الاجماع على ذلك الشافعي وأحمد وأبو عبيد وغيرهم وقوله وعلى ربهم يتوكلون أي يعتمدون عليه بقلوبهم مفوضين اليه امورهم وحده لا شريك له فلا يرجون سواه ولا يقصدون الا إياه ولا يرغبون الا اليه يعلمون أن ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له وفي الآية وصف المؤمنين حقا بثلاث مقامات من مقامات الإحسان وهي الخوف وزيادة الايمان والتوكل على الله وحده فإن قيل إذا كان المؤمن حقا هو الذي فعل المأمور وترك المحظور
فلماذا لم يذكر إلا خمسة أشياء قيل لأن ما ذكر مستلزم لما ترك فإنه ذكر وجل قلوبهم إذا ذكر الله وزيادة ايمانهم اذا تليت عليهم آياته مع التوكل عليه واقام الصلاة على الوجه المأمور به باطنا وظاهرا والانفاق من المال والمنافع فكان مستلزما للباقي فإن وجل القلب عند ذكر الله يقتضي خشيته والخوف منه وذلك يدعو صاحبه إلى فعل المأمور وترك المحظور وكذلك زيادة الايمان عند تلاوة آيات الله يقتضي ريادته علما وعملا ثم لا بد من التوكل على الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ومن طاعة الله فيما يقدر عليه وأصل ذلك الصلاة والزكاة فمن قام بهذه الخمس كما أمر لزم أن يأتي بسائر الواجبات بل الصلاة نفسها إذا فعلها كما أمر فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ذكر ذلك شيخ الاسلام قال وقوله يا أيها النبي حسبك الله الآية قال ابن القيم أي الله وحده كافيك وكافي اتباعك فلا تحتاجون معه الى أحد وقيل المعنى حسبك الله وحسبك المؤمنين قال ابن القيم وهذا خطأ محض لا يجوز حمل الآية عليه فإن الحسب والكفاية لله وحده كالتوكل والتقوى والعبادة قال تعالى وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ففرق بين الحسب والتأييد فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده وأنثى على أهل التوحيد من عباده حيث أفردوه بالحسب فقال تعالى الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ولم يقولوا حسبنا الله ورسوله فإذا كان هذا قولهم
ومدح الرب تعالى لهم بذلك فكيف يقول لرسوله الله وأتباعك حسبك وأتباعه قد أفردوا الرب تعالى بالحسب ولم يشركوا بينه وبين رسوله فكيف يشرك بينه وبينهم في حسب رسوله ﷺ هذا من أمحل المحال وأبطل الباطل ونظير هذا قوله سبحانه وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون فتأمل كيف جعل الايتاء لله والرسول كما قال وما آتاكم الرسول فخذوه وجعل الحسب له فلم يقل وقالوا حسبنا الله ورسوله بل جعله خالص حقه كما قال إنا إلى الله راغبون ولم يقل وإلى رسوله بل جعل الرغبة اليه وحده كما قال وإلى ربك فارغب فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب لله وحده كما أن العبادة والتقوى والسجود والنذر والحلف لا يكون الا له سبحانه وتعالى انتهى كلامه وبهذا يتبين مطابقة الآية للترجمة لأن الله تعالى أخبر أنه حسب رسوله وحسب اتباعه اي كافيهم وناصرهم فنعم المولى ونعم النصير وفي ضمن ذلك أمر لهم بإفراده تعالى بالحسب استكفاء بكفايته تبارك وتعالى وذلك هو التوكل قال وقوله ومن يتوكل على الله فهو حسبه قال ابن القيم اي كافيه ومن كان الله كافيه وواقيه فلا مطمع فيه لعدوه ولا يضره إلا أذى لا بد منه كالحر والبرد والجوع والعطش وأما أن يضره بما يبلغ به مراده فلا يكون أبدا وفرق بين الأذى الذي هو في الظاهر إيذاء وهو في الحقيقة إحسان إليه واضرار بنفسه وبين الضرر الذي يشتفى به منه قال بعض
السلف جعل الله لكل عمل جزاء من نفسه وجلع جزاء التوكل عليه نفس كفايته فقال ومن يتوكل على الله فهو حسبه ولم يقل فله كذا وكذا من الأجر كما قال في الأعمال بل جعل نفسه سبحانه كافي عبده المتوكل عليه وحسبه وواقيه فلو توكل العبد على الله حق توكله وكادته السموات والأرض ومن فيهن لجعل له مخرجا وكفاه ونصره انتهى وفي أثر رواه أحمد في الزهد عن وهب بن منبه قال الله تعالى في بعض كتبه بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السموات ومن فيهن والارضون بمن فيهن فإني أجعل له بذلك مخرجا ومن لم يعتصم بي فإني أقطع يديه من أسباب السماء وأخسف من تحت قدميه الارض فأجعله في الهواء ثم أكله إلى نفسه كفا بي لعبدي مالا إذا كان عبدي في طاعتي أعطيه قبل أن يسألني وأستجيب له قبل أن يدعوني فأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه وفي الآية دليل على فضل التوكل وأنه أعظم الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار لأن الله علق الجملة الأخيرة على الأولى تعليق الجزاء على الشرط فيمتنع أن يكون وجود الشرط كعدمه لأنه تعالى رتب الحكم على الوصف المناسب له فعلم أن توكله هو سبب كون الله حسبا له ذكره شيخ الاسلام وفيها تنبيه على القيام بالأسباب مع التوكل لأنه تبارك وتعالى ذكر التقوى ثم ذكر التوكل كما قال واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون فجعل التقوى الذي هو قيام بالأسباب المأمور بها فحينئذ إذا توكل على الله فهو حسبه فالتوكل بدون القيام بالأسباب المأمور بها عجز محض وإن كان مشوبا بنوع من التوكل فلا ينبغي للعبد أن يجعل توكله عجزا ولا عجزه توكلا بل يجعل توكله من جملة الأسباب التي لا يتم المقصود إلا بها
كلها ذكر معناه ابن القيم قال عن ابن عباس قال حسبنا الله ونعم الوكيل قالها ابراهيم ﷺ حين ألقى في النار وقالها محمد ﷺ حين قالوا إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا الآية رواه البخاري ش قوله حسبنا الله أي كافينا فلا نتوكل إلا عليه كما قال ومن يتوكل على الله فهو حسبه اي كافيه كما قال أليس الله بكاف عبده قوله ونعم الوكيل أي نعم الموكول اليه المتوكل عليه كما قال تبارك وتعالى واعتصموا بالله هو مولاكم فنعم المولى ونعم النصير فقد تضمنت هذه الكلمة العظيمة التوكل على الله والالتجاء اليه قال ابن القيم وهو حسب من توكل عليه وكافي من لجأ إليه وهو الذي يؤمن خوف الخائف ويجير المستجير وهو نعم المولى ونعم النصير فمن تولاه واستنصر به وتوكل عليه وانقطع بكليته اليه تولاه وحفظه وحرسه وصانه ومن خافه واتقاه أمنه مما يخاف ويحذر وجلب اليه كل ما يحتاج اليه من المنافع قوله قالها ابراهيم ﷺ حين القي في النار في رواية عن ابن عباس قال كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار حسبنا الله ونعم الوكيل رواه البخاري وقد ذكر الله القصة في سورة الأنبياء عليهم السلام قوله وقالها محمد ﷺ إلى آخره وذلك بعدما كان من أمر أحد ما كان بلغ النبي ﷺ وأصحابه ان ابا سفيان ومن معه قد أجمعوا الكرة عليهم فخرج النبي ﷺ ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والزبير وسعد وطلحة وعبدالرحمن بن عوف وحذيفة بن اليمان وعبدالله بن مسعود وأبو عبيدة بن
الجراح في سبعين راكبا حتى انتهى الى حمراء الأسد وهي من المدينة على ثلاثة أميال ثم ألقى الله الرعب في قلب أبي سفيان فرجع الى مكة ومر به ركب من عبد القيس فقال أين تريدون فقالوا نريد المدينة قال فهل أنتم مبلغون عني محمدا رسالة أرسلكم بها اليه قالوا نعم قال فإذا وافيتموه فأخبروه أنا قد أجمعنا السير إليه وإلى أصحابه لنستأصل بقيتهم فمر الركب برسول الله ﷺ وهو بحمراء الأسد فأخبروه بالذي قال أبو سفيان وأصحابه فقال حسبنا الله ونعم الوكيل والقصة مشهور في السير والتفاسير ففي هاتين القصتين فضل هذه الكلمة وأنها قول ابراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام في الشدائد ولهذا جاء في الحديث إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا حسبنا الله ونعم الوكيل رواه ابن مردوية وأن القيام بالأسباب مع التوكل على الله لا يتنافيان بل يجب على العبد القيام بهما كما فعل الخليلان عليهما الصلاة والسلام ولهذا جاء في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن عوف بن مالك أن النبي ﷺ قضى بين رجلين فقال المقضي عليه لما أدبر حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ ردوا علي الرجل فقال ما قلت قال قلت حسبي الله ونعم الوكيل فقال رسول الله ﷺ إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس فإذا غلبك أمر فقل حسبي الله ونعم الوكيل وفي الآية دليل على أن الإيمان يزيد وينقص قال مجاهد في قوله فزادهم إيمانا قال الإيمان يزيد وينقص وعلى أن ما يكرهه الإنسان قد يكون خيرا له وان التوكل أعظم الأسباب في حصول الخير ودفع الشر في الدنيا والآخرة
باب قول الله تعالى أفامنوا مكر الله فلا يامن مكر الله الا القوم الخاسرون المراد بهذه الترجمة التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف ولذلك ذكر بعد هذه الآية قوله تعالى ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون هذا هو مقام الانبياء والصديقين كما قال تعالى أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا فابتغاء الوسيلة اليه هو التقرب بحبه وطاعته ثم ذكر الرجاء والخوف وهذه أركان الإيمان وقال تعالى إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا وكانوا لنا خاشعين وقال تعالى عن ابراهيم عليه السلام ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون وقال عن شعيب قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها الى أن يشاء الله ربنا فوكلا الأمر الى مالكه وقال تعالى عن الملائكة عليهم السلام يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون وقال النبي ﷺ إني لأعلمكم بالله وأشدكم له خشية وكلما قوي ايمان العبد ويقينه قوي خوفه ورجاؤه مطلقا
قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وقال ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون والذين هم بآيات ربهم يؤمنون والذين هم بربهم لا يشركون والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم الى ربهم راجعون قالت عائشة يا رسول الله هو الرجل يزني ويسرق ويخاف ان يعاقب قال لا يا بنت الصديق هوالرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه رواه الامام أحمد والترمذي وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه قال ابن القيم الخوف من أجل منازل الطريق وخوف الخاصة أعظم من خوف العامة وهم اليه أحوج وهم به أليق وله ألزم فإن العبد إما أن يكون مستقيما أو مائلا عن الاستقامة فإن كان مائلا عن الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله ولا يصح الايمان إلا بهذا الخوف وهو ينشأ من ثلاثة أمور أحدها معرفته بالجناية وقبحها والثاني تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها الثالث أنه لا يعلم أنه يمنع من التوبة ويحال بينه وبينها اذا ارتكب الذنب فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف وسبب قوتها وضعفها يكون قوة الخوف وضعفه هذا قبل الذنب فإذا عمله كان خوفه أشد وبالجملة فمن استقر في قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها وذكر المعصية والتوعد عليها وعدم الوقوف بإتيانه بالتوبة النصوح هاج من قلبه من الخوف ما لا يملكه ولا يفارق حتى ينجو وأما إن كان مستقيما مع الله فخوفه يكون من جريان الأنفاس لعلمه بأن الله مقلب القلوب وما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن تعالى فإن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه كما ثبت عن النبي ﷺ وكانت أكثر يمينه لا ومقلب القلوب ويكفي في هذا قوله تعالى واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فأي قرار لمن هذه حاله
ومن احق بالخوف منه بل خوفه لازم له في كل حال وإن توارى عنه بغلبة حال أخرى عليه فالخوف حشو قلبه لكن توارى عنه بغلبة غيره فوجود الشيء غير العلم به فالحوف الأول ثمرة العلم بالوعد والوعيد وهذا الخوف ثمرة العلم بقدرة الله تعالى وعزته وجلاله وأنه الفعال لما يريد وأنه المحرك للقلب المصرف له كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم انتهى فهذا الخوف الثاني هو من خوف المكر إذا علمت هذا فمعنى الآية المترجم لها أن الله تبارك وتعالى لما ذكر حال أهل القرى المكذبين للرسل بين أن الذي حملهم على ذلك هوالأمن من عذاب الله وعدم الخوف منه كما قال أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون ثم بين أن ذلك بسبب الجهل والغرة بالله فأمنوا مكره فيما ابتلاهم به من السراء والضراء بأن يكون استدراجا فقال أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون أي الهالكون فدل على وجوب الخوف من مكر الله قال الحسن من وسع عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له وقال قتادة بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوما قط الا عند سلوتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر به الا القوم الفاسقون رواهما ابن أبي حاتم وفي الحديث إذا رايت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج رواه أحمد وابن جرير وابن أبي حاتم وقال اسماعيل بن رافع من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنب يتمنى على الله المغفرة رواه ابن أبي حاتم قال وقوله ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون
نبه المصنف رحمه الله بهذه الآية على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط من رحمة الله بل يرجوها مع العمل الصالح كما قال تعالى إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم فذكر سبحانه أنهم يرجون رحمة الله مع الاجتهاد في الأعمال الصالحة فأما الرجاء مع الاصرار على المعاصي فذاك من غرور الشيطان إذا تبين ذلك فقوله تعالى ومن يقنط حكاية قول ابراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بولده اسحاق عليه السلام فقال أبشرتموني على أن مسني الكبر فبما تبشرون استبعادا لوقوع هذا في العادة مع كبر السن منه ومن زوجته قالوا بشرناك بالحق اي الذي لا ريب فيه ولا مثنوية بل هو أمر الذي إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون وإن بعد مثله في العادة التي أجراها فإن ذلك عليه يسير إذا أراده فلا تكن من القانطين أي لا تيأس من رحمة الله قال ابراهيم عليه السلام ومن يقنط من رحمة ربه الا الضالون فأجابهم بأنه ليس بقانط ولكن يرجو من الله الولد وإن كان قد كبر وأسنت امرأته فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك قال السدي ومن يقنط من رحمة ربه قال من ييأس من رحمة ربه رواه ابن أبي حاتم الا الضالون قال بعضهم إلا المخطئون طريق الصواب أو الكافرون كقوله لا ييأس من روح الله الا القوم الكافرون وفي حديث مرفوع العاجز الراجي لرحمة الله أقرب منها من العابد القانط رواه الحكيم الترمذي والحاكم في تاريخه
قال عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ سئل عن الكبائر قال الشرك بالله واليأس من روح الله والأمن من مكر الله ش هذا الحديث رواه البزار وابن أبي حاتم من طريق شبيب بن بشر عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان متكئا فدخل عليه رجل فقال ما الكبائر فقال الشرك بالله وذكر الحديث ورجاله ثقات الا شبيب ابن بشر فقال ابن معين ثقة ولينه ابن أبي حاتم ومثل هذا يكون حسنا وقال ابن كثير في اسناده نظر والأشبه أن يكون موقوفا قوله الشرك بالله هو أكبر الكبائر إذ مضمونه تنقيص رب العالمين والههم ومالكهم وخالقهم الذي لا إله الا هو وعدل غيره به كما قال ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فهو أظلم الظلم وأقبح القبيح ولهذا لا يغفر إن لم يتب منه بخلاف غيره من الذنوب ففي مشيئة الله إن شاء غفرها وإن شاء عذب بها قوله واليأس من روح الله اي قطع الرجاء والامل من الله فيما يرومه ويقصده قال تعالى ولا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح إلا القوم الكافرون وذلك إساءة ظن بكرم الله ورحمته وجوده ومغفرته قوله والأمن من مكر الله أي من استدراجه للعبد أو سلبه ما أعطاه من الإيمان نعوذ بالله من غضبه وذلك جهل بالله وبقدرته وثقة بالنفس وعجب بها واعلم أن هذا الحديث لم يرد فيه حصر الكبائر فيما ذكر بل الكبائر كثيرة لكن ذكر ما هو أكبرها أو من اكبرها ولهذا قال ابن عباس هي الى السبعين أقرب منها الى السبع رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وفي رواية هي الى سبعمائة أقرب منها الى سبع غير أنه لا كبيرة
مع استغفار ولا صغيرة مع اصرار قال وعن ابن مسعود قال اكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله والقنوط من رحمة الله واليأس من روح الله رواه عبد الرزاق ش هذا الأثر رواه ابن جرير بأسانيد صحاح عن ابن مسعود قال ابن كثير وهو صحيح اليه بلا شك ورواه الطبراني أيضا قوله اكبر الكبائر الإشراك بالله أي في ربوبيته أو عبادته وهذا بالاجماع قوله والقنوط من رحمة الله قال أبو السعادات هو أشد اليأس من الشيء قلت فعلى هذا يكون الفرق بينه وبين اليأس كالفرق بين الاستغاثة والدعاء فيكون القنوط من اليأس وظاهر القرآن أن اليأس أشد لأنه حكم لأهله بالكفر ولأهل القنوط بالضلال وفيه التنبيه على الجمع بين الرجاء والخوف فإذا خاف فلا يقنط ولا ييأس وكان السلف يستحبون أن يقوى في الصحة الخوف وفي المرض الرجاء هذه طريقة أبي سليمان وغيره قال وينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف فإذا كان الغالب عليه الرجاء فسد فنسأل الله تعالى أن يرزقنا خشيته في الغيب والشهادة إنه على كل شيء قدير باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله لما كان ببديع حكمته ولطيف رحمته قضى أن يبتلي النوع الانساني بالأوامر والنواهي والمصائب التي قدرها عليهم أمرهم بالصبر على ذلك
وافترضه عليهم تسلية لهم وتقوية على ذلك ووعدهم عليه الثواب بغير حساب كما قال إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب فعلى هذا يكون الصبر ثلاثة أنواع صبر على المأمور وصبر على المحظور وصبر على المقدور ويشملها قوله تعالى والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وقوله تعالى الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ولما كان الصبر لا يحصل إلا بالله كما قال واصبر وما صبرك إلا بالله ارشد تبارك وتعالى إلى الجمع بينهما وقال تعالى واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا قال الامام أحمد ذكر الله الصبر في تسعين موضعا وقال النبي ﷺ والصبر ضياء رواه أحمد ومسلم وقال عليه السلام ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر رواه البخاري ومسلم وفي حديث آخر الصبر نصف الإيمان رواه أبو نعيم والبهيقي في الشعب وقال عمر وجدنا خير عيشنا بالصبر رواه البخاري وقال علي بن أبي طالب ألا إن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فاذا قطع الرأس بار الجسد ثم رفع صوته فقال ألا لا إيمان لمن لا صبر له والأحاديث والآثار في ذلك كثيرة واشتقاقه من صبر اذا حبس منع فالصبر حبس النفس عن الجزع واللسان عن التشكي والسخط والجوارح عن لطم الخدود وشق الجيوب ونحوهما ذكره ابن القيم قال وقوله تعالى ومن يؤمن بالله يهد قلبه ش أول الآية ما اصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه
والله بكل شيء عليم اخبر تعالى أن ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في الأنفس إلا بإذن الله أي بقدره وأمره كما قال في الآية الأخرى إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير قال ابن عباس في قوله إلا بإذن الله إلا بأمر الله يعني من قدره ومشيئته ومن يؤمن بالله يهد قلبه أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله وقدره فصبر واحتسب واستسلم لقضاء الله جازاه الله تعالى بهداية قلبه التي هي أصل كل سعادة وخير في الدنيا والآخرة وقد يخلف عليه أيضا في الدنيا ما أخذه منه أو خيرا منه كما قال وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون قال ابن عباس يهد قلبه اليقين فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وفي الحديث الصحيح عجبا للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيرا له إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له وليس ذلك لأحد الا للمؤمن وقوله والله بكل شيء عليم تبيه على أن ذلك صادر عن علمه المتضمن لحكمته وذلك يوجب الصبر والرضى قوله قال علقمة هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن علقمة وهو صحيح وعلقمة هو ابن قيس بن عبدالله النخعي الكوفي ولد في حياة النبي ﷺ وسمع من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وسعد وابن مسعود وعائشة وغيرهم وهو من
كبار التابعين وأجلائهم وعلمائهم وثقاتهم مات بعد الستين قوله هو الرجل تصيبه المصيبة إلى آخره هذا تفسير للايمان المذكور في الآية لكنه تفسير باللازم وهو صحيح لأن هذا لازم للايمان الراسخ في القلب وقريب منه تفسير سعيد بن جبير ومن يؤمن بالله يهد قلبه يعني يسترجع يقول إنا لله وانا إليه راجعون وفي الآية أن الصبر سبب لهداية القلب وأن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها وان الأعمال من الإيمان وفيها إثبات القدر قال وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال اثنتان في الناس هما بهم كفر الطعن في النسب والنياحة على الميت ش قوله هما أي الاثنتان قوله بهم كفر أي هما بالناس أي فيهم كفر قال قال شيخ الإسلام أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم في بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا في أعمال الكفار وهما قائمتان بالناس لكن ليس من قام به شعبة من شعب الكفر يصير كافرا الكفر المطلق حى تقوم به حقيقة الكفر كما أنه ليس من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير مؤمنا حتى يقوم به أصل الإيمان وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة وبين كفر منكر في الاثبات قوله الطعن في النسب أي عيبه ويدخل فيه أن يقال هذا ليس ابن فلان مع ثبوت نسبه في ظاهر الشرع ذكره بعضهم قوله والنياحة على الميت أي رفع الصوت بالندب بتعديد شمائله
لما في ذلك من التسخط على القدر والجزع المنافي للصبر وذلك كقول النائحة واعضداه واناصراه واكاسياه ونحو ذلك وفيه دليل على أن الصبر واجب لأن النياحة منافية له فإذا حرمت دل على وجوبه وفيه أن من الكفر مالا ينقل عن الملة قال ولهما عن ابن مسعود مرفوعا ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعى بدعوى الجاهلية ش قوله ليس منا هذا من نصوص الوعيد وقد جاء عن سفيان الثوري وأحمد كراهة تاويلها ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر وقيل أي ليس من أهل سنتنا وطريقتنا لأن الفاعل لذلك ارتكب محرما وترك واجبا وليس المراد اخراجه من الإسلام بل المراد المبالغة في الردع عن الوقوع في ذلك كما يقول الرجل لولده عند معاقبته لست مني ولست منك فالمراد ان فاعل ذلك ليس من المؤمنين الذين قاموا بواجبات الإيمان قوله من ضرب الخدود قال الحافظ خص الخد بذلك لكونه الغالب وإلا فضرب بقية الوجه مثله قلت بل ولو ضرب غير الوجه كالصدر فكما لو ضرب الخد فيدخل في معنى ضرب الخد إذ الكل جزع مناف للصبر فيحرم قوله وشق الجيوب جمع جيب وهوالذي يدخل فيه الرأس من الثوب وكانوا يشقونه حزنا على الميت قال الحافظ والمراد إكمال فتحه الى آخره قلت الظاهر أن فتح بعضه كفتحه كله قوله ودعى بدعوى الجاهلية قال شيخ الإسلام هو ندب الميت
وقال غيره هو الدعاء بالويل والثبور وقال الحافظ أي من النياحة ونحوها وكذا الندب به كقولهم واجبلاه وكذا الدعاء بالويل والثبور وقال ابن القيم الدعاء بدعوى الجاهلية كالدعاء الى القبائل والعصبية للانسان ومثله التعصب للمذاهب والطوائف والمشايخ وتفضيل بعض على بعض في الهوى والعصبية وكونه منتسبا اليه يدعو إلى ذلك ويوالي عليه ويعادي ويزن الناس به فكل هذا من دعوى الجاهلية قلت الصحيح أن دعوى الجاهلية يعم ذلك كله وقد جاء لعن من فعل ما في هذا الحديث عن ابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي أمامة أن رسول الله ﷺ لعن الخامشة وجهها والشاقة جيبها والداعية بالويل والثبور وهذا يدل على أن هذه الأمور من الكبائر لأنها مشتملة على التسخط على الرب وعدم الصبر الواجب والاضرار بالنفس من لطم الوجه وإتلاف المال بشق الثياب وتمزيقها وذكر الميت بما ليس فيه والدعاء بالويل والثبور والتظلم من الله تعالى وبدون هذا يثبت التحريم الشديد فأما الكلمات اليسيرة اذا كانت صدقا لا على وجه النوح والتسخط فلا تحرم ولا تنافي الصبر الواجب نص عليه أحمد لما رواه في مسنده عن أنس ان أبا بكر رضي الله عنه دخل على النبي ﷺ بعد وفاته فوضع فمه بين عينيه ووضع يديه على صدغيه وقال وانبياه واخليلاه واصفاه وكذلك صح عن فاطمة رضي الله عنها انها ندبت أباها ﷺ فقالت يا ابتاه اجاب ربا دعاه الحديث واعلم أن الحديث المشروح لا يدل على النهي عن البكاء أصلا وإنما يدل على النهي عما ذكر فيه فقط وكذلك يدل على النهي عما في معناه كالبكاء برنة وحلق الشعر وخمش الوجوه ونحو ذلك أما البكاء على وجه الرحمة والرقة ونحو ذلك
فيجوز بل قال شيخ الإسلام البكاء على الميت على وجه الرحمة حسن مستحب ولا ينافي الرضى بقضاء الله بخلاف البكاء عليه لفوات حظه منه قلت ويدل لذلك قوله عليه السلام لما مات ابنه ابراهيم تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول الا ما يرضي الرب وإنا بك يا ابراهيم لمحزونون وهو في الصحيح وفي الصحيحين عن اسامة بن زيد أن رسول الله ﷺ انطلق الى أحد بناته ولها صبي في الموت فرفع اليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها شن ففاضت عيناه فقال سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وانما يرحم الله من عباده الرحماء قال وعن أنس أن رسول الله ﷺ قال إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة ش هذا الأثر رواه الترمذي والحاكم وحسنه الترمذي وفي اسناده سعد بن سنان قال الذهبي في موضع سعد ليس حجة وفي آخر كأنه غير صحيح وأخرجه الطبراني والحاكم عن عبدالله بن مغفل وأخرجه ابن عدي عن أبي هريرة والطبراني عن عمار بن ياسر وحسنه السيوطي قوله اذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا قال شارح الجامع الصغير أي بصب البلاء والمصائب عليه جزاء لما فرط من الذنوب منه فيخرج منها وليس عليه ذنب يوافى به يوم القيامة كما يعلم من مقابله الآتي ومن فعل ذلك به فقد أعظم اللطف به لأن من حوسب بعمله عاجلا في الدنيا خف جزاؤه عليه حتى يكفر بالشوكة يشاكها حتى بالقلم يسقط من الكاتب فيكفر عن المؤمن بكل ما يلحقه في دنياه حتى يموت على طهارة من دنسه
قلت وفي الصحيح لا يزال البلاء بالعبد حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة وفي المسند وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في جسده وماله وفي ولده حتى يلقى الله وما عليه خطيئة قال شيخ الإسلام المصائب نعمة لأنها مكفرات للذنوب ولأنها تدعو الى الصبر فيثاب عليها ولأنها تقتضي الانابة الى الله والذل له والاعراض عن الخلق الى غير ذلك من المصالح العظيمة فنفس البلاء يكفر الله به الخطايا ومعلوم أن هذا من أعظم النعم ولو كان رجل من أفجر الناس فإنه لا بد أن يخفف الله عنه عذابه بمصائبه فالمصائب رحمة ونعمة في حق عموم الخلق الا أن يدخل صاحبها بسبها في معاصي أعظم مما كان قبل ذلك فتكون شرا عليه من جهة ما أصابه في دينه فإن من الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض أو جوع حصل له من الجزع والسخط والنفاق ومرض القلب أو الكفر الظاهر أو ترك بعض الواجبات وفعل بعض المحرمات ما يوجب له ضررا في دينه بحسب ذلك فهذا كانت العافية خيرا له من جهة ما أورثته المصيبة لا من جهة المصيبة كما أن من أوجبت له المصيبة صبرا وطاعة كانت في حقه نعمة دينية فهي بعينها فعل الرب تعالى رحمة للخلق والله تبارك وتعالى محمود عليها فإن اقترن بها طاعة كان ذلك نعمة ثانية على صاحبها وإن اقترن بها للمؤمن معصية فهذا مما تتنوع فيه أحوال الناس كما تتنوع أحوالهم في العافية فمن ابتلى فرزق الصبر كان الصبر عليه نعمة في دينه وحصل له بعد ما كفر من خطاياه رحمة وحصل له بثنائه على ربه صلاة ربه عليه حيث قال اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون فحصل له غفران السيئات ورفع الدرجات وهذا من أعظم النعم فالصبر واجب على كل مصاب فمن
قام بالصبر الواجب حصل له ذلك انتهى ملخصا قوله وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه اي أخر عنه العقوبة بذنبه قوله حتى يوافي به يوم القيامة هو بضم الياء وكسر الفاء منصوبا بحتى مبنيا للفاعل قال العزيزي أي لا يجازيه بذنبه في الدنيا حتى يجيء في الآخرة مستوفر الذنوب وافيها فيستوفي ما يستحقه من العقاب قلت وهذا مما يزهد العبد في الصحة الدائمة خوفا أن تكون طيباته عجلت له في الحياة الدنيا والله تعالى لم يرض الدنيا لعقوبة أعدائه كما لم يرضها لاثابة أوليائه بل جعل ثوابهم أن أسكنهم في جواره ورضي عنهم كما قال تعالى إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر لهذا لما ذكر النبي ﷺ الأسقام قال رجل يا رسول الله وما الأسقام والله ما مرضت قط قال قم عنا فلست منا رواه أبو داود وهذه الجملة هي آخر الحديث فأما قوله وقال النبي ﷺ إن عظم الجزاء إلى آخره فهو أول حديث آخر لكن لما رواهما الترمذي باسناد واحد عن صحابي واحد جعلهما المصنف كالحديث الواحد وفيه من الفوائد أن البلاء للمؤمن من علامات الخير خلافا لما يظنه كثير من الناس وفيه الخوف من الصحة الدائمة أن تكون علامة شر وفيه تنبيه على رجاء الله وحسن الظن به فيما يقضيه لك مما تكره وفيه معنى قوله تعالى وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم الآية قال المصنف وقال النبي ﷺ إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط حسنه الترمذي
ش هذا الحديث رواه الترمذي ولفظه حديثا قتيبة ثنا الليث عن يزيد ابن أبي حبيب عن سعد بن سنان عن أنس قال قال رسول الله ﷺ إذا أراد الله بعبده الخير الحديث الذي قبل هذا ثم قال وبهذا الإسناد عن النبي ﷺ قال إن عظم الجزاء الحديث ثم قال هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه ورواه ابن ماجه وصححه السيوطي روى الامام أحمد عن محمود بن لبيد مرفوعا إذا أحب الله قوما ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع قال المنذري رواته ثقات قوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء بكسر المهملة وفتح الظاء فيهما ويجوز ضمها مع سكون الظاء أي من كان ابتلاؤه أعظم فجزاؤه أعظم فعظمة الأجر وكثرة الثواب مع عظم البلاء كيفية وكمية جزاء وفاقا قلت ولما كان الانبياء عليهم السلام أعظم الناس جزاء كانوا أشد الناس بلاء كما في حديث سعد سئل النبي ﷺ أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة رواه الدارمي وابن ماجه والترمذي وصححه وقد يحتج بقوله إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ومن يقول إن المصائب والأسقام ويثاب عليها غير تكفير الخطايا ورجح ابن القيم وغيره أن ثوابها تكفير الخطايا فقط إلا أن كانت سببا لعمل صالح كالتوبة والاستغفار والصبر والرضى فإنه حينئذ يثاب على ما تولد منها كما في حديث اذا سبقت للعبد من الله منزلة لم يبلغها أو قال لم ينلها بعمله ابتلاه الله في جسده أو في ولده أو في ماله ثم صبره حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله تعالى
رواه ابو داود في رواية ابن داسة والبخاري في تاريخه وأبو يعلى في مسنده وحسنه بعضهم وعلى هذا فيجاب عن الأول إن عظم الجزاء مع عظم البلاء أي إذا صبر واحتسب قوله وإن الله اذا أحب قوما ابتلاهم صريح في حصول الابتلاء لمن أحبه الله ولما كان الانبياء عليهم السلام أفضل الأحباب كانوا أشد الناس بلاء وأصابهم من البلاء في الله ما لم يصيب أحدا لينالوا بذلك الثواب العظيم والرضوان الأكبر وليأتسي بهم من بعدهم ويعلموا أنهم بشر تصيبهم المحن والبلايا فلا يعبدونهم فإن قلت كيف يبتلي الله أحبابه قيل لما كان أحد لا يخلو من ذنب كان الابتلاء تطهيرا لهم كما صحت بذلك الأحاديث وفي أثر إلهي ابتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعائب ولأنه زيادة في درجاتهم لما يحصل مع المصيبة للمؤمن من الأعمال الصالحة كما تقدم في حديث إذا سبقت للعبد من الله منزلة الحديث ولأن ذلك يدعو الى التوبة فإن الله تعالى يبتلي العباد بعذاب الدنيا ليتوبوا من الذنوب كما قال تعالى ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون فمن رزقه الله التوبة بسبب المصيبة كان ذلك من أعظم نعم الله عليه ولأن ذلك يحصل به دعاء الله والتضرع اليه ولهذا ذم الله من لا يستكين لربه ولا يتضرع عند حصول البأساء كما قال تعالى ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ودعاء الله والتضرع إليه من أعظم النعم فهذه النعمة والتي قبلها من أعظم صلاح الدين فإن صلاح الدين في أن يعبد الله وحده ويتوكل عليه وأن لا تدع مع الله
إلها آخر لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة فإذا حصلت لك التوبة التي مضمونها أن تعبد الله وحده وتطيع رسله بفعل المأمور وترك المحظور كنت ممن يعبد الله وإذا حصل لك الدعاء الذي هو سؤال الله حاجاتك فتسأله ما تنتفع به وتستعيذ به مما تستضر به كان هذا من أعظم نعم الله عليك وهذا كثيرا ما يحصل بالمصائب واذا كانت هذه النعم في المصائب فأولى الناس بها أحبابه فعليهم حينئذ أن يشكروا الله لخصت ذلك من كلام شيخ الإسلام رحمه الله قوله فمن رضي فله الرضى أي من رضي بما قضاه الله وقدره عليه من الابتلاء فله الرضى من الله جزاءا وفاقا كما قال تعالى رضي الله عنهم ورضوا عنه وهذا دليل على فضيلة الرضى وهو أن لا يعترض على الحكم ولا يتسخطه ولا يكرهه وقد وصى النبي ﷺ رجلا فقال لاتتهم الله في شيء قضاه لك فإذا نظر المؤمن بالقضاء والقدر في حكمة الله ورحمته وأنه غير متهم في قضائه دعاه ذلك إلى الرضى قال ابن مسعود إن الله بقسطه وعلمه جعل الروح والفرح في اليقين والرضى وجعل الهم والحزن في الشك والسخط وقال ابن عون ارض بقضاء الله من عسر ويسر فإن ذلك أقل لهمك وأبلغ فيما تطلب من أمر آخرتك واعلم أن العبد لن يصيب حقيقة الرضى حتى يكون رضاه عند الفقر والبلاء كرضاه عند الغنى والرخاء كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفا لهواك ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك لكان فيه هلاكك وترضى قضاءه إذا وافق هواك وذلك لقلة علمك بالغيب إذا كنت كذلك ما أنصفت من نفسك ولا أصبت باب الرضى ذكره ابن رجب قال وهذا كلام حسن
قوله ومن سخط هو بكسر الخاء قال ابو السعادات السخط الكراهية للشيء وعدم الرضى به أي من سخط أقدار الله فله السخط أي من الله وكفى بذلك عقوبة قال تعالى ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم وفيه دليل أن السخط من أكبر الكبائر وقد يستدل به على ايجاب الرضى كما هو اختيار ابن عقيل واختار القاضي عدم الوجوب ورجحه شيخ الإسلام وابن القيم قال شيخ الإسلام ولم يجيء الأمر به كما جاء الأمر بالصبر وإنما جاء الثناء على أصحابه ومدحهم قال وأما ما جاء من الأثر من لم يصبر على بلائي ولم يرض بقضائي فليتخذ ربا سواي فهذا إسرائيلي ليس يصح عن النبي ﷺ قلت قد روى الطبراني في الأوسط معناه عن أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا من لم يرض بقضاء الله ويؤمن بقدر الله فليلتمس إلها غير الله قال الهيثمي فيه حزم بن أبي حزم وثقه ابن معين وضعفه جمع وبقية رجاله ثقات فإن ثبت هذا دل على وجوبه قال شيخ الإسلام وأعلى من ذلك أي من الرضى أن يشكر الله على المصيبة لما يرى من إنعام الله تعالى عليه بها انتهى واعلم أنه لا تنافي بين الرضى وبين الإحساس بالألم فكثير ممن له أنين من وجع وشدة مرض قلبه مشحون من الرضى والتسليم لأمر الله فإن قيل ما الفرق بين الرضى والصبر فالجواب قال طائفة من السلف منهم عمر بن عبد العزيز والفضيل وأبو سليمان وابن المبارك وغيرهم إن الراضي لا يتمنى غير حاله التي هو عليها بخلاف الصابر وقال الخواص الصبر دون الرضى الرضى أن يكون
الرجل قبل نزول المصيبة راض بأي ذاك كان والصبر أن يكون بعد نزول المصيبة يصبر قلت كلام الخواص هذا عزم على الرضى ليس هو الرضى فإنه إنما يكون بعد القضاء كما في الحديث وأسألك الرضى بعد القضاء لأن العبد قد يعزم على الرضى بالقضاء قبل وقوعه فإذا وقع انفسخت تلك العزيمة فمن رضي بعد وقوع القضاء فهو الراضي حقيقة قاله ابن رجب باب ما جاء في الرياء أي من الوعيد ولما كان خلوص العمل من الشرك والرياء شرطا في قبوله لمنافاة الشرك والرياء للتوحيد نبه المصنف على ذلك تحقيقا للتوحيد والرياء مصدر راءى يرائي مراءاة ورياء وهو أن يري الناس أنه يعمل عملا على صفة وهو يضمر في قلبه صفة أخرى فلا اعتداد ولا ثواب إلا بما خلصت فيه النية لله تعالى ذكره القاضي أبو بكر بمعناه وقال الحافظ هو مشتق من الرؤية والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها انتهى والفرق بينه وبين السمعة أن الرياء هو العمل لرؤية الناس والسمعة العمل لأجل سماعهم فالرياء يتعلق بحاسة البصر والسمعة بحاسة السمع ويدخل فيه أن يخفي عمله لله ثم يحدث به الناس قال وقول الله تعالى قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد الآية
يقول تعالى لنبيه ﷺ قل يا محمد للناس إنما أنا بشر مثلكم أي في البشرية ولكن الله من علي وفضلني بالرسالة وليس لي من الربوبية ولا من الإلهية شيء بل ذلك لله وحده لا شريك له كما قال يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد أي معبودكم الذي أدعوكم الى عبادته إله واحد لا شريك له فمن كان يرجو لقاء ربه أي من كان يخاف لقاء الله يوم القيامة قال شيخ الإسلام أما اللقاء فقد فسره طائفة من السلف والخلف بما يتضمن المعاينة والمشاهدة بعد السلوك والسير وقالوا إن لقاء الله يتضمن رؤيته سبحانه وتعالى وأطال في ذلك واحتج له وقال سعيد بن جبير فمن كان يرجو لقاء ربه قال من كان يخشى البعث في الآخرة رواه ابن أبي حاتم فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا أي كائنا ما كان قال ابن القيم أي كما أنه إله واحد لا إله سواه فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده لا شريك له فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية فالعمل الصالح هو الخالص من الرياء المقيد بالسنة انتهى وهذان ركنا العمل المتقبل لا بد أن يكون صوابا خالصا فالصواب أن يكون على السنة وإليه الاشارة بقوله فليعمل عملا صالحا والخالص ان يخلص من الشرك الجلي والخفي واليه الاشارة بقوله ولا يشرك بعبادة ربه أحدا روى عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن أبي حاتم والحاكم عن طاوس قال قال رجل يا نبي الله إني أقف المواقف أبتغي وجه الله وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا رواه الحاكم وصححه موصولا عن طاوس عن ابن عباس
وفي الآية دليل على الشهادتين وأن الله تعالى فرض على نبينا أن يخبرنا بتوحيد الإلهية وإلا فتوحيد الربوبية لم ينكره الكفار الذين كذبوه وقاتلوه ذكره المصنف وفيها تسمية الرياء شركا وفيها أن من شروط الإيمان بالله واليوم الآخر أن لا يشرك بعبادة ربه أحدا ففيه التصريح بأن الشرك الواقع من المشركين إنما هو في العبادة لا في الربوبية وفيها الرد على من قال اولئك يتشفعون بالأصنام ونحن نتشفع بصالح لأنه قال ولا يشرك بعبادة ربه أحدا فليس بعد هذا بيان افتتح الآية بذكر براءة النبي ﷺ الذي هو أقرب الخلق الى الله وسيلة أي براءته من الإلهية وختمها بقوله أحدا واعلم رحمك الله أن هذه الآية المعرفة التي تنفعه إلا من ميز بين توحيد الربوبية وبين توحيد الالهية تمييزا تاما وعرف ما عليه غالب الناس إما طواغيت ينازعون الله في توحيد الربوبية الذي لم يصل اليه شرك المشركين وإما مصدق لهم تابع لهم وإما شاك لا يدري ما أنزل الله على رسوله ولا يميز بين دين الرسول ﷺ وبين دين النصارى ذكره المصنف وفيها أن أصل دين النبي ﷺ الذي بعث به هو الاخلاص كما في هذه الآية وقوله كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ألا تعبدوا الا الله إنني لكم منه نذير وبشير وذلك هو دعوة الرسل من أولهم إلى آخرهم كما قال تعالى وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي اليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وذلك هو الحنيفية الإبراهيمية جعلنا الله من أهلها بمنه وكرمه قال عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا قال الله تعالى أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه رواه مسلم
ش قوله أنا أغنى الشركاء عن الشرك لما كان المرائي قاصدا بعمله الله تعالى وغيره كان قد جعل الله تعالى شريكا فإذا كان كذلك فالله تعالى هو الغني على الاطلاق والشركاء بل جميع الخلق فقراء اليه بكل اعتبار فلا يليق بكرمه وغناه التام أن يقبل العمل الذي جعل له فيه شريك فإن كماله تبارك وتعالى وكرمه وغناه يوجب أن لا يقبل ذلك ولا يلزم من اسم التفضيل إثبات غنى للشركاء فقد تقع المفاضلة بين الشيئين وإن كان أحدهما لا فضل فيه كقوله تعالى آلله خير أما يشركون وقوله تعالى أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا وأحسن مقيلا قوله من عمل عملا اشرك معي فيه غيري أي من قصد بذلك العمل الذي يعمله لوجهي غيري من المخلوقين تركته وشركه وفي رواية عند ابن ماجه وغيره فأنا منه بريء وهو للذي أشرك قال الطيبي الضمير المنصوب في تركته يجوز أن يرجع إلى العمل والمراد من الشرك الشريك قال ابن رجب واعلم أن العمل لغير الله أقسام فتارة يكون رياء محضا فلا يراد به سوى مراءاة المخلوقين لغرض دنيوي كحال المنافقين في صلاتهم كما قال تعالى وإذا قاموا الى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس وكذلك وصف الله الكفار بالرياء في قوله ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض الصلاة والصيام وقد يصدر في الصدفة الواجبة أو الحج أو غيرهما من الأعمال الظاهرة أو التي يتعدى نفعها فإن الاخلاص فيها عزيز وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة وتارة يكون العمل لله ويشاركه الرياء فإن
شاركه من أصله فالنصوص الصحيحة تدل على بطلانه ثم ذكر أحاديث تدل على ذلك منها الحديث الذي ذكره المصنف وحديث شداد بن أوس مرفوعا من صلى يرائي فقد أشرك ومن صام يرائي فقد أشرك ومن تصدق يرائي فقد أشرك وإن الله تعالى يقول أنا خير قسيم لمن أشرك بي فمن اشرك بي شيئا فإن جدة عمله وقليله وكثيره لشريكه الذي أشرك به أنا عنه غني رواه أحمد وحديث الضحاك بن قيس مرفوعا إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله لا يقبل من الأعمال الا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله والرحم فإنها للرحم وليس لله منه شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنه لوجوهكم وليس لله منه شيء رواه البزار وابن مردويه والبهيقي بسند قال المنذري لا بأس به وحديث أبي أمامة الباهلي أن رجلا جاء الى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ماله فقال رسول الله ﷺ لا شيء له فأعادها عليه ثلاث مرات يقول له رسول الله ﷺ لا شيء له ثم قال إن الله لا يقبل من العمل الا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه رواه أبو داود والنسائي باسناد جيد ثم قال فإن خالط نية الجهاد مثلا نية غير الرياء مثل أخذ أجرة للخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة نقص بذلك أجر جهادهم ولم يبطل بالكلية وفي صحيح مسلم عن عبدالله ابن عمر عن النبي ﷺ إن الغزاة اذا غنموا غنيمة تعجلوا ثلثي أجرهم فإن لم يغنموا شيئا تم لهم أجرهم قلت هذا لا يدل على أنهم غزوا لأجلها فلا يدل على ثبوت الأجر لمن غزا يلتمس عرضا قال وقد ذكرنا فيما مضى أحاديث تدل على أن من أراد بجهاده عرضا من الدنيا أنه لا أجر له وهي محمولة على أنه لم يكن له غرض في الجهاد الا الدنيا قلت ظاهر حديث أبي هريرة أن رجلا قال يا رسول الله رجل يريد الجهاد وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا فقال رسول الله ﷺ
لا أجر له فأعاد عليه ثلاثا والنبي ﷺ يقول لا أجر له رواه أبو داود يدل على أن نية الجهاد إذا خالطها نية أجرة الخدمة أو أخذ شيء من الغنيمة أو التجارة لم يكن له أجر ويحتمل أن يكون معنى يريد الجهاد أي يريد سفر الجهاد ولم ينو الجهاد انما نوى عرض الدنيا قال ابن رجب وقال الامام أحمد التاجر والمستأجر والمكاري أجرهم على قدر ما يخلص من نيتهم في غزواتهم ولا يكونون مثل من جاهد بنفسه وماله لا يخلط به غيره وقال أيضا فيمن يأخذ جعلا على الجهاد اذا لم يخرج لأجل الدراهم فلا بأس كأنه خرج لدينه فإن أعطي شيئا أخذه وكذا روي عن عبد الله ابن عمرو قال إذا أجمع أحدكم على الغزو فعوضه الله رزقا فلا بأس بذلك وإما أن أحدكم إن أعطي درهما غزا وإن لم يعط درهما لم يغز فلا خير في ذلك قلت هذا يدل على الفرق بين ما كانت نية الدنيا مخالطة له من أول مرة بحيث تكون هي الباعث له على العمل أو من جملة ما يبعث عليه كالذي يلتمس الأجر والذكر فهذا الأجر له وبين ما كانت النية خالصة لله من أول مرة ثم عرض له أمر من الدنيا لا يبالي به سواء حصل له أو لم يحصل كالذي أجمع على الغزو سواء أعطي أو لم يعط فهذا لا يضره ونحوه التجارة في الحج كما قال تعالى ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم وعلى هذا ينزل ما روي عن مجاهد أنه قال في حج الجمال وحج الأجير وحج التاجر هو تام لا ينقص من أجورهم شيء أي لأن قصدهم الأصلي كان هو الحج دون التكسب قال وأما إن كان أصل العمل لله ثم طرأ عليه نية الرياء فإن كان خاطرا ودفعه فلا يضره بغير خلاف وإن استرسل معه فهل يحبط عمله أم لا يضره ذلك ويجازى على أصل نيته في ذلك اختلاف بين العلماء من
السلف حكاه الإمام أحمد وابن جرير الطبري ورجحا ان عمله لا يبطل بذلك وأنه يجازى بنيته الأولى وهو مروي عن الحسن البصري وغيره ويستدل لهذا القول بما أخرجه أبو داود في مراسيله عن عطاء الخراساني أن رجلا قال يا رسول الله إن بني سلمة كلهم يقاتل فمنهم من يقاتل للدنيا ومنهم من يقاتل نجدة ومنهم من يقاتل ابتغاء وجه الله قال كلهم إذا كان اصل أمره ان تكون كلمة الله هي العليا وذكره ابن جرير أن هذا الاختلاف إنما هو عمل مرتبط آخره بأوله كالصلاة والصيام والحج فأما مالا ارتباط فيه كالقراءة والذكر وانفاق المال ونشر العلم فإنه ينقطع بنية الرياء الطارئة عليه ويحتاج الى تجديد نية فأما اذا عمل العمل لله خالصا ثم ألقى الله له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين ففرح بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره وفي هذا المعنى جاء في حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه فقال تلك عاجل بشرى المؤمن رواه مسلم انتهى ملخصا إذا تبين هذا فقد دل الكتاب والسنة على حبوط العمل بالرياء وجاء الوعيد بالعذاب عليه قال الله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف اليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون والآية بعدها وروى مسلم في صحيحه حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار المقاتل ليقال جريء والمتعلم ليقال عالم والمتصدق ليقال جواد فأما ما رواه البزار وابن مندة والبيهقي عن معاذ بن جبل مرفوعا من عمل رياء لا يكتب لاله ولا عليه ذكره السيوطي في الدر ولم أقف على إسناده فما أظنه يثبت والكتاب والسنة يدلان على خلافه بل هو موضوع
قال وعن أبي سعيد مرفوعا ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال قالوا بلى قال الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل رواه أحمد ش هذا الحديث رواه أحمد كما قال المصنف ورواه ابن ماجه وابن أبي حاتم والبيهقي وفيه قصة ولفظ ابن ماجه والبيهقي خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتذاكر المسيح الدجال فقال ألا أخبركم الحديث وفي سنده ضعف ومعناه صحيح وروى ابن خزيمة في صحيحه معناه عن محمود بن لبيدة قال خرج النبي ﷺ فقال يا أيها الناس إياكم وشرك السرائر قالوا يا رسول الله وما شرك السرائر قال يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته جاهدا لما يرى من نظر الرجل اليه فذلك شرك السرائر قوله عن أبي سعيد هو الخدري تقدمت ترجمته قوله ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم من المسيح الدجال إنما كان الرياء كذلك لخفائه وقوة الداعي إليه وعسر التخلص منه لما لا يزينه الشيطان والنفس الأمارة في قلب صاحبه قوله قالوا بلى فيه الحرص على العلم وأن من عرض عليك أن يخبرك بما فيك ينبغي لك رده بل قابله بالقبول والتعلم قوله قال الشرك الخفي سمي الرياء شركا خفيا لأن صاحبه يظهر أن عمله لله ويخفي في قبله أنه لغيره وإنما تزين باظهاره أنه لله بخلاف الشرك الجلي وفي حديث محمود بن لبيد الذي تقدم في باب الخوف من الشرك تسميته بالشرك الأصغر وعن شداد بن اوس قال كنا نعد الرياء على عهد رسول الله ﷺ الشرك الأصغر رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الاخلاص وابن جرير في
التهذيب والطبراني والحاكم وصححه فظاهره أنه من الأصغر مطلقا وهو ظاهر قول الجمهور وقال ابن القيم وأما الشرك الأصغر فكيسير الرياء والتصنع للخلق والحلف بغير الله وقول الرجل للرجل ما شاء الله وشئت وهذا من الله ومنك وأنا بالله وبك وما لي إلا الله وأنت وأنا متوكل على الله وعليك ولولا الله وأنت لم يكن كذا وكذا وقد يكون هذا شركا أكبر بحسب حال قائله ومقصده انتهى ففسر الشرك الأصغر باليسير من الرياء فدل على أن كثيره أكبر وضد الشرك الأكبر والأصغر التوحيد والإخلاص وهو إفراد الله تعالى بالعبادة باطنا وظاهرا كما قال تعالى فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص وقال تعالى قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصا له الدين وقال تعالى قل الله أعبد مخلصا له ديني وقيل الإخلاص استواء أحوال العبد في الظاهر والباطن والرياء أن يكون ظاهره خيرا من باطنه أي لملاحظة الخلق والصدق في الإخلاص أن يكون باطنه أعمر من ظاهره قوله فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل فسر الشرك الخفي بهذا أن يعمل الرجل العمل لله لكن يزيد فيه صفة كتحسينه وتطويله ونحو ذلك لما يرى من نظر رجل فهذا هو الشرك الخفي وهو الرياء والحامل له على ذلك هو حب الرياسة والجاه عند الناس قال الطيبي وهو من أضر غوائل النفس وبواطن مكائدها يبتلى به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك طريق الآخرة فانهم مهما قهروا أنفسهم وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشبهات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح فطلبت الاستراحة الى الظاهر بالخير وإظهار العلم والعمل فوجدت
مخلصا من مشقة المجاهدة الى لذة القبول عند الخلق ولم يقتنع باطلاع الخالق تبارك وتعالى وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده فأحببت مدحهم وتبركهم بمشاهدته وخدمته وإكرامه وتقديمه في المحافل فأصابت النفس في ذلك أعظم اللذات وأعظم الشهوات وهو يظن أن حياته بالله تعالى وبعباداته وإنما حياته هذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافدة قد أثبت اسمه عند الله من المنافقين وهو يظن أنه عند الله من عباده المقربين وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون ولذلك قيل آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة انتهى كلامه وفي الحديث من الفوائد شفقته ﷺ على أمته ونصحه لهم وأن الرياء أخوف على الصالحين من فتنة الدجال والحذر من الرياء ومن الشرك الأكبر إذ كان ﷺ يخاف الرياء على أصحابه مع علمهم وفضلهم فغيرهم أولى بالخوف باب من الشرك إرادة الانسان بعمله الدنيا قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ بل المراد بهذا أن يعمل الانسان عملا صالحا يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك ولهذا سماه النبي ﷺ عبدا لذلك بخلاف المرائي فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها والمرائي عمل لأجل المدح والجلالة في أعين الناس وكلاهما خاسر نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه
قال وقوله تعالى من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها الآية قال ابن عباس من كان يريد الحياة الدنيا أي ثوابها أي مآلها وزينتها نوف إليهم نوفر لهم ثواب أعمالهم بالصحة والسرور في الأهل والمال والولد وهم فيها لا يبخسون لا ينقصون ثم نسختها ومن كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد الآية رواه النحاس في ناسخه وقوله ثم نسختها أي قيدتها أو خصصتها فإن السلف كانوا يسمون التقيد والتخصيص نسخا وإلا فالآية محكمة وقال الضحاك من عمل صالحا من أهل الايمان من غير تقوى عجل له ثواب عمله في الدنيا واختاره الفراء قال ابن القيم وهذا القول أرجح ومعنى الآية على هذا من كان يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها وقالت طائفة هذه الآية في حق الكفار بدليل قوله أولئك الذين ليس لهم في الآخرة الا النار أي انهم لم يعملوا إلا للحياة الدنيا وزينتها وحبط ما صنعوا فيها قال بعض المفسرين أي وحبط في الآخرة ما صنعوه أو صنيعهم يعني لم يكن لهم ثواب لأنهم لم يريدوا به الآخرة إنما أرادوا به الدنيا وقد وفى اليهم ما أرادوا وباطل ما كانوا يعملون أي كان عمله في نفسه باطلا لأنه لم يعمل لوجه صحيح والعمل الباطل لا ثواب له انتهى فإن قيل الآية على القول الأول تقتضي تخليد المؤمن من المريد بعمله الدنيا في النار قيل إن الله سبحانه ذكر جزاء من يريد بعمله الحياة الدنيا وزينتها
وهو النار وأخبر بحبوط عمله وبطلانه فإذا أحبط ما ينجو به وبطل لم يبق معه ما ينجيه فإن كان معه إيمان لم يرد به الحياة الدنيا وزينتها بل أراد به الله والدار الآخرة لم يدخل هذا الإيمان في العمل الذي حبط وبطل ونجاه هذا الإيمان من الخلود في النار وإن دخلها بحبوط عمله الذي به النجاة المطلقة فالإيمان إيمانان إيمان يمنع دخول النار وهو الإيمان الباعث على أن تكون الأعمال لله وحده يبتغى بها وجهه وثوابه وإيمان يمنع الخلود في النار فإن كان مع المرائي شيء منه وإلا كان من أهل الخلود فالآية لها حكم نظائرها من آيات الوعيد ذكره ابن القيم وقد سئل شيخ الاسلام المصنف عن معنى هذه الآية فأجاب بما ملخصه ذكر عن السلف من أهل العلم فيها أنواع مما يفعله الناس اليوم ولا يعرفون معناه فمن ذلك العمل الصالح الذي يفعله كثير من الناس ابتغاء وجه الله من صدقة وصلاة وإحسان الى الناس وترك ظلم ونحو ذلك مما يفعله الانسان أو يتركه خالصا لله لكنه لا يريد ثوابه في الآخرة إنما يريد أن يجازيه الله بحفظ ماله وتنميته أو حفظه أهله وعياله أو إدامة النعم عليهم ولا همة له في طلب الجنة والهرب من النار فهذا يعطي ثواب عمله في الدنيا وليس له في الآخرة نصيب وهذا النوع ذكره ابن عباس النوع الثاني وهو اكبر من الأول وأخوف وهو الذي ذكر مجاهد في الآية أنها نزلت فيه وهوأن يعمل أعمالا صالحة ونيته رياء الناس لا طلب ثواب الآخرة النوع الثالث أن يعمل أعمالا صالحة يقصد بها مالا مثل أن يحج لمال يأخذه لا لله أو يهاجر لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها أو يجاهد لأجل الغنم
فقد ذكر أيضا هذا النوع في تفسير هذه الآية وكما يتعلم الرجل لأجل مدرسة أهله أو مكتبهم أو رياستهم أو يتعلم القرآن ويواظب على الصلاة لاجل وظيفة المسجد كما هو واقع كثيرا وهؤلاء أعقل من الذين قبلهم لأنهم عملوا لمصلحة يحصلونها والذين قبلهم عملوا من أجل المدح والجلالة في أعين الناس ولا يحصل لهم طائل والنوع الأول أعقل من هؤلاء لأنهم عملوا لله وحده لا شريك له لكن لم يطلبوا منه الخير الكثير الدائم وهو الجنة ولم يهربوا من الشر العظيم وهو النار النوع الرابع أن يعمل بطاعة الله مخلصا في ذلك لله وحده لا شريك له لكنه على عمل يكفره كفرا يخرجه عن الإسلام مثل اليهود والنصارى إذا عبدوا الله او تصدقوا أو صاموا ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ومثل كثير من هذه الأمة الذين فيهم كفر أو شرك أكبر يخرجهم من الإسلام الكلية اذا أطاعوا الله طاعة خالصة يريدون بها ثواب الله في الدار الآخرة لكنهم على أعمال تخرجهم من الإسلام وتمنع قبول أعمالهم فهذا النوع أيضا قد ذكر في هذه الآية عن أنس بن مالك وغيره وكان السلف يخافون منها قال بعضهم لو أعلم أن الله تقبل مني سجدة واحدة لتمنيت الموت لأن الله يقول إنما يتقبل الله من المتقين ثم قال بقي أن يقال إذا عمل الرجل الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج ابتغاء وجه الله طالبا ثواب الآخرة ثم بعد ذلك عمل أعمالا قاصدا بها الدنيا مثل أن يحج فرضه لله ثم يحج بعده لأجل الدنيا كما هو واقع فهو لما غلب عليه منهما وقد قال بعضهم القرآن كثيرا ما يذكر أهل الجنة الخلص وأهل النار الخلص ويسكت عن صاحب الشائبتين وهو
هذا وأمثاله انتهى وقد اجاد وافاد رحمه الله وفي الآية من الفوائد أن الشرك محبط للأعمال وأن إرادة الدنيا وزينتها بالعمل كذلك وأن الله يجازي الكافر بحسناته وكذلك طالب الدنيا ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة الخامسة شدة الوعيد على ذلك السادسة الفرق بين الحبوط والبطلان قال في الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم وتعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة إن أعطي رضي وان لم يعط سخط تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أشعث رأسه مغبرة قدماه إن كان في الحراسة كان في الحراسة وإن كان في الساقة كان في الساقة إن استأذن كم يؤذن له وإن شفع لم يشفع قوله في الصحيح أي صحيح البخاري قوله تعس عبد الدينار هو بكسر العين ويجوز الفتح أي سقط والمراد هنا هلك قاله الحافظ وقال في موضع آخر وهو ضد سعد أي شقي وقيل معنى التعس الكبة على الوجه قال أبو السعادات يقال تعس يتعس إذا عثر وانكب لوجهه وهو دعاء عليه بالهلاك قوله تعس عبد الخميصة قال أبو السعادات هو ثوب خز أو صوف معلم وقيل لا تسمى خميصة إلا أن تكون سوداء معلمة وكانت من لباس الناس قديما وجمعها الخمائص والخميلة بفتح الخاء المعجمة قال أبو السعادات الخميل والخميلة القطيفة وهي ثوب له خمل من اي شيء كان وقيل الخميل الأسود من الثياب قوله تعس وانتكس قال الحافظ هو بالمهملة أي عاوده المرض وقال
أبو السعادات أي انقلب على رأسه وهو دعاء عليه بالخيبة أن من انتكس في أمره فقد خاب وخسر وقال الطيبي وفيه الترقي بالدعاء عليه لأنه إذا تعس انكب على وجهه فإذا انتكس انقلب على رأسه بعد ان سقط قوله واذا شيك أي اصابته شوكة فلا انتقش قال أبو السعادات أي إذا شاكته شوكة فلا يقدر على انتقاشها وهو إخراجها بالمنقاش وقال الحافظ أي إذا دخلت فيه شوكة لم يجد من يخرجها بالمنقاش قال وفي الدعاء عليه بذلك إشارة إلى عكس مقصوده لأن من عثر فدخلت في رجله الشوكة فلم يجد من يخرجها يصير عاجزا عن السعي والحركة في تحصيل مصالح الدنيا وقال الطيبي المعنى أنه إذا وقع في البلاء لا يترحم عليه فإن من وقع في البلاء اذا ترحم له الناس ربما هان الخطب عليه ويتسلى بعض التسلي وهؤلاء بخلافه بل يزيد غيظهم بفرح الأعداء أو شماتتهم فان قيل لم سماه النبي ﷺ عبد الدينار والدرهم قيل لما كان هو مقصوده ومطلوبه الذي عمل له وسعى في تحصيله بكل ممكن حتى صارت نيته مقصورة عليه يغضب ويرضى له صار عبدا له قال شيخ الإسلام فسماه النبي ﷺ عبد الدينار والدرهم وعبد القطيفة وعبد الخميصة وذكر فيه ما هو دعاء وخبر وهو قوله تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش وهذه حال من أصابه شر لم يخرج منه ولم يفلح لكونه تعس وانتكس فلا نال المطلوب ولا خلص من المكروه وهذه حال من عبد المال وقد وصف ذلك بأنه إن أعطي رضي وإن منع سخط كما قال تعالى ومنهم من يلمزم في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله
وهكذا حال من كان متعلقا برئاسة أو بصورة او نحو ذلك من أهواء نفسه إن حصل له رضي وإن لم يحصل له سخط فهذا عبد ما يهواه من ذلك وهو رقيق له إذ الرق والعبودية في الحقيقة هو رق القلب وعبوديته فما استرق القلب واستعبده فهو عبده إلى أن قال وهكذا أيضا طالب المال فإن ذلك يستعبده ويسترقه وهذه الأمور نوعان فمنها ما يحتاج إليه العبد كما يحتاج الى طعامه وشربه ومنكحه ومسكنه ونحو ذلك فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه فيكون المال عنده يستعمله في حاجته بمنزلة حماره الذي يركبه وبساطه الذي يجلس عليه من غير أن يستعبدوه فيكون هلوعا ومنها ما لا يحتاج إليه العبد فهذه ينبغي أن لا يعلق قلبه بها فإذا تعلق قلبه بها صار مستعبدا لها وربما صار مستعبدا معتمدا على غير الله فيها فلا يبقى معه حقيقة العبودية لله ولا حقيقه التوكل عليه بل فيه شعبة من العبادة لغير الله وشعبة من التوكل على غير الله وهذا من أحق الناس بقوله ﷺ تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة وهذا هو عبد لهذه الأمور ولو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي وإن منعه اياها سخط وانما عبد الله من يرضيه ما يرضي الله ويسخطه ما يسخط الله ويحب ما أحب الله ورسوله ويبغض ما أبغض الله ورسوله ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله فهذا الذي استكمل الإيمان انتهى ملخصا قوله طوبى لعبد قال أبو السعادات طوبى اسم الجنة وقيل هي شجرة فيها قلت قد روى ابن وهب عن عمرو بن الحارث أن دراجا حدثه أن ابا الهيثم حدثه عن أبي سعيد في حديث فقال رجل يا رسول الله وما طوبى قال شجرة في الجنة مسيرة مائة سنة ثياب
اهل الجنة تخرج من اكمامها رواه حرملة عنه ورواه أحمد في مسنده من حديث عتبة بن عبد السلمي جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فسأله عن الحوض وذكر الجنة ثم قال الأعرابي وفيها فاكهة قال نعم وفيها شجرة تدعى طوبى الحديث قال الزجاج في قوله طوبى لهم ومعناه العيش الطيب وقال ابن الأنباري الحال المستطابة لهم لأنه فعلى من الطيب وقيل معناه هنيئا بطيب العيش لهم وهذه الأقوال ترجع إلى قول واحد قوله أخذ بعنان فرسه في سبيل الله أي في طريق الجهاد قوله أشعث راسه هو بنصب أشعث صفة لعبد لأنه غير مصروف للصفة ووزن الفعل ورأسه مرفوع على الفاعلية لأشعث وهو مغبر الرأس وفيه فضل إصابة الغبار في سبيل الله قوله مغبرة قدماه هو كأشعث في الإعراب والمراد به كثرة الغبار له في سبيل الله لكثرة جهاده ومصابرته قوله إن كان في الحراسة قال بعضهم هو بكسر الحاء أي حماية الجيش ومحافظتهم عن أن يهجم عليهم عدوهم قوله كان في الحراسة أي امتثل غير مقصر فيها بالنوم والغفلة ونحوهما قوله وإن كان في الساقة كان في الساقة أي أن جعل في مؤخرة الجيش صارفيها ولزمها وقال ابن الجوزي المعنى أنه خامل الذكر لا يقصد السمو فأي موضع اتفق له كان فيه وقال الخلخالي المعنى ائتماره لما أمر وإقامته حيث أقيم لا يفقد من مكانه وإنما ذكر الحراسة والساقة لأنهما أشد مشقة وأكثر آفة قلت وفيه فضيلة الحرس في سبيل الله
قوله إن استأذن لم يؤذن له أي إن استأذن على الأمراء ونحوهم لم يأذنوا له لأنه ليس بذي جاه ولا يقصد بعمله الدنيا فيطلبها منهم ويتردد إليهم لأجلها بل هو مخلص لله قوله وإن شفع بفتح أوله وثانيه مبني للفاعل ويشفع بتشديد الفاء مبني للمفعول والمراد والله اعلم أنه لا يشفع عند الملوك ونحوهم لعدم جاهه عندهم وعلى تقدير شفاعته إن شفع لم يشفع بل يرون شفاعته قال بعضهم قيل إن هذا إشارة إلى عدم التفاته إلى الدنيا وأربابها بحيث لا يبتغي مالا ولا جاها عند الناس بل يكون عند الله وجيها ولم يقبل الناس شفاعته ويكون عند الله شفيعا مشفعا كما في الحديث الذي رواه أحمد ومسلم عن أبي هريرة مرفوعا رب أشعث مدفوع بالأبواب لو اقسم على الله لأبره وقال الحافظ فيه ترك حب الرئاسة والشهرة وفضل لخمول والتواضع قلت وفيه أن هذه الأمور ونحوها لا تكون لهوان المؤمن على الله بل الكرامته وفيه الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات قاله المصنف باب ومن أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه الله فقد اتخذهم أربابا من دون الله ش لما كانت الطاعة من أنواع العبادة بل هي العبادة فإنها طاعة الله بامتثال ما امر به على ألسنة رسله عليهم السلام نبه المصنف رحمه الله تعالى بهذه
الترجمة على وجوب اختصاص الخالق تبارك وتعالى بها وأنه لا يطاع أحد من الخلق الا حيث كانت طاعته مندرجة تحت طاعة الله وإلا فلا تجب طاعة احد من الخلق استقلالا والمقصود هنا الطاعة الخاصة في تحريم الحلال أو تحليل الحرام فمن أطاع مخلوقا في ذلك غير الرسول ﷺ فإنه لا ينطق عن الهوى فهو مشرك كما بينه الله تعالى في قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أي علماءهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وفسرها النبي ﷺ بطاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام كما سيأتي في حديث عدي فإن قيل قد قال الله تعالى أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم قيل هم العلماء وقيل هم الأمراء وهما روايتان عن أحمد قال ابن القيم والتحقيق بأن الآية تعم الطائفتين قيل إنما تحب طاعتهم اذا أمروا بطاعة الله وطاعة رسوله فكان العلماء مبلغين لأمر الله وامر رسوله والأمراء منفذين له فحينئذ تجب طاعتهم تبعا لطاعة الله ورسوله كما قال ﷺ لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف وقال على المرء المسلم السمع والطاعة ما لم يؤمر بمعصية فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة حديثان صحيحان فليس في هذه الآية ما يخالف آية براءة قال وقال ابن عباس يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول قال رسول الله ﷺ وتقولون قال أبو بكر وعمر
ش قوله يوشك بضم أوله وكسر الشين المعجمة قال أبو السعادات أي يقرب ويدنو ويسرع وهذا الكلام قاله ابن عباس لمن ناظره في متعة الحج وكان ابن عباس يأمر بها فاحتج عليه المناظر بنهي أبي بكر وعمر عنها أي هما اعلم منك وأحق بالاتباع فقال هذا الكلام الصادر عن محض الايمان وتجريد المتابعة للرسول ﷺ وإن خالفه من خالفه كائنا من كان كما قال الشافعي أجمع العلماء على أن من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له أن يدعها لقول أحد فإذا كان هذا كلام ابن عباس لمن عارضه بأبي بكر وعمر وهما هما فماذا تظنه يقول لمن يعارض سنن الرسول ﷺ بإمامه وصاحب مذهبه الذي ينتسب اليه ويجعل قوله عيارا على الكتاب والسنة فما وافقه قبله وما خالفه رده أو تأوله فالله المستعان وما أحسن ما قال بعض المتاخرين ... فإن جاءهم فيه الدليل موافقا ... لما كان للآبا اليه ذهاب ... رضوه وإلا قيل هذا مؤول ... ويركب للتأويل فيه صعاب ... ولا ريب أن هذا داخل في قوله تعالى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية قال المصنف وقال أحمد بن حنبل عجبت لقوم عرفوا الاسناد وصحته يذهبون الى راي سفيان والله تعالى يقول فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة اتدري ما الفتنة الفتنة الشرك لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ش هذا الكلام من أحمد رواه عنه الفضل بن زياد وأبو طالب قال الفضل عن أحمد نظرت في المصحف فوجدت طاعة الرسول في ثلاثة وثلاثين موضعا ثم جعل يتلو فليحذر الذين يخالفون عن امره أن تصيبهم فتنة الآية وجعل
يكررها ويقول وما الفتنة إلا الشرك لعله إذا أراد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيزيغ قلبه فيهلكه وجعل يتلو هذه الآية فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم وقال أبو طالب عن أحمد وقيل له إن قوما يدعون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان فقال اعجبت لقوم سمعوا الحديث وعرفوا الاسناد وصحته يدعونه ويذهبون إلى رأي سفيان وغيره قال الله فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم وتدري ما الفتنة الكفر قال الله تعالى والفتنة اكبر من القتل فيدعون الحديث عن رسول الله ﷺ وتغلبهم أهواؤهم إلى الرأي ذكر ذلك شيخ الإسلام قلت وكلام أحمد في ذمه التقليد وإنكار تأليف كتب الراي كثير مشهور قوله عرفوا الاسناد أي اسناد الحديث وصحته أي صحة الاسناد وصحته دليل على صحة الحديث قوله يذهبون الى رأي سفيان أي الثوري الإمام الزاهد العابد الثقة الفقيه وكان له أصحاب ومذهب مشهور فانقطع ومراد أحمد الانكار على من يعرف اسناد الحديث وصحته ثم بعد ذلك يقلد سفيان أو غيره ويعتذر بالأعذار الباطلة إما بأن الأخذ بالحديث اجتهاد والاجتهاد انقطع منذ زمان وإما بأن هذا الإمام الذي قلدته أعلم مني فهو لا يقول الا بعلم ولا يترك هذا الحديث مثلا الا عن علم وإما بأن ذلك اجتهاد ويشترط في المجتهد أن يكون عالما بكتاب الله عالما بسنة رسول الله ﷺ وناسخ ذلك
ومنسوخه وصحيح السنة وسقيمها عالما بوجوه الدلالات عالما بالعربية والنحو والأصول ونحو ذلك من الشروط التي لعلها لا توجد تامة في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما كما قاله المصنف فيقال له هذا إن صح فمرادهم بذلك المجتهد المطلق أما أن يكون ذلك شرطا في جواز العمل بالكتاب والسنة فكذب على الله وعلى رسوله ﷺ وعلى أئمة العلماء بل الفرض والحتم على المؤمن إذا بلغه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وعلم معنى ذلك في أي شيء كان أن يعمل به ولو خالفه من خالفه فبذلك أمرنا ربنا تبارك وتعالى ونبينا ﷺ وأجمع على ذلك العلماء قاطبة إلاجهال المقلدين وجفاتهم ومثل هؤلاء ليسوا من أهل العلم كما حكى الإجماع على أنهم ليسوا من أهل العلم منهم أبو عمر بن عبد البر وغيره قال الله تعالى اتبعوا ما أنزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون وقال تعالى وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين فشهد تعالى لمن أطاع الرسول ﷺ بالهداية وعند جفاة المقلدين أن من أطاعه ﷺ ليس بمهتدي إنما المهتدي من عصاه وعدل عن أقواله ورغب عن سنته الى مذهب أو شيخ ونحو ذلك وقد وقع في هذا التقليد المحرم خلق كثير ممن يدعي العلم والمعرفة بالعلوم ويصنف التصانيف في الحديث والسنن ثم بعد ذلك تجده جامدا على أحد هذه المذاهب يرى الخروج عنها من العظائم وفي كلام أحمد إشارة إلى أن التقليد قبل بلوغ الحجة لا يذم إنما المذموم المنكر الحرام الإقامة على ذلك بعد بلوغ الحجة نعم وينكر الاعراض عن كتاب الله وسنة رسوله ﷺ والاقبال على تعلم الكتب المصنفة في الفقه استغناء بها عن الكتاب والسنة بل إن قرؤا شيئا من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فإنما يقرؤون تبركا لا تعلما وتفقها أو لكون بعض
الموقفين وقف على من قرأ البخاري مثلا فيقرؤونه لتحصيل الوظيفة لا لتحصيل الشريعة فهؤلاء من أحق الناس بدخولهم في قول الله تعالى وقد أتيناك من لدنا ذكرا من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزرا خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملا وقوله تعالى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى إلى قوله ولعذاب الآخرة أشد وأبقى فإن قلت فماذا يجوز للإنسان من قراءة هذه الكتب المصنفة في المذاهب قيل يجوز من ذلك قراءتها على سبيل الاستعانة بها على فهم الكتاب والسنة وتصوير المسائل فتكون من نوع الكتب الآلية أما أن تكون هي المقدمة على كتاب الله وسنة رسوله ﷺ الحاكمة بين الناس فيما اختلفوا فيه المدعو إلى التحاكم إليها دون التحاكم إلى الله والرسول ﷺ فلا ريب أن ذلك مناف للإيمان مضاد له كما قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فإذا كان التحاكم عند المشاجرة إليها دون الله ورسوله ثم اذا قضى الله ورسوله أمرا وجدت الحرج في نفسك وإن قضى أهل الكتاب يأمر لم تجد حرجا ثم إذا قضى الرسول ﷺ بأمر لم تسلم له وإنما قضوا بأمر سلمت له فقد أقسم الله تعالى سبحانه وهو أصدق القائلين بأجل مقسم به وهو نفسه تبارك وتعالى أنك لست بمؤمن والحالة هذه وبعد ذلك
فقد قال الله تعالى بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره على أن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم قد نهوا عن تقليدهم مع ظهور السنة فكلام أحمد الذي ذكره المصنف كاف عن تكثير النقل عنه وقال أبو حنيفة اذا جاء الحديث عن رسول الله ﷺ فعلى الرأس والعين واذا جاء عن الصحابة فعلى الرأس والعين واذا جاء عن التابعين فنحن رجال وهم رجال وفي روضة العلماء سئل أبو حنيفة اذا قلت قولا وكتاب الله يخالفه قال اتركوا قولي لكتاب الله قيل اذا كان قول الرسول يخالفه قال اتركوا قولي لخبر الرسول ﷺ قيل اذا كان قول الصحابة يخالفه قال اتركوا قولي لقول الصحابة فلم يقل هذا الإمام ما يدعيه جفاة المقلدين له أنه لا يقول قولا يخالف كتاب الله حتى أنزلوه بمنزلة المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى وروى البيهقي في السنن عن الشافعي أنه قال اذا قلت قولا وكان عن النبي ﷺ خلاف قولي فما يصح من حديث رسول الله ﷺ أولى فلا تقلدوني وقال الربيع سمعت الشافعي يقول اذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله ﷺ فقولوا بسنة رسول الله ﷺ ودعوا ما قلت وتواتر عنه أنه قال إذا صح الحديث أي بخلاف قولي فاضربوا بقولي الحائط وقال مالك كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله ﷺ وكلام الأئمة مثل هذا كثير فخالف المقلدون ذلك وجمدوا على ما وجدوه في الكتب المذهبية سواء كان صوابا أم خطأ مع أن كثيرا من هذه الأقوال المنسوبة إلى الأئمة ليست أقوالا لهم منصوصا عليها وإنما هي تفريعات ووجوه واحتمالات وقياس على أقوالهم ولسنا نقول إن الأئمة على خطأ بل هم إن شاء الله على هدى من ربهم وقد قاموا بما أوجب الله عليهم من الايمان بالرسول ﷺ
ومتابعته ولكن العصمة منتفية عن غير الرسول فهو الذي ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى فما العذر في اتباعهم وترك اتباع الذي لا ينطق عن الهوى قوله لعله أي لعل الانسان الذي تصح عنده سنة رسول الله ﷺ قوله إذا رد بعض قوله أي قول النبي ﷺ قوله ان يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك هذا تنبيه على أن رد قول الرسول ﷺ سبب لزيغ القلب الذي هو سبب الهلاك في الدنيا والاخرة فإذا كانت إساء الأدب معه في الخطاب سببا لحبوط الأعمال كما قال تعالى لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ﷺ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون فما ظنك برد أحكامه وسنته لقول أحد من الناس كائنا من كان قال شيخ الاسلام فإذا كان المخالف عن امره قد حذر من الكفر والشرك أو من العذاب الأليم دل على أنه قد يكون مفضيا الى الكفر والعذاب الأليم ومعلوم أن إفضاؤه الى العذاب هو مجرد فعل المعصية فإفضاؤه الى الكفر إنما هو لما يقترن به من استخفاف بحق الآمر كما فعل ابليس لعنه الله فإذا علمت أن المخالفة عن أمره ﷺ سبب للفتنة التي هي الشرك والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة علمت أن من رد قوله وخالف أمره لقول أبي حنيفة أو مالك أو غيرهما لهم النصيب الكامل والحظ الوافر من هذه الآية وهذا الوعيد على مخالفة أمره ﷺ وقد استدل بهذه الآية كثير من العلماء على أن أصل الأمر للوجوب حتى يقوم دليل على استحبابه
قال عن عدي بن حاتم أنه سمع النبي ﷺ يقرأ هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله الآية فقلت له إنا لسنا نعبدهم قال أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتحلونه فقلت بلى قال فتلك عبادتهم رواه أحمد والترمذي وحسنه ش هذا الحديث قد روي من طرق فرواه ابن سعد وعبد بن حميد وابن المنذر وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في السنن وفيه قصة اختصرها المصنف قوله عن عدي بن حاتم أي الطائي المشهور وهو ابن عبد الله بن سعد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة وآخره جيم مات مشركا وعدي يكنى أبا طريف بفتح المهملة صحابي شهير حسن الإسلام مات سنة ثمان وستين وله مائة وعشرون سنة قوله فقلت إنا لسنا نعبدهم ظن عدي أن العبادة المراد بها التقرب إليهم بأنواع العبادة من السجود والذبح والنذر ونحو ذلك فقال إنا لسنا نعبدهم قوله أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه إلى آخره صرح ﷺ في هذا الحديث بأن عبادة الأحبار والرهبان هي طاعتهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام وهو طاعتهم في خلاف حكم الله ورسوله قال شيخ الاسلام وهؤلاء الذين تخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله حيث اطاعوهم في تحليل ما حرم الله وعكسه يكونون على وجهين أحدهما أنهم يعلمون انهم بدلوا دين الله فيتبعونهم
على التبديل فيعتقدون تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله اتباعا لرؤسائهم مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل فهذا كفر وقد جعله الله ورسوله شركا وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون الثاني أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتا لكنهم أطاعوهم في معصية الله كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاصي فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من اهل الذنوب كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال إنما الطاعة في المعروف ثم نقول اتباع هذا المحلل للحرام والمحرم للحلال إن كان مجتهدا قصده اتباع الرسول ﷺ لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر وقد اتقى الله ما ستطاع فهذا لا يؤاخذه الله بخطئه بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه ولكن من علم أن هذا الخطأ فيما جاء به رسول الله ﷺ ثم اتبعه على خطئه وعدل عن قول الرسول ﷺ فله نصيب من الشرك الذي ذمه الله لا سيما إن اتبعه في ذلك لهواه ونصره باللسان واليد مع علمه بأنه مخالف للرسول ﷺ فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز تقليد أحد في خلافه وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزا عن معرفة الحق على التفصيل وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ كما في القبلة وأما إن قلد شخصا دون نظيره بمجرد هواه ونصره بيده ولسانه من غير علم ان الحق معه فهذا من أهل الجاهلية فإن كان متبوعه مصيبا لم يكن عمله صالحا وإن كان متبوعه مخطئا كان آثما كمن قال في القرآن برايه فإن أصاب فقد أخطأ وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار انتهى ملخصا قال المصنف وفيه تغير الأحوال إلى هذه الغايه صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ولا سيما الولاية وعبادة الأحبار هي العلم والفقه ثم تغيرت الحال الى ان عبد من ليس من الصالحين وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين
قوله صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال يشير إلى ما يعتقده كثير من الناس فيمن ينتسب إلى الولاية من الضر والنفع والعطاء والمنع ويسمون ذلك الولاية والسر ونحو ذلك وهو الشرك قوله وعبادة الأحبار هي العلم والفقه أي هي التي تسمى اليوم العلم والفقه المؤلف على مذاهب الأئمة ونحوهم فيطيعونهم في كل ما يطيعوك سواء وافق حكم الله أم خالفه بل لا يعبأون بما خالف ذلك من كتاب وسنة بل يريدون كلام الله وكلام رسوله لأقوال من قلدوه ويصرحون بأنه لا يحل العمل بكتاب ولا سنة وأنه لا يجوز تلقي العلم والهدى منهما وانما العلم والفقه والهدى عندهم هو ما وجدوه في هذه الكتب بل أعظم من ذلك وأطم رمي كثير منهم كلام الله وكلام رسوله بأنه لا يفيد العلم ولا اليقين في باب معرفة أسماء الله وصفاته وتوحيده ويسمونها ظواهر لفظية ويسمون ما وضعه الفلاسفة المشركون القواطع العقلية ثم يقدمونها في باب الأسماء والصفات والتوحيد على ما جاء من عند الله ثم يرمون من خرج عن عبادة الأحبار والرهبان إلى طاعة رب العالمين وطاعة رسوله وتحكيم ما أنزل الله في موارد النزاع بالبدعة أو الكفر وقوله ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من ليس من الصالحين وذلك كاعتقادهم في كثير ممن ينتسب إلى الولاية من الفساق والمجاذيب وقوله وعبد بالمعنى الثاني من هو من الجاهلين وذلك كاعتقادهم العلم في أناس من جهلة المقلدين فيحسنون لهم البدع والشرك فيطيعونهم ويظنون أنهم علماء مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون
باب قول الله تعالى الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل اليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت الآيات ش لما كان التوحيد الذي هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله مشتملا على الإيمان بالرسول ﷺ مستلزما له وذلك هو الشهادتان ولهذا جعلهما النبي ﷺ ركنا واحدا في قوله بني الاسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا نبه في هذا الباب على ما تضمنه التوحيد واستلزمه من تحكيم الرسول ﷺ في موارد النزاع إذ هذا هو مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله ولازمها الذي لا بد منه لكل مؤمن فإن من عرف أن لا إله إلا الله فلا بد من الانقياد لحكم الله والتسليم لأمره الذي جاء من عنده على يد رسوله محمد ﷺ فمن شهد أن لا إله إلا الله ثم عدل إلى تحكيم غير الرسول ﷺ في موارد النزاع فقد كذب في شهادته وإن شئت قلت لما كان التوحيد مبنيا على الشهادتين إذ لا تنفك أحداهما عن الأخرى لتلازمهما وكان ما تقدم من هذا الكتاب في معنى شهادة أن لا إله إلا الله التي تتضمن حق الله على عباده نبه في هذا الباب على معنى شهادة أن محمدا رسول الله التي تتضمن حق الرسول ﷺ فإنها تتضمن أنه عبد لا يعبد ورسول صادق لا يكذب بل يطاع ويتبع لأنه المبلغ عن الله تعالى فله E منصب الرسالة والتبليغ
عن الله والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه إذ هو لا يحكم إلا بحكم الله ومحبته علىالنفس والاهل والمال والوطن وليس له من الألهية شيء بل هو عبدالله ورسوله كما قال تعالى وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا وقال ﷺ انما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله ومن لوازم ذلك متابعته وتحكيمه في موارد النزاع وترك التحاكم إلى غيره كالمنافقين الذي يدعون الإيمان به ويتحاكمون إلى غيره وبهذا يتحقق العبد بكمال التوحيد وكمال المتابعة وذلك هو كمال سعادته وهو معنى الشهادتين إذا تبين هذا فمعنى الآية المترجم لها إن الله تبارك وتعالى أنكر على من يدعي الإيمان بما انزل الله على رسوله وعلى الانبياء قبله وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنة رسوله كما ذكر المصنف في سبب نزولها قال ابن القيم والطاغوت كل من تعدى به حده من الطغيان وهو مجاوزة الحد فكل ما تحاكم إليه متنازعان غير كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فهو طاغوت اذ قد تعدى به حده ومن هذا كل من عبد شيئا دون الله فإنما عبد الطاغوت وجاوز بمعبوده حده فأعطاه العبد التي لا تنبغي له كما ان من دعا الى تحكيم غير الله تعالى ورسوله ﷺ فقد دعا إلى تحكيم الطاغوت وتأمل تصديره سبحانه الاية منكرا لهذا التحكيم على من زعم أنه قد آمن بما انزله الله على رسوله ﷺ وعلى من قبله ثم هو مع ذلك يدعو إلى تحكيم غير الله ورسوله ويتحاكم إليه عند النزاع وفي ضمن قوله يزعمون نفي لما زعموه من الإيمان ولهذا لم يقل ألم ترى إلى الذين آمنوا فإنهم لو كانوا من اهل الإيمان حقيقة لم يريدوا أن يتحاكموا الى غير الله تعالى ورسوله ﷺ ولم يقل فيهم يزعمون فإن هذا إنما يقال غالبا لمن ادعى دعوى هو فيها كاذب أو منزل منزلة الكاذب لمخالفته لموجبها وعمله بما
ينافيها قال ابن كثير والآية ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنة وتحاكم إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت ههنا وقوله تعالى وقد أمروا أن يكفروا به أي بالطاغوت وهو دليل على أن التحاكم إلى الطاغوت مناف للايمان مضاد له فلا يصح الايمان الا بالكفر به وترك التحاكم اليه فمن لم يكفر بالطاغوت لم يؤمن بالله وقوله ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا أي لأن ارادة التحاكم إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ﷺ من طاعة الشيطان وهو إنما يدعو أحزابه ليكونوا من اصحاب السعير وفي الآية دليل على أن ترك التحاكم إلى الطاغوت الذي هو ما سوى الكتاب والسنة من الفرائض وان التحاكم اليه غير مؤمن بل ولا مسلم وقوله تعالى وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا أي إذا دعوا الى التحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول أعرضوا إعراضا مستكبرين كما قال تعالى وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم معرضون قال ابن القيم هذا دليل على أن من دعي الى تحكيم الكتاب والسنة فلم يقبل وأبى ذلك أنه من المنافقين ويصدون هنا لازم لا متعد هو بمعنى يعرضون لا بمعنى يمنعون غيرهم ولهذا أتى مصدره على صدود ومصدر التعدي صدا فإذا كان المعرض عن ذلك قد حكم الله سبحانه بنفاقهم فكيف بمن ازداد إلى اعراضه منع الناس من تحكيم الكتاب والسنة والتحاكم إليهما بقوله وعمله وتصانيفه ثم يزعم مع ذلك أنه إنما اراد الإحسان والتوفيق الإحسان في فعله ذلك والتوفيق بين الطاغوت الذي حكمه وبين الكتاب والسنة قلت وهذا حال
كثير ممن يدعي العلم والإيمان في هذه الأزمان إذا قيل لهم تعالوا نتحاكم الى ما أنزل الله والى الرسول رايتهم يصدون وهم مستكبرون ويعتذرون أنهم لا يعرفون ذلك ولا يعقلون بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون وقوله تعالى فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم قال ابن كثير أي فكيف بهم إذا أصابتهم المقادير إليك في المصائب بسبب ذنوبهم واحتاجوا إليك في ذلك وقال ابن القيم قيل المصيبة فضيحتهم إذا أنزل القرآن بحالهم ولا ريب أن هذا أعظم المصيبة والإضرار فالمصائب التي تصيبهم بما قدمت أيديهم في أبدانهم وقلوبهم وأديانهم بسبب مخالفة الرسول E أعظمها مصائب القلب والدين فيرى المعروف منكرا والهدى ضلالا والرشاد غيا والحق باطلا والصلاح فسادا وهذا من المصيبة التي أصيب بها في قبله وهوالطبع الذي أوجبه مخالفة الرسول ﷺ وتحكيم غيره قال سفيان الثوري في قوله تعالى فليحذر الذين يخالفون عن أمره ان تصيبهم فتنة قال هي أن تطبع على قلوبهم وقوله تعالى ثم جاؤوك يحلفون بالله ان اردنا إلا احسانا وتوفيقا قال ابن كثير اي يعتذرون ويحلفون إن أردنا بذهابنا الى غيرك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة وقال غيره إلا إحسانا أي لا إساءة وتوفيقا اي بين الخصمين ولم نرد مخالفة لك ولا تسخطا لحكمك قلت فإذا كان هذا حال المنافقين يعتذرون عن
أمرهم ويلبسونه لئلا يظن أنهم قصدوا المخالفة لحكم النبي ﷺ أو التسخط فكيف بمن يصرح بما كان المنافقون يضمرونه حتى يزعم أنه من حكم الكتاب والسنة في موارد النزاع فهو إما كافر وإما مبتدع ضال وفعل المنافقين الذي ذكره الله عنهم في هذه الآية هو بعينه الذي يفعله المحرفون للكلم عن مواضعه الذين يقولون إنما قصدنا التوفيق بين القواطع العقلية بزعمهم التي هي الفلسفة والكلام وبين الأدلة النقلية ثم يجعلون الفلسفة التي هي سفاهة وضلالة الأصل ويردون بها ما أنزل الله على رسوله من الكتاب والحكمة زعموا أن ذلك يخالف الفلسفة التي يسمونها القواطع فتطلبوا له وجوه التأويلات البعيدة وحملوه على شواذ اللغة التي لا تكاد تعرف وقوله تعالى اولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم قال ابن كثير أي هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله اعلم بما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك فإنه لا تخفى عليه خافية فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم ببواطنهم وظواهرهم وقوله تعالى فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا قال ابن القيم أمر الله رسوله ﷺ فيهم بثلاثة أشياء أحدهما الإعراض عنهم إهانة لهم وتحقيرا لشأنهم وتصغيرا لأمرهم لا إعراض متاركة وإهمال وبهذا يعلم أنها غير منسوخة الثاني قوله وعظهم وهو تخويفهم عقوبة الله وبأسه ونقمته إن أصروا على التحاكم الى غير رسوله ﷺ وما أنزل عليه الثالث قوله وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا أي يبلغ تأثيره إلى قلوبهم ليس قولا لينا لا يتأثر به المقول له وهذه المادة
تدل على بلوغ المراد بالقول فهو قول يبلغ به مراد قائله من الزجر والتخويف ويبلغ تأثيره إلى نفس المقول له ليس هو كالقول الذي يمر على الأذن صفحا وهذا القول البليغ يتضمن ثلاثة أمور أحدها عظم معناه وتأثير النفوس به الثاني فخامة الفاظه وجزالتها الثالث كيفية القائل في إلقائه إلى المخاطب فإن القول كالسهم والقلب كالقوس الذي يدفعه وكالسيف والقلب كالساعد الذي يضرب به وفي متعلق قوله في أنفسهم قولان أحدهما بقوله بليغا أي قولا بليغا في أنفسهم وهذا حسن من جهة المعنى ضعيف من جهة الإعراب لأن صفة الموصوف لا تعمل فيما قبلها والقول الثاني أنه متعلق بقل وفي المعنى على هذا قولان أحدهما قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم بل مسرا لهم النصيحة والثاني أن معناه قل لهم في معنى أنفسهم كما يقال قل لفلان في كيت وكيت أي في ذلك المعنى قلت وهذا القول أحسن ثم قال تعالى وما ارسلنا من رسول الا ليطاع بإذن الله قال ابن كثير أي إنما فرضت طاعته على من أرسلته اليهم وقال ابن القيم هذا تنبيه على جلالة منصب الرسالة وعظم شأنها وأنه سبحانه لم يرسل رسله عليهم الصلاة والسلام إلا ليطاعوا بإذنه فتكون الطاعة لهم لا لغيرهم لأن طاعتهم طاعة مرسلهم وفي ضمنه أن من كذب رسوله محمدا ﷺ فقد كذب الرسل والمعنى أنك واحد منهم تجب طاعتك وتتعين عليهم كما وجبت طاعة من قبلك من المرسلين فإن كانوا قد أطاعوهم كما زعموا وآمنوا بهم فما لهم لا يطيعونك ويؤمنون بك والإذن ههنا هو الإذن الأمري لا الكوني إذ لو كان إذنا كونيا قدريا لما تخلفت طاعتهم وفي ذكره نكتة
وهي أنه بنفس إرساله تتعين طاعته وارساله نفسه إذن في طاعته فلا تتوقف على نص آخر سوى الارسال بأمر فيه بالطاعة بل متى تحققت رسالته وجبت طاعته فرسالته نفسها متضمنة للاذن في الطاعة ويصح أن يكون الإذن ههنا إذنا كونيا قدريا ويكون المعنى ليطاع بتوفيق الله وهدايته فتضمن الآية الأمرين الشرع والقدر ويكون فيها دليل على أن أحدا لا يطيع رسله إلا بتوفيقه وارشاده وهدايته وهذا حسن جدا والمقصود أن الغاية من الرسل هي طاعتهم ومتابعتهم فإذا كانت الطاعة المتابعة لغيرهم لم تحصل الفائدة المقصودة من ارسالهم وقوله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستفغروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما قال ابن القيم لما علم سبحانه ان المرسل إليهم لا بد لهم من ظلم لأنفسهم واتباع لأهوائهم أرشدهم إلى ما يدفع عنهم شر ذلك الظلم وموجبه وهو شيئان أحدهما منهم وهو استغفارهم ربهم تعالى والثاني من غيرهم وهو استغفار الرسول ﷺ لهم إذا جاؤوه وانقادوا له واعترفوا بظلمهم فمتى فعلوا ذلك وجدوا الله توابا رحيما يتوب عليهم فيمحو أثر سيئاتهم ويقيهم شرها ويزيدهم مع ذلك رحمته وبره واحسانه فإن قلت فما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي ﷺ من هذه الآية وهل كلام بعض الناس في دعوى المجيء إلى قبره ﷺ والاستغفار عنده والاستشفاع به والإستدلال بهذه الآية على ذلك صحيح أم لا قيل أما حظ من ظلم نفسه بعد موت النبي ﷺ من هذه الآية
فالاستغفار وأن يتوب إلى الله توبة نصوحا في كل زمان ومكان ولا يشترط في صحة التوبة المجيء الى قبره والاستغفار عنده بالإجماع وأما المجيء إلى قبره والاستغفار عنده والاستشفاع به والاستدلال بالآية على ذلك فهو استدلال على ما لا تدل الآية عليه بوجه من وجوه الدلالات لأنه ليس في الآية الا المجيء إليه ﷺ لا المجيء إلى قبره واستغفاره لهم لاستشفاعهم به بعد موته فعلم أن ذلك باطل يوضح ذلك أن الصحابة الذين هم أعلم الناس بكتاب الله وسنة نبيه ﷺ ما فهموا هذا من الآية فعلم أن ذلك بدعة وأكثر ما استدل به من أجاز ذلك رواية العتبي عن أعرابي مجهول على أن القصة لا نعلم لها اسنادا ومثل هذا لو كان حديثا أو أثرا عن صحابي لم يجز الاحتجاج به ولم يلزمنا حكمه لعدم صحته فكيف يجوز الاحتجاج في هذا بقصة لا تصح عن بدوي لا يعرف ثم قال تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما قال ابن القيم أقسم سبحانه بأجل مقسم به وهو نفسه تعالى على أنه لا يثبت لهم الايمان ولا يكونون من أهله حتى يحكم لرسوله ﷺ في جميع موارد النزاع وفي جميع أبواب الدين فإن لفظة ما من صيغ العموم ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه بحيث لا يجدون في أنفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلون حكمه بالإنشراح ويقابلونه بالقبول لا يأخذونه على إغماض ويشربونه على قذى فإن هذا مناف للإيمان بل لابد أن يكون أخذه بقبول ورضى وانشراح صدر ومتى أراد العبد شاهدا فلينظر في حاله ويطالع
قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه أو على خلاف ما قلد فيه أسلافه من المسائل الكبار وما دونها بل الانسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من النصوص وبودهم أن لو لم ترد وكم من حرارة في أكبادهم منها وكم من شجى في حلوقهم من موردها ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله ويسلموا تسليما فذكر الفعل مؤكدا له بالمصدر القائم مقام ذكره مرتين وهو الخضوع والانقياد لما حكم به طوعا ورضى وتسليما لا قهرا أو مصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو أحب شيء اليه يعلم أن سعادته وفلاحه في تسليماته انتهى وقد ورد في الصحيح أن سبب نزولها قصة الزبير لما اختصم هو والأنصاري في شراج الحرة ولكن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فإذا كان سبب نزولها مخاصمة في مسيل ماء قضى فيه رسول الله ﷺ بقضاء فلم يرضه الأنصاري فنفى تعالى عنه الإيمان بذلك فما ظنك بمن لم يرض بقضائه ﷺ وأحكامه في أصول الدين وفروعه بل إذا دعوا إلى ذلك تولوا وهم معرضون ولم يكفهم ذلك حتى صدوا الناس عنه ولم يكفهم ذلك حتى كفروا أو بدعوا من اتبعه ﷺ وحكمه في أصول الدين وفروعه ورضي بحكمه في ذلك ولم يبغ عنه حولا وقوله تعالى ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم المعنى والله أعلم أي لو اوجبنا عليهم مثل ما أوجبنا على بني اسرائيل من
قتلهم أنفسهم أو خروجهم من ديارهم حين استتبوا من عبادة العجل ما فعلوه إلا قليل منهم وهذا توبيخ لمن لم يحكم الرسول ﷺ في موارد الشجار أي نحن لم نكتب عليهم ذلك بل إنما أوجبنا عليهم ما في وسعهم فما لهم لا يحكمونك ولا يرضون بحكمك ثم قال تعالى ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا واذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما قال ابن القيم أخبر تعالى أنهم لو فعلوا ما يعظهم به وهو امره ونهيه المقرون بوعده ووعيده لكان فعل أمره وترك نهيه خيرا لهم في دينهم ودنياهم وأشد تثبيتا لهم على الحق وتحقيقا لإيمانهم وقوة لعزائمهم واراداتهم وثباتا لقلوبهم عند جيوش الباطل وعند واردات الشبهات المضلة والشهوات المردية فطاعة الله تعالى ورسوله ﷺ هي سبب ثبات القلب وقوته وقوة عزائمه وثبات القلب عليها ومخالفته تثمر زيغ القلب واضطرابه وعدم ثباته ثم قال تعالى وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما فهذه أربعة أنواع من الجزاء المرتب على طاعة الرسول ﷺ أحدها حصول الخير المطلق بها الثاني التثبت والقوة المتضمن للنصر والغلبة والثالث حصول الأجر العظيم لهم في الآخرة والرابع هدايتهم الصراط المستقيم وهذه الهداية هي هداية ثانية اوجبتها طاعة الرسول ﷺ فطاعته ﷺ ثمرة الهداية السابقة عليها فهي محفوفة بهدايتين هداية قبلها وهي سبب الطاعة وهداية بعدها هي ثمرة لها وهذا يدل على انتفاء هذه الأمور الأربعة عند انتفاء طاعة الرسول ﷺ
ثم قال تعالى ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا قال ابن القيم فأخبر سبحانه أن طاعته وطاعة رسوله ﷺ توجب مرافقة المنعم عليهم وهم أهل السعادة الكاملة وهم أربعة أصناف النبيون وهم أفضلهم ثم الصديقون وهم بعدهم في الدرجة ثم الشهداء ثم الصالحون فهؤلاء المنعم عليهم النعمة التامة وهم السعداء الفائزون ولا فلاح لأحد إلا بمرافقتهم والكون معهم ولا سبيل إلى مرافقتهم إلا بطاعة الرسول ﷺ ولا سبيل اليها إلا بمعرفة سنته وما جاء به فدل على أن من عدم العلم بسنته وما جاء به فليس له إلى مرافقة هؤلاء سبيل بل هو ممن يعض على يديه يوم القيامة ويقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا قلت ما لمن لم يحكم الرسول ﷺ في موارد النزاع إلى مرافقة هؤلاء المنعم عليهم سبيل وكيف يكون له سبيل إلى ذلك وعنده أن من حكم الرسول ﷺ في موارد النزاع فهو إما زنديق أو مبتدع وأنى له بطاعة الله ورسوله وهذا أصل اعتقاده الذي بنى عليه دينه ومع ذلك يحسبون أنهم مهتدون إذا حكموا غير الرسول ﷺ ونبذوا حكمه وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون قال المصنف وقوله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها قال أبو بكر بن عياش في الآية إن الله بعث محمدا ﷺ إلى أهل الأرض وهم في فساد فأصلحهم الله بمحمد ﷺ فمن دعا الى خلاف ما جاء به محمد ﷺ فهو من المفسدين في الأرض وقال ابن القيم قال أكثر المفسرين لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان
الشريعة والدعاء الى طاعة الله فإن عبادة غير الله والدعوة الى غيره والشرك به هو أعظم فساد في الأرض بل فساد الأرض في الحقيقة إنما هو بالشرك به ومخالفة أمره فالشرك والدعوة الى غير الله وإقامة معبود غيره ومطاع متبع غير رسول الله ﷺ هو أعظم الفساد في الأرض ولا صلاح لها ولا لأهلها إلا أن يكون الله وحده هوالمعبود والدعوة له لا لغيره والطاعة والاتباع لرسوله ليس إلا وغيره إنما تجب طاعته اذا أمر بطاعة الرسول ﷺ فإذا أمر بمعصيته وخلاف شريعته فلا سمع له ولا طاعة ومن تدبر أحوال العالم وجد كل صلاح في الارض فسببه توحيد الله وعبادته وطاعة رسوله وكل شر في العالم وفتنة وبلاء وقحط وتسليط عدو وغير ذلك فسببه مخالفة رسوله والدعوة الى غير الله ورسوله انتهى وبهذا يتبين وجه مطابقة الآية للترجمة لأن من يدعو الى التحاكم إلى غير ما أنزل الله والى الرسول فقد أتى بأعظم الفساد قال وقوله واذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا انما نحن مصلحون قال ابو العالية في الآية يعني لا تعصوا في الأرض وكان فسادهم ذلك معصية الله لأن من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصية الله فقد أفسد في الأرض لأن صلاح الارض والسماء بالطاعة قلت ومطابقة الآية للترجمة ظاهر لأن من دعا إلى التحاكم الى غير ما أنزل الله فقد أتى بأعظم الفساد وفي الآية دليل على وجوب اطراح الرأي مع السنة وإن ادعى صاحبه أنه مصلح وأن دعوى الإصلاح ليس بعذر في ترك ما أنزل الله والحذر من العجب بالرأي
قال وقوله أفحكم الجاهلية يبغون الآية قال ابن كثير ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله تعالى المشتمل على كل خير وعدل الناهي عن كل شر إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات كما يحكم به التتار من السياسات المأخوذة عن جنكز خان الذي وضع لهم كتابا مجموعا من أحكام اقتبسها من شرائع شتى من الملة الاسلامية وغيرها وفيا كثير من الأحكام أخذها عن مجرد نظره فصار في بنيه شرعا يقدمونه على الحكم بالكتاب والسنة ومن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير قال تعالى أفحكم الجاهلية يبغون أي يريدون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون أي ومن أعدل من الله في حكمه لمن عقل عن الله شرعه وآمن وأيقن وعلم أنه تعالى أحكم الحاكمين وأرحم بعباده من الوالدة بولدها فإنه تعالى العالم بكل شيء القادر على كل شيء العادل في كل شيء قلت وفي الآية إشارة إلى أن من ابتغى غير حكم الله ورسوله فقد ابتغى حكم الجاهلية كائنا ما كان قال عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال النووي حديث صحيح رويناه في كتاب الحجة باسناد صحيح ش هذا الحديث رواه الشيخ أبو الفتح نصر بن ابراهيم المقدسي الشافعي في كتاب الحجة على تارك المحجة باسناد صحيح كما قال
المصنف عن النووي وهو كتاب يتضمن ذكر أصول الدين على قواعد أهل الحديث والسنة ورواه الطبراني أبو بكر بن عاصم والحافظ وأبو نعيم في الأربعين التي شرط في أولها أن تكون من صحاح الأخبار وقال ابن رجب تصحيح هذا الحديث بعيد جدا من وجوه ذكرها وتعقبه بعضهم قلت ومعناه صحيح قطعا وإن لم يصح اسناده وأصله في القرآن كثير كقوله تعالى فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم الآية وقوله وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم وقوله فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم وغير ذلك من الآيات فلا يضر عدم صحة اسناده قوله لا يؤمن أحدكم أي لا يحصل له الإيمان الواجب ولا يكون من أهله قوله حتى يكون هواه تبعا لما جئت به قال بعضهم هواه بالقصر أي ما يهواه أي تحبه نفسه وتميل اليه ثم المعروف في استعمال الهوى عند الاطلاق أنه الميل الى خلاف الحق ومنه ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وقد يطلق على الميل والمحبة ليشمل الميل للحق وغيره وربما استعمل في محبة الحق خاصة والانقياد اليه كما في حديث صفوان بن عسال أنه سئل هل سمعت النبي ﷺ يذكر الهوى الحديث قال ابن
رجب أما معنى الحديث فهو أن الانسان لا يكون مؤمنا كامل الإيمان الواجب حتى تكون محبته تابعة لما جاء به الرسول ﷺ من الأوامر والنواهي وغيرها فيحب ما أمر به ويكره ما نهى عنه وقد ورد القرآن بمثل هذا في غير موضع وذم سبحانه من كره ما احبه الله تعالى أو أحب ما كره الله كما قال ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم وقال ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم فالواجب على كل مؤمن أن يحب ما أحبه الله محبة توجب له الاتيان بما وجب عليه منه فإن زادت المحبة حتى أتى بما ندب اليه منه كان ذلك فضلا وأن يكره ما كرهه الله كراهة توجب له الكف عما حرم عليه منه فازدادت الكراهة حتى أوجبت الكف عما كرهه تنزيها كان ذلك فضلا فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب ذلك له أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ويكره ما يكرهه الله ورسوله ويرضي بما يرضي به الله ورسوله ويسخط ما يسخط الله ورسوله وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض فإن عمل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه دل ذلك على نقص محبته الواجبة فعليه أن يتوب من ذلك ورجع الى تكميل المحبة الواجبة فجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفس على محبة الله ورسوله وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه فقال تعالى فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم الآية وكذلك البدع إنما
تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ولهذا سمي أهلها أهل الأهواء وكذلك المعاصي انما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه الله وكذلك حب الأشخاص الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول ﷺ فيجب علىالمؤمن محبة ما يحبه الله من الملائكة والرسل والصديقين والأنبياء والشهداء والصالحين عموما ولهذا كان علامة وجود حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله وتحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما وبهذا يكون الدين كله لله ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب فتجب عليه التوبة من ذلك والرجوع الى اتباع ما جاء به الرسول ﷺ من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضى الله ورسوله على هوى النفس ومرادها انتهى ملخصا ومطابقة الحديث للباب ظاهرة من جهة ان الرجل لا يؤمن حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول ﷺ في كل شيء حتى في الحكم وغير فإذا حكم بحكم أو قضى بقضاء فهو الحق الذي لا محيد للمؤمن عنه ولا اختيار له بعده قال المصنف وقال الشعبي كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة فقال اليهودي نتحاكم الى محمد عرف أنه لا يأخذ الرشوة وقال المنافق نتحاكم الى اليهود لعلمه أنهم يأخذون الرشوة فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة فيتحاكما اليه فنزلت ألم تر الى الذين يزعمون الآية ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر بنحوه قوله كان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة لم أقف على تسمية
هذين الرجلين وقد روى ابن اسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم قال كان بين الجلاس بن الصامت قبل توبته ومعتب بن قشير ورافع بن زيد وبشير كانوا يدعون الإسلام فدعاهم رجال من قومهم من المسلمين في خصومة كانت بينهم إلى رسول الله صلى الله عيله وسلم فدعوهم الى الكهان حكام الجاهلية فأنزل الله فيهم ألم تر إلى الذين يزعمون الآية فيحتمل أن يكون المنافق المذكور في قصة الشعبي أحد هؤلاء بل روى الثعلبي عن ابن عباس أن المنافق اسمه بشر قوله عرف أنه لا يأخذ الرشوة هي بتثليث الراء قال أبو السعادات وهو الوصلة الى الحاجة بالمصانعة وأصله من الرشاء الذي يتوصل به الى الماء والراشي من يعطي الذي يعينه على الباطل والمرتشي الآخذ قلت فعلى هذا رشوه الحاكم هي ما يعطاه ليحكم بالباطل سواء طلبها أم لا وفيه دليل على شهادة أن محمدا رسول الله لأن أعداءه يعلمون عدله في الأحكام ونزاهته عن قذر الرشوة ﷺ بخلاف حكام الباطل قوله فاتفقا على أن يأتيا كاهنا في جهينة لم أقف على تسمية هذا الكاهن وفي قصة رواها ابن جرير وابن أبي حاتم عن السدي في سبب نزول الآية قال فتفاخرت النضير وقريظة فقالت النضير نحن أكرم من قريظة وقالت قريظة نحن أكرم منكم فدخلوا المدينة إلي أبي برزة الكاهن الأسلمي وفي بعض النسخ أبي بردة الأسلمي وذكر القصة وابو برزة هذا غير أبي برزة الصحابي قال المصنف وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما نترافع
الى النبي ﷺ وقال الآخر الى كعب بن الأشرف ثم ترافعا الى عمر فذكر له أحدهما القصة فقال للذي لم يرض برسول الله ﷺ أكذلك قال نعم فضربه بالسيف فقتله ش هذه القصة قد رويت من طرق متعددة من أقربها لسياق المصنف ما رواه الثعلبي وذكره البغوي عن ابن عباس في قوله الم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا الآية قال نزلت في رجل من المنافقين يقال له بشر خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله ﷺ ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف ثم إنهما احتكما للنبي ﷺ فقضى لليهودي فلم يرض المنافق وقال تعال نتحاكم إلى عمر بن الخطاب فقال اليهودي لعمر قضى لنا رسول الله ﷺ فلم يرض بقضائه فقال للمنافق أكذلك قال نعم فقال عمر مكانكما حتى أخرج إليكما فدخل عمر فاشتمل على سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد ثم قال هكذا أقضي لمن لم يرض بقضاء الله ورسوله فنزلت وروى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول هذه القصة عن مكحول وقال في آخرها فأتى جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ فقال إن عمر قد قتل الرجل وفرق الله بين الحق والباطل على لسان عمر فسمي الفاروق ورواه أبو إسحاق بن دحيم في تفسيره على ما ذكره شيخ الاسلام وابن كثير ورواه ابن أبي حاتم وابن مردوية من طريق ابن لهيعة عن أبي الأسود وذكر القصة وفيه فقال رسول الله ﷺ ما كنت أظن أن يجتريء عمر على قتل مؤمن فأنزل الله فلا وربك لا يؤمنون الآية فهدر دم ذلك الرجل وبرىء عمر من قتله فكره الله أن يسن ذلك بعد فقال ولو أنا كتبنا عليهم ان اقتلوا أنفسكم إلى قوله واشد تثبيتا وبالجملة فهذه القصة مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الاسناد ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها وكعب بن الاشرف المذكور هنا هو طاغوت من رؤساء اليهود وعلمائهم ذكر ابن اسحاق وغيره أنه كان موادعا للنبي ﷺ في جملة ممن وادعه من يهود المدينة وكان عربيا من بني طي وكانت امه من بني النضير قالوا فلما قتل أهل بدر شق ذلك عليه وذهب الى مكة ورثاهم لقريش وفضل دين الجاهلية على دين الاسلام حتى انزل الله فيه الم تر الى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء اهدى من الذين آمنوا سبيلا ثم لما رجع الى المدينة أخذ ينشد الاشعار يهجو بها رسول الله ﷺ وشبب بنساء المسلمين حتى آذاهم حتى قال النبي صلىالله عليه وسلم من لكعب بن الأشرف فانه قد آذى الله ورسوله وذكر قصة قتله وقتله محمد بن مسلمة وابو نائلة وابو عبس بن جبر وعباد بن بشر رضي الله عنهم وفي القصة من الفوائد أن الدعاء الى تحكيم غير الله ورسوله من صفات المنافقين ولو كان الدعاء الى تحكيم امام فاضل ومعرفة أعداء رسول الله ﷺ بما كان عليه من العلم والعدل في الاحكام وفيها الغضب لله تعالى والشدة في أمر الله كما فعل عمر رضي الله عنه وفيها أن من طعن في احكام النبي ﷺ أو في شيء من دينه قتل كهذا المنافق بل أولى وفيها جواز تغيير المنكر باليد وإن لم يأذن فيه الإمام وكذلك
تعزير من فعل شيئا من المنكرات التي يستحق عليها التعزير لكن إذا كان الإمام لا يرضى بذلك وربما أدى إلى وقوع فرقة أو فتنة فيشترط إذنه في التعزيز فقط وفيها أن معرفة الحق لا تكفي عن العمل والانقياد فإن اليهود يعلمون أن محمدا رسول الله ويتحاكمون إليه في كثير من الامور باب من جحد شيئا من الأسماء والصفات أي من أسماء الله وصفاته والمراد ما حكمه هل هو ناج أو هالك ولما كان تحقيق التوحيد بل التوحيد لا يحصل إلا بالإيمان بالله والإيمان باسمائه وصفاته نبه المصنف على وجوب الإيمان بذلك وأيضا فالتوحيد ثلاثة أنواع توحيد الربوبية وتوحيد الاسماء والصفات وتوحيد العبادة والأولان وسيلة إلى الثالث فهو الغاية والحكمة المقصود بالخلق والأمر وكلها متلازمة فناسب التنبيه على الإيمان بتوحيد الصفات قال وقول الله تعالى وهم يكفرون بالرحمن الآية أي يجحدون هذا الاسم لا أنهم يجحدون الله فإنهم يقرون به كما قال تعالى ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله والمراد بهذا كفار قريش أو طائفة منهم فإنهم جحدوا هذا الاسم عنادا أو جهلا ولهذا لما قال النبي ﷺ لعلي يوم الحديبية اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا
لا نعرف الرحمن ولا الرحيم وفي بعض الروايات لا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب فإنه قبحة الله كان قد تسمى بهذا الاسم وأما كثير من أهل الجاهلية فيقرون بهذا الاسم كما قال بعضهم وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق قال ابن كثير وهم يكفرون بالرحمن أي لا يقرون به لانهم يأبون من وصف الله بالرحمن الرحيم ومطابقة الآية للترجمة ظاهره لأن الله تعالى سمى جحود اسم من أسمائه كفرا فدل على أن جحود شيء من أسماء الله وصفاته كفر فمن جحد شيئا من أسماء الله وصفاته من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم فله نصيب من الكفر بقدر ما جحد من الاسم أو الصفة فإن الجهمية والمعتزلة ونحوهم وان كانوا يقرون بجنس الأسماء والصفات فعند التحقيق لا يقرون بشيء لأن الأسماء عندهم أعلام محضة لا تدل على صفات قائمة بالرب تبارك وتعالى وهذا نصف كفر الذين جحدوا اسم الرحمن وقوله قل هو ربي لا إله إلا الله هو عليه توكلت وإليه متاب أي قل يا محمد رادا عليهم في كفرهم بالرحمن تبارك وتعالى هو أي الرحمن تعالى ربي لا اله الا هو أي لا معبود سواه عليه توكلت وإليه متاب أي اليه مرجعي وأوبتي وهو مصدر من قول القائل تبت متابا وتوبة قاله ابن جرير وفي الآية دليل على أن التوكل عبادة وعلى أن التوبة عبادة واذا كان كذلك فالتوبه الى غيره شرك ولما قال سارق وقد قطعت يده للنبي ﷺ اللهم اني أتوب اليك ولا اتوب الى محمد قال النبي ﷺ عرف الحق لأهله رواه احمد
قال وفي صحيح البخاري قال علي حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله ش هذا الاثر رواه البخاري مسندا لا معلقا لكنه في بعض الروايات علقه أولا ثم ذكر اسناده وفي بعضها ساق اسناده أولا فرواه عن عبيد الله بن موسى عن معروف بن خربوذ عن أبي الطفيل عن علي به ولفظه أتحبون ان يكذب الله ورسوله قوله بما يعرفون أي بما يفهمون قال الحافظ وزاد آدم بن أبي إياس في كتاب العلم له عن عبدالله بن داود عن معروف في آخره ودعوا ما ينكرون أي ما يشتبه عليهم فهمه قال وفيه دليل على أن المتشابه لا ينبغي أن يذكر عند العامة ومثله قول ابن مسعود ما أنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم الا كان لبعضهم فتنة رواه مسلم قال ومن رأى التحديث ببعض دون بعض أحمد في الأحاديث التي ظاهرها الخروج على السلطان ومالك في احاديث الصفات وأبو يوسف في الغرائب ومن قبلهم أبو هريرة كما تقدم عنه في الجرابين وأن المراد ما يقع من الفتن ونحوه عن حذيفة وعن الحسن أنه أنكر تحديث أنس للحجاج بقصة العرنيين لأنه اتخذها وسيلة الى ما كان يعتمده من المبالغة في سفك الدماء بتأويله الواهي وضابط ذلك أن يكون ظاهر الحديث يقوي البدعة وظاهره في الأصل غير مراد فالإمساك عنه عند من يخشى عليه الأخذ بظاهره مطلوب انتهى وما ذكره عن مالك في أحاديث الصفات ما أظنه يثبت عن مالك وهل في أحاديث الصفات أكثر من آيات الصفات التي في القرآن فهل يقول مالك أو غيره من علماء الاسلام إن
آيات الصفات لا تتلى على العوام وما زال العلماء قديما وحديثا من اصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم يقرؤون آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم بل شرط الإيمان هو الإيمان بالله وصفات كماله التي وصف بها نفسه في كتابه أو على لسان رسوله ﷺ فكيف يكتم ذلك عن عوام المؤمنين بل نقول من لم يؤمن بذلك فليس من المؤمنين ومن وجد في قبله حرجا من ذلك فهو من المنافقين ولكن هذا من بدع الجهمية وأتباعهم الذين ينفون صفات الرب تبارك وتعالى فلما رأوا أحاديث الصفات مبطلة لمذاهبهم قامعة لبدعهم تواصوا بكتمانها عن عوام المؤمنين لئلا يعلموا ضلالهم وفساد اعتقادهم فاعلم ذلك وفي الأثر دليل على انه إذا خشي ضرر من تحديث الناس ببعض ما يعرفون فلا ينبغي تحديثم به وليس ذلك على اطلاق وإن كثيرا من الدين والسنن يجهله الناس فإذا حدثوا به كذبوا بذلك وأعظموه فلا يترك العالم تحديثهم بل يعلمهم برفق ويدعوهم بالتي هي احسن قال وروى عبدالرزاق عن معمر عن طاوس عن ابيه عن ابن عباس أنه رأى رجلا انتقض لما سمع حديثا عن النبي ﷺ في الصفات استنكارا لذلك فقال ما فرق هولاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه انتهى ش قوله روى عبد الرزاق هو ابن همام الصنعاني الإمام الحافظ صاحب التصانيف ك المصنف وغيره روى عنه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وخلق لا يحصون مات سنة إحدى عشرة ومائتين ومعمر هو ابن راشد الأزدي أبو عروة البصري نزل اليمن ثقة
ثبت مات سنة أربع وخمسين ومائة وله ثمان وخمسون سنة وابن طاووس هو عبدالله بن طاووس اليماني ثقة فاضل عابد مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة وأبو طاووس بن كيسان اليماني ثقة فقيه فاضل من جلة أصحاب ابن عباس وعلمائهم مات سنة ست ومائة قوله إنه رأى رجلا لم يسم هذا الرجل قوله انتفض أي ارتعد لما سمع حديثا عن النبي ﷺ فاستنكره إما لأن عقله لا يحتمله أو لكونه اعتقد عدم صحته فأنكره قوله فقال أي ابن عباس وهو عبدالله رضي الله عنه قوله ما فرق هؤلاء يحتمل وجهين أحدهما أن تكون ما استفهامية إنكارية وفرق بفتح الفاء والراء وهو الخوف والفزع أي ما فزع هذا وأضرابه من أحاديث الصفات واستنكارهم لها والمراد الانكار عليهم فإن الواجب على العبد التسليم والاذعان والإيمان بما صح عن الله وعن رسوله صلىالله عليه وسلم وإن لم يحط به علما ولهذا قال الشافعي آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله وآمنت برسول الله وما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله والثاني أن يكون بفتح الفاء وتشديد الراء ويجوز تخفيفها وما نافية أي ما فرق هذا واضرابه بين الحق والباطل ولا عرفوا ذلك فلهذا قال يجدون رقة وهي ضد القسوة أي لينا وقبولا للمحكم ويهلكون عند متشابهه أي ما يشتبه عليهم فهمه لأن آيات الصفات هي المتشابه كما تقوله الجهمية ونحوهم ولأن في القرآن متشابها لا يعرف معناه
كالألفاظ الأعجمية فإن لفظ التشابه والمتشابه يدل على بطلان ذلك وإنما المراد بالمتشابه أي ما يشتبه فهمه على بعض الناس دون بعض فالمتشابه أمر نسبي اضافي فقد يكون مشتبها بالنسبة الى قوم بينا جليا بالنسبة الى آخرين ولهذا قال النبي ﷺ لما خرج على قوم يتراجعون في القرآن فغضب وقال بهذا ضلت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم وضرب الكتاب بعضه ببعض وإن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل لأن يصدق بعضه بعضا فما عرفتم منه فاعملوا به وما تشابه عليكم فآمنوا به رواه ابن سعد وابن الضريس وابن مردويه وأما قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فقال ابن كثير يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس او بعضهم فمن رد ما اشتبه عليه الى الواضح منه وحكم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ومن عكس انعكس ولهذا قال هن أم الكتاب أي أصله الذي يرجع اليه عند الاشتباه وأخر متشابهات أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم وقد تحتمل أشياء أخرى من حيث اللفظ والتركيب لا من حيث المراد ولهذا قال تعالى فأما الذين في قلوبهم زيغ أي ضلال وخروج عن الحق الى الباطل فيتبعون ما تشابه منه أي إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه الى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه فأما الحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دافع لهم وحجة عليهم ولهذا قال ابتغاء الفتنة أي الاضلال لأتباعهم
إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن وهو حجة عليهم لا لهم انتهى وقال ابن عباس فأما الذين في قلوبهم زيغ يعني أهل الشك فيحملون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم ويلبسون فلبس الله عليهم وما يعلم تأويله إلا الله قال تأويله يوم القيامة لا يعلمه إلا الله رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وقوله وما يعلم تأويله الا الله تقدم كلام ابن عباس وقال مقاتل والسدي يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن قلت فهذا التأويل الذي انفرد الله بعلمه هو العلم بحقائق الأشياء وما تؤول اليه وعواقبها كالاخبار بما يكون وما في الجنة من النعيم وما في النار من العذاب فإن هذه الأمور وإن علمناها لكن العلم بحقائقها مما لا يعلمه الا الله ولهذا قال ابن عباس ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء فعلى هذا يكون الوقف على الجلالة كما روي عن جماعة من السلف وقيل الوقف على قوله والراسخون في العلم أي ما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم فأما أهل الزيغ فلا يعلمون تأويله وعلى هذا فالمراد بتأويله هو تفسيره وفهم معناه وهذا هو المروي عن ابن عباس وجماعة من السلف قال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله وقال مجاهد والراسخون في العلم يعرفون تأويله ويقولون آمنا به وكذا قال الربيع بن أنس وغيره فقد تبين ولله الحمد أنه ليس في الآية حجة للمبطلين في جعلهم ما أخبر الله به من صفات كماله هو المتشابه ويحتجون على باطلهم بهذه الآية فيقال واين في الآية ما يدل على مطلوبكم وهل جاء نص عن الله أو عن رسوله صلىالله عليه وسلم انه جعل ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله متشابها ولكن أصل ذلك أنهم ظنوا أن التأويل المراد في الآية هو صرف اللفظ عن
ظاهره الى ما يحتمله اللفظ لدليل يقترن بذلك وهذا هو اصطلاح كثير من المتأخرين وهو اصطلاح حادث فأرادوا حمل كلام الله على هذا الاصطلاح فضلوا ضلالا بعيدا وظنوا أن لنصوص الصفات تأويلا يخالف ما دلت عليه لا يعلمه إلا لله كما يقوله أهل التجهيل أو يعلمه المتأولون كما يقوله أهل التأويل وفي الأثر المشروح دليل على ذكر آيات الصفات وأحاديثها بحضرة عوام المؤمنين وخواصهم وأن من رد شيئا منها أو استنكره بعد صحته فهو ممن لم يفرق بين الحق والباطل بل هو من الهالكين وأنه ينكر عليه استنكاره قال ولما سمعت قريش رسول الله ﷺ يذكر الرحمن أنكروا ذلك فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر بالمعنى وقد روى ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج في الآية قال هذا لما كاتب رسول الله ﷺ قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم فقالوا لا نكتب الرحمن ولا ندري ما الرحمن ولا نكتب الا باسمك اللهم فأنزل الله وهم يكفرون بالرحمن الآية وفيه دليل على أن من أنكر شيئا من الصفات فهو من الهالكين لأن الواجب على العبد الإيمان بذلك سواء فهمه أم لم يفهمه وسواء قبله عقله أو أنكره فهذا هو الواجب على العبد في كل ما صح عن الله ورسوله ﷺ وهو الذي ذكر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون آمنا به كل من عند ربنا
باب قول الله تعالى يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها الآية ش المراد بهذه الترجمة التأدب مع جناب الربوبية عن الألفاظ الشركية الخفية كنسبة النعم الى غير الله فإن ذلك باب من أبواب الشرك الخفي وضده باب من أبواب الشكر كما في الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر مرفوعا من أولي معروفا فلم يجد له جزاء إلا الثناء فقد شكره ومن كتمه فقد كفره وفي رواية جيدة لأبي داود من أبلي فذكره فقد شكره ومن كتمه فقد كفره قال المنذري من أبلي أي من أنعم عليه الابلاء الانعام فإذا كان ذكر المعروف الذي يقدره الله على يدي انسان من شكره فذكر معروف رب العالمين وآلائه واحسانه ونسبة ذلك إليه أولى بأن يكون شكرا قال المصنف قال مجاهد ما معناه هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن آبائي ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن أبي حاتم لفظه كما في الدر قال المساكن والأنعام وسرابيل الثياب والحديد يعرفه كفار قريش ثم ينكرونه بأن يقولوا هذا كان لآبائنا ورثناه عنهم قال ابن القيم ما معناه لما أضافوا النعمة الى غير الله فقد انكروا نعمة الله بنسبتها الى غيره فإن الذي يقول هذا جاحد لنعمة الله عليه غير معترف بها وهو كالأبرص والأقرع الذين ذكرهما الملك بنعم الله عليهما فأنكراها وقالا إنما ورثنا هذا كابرا عن كابر وكونها موروثة عن الآباء أبلغ في انعام الله عليهم إذ أنعم بها على آبائهم
ثم ورثهم إياها فتمتعوا هم وآباؤهم بنعمه وقال عون ابن عبدالله يقولون لولا فلان لم يكن كذا ش هذا الأثر رواه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ولفظه كما في الدر لولا فلان اصابني كذا وكذا ولولا فلان لم أصب كذا وكذا وعون هذا هو ابن عبدالله بن عتبة بن مسعود الهذلي ابو عبدالله الكوفي ثقة عابد مات قبل سنة عشرين ومائة قوله لولا فلان الى آخره قال ابن القيم ما معناه هذا يتضمن قطع إضافة النعمة عن من لولاه لم تكن وإضافتها الى من لم يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فضلا عن غيره وغايته أن يكون جزءا من أجزاء السبب أجرى الله نعمته على يده والسبب لا يستقل بالايجاد وجعله سببا هو من نعم الله عليه فهو المنعم بتلك النعمة وهو المنعم بما جعله من أسبابها فالسبب والمسبب من إنعامه وهو تعالى كما أنه قد ينعم بذلك السبب فقد ينعم بدونه ولا يكون له أثر وقد يسلبه سببيته وقد يجعل لها معارضا يقاومها وقد يرتب على السبب ضد مقتضاه فهو وحده المنعم على الحقيقة قال ابن قتيبة يقولون هذا بشفاعة آلهتنا ش اب قتيبة هو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري الحافظ صاحب التفسير والمعارف وغيرها وثقة الخطيب وغيره ومات سنة سبع وستين ومائتين او قبلها قوله يقولون هذا بشفاعة آلهتنا قال ابن القيم هذا يتضمن الشرك مع إضافة النعمة إلى غير وليها فالآلهة التي تعبد من دون الله أحقر وأذل من أن تشفع عند الله وهي محضرة في الهوان والعذاب مع عابديها وأقرب الخلق
إلى الله وأحبهم إليه لا يشفع عنده إلا من بعد إذنه لمن ارتضاه فالشفاعة بإذنه من نعمه فهو المنعم بالشفاعة وهو المنعم بقبولها وهو المنعم بتأهيل المشفوع له إذ ليس كل أحد أهلا أن يشفع له فمن المنعم على الحقيقة سواه قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فالعبد لا خروج له عن نعمة الله وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ولهذا ذم سبحانه من آتاه شيئا من نعمه فقال إنما أوتيته على علم عندي قال المصنف وقال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه أن الله تعالى قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر الحديث وقد تقدم وهذا كثير في الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه الى غيره ويشرك به قال بعض السلف هو كقولهم كانت الريح طيبة والملاح حاذقا ونحو ذلك مما هو جار على ألسنة كثير ش قوله وقال أبو العباس هو شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قوله قال بعض السلف لم أقف على تسمية هذا البعض قوله كانت الريح طيبة والملاح حاذقا الملاح هو سائس السفينة والمعنى أن السفن اذا جرين بريح طيبة بأمر الله جريا حسنا نسبوا ذلك الى طيب الريح وحذق الملاح في سياسة السفينة ونسوا ربهم الذي أجرى لهم الفلك في البحر رحمة بهم كما قال تعالى ربكم الذي يزجي لكم الفلك في البحر لتبتغوا من فضله إنه كان بكم رحيما فيكون نسبة ذلك إلى طيب
لريح وحذق الملاح من جنس نسبة المطر الى الأنواء وإن كان المتكلم بذلك لم يقصد أن الريح والملاح هو الفاعل لذلك من دون خلق الله وأمره وإنما اراد أنه سبب لكن لا ينبغي أن يضيف ذلك إلا إلى الله وحده لأن غاية الأمر في ذلك أن يكون الريح والملاح سببا أو جزء وسبب ولو شاء الرب تبارك وتعالى لسلبه سببيته فلم يكن سببا أصلا فلا يليق بالمنعم عليه المطلوب منه الشكر أن ينسى من بيده الخير كله وهو على كل شيء قدير ويضيف النعم إلى غيره بل يذكرها مضافة منسوبة إلى مولاها والمنعم بها وهو المنعم على الإطلاق كما قال تعالى وما بكم من نعمة فمن الله فهو المنعم بجميع النعم في الدنيا والآخرة وحده لا شريك له فإن ذلك من شكرها وضده من انكارها ولا ينافي ذلك الدعاء والإحسان الى من كان سببا أو جزء سبب في بعض ما يصل إليك من النعم من الخلق قال المصنف وفيه اجتماع الضدين في القلب باب قول الله فلا تجعلوا لله اندادا وأنتم تعلمون اعلم أن من تحقيق التوحيد الاحتراز من الشرك بالله في الألفاظ وإن لم يقصد المتكلم بها معنى لا يجوز بل ربما تجري على لسانه من غير قصد كمن يجري على لسانه ألفاظ من أنواع الشرك الأصغر لا يقصدها فإن قيل الآية نزلت في الأكبر
قيل السلف يحتجون بما نزل في الأكبر على الأصغر كما فسرها ابن عباس وغيره فيما ذكره المصنف عنه بأنواع من الشرك الأصغر وفسرها أيضا بالشرك الأكبر وفسرها غيره بشرك الطاعة وذلك لأن الكل شرك ومعنى الآية أن الله تبارك وتعالى نهى الناس أن يجعلوا له أندادا اي امثالا في العبادة والطاعة وهم يعلمون ان الذي فعل تلك الأفعال فهو ربهم وخالقهم وخالق من قبلهم وجاعل على الأرض فراشا والسماء بناء والذي انزل من السماء ماء فأخرج به من أنواع الشراب رزقا لهم فإذا كنتم تعلمون ذلك فلا تجعلوا له أندادا قال ابن القيم فتأمل هذه وشدة لزومها لتلك المقدمات قبلها وظفر العقل بها بأول وهلة وخلوصها من كل شبهة وريب وقادح إذا كان الله وحده هو الذي فعل هذه الأفعال فكيف تجعلون له أندادا وقد علمتم انه لا ند له يشاركه في فعله قال المصنف قال ابن عباس في الآية الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو ان تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص ولولا البط في الدار لأتى اللصوص وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت وقول الرجل لو لا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هذا كله به شرك رواه ابن أبي حاتم ش هذا الأثر رواه ابن أبي حاتم كما قال المصنف وسنده جيد قوله هو الشرك اخفى من دبيب النمل الى آخره أي إن هذه الأمور من الشرك خفية في الناس لا يكاد يتفطن لها ولا يعرفها الا القليل وضرب المثل لخفائها بما هو أخفى شيء وهو أثر النمل فإنه خفي فكيف إذا كان على صفاة فكيف إذا كانت سوداء فكيف إذا كانت في ظلمة الليل وهذا
يدل على شدة خفائه على من يدعي الاسلام وعسر التخلص منه ولهذا جاء في حديث أبي موسى قال خطبنا رسول الله ﷺ ذات يوم فقال ايها الناس اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل فقال له من شاء الله أن يقول وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله قال قولوا اللهم إنا نعوذ بك أن نشرك بك شيئا نعلمه ونستغفرك لما لا نعلمه رواه أحمد والطبراني قوله وهو أن تقول والله وحياتك يا فلانة وحياتي اي إن من الحلف بغير الله الحلف بحياة المخلوق وسيأتي الكلام عليه قوله وتقول لولا كلبة هذا لأتانا اللصوص اي السراق والمعنى إن من الشرك نسبة عدم السرقة الى الكلبة التي اذا رأت السراق نبحتهم فاستيقظ أهلها وهرب السراق وربما امتنعوا من اتيان المحل الذي هي فيه خوفا من نباحها فيعلم بهم اهلها كما روى بن أبي الدنيا في الصمت عن ابن عباس قال إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه يقول لولاه لسرقنا الليلة قوله ولولا البط في الدار لأتى اللصوص البط بفتح الموحدة طائر معروف يتخذ في البيوت وإذا دخلها غريب صلح واستنكره وهو الاوز بكسر الهمزة وفتح الواو ومعناها كالذي قبله والواجب نسبة ذلك الى الله تعالى فهو الذي يحفظ عباده ويكلؤهم بالليل والنهار كما قال تعالى قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن بل هم عن ذكر ربهم معرضون قوله وقول الرجل لصاحبه ما شاء الله وشئت سيأتي الكلام عليها إن شاء الله
قوله وقول الرجل لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان هكذا ثبت بخط المصنف بلا تنوين والمعنى لا تجعل فيها أي في هذه الكلمة فلان فتقول لولا الله وفلان بل قل لولا الله وحده ولا تقل لولا الله وفلان فهو نهي عن ذلك قوله هذا كله به أي بالله شرك وأعاد الضمير على الله لانه قد تقدم ذكر اسمه تعالى فتبين أن هذه الأمور ونحوها من الألفاظ الشركية الخفية كما نص عليه ابن عباس رضي الله عنه قال وعن عمر بن الخطاب أن رسول الله ﷺ قال من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك رواه الترمذي وحسنه وصححه الحاكم ش قوله عن عمر بن الخطاب هكذا وقع في الكتاب وصوابه عن ابن عمر كذلك أخرجه احمد وأبو داود والترمذي والحاكم وصححه ابن حبان وقال الزين العراقي في اماليه إسناده ثقات قوله من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك قال بعضهم ما معناه رواه الترمذي بأوالتي للشك وفي ابن حبان والحاكم عدمها وفي رواية للحاكم كل يمين يحلف بها دون الله شرك وفي الصحيحين من حديث ابن عمر مرفوعا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وعن بريدة مرفوعا من حلف بالأمانة فليس منا رواه أبو داود والأحاديث في ذلك كثيرة وقد تقدم كلام ابن عباس في عده ذلك من الأنداد وقال كعب إنكم تشركون في قول الرجل كلا وأبيك كلا والكعبة كلا وحياتك وأشباه هذا احلف بالله صادقا أو كاذبا ولا تحلف بغيره رواه ابن أبي الدنيا في الصمت
وأجمع العلماء على أن اليمين لا تكون إلا بالله أو بصفاته وأجمعوا على المنع من الحلف بغيره قال ابن عبد البر لا يجوز الحلف بغير الله بالاجماع انتهى ولا اعتبار بمن قال من المتأخرين إن ذلك على سبيل كراهة التنزيه فإن هذا قول باطل وكيف يقال ذلك لما أطلق عليه الرسول ﷺ أنه كفر أو شرك بل ذلك محرم ولهذا اختار ابن مسعود رضي الله عنه أن يحلف بالله كاذبا ولا يحلف بغيره صادقا فهذا يدل على أن الحلف بغير الله أكبر من الكذب مع أن الكذب من المحرمات في جميع الملل فدل ذلك أن الحلف بغير الله من أكبر المحرمات فإن قيل أن الله تعالى أقسم بالمخلوقات في القرآن قيل ذلك يختص بالله تبارك وتعالى فهو يقسم بما شاء من خلقه لما في ذلك من الدلالة على قدرة الرب ووحدانيته والهيته وعلمه وحكمته وغير ذلك من صفات كماله وأما المخلوق فلا يقسم إلا بالخالق تعالى فالله تعالى يقسم بما يشاء من خلقه وقد نهانا عن الحلف بغيره فيجب على العبد التسليم والإذعان لما جاء من عند الله قال الشعبي الخالق يقسم بما شاء من خلقه والمخلوق لا يقسم إلا بالخالق قال ولأن أقسم بالله فأحنث أحب إلى من ان أقسم بغيره فأبر وقال مطرف بن عبد الله إنما أقسم الله بهذه الأشياء ليعجب بها المخلوقين ويعرفهم قدرته لعظم شأنها عندهم ولدلالتها على خالقها ذكرهما ابن جرير فان قيل قد جاء في الحديث أن النبي ﷺ قال للأعرابي الذي سأله عن أمور الاسلام فأخبره فقال النبي ﷺ أفلح وأبيه إن صدق رواه البخاري وقال للذي سأله أي الصدقة أفضل أما وأبيك لتنبأنه
رواه مسلم ونحو ذلك من الأحاديث قيل ذكر العلماء عن ذلك اجوبة أحدها ما قاله ابن عبد البر في قوله أفلح وأبيه إن صدق هذه اللفظة غير محفوظة وقد جاءت عن راويها اسماعيل بن جعفر أفلح والله إن صدق قال وهذا أولى من رواية من روى عنه بلفظ أفلح وأبيه لأنها لفظة منكرة تردها الآثار الصحاح ولم تقع في رواية مالك أصلا وزعم بعضهم أن بعض الرواة عنه صحف قوله وابيه من قوله والله انتهى وهذا جواب عن هذا الحديث الواحد فقط ولا يمكن أن يجاب به عن غيره الثاني أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم به والنهي وإنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ذكره البيهقي وقال النووي إنه المرضى قلت هذا جواب فاسد بل أحاديث النهي عامة مطلقة ليس فيها تفريق بين من قصد القسم وبين من لم يقصد ويؤيد ذلك أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه حلف مرة باللات والعزى ويبعد ان يكون أراد حقيقة الحلف بهما ولكنه جرى على لسانه من غير قصد على ما كانوا يعتادونه قبل ذلك ومع هذا نهاه النبي ﷺ غاية ما يقال أن من جرى ذلك على لسانه من غير قصد معفو عنه أما أن يكون ذلك أمرا جائزا للمسلم أن يعتاده فكلا وايضا فهذا يحتاج إلى نقل ان ذلك كان يجري على ألسنتهم من غير قصد للقسم وأن النهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف وأنى يوجد ذلك
الثالث أن مثل ذلك يقصد به التأكيد لا التعظيم وانما وقع النهي عما يقصد به التعظيم قلت وهذا افسد من الذي قبله وكأن من قال ذلك لم يتصور ما قال فهل يراد بالحلف إلا تأكيد المحلوف عليه بذكر من يعظمه الحالف والمحلوف له فتأكيد المحلوف عليه بذكر المحلوف به مستلزم لتعظيمه وايضا فالأحاديث مطلقة ليس فيها تفريق وأيضا فهذا يحتاج الى نقل أن ذلك جائز للتأكيد دون التعظيم وذلك معدوم الرابع أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله فهو قبل النسخ ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله وهذا الجواب ذكره الماوردي قال السهيلي أكثر الشراح عليه حتى قال ابن العربي روي أنه ﷺ كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك قال السهيلي ولا يصح ذلك وكذلك قال غيرهم وهذا الجواب هو الحق يؤيده أن ذلك كان مستعملا شائعا حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي ﷺ أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت رواه البخاري ومسلم وعنه أيضا قال قال رسول الله ﷺ من كان حالفا فلا يحلف الا بالله وكانت قريش تحلف بآبائها فقال ولا تحلفوا بآبائكم رواه مسلم وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال حلفت مرة باللات والعزى فقال النبي ﷺ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له ثم انفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ ولا تعد رواه النسائي وابن ماجه وهذا لفظه وفي هذا المعنى أحاديث فما ورد
فيه ذكر الحلف بغير الله فهو جار على العادة قبل النهي لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك وقوله فقد كفر أو أشرك أخذ به طائفة من العلماء فقالوا يكفر من حلف بغير الله كفر شرك قالوا ولهذا أمره النبي ﷺ بتجديد إسلامه بقول لا إله إلا الله فلولا أنه كفر ينقل عن الملة لم يؤمر بذلك وقال الجمهور لا يكفر كفرا ينقله عن الملة لكنه من الشرك الأصغر كما نص على ذلك ابن عباس وغيره وأما كونه أمر من حلف باللات والعزى أن يقول لا إله إلا الله فلأن هذا كفارة له مع استغفاره كما قال في الحديث الصحيح من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله وفي رواية فليستغفر فهذا كفارة له في كونه تعاطي صورة تعظيم الصنم حيث حلف به لاأنه لتجديد إسلامه ولو قدر ذلك فهو تجديد لإسلامه لنقصه بذلك لا لكفره لكن الذي يفعله عباد القبور إذا طلبت من أحدهم اليمين بالله أعطاك ما شئت من الإيمان صادقا أو كاذبا فإذا طلبت منه اليمين بالشيخ أرتربته أو حياته ونحو ذلك لم يقدم على اليمين به إن كان كاذبا فهذا شرك أكبر بلا ريب لأن المحلوف به عنده أخوف وأجل وأعظم من الله وهذا ما بلغ اليه شرك عباد الأصنام لأن جهد اليمين عندهم هو الحلف بالله كما قال تعالى وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت فمن كان جهد يمينه الحلف بالشيخ أو بحياته أو تربته فهو أكبر شركا منهم فهذا هو تفصيل القول في هذه المسألة والحديث دليل على أنه لا تجب الكفارة بالحلف بغير الله مطلقا لأنه لم يذكر فيه كفارة للحلف بغير الله
ولا في غيره من الأحاديث فليس فيه كفارة إلا النطق بكلمة التوحيد والاستغفار وقال بعض المتأخرين تجب الكفارة بالحلف برسول الله ﷺ خاصة وهذا قول باطل ما أنزل الله به من سلطان فلا يلتفت اليه وجوابه المنع قال المصنف وقال ابن مسعود لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ش هكذا ذكر المصنف هذا الأثر عن ابن مسعود ولم يعزه وقد ذكره ابن جرير غير مسند أيضا قال وقد جاء عن ابن عباس وابن عمر نحوه ورواه الطبراني باسناد موقوفا هكذا قال المنذري ورواته رواة الصحيح قوله لأن أحلف بالله إلى آخره أن هي المصدرية والفعل بعدها منصوب في تأويل مصدر مرفوع على الابتداء وأحب خبره ومعناه ظاهر وانما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذبا على الحلف بغيره صادقا لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق وسيئة الكذب اسهل من سيئة الشرك ذكره شيخ الاسلام وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقا أعظم من اليمين الغموس وفيه دليل على أن الشرك الأصغر اكبر من الكبائر وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي ارتكاب أقل الشرين ضررا إذا كان لا بد من أحدهما قال وعن حذيفة عن النبي ﷺ قال لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان رواه أبو داود بسند صحيح ش هذا الحديث رواه ابو داود كما قال المصنف ورواه أحمد وابن أبي
شيبة والنسائي وابن ماجه والبيهقي وله علة وله شواهد وهو صحيح المعنى بلا ريب وسيأتي الكلام على معناه في باب ما شاء الله وشئت إن شاء الله قال وجاء عن إبراهيم النخعي أنه يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويجوز أن يقول بالله ثم بك قال ويقول لولا الله ثم فلان ولا تقولوا لولا الله وفلان هذا الأثر رواه المصنف غير معزو وقد رواه عبدالرزاق وابن أبي الدنيا في كتاب الصمت عن مغيرة قال كان ابراهيم يكره أن يقول الرجل أعوذ بالله وبك ويرخص أن يقول أعوذ بالله ثم بك ويكره أن يقول لولا الله وفلان ويرخص أن يقول لولا الله ثم فلان لفظ ابن أبي الدنيا وذلك والله أعلم لأن الواو تقتضي مطلق الجمع فمنع منها للجمع لئلا توهم الجمع بين الله وبين غيره كما منع من جمع اسم الله واسم رسوله في ضمير واحد وثم إنما تقتضي الترتيب فقط فجاز ذلك لعدم المانع ومطابقة الحديثين والأثرين للترجمة ظاهرة على ما فسر به ابن عباس رضي الله عنه الآية باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله أي من الوعيد لأن ذلك يدل على قلة تعظيمه لجناب الربوبية إذ القلب الممتلىء بمعرفة عظمة الله وجلاله وعزته وكبريائه لا يفعل ذلك
قال عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال لا تحلفوا بآبائكم من حلف بالله فليصدق ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس من الله رواه ابن ماجه بسند حسن ش هذا الحديث رواه ابن ماجه في سننه وترجم عليه من حلف له بالله فليرض حدثنا محمد بن اسماعيل بن سمرة ثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال سمع النبي ﷺ رجلا يحلف بأبيه فقال لا تحلفوا بآبائكم الحديث وهذا إسناد جيد على شرط مسلم عند الحاكم وغيره فإنه متصل ورواته ثقات بل قد روى مسلم عن ابن عجلان عن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ كان يأتي قباء راكبا وماشيا وأصل هذا الحديث في الصحيحين عن ابن عمر بلفظ لا تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله وليصمت وليس فيه هذه الزيادة قوله لا تحلفوا بآبائكم تقدم ما يتعلق به في الباب قبله قوله من حلف بالله فليصدق أي وجوبا لأن الصدق واجب ولو لم يحلف بالله فكيف اذا حلف به وأيضا فالكذب حرام لو لم يؤكد الخبر باسم الله فكيف إذا أكده باسم الله قوله ومن حلف له بالله فليرض أي وجوبا كما يدل عليه قوله ومن لم يرض فليس من الله ولفظ ابن ماجه ومن لم يرض بالله فليس من الله وهذا وعيد كقوله تعالى ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء قال ابن كثير اي فقد برىء من الله وهذا عام في
الدعاوى وغيرها ما لم يفض إلى إلغاء حكم شرعي كمن تشهد عليه البينة الشرعية فيحلف على تكذيبها فلا يقبل حلفه ولهذا لما رأى عيسى عليه السلام رجلا يسرق فقال له سرقت قال كلا والله الذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت عيني رواه البخاري وفيه وجهان أحدهما قال القرطبي ظاهر قول عيسى عليه السلام للرجل سرقت أنه خبر جازم لكونه أخذ مالا من حرز في خفية وقول الرجل كلا نفي لذلك ثم أكده باليمين وقول عيسى آمنت بالله وكذبت عيني أي صدقت من حلف بالله وكذبت ما ظهر لي من كون الأخذ سرقة فإنه يحتمل أن يكون الرجل أخذ ماله فيه حق أو ما أذن له صاحبه في أخذه أو أخذه ليقلبه وينظر فيه ولم يقصد الغصب والاستيلاء قلت وهذا فيه نظر وصدق الحديث يرده وهو قول النبي ﷺ رأى عيسى رجلا يسرق فأثبت ﷺ سرقته الثاني ما قاله ابن القيم إن الله تعالى كان في قلبه أجل من أن يحلف به أحد كاذبا فدار الأمر بين تهمة الحالف وتهمة بصره فرد التهمة الى بصره كما ظن آدم عليه السلام صدق ابليس لما حلف له أنه ناصح قلت هذا القول أحسن من الأول وهو الصواب إن شاء الله تعالى وحدثت عن المصنف أنه حمل حديث الباب على اليمين في الدعاوى كمن يتحاكم عند الحاكم فيحكم على خصمه باليمين فيحلف فيجيب عليه أن يرضى
باب قول ما شاء الله وشئت أي ما حكم التكلم بذلك هل يجوز أم لا وإذا قلنا لا يجوز فهل هو من الشرك أم لا قال عن قتيلة أن يهوديا أتى النبي ﷺ فقال إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وأن يقولوا ما شاء الله ثم شئت رواه النسائي وصححه ش هذا الحديث رواه النسائي في السنن واليوم والليلة وهذا لفظه في اليوم والليلة أخبرنا يوسف بن عيسى قال ثنا الفضل بن موسى قال أنا مسعر عن معبد بن خالد عن عبدالله بن يسار عن قتيلة امرأة من جهينة أن يهوديا أتى النبي ﷺ فقال إنكم تنددون وتشركون تقولون ما شاء الله وشئت وتقولون والكعبة فأمرهم النبي عليه السلام إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة وقول أحدكم ما شاء الله ثم شئت رواه عن أحمد بن حفص حدثني أبي حدثني ابراهيم بن طهمان عن مغيرة عن معبد بن خالد عن قتيلة امراة من جهينة قالت دخلت يهودية على عائشة فقالت إنكم تشركون وساق الحديث ولم يذكر عبدالله بن يسار والمشهور ذكره وقد رواه ابن سعد والطبراني وابن منده وأشار ابن سعد الى انها ليس لها غيره قوله عن قتيلة هو بضم القاف وفتح التاء بعدها مثناة تحتية مصغرا
بنت صيفي الجهنية أو الأنصارية صحابية قوله إنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشئت هذا نص في أن هذا اللفظ من الشرك لأن النبي ﷺ أقر اليهودي على تسمية هذا اللفظ تنديدا أو شركا ونهى النبي ﷺ عن ذلك وأرشد إلى استعمال اللفظ البعيد من الشرك وقول ما شاء الله ثم شئت وإن كان الأولى قول ما شاء وحده كما يدل عليه حديث ابن عباس وغيره وعلى النهي عن قول ما شاء الله وشئت جمهور العلماء إلا أنه حكي عن أبي جعفر الداودي ما يقتضي جواز ذلك احتجاجا لقوله تعالى وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله وقوله وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ونحو ذلك والصواب القول الاول فان النبي ﷺ أنكر ذلك وقال لمن قال له ذلك أجعلتني لله ندا وأقرن من أسمائه تنديدا وشركا على تسميته ومن المحال ان يكون هذا أمرا جائزا وأما ما احتج من القرآن فقد ذكروا عن ذلك جوابين أحدهما ان ذلك لله وحده لا شريك له كما انه تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته فكذلك هذا الثاني أن قوله ما شاء الله وشئت تشريك في مشيئة الله وأما الآية فإنما إخبر بها عن فعلين متغايرين فأخبر تعالى أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لانه الذي قدر ذلك ومن الرسول ﷺ حقيقة باعتبار تعاطي الفعل وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بالإسلام والنبي صلى الله عليه و سلم أنعم عليه بالعتق وهذا بخلاف المشاركة في الفعل الواحد فالكلام إنما هو فيه والمنع
انما هو منه فإن قلت قد ذكر النحاة أن ثم تقتضي اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في الحكم كالواو فلم جاز ذلك بثم ومنع منه الواو وغاية ما يقال إن ثم تقتضي الترتيب بخلاف الواو فإنها تقتضي مطلق الجمع وهذا لا يغير صورة الاشتراك قبل النهي عن ذلك إنما هو إذا أتى بصورة التشريك جميعا وهذا لا يحصل إلا بالواو بخلاف ثم فإنها لا تقتضي الجمع إنما تقتضي الترتيب فإذا أتى بها زالت صورة التشريك والجمع في اللفظ وأما المعنى فلله تعالى ما يختص به من المشيئة وللمخلوق ما يختص به فلو أتى بثم وأراد أنه شريك لله تعالى في المشيئة كلولا الله ثم فلان مثلا لم يوجد ذلك فالنهي باق بحاله بل يكون في هذه الصورة أشد ممن أتى بالواو مع عدم هذا الاعتقاد ويشبه ذلك الجمع بين اسم الله واسم غيره في ضمير واحد ولهذا أنكره النبي ﷺ على الخطيب قال ومن يعصهما فقد غوى فقال له بئس الخطيب أنت قوله فامرهم النبي ﷺ اذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة تقدم ما يتعلق بالحلف بغير الله قريبا وفي الحديث من الفوائد معرفة اليهود بالشرك الأصغر وكثير ممن يدعي الاسلام لا يعرف الشرك الاكبر بل يصرف خالص العبادات من الدعاء والذبح والنذر لغير الله ويظن أن ذلك من دين الاسلام فعلمت أن اليهود في ذلك الوقت أحسن حالا ومعرفة منهم وفيه فهم الانسان إذا كان له هوى كما نبه عليه المصنف وأن المعرفة بالحق لا تستلزم الإيمان ولا العمل وقبول الحق ممن جاء به وإن كان عدوا مخالفا في الدين وإن الحلف بغير الله من الشرك وأن الشرك الأصغر لا يمرق به الانسان من الاسلام قال وله ايضا عن ابن عباس أن رجلا قال للنبي ﷺ ما شاء الله
وشئت قال أجعلتني لله ندا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث رواه النسائي كما قال المصنف لكن في اليوم والليلة وهذا لفظه أخبرنا علي بن خشرم عن عيسى عن الأجلح عن يزيد بن الأصم عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي ﷺ فكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت فقال النبي ﷺ أجعلتني لله عدلا قل ما شاء الله وحده ورواه ابن ماجه في الكفارات من السنن عن هشام بن عمار عن عيسى نحوه ولفظه إذا حلف أحدكم فلا يقل ما شاء الله وشئت الحديث وقد تابع عيسى على هذا الحديث سفيان الثوري وعبدالرحمن المجازلي وجعفر بن عون عن الأجلح وكلهم ثقات وخالفهم القاسم بن مالك وهو ثقة فرواه عن الأجلح عن أبي الزبير عن جابر والأول أرجح ويحتمل أن يكون عند الأجلح عنهما جميعا قوله أجعلتني لله ندا هذه رواية ابن مردويه والرواية عند النسائي وابن ماجه أجعلتني لله عدلا والمعنى واحد قال ابن القيم ومن ذلك أي من الشرك بالله في الألفاظ قول القائل للمخلوق ما شاء الله وشئت كما ثبت عن النبي ﷺ أنه قال له رجل ما شاء الله وشئت وذكر الحديث المشروح ثم قال هذا مع أن الله قد اثبت للعبد مشيئة لقوله لمن شاء منكم أن يستقيم فكيف بمن يقول أنا متوكل على الله وعليك وأنا في حسب الله وحسبك وما لي إلا الله وأنت وهذا من الله ومنك وهذا من بركات الله وبركاتك والله لي في السماء وأنت لي في الأرض والله وحياة فلان أو يقول نذرا لله ولفلان وأنا تائب لله ولفلان وأرجو الله وفلانا فوازن بين هذه الألفاظ وبين قول
القائل ما شاء الله وشئت ثم انظر أيهما أفحش يتبين لك أن قائلها أولى بجواب النبي ﷺ القائل تلك الكلمة وأنه إذا كان قد جعله ندا بها فهذا قد جعل من لا يداني رسول الله ﷺ في شيء من الأشياء بل لعله أن يكون من أعدائه ندا لرب العالمين فالسجود والعبادة والتوكل والانابة والتقوى والخشية والتوبة والنذر والحلف والتسبيح والتكبير والتهليل والتحميد والاستغفار وحلق الرأس خضوعا وتعبدا والطواف بالبيت والدعاء كل ذلك محض حق الله الذي لا يصلح ولا ينبغي لسواه من ملك مقرب ولا نبي مرسل وفي مسند الإمام أحمد أن رجلا أتي به الى النبي ﷺ قد أذنب فلما وقف بين يديه قال اللهم إني أتوب اليك ولا أتوب الى محمد فقال عرف الحق لأهله قلت إذا كان هذا كلامه ﷺ لمن قال له ما شاء الله وشئت فكيف بمن يقول فيه ... فإن من جودك الدنيا وضرتها ... ومن علومك علم اللوح والقلم ... ويقول في همزيته ... هذه علتي وأنت طبيبي ... ليس يخفى عليك في القلب داء ... وأشباه هذا من الكفر الصريح قال ولابن ماجه عن الطفيل أخي عائشة لأمها قال رأيت كاني أتيت على نفر من اليهود قلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء
الله وشاء محمد ثم مررت بنفر من النصارى فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون المسيح ابن الله قالوا وإنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته قال هل أخبرت بها أحدا قلت نعم قال فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن طفيلا رأى رؤيا أخبر بها من أخبر منكم وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده ش هذا الحديث لم يروه ابن ماجه بهذا اللفظ عن الطفيل إنما رواه عن حذيفة ولفظه حدثنا هشام بن عمار ثنا سفيان بن عيينة عن عبدالملك ابن عمير عن ربعي بن حراش عن حذيفة بن اليمان ان رجلا من المسلمين رأى في النوم أنه لقي رجلا من أهل الكتاب فقال نعم القوم أنتم لولا أنكم تشركون تقولون ما شاء الله وشاء محمد وذكر ذلك للنبي ﷺ فقال أما والله إن كنت لأعرفها لكم قولوا ما شاء الله ثم شاء محمد ورواه أحمد والنسائي بنحوه وفي رواية للنسائي أن الراوي لذلك هو حذيفة نفسه هذه رواية ابن عيينة ثم ذكر ابن ماجة حديث الطفيل هذا فساق اسناده ولم يذكر اللفظ فقال حدثنا ابن أبي الشوارب ثنا ابن عوانة عن عبد الملك عن ربعي بن حراش عن الطفيل بن سخبرة اخي عائشة لأمها عن النبي ﷺ بنحوه هذا لفظ ابن ماجة وهكذا رواه حماد بن سلمة وشعبة وابن إدريس عن عبدالملك فقالوا عن الطفيل وهو الذي رجحه الحفاظ وقالوا ابن عيينة وهم في قوله عن حذيفة فقد تبين أن هذا الحديث المذكور لم يروه ابن ماجة بهذا اللفظ لكن رواه أحمد والطبراني بنحو مما ذكره المصنف
قوله عن الطفيل هو ابن سخبرة وفي حديثه هذا أنه أخو عائشة لأمها وكذا قال الحربي وقال الذي عندي ان الحارث بن سخبرة قدم مكة فخالف أبا بكر فمات فخلف أبو بكر على أم رومان فولدت له عبدالرحمن وعائشة وكان لها من الحارث الطفيل بن الحارث فهو أخو عائشة لأمها وقيل غير ذلك وهو صحابي ليس له إلا هذا الحديث قال البغوي لا أعلم له غيره قوله رأيت فيما يرى النائم كما روى أحمد والطبراني قوله على نفر من اليهود وفي رواية أحمد والطبراني كأني مررت برهط من اليهود فقلت من أنتم فقالوا نحن اليهود والنفر رهط الانسان وعشيرته وهواسم جمع يقع على جماعة من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة ولا واحد له من لفظه قال أبو السعادات قوله فقلت إنكم لأنتم القوم لولا أنكم تقولون عزير ابن الله أي نعم القوم أنتم لولا ما أنتم عليه من الشرك والمسبة لله بنسبة الولد إليه وهذا لفظ الطبراني ولفظ أحمد قال أنتم القوم قوله قالوا وأنت لأنتم القوم لولا أنكم تقولون ما شاء الله وشاء محمد عارضوه بذكر شيء مما في المسلمين من الشرك الأصغر فقالوا له هذا الكلام أي نعم القوم أنتم لولا ما فيكم من الشرك وكذلك جرى له مع النصارى قوله فلما أصبحت أخبرت بها من أخبرت وفي رواية أحمد فلما أصبح أخبر بها من أخبر وفي رواية الطبراني فما أصبحت أخبرت بها أناسا قوله ثم أتيت النبي ﷺ فأخبرته فيه حسن خلقه ﷺ وعدم
احتجابه عن الناس كالملوك بحيث اذا أراد أحد الوصول إليه أمكنه ذلك بلا كلفة ولا مشقه بل يصلون إليه ويقضي حاجتهم ويخبرونه بما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ويقصون عليه ما يرونه في المنام بل كان ﷺ يعتي بالرؤيا لأنها من أقسام الوحي وكان إذا صلى الصبح كثيرا ما يقول هل رأى أحد منكم رؤيا قوله فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية أحمد فلما أصبحوا خطبهم فحمد الله وأثنى عليه وفي رواية الطبراني فما صلى الظهر قام خطيبا ففيه مشروعية حمد الله والثناء عليه في الخطب وفيه الخطبة في الأمور المهمة وأما معنى الحمد فقد تقدم في باب قول الله تعالى أيشركون ما لا يخلق شيئا وأما الثناء فقال ابن القيم هو تكرار المحامد قوله ثم قال اما بعد في رواية احمد والطبراني ثم قال إن طفيلا رأى رؤيا ولم يذكر أما بعد وفي رواية للطبراني فقام نبي الله على المنبر فقال إن أخاكم رأى رؤيا قد حدثكم بما رأى فيه مشروعيه اما بعد في الخطب في هذ الحديث وإلا فلا يضر فإنها ثابتة في خطبه عليه السلام وفي غيره قوله وإنكم قلتم كلمة كان يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها وفي رواية أحمد والطبراني وانكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها وهذا الحياء منهم ليس على سبيل الحياء من الإنكار عليهم بل كان ﷺ يكرهها ويستحيي أن يذكرها لأنه لم يأمر بإنكارها فلما جاء الامر الإلهي بالرؤيا الصالحة أنكرها ولم يستحي في ذلك
وفيه دليل على أنها من الشرك الأصغر إذ لو كانت من الأكبر لأنكرها من اول مرة قالوها وفيه ما كان عليه النبي ﷺ من الحياء وأنه من الأخلاق المحمودة قوله فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد ولكن قولوا ما شاء الله وحده هذا على سبيل الاستحباب وإلا فيجوز أن يقول ما شاء الله ثم شاء فلان كما تقدم وفيه أن الرؤيا قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام كما في هذا الحديث وحديث الأذان وحديث الذكر بعد الصلوات باب من سب الدهر فقد آذى الله ش مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة لأن سب الدهر يتضمن الشرك كما سيأتي بيانه ولفظ الأذى في اللغة هو لما خف أمره وضعف أثره من الشرك والمكروه ذكره الخطابي قال شيخ الاسلام وهو كما قال وهذا بخلاف الضرر فقد أخبر سبحانه أن العباد لا يضرونه كما قال تعالى ولا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إنهم لن يضروا الله شيئا فبين سبحانه أن الخلق لا يضرونه لكن يؤذونه اذا سبوا مقلب الأمور وقال وقول الله تعالى وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا الا الدهر الآية
ش قال ابن كثير يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا قال ابن جرير أي ما حياة إلا حياتنا التي نحن فيها لا حياة سواها تكذيبا منهم بالبعث بعد الموت نموت ونحيا قال ابن كثير أي يموت قوم ويعيش آخرون وما ثم معاد ولا قيامة وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون للمعاد وتقوله الفلاسفة الإلهيون منهم وهم ينكرون البدأة والرجعة وتقوله الفلاسفة الدورية المنكرون للصانع المعتقدون في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء الى ما كان عليه فزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهي فكابروا العقول وكذبوا المنقول ولهذا قالوا وما يهلكنا إلا الدهر قال ابن جرير أي ما يهلكنا فيفنينا الا مر الليالي والايام وطول العمر إنكارا منهم أن يكون لهم رب يفنيهم ويهلكهم ثم روى باسناد على شرط الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال كان أهل الجاهلية يقولون إنما يهلكنا الليل والنهار وهو الذي يهلكنا ويميتنا ويحيينا فقال الله في كتابه وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا قال فيسبون الدهر فقال الله تبارك وتعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار قوله وما لهم بذلك من علم قال ابن جرير يعني من يقين علم إن هم إلا يظنون قال ابن كثير يتوهمون ويتخيلون فإن قلت فأين مطابقة الآية للترجمة إذا كانت خبرا عن الدهرية المشركين
قيل المطابقة ظاهرة لأن من سب الدهر فقد شاركهم في سبه وإن لم يشاركهم في الاعتقاد قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال قال الله تعالى يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وانا الدهر اقلب الليل والنهار وفي رواية لا تسبوا الدهر فان الدهر هو الله ش قوله في الصحيح أي صحيح البخاري ورواه احمد بهذا اللفظ وأخرجه مسلم بلفظ آخر قوله يؤذيني ابن آدم يسب الدهر فيه ان سب الدهر يؤذي الله تبارك وتعالى قال الشافعي في تأويله والله أعلم إن العرب كان من شأنها أن تذم الدهر وتسبه عند المصائب التي تنزل بهم من موت أو هرم أو تلف أو غير ذلك فيقولون إنما يهلكنا الدهر وهو الليل والنهار ويقولون أصابتهم قوارع الدهر وأبادهم الدهر فيجعلون الليل والنهار يفعلان الاشياء فيذمون الدهر بأنه الذي يفنيهم ويفعل بهم فقال رسول الله ﷺ لا تسبوا الدهر على أنه الذي يفنيكم والذي يفعل بكم هذه الاشياء فإنكم إذا سببتم فاعل هذه الاشياء فإنما تسبون الله تبارك وتعالى فإنه فاعل هذه الاشياء انتهى قلت والظاهر أن المشركين نوعان أحدهما من يعتقد أن الدهر هو الفاعل فيسبه لذلك فهؤلاء هم الدهرية الثاني من يعتقد أن المدبر للامور هو الله وحده لا شريك له ولكن
يسبون الدهر لما يجري عليهم فيه من المصائب والحوادث فيضيفون ذلك اليه من إضافة الشيء الى محله لا لأنه عندهم فاعل لذلك والحديث صريح في النهي عن سب الدهر مطلقا سواء اعتقد أنه فاعل أو لم يعتقد ذلك كما يقع كثيرا ممن يعتقد الإسلام كقول ابن المعتز ... يا دهر ويحك ما أبقيت لي أحدا ... وانت والد سوء تأكل الولدا ... وقول أبي الطيب ... قبحا لوجهك يا زمان كأنه ... وجه له من كل قبح برقع ... وقول الطرفي ... إن تبتلى بلئام الناس يرفعهم ... عليك دهر لأهل الفضل قد خانا ... وقول الحريري ... ولا تأمن من الدهر الخؤون ومكره ... فكم خامل أخنى عليه ونابه ... ونحو ذلك كثير وكل هذا داخل في الحديث قال ابن القيم وفي هذا ثلاث مفاسد عظيمة أحدها سبه من ليس أهلا للسب فإن الدهر خلق مسخر من خلق الله منقاد لأمره متذلل لتسخيره فسابه أولى بالذم والسب منه والثانية أن سبه متضمن للشرك فإنه إنما سبه لظنه أنه يضر وينفع وأنه مع ذلك ظالم قد ضر من لا يستحق العطاء ورفع من لا يستحق الرفعة وحرم من لا يستحق الحرمان وهو عند شاتميه من أظلم
الظلمة وأشعار هؤلاء الظلمة الخونة في سبه كثيرة جدا وكثير من الجهال يصرح بلعنه وتقبيحه الثالثة أن السب منهم إنما يقع على من فعل هذه الأفعال التي لو اتبع الحق فيها أهواءهم لفسدت السموات والارض وإذا وافقت أهواءهم حمدوا الدهر وأثنوا عليه وفي حقيقة الأمر فرب الدهر هو المعطي المانع الخافض الرافع المعز المذل والدهر ليس له من الأمر شيء فمسبتهم الدهر مسبة لله تعالى ولهذا كانت مؤذية للرب تعالى فساب الدهر دائر بين امرين لا بد له من أحدهما إما مسبة الله أوالشرك به فإنه إن اعتقد ان الدهر فاعل مع الله فهو مشرك وإن اعتقد أن الله وحده هو الذي فعل ذلك وهو يسب من فعله فهو يسب الله تعالى انتهى وأشار ابن أبي حمزة إلى ان النهي عن سب الدهر تنبيه بالأعلى على الادنى وأن فيه إشارة إلى ترك سب كل شيء مطلق إلا ما أذن الشرع فيه لأن العلة واحدة قوله وأنا الدهر قال الخطابي معناه أنا صاحب الدهر ومدبر الأمور التي ينسبونها إلى الدهر فمن سب الدهر من أجل أنه فاعل هذه الأمور عاد سبه إلى ربه الذي هو فاعلها وإنما الدهر زمان جعل ظرفا لمواقع الأمور قلت ولهذا قال في الحديث وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار وفي رواية لأحمد بيدي الليل والنهار أجده وأبليه وأذهب بالملوك وفي رواية لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر الأيام والليالي أجددها وأبليها وآتي بملوك بعد ملوك قال الحافظ وسنده صحيح فقد تبين بهذا
خطا ابن حزم في عده الدهر من أسماء الله الحسنى وهذا غلط فاحش ولو كان كذلك لكان الذين قالوا وما يهلكنا إلا الدهر مصيبين قوله وفي رواية هذه الرواية رواها مسلم وغيره قال المصنف وفيه أنه قد يكون سبا ولو لم يقصده بقلبه باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه كأقضى القضاة وحاكم الحكام أو سيد الناس ونحو ذلك أي ما حكم التسمي بذلك هل يجوز أم لا قال في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال إن أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك لا مالك إلا الله قال سفيان مثل شاهان شاه وفي رواية اغيظ رجل على الله وأخبثه قوله أخنع يعني أوضع ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله إن أخنع ذكر المصنف أن معناه أوضع وهذا التفسير رواه مسلم عن الامام أحمد عن أبي عمرو الشيباني قال عياض معناه أنه أشد الاسماء صغارا وبنحو ذلك فسره أبو عبيد والخانع الذليل وخنع الرجل ذل قال ابن بطال وإذا كان الاسم أذل الأسماء كان من تسمى به أشد ذلا وقد فسر الخليل أخنع أفجر فقال الخنع الفجور وفي رواية أخنى
الأسماء من الخنا بفتح المعجمة وتخفيف النون مقصور وهوالفحش في القول وفي رواية اشتد غضب الله على من زعم أنه ملك الاملاك رواه الطبراني قوله رجل يسمى بصيغة المجهول من التسمية أي يدعى بذلك ويرضى به وفي بعض الروايات تسمى بفتح الفوقانية وتشديد الميم ماض معلوم من التسمي اي سمى نفسه قوله ملك الأملاك هو بكسر اللام من ملك والأملاك جمع ملك ثم أكد النبي ﷺ التشديد في تحريم التسمي بذلك بقوله لا مالك إلا الله فالذي تسمى بهذا الاسم قد كذب وفجر وارتقى الى ما ليس له بأهل بل هو حقيق برب العالمين فإنه الملك في الحقيقة فلهذا كان أذل الناس عند الله يوم القيامة والفرق بين الملك والمالك أن المالك هو المتصرف بفعله وأمره ذكره ابن القيم فالذي تسمى ملك الأملاك أو ملك الملوك قد بلغ الغاية في الكفر والكذب ولقد كان بعض السلاطين المساكين يفتخر بهذا الاسم فأذله الله قوله قال سفيان هو ابن عيينة تقدمت ترجمته قوله مثل شاهان شاه هو بكسر النون والهاء في آخره وقد تنون وليس هاء تأنيث فلا يقال بالمثناة أصلا وإنما مثل سفيان بشاهان شاه لأنه قد كثرت التسمية به في ذلك العصر فنبه سفيان بأن الاسم الذي ورد الخبر بذمه لا ينحصر في ملك الأملاك بل كل ما أدى معناه بأي لسان كان فهو مراد بالذم ذكره الحافظ والحديث صريح في تحريم التسمي بملك الأملاك
ونحوه كملك الملوك وسلطان السلاطين قال ابن القيم لما كان الملك لله وحده لا ملك على الحقيقة سواه كان أخنع اسم وأوضعه عنده وأبغضه له اسم شاهان شاه أي ملك الملوك وسلطان السلاطين فإن ذلك ليس لأحد غير الله فتسمية غيره بهذا من أبطل الباطل والله لا يحب الباطل وقد ألحق أهل العلم بهذا قاضي القضاة وقالوا ليس قاضي القضاة إلا من يقضي الحق وهو خير الفاصلين الذي إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ويلي هذا الاسم في القبح والكراهة والكذب سيد الناس وسيد الكل وليس ذلك إلا لرسول الله ﷺ خاصة كما قال أنا سيد ولد آدم فلا يجوز لأحد قط أن يقول عن غيره هو سيد الناس كما لا يجوز له أن يقول أنا سيد ولد آدم عليه السلام وقال ابن ابي جمرة يلتحق بملك الأملاك قاضي القضاة وإن كان قد اشتهر في بلاد الشرق من قديم الزمان إطلاق ذلك على كبير القضاة وقد سلم أهل المغرب من هذا فاسم كبير القضاة عندهم قاضي الجماعة وقد زعم بعض المتأخرين أن التسمي بقاضي القضاة ونحوها جائز واستدل له بحديث أقضاكم علي قال فيستفاد منه أن لا حرج على من أطلق على قاض أن يكون أعدل القضاة وأعلمهم في زمانه أقضى القضاة أو يريد إقليمه أو بلده وتعقبه العالم العراقي فصوب المنع ورد ما احتج به بأن التفضيل في ذلك وقع في حق من خوطب به ومن يلتحق بهم فليس مساويا لإطلاق التفضيل بالألف واللام قال ولا يخفى ما في ذلك من الجرأة وسوء الأدب ولا عبرة بقول من ولى القضاة فنعت بذلك فلذ في سمعه واحتال في الجواز فإن الحق أحق أن يتبع قلت وقد تبين بهذا مطابقة الحديث للترجمة
قوله وفي رواية أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه هذه الرواية رواها مسلم في صحيحه قال ابن أبي جمرة وفي الحديث مشروعية الأدب في كل شيء لأن الزجر عن ملك الأملاك والوعيد عليه يقتضي المنع منه مطلقا سواء أراد من تسمى بذلك أنه ملك على ملوك الأرض أم على بعضها وسواء كان محقا في ذلك أم مبطلا مع أنه لا يخفى الفرق بين من قصد ذلك وكان فيه صادقا ومن قصده وكان فيه كاذبا قلت يعني أن الثاني أشد إثما من الأول باب احترام أسماء الله تعالى وتغيير الاسم لأجل ذلك ش أي لأجل احترامها وهو تعظيمها وذلك من تحقيق التوحيد ويستفاد منه المنع من التسمي بهذا ابتداء من باب الأولى لكن في الأسماء المختصة بالله تعالى قال عن أبي شريح أنه كان يسمى أبا الحكم فقال له النبي ﷺ إن الله هو الحكم وإليه الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين فقال ما أحسن هذا فما لك من الولد فقلت شريح ومسلم وعبدالله قال فمن أكبرهم قلت شريح قال أنت أبو شريح رواه أبو داود وغيره ش هذا الحديث رواه أبو داود كما قال المصنف ورواه النسائي ولفظ أبي داود من طريق يزيد بن المقدام بن شريح عن أبيه عن جده عن
أبيه هانىء وهو أبو شريح أنه لما وفد على رسول الله ﷺ مع قومه سمعهم يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلىالله عليه وسلم فقال إن الله هو الحكم واليه الحكم فلم تكنى أبا الحكم فقال إن قومي إذا اختلفوا في شيء الحديث قال ابن مفلح واسناده جيد ورواه الحاكم وزاد فدعا له ولولده قوله عن أبي شريح هو بضم المعجمة وفتح الراء وآخره مهملة مصغر واسمه هانىء بن يزيد الكندي قال الحافظ وقيل الحارثي الضبابي قاله المزي وقيل المذحجي وقيل غير ذلك صحابي نزل الكوفة ولا عبرة بقبول من قال إنه الخزاعي ولا من ظن أنه النخعي والد شريح القاضي فإن ذلك خطأ فاحش قوله إنه كان يكنى ابا الحكم قال بعضهم الكنية قد تكون بالأوصاف كأبي الفضائل وأبي المعالي وأبي الخير وأبي الحكم وقد تكون بالنسبة الى الأولاد كأبي سلمة وأبي شريح الى ما يلابسه كأبي هريرة فإنه عليه السلام رآه ومعه هرة فكناه بأبي هريرة وقد تكون للعلمية الصرفة كأبي بكر قوله إن الله هو الحكم وإليه الحكم أما الحكم فهو من أسماء الله تبارك وتعالى كما في هذا الحديث وقد ورد عدة في الأسماء الحسنى مقرونا بالعدل فسبحان الله ما أحسن اقتران هذين الاسمين قال في شرح السنة الحكم هو الحاكم الذي إذا حكم لا يرد حكمه وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى كما قال تعالى والله يحكم لا معقب لحكمه وقال بعضهم عرف الخبر في الجملة الأولى وأتى بضمير الفصل فدل على الحصر وإن هذا
الوصف مختص به لا يتجاوز إلى غيره وأما قوله وإليه الحكم أي إليه الفصل بين العباد في الدنيا والآخرة كما قال تعالى له الحكم وإليه ترجعون وقال إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين وفيه الدليل على المنع من التسمي بأسماء الله المختصة به والمنع مما يوهم عدم الاحترام لها كالتكنى بأبي الحكم ونحوه قوله إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم أي أنا لم أكن نفسي بهذه الكنية وإنما كنت أحكم بين قومي فكنوني بها وفيه جواز التحاكم إلى من يصلح للقضاء إن لم يكن قاضيا وأنه يلزم حكمه ولهذا قال النبي ﷺ ما أحسن هذا قال الخلخالي للتعجب أي الحكم بين الناس حسن ولكن هذه الكنية غير حسنة وقال غيره أي الذي ذكرته من الحكم بالعدل وقيل ما أحسن هذا اي ما ذكرت من وجه الكنية قال بعضهم وهو الأولى قلت فعلى هذا يكون حكمه لقومه قبل إسلامه إذ يبعد أن يكون قاضيا لهم قبل أن يلقى رسول الله ﷺ ويتعلم منه لأن هذه القصة كانت بعد إسلامه بقليل لأنه كان مع وفد قومه حين أسلموا وقدموا على رسول الله ﷺ ولا يظن أن رسول الله ﷺ يحسن أمر حكام الجاهلية قوله قال شريح ومسلم وعبدالله صريح في أن الواو لا تقتضي الترتيب وإنما تقتضي مطلق الجمع فلذا سأله رسول الله ﷺ عن الأكبر إذ لو كانت دالة على الترتيب لم يحتج إلى سؤال عن أكبرهم قوله فأنت أبو شريح أي رعاية للأكبر منا في التكريم والاجلال
فإن الكبير أولى بذلك قال في شرح السنة فيه أن يكنى الرجل بأكبر بنيه فإن لم يكن له ابن فبأكبر بناته وكذلك المرأة تكنى بأكبر بنيها فإن لم يكن لها ابن فبأكبر بناتها انتهى وفيه تقديم الأكبر وفيه أن استعمال اللفظ الشريف الحسن مكروه في حق من ليس كذلك ومنه أن يقول المملوك لسيده وغيره ربي نبه عليه ابن القيم باب من هزل بشيء فيه ذكر الله أو القرآن او الرسول ش أي إنه يكفر بذلك لاستخفافه بجناب الربوبية والرسالة وذلك مناف للتوحيد ولهذا أجمع العلماء على كفر من فعل شيئا من ذلك فمن استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله أو بدينه كفر ولو هازلا لم يقصد حقيقة الاستهزاء اجماعا قال وقول الله تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب الآية ش يقول تعالى مخاطبا لرسوله ﷺ ولئن سألتهم أي سألت المنافقين الذين تكلموا بكلمة الكفر استهزاء ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب أي يعتذرون بأنهم لم يقصدوا الاستهزاء والتكذيب إنما قصدوا الخوض في الحديث واللعب قل أبالله ورسوله وآياته كنتم تستهزؤن لم يعبأ باعتذارهم
إما لأنهم كانوا كاذبين فيه وإما لأن الاستهزاء على وجه الخوض واللعب لا يكون صاحبه معذورا وعلى التقديرين فهذا عذر باطل فإنهم أخطؤوا موقع الاستهزاء وهل يجتمع الايمان بالله وكتابه ورسوله والاستهزاء بذلك في قلب بل ذلك عين الكفر لذلك كان الجواب مع ما قبله لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم قال شيخ الاسلام فقد أمره أن يقول كفرتم بعد إيمانكم وقول من يقول إنهم قد كفروا بعد إيمانهم بلسانهم مع كفرهم أولا بقلوبهم لا يصح لأن الإيمان باللسان مع كفر القلب قد قارنه الكفر فلا يقال قد كفرتم بعد إيمانكم فإنهم لم يزالوا كافرين في نفس الأمر وإن أريد إنكم أظهرتم الكفر بعد إظهاركم الإيمان فهم لم يظهروا ذلك إلا لخوضهم وهم مع خوضهم ما زالوا هكذا بل لما نافقوا وحذروا أن تنزل عليهم سورة تبين ما في قلوبهم من النفاق وتكلموا بالاستهزاء أي صاروا كافرين بعد إيمانهم ولا يدل اللفظ على أنهم ما زالوا منافقين إلى أن قال تعالى ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب فاعترفوا ولهذا قيل لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فدل على أنهم لم يكونوا عند أنفسهم قد أتوا كفرا بل ظنوا أن ذلك ليس بكفر فتبين أن الاستهزاء بآيات الله ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه فدل على أنه كان عندهم إيمان ضعيف ففعلوا هذا المحرم الذي عرفوا أنه محرم ولكن لم يظنوه كفرا وكان كفرا كفروا به فإنهم لم يعتقدوا جوازه وقوله إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة قال ابن كثير أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم بأنهم كانوا مجرمين
بهذه المقالة الفاجرة قيل إن الطائفة مخشي بن حمير عفا الله عنه وتسمى عبد الرحمن وسأل الله أن يقتل شهيدا لا يعلم مقتله فقتل يوم اليمامة ولم يعلم مقتله ولا من قتله ولا يدرى له عين ولا أثر وقيل إن الطائفة زيد بن وديعة والأول أشهر ويحتمل أن الله عفا عنهما جميعا وفي الآية دليل على أن الرجل إذا فعل الكفر ولم يعلم أنه كفر لا يعذر بذلك بل يكفر وعلى أن الساب كافر بطريق الأولى نبه عليه شيخ الإسلام قال عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة دخل حديث بعضهم في بعض أنه قال رجل في غزوة تبوك ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله ﷺ وأصحابه القراء فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله ﷺ فذهب عوف الى رسول الله ﷺ ليخبره فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله ﷺ وقد ارتحل وركب ناقته فقال يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ونتحدث حديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر كأني أنظر إليه متعلقا بنسعة ناقة رسول الله ﷺ وإن الحجارة لتنكب رجليه وهو يقول إنما كنا نخوض ونلعب فيقول له رسول الله ﷺ أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ما يلتفت اليه وما يزيد عليه ش هذا الأثر ذكره المصنف مجموعا من رواية ابن عمر ومحمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة وقد ذكره قبله كذلك شيخ الإسلام فأما أثر ابن عمر فرواه ابن جرير وابن أبي حاتم وغيرهما بنحو مما ذكره
المصنف وأما أثر محمد بن كعب وزيد بن أسلم وقتادة فهي معروفة لكن بغير هذا اللفظ قوله عن ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما ومحمد بن كعب هو محمد كعب بن سليم أبو حمزة القرظي المدني قال البخاري إن أباه كان ممن لم ينبت من بني قريظة وهو ثقة عالم مات سنة عشرين ومئة وزيد بن أسلم هو مولى عمر بن الخطاب والد عبدالرحمن وإخوته يكنى أبا عبدالله ثقة مشهور مات سنة ست وثلاثين ومئة وقتادة هو ابن دعامة وتقدم قوله دخل حديث بعضهم في بعض أي إن الحديث مجموع من رواياتهم فلذلك دخل بعضه في بعض قوله إنه قال رجل في غزوة تبوك لم أقف على تسمية القائل لذلك أبهم اسمه في جميع الروايات التي وقفت عليها ولكن قد ورد تسمية جماعة ممن نزلت فيهم الآية مع اختلاف الرواية فيما قالوه من الكلام ففي بعض الروايات أنهم قالوا ما ذكره المصنف وعن مجاهد في الآية قال رجل من المنافقين يحدثنا محمد أن ناقة فلان بواد كذا وكذا في يوم كذا وكذا وما يدريه بالغيب رواه ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وعن قتادة قال بينما رسول الله ﷺ في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين فقالوا يرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات فأطلع الله نبيه على ذلك فقال نبي الله ﷺ احبسوا علي الركب فأتاهم فقال قلتم كذا وقلتم كذا قالوا يا نبي الله إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم ما تسمعون رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم
وفي رواية جابر بن عبدالله عند ابن مردويه كان فيمن تخلف من المنافقين بالمدينة وداعة بن ثابت أحد بني عمرو بن عوف فقيل له ما خلفك عن رسول الله ﷺ فقال الخوض واللعب فأنزل الله فيه وفي أصحابه ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب إلى مجرمين وسمى ابن عباس في رواية عند ابن مرديه منهم وديعة بن ثابت ومخشي بن حمير وأنهم قالوا أتحسبون أن قتال بني الأصفر كقتال غيرهم والله لكأنكم غدا تفرون في الجبال القصة بكمالها فيحتمل أنهم قالوا ذلك كله فإن المنافقين إذا خلوا إلى شياطينهم أخذوا في الاستهزاء بالله وآياته ورسوله والمؤمنين فلا يبعد أنهم قالوا ذلك فكل ذكر بعض كلامهم والآية تعم ذلك وفي هذه الروايات ذكر أسماء القائلين لبعضهم ذلك منهم وديعة بن ثابت وقيل وداعة وزيد ابن وديعة ومخشي بن حمير الذي تاب الله عليه لكنه لم يقل ذلك إنما حضره وفي بعض الروايات أن عبدالله بن أبي هو الذي قال ذلك لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك وذكر ابن اسحاق أسماء الذين هموا بالفتك برسول الله ﷺ فعد جماعة فيحتمل أنهم من المستهزئين ويحتمل أنهم غيرهم ولهذا قال تعالى في المستهزئين قد كفرتم بعد إيمانكم وفي الآخرين ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء القراء جمع قارىء وهم عند السلف الذين يقرؤون القرآن ويعرفون معانيه أما قراءته من غير فهم لمعناه فلا يوجد في ذلك العصر وإنما حدث بعد ذلك من جملة البدع قوله أرغب بطونا أي أوسع بطونا الرغب والرغيب الواسع يقال
جوف رغيب وواد رغيب يصفونهم بسعة البطون وكثرة الأكل كما روى ابو نعيم عن شريح بن عبيد أن رجلا قال لأبي الدرداء ما بالكم أجبن منا وأبخل إذا سئلتم وأعظم لقما إذا أكلتم فأعرض عنه أبو الدرداء ولم يرد عليه شيئا وأخبر بذلك عمر بن الخطاب فانطلق عمر إلى الرجل الذي قال ذلك فأخذه بثوبه وخنقه وقاده إلى النبي ﷺ فقال الرجل إنما كنا نخوض ونلعب قوله فقال له عوف بن مالك كذبت ولكنك منافق فيه المبادرة في الإنكار والشدة على المنافقين وجواز وصف الرجل بالنفاق إذا قال أو فعل ما يدل عليه قوله لأخبرن رسول الله ﷺ فيه أن هذا وما أشبهه لا يكون غيبة ولا نميمة بل من النصح لله ورسوله فينبغي الفرق بين الغيبة والنميمة وبين النصيحة لله ورسوله فذكر أفعال المنافقين والفساق لولاة الأمور ليزجروهم ويقيموا عليهم أحكام الشريعة ليس من الغيبة والنميمة انتهى قوله فوجد القرآن قد سبقه أي جاءه الوحي من الله بما قالوه في هذه الآية ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب وفيه دلالة على علم الله سبحانه وعلى قدرته وإلهيته وعلى أن محمدا رسول الله قوله فجاء ذلك الرجل قد تقدم أنه ابن أبي كما رواه ابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عمر لكن رواه ابن القيم بأن ابن أبي تخلف عن غزوة تبوك
وفي هذا الحديث من الفوائد أن الانسان قد يكفر بكلمة يتكلم بها أو عمل يعمل به وأشدها خطرا إرادات القلوب فهي كالبحر الذي لا ساحل له ويفيد الخوف من النفاق الأكبر فإن الله تعالى أثبت لهؤلاء ايمانا قبل أن يقولوا ما قالوه كما قال ابن أبي مليكة أدركت ثلاثين من أصحاب رسول الله ﷺ كلهم يخاف النفاق على نفسه نسأل الله السلامة والعفو والعافية في الدنيا والآخرة باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي إن لي عنده للحسنى فلننبئن الذين كفروا بما عملوا ولنذيقنهم من عذاب غليظ قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف قوله باب قول الله تعالى ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته الآية ذكر المصنف رحمه الله تعالى عن ابن عباس وغيره من المفسرين في معنى
هذه الآية وما بعدها ما يكفي في المعنى ويشفي قوله قال مجاهد هذا بعملي وأنا محقوق به وقال ابن عباس يريد من عندي وقوله قال إنما أوتيته على علم عندي قال قتادة على علم مني بوجوه المكاسب وقال آخرون على علم من الله أني له أهل وهذا معنى قول مجاهد أوتيته على شرف وليس فيما ذكروه اختلاف وإنما هي أفراد المعنى قال ابن كثير رحمه الله في معنى قوله تعالى وإذا خولناه نعمة قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة يخبر أن الانسان في حال الضر يضرع الى الله تعالى وينيب إليه ويدعوه ثم إذا خوله نعمة منا طغى وبغى وقال إنما أوتيته على علم أي لما يعلم من استحقاقي له ولولا أني عند الله حظيظ لما خولني هذا قال تعالى بل هي فتنة أي ليس الأمر كما زعمتم بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع ام يعصي مع علمنا المتقدم بذلك بل هي فتنة أي اختبار ولكن أكثرهم لا يعلمون فلهذا يقولون ما يقولون ويدعون ما يدعون قد قالها الذين من قبلهم أي قد قال هذه المقالة وزعم هذا الزعم وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الامم فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون كما قال تعالى مخبرا عن قارون إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس يصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال إنما أوتيته على علم عندي
أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون وقال تعالى وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول إن ثلاثة من بني اسرائيل أبرص وأقرع وأعمى فأراد الله أن يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص قال أي شيء أحب اليك قال لون حسن وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به قال فمسحه فذهب عنه قذره فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا قال فأي المال أحب اليك قال الابل أو البقر شك إسحاق فأعطي ناقة عشراء وقال بارك الله لك فيها قال فأتى الأقرع فقال أي شيء أحب اليك قال شعر حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به فمسحه فذهب عنه وأعطي شعرا حسنا فقال أي المال أحب اليك قال البقر أو الابل فأعطي بقرة حاملا قال بارك الله له فيها فأتى الأعمى فقال أي شيء أحب اليك قال أن يرد الله إلي بصري فابصر به الناس فمسحه فرد الله اليه بصره قال فاي المال أحب اليك قال الغنم فأعطي شاة والدا فأنتج هذان وولد هذا فكان لهذا واد من الابل ولهذا واد من البقر ولهذا واد من الغنم قال ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته فقال رجل مسكين قد انقطعت به الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال بعيرا أتبلغ به في سفري فقال الحقوق كثيرة فقال كأني أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس فقيرا
فأعطاك الله تعالى المال فقال إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر فقال ان كنت كاذبا فصيرك الله الى ما كنت به وأتى الأقرع في صورته فقال له مثل ما قال لهذا ورد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت قال وأتى الأعمى في صورته فقال رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم الا بالله ثم بك أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة أبتلغ بها في سفري فقال قد كنت أعمى فرد الله الي بصري فخذ ما شئت ودع ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال أمسك مالك فإنما ابتليتم فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك أخرجاه قوله أخرجاه أي البخاري ومسلم والناقة العشراء بصم العين وفتح الشين وبالمد هي الحامل قوله أنتج وفي رواية فنتج معناه تولى نتاجها والناتج للناقة كالقابلة للمرأة قوله ولد هذا هو بتشديد اللام أي تولى ولادتها وهو بمعنى أنتج في الناقة فالمولد والناتج والقابلة بمعنى واحد لكن هذا للحيوان وذلك لغيره قوله انقطعت بي الجبال هو بالحاء المهملة والباء الموحدة هي الأسباب قوله لا أجهدك معناه لا أشق عليك في رد شيء تأخذه أو تطلبه من مالي ذكره النووي
وهذا حديث عظيم وفيه معتبر فان الاولين جحدا نعمة الله فما اقرا لله بنعمته ولا نسبا النعمة الى المنعم بها ولا أديا حق الله فحل عليهما السخط وأما الأعمى فاعترف بنعمة الله ونسبها الى من أنعم عليه بها وأدى حق الله فيها فاستحق الرضى من الله بقيامه بشكر النعمة لما أتى بأركان الشكر الثلاثة التي لا يقوم الشكر إلا بها وهي الاقرار بالنعمة ونسبتها الى المنعم وبذلها فيما يحب قال العلامة ابن القيم رحمه الله اصل الشكر هو الاعتراف بانعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلا بها لم يشكرها ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضا ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحدها المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبه ولم يرض به وعنه لم يشكره أيضا ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقر بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم وهو الميل الى المنعم ومحبته والخضوع له قوله قذرني الناس بكراهة رؤيته وقربه منهم باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى
الله عما يشركون قال ابن حزم اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد عمرو وعبدالكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب وعن ابن عباس في الآية لما تغشاها آدم حملت فأتاهما إبليس فقال اني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة لتطيعني أو لأجعلن له قرني أيل فيخرج من بطنك فيشقه ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما سمياه عبدالحارث فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فآتاهما فقال مثل قوله فأبيا أن يطيعاه فخرج ميتا ثم حملت فأتاهما فذكر لهما فأدركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث فذلك قوله جعلا له شركاء فيما آتاهما رواه ابن أبي حاتم وله بسند صحيح عن قتادة قال شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته وله بسند صحيح عن مجاهد في قوله لئن آتيتنا صالحا قال أشفقا ان لا يكون انسانا وذكر معناه عن الحسن وسعيد وغيرهما قوله باب قول الله تعالى فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون قال الإمام أحمد رحمه الله في معنى هذه الآية حدثنا عبدالصمد حدثنا عمر بن ابراهيم حدثنا قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي ﷺ قال لما ولدت حواء طاف بها ابليس وكان لا يعيش لها ولد فقال سميه عبدالحارث فإنه يعيش فسمته عبدالحارث فعاش فكان ذلك من وحي الشيطان وأمره رواه احمد والترمذي وحسنه وابن جرير والحاكم وصححه
ولهذا ذكر الضمير في آخرها بصيغة الجمع استطرادا من ذكر الشخص الى الجنس ومعنى الآية انه تعالى يخبر عن مبدأ الجنس الانساني وما فيه لله من عجائب القدرة فأوجد هذا الجنس على كثرته واختلاف انواعه من نفس واحدة وهو آدم عليه السلام وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها أي وطئها حملت حملا خفيفا وذلك الحمل لا تجد المرأة له ألما إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة وقوله فمرت به قال مجاهد استمرت عليه وقال مهران استخفته وقال ابن جرير استمرت بالماء وقامت به وقعدت فلما اثقلت أي صارت ذات ثقل بحملها قال السدي كبر في بطنها دعوا الله ربهما اي ان آدم وحواء عليهما السلام دعوا الله لئن آتيتنا صالحا بشرا سويا قال ابن عباس أشفقا ان يكون بهيمة لنكونن من الشاكرين اي لنشكرنك على ذلك انتهى ملخصا من ابن كثر وفيه زيادة وقوله فما آتاهما صالحا جعلا له شركاء أي لله شركاء فيما آتاهما اي لم يقوما بشكر ذلك على الوجه المرضي كما وعدا بذلك بل جعلا لي فيه شركاء فيما أعطيتهما من الولد الصالح والبشر السوي بأن سمياه عبدالحارث فإن من تمام الشكر أن لا يعبد الاسم إلا لله وإذا تأملت سياق الكلام من أوله إلى آخره مع ما فسره به السلف تبين قطعا أن ذلك في آدم وحواء عليهما السلام فإن فيه غير موضع يدل على ذلك والعجب ممن يكذب بهذه القصة
وينسى ما جرى أول مرة ويكابر بالتفاسير المبتدعة ويترك تفاسير السلف وأقوالهم وليس المحذور في هذه القصة بأعظم من المحذور في المرة الأولى وقوله تعالى عما يشركون هذا والله أعلم عائد إلى المشركين من القدرية فاستطرد من ذلك الشخص إلى الجنس وله نظائر في القرآن قوله قال ابن حزم هو ابو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري المشهور صاحب كتاب الاجماع والايصال والمحلى وغيرهما من المصنفات قوله اتفقوا الظاهر أن المراد أجمعوا فمقصوده حكاية الاجماع لا حكاية الاتفاق على طريقة المتأخرين قوله حاشا عبد المطلب قال ابن القيم لا تحل التسمية بعبد علي وعبدالحسين ولا عبد الكعبة وقد روى ابن أبي شيبة عن هانىء بن شريح قال وفد على النبي ﷺ قوم فسمعهم يسمون رجلا عبد الحجر فقال له ما اسمك قال عبد الحجر فقال له رسول الله ﷺ إنما أنت عبدالله فقيل كيف يتفقون على تحريم الاسم المعبد لغير الله وقد صح عنه ﷺ تعس عبد الدينار الحديث وصح عنه أنه قال أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب فالجواب أما قوله تعس عبد الدينار فلم يرد الاسم وإنما أراد به الوصف والدعاء على من يعبد قلبه للدينار والدرهم فرضي بعبوديتهما عن عبودية الله تبارك وتعالى وأما قوله أنا ابن عبد المطلب فهذا لبس من باب إنشاء التسمية بذلك وإنما هو من باب الاخبار بالاسم الذي عرف به المسمى دون غيره والاخبار بمثل ذلك على وجه تعريف المسمى لا يحرم ولا وجه
لتخصيص أبي محمد ذلك بعبد المطلب خاصة فقد كان أصحابه يسمون بعبد شمس وبني عبد الدار بأسمائهم ولا ينكر عليهم النبي ﷺ ذلك فباب الأخبار أوسع من الإنشاء فيجوز فيه مالا يجوز في الإنشاء انتهى ملخصا وهو حسن ولكن بقي إشكال وهو أن في الصحابة من اسمه المطلب بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب فالجواب أما من اسمه عبد شمس فغيره النبي ﷺ إلى عبدالله كما ذكروا ذلك في تراجمهم وأما المطلب بن ربيعة فذكر ابن عبد البر أن اسمه عبد المطلب وقال كان على عهد رسول الله ﷺ يغير اسمه فيما علمت وقال الحافظ وفيما قاله نظر فإن الزبير أعلم من غيره بنسب قريش ولم يذكر أن اسمه إلا المطلب وقد ذكر العسكري أن أهل النسب إنما يسمونه المطلب وأما أهل الحديث فمنهم من يقول المطلب ومنهم من يقول عبد المطلب وأما عبد يزيد أبو ركانة فذكره الذهبي في التجريد وقال أبو ركانة طلق امرأته وهذا لا يصح والمعروف أن صاحب القصة دكانه وروى حديثه أبو داود وفي السنن عن ابن عباس قال طلق عبد يزيد أبو ركانة وأخوته أم ركانة وذكر الحديث ثم قال وحديث نافع بن عجير وعبدالله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أن ركانة طلق امرأته البتة فجعلها النبي ﷺ واحدة أصح لأنهم ولد الرجل وأهله وهم أعلم به فقد تبين أنه ليس في الصحابة من اولاء من تصح له صحبته فعلى هذا لا تجوز التسمية بعبد المطلب ولا غيره مما عبد لغير الله وكيف تجوز التسمية وقد أجمع العلماء على تحريم التسمية ب عبد النبي وعبد الرسول وعبد المسيح وعبد علي وعبد الحسين وعبد الكعبة وكل هذه
أولى بالجواز من عبد المطلب لو جازت التسمية به وأيضا فقد نص النبي ﷺ على أن التسمية بعبد الحارث من وحي الشيطان وأمره بعبد المطلب كعبد الحارث لا فرق بينهما إلا أن أصدق الأسماء الحارث وهمام فلعله أولى بالجواز لا يقال إن الحارث اسم للشيطان لأنه وإن كان اسما له فلا فرق في ذلك بين جميع من اسمه الحارث فلا يجوز التسمية به وإن نوى عبد الحارث بن هشام أو غيره فإن قلت إذا كان ابن حزم قد حكى الاجماع على جواز التسمية بعبد المطلب فكيف يجوز خلافه قلت كلام ابن حزم ليس صريحا في حكاية الإجماع على جواز ذلك بعبد المطلب فإن لفظة اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله كعبد العزى وعبد هبل وعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبد المطلب واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا ما لم يكن اسم نبي أو اسم ملك إلى آخر كلامه فيحتمل أن مراده حكاية الخلاف فيه ويكون التقدير اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله حاشا عبد المطلب أي فإنهم لم يتفقوا على تحريمه بل اختلفوا ويؤيده أنه قال بعده واتفقوا على إباحة كل اسم بعد ما ذكرنا إلى آخره ويكون المراد حاشا عبد المطلب فلا أحفظ ما قالوا فيه ويكون سكوتا منه عن حكاية اجماعا أو خلاف فيه وعلى تقدير أن مراده حكاية الإجماع من جواز ذلك فليس كل من حكى اجماعا يسلم له ولا كل إجماع يكون حجة أيضا فكيف والخلاف موجود والسنة فاصلة بين المتنازعين وغاية حجة من أجازه قوله عليه السلام أنا ابن عبد المطلب ونحوه أو أن بعض الصحابة اسمه عبد المطلب وقد تقدم الجواب عن ذلك وأيضا فلو كان قوله أنا ابن عبد المطلب حجة على جواز التسمية به لكان قوله إنما
بنو هاشم وبنو عبد مناف شيء واحد حجة على جواز التسمية بعبد مناف ولكن فرق بين إنشاء التسمية وبين الاخبار بذلك عمن هو اسمه قوله في الآية أي المترجم لها قوله تغشاها أي حواء أي وطئها عليهما السلام قوله او لأجعلن له أي لولدكما قوله قرني أيل هو بالتثنية أو الاضافة وأيل بفتح الهمزة وكسر المثناة التحتية المشددة ذكر الاوعال والمعنى انه يخوفهما بكونه يجل للولد قرني وعل فيخرج من بطنها فيشقه كما قال فيخرج من بطنك فيشقه قوله ولأفعلن ولأفعلن يخوفهما بغير ما ذكر ويزعم أنه يفعل بهما غير ذلك قوله سمياه عبد الحارث قال سعيد بن جبير كان اسمه في الملائكة الحارث وكان مراده ان سمياه بذلك ليكون قد وجد له صورة الاشراك به فإن هذا من باب كيد إبليس إذا عجز عن الآدمي أن يوقعه في المعصية الكبيرة قنع منه بالصغيرة وأيضا فإنه يحصل له منهما طاعته كما أطاعا أول مرة كما روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال قال رسول الله ﷺ خدعهما مرتين قال زيد خدعهما في الجنة وخدعهما في الأرض قوله فابيا أن يطيعاه فخرج ميتا الخ هذا والله أعلم من الامتحان فان الانسان لا عزم له وإن عاين ماذا عساه أن يعاين من الآيات إلا بتوفيق الله تعالى فإن الطبيعة البشرية تغلب عليه كما غلبت على الأبوين مرتين مع ما وقع لهما قبل
من التحذير والانذار عن كيد إبليس وعداوته لهما ومع ذلك ادركهما حب الولد فسمياه عبد الحارث وكان ذلك شركا في التسمية وإن لم يقصدا العبادة للشيطان بل قصدا به فيما ظنا إما دفع شره عن حواء وإما الخوف على الولد من الموت كما روى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال اتطيعينني ويسلم ولدك سميه عبد الحارث فلم تفعل فولدت فمات ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ثم حملت الثالثة فقال أتطيعيني يسلم لك ولدك والا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعاه رواه ابن أبي حاتم قلت وإسناده صحيح ورواه سعيد بن منصور وابن المنذر وعن ابن عباس قال كانت حواء تلد لآدم أولادا فتعبدهم لله وتسميه عبدالله وعبيد الله ونحو ذلك فيصيبهم الموت فأتاها إبليس وآدم فقال إنكما لو تمسيانه بغير ما تسميانه لعاش فولدت له رجلا فسمياه عبد الحارث ففيه انزل هو الذي خلقكم من نفس واحدة إلى آخر الآية رواه ابن مردويه قوله شركاء في طاعته ولم يكن في عبادته أي لكونهما أطاعاه في التسمية بعبد الحارث لا أنهما عبداه فهو دليل على الفرق بين شرك الطاعة وبين شرك العبادة قال بعضهم تفسير قتادة في هذه الآية بالطاعة لأن المراد بها على كلام كثير من المفسرين آدم وحواء عليهما السلام فناسب تفسيرها بالطاعة لأنهما أطاعا الشيطان في تسمية الولد بعبد الحارث وقد استشكله بعض المعاصرين بما حاصله أنهم قد فسروا العبادة بالطاعة فيلزم على قول قتادة أن يكون الشرك في العبادة والجواب ان تفسير العبادة بالطاعة من التفسير اللازم فإنه لازم العبادة
أن يكون العابد مطيعا لمن عبده بها فلذا فسرت بالطاعة أو يقال هو من التفسير بالملزوم وإرادة اللازم اي لما كانت الطاعة ملزوما للعبادة والعبادة لازمة لها فلا تحصل إلا بالطاعة جاز تفسيرها بذلك وهو أصح وبالجملة فلا إشكال في ذلك بحمد الله فإن قلت قد سمى النبي ﷺ طاعة الأحبار والرهبان في معصية الله عبادة قلت راجع الكلام على حديث عدي يتضح الجواب قوله أشفقا أي خافا أي آدم وحواء أن لا يكون إنسانا قال أبو صالح أشفقا أن يكون بهيمة فقال لئن آتيتنا بشرا سويا رواه ابن أبي حاتم وفي هذا أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم ذكره المصنف وذلك أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلها غير سوية وأن يجعلها من غير الجنس فلا ينبغي للرجل أن يسخط مما وهبه الله له كما يفعل أهل الجاهلية بل يحمد الله الذي جعلها بشرية سوية ولهذا كانت عائشة رضي الله عنها إذا بشرت بمولود لم تسأل إلا عن صورته لا عن ذكوريته وأنوثيته قوله وذكر اي ذكر ابن أبي حاتم فإنه روى ذلك عمن ذكر المصنف معناه عن الحسن هو البصري قوله وسعيد أي ابن جبير وغيره كالسدي وغيره باب قول الله تعالى ولله الاسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية
يخبر تعالى أن له اسماء وصفها بكونها حسنى أي حسان وقد بلغت الغاية في الحسن فلا أحسن منها كما يدل عليه من صفات الكمال ونعوت الجلال فاسماؤه الدالة على صفاته هي أحسن الأسماء وأكملها فليس في الأسماء أحسن منها ولا يقوم غيرها مقامها وتفسير الاسم منها بغيره ليس تفسيرا بمراد محض بل هو على سبيل التقريب والتفهم فله من كل صفة كمال أحسن اسم وأكمله وأتمه معنى وأبعده وأنزهه عن شائبة نقص فله من صفة الإدراكات العليم الخبير دون العالم الفقيه والسميع البصير دون السامع والباصر ومن صفات الإحسان البر الرحيم الودود دون الرفيق والشفيق والمشوق وكذلك العلي العظيم دون الرفيع الشريف وكذلك الكريم دون السخي والخالق البارىء المصور دون الصانع الفاعل المشكل والعفو الغفور دون الصفوح الساتر وكذلك سائر أسماء الله تعالى يجري على نفسه أكملها وأحسنها ولا يقوم غيره مقامه فأسماؤه أحسن الأسماء كما أن صفاته أكمل الصفات فلا نعدل عما سمى به نفسه إلى غيره كما لا يتجاوز ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ﷺ إلى ما وصفه به المبطلون ومن هنا يتبين لك خطأ من أطلق عليه اسم الصانع والفاعل والمربي ونحوها لأن اللفظ الذي أطلقه سبحانه على نفسه واخبر به عنها أتم من هذا وأكمل وأجل شأنا فإنه يوصف من كل صفة كمال باكملها وأجلها وأعلاها فيوصف من الإرادة بأكملها وهو الحكمة وحصول كل ما يريد بارادته كما قال تعالى فعال لما يريد وبإرادة اليسر لا العسر كما قال تعالى يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر وبإرادة الاحسان وتمام النعمة على عباده كقوله تعالى والله
يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما فإرادة التوبة له وإرادة الميل لمبتغي الشهوات وقوله ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم وكذلك العليم الخبير أكمل من الفقيه العارف والكريم الجواد أكمل من السخي والرحيم أكمل من الشفيق والخالق البارىء المصور أكمل من الفاعل الصانع ولهذا لم تجىء هذه في أسمائه الحسنى فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقا لمعنى أسمائه وصفاته وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها دون اللفظ ولا سيما إذا كان مجملا أو منقسما أو ما يمدح به وغيره فإنه لا يجوز إطلاقه الا مقيدا وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنه لا يطلق عليه في اسمائه الحسنى إلا إطلاقا مقيدا كما أطلقه على نفسه كقوله فعال لما يريد ويفعل الله ما يشاء وقوله صنع الله الذي أتقن كل شيء فإن اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذم فلهذا المعنى والله أعلم لم يجيء في الأسماء الحسنى المريد كما جاء فيها السميع البصير ولا المتكلم الآمر الناهي لانقسام مسمى هذه الأسماء بل وصف نفسه بكمالاتها وشرف انواعها ومن هنا يعلم غلط بعض المتأخرين وزلقه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كل فعل أخبر به عن نفسه اسما مطلقا وأدخله في أسمائه الحسنى فاشتق منها اسم الماكر والمخادع والفاتن والمضل تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا انتهى ملخصا من كلام الإمام ابن القيم
وقيل فصل الخطاب في أسماء الله الحسنى هل هي توقيفية أم لا وحاصله أن ما يطلق عليه من باب الأسماء والصفات توقيفي وما يطلق من باب الأخبار لا يجب أن يكون توقيفيا كالقديم والشيء الموجود والقائم بنفسه والصانع ونحو ذلك فادعوه بها أي اسألوه وتوسلوا إليه بها كما تقول اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم فإن ذلك من أقرب الوسائل وأحبها إليه كما في المسند والترمذي ألظوا بياذ الجلال والاكرام والحديث الآخر سمع النبي ﷺ رجلا يدعو وهو يقول اللهم اني اسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال والذي نفسي بيده لقد سأل الله باسمه الاعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى رواه الترمذي وغيره وقوله عليه السلام اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك وبك ومنك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك حديث صحيح رواه مسلم وغيره ومنه اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض ياذا الجلال والإكرام رواه الترمذي بنحوه واللفظ لغيره قال ابن القيم فهذا سؤال له وتوسل إليه بحمده وأنه لا إله إلا هو المنان فهو توسل إليه بأسمائه وصفاته وما أحق ذلك بالإجابة وأعظمه موقعا عند السؤال واعلم أن الدعاء بها أحد مراتب إحصائها الذي قال فيه النبي ﷺ إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة رواه البخاري وغيره وهي ثلاث مراتب المرتبة الأولى إحصاء ألفاظها وأسمائها وعددها
المرتبة الثانية فهم معانيها ومدلولها المرتبة الثالثة دعاؤه بها كما في الآية وهو نوعان دعاء ثناء وعبادة ودعاء طلب ومسألة فلا يثني عليه إلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وكذا لا يسأل إلا بها فلا يقال يا موجود ويا شيء ويا ذات اغفر لي بل يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضيا لذلك المطلوب فيكون السائل متوسلا اليه بذلك الاسم ومن تأمل أدعية الرسل لاسيما خاتمهم عليه وعليهم السلام وجدها مطابقة لهذا كما نقول رب اغفر لي وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ولا يحسن إنك أنت السميع العليم البصير ولكن أسماؤه تعالى منها ما يطلق عليه مفردا وهو غالب الأسماء كالقدير والسميع والبصير والحكيم فهذا يسوغ أن يدعى به مفردا ومقترنا بغيره فتقول يا عزيز يا حكيم يا قدير يا سميع يا بصير وإن انفرد كل اسم وكذلك في الثناء عليه والخبر عنه وبه يسوغ لك الإفراد والجمع ومنها ما يطلق عليه مفردا بل مقرونا بمقابلة كالمانع والضار والمنتقم والمذل فلا يجوز أن يفرد هذا عن مقابله فإنه مقرون بالمعطي والنافع والعفو والعزيز والمعز فهو المعطي المانع الضار النافع المنتقم العفو المعز المذل لان الكمال في اقتران كل اسم من هذا بمقابله لأنه يراد به أنه المتفرد بالبربوبية وتدبير الخلق والتصرف فيهم إعطاء ومنعا ونفعا وضرا وانتقاما وإعزازا وإذلالا فأما الثناء عليه بمجرد المنع والانتقام والاضرار فلا يسوغ فهذه الاسماء الممزوجة يجري الاسمان منها مجرى الاسم الواحد الذي يمتنع فصل بعض حروفه من بعض ولذلك لم تجىء مفردة ولم تطلق عليه إلا مقترنة فلو قلت يا ضار يا مانع يا مذل لم تكن مثنيا عليه ولا حامدا له حتى تذكر مقابلتها انتهى ملخصا من كلام ابن القيم وفيه بعض
زيادة وبه يظهر الجواب عما قد يرد على ما سبق ذكر الأسماء الحسنى التي ورد عددها في الحديث لما كان إحصاء الأسماء الحسنى والعمل بها أصلا للعلم بكل معلوم وكانت سعادة الدنيا والآخرة مرتبة عليها فما حصل من آثارها للعباد هو الذي أوجب لهم دخول الجنة ولهذا جاء الحديث الصحيح المتفق عليه أن من أحصاها دخل الجنة وذكرنا مراتب الاحصاء لأن العبد محتاج بل مضطر الى معرفتها فوق كل ضرورة وقد قيل إن الله ذكرها كلها في القرآن ولا ريب أن الله تعالى ذكر أكثرها بلفظها ولم يذكره بلفظه ففي القرآن ما يدل عليه قال شعيب بن أبي حمزة عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الاحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الاول الآخر الظاهر الباطن الولي المتعال البر التواب المنعم المنتقم العفو الرؤوف مالك الملك
ذو الجلال والاكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور هذا حديث غريب جدا حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح وهو ثقة عند أهل الحديث وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ لا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء الحسنى في هذا الحديث وقد روى آدم عن أبي إياس هذا الحديث باسناد غير هذا عن أبي هريرة عن النبي ﷺ وذكر فيه الأسماء وليس له إسناد صحيح قلت يشير إلى عدد الأسماء سردا وإلا فصدر الحديث متفق عليه وقد خرجه بالعدد المذكور ابن المنذر وابن خزيمة في صحيحه وابن حبان والطبراني والحاكم في المستدرك وغيرهم به ولم يذكروا فيه المعطي وإسناده صحيح ولكن المغترب منه ذكر العدد ورواه ابن ماجه من طريق عبد الملك بن الصنعاني عن زهير بن محمد التميمي عن موسى بن عقبة عن الأعرج وساق الأسماء وخالف سياق الترمذي والترتيب والزيادة والنقص فأما الزيادة فهي البارىء الراشد البرهان الشديد الواقي القائم الحافظ الناظر السامع المعطي الأبد المنير التام القديم الوتر وعبد الملك لين الحديث وزهير مختلف فيه وحديث الوليد أصح إسنادا وأحسن سياقا وأجدر أن يكون مرفوعا ولهذا قال النووي هو حديث حسن قال بعضهم والعلة في كونهما لم يخرجاه بذكر الأسامي تفرد الوليد بن مسلم عالم الشاميين ثقة وقد قيل إن العدد المذكور مدرج قال في الإرشاد ما معناه ذكر جماعة من الحفاظ المحققين المتقنين أن سرد الأسماء في حديث أبي هريرة مدرج فيه وأن جماعة من أهل العلم جمعوها من القرآن كما روي ذلك
عن جعفر بن محمد وسفيان بن عيينة وابي زيد اللغوي وقال البيهقي يحتمل أن يكون التفسير للأسماء وقع من بعض الرواة ولهذا الاحتمال ترك الشيخان إخراج حديث الوليد في الصحيح قال في البدر والدليل على ذلك وجهان أحدهما أن أصحاب الحديث لم يذكروها والثاني أن فيها تغييرا بريادة ونقصان وذلك لا يليق بالمرتبة العليا النبوية كذل قال وفيه نظر فإن الزيادة والنقصان قد تكون من الرواة وإن كان الحديث صحيحا كما في غير ذلك من الأحاديث وقد رواه الطبراني في الدعاء والحاكم وغيرهما فزادوا الرب الإله الحنان المنان البارىء وفي لفظ القائم الفرد وفي لفظ القادر بدل الفرد والمغيث الدائم الحميد وفي لفظ الجميل الصادق المولى النصير القديم الوتر الفاطر العلام المليك الأكرم المدبر المالك الشاكر الرفيع ذو الطول المعارج ذو الفضل الخلاق ولا أظنه يثبت وإن كان بعض العدد صحيحا وعد جعفر بن محمد منها المنعم المتفضل السريع وقال ابن حزم جاءت في إحصائها أحاديث مضطربة لا يصح منها شيء أصلا ونقل عنه أنه قال صح عندي قريبا من ثمانين اسما واشتمل عليها الكتاب والصحاح من الأخبار فليطلب الباقي بطريق الاجتهاد وقال القرطبي في شرح الأسماء الحسنى العجب من ابن حزم ذكر من الأسماء الحسنى نيفا وثمانين فقط والله يقول ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم ساق ما ذكره ابن حزم وفيه من الزيادة على ما تقدم الرب الإله الأعلى الأكبر الأعز السيد السبوح الوتر المحسن الجميل الرفيق الدهر وقد عدها الحافظ فزاد الخفي السريع الغالب العالم الحافظ المستعان وفي هذا نظر يفهم مما تقدم وإن كان قد ذكر بعضها فيما لا يثبت من الحديث فهذه خمسة وستون ومائة اسم أقربها من جهة الإسناد سياق الترمذي وما عدا
ذلك ففيه أسماء صحيحة ثابتة وفي بعضها توقف وبعضها خطأ محض كالأبد والناظر والسامع والقائم والسريع فهذه وإن ورد عدادها في بعض الأحاديث فلا يصح ذلك أصلا وكذلك الدهر والفعال والفالق والمخرج والعالم مع أن هذه لم ترد في شيء من الأحاديث إلا حديث لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر وقد مضى معناه وبينا خطأ ابن حزم في عده من الأسماء الحسنى هناك واعلم أن الأسماء الحسنى لا تدخل تحت حصر ولا تحد بعدد فإن لله تعالى أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل كما في الحديث الصحيح أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وغيرهما قال ابن القيم فجعل أسماءه ثلاثة أقسام قسم سمى به نفسه فأظهره لمن شاء من ملائكته أو غيرهم ولم ينزل به كتابه وقسم أنزل به كتابه وتعرف به إلى عباده وقسم استأثر به في علم غيبه فلم يطلع عليه أحدا من خلقه ولهذا قال استأثرت به أي انفردت بعلمه وليس المراد انفراده بالمسمى به لأن هذا الانفراد ثابت في الأسماء التي انزل بها كتابه ومن هذا قوله عليه السلام في حديث الشفاعة فيفتح علي من محامده بمالا أحسنه الآن وتلك المحامد هي بأسمائه وصفاته ومنه قوله لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك وأما قوله ﷺ إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة فالكلام جملة واحدة وقوله من أحصاها دخل الجنة صفة لا خبر مستقبل والمعنى له أسماء متعددة من شأنها أن من أحصاها دخل الجنة وهذ كقولك لفلان ألف شاة أعدها للأضياف فلا يدل على أنه لا يملك غيرها وهذا لا خلاف بين العلماء فيه
وقوله تعالى وذروا الذين يلحدون في أسمائه أي اتركوهم وأعرضوا عن مجادلتهم قال ابن القيم والإلحاد في أسمائه هو العدول بها وبحقائقها ومعانيها عن الحق الثابت لها وهو مأخوذ من الميل كما يدل عيله مادة اللحد ومنه اللحد وهو الشق في جانب القبر الذي قد مال عن الوسط ومنه اللحد في الدين المائل عن الحق إلى الباطل إذا عرف هذا فالإلحاد في أسمائه أحدها أن يسمي الأصنام بها كتسميتهم اللات من الإله والعزى من العزيز وتسميتهم الصنم إلها وهذا إلحاد حقيقة فهم عدلوا بأسمائه الى أوثانهم وآلهتهم الباطلة الثاني تسميته بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أبا وتسمية الفلاسفة له موجبا بذاته أو علة فاعلة بالطبع ونحو ذلك وثالثها وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص كقول أخبث اليهود إنه فقير وقولهم إنه استراح بعد أن خلق خلقه وقولهم يد الله مغلولة وأمثال ذلك مما هو إلحاد في أسمائه وصفاته ورابعها تعطيل الأسماء الحسنى عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني فيطلقون عليه اسم السميع والبصير والحي والرحيم والمتكلم ويقولون لا حياة له ولا سمع ولا بصر ولا كلام ولا إرادة تقوم به وهذا من أعظم الإلحاد فيها عقلا وشرعا ولغة وفطرة وهو يقابل إلحاد المشركين فإن أولئك أعطوا من أسمائه وصفاته لآلهتهم وهؤلاء سلبوا كماله وجحدوها وعطلوها وكلاهما ألحد في أسمائه ثم الجهمية وفروخهم متفاوتون في هذا الإلحاد فمنهم الغالي والمتوسط والمتلوث وكل من جحد شيئا مما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله ﷺ فقد ألحد في ذلك فليقل أو ليستكثر وخامسها تشبيه صفاته بصفات خلقه تعالى الله عما يقول
المشبهون علوا كبيرا فهذا الإلحاد في مقابله إلحاد المعطلة فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم الإلحاد وتفرقت بهم طرقه وبرأ الله أتباع رسوله وورثته القائمين بسنته عن ذلك كله فلم يصفوه إلا بما وصف به نفسه ولم يجحدوا صفاته ولم يشبهوها بصفات خلقه ولم يعدلوا بها عما أنزلت عليه لفظا ولا معنى بل أثبتوا له الاسماء والصفات ونفوا عنه مشابهة المخلوقات فكان إثباتهم بريئا من التشبيه وتنزيههم خاليا من التعطيل لا كمن شبه كأنه يعبد صنما أو عطل حتى كأنه لا يعبد إلا عدما وأهل السنة وسط في النحل كما أن أهل الإسلام وسط في الملل توقد مصابيح معارفهم من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء سيجزون ما كانوا يعملون وعيد وتهديد قوله يلحدون في أسمائه يشركون أي يشركون غيره في أسمائه كتسميتهم الصنم إلها ويحتمل أن المراد الشرك في العبادة لأن أسماءه تعالى تدل على التوحيد فالإشراك بغيره إلحاد في معاني أسمائه سبحانه وتعالى لا سيما مع الإقرار بها كما كانوا يقرون بالله ويعبدون غيره فهذا الاسم وحده أعظم الأدلة على التوحيد فمن عبد غيره فقد ألحد في هذا الاسم وعلى هذا بقية الأسماء وهذا الاثر لم يروه ابن أبي حاتم عن ابن عباس إنما رواه عن قتادة فاعلم ذلك قوله وعنه سمو اللات من الإله والعزى من العزيز هذا الأثر معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكذلك الأثر الثاني عن الأعمش معطوف على سابقه أي رواه ابن أبي حاتم عنه والأعمش اسمه
سليمان بن مهران أبو محمد الكوفي الفقيه ثقة حافظ ورع مات سنة 147 وكان مولده أو سنة 61 قوله يدخلون فيها ما ليس منها أي كتسمية النصارى له ابا ونحوه كما سبق باب لا يقال السلام على الله لما كان حقيقة لفظ الإسلام السلامة والبراءة والخلاص والنجاة من الشر والعيوب فإذا قال المسلم السلام عليكم فهو دعاء للمسلم عليه وطلب له أن يسلم من الشر كله والله هو المطلوب منه لا المطلوب له وهو المدعو لا المدعو له وهو الغني له ما في السموات وما في الأرض استحال ان يسلم عليه سبحانه وتعالى بل هو المسلم على عباده كما قال تعالى قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى وقال وسلام على المرسلين وقال تحيتهم يوم يلقونه سلام فهو السلام ومنه السلام لا إله غيره ولا رب سواه في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال كنا إذا كنا مع رسول الله ﷺ في الصلاة قلنا السلام على الله من عباده السلام على فلان فقال النبي ﷺ لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام ش قوله في الصحيح أي الصحيحين
قوله قلنا السلام على الله أي يقولون ذلك في التشهد الأخير كما هو مصرح به في بعض ألفاظ الحديث كنا نقول قبل أن يفرض التشهد السلام على الله فقال النبي ﷺ إن الله هو السلام ولكن قولوا التحيات لله قوله فقال النبي ﷺ لا تقولوا السلام على الله أي والله أعلم لما تقدم وكأن السلام اسمه كما يرشد اليه آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام أنكر عليه السلام التسليم على الله وأخبر أن ذلك عكس ما يجب له سبحانه فإن كل سلام ورحمة له ومنه فهو مالكها ومعطيها وهو السلام قال ابن الانباري أمرهم أن يعرفوه إلى الخلق لحاجتهم إلى السلامة وقال غيره وهذا كله حماية منه ﷺ لجناب التوحيد حتى يعرف الله تعالى ما يستحقه من الأسماء والصفات وأنواع العبادات قوله السلام على فلان وفلان اختلف العلماء في معنى السلام المطلوب عند التحية على قولين أحدهما أن المعنى اسم السلام عليكم والسلام هنا هو الله تعالى ومعنى الكلام نزلت بركة اسم السلام عليكم وحملت عليكم فاختير في هذا المعنى من أسمائه اسم السلام دون غيره ويدل عليه قوله في آخر الحديث قوله فإن الله هو السلام فهذا صريح في كون السلام اسما من أسمائه فإذا قال المسلم السلام عليكم كان معناه اسم السلام عليكم يدل عليه ما رواه أبو داود عن ابن عمر أن رجلا سلم على النبي ﷺ فسلم يرد عليه حتى استقبل الجدار ثم تيمم ورد عليه وقال إني كرهت أن أذكر الله إلا على طهر ففي هذا بيان أن السلام ذكر لله وإنما يكون ذكرا إذا تضمنت اسما من أسمائه
الثاني أن السلام مصدر بمعنى السلامة وهو المطلوب المدعو به عند التحية لأنه ينكر بلا ألف ولام فيجوز ان يقول المسلم سلام عليكم ولو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستعمل كذلك بل كان يطلق عليه معزفا كما يطلق على سائر أسمائه الحسنى فيقال السلام المؤمن المهيمن فإن التنكير لا يصرف اللفظ إلى معين فضلا عن أن يصرفه إلى الله وحده بخلاف المعرف فإنه ينصرف إليه تعيينا إذا ذكرت أسماؤه الحسنى ويدل على ذلك عطف الرحمة والبركة عليه في قوله سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ولأنه لو كان اسما من أسمائه تعالى لم يستقم الكلام بالإضمار وذلك خلاف الأصل ولا دليل عليه ولأنه ليس المقصود من السلام هذا المعنى وإنما المقصود منه الإيذان بالسلامة خبرا ودعاء قال ابن القيم والصواب في مجموعهما أي القولين وذلك أن من دعا الله بأسمائه الحسنى يسأل في كل مطلوب ويتوسل إليه بالاسم المقتضي لذلك المطلوب المناسب لحصوله حتى كأن الداعي مستشفع اليه متوسل به فإذا قال رب اغفر لي وتب علي إنك انت التواب الرحيم الغفور فقد سأله أمرين وتوسل اليه باسمين من أسمائه مقتضيين لحصول مطلوبه وهذا كثير جدا وإذا ثبت هذا المقام لما كان طلب السلامة التي هي أهم ما عند الرجل أتى بلفظها بصيغة اسم من أسمائه تعالى وهو السلام الذي تطلب منه السلامة فتضمن لفظ السلام معنيين أحدهما ذكر الله تعالى كما في حديث ابن عمر والثاني طلب السلامة وهو المقصود من المسلم فقد تضمن سلام عليكم اسما من أسماء الله وطلب السلامة منه انتهى ملخصا
باب قول اللهم أغفر لي إن شئت ش لما كان العبد لاغناء له عن رحمة الله ومغفرته طرفة عين بل فقير بالذات إلى الغني بالذات كما قال تعالى يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد نهى عن قول ذلك لما فيه من إيهام الاستغناء عن مغفرة الله ورحمته كما سيأتي وذلك مضاد للتوحيد في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإن الله لا مكره له ولمسلم وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله اللهم اغفر لي إن شئت قال القرطبي إنما نهى الرسول ﷺ عن هذا القول لأنه يدل على فتور الرغبة وقلة الاهتمام بالمطلوب وكأن هذا القول يتضمن أن هذا المطلوب إن حصل والا استغنى عنه ومن كان هذا حاله لم يتحقق من حاله الافتقار والاضطرار الذي هو روح عبادة الدعاء وكان ذلك دليلا على قلة معرفته بذنوبه وبرحمة ربه وأيضا فإنه لا يكون موقنا بالإجابة وقد قال عليه السلام ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل
قوله ليعزم المسألة قال القرطبي أي ليجزم في طلبته ويحقق رغبته ويتيقن الإجابة فإنه اذا فعل ذلك دل على علمه بعظيم ما يطلب من المغفرة والرحمة وعلى أنه مفتقر الى ما يطلب مضطر إليه وقد وعد الله المضطر بالإجابة بقوله أمن يجيب المضطر إذا دعاه قوله فإنه لا مكره له أي فإن الله لا مكره له هذا لفظ البخاري في الدعوات ولفظ مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا يقولن أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم على المسألة في الدعاء فإن الله صانع ما شاء لا مكره له قال القرطبي هذا إظهار لعدم فائدة تقبل الاستغفار والرحمة بالمشيئة كأن الله تعالى لا يضطره الى فعل شيء دعاء ولا غيره بل يفعل ما يريد ويحكم ما يشاء ولذلك قيد لله تعالى الإجابة بالمسألة في قوله فيكشف ما تدعون إليه إن شاء فلا معنى لاشتراط المشيئة بقيله قوله ولمسلم أي من وجه آخر قوله وليعظم الرغبة هو بالتشديد فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه يقال تعاظم زيد هذا الأمر أي كبر عليه وعسر قال والرغبة يعني الطلبة والحاجة التي يريد وقيل السؤال والطلب تعظيم على هذا بالإلحاح والأول أظهر أي لسعة جوده وكرمه لا يعظم عليه إعطاء شيء بل جميع الموجودات في أمره يسير وهو أكبر من ذلك وهذا هو غاية المطالب فالاقتصار على الداني في المسألة إساءة ظن بجوده وكرمه
باب لا يقول عبدي وأمتي ش أي لما في ذلك من الإيهام من المشاركة في الربوبية فنهي عن ذلك أدبا مع جناب الربوبية وحماية لجناب التوحيد قال في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال لا يقل أحدكم أطعم ربك وضىء ربك وليقل سيدي ومولاي ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل فتاي وفتاتي وغلامي ش قوله في الصحيح أي الصحيحين قوله لا يقل أحدكم هو بالجزم على النهي والمراد أن يقول ذلك لمملوكه أو مملوك غيره فالكل منهي عنه قوله أطعم ربك بفتح الهمزة من الإطعام قوله وضيء ربك أمر من الوضوء وفيهما في هذا الحديث زيادة اسق ربك و كأن المؤلف اقتصرها قال الخطابي وسبب المنع أن الانسان مربوب معبد باخلاص التوحيد لله تعالى وترك الإشراك به فترك المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك ولا فرق في ذلك بين الحر والعبد وأما من لا تعبد عليه من سائر الحيوانات والجمادات فلا يكره أن يطلق ذلك عليه عند الإضافة كقوله رب الدار والثوب قال ابن مفلح في الفروع وظاهر النهي التحريم وقد يحتمل أنه للكراهية وجزم به غير واحد من العلماء فإن قلت قد قال الله تعالى حكاية عن يوسف عليه السلام اذكرني عند ربك وقال النبي ﷺ
في اشتراط الساعة أن تلد الأمة ربتها فهذا يدل على الجواز قيل فأما الآية ففيها جوابان أحدهما وهو الأظهر أن هذا جائز في شرع من قبلنا وقد ورد شرعنا بخلافه والثاني أنه ورد لبيان الجواز والنهي للأدب والتنزيه دون التحريم وأما الحديث فليس من هذا الباب للتأنيث والنهي عنه أن يقول ذلك للذكر لما فيه من ايهام المشاركة وهو معدوم في الأنثى أو يقال بحمله على الكراهة في الأنثى أيضا لورود الحديث بذلك دون الذكر لأنه لم يرد فيه الا النهي ويقال وهو أظهر إن هذا ليس فيه إلا وصفها بذلك لا دعاؤها به وتسميتها به وفرق بين الدعاء والتسمية وبين الوصف كما تقول زيد فاضل فتصفه بذلك ولا تسميه به ولا تدعوه به قوله وليقل سيدي قيل إن الفرق بين الرب والسيد لأن الرب من أسماء الله تعالى اتفاقا واختلف في السيد هل هو من أسماء الله تعالى ولم يأت في القرآن أنه من أسماء الله لكن في حديث عبدالله بن الشخير السيد الله وسيأتي فإن قلنا ليس من أسماء الله فالفرق واضح إذ لا التباس وإن قلنا إنه من أسماء الله فليس في الشهرة والاستعمال كلفظ الرب فيحصل الفرق وأما من حيث اللغة فالسيد من السؤدد وهو التقدم يقال ساد قومه إذا تقدمهم ولا شكر في تقديم السيد على غلامه فلما حصل الافتراق جاز الاطلاق قلت وحديث ابن الشخير لا ينفي إطلاق لفظ السيد على غير الله بل المراد أن الله هو الأحق بهذا الاسم بأنواع العبارات ما أن غيره لا يسمى به
ومولاي قال النووي المولى يطلق على ستة عشر معنى منها الناظر والمولى والمالك وحينئذ فلا بأس أن يقول مولاي قال في الفروع ولا يقل عبدي وأمتي كلكم عبيد الله وإماء الله ولا يقل العبد لسيده ربي وفي مسلم أيضا ولا مولاي فمولاكم الله وظاهر النهي للتحريم وقد يحتمل أنه للكراهة وجزم به غير واحد من العلماء كما في شرح مسلم انتهى كلامه قلت فظاهر رواية مسلم معارضة لحديث الباب وأجيب بأن مسلما قد بين الاختلاف فيه عن الأعمش وأن منهم من ذكر هذه الزيادة ومنهم من حذفها قال عياض وحذفها أصح فظهر أن اللفظ الأول أرجح وإنما صرنا للترجيح للتعارض بينهما والجمع متعذر والعلم بالتاريخ مفقود فلم يبق إلا الترجيح قلت الجمع ممكن بحمل النهي على الكراهة أو على خلاف الأولى قوله ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي لأن حقيقة العبودية إنما يستحقها الله تعالى ولأن فيها تعظيما لا يليق بالمخلوق وقد بين النبي ﷺ العلة في ذلك كما رواه أبو داود باسناد صحيح عن أبي هريرة مرفوعا لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولا يقولن المملوك ربي وربتي وليقل المالك فتاي وفتاتي وليقل المملوك سيدي وسيدتي فإنكم المملوكون والرب الله تعالى ورواه أيضا بإسناد صحيح موقوفا فهذه علة له وفي رواية لمسلم لا يقولن أحدكم عبدي فإن كلكم عبيد الله قال في مصابيح الجامع النهي إنما جاء
متوجها إلى السيد إذ هو في مظنه الاستطالة وأما قول الغير هذا عبد زيد وهذه أمة خالد فجائز لأنه يقول إخبارا أو تعريفا وليس في مظنة الاستطالة قلت وهو حسن وقد رويت أحاديث تدل على ذلك وقال أبو جعفر النحاس لا نعلم بين العلماء خلافا أنه ينبغي لأحد أن يقول لأحد من المخلوقين مولاي ولا يقول عبدك وعبدي وإن كان مملوكا وقد حظر رسول الله ﷺ على المملوكين فكيف للأحرار قوله وليقل فتاي وفتاتي وغلامي أي لأنها ليست دالة على الملك كدلالة عبدي وأمتي فأرشد عليه السلام إلى ما يؤدي المعنى من السلامة من الايهام والتعاظم مع أنها تطلق على الحر والمملوك لكن إضافته تدل على الإخلاص باب لا يرد من سئل بالله ش أي إعظاما وإجلالا لله تعالى أن يسأل به في شيء ولايجاب السائل إلى سؤاله ومطلوبه ولهذا أمر النبي ﷺ بابرار القسم وتنازعوا هل هو أمر استحباب أو إيجاب وظاهر كلام شيخ الاسلام التفريق بين أن يقصد إلزامه بالقسم فتجب إجابته أو يقصد إكرامه فلا تجب عليه ولهذا أوجب على المقسم في الأولى الكفارة إذا لم يفعل المحلوف عليه دون الثانية لأنه كالأمر ولا يجب إذا كان للاكرام لأمر النبي ﷺ ابا بكر بوقوفه في
الصف ولم يقف ولأن أبا بكر اقسم على النبي ﷺ ليخبرنه بالصواب والخطأ لما فسر الرؤيا فقال النبي ﷺ لا تقسم كما في الصحيحين قال لأنه علم أنه لم يقصد الإقسام عليه مع المصلحة المقتضية للكتم قال عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ من استعاذ بالله فأعيذوه ومن سأل بالله فأعطوه ومن دعاكم فأجيبوه ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه رواه أبو داود والنسائي بسند صحيح ش قوله من استعاذ بالله فأعيذوه أي من سألكم أن تدفعوا عنه شركم أو شر غيركم بالله كقوله بالله عليك أن تدفع عني شر فلان أو شرك أعوذ بالله من شرك أو شر فلان ونحو ذلك فأعيذوه أي امنعوه مما استعاذ منه وكفوه عنه لتعظيم اسم الله تعالى ولهذا قالت الجونية للنبي ﷺ أعوذ بالله منك قال لقد عذت بمعاذ الحقي بأهلك ولفظ أبي داود من استعاذكم بالله فأعيذوه ومن سألكم بالله فأعطوه قوله ومن سأل بالله فأعطوه وفي حديث ابن عباس عند أحمد وأبي داود ومن سألكم بوجه الله فأعطوه ومعناه ظاهر وهو يقول أسألك بالله أو بوجه الله ونحو ذلك أن تفعل أو تعطيني كذا ويدخل في ذلك القسم عليه بالله أن يفعل كذا وظاهر الحديث وجوب إعطائه ما سال ما لم يسأل إثما أو قطيعة رحم وقد جاء الوعيد على ذلك في عدة أحاديث منها حديث أبي موسى مرفوعا ملعون من سئل بوجه الله وملعون من يسأل بوجهه ثم منع سائله ما لم يسأل هجرا رواه الطبراني قال في تنبيه الغافلين ورجال إسناده رجال الصحيح إلا شيخه يحي بن عثمان بن صالح والاكثر
على توثيقه فان بلغ هذا الإسناد أو إسناد غيره مبلغا يحتج به كان ذلك من الكبائر وعن أبي عبيدة مولى رفاعة بن رافع مرفوعا ملعون من سأل بوجه الله وملعون من سئل بوجه الله فمنع سائله رواه الطبراني أيضا وعن ابن عباس مرفوعا ألا أخبركم بشر الناس رجل يسأل بالله ولا يعطي رواه الترمذي وحسنه وابن حبان في صحيحه وعن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ ألا أخبركم بشر البرية قالوا بلى يا رسول الله قال الذي يسأل بالله ولا يعطي رواه أحمد إذا تبين هذا فهذه الأحاديث دالة على إجابة من سئل بالله أو أقسم به ولكن قال شيخ الاسلام انما تجب على معين فلا تجب على سائل يقسم على الناس وظاهر كلام الفقهاء أن ذلك مستحب كابرار القسم والاول اصح قوله ومن دعاكم فأجيبوه أي من دعاكم الى طعام فأجيبوه فإن كانت وليمة عرس وتوفرت الشروط المبينة في كتب الفقه وجبت الاجابة وإن كان لغيرها استحب إجابتها وتجب مطلقا وهو الصحيح لظاهر الاحاديث وهي لم تفرق بين وليمة العرس وغيرها وان كانت وليمة العرس آكد وأوجب قوله ومن صنع اليكم معروفا فكافئوه المعروف اسم جامع للخير وقوله فكافئوه أي على إحسانه بمثله أو خير منه وقد اشار شيخ الاسلام الى مشروعية المكافأة لأن القلوب جبلت على حب من أحسن اليها فهو اذا أحسن اليه ولم يكافئه يبقى في قبله نوع تأله لمن أحسن اليه فشرع قطع ذلك بالمكافأة فهذا معنى كلامه وقال غيره انما أمر بالمكافأة ليخلص القلب
من احسان الخلق ويتعلق بالحق ولفظ أبي داود من أتى اليكم معروفا قوله فان لم تجدوا ما تكافئوه هكذا ثبت بحذف النون في خط المصنف وهكذا هو في غيره من اصول الحديث قال الطيبي سقطت من غير ناصب ولا جازم إما تخفيفا أو سهوا من الناسخ قوله فادعوا له الى الخ يعني من أحسن اليكم أي إحسان فكافئوه بمثله فإن لم تقدروا فبالغوا في الدعاء له جهدكم حتى تحصل المسألة ووجه المبالغة أنه رأى في نفسه تقصيرا في المجازاة لعدم القدرة عليها فأحالها الى الله ونعم المجازي هو وهذا الحديث رواه أيضا أحمد باسناد صحيح وابن حبان والحاكم وصححه النووي وقد روى الترمذي وصححه النسائي وابن حبان عن أسامة بن زيد مرفوعا من صنع اليكم معروفا فقال الفاعل جزاك الله خيرا فقد أبلغ في الثناء باب لا يسأل بوجه الله الا الجنة أي إعظاما وإجلالا واكراما لوجه الله أن يسأل به الاغاية المطالب وهذا من معاني قوله تعالى ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام قال عن جابر بن عبدالله قال قال رسول الله ﷺ لا يسأل بوجه الله الا الجنة رواه أبو داود أيضا
س قوله عن جابر هو جابر بن عبدالله قوله لا يسأل بوجه الله الا الجنة روي بالنفي والنهي وروي بالبناء للمجهول وهو الذي في الاصل وروي بالخطاب للمفرد وفيه اثبات الوجه خلافا للجهمية ونحوهم فانهم أولوا الوجه بالذات وهو باطل إذ لا يسمى ذات الشيء وحقيقته وجها فلا يسمى الانسان وجها ولا تسمى يده وجها ولا تسمى رجله وجها والقول في الوجه عند أهل السنة كالقول في بقية الصفات فيثبتونه لله على ما يليق بجلاله وكبريائه من غير كيف ولا تحديد إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل قوله إلا الجنة كأن يقول اللهم إني أسألك بوجهك الكريم أن تدخلني الجنة وقيل المراد لا تسألوا من الناس شيئا بوجه الله كأن يقول أعطني شيئا بوجه الله فإن الله أعظم من أن يسأل به شيء من الحطام قلت والظاهر أن كلا المعنيين صحيح قال الحافظ العراقي وذكر الجنة إنما هو للتنبيه به على الأمور العظام لا للتخصيص فلا يسأل بوجهه في الأمور الدنيئة بخلاف الأمور العظام تحصيلا أو دفعا كما يشير اليه استعاذة النبي ﷺ به قلت والظاهر أن المراد لا يسال بوجه الله إلا الجنة أو ما هو وسيلة اليها كالاستعاذة بوجه الله من غضبه ومن النار ونحو ذلك مما هو وارد في أدعيته ﷺ وتعوذاته ولما نزل قوله تعالى قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم قال النبي ﷺ أعوذ بوجهك أو من تحت
أرجلكم قال أعوذ بوجهك رواه البخاري وهذا الحديث رواه أيضا في المختارة أيضا ولكن في اسناده سليمان بن معاذ قال ابن معين ليس بشيء وضعفه عبد الحق وابن القطان باب ما جاء في اللو اعلم أن من كمال التوحيد الاستسلام للقضاء والقدر رضا بالله ربا فإن هذا من جنس المصائب والعبد مأمور عند المصائب بالصبر والارجاع والتوبة وقول لو لا يجدي عليه إلا الحزن والتحسر مع ما يخاف توحيده من نوع المعاندة للقدر الذي لا يكاد يسلم منها من وقع منه هذا الا ما شاء الله فهذا وجه ايراده هذا الباب في التوحيد قال وقول الله تعالى يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا الآية ش قال ابن كثير فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله ﷺ قال ابن اسحاق حدثني يحيى بن عبادة بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن عبدالله
بن الزبير قال لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ حين اشتد الخوف علينا ارسل الله علينا النوم فما منا رجل إلا ذقنه في صدره فوالله إني لأسمع قول معتب بن قشير ما أسمعه إلا كالحلم لو كان لنا من الامر شيء ما قتلنا ههنا فحفظتها منه وفي ذلك أنزل الله تعالى يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا لقول معتب رواه ابن أبي حاتم قال الله تعالى قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم أي هذا قدر مقدر من الله تعالى وحكم حتم لازم لا محيد عنه ولا مناص منه قلت فتبين وجه ايراد المصنف الآية على الترجمة لأن قول لو في الأمور المقدرة من كلام المنافقين ولهذا رد الله عليهم ذلك بأن هذا قدر فمن كتب عليه شيء فلا بد ان يناله فماذا يغني عنكم قول لو وليت الا الحسرة والندامة فالواجب عليكم في هذه الحالة الإيمان بالله والتعزي بقدره مع ما ترجون من حسن ثوابه وفي ذلك عين الفلاح لكم في الدنيا والآخرة بل يصل الأمر الى ان تنقلب المخاوف أمانا والاحزان سرورا وفرحا كما قال عمر بن عبد العزيز أصحبت وما لي سرور إلا في مواقع القضاء والقدر قال وقوله تعالى الذين قالوا لاخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية ش روى ابن جرير عن السدي قال خرج رسول الله ﷺ يوم أحد في ألف رجل وقد وعدهم الفتح إن صبروا فلما خرجوا رجع عبدالله بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم ابو جابر السلمي يدعوهم فلما غلبوه وقالوا له ما نعلم
قتالا ولئن أطعتنا لترجعن معنا فنزل الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا الآية وعن ابن جريج في الآية قال هو عبدالله بن أبي الذين قعدوا وقالوا لإخوانهم الذين خرجوا مع النبي ﷺ يوم أحد رواه ابن جرير وابن أبي حاتم فعلى هذا إخوانهم هم المسلمون المجاهدون وسموا إخوانهم لموافقتهم في الظاهر وقيل إخوانهم في النسب لافي الدين لو أطاعونا ما قتلوا قال ابن كثير لو سمعوا مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل قال الله تعالى قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين أي ان كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون والموت لابد آت اليكم ولو كنتم في بروج مشيدة فادفعوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين قال مجاهد عن جابر بن عبدالله نزلت هذه الآية في عبدالله بن أبي قلت وكان أشار على رسول الله ﷺ يوم أحد بعدم الخروج فلما قدر الله الأمر قال ذلك تصويبا لرأيه ورفعا لشأنه فرد الله عليه وعلى أمثاله قل فادرؤوا عن أنفسكم الموت ان كنتم صادقين فلا تعذرون عن ذلك فعلم أن ذلك بقضاء الله وقدره أي يستوي الذي في وسط الصفوف والذي في البروج المشيدة في القتل والموت بل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل الى مضاجعهم فلا ينجي حذر عن قدر وفي ضمن ذلك قول لو ونحوه في مثل هذا المقام لأن ذلك لا يجدي شيئا اذ المقدر قد وقع فلا سبيل الى دفعه أبدا واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا
قال في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز وان أصابك شيء قلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فإن لو تفتح عمل الشيطان ش قوله في الصحيح أي صحيح مسلم قوله احرص على ما ينفعك الخ هذا الحديث اختصره المصنف رحمه الله ولفظه أن النبي ﷺ قال المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير احرص على ما ينفعك الى آخره فقوله عليه السلام المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف فيه أن الله سبحانه موصوف بالمحبة وأنه يحب على الحقيقة كما قال يحبهم ويحبونه وفيه أنه سبحانه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها فهو القوي ويحب المؤمن القوي وهو وتر يحب الوتر وجميل يحب الجمال وعليم يحب العلماء ومحسن يحب المحسنين وصبور يحب الصابرين وشكور يحب الشاكرين قلت الظاهر أن المراد القوة في أمر الله وتنفيذه والمسابقة بالخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على ما يصيب في ذات الله ونحو ذلك لا قوة البدن ولهذا مدح الله الأنبياء بذلك في قوله واذكر عبادنا ابراهيم واسحق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار فالأيدي القوة والعزائم في تنفيذ أمر الله وقوله واذكر عبدنا داود ذا الأيد انه أواب
وقوله في كل خير أي كل من المؤمن القوي والمؤمن الضعيف على خير وعافية لاشتراكهما في الإيمان والعمل الصالح ولكن القوي في ايمانه ودينه أحب الى الله وفيه أن محبة المؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض وقوله احرص على ما ينفعك هو بفتح الراء وكسرها قال ابن القيم سعادة الانسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودا وكماله كله في مجموع هذين الأمرين أن يكون حريصا وأن يكون حرصه على ما ينتفع به فإن حرص على مالا ينفعه أو فعل ما ينفعه بغير حرص فإنه من الكمال بحسب ما فاته من ذلك فالخير كله في الحرص على ما ينفع قوله واستعن بالله قال ابن القيم لما كان حرص الانسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئتة وتوفيقه أمره أن يستعين به ليجتمع له مقام اياك نعبد واياك نستعين فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله ولاتتم الا بمعونته فأمره بأن يعبده ويستعين به وقال غيره استعن بالله أي اطلب الإعانة في جميع أمورك من الله لا من غيره كما قال تعالى اياك نعبد واياك نستعين فإن العبد عاجز لا يقدر على شيء إن لم يعنه الله عليه فلا معين له على مصالح دينه ودنياه الا الله تعالى فمن اعانه الله فهو المعان ومن خذله فهو المخذول وقد كان النبي ﷺ يقول في خطبته ويعلم أصحابه أن يقولوا الحمد لله نستعينه ونستهديه ومن دعاء القنوت اللهم إنا نستعينك وأمر معاذ بن جبل أن لا يدع في دبر كل صلاة أن يقول اللهم
أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وكان ذلك من دعائه ﷺ ومنه أيضا اللهم أعني ولا تعن علي واذا حقق العبد مقام الاستعانة وعمل به كان مستعينا بالله تعالى متوكلا عليه راغبا وراهبا إليه فيستحق له مقام التوحيد إن شاء الله تعالى قوله ولا تعجزن وهو بكسر الجيم وفتحها استعمل الحرص والاجتهاد وفي تحصيل ما ينفعك من أمر دينك ودنياك التي تستعين بها على صيانة دينك وصيانة عيالك ومكارم أخلاقك ولا تفرط في طلب ذلك ولا تتعاجز عنه متكلا على القدر أو متهاونا بالأمر فتنسب للتقصير وتلام على التفريط شرعا وعقلا مع انهاء الاجتهاد نهايته وبلاغ الحرص غايته فلا بد من الاستعانة بالله والتوكل عليه والالتجاء في كل الأمور اليه فمن ملك هذين الطريقين حصل على خير الدارين وقال ابن القيم العجز ينافي حرصه على ما ينفعه وينافي استعانته بالله فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله ضد العاجر فهذا ارشاد له قبل رجوع المقدور الى ما هو من أعظم أسباب حصوله وهو الحريص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده ومصدرها منه ومردها اليه قوله فإن أصابك شيء الى آخره العبد اذا فاته ما لم يقدر له فله حالتان حالة عجز وهي مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز الى لو ولا فائدة في لو ههنا بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن وذلك كله من عمل الشيطان فنهاه ﷺ عن افتاح عمله بهذا المفتاح وأمره بالحالة الثانية وهي النظر الى القدر وملاحظته وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد فلم يبق له ههنا أنفع من شهود القدر ومشيئة الرب
النافذة التي توجب وجود المقدور وإذا انتفت امتنع وجوده فلهذا قال وإن أصابك شيء أي غلبك الأمر ولم يحصل المقصود بعد بذل جهده والاستعانة بالله فلا تقل لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل قدر الله وما شاء فعل فأرشده الى ما ينفعه في الحالتين حالة حصول مطلوبه وحالة فواته فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدا بل هو أشد شيء إليه ضرورة وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية باطنا وظاهرا في حالتي حصول المطلوب وعدمه هذا معنى كلام ابن القيم وقال القاضي قال بعض العلماء هذا النهي إنما هو لمن قاله معتقدا ذلك حتما وانه لو فعل ذلك لم يصبه قطعا فأما من رد ذلك إلى مشيئة الله تعالى وأنه لن يصيبه إلا ما شاء الله فليس من هذا واستدل بقول ابي بكر الصديق في الغار لو أن أحدهم رفع رأسه لرآنا قال القاضي وهذا ما لاحجة فيه لانه اخبر عن مستقبل وليس فيه دعوى لرد القدر بعد وقوعه قال وكذا جميع ما ذكره البخاري فيما يجوز من الو كحديث لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم ولو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه ولولا أن أشق على امتي لأمرتهم بالسواك وشبه ذلك وكله مستقبل لا اعتراض فيه على قدر ولا كراهة فيه لأنه إنما أخبر عن اعتقاده فيما كان يفعل لولا المانع وعما هو في قدرته فأما ما ذهب فليس في قدرته فإن قيل ما تصنعون بقوله ﷺ لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة قيل هذا كقوله لولا حدثان قومك بالكفر ونحوه مما هو خبر عن مستقبل لا اعتراض فيه على قدر بل هو اخبار لهم أنه لو استقبل الإحرام بالحج ما ساق الهدي ولا أحرم بالعمرة
بقوله لهم لما أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة حثا لهم وتطييبا لقلوبهم لما رآهم توقفوا في أمره فليس من المنهي عنه بل هو إخبار لهم عما كان يفعل في المستقبل لو حصل ولا خلاف في جواز ذلك وإنما ينهى عن ذلك في معارضة القدر مع اعتقاد أن ذلك المانع لو يقع لوقع خلاف المقدور قوله فإن لو تفتح عمل الشيطان أي من الجزع والعجز واللوم والسخط من القضاء والقدر ونحو ذلك ولهذا من قالها على وجه النهي عنه فإن سلم من التكذيب بالقضاء والقدر لم يسلم من المعاندة له واعتقاد أنه لو فعل ما زعم لم يقع المقدور ونحو ذلك وهذا من عمل الشيطان فإن قيل ليس في هذا رد للقدر ولا تكذيب به إذ تلك الأسباب التي تمناها من القدر فهو يقول لو أني وقفت لهذا القدر لا ندفع به عني ذلك القدر فإن القدر يدفع بعضه ببعض قيل هذا حق ولكن ينفع قبل وقوع القدر المكروه فأما اذا ما وقع فلا سبيل إلى دفعه وإن كان له سبب إلى دفعه أو تخفيفه بقدر آخر فهو أولى به من قول لو كنت فعلت بل وحقيقته في هذا الحال أن يستقبل فعله الذي يدفع به المكروه ولا يتمنى مالامطمع في وقوعه فإنه عجز محض والله يلوم على العجز ويحب الكيس ويأمر به والكيس مباشرة الاسباب التي ربط الله بها بمسبباتها النافعة للعبد في معاشه ومعاده انتهى ملخصا من كلام ابن القيم باب النهي عن سب الريح ش أي لأنها مأمورة ولا تأثير لها في شيء الا بأمر الله فسبها كسب الدهر
وقد تقدم النهي عنه فكذلك الريح قال عن أبي بن كعب رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون فقولوا اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أمرت به ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أمرت به صححه الترمذي ش قوله عن أبي بن كعب أي ابن قيس بن عبيد بن زيد ابن معاوية بن عمرو بن مالك بن النجار الأنصاري الخزرجي أبو المنذر صحابي بدري جليل وكان من قراء الصحابة وقضاتهم وعلمائهم وله مناقب مشهورة اختلف في سنة موته فقال الهيثم بن عدي مات سنة تسعة عشر وقال خليفة بن خياط سنة اثنين وثلاثين يقال فيها مات أبي بن كعب ويقال بل مات في خلافة عمر قلت وقيل غير ذلك قوله لا تسبوا الريح أي لا تشتموها ولا تلعنوها للحوق ضرر فيها فإنها مأمورة مقهورة فلا يجوز سبها بل تجب التوبة عند التضرر بها وهو تأديب من الله تعالى لعباده وتأديبه رحمة للعباد فلهذا جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا الريح من روح الله تأتي بالرحمة وبالعذاب فلا تسبوها ولكن سلو الله من خيرها وتعوذوا بالله من شرها رواه أحمد وابو داود وابن ماجة وكونها قد تأتي بالعذاب لا ينافي كونها من رحمة الله وعن ابن عباس أن رجلا لعن الريح عند النبي ﷺ فقال لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة وإنه من لعن شيئا ليس له بأهل رجعت اللعنة اليه رواه الترمذي وقال غريب قال الشافعي لا ينبغي شتم الريح فإنها خلق مطيع لله وجند من جنوده يجعلها الله رحمة إذا شاء ونقمة إذا شاء ثم روي بإسناده حديث
منقطع أن رجلا شكى إلى رسول الله ﷺ الفقر فقال له لعلك تسب الريح وقال مطرف لو حبست الريح عن الناس لأنتن ما بين السماء والأرض قوله فإذا رأيتم ما تكرهون أي من الريح إما شدة حرها أو بردها أو قوتها قوله فقولوا اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح أمر ﷺ بالرجوع إلى خالقها وأمرها الذي أزمة الأمور كلها بيده ومصدرها عن قضائه فما استجلبت نعمة بمثل طاعته وشكره ولا استدفعت نقمة بمثل الالتجاء اليه والتعوذ به والاضطرار إليه والاستنكانة له ودعائه والتوبة اليه والاستغفار من الذنوب قالت عائشة كان رسول الله ﷺ إذا عصفت الريح قال اللهم إني أسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به وإذا تخيلت السماء تغير لونه وخرج ودخل وادبر وأقبل فإذا مطرت سري ذلك عنه فعرفت عائشة ذلك فسألته فقال لعله يا عائشة كما قال قوم عاد فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا رواه البخاري ومسلم فهذا ما أمر به ﷺ وفعله عند الريح وغيرها من الشدائد المكروهات فأين هذا ممن يستغيث بغير الله من الطواغيت والأموات فيقولون يا فلان الزمها أو أزلها فالله المستعان
باب قول الله تعالى يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر شيء قل إن الأمر كله لله الآية ش أراد المصنف بهذه الترجمة التنبيه على وجوب حسن الظن بالله لأن ذلك من واجبات التوحيد ولذلك ذم الله من أساء الظن به لأن مبني حسن الظن على العلم برحمة الله وعزته وإحسانه وقدرته وعلمه وحسن اختياره وقوة المتوكل عليه فإذا تم العلم بذلك أثمر له حسن الظن بالله وقد ينشأ حسن الظن من مشاهدة بعض هذه الصفات وبالجملة فمن قام بقلبه حقائق معاني أسماء الله وصفاته قام به من حسن الظن ما يناسب كل اسم وصفة لأن كل صفة لها عبودية خاصة وحسن ظن خاص وقد جاء الحديث القدسي قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وانا معه حين يذكرني رواه البخاري ومسلم وعن جابر رضي الله عنه أنه سمع النبي ﷺ قبل موته بثلاثة أيام يقول لا يموتن احدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى رواه مسلم وابو داود وفي حديث عند أبي داود وابن حبان حسن الظن من حسن العبادة رواه الترمذي والحاكم ولفظهما حسن الظن بالله من حسن العبادة قوله يقولون هل لنا من الأمر شيء قال ابن القيم ثم أخبر عن الكلام الذي صدر عن ظنهم الباطل وهو قولهم هل لنا من الأمر من
شيء وقولهم لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا فليس مقصودهم بالكلمة الأولى والثانية إثبات القدر ورد الأمر كله لله ولو كان مقصودهم لما ذموا عليه ولما حسن الرد عليهم بقوله قل إن الأمر كله لله ولا كان مصدر هذا الكلام ظن الجاهلية ولهذا قال غير واحد من المفسرين إن ظنهم الباطل ههنا هو التكذيب بالقدر وظنهم أن الأمر لو كان إليهم لكان رسول الله ﷺ واصحابه تبعا لهم يسمعون منهم لما أصابهم القتل ولكان التصرف والظفر لهم فكذبهم الله تعالى في هذا الظن الباطل الذي هو ظن الجاهلية وهو الظن المنسوب إلى أهل الجهل الذين يزعمون بعد نفاذ القضاء والقدر الذي لم يكن بد من نفاذه انهم كانوا قادرين على دفعه وإن الأمر لو كان إليهم لما نفذ القضاء فأكذبهم الله بقوله قل إن الأمر كله لله فلا يكون إلا ما سبق به قضاؤه وقدره وجرى به قلمه وكتابه السابق وما شاء الله كان ولا بد شاء الناس أم أبوا وما لم يشاء لم يكن شاءه الناس أو لم يشاؤوه وما جرى عليكم من الهزيمة والقتل فبأمره الكوني الذي لا سبيل إلى دفعه سواء كان لكم من الأمر شي او لم يكن فإنكم لو كنتم في بيوتكم وقد كتب القتل على بعضكم لخرج من كتب عليه القتل من بيته الى مضجعه ولا بد سواء كان له من الأمر شيء أو لم يكن وهذا من اظهر الأشياء إبطالا لقول القدرية النفاة الذين يجوزون أن يقع ما لا يشاء الله وأن يشاء مالا يقع وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي يختبر ما فيها من الإيمان والنفاق فالمؤمن لا يزداد بذلك إلا ايمانا وتسليما والمنافق ومن في قلبه مرض لا بد أن يظهر ما في قلبه على جوارحه ولسانه
قوله وليمحص ما في قلوبكم هذه حكمة أخرى وهي تمحيص ما في قلوب المؤمنين وهو تخليصه وتنقيته وتهذيبه فإن القلوب يخالطها تغليب الطباع وميل النفوس وحكم العادة وتزيين الشيطان واستيلاء الغفلة مما يضاد ما أودع فيها من الإيمان والاسلام والبر والتقوى فلو تركت في عافية دائمة مستمرة لم تتخلص من هذه المخاطر ولم تتمحص منه فاقتضت حكمة العزيز الرحيم ان قيض لها من المحن والبلايا ما يكون كالدواء الكريه لمن عرض له داء إن لم يتداركه طبيب بإزالته وتنقيته ممن هو في جسده وإلا خيف عليه من الفساد والهلاك فكانت نعمته سبحانه عليهم بهذه الكثرة والهزيمة وقتل من قتل منهم تعاد نعمته عليهم بنصره وتأييدهم وظفرهم بقدرتهم فله عليهم النعمة التامة في هذا وهذا قوله والله عليم بذات الصدور ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق وهم الجازمون بأن الله تعالى سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال وطائفة قد أهمتهم انفسهم يعني لا يغشاهم النعاس من القلق يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية كما قال في الآية الاخرى بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى اهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم الآية وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة انها الفاصلة وأن الاسلام قد باء وأهله قال ابن القيم ظن الجاهلية هو المنسوب إلى أهل الجهل وظن غير الحق لأنه غير ما يليق بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وذاته المبرأة من كل عيب
وسوء أو خلاف ما يليق بحكمته وحمده وتفرده بالربوبية والإلهية وما يليق بوعده الصادق الذي لا يخلفه وقد ذكر المؤلف تفسير ابن القيم لهذه الآية وهو أحسن ما قيل فيها وسيأتي ما يتعلق به إن شاء الله تعالى وقوله يقولون هل لنا من الأمر من شيء هذا أيضا من حكاية مقال المنافقين والظاهر أن المعنى إنا أخرجنا كرها ولو كان الأمر إلينا ما خرجنا كما أشار إليه ابن أبي بذلك ولفظه استفهام ومعناه النفي أي ما ان شيء من الأمر أي أمر الخروج وقيل غير ذلك فرد الله عليهم بقوله إن الامر كله لله أي ليس لكم من الأمر شيء ولا لغيركم بل الأمر كله لله فهو الذي إذا شاء فلا مرد له وقوله يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا تقدم الكلام عليها في باب ما جاء في اللو وقوله وليبتلي الله ما في صدوركم أي قدر الله هذه الهزيمة والقتل ليختبر الله ما في صدوركم بأعمالكم لأنه قد علمه غيبا فيعلمه شهادة لأن المجازاة إنما تقع على من يعلم مشاهدة لا على ما هو معلوم منهم غير مغمور وليمحص ما في قلوبكم اي يطهرها من الشدة والمرض بما يريكم من عجائب آياته وباهر قدرته وهذا خاص بالمؤمنين دون المنافقين والله عليم بذات الصدور قيل معناه إن الله لا يبتليكم ليعلم ما في صدوركم فإنه عليم بذلك وإنما ابتلاكم ليظهر أسراركم والله أعلم قال وقوله الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء الآية ش قال ابن كثير يتهمون الله تعالى في حكمه ويظنون بالرسول ﷺ واصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ولهذا قال عليهم دائرة السوء
وغضب الله عليهم ولعنهم أي أبعدهم من رحمته واعد لهم جهنم وساءت مصيرا قال ابن القيم في الآية الأولى فسر هذا الظن بأنه سبحانه لا ينصر رسوله وأن أمره سيضمحل وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته ففسر بانكار الحكمة وإنكار القدر وإنكار أن يتم أمر رسوله وأن يظهره على الدين كله وهذا هو ظن السوء الذي ظن المنافقون والمشركون في سورة الفتح وإنما كان هذا ظن السوء لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه وما يليق بحكمته وحمده ووعده الصادق فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره وأنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار وأكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم فقل من يسلم من ذلك إلا من عرف الله وأسماءه وصفاته وهو موجب حكمته وحمده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا وليتب الى الله تعالى ويستغفره من ظنه بربه ظن السوء ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له يقول إنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا فمستقل ومستكثر وفتش نفسك هل أنت سالم ... فإن تنج منها تنج من ذي عظيمة ... والافإني لا إخالك ناجيا ... ش قوله فسر هذا الظن بأنه سبحانه لاينصر رسوله إلى آخره هذا
تفسير غير واحد من المفسرين وهو مأخوذ من تفسير قتادة والسدي وذكر ذلك عنهما ابن جرير وغيره بالمعنى وقوله وإن أمره سيضمحل أي سيذهب جملة حتى لا يبقى له اثر والاضمحلال ذهاب الشيء جملة قوله وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته قال القرطبي وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس في قوله يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يعني التكذيب بالقدر وذلك أنهم تكلموا فيه فقال الله قل إن الامر كله لله يعني القدر خيره وشره من الله وأما تفسيره بإنكار الحكمة فلم أقف عليه عن السلف فهو تفسير صحيح فمن أنكر أن ذلك لم يكن لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن بالله ظن السوء وقد اشار تعالى الى بعض الحكم والغايات المحمودة في ذلك في سورة آل عمران فذكر شيئا كثيرا منها في الآية المفسرة وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور فهذا بعض الحكمة في ذلك فمن أنكره فقد ظن ظن السوء بالله وحكمته وعلمه ورحمته لكمال علمه وقدرته ورحمته ولأن من اسمائه الحق وذلك هو موجب لهيبته وربوبيته قوله لأنه ظن غير ما يليق به سبحانه اي لأن الذي يليق به سبحانه أنه يظهر الحق على الباطل وينصره فلا يجوز في عقل ولا شرع أن يظهر الباطل على الحق قال تعالى بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق وقال تعالى وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا
قوله ولا يليق بحكمته وحمده أي ان الذي يليق بحكمته وحمده أن لا يكون في السموات ولا في الأرض حركة ولا سكون إلا وله في ذلك الحكمة البالغة والحمد الكامل التام عليها فكيف بمثل هذا الأمر العظيم الذي وقع على سيد المرسلين ﷺ وعلى سادات الأولياء رضي الله عنهم فله سبحانه وتعالى في ذلك الحكمة وله عليه الحمد بل والشكر ومن تأمل ما في سورة آل عمران في سياق القصة رأى من ذلك العجب فمن ظن بالله تعالى أنه لا يفعل ذلك بقدرة وحكمة يستحق عليها الحمد والشكر فقد ظن به ظن السوء قوله فمن ظن أنه يديل الباطل على الحق إدالة مستقرة يضمحل معها الحق فهذا ظن السوء لأنه نسبه أي سبحانه إلى ما لا يليق بجلاله وكماله ونعوته وصفاته فإن حمده وحكمته وعزته تأبى ذلك وتأبى أن يذل حزبه وجنده وأن تكون النصرة المستقرة والظفر الدائم لأعدائه المشركين المعاندين له فمن ظن به ذلك فما عرفه ولا عرف أسماءه وصفاته وكماله قوله أو أنكر أن يكون ما جرى بقضائه وقدره أي فذلك ظن السوء لأنه نسبة له إلى ما لا يليق بربوبيته وملكه وعظمته قوله أو أنكر أن يكون قدره لحكمة بالغة يستحق عليها الحمد بل زعم أن ذلك لمشيئة مجردة فذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قال ابن القيم وكذلك من انكر أن يكون قدر ما قدره من ذلك وغيره لحكمة بالغة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد وان ذلك انما صدر عن مشيئة
مجردة عن حكمة وغاية مطلوبة هو أحب إلي من قوتها وأن تلك الأسباب المكروهة المفضية إليها لا يخرج تقدرها عن الحكمة لانضمامها إلى ما يحب وإن كانت مكروهة له فما قدرها سدى ولا شاءها عبثا ولاخلقها باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار قوله ووعده الصادق لأن الله تعالى وعد رسوله ﷺ أن يظهر أمره ودينه على الدين كله ولو كره المشركون فمن ظن به تعالى أن دين نبيه سيضمحل ويبطل ولا يظهر على الدين كله فقد ظن به ظن السوء لأنه ظن أنه يخلف الميعاد والله تعالى لا يخلف الميعاد قوله واكثر الناس يظنون بالله ظن السوء فيما يختص بهم وفيما يفعله بغيرهم قال ابن القيم فمن قنط من رحمته وأيس من روحه فقد ظن به ظن السوء ومن جوز عليه أن يعذب أولياءه مع إحسانهم وإخلاصهم ويسوي بينهم وبين أعدائه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يترك خلقه سدى معطلين عن الأمر والنهي ولا يرسل اليهم رسله ولا ينزل إليهم كتبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن انه لن يجمعهم بعد موتهم للثواب والعقاب في دار يجازي فيها المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ويبين لخلقه حقيقة ما اختلفوا فيه ويظهر للعالمين كلهم صدقه وصدق رسله وأن أعداءه كانوا هم الصادقين فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يضيع عليه عمله الصالح الذي عمله خالصا لوجهه على امتثال أمره ويبطله عليه بلا سبب من العبد أو أنه يعاقبه على فعله سبحانه به أو ظن به أنه يجوز عليه أن يؤيد أعداءه الكاذبين عليه بالمعجزات التي يؤيد بها أنبياءه ورسله وأنه يحسن منه
كل شيء حتى يعذب من أفنى عمره في طاعته اي كمحمد ﷺ فيخلده في الجحيم أو في أسفل سافلين ومن استنفذ عمره في عداوته وعداوة رسله ودينه كأبي جهل فيرفعه الى أعلى عليين وكلا الأمرين في الحسن سواء عنده ولا يعرف امتناع أحدهما ووقوع الآخر إلا بخبر صادق وإلا فالعقل لا يقضي بقبح أحدهما وحسن الآخر فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه أخبر عن نفسه وصفاته وأفعاله بما ظاهره باطل وتشبيه وتمثيل وترك الحق لم يخبر به وإنما رمز إليهم رموزا بعيدة وصرح دائما بالتشبيه والتمثيل والباطل وأراد من خلقه أن يتعبوا أذهانهم وقواهم وأفكارهم في تحريف كلامه عن مواضعه وتأويله على غير تأويله وإعانتهم في معرفة أسمائه وصفاته على عقولهم وآرائهم لا على كتابه مع قدرته على أن يصرح لهم بالحق الذي ينبغي التصريح به ويريحهم من الألفاظ التي توقعهم في اعتقاد الباطل فقد ظن به ظن السوء ومن ظن به أن يكون له في ملكه مالا يشاء ولا يقدر على إيجاده وتكوينه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا سمع له ولا بصر ولا علم ولا إرادة ولا كلام يقوم به وأنه لم يكلم أحدا من الخلق ولا يتكلم أبدا فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه ليس فوق سمواته على عرشه بائنا من خلقه وأن نسبة ذاته تعالى إلى عرشه كنسبتها إلى أسفل سافلين وأنه أسفل كما أنه أعلى وأن من قال سبحان ربي الأسفل كمن قال سبحان ربي الأعلى فقد ظن به أقبح الظن ومن ظن أنه يحب الكفر والفسوق والعصيان والفساد ولا يحب الإيمان والبر والطاعة والصلاح فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه لا يحب ولا يرضى ولا يغضب ولا يوالي ولا يعادي ولا يقرب من أحد من خلقه ولا يقرب عنده أحد وأن ذوات الشياطين في القرب منه كذوات الملائكة المقربين
فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يسوي بين المتضادين أو يفرق بين المتساويين في كل وجه أو يحبط طاعات العمر المديد الخالصة الصواب بكبيرة واحدة تكون بعدها فيخلده في الحجيم لتلك الكبيرة كما يخلد من لم يؤمن به طرفة عين واستنفد عمره في مساخطه ومعاداة رسله ودينه فقد ظن به ظن السوء وبالجملة فمن ظن به خلاف ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله أو عطل حقائق ما وصف به نفسه ووصفه به رسله فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أن له ولدا أو شريكا أو أن أحدا يشفع عنده بدون إذنه أو أن بينه وبين خلقه وسائط يرفعون حوائجهم إليه أو أنه نصب لعباده أولياء من دونه يتقربون بهم إليه ويجعلونهم وسائط بينه وبينهم فيدعونهم ويخافونهم ويرجونهم فقد ظن به أقبح الظن واسوءه ومن ظن به أنه ينال ما عنده بمعصيته ومخالفته كما ينال بطاعته والتقرب إليه فهو من ظن السوء ومن ظن أنه إذا ترك لأجله شيئا لم يعوضه خيرا منه أو من فعل شيئا لأجله لم يعطه أفضل منه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يغضب على عبده ويعاقبه بغير جرم ولا سبب من العبد إلا بمجرد المشيئة فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه إذا صدق في الرغبة والرهبة وتضرع إليه وسأل واستعان به وتوكل عليه أنه يخيبه فقد ظن به ظن السوء ومن ظن أنه يثيبه إذا عصاه كما يثيبه إذا أطاعه وسأله ذلك في دعائه فقد ظن به خلاف ما هو أهله وما لا يفعله ومن ظن أنه إذا أغضبه وأسخطه ووقع في معاصيه ثم اتخذ من دونه أولياء ودعا من دونه ملكا أو بشرا حيا أو ميتا يرجو بذلك أن ينفعه عند ربه ويخلصه من عذابه فقد ظن به
ظن السوء ومن ظن به أنه يسلط على رسوله محمد ﷺ أعداءه تسليطا مستقرا دائما في حياته ومماته وابتلاه بهم لا يفارقونه فلما مات استبدوا بالأمر دون وصيه وأهل بيته وسلبوهم حقهم واذلوهم من غير جرم ولا ذنب لأوليائه واهل الحق وهو يرى ذلك ويقدر على نصرة أوليائه وحزبه ولا ينصرهم ثم جعل المبدلين لدينه مضاجعيه في حفرته تسلم أمته عليه وعليهم كل وقت كما تظنه الرافضة فقد ظن به أقبح الظن انتهى اختصارا وهو ينبهك على إحسان الظن بالله في كل شيء فليعتن اللبيب اللب العقل واللبيب العاقل قوله ولو فتشت من فتشت لرأيت عنده تعنتا على القدر وملامة له وأنه كان ينبغي أن يكون كذا وكذا قلت بل يبوحون بذلك ويصرحون به جهارا في أشعارهم وكلامهم قال ابن عقيل في الفنون الواحد من العوام إذا رأى مراكب مقلدة بالذهب والفضة ودارا مشيدة مملوءة بالخدم والزينة قال انظر إلى إعطائهم مع سوء أفعالهم ولا يزال يلعنهم ويذم معطيهم حتى يقول فلان يصلي الجماعات والجمع ولا يؤذي الذر ولا يأخذ ما ليس له ويؤدي الزكاة اذا كان له مال ويحج ويجاهد ولا ينال خلة بقلبه ويظهر الإعجاب كأنه ينطق إنه لو كانت الشرائع حقا لكان الأمر بخلاف ما ترى وكان الصالح غنيا والفاسق فقيرا قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذه حالة قد شملت خلقا كثيرا من العلماء والجهال أو لهم إبليس فإنه نظر بعقله فقال كيف يفضل الطين على جوهر النار وفي ضمن اعتراضه إن حكمتك قاصرة وأنا أجود واتبع إبليس في تفضيله واعتراضه خلق كثير مثل الراوندي
والمعري ومن قوله ... اذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونا وترزق أحمقا ... ولا ذنب يا رب السماء على امرىء ... رأى منك مالا ينتهي فتزندقا ... وأمثال ذلك كثير في اولئك الذين ابتعدوا عن كتاب الله وسنة رسوله وانطلقوا الى أهوائهم واعتمدوا على عقولهم القاصرة التي جعلتهم يعترضون على الله جل وعلا وكان أبو طالب المكي يقول ليس على المخلوق أضر من الخالق قال ابن الجوزي ودخلت على صدقة بن الحسين الحداد وكان فقيها غير أنه كان كثير الاعتراض وكان عليه جرب فقال هذا ينبغي أن يكون عى حمد لاعلي وكان يتفقد بعض الأكابر أكول فيقول بعث لي هذا على الكبر وقت لا أقدر على أكله وكان رجل يصحبني قد قارب ثمانين سنة كثير الصلاة والصوم فمرض واشتد به المرض فقال إن كان يريد أن أموت فيميتني وأما هذا التعذيب فماله معنى والله لو أعطاني الفردوس كان مكفورا ورأيت آخر تزيا بالعلم اذا ضاق عليه رزقه يقول أيش هذا التدبير وعلى هذا كثير من العوام إذا ضاقت أرزاقهم اعترضوا وربما قالوا ما يريد يصلي واذا رأوا رجلا صالحا مؤذيا قالوا ما يستحق قدحا في القدر وكان قد جرى في زماننا تسلط من الظلمة وقال بعض من تزيا بالدين هذا حكم بارد وما فهم ذلك الأحمق فإن لله على الظالم أن يسلط عليه أظلم منه وفي الحمقى من
يقول أي فائدة في خلق الحيات والعقارب وما علم أن ذلك انموذج لعقوبة المخالف وهذا امر قد شاع ولهذا مددت النفس فيه واعلم أن المعترض قد ارتفع أن يكون شريكا وعلا الخالق بالحكم عليه وهؤلاء كلهم كفرة لأنهم رأوا حكمة الخالق قاصره وإذا كان قد توقف القلب عن الرضى بحكم الرسول ﷺ يخرج عن الايمان قال فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم فكيف يصح الايمان مع الاعتراض على الله وكان في زمن ابن عقيل رجل رأى بهيمة على غاية من السقم فقال وراحمتي لك واقلة حيلتي في إقامة التأويل لمعذبك فقال له ابن عقيل ان لم تقلد على حمل هذا الأمر لأجل رقبتك الحيوانية ومناسبتك الجنسية فعندك عقل تعرف به حكم الصانع وحكمته يوجب عليك التأويل فان لم تجد استطرحت الفاطر العقل حيث خانك العقل عن معرفة الحكمة في ذلك انتهى قوله وفتش نفسك هل أنت سالم قال ابن القيم أكثر الخلق إلا من شاء الله يظنون بالله غير الحق وظن السوء فإن غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق ناقص الحظ وأنه يستحق فوق ما أعطاه الله ولسان حاله يقول ظلمني ربي ومنعني ما أستحقه ونفسه تشهد عليه بذلك وهو بلسانه ينكره ولا يتجاسر على التصريح به ومن فتش نفسه وتغلغل في معرفة دفائنها وطواياها رأى ذلك فيها كامنا كمون النار في الزناد فاقرع زناد من شئت ينبئك شرارها عما في زناده فليعتن اللبيب الناصح لنفسه بهذا الموضع وليتب الى الله ويستغفره كل وقت من ظنه بربه ظن السوء وليظن السوء بنفسه التي هي مأوى كل سوء وصنيع كل شر المركبة على الجهل
والظلم فهو أولى بظن السوء من أحكم الحاكمين وأعدل العادلين وأرحم الراحمين الغني الحميد الذي له الغنى التام والحكمة التامة المنزه عن كل سوء في ذاته وصفاته وأفعاله واسمائه فذاته لها الكمال المطلق من كل وجه وصفاته كذلك وأفعاله كلها حكمة ومصلحة ورحمة وعدل وأسماؤه كلها حسنى ... فلا تظنن بربك ظن سوء ... فإن الله أولى بالجميل ... ولا تظنن بنفسك قط خيرا ... فكيف بظالم جان جهول ... وظن بنفسك السوأى تجدها ... كذاك وخيرها كالمستحيل ... ومابك من تقي فيها وخير ... فتلك مواهب الرب الجليل ... وليس لها ولا منها ولكن ... من الرحمن فاشكر للدليل ... قوله فإن تنج منها أي من هذه الخصلة العظيمة قوله من ذي عظيمة أي تنج من شر عظيم قوله وإني لا إخالك هو بكسر الهمزة أي أظنك والله اعلم باب ما جاء في منكري القدر ش أي من الوعيد والقدر بالفتح والسكون ما يقدره الله من القضاء ولما كان توحيد الربوبية لا يتم الا باثبات القدر قال القرطبي
القدر مصدر قدرت الشي بتخفيف الدال أقدره وأقدره قدرا وقدر إذا حصلت بمقداره ويقال فيه قدرت اقدر تقديرا مشدد الدال فاذا قلنا إن الله تعالى قدر الأشياء فمعناه إنه تعالى علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه أنه يوجده على نحو ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلوي والسفلي إلا هو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته هذا هو المعلوم من دين السلف الماضين الذي دلت عليه البراهين ذكر المصنف ما جاء في الوعيد فيمن أنكره تنبيها على وجوب الايمان ولهذا عده النبي ﷺ من اركان الايمان كما ثبت في حديث جبريل عليه السلام لما سئل عن الايمان فقال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره قال صدقت وعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله ﷺ إن الله تعالى كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والارض بخمسين الف سنة قال وعرشه على الماء وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله ﷺ كل شيء بقدر حتى العجز والكيس رواهما مسلم في صحيحه وعن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق ويؤمن بالموت والبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم في صحيحه والأحاديث في ذلك كثيرة جدا قد افردها العلماء بالتصنيف قال البغوي في شرح السنة الايمان بالقدر فرض لازم وهو أن يعتقد أن الله تعالى خالق أعمال العباد خيرها وشرها كتبها عليهم في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقهم قال الله تعالى والله
خلقكم وما تعلمون فالإيمان والكفر فالطاعة ووعد عليها الثواب ولا يرضى الكفر والمعصية ووعد عليهما العقاب قال الله تعالى ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء قال والقدر سر من أسرار الله تعالى لم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا لا يجوز الخوض فيه والبحث عنه بطريق العقل بل يعتقد أن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم فريقين أهل يمين خلقهم للنعيم فضلا وأهل شمال خلقهم للجحيم عدلا قال الله تعالى ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والانس وقد سأل رجل علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال يا أمير المؤمنين أخبرني عن القدر قال طريق مظلم فلا تسلكه فأعاد السؤال فقال بحر عميق لا تلجه فأعاد السؤال فقال سر الله خفي عليك فلا تفشه وقال شيخ الاسلام مذهب أهل السنة في هذا الباب وغيره ما دل عليه الكتاب والسنة وكان عليه السابقون الاولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم باحسان وهو ان الله خالق كل شيء وربه ومليكه وقد دخل في ذلك جميع الاعيان القائمة بأنفسها وصفاتها القائمة بها من أفعال العباد وغير أفعال العباد وأنه سبحانه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن فلا يكون في الوجود شيء إلا بمشيئته وقدرته لا يمتنع عليه شيء شاءه بل هو قادر على كل شيء ولا يشاء شيئا الا وهو قادر عليه وأنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون فقد دخل في ذلك أفعال العباد وغيرها وقد قدر
مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم قدر أرزاقهم وآجالهم وأعمالهم وكتب ذلك وكتب ما يصيرون اليه من سعادة وشقاوة فهم يؤمنون بخلقه لكل شيء وقدرته على كل شيء ومشيئته لكل ما كان وعلمه بالأشياء قبل أن تكون وتقديره لها وكتابته إياها قبل أن تكون وغلاة القدرية ينكرون علمه المتقدم وكتابته السابقة ويزعمون أنه أمر ونهي وهو لا يعلم من يطيعه ممن يعصيه بل الأمر أنف اي مستأنف وهذا القول أول ما حدث في الإسلام بعد انقراض عصر الخلفاء الراشدين وبعد إمارة معاوية بن أبي سفيان في زمن الفتنة التي كانت بين ابن الزبير وبني أمية في آخر عصر عبدالله بن عمر وعبدالله بن عباس وغيرهما من الصحابة وكان أول من ظهر ذلك عنه بالبصرة معبد الجهني فلما بلغ الصحابة قول هؤلاء تبرؤوا منهم وانكروا مقالتهم ثم لما كثر خوض الناس في القدر صار جمهورهم يقر بالعلم المتقدم والكتاب السابق ولكن ينكرون عموم مشيئة الله وعموم خلقه وقدرته ويظنون أنه لا معنى لمشيئته الا أمره فما شاء فقد أمر به وما لم يشأ لم يأمر به فلزمهم أنه قد يشاء مالا يكون ويكون ما لايشاء وأنكروا أن يكون الله خالقا لأفعال العباد أو قادرا عليها أو أن يخص بعض عباده من النعم مما يقتضي إيمانهم به وطاعتهم له وزعموا ان نعمته التي بما يمكن الايمان والعمل الصالح على الكفار كأبي جهل وابي لهب مثل نعمته بذلك على أبي بكر وعمر وعثمان وعلي بمنزلة رجل دفع إلى والديه بمال قسمه بينهم بالسوية لكن هؤلاء أحدثوا أعمالهم الصالحة وهؤلاء أحدثوا أعمالهم الفاسدة من غير نعمة خص الله بها المؤمنين وهذا قول باطل وقد قال الله تعالى يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي اسلامكم بل الله
يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين وقال ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره اليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم وقال ابن القيم ما معناه مراتب القضاء والقدر أربع مراتب الاولى علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها الثانية كتابة ذلك عنده في الأزل قبل خلق السموات والأرض الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود فلا خروج لكائن كما لا خروخ له عن علمه الرابعة خلقه لها وإيجاده وتكوينه فالله خالق كل شيء وما سواه مخلوق قال وقال ابن عمر والذي نفس ابن عمر بيده لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم استدل بقول النبي ﷺ الايمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره رواه مسلم ش قوله وقال ابن عمر هو عبدالله بن عمر بن الخطاب قوله لو كان لأحدهم مثل أحد ذهبا ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه الخ هذا قول ابن عمر لغلاة القدرية الذين أنكروا أن يكون الله تعالى عالم بشيء من أعمال العباد قبل وقوعها منها وإنما يعلمها بعد كونها منهم كما تقدم
عنهم قال القرطبي ولا شك في تكفير من يذهب إلى ذلك فإنه جحد معلوم من الشرع بالضرورة لذلك تبرأ منهم ابن عمر وأفتى بأنهم لا تقبل منهم أعمالهم ولا نفقاتهم وأنهم كمن قال الله فيهم وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله وهذا المذهب قد ترك اليوم فلا يعرف من ينسب اليه من المتأخرين من اهل البدع المشهورين فقال شيخ الاسلام لما ذكر كلام ابن عمر هذا وكذلك كلام ابن عباس وجابر بن عبدالله وواثلة بن الأسقع وغيرهم من الصحابة والتابعين لهم باحسان إلى يوم الدين وسائر أئمة المسلمين فيهم كثير حتى قال فيهم الأئمة كمالك والشافعي واحمد بن حنبل وغيرهم إن المنكرين لعلم الله المتقدم ينكرون القدر وقوله ثم استدل بقول النبي ﷺ الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره فجعل النبي ﷺ في هذا الحديث كأنه لما سئل عن الاسلام ذكر أركان الاسلام الخمسة لأنها أصل الاسلام ولما سئل عن الايمان أجاب بقوله أن تؤمن بالله إلى آخره فيكون المراد حينئذ بالايمان جنس تصديق القلب وبالاسلام جنس العمل والقرآن والسنة مملوءان بإطلاق الايمان على الأعمال كما هما مملوءان باطلاق الاسلام على الايمان الباطن مع ظهور دلالتهما ايضا على الفرق بينهما ولكن حيث أفرد أحمد الاسمين دخل فيه الآخر وإنما يفرق بينهما حيث فرق بين الاسمين ومن أراد تحقيق ما أشرنا اليه فليراجع
كتاب الايمان الكبير لشيخ الاسلام اذا تبين هذا فوجه استدلال ابن عمر بالحديث من جهة أن النبي ﷺ عد الايمان بالقدر من أركان الايمان فمن أنكره فلم يكن مؤمنا إذ الكافر بالبعض كافر بالكل فلا يكون مؤمنا متقيا والله لا يقبل إلا من المتقين وهذا قطعة من حديث جبريل عليه السلام وقد أخرجه مسلم بطوله أول كتاب الايمان في صحيحه من حديث يحيى بن معمر عن ابن عمر ولفظه عن يحيى بن يعمر قال كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني فانطلقت أنا وحميد بن عبدالرحمن الحميري حاجين أو معتمرين فقلنا لو لقينا أحدا من اصحاب رسول الله ﷺ فسألناه عما يقول هؤلاء في القدر فوفق لنا عبدالله بن عمر بن الخطاب داخلا المسجد فأكتنفته أنا وصاحبي أحدنا عن يمينه والآخر عن شماله فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلى فقت يا أبا عبد الرحمن إنه قد ظهر قبلنا أناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم وذكر من شأنهم وأنهم يزعمون أن لا قدر وأن الامر أنف قال فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم براء مني والذي يحلف به عبدالله بن عمر لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر ثم قال حدثني أبي عمر بن الخطاب قال بينما نحن عند رسول الله ﷺ ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواء الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبي ﷺ فأسند ركبتيه الى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه فقال يا محمد أخبرني عن الاسلام وذكر الحديث وقوله خيره وشره أي خير القدر وشره أي انه تعالى قدر الخير والشر قبل خلق الخلق وإن جميع الكائنات بقضائه وقدره وإرادته لقوله تعالى وخلق كل شيء فقدره
تقديرا والله خلقكم وما تعلمون إنا كل شيء خلقناه بقدر وغير ذلك فإن قلت كيف قال وتؤمن بالقدر خيره وشره وقد قال في الحديث والشر ليس اليك قيل إثبات الشر في القضاء والقدر إنما هو بالاضافة إلى العبد والمفعول إن كان مقدرا عليه فهو بسبب جهله وظلمه وذنوبه لا إلى الخالق فله في ذلك من الحكم ما تقصر عنه أفهام البشر لأن الشر إنما هو بالذنوب وعقوباتها في الدنيا والآخرة فهو شر بالاضافة إلى العبد أما بالاضافة الى الرب سبحانه وتعالى فكله خير وحكمة فإنه صادر عن حكمه وعلمه وما كان كذلك فهو خير محض بالنسبة الى الرب سبحانه وتعالى إذ هو موجب أسمائه وصفاته ولهذا قال والشر ليس اليك أي تمتنع إضافته اليك بوجه من الوجوه فلا يضاف الشر الى ذاته وصفاته ولا أسمائه ولا أفعاله فإن ذاته منزهة عن كل شر وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه وأسماؤه كلها حسن ليس فيها اسم ذم ولا عيب وافعاله حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة وهو المحمود على ذلك كله فتستحيل إضافة الشر اليه فإنه ليس شر في الوجود إلا الذنوب وعقوبتها وكونها ذنوبا تأتي من نفس العبد فان سبب الذنب الظلم والجهل وهما في نفس العبد فإنه ذات مستلزمة للجهل والظلم وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن
نفسه فمن أراد الله به خيرا أعطاه الفضل فصدر منه الاحسان والبر والطاعة ومن أراد به شرا أمسكه عنه وخلاه ودواعي نفسه وطبعه وموجبها فصدر عنه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح وليس منعه من ذلك شرا ولله في ذلك الحكمة التامة والحجة البالغة فهذا عدله وذلك فضله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وهوالعلي الحكيم هذا معنى كلام ابن القيم وهو الحق وحاصله أن الشر راجع الى مفعولاته لا إلى ذاته وصفاته ويتبين ذلك بمثال ولله المثل الأعلى لو أن ملكا من ملوك العدل كان معروفا بقمع المخالفين وأهل الفساد مقيما للحدود والتعزيرات الشرعية على أرباب اصحابها لعدوا ذلك خيرا يحمده عليه الملوك ويمدحه الناس ويشكرونه على ذلك فهو خير بالنسبة الى الملوك يمدح ويثنى به ويشكر عليه وإن كان شرا بالنسبة إلى من أقيم عليه فرب العالمين أولى بذلك لأن له الكمال المطلق من جميع الوجوه لإعتبارات وأيضا فلولا الشر هل كان يعرف الخير فإن الضد لا يعرف إلا بضده فإن لم تحط به خبرا فاذكر كلام ابن عقيل في الباب الذي قبل هذا وأسلم تسلم والله اعلم قال وعن عباد بن الصامت أنه قال لابنه يا بني إنك لن تجد طعم الايمان حتى تعلم ان ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك سمعت رسول الله ﷺ يقول إن أول ما خلق الله القلم فقال اكتب قال رب وماذا أكتب قال اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة يا بني سمعت رسول الله ﷺ يقول من مات على غير هذا فليس مني ش قوله يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان إلى آخره ابنه هذا
هو الوليد بن عبادة كما صرح به الترمذي في روايته وفيه أن للايمان طعما وهو كذلك فإن له حلاوة وطعما من ذاقه تسلى به عن الدنيا وما عليها وقد قال النبي ﷺ ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان الحديث وانما يكون العبد كذلك إذا كان مؤمنا بالقدر إذ يمتنع أن توجد الثلاث فيه وهو لا يؤمن بالقدر بل يكذب به ويرد على الله كلامه وعلى الرسول ﷺ مقالته فإن المحبة التامة تقتضي المتابعة التامة فمن لم يؤمن بالقدر لم يكن الله ورسوله أحب اليه مما سواهما فلا يجد حلاوة الإيمان ولا طعمه بل إن كان منكرا للعلم القديم فهو كافر كما تقدم ولهذا روي عن بعض الأئمة القدرية الكبار باسناد صحيح أنه قال لما ذكر حديث ابن مسعود رضي الله عنه حدثني الصادق المصدوق الحديث ولو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا لأجبته ولو سمعت عبدالله بن مسعود يقول هذا ما قبلته ولو سمعت رسول الله ﷺ يقول هذا لرددته وذكر كلمة بعدها فهذا كفر صريح نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه وقد بين في الحديث كيفية الإيمان بالقدر أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه وهذا كما قال النبي ﷺ في حديث جابر رضي الله عنه لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره حتى أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه رواه الترمذي والمعنى ان العبد لا يؤمن حتى يعلم أن ما يصيبه إنما أصابه في القدر أي قدر عليه من الخير والشر لم يكن ليخطئه أي يجاوزه فلا يصيبه وإنما أخطأه من الخير والشر في القدر أي لم يقدر عليه ما لم يكن ليصيبه كما قال تعالى ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب
من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير وقال تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون قوله إن أول ما خلق الله القلم قال شيخ الإسلام قد ذكرنا أن للسلف في العرضشوالقلم أيهما خلق قبل الآخر قولين كما ذكر ذلك الحافظ أبو العلي الهمداني وغيره أحدهما أن القلم خلق أولا كما أطلق ذلك غير واحد وهذا هو الذي يفهم في ظاهر كتب المصنف في الأوائل للحافظ أبو عروبة الحراني ولد القاسم الطبراني للحديث الذي رواه أبو داود في سننه عن عبادة ابن الصامت وذكر الحديث المشروح والثاني أن العرش خلق أولا قال الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في تصنيفه قي الرد على الجهمية حدثنا محمد بن كثير العبدي أنبأنا سفيان الثوري ثنا أبو هاشم عن مجاهد عن ابن عباس قال إن الله كان على عرشه قبل أن يخلق شيئا فكان أول ما خلق الله القلم فأمره أن يكتب ما هو كائن وأن ما يجري على الناس على أمر قد فرغ منه وكذلك ذكر الحافظ أبو بكر البيهقي في كتاب الأسماء والصفات لما ذكر بدء الخلق ثم ذكر حديث الأعمش عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه سئل عن قول الله تعالى وكان عرشه على الماء على أي شيء قال على متن الريح وروى حديث القاسم بن مرة
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يحدث أن رسول الله صلىالله عليه وسلم قال أول شيء خلقه الله القلم وأمره فكتب كل شيء يكون قال البيهقي وإنما أراد والله أعلم أول شيء خلقه بعد خلق الماء والريح والعرش وذلك في حديث عمران بن حصين الذي اشار إليه وهو ما رواه البخاري من غير وجه مرفوعا عنه كان الله ولم يكن شيء قبله وكان عرشه على الماء ثم خلق السموات والأرض وكتب في الذكر كل شيء ورواه البيهقي كما رواه محمد هارون الروياني في مسنده وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهما من حديث الثقات المتفق على ثقتهم عن أبي اسحق عن الأعمش عن جامع بن شداد عن صفوان بن محرز عن عمران بن حصين عن النبي صلىالله عليه وسلم قال كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء ثم كتب في الذكر كل شيء ثم خلق السموات وذكر أحاديث وآثارا ثم قال ما معناه فثبت في النصوص الصحيحة أن العرش خلق أولا وقال ابن كثير قال قائلون خلق القلم أولا وهذا اختيار ابن جرير وابن الجوزي وغيرهما قال ابن جرير وبعد القلم السحاب الرقيق وبعده العرش واحتجوا بحديث عبادة والذي عليه الجمهور أن العرش مخلقوق قبل ذلك كما دل على ذلك الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه يعني حديث عبدالله بن عمرو بن العاص الذي تقدم قالوا وهذا التقدير هو كتابته بالقلم المقادير وقد دل الحديث أن ذلك بعد خلق العرش فثبت تقديم العرش على القلم الذي كتب به المقادير كما ذهب إلى ذلك الجماهير ويحمل حديث القلم على أنه أول المخلوقات من هذا العالم انتهى بمعناه قوله اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة قال شيخ الإسلام
وكذلك في حديث ابن عباس وغيره وهذا يبين أنه إنما أمره حينئذ أن يكتب مقدار هذا الخلق إلى قيام الساعة لم يكن حينئذ ما يكون بعد ذلك قوله من مات على غير هذا لم يكن مني أي لأنه إذا كان جاحدا للعلم القديم فهو كافر كما قال كثير من أئمة السلف ناظروا القدرية بالعلم فإن أقروا به خصموا وإن جحدوا كفروا يريدون أن من أنكر العلم القديم السابق بأفعال العباد وأن الله قسمهم قبل خلقهم الى شقي وسعيد وكتب ذلك عنده في كتاب حفيظ فقد كذب القرآن فيكفر بذلك كما نص عليه الشافعي وأحمد وغيرهما وإن أقروا بذلك وأنكروا أن الله خلق أفعال العباد وشاءها وأرادها بينهم إرادة كونية قدرية فقد خصموا لأن ما أقروا به حجة عليهم فيما أنكروه وفي تكفير هؤلاء نزاع مشهور وبالجملة فهم أهل بدعة شنيعة والرسول ﷺ بريء منهم كما هو بريء من الأولين وقد بيض المصنف آخر هذا الحديث ليعزوه وقد رواه أبو داود وهذا لفظه ورواه أحمد والترمذي وغيرهما قال وفي رواية لابن وهب قال قال رسول الله ﷺ فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشره أحرقه الله بالنار ش قوله وفي رواية لابن وهب هو الإمام الحافظ عبدالله بن وهب بن مسلم القرشي مولاهم المصري الفقيه ثقة إمام مشهور عابد له مصنفات منها الجامع وغيره مات سنة سبع وتسعين ومائة وله اثنان وسبعون سنة قوله أحرقه الله بالنار أي لكفره أو بدعته إن كان ممن يقر بالعلم السابق وينكر خلق أفعال العباد فإن صاحب البدعة متعرض للوعيد كأصحاب الكبائر بل أعظم
قال وفي المسند والسنن عن أبي الديلمي قال أتيت أبي ابن كعب فقلت في نفسي شيء من القدر فحدثني بشيء لعل الله يذهبه من قلبي فقال لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ولو مت على غير هذا لكنت من أهل النار قال فأتيت عبدالله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد ثابت كلهم حدثني بمثل ذلك عن النبي ﷺ حديث صحيح رواه الحاكم في صحيحه ش قوله وفي المسند أي مسند الإمام أحمد والسنن أي سنن أبي داود وابن ماجه فقط بمعنى ما ذكر المصنف وفيه زيادة اختصرها المصنف ولفظ ابن ماجه حدثنا علي بن محمد حدثنا اسحق بن سليمان قال سمعت أبا سنان عن وهب بن خالد الحمصي عن أبي الديلمي قال وقع في نفسي شيء من هذا القدر خشيت أن يفسد علي ديني وأمري فأتيت أبي بن كعب فقلت يا أبا المنذر إنه قد وقع في قلبي شيء من هذا القدر فخشيت على ديني وأمري فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني فقال لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان لك مثل أحد ذهبا أو مثل جبل أحد تنفقة في سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار ولا عليك أن تأتي يا أخي عبدالله بن مسعود فتسأل فأتيت عبدالله فسألته فذكر مثل ما قال أبي وقال لي لا عليك أن تأتي حذيفة فأتيت حذيفة فسألته فقال مثل ما قال أئت زيد بن ثابت فاسأله فأتيت
زيد بن ثابت فسألته فقال سمعت رسول الله ﷺ يقول لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ولو كان مثل أحد أو مثل جبل أحد ذهبا تنفقه في سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقدر كله فتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك وإنك إن مت على غير هذا دخلت النار هذا حديث ابن ماجه ولفظ أبي داود كما ذكره المصنف إلا أنه قال ثم أتيت عبدالله بن مسعود فقال مثل ذلك ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك ثم أتيت زيد بن ثابت فحدثني عن النبي صلىالله عليه وسلم بمثل ذلك قوله عن أبي الديلمي هو عبدالله بن فيروز الديلمي وفيروز قاتل الأسود العنسي الكذاب وعبد الله هذا ثقة من كبار التابعين بل ذكره بعضهم في الصحابة والديلمي نسبة إلى جبل الديلم وهو من أبناء الفرس الذين بعثهم كسرى إلى اليمن قوله وقع في نفسي شيء من القدر أي شك أو اضطراب يؤدي إلى شك فيه أو جحد له قوله لو أنفقت مثل أحد ذهبا ما قبله الله منك هذا تمثيل على سبيل الفرض لا تحديد إذ لو فرض إنفاق ملء السموات والأرض كان ذلك قوله حتى تؤمن بالقدر أي بأن جميع الأمور الكائنة خيرها وشرها وحلوها ومرها ونفعها وضرها وقليلها وكثيرها وكبيرها وصغيرها بقضائه وقدره وإرادته ومشيئته وأمره كما ذكر عن علي رضي الله عنه
باب ما جاء في المصورين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ قال الله تعالى ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة اخرجاه ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يضاهؤون بخلق الله ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله ﷺ يقول كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم ولهما عنه مرفوعا من صور صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ ولمسلم عن أبي الهياج قال قال لي علي ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن لا تدع صورة الا طمستها ولا قبرا مشرفا الا سويته فيه مسائل الأولى التغليظ الشديد في المصورين الثانية التنبيه على العلة وهو ترك الأدب مع الله لقوله ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي الثالثة التنبيه على قدرته وعجزهم لقوله فليخلقوا ذرة أو حبة أو شعيرة
الرابعة التصريح بأنهم أشد الناس عذابا الخامسة أن الله يخلق بعدد كل صورة نفسا يعذب بها المصور في جهنم السادسة أنه يكلف أن ينفخ فيها الروح السابعة الأمر بطمسها اذا وجدت قوله باب ما جاء في المصورين أي من عظيم عقوبة الله لهم وعذابه وقد ذكر النبي ﷺ العلة وهي المضاهاة بخلق الله لأن الله تعالى له الخلق والأمر فهو رب كل شيء ومليكه وهو خالق كل شيء وهو الذي صور جميع المخلوقات وجعل فيها الأرواح التي تحصل بها الحياة كما قال الله تعالى الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سواه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون فالمصور لما صور الصورة على شكلك ما خلقه الله تعالى من إنسان وبهيمة صار مضاهيا لخلق الله فصار ما صور عذابا له يوم القيامة وكلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ فكان أشد الناس عذابا لأن ذنبه من أكبر الذنوب فإذا كان هذا فيمن صور صورة على مثال ما خلقه الله تعالى من الحيوان فكيف بحال من سوى المخلوق برب العالمين وشبهه بخلقه وصرف له شيئا من العبادة التي ما خلق الله الخلق إلا ليعبدوه وحده بما لا يستحقه غيره من كل
عمل يحبه الله من العبد ويرضاه فتسوية المخلوق بالخالق بصرف حقه لمن لا يستحقه من خلقه وجعله شريكا له فيما اختص به تعالى وتقدس هو أعظم ذنب عصي الله تعالى به ولهذا أرسل رسله وأنزل كتبه لبيان هذا الشرك والنهي عنه وإخلاص العبادة بجميع أنواعها لله تعالى فنجى الله تعالى رسله ومن أطاعهم وأهلك من جحد التوحيد واستمر على الشرك والتنديد فما اعظمه من ذنب إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق قوله ولمسلم عن أبي الهياج الأسدي حيان بن حصين قال قال لي علي رضي الله عنه هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قوله ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ أن لا تدع صورة إلا طمستها ولا قبرا مشرفا إلا سويته فيه تصريح بأن النبي ﷺ بعث عليا لذلك أما الصور فلمضاهاتها لخلق الله وأما تسوية القبور فلما في تعليتها من الفتنة بأربابها وتعظيمها وهو من ذرائع الشرك ووسائله فصرف الهمم إلى هذا وأمثاله من مصالح الدين ومقاصده وواجباته ولما وقع التساهل في هذه الأمور وقع المحذور وعظمت الفتنة بأرباب القبور وصارت محطا لرحال العابدين المعظيمن لها فصرفوا لها جل العبادة من الدعاء والاستعانة والاستغاثة والتضرع لها والذبح لها والنذور وغير ذلك من كل شرك محظور قال العلامة ابن القيم رحمه الله ومن جمع بين سنة رسول الله ﷺ في القبور
وما أمر به ونهى عنه وما كان عليه أصحابه وبين ما عليه أكثر الناس اليوم رأى أحدهما مضادا للآخر مناقضا له بحيث لا يجتمعان أبدا فنهى رسول الله ﷺ عن الصلاة إلى القبور وهؤلاء يصلون عندها وإليها ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله ونهى عن إيقاد السرج عليها وهؤلاء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل عليها ونهى عن أن تتخذ عيدا وهؤلاء يتخذونها أعيادا ومناسك ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر وأمر بتسويتها كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج الأسدي فذكر حديث الباب وحديث تمامة بن شفي وهو عند مسلم أيضا قال كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال سمعت رسول الله ﷺ يأمر بتسويتها وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين يرفعونها عن الأرض كالبيت ويعقدون عليها القباب ونهى عن تجصيص القبر والبناء عليه كما روى مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه قال نهى رسول الله ﷺ عن تجصيص القبر وأن يقعد عليه وأن يبني عليه ونهى عن الكتابة عليها كا روى أبو داود في سننه عن جابر أن رسول الله صلىالله عليه وسلم نهى عن تجصيص القبور وأن يكتب عليها قال الترمذي حديث حسن صحيح وهؤلاء يتخذون عليها الألواح ويكتبون عليها القرآن وغيره ونهى أن يزاد عليها غير ترابها كما روى أبو دواد عن جابر أيضا أن رسول الله صلى الله عيله وسلم نهى أن يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه وهؤلاء يزيدون عليه الآجر والجص والاحجار قال إبراهيم النخعي كانوا يكرهون الآجر على قبورهم والمقصود أن هؤلاء المعظمين للقبور المتخذيها أعيادا الموقدين عليها
السرج الذين يبنون عليها المساجد والقباب مناقضون لما أمر به رسول الله ﷺ محادون لما جاء به وأعظم ذلك اتخاذها مساجد وإيقاد السرج عليها وهو من الكبائر وقد صرح الفقهاء من أصحاب احمد وغيرهم بتحريمه قال أبو محمد المقدسي ولو أبيح اتخاذ السرج عليها لم يلعن من فعله ولأن فيه تضييعا للمال في غير فائدة وإفراطا في تعظيم القبور اشبه تعظيم الأصنام قال ولا يجوز اتخاذ المساجد على القبور لهذا الخبر ولأن النبي ﷺ قال لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا متفق عليه ولأن تجصيص القبور بالصلاة عندها يشبه تعظيم الأصنام بالسجود لها والتقرب إليها وقد روينا أن ابتداء عبادة الأصنام تعظيم الأموات باتخاذ صورهم والتمسح بها والصلاة عندها انتهى وقد آل الأمر بهؤلاء الضلال المشركين إلى أن شرعوا للقبور حجا ووضعوا لها مناسك حتى صنف بعض غلاتهم في ذلك كتابا سماه مناسك حج المشاهد مضاهاة منه القبور بالبيت الحرام ولا يخفى أن هذا مفارقة لدين الاسلام ودخول في دين عباد الأصنام فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه رسول الله ﷺ وقصده من النهي عما تقدم ذكره في القبور وبين ما شرعه هؤلاء وقصدوه ولا ريب أن في ذلك من المفاسد ما يعجر عن حصره فمنها تعظيم الموقع في الافتتان بها ومنها اتخاذها أعيادا ومنها السفر إليها ومنها مشابهة عباد الأصنام بما يفعل عندها من العكوف عليها والمجاورة عندها وتعليق الستور عليها وعبادها يرجحون المجاورة عندها على المجاورة عند المسجد الحرام ويرون سدانتها أفضل من خدمة المساجد والويل عندهم لقيمها ليلة يطفىء القنديل المعلق عليها ومنها النذر لها ولسدنتها ومنها اعتقاد المشركين فيها أن بها يكشف البلاء وينصر على الأعداء ويستنزل
غيث السماء وتفرج الكروب وتقضى الحوائج وينصر المظلوم ويجار الخائف إلى غير ذلك ومنها الدخول في لعنة الله ورسوله باتخاذ المساجد عليها وإيقاد السرج عليها ومنها الشرك الأكبر الذي يفعل عندها ومنها إيذاء أصحابها بما يفعله المشركون بقبورهم فإنهم يؤذيهم ما يفعل عند قبورهم ويكرهونه غاية الكراهية كما أن المسيح عليه السلام يكره ما يفعله النصارى عند قبره وكذلك غيره من الأنبياء والمشايخ يؤذيهم ما يفعله أشباه النصارى عند قبورهم ويوم القيامة يتبرؤون منهم كما قال تعالى ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أنتم أضللتم عبادي هؤلاء أم هم ضلوا السبيل قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قوما بورا قال الله تعالى للمشركين فقد كذبوكم بما تقولون وقال تعالى وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآية وقال تعالى ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون ومنها إماتة السنن وإحياء البدع ومنها تفضيلها على خير البقاع وأحبها إلى الله فإن عباد القبور يقصدونها مع التعظيم والاحترام والخشوع ورقة القلب والعكوف بالهمة
على الموتى بما لا يفعلونه في المساجد ولا يحصل لهم فيها نظيره ولا قريبا منه ومنها أن الذي شرعه الرسول ﷺ عند زيارة القبور إنما هو تذكر الآخرة والإحسان إلى المزور بالدعاء له والترحم عليه والاستغفار له وسؤال العافية له فيكون الزائر محسنا إلى نفسه وإلى الميت فقلب هؤلاء المشركون الأمر وعكسوا الدين وجعلوا المقصود بالزيارة الشرك بالميت ودعاءه والدعاء به وسؤاله حوائجهم واستنزال البركة منه ونصره لهم على الأعداء ونحو ذلك فصاروا مسيئين إلى انفسهم وإلى الميت وكان رسول الله ﷺ قد نهى الرجال عن زيارة القبور سدا للذريعة فلما تمكن التوحيد في قلوبهم أذن لهم في زيارتها على الوجه الذي شرعه ونهاهم أن يقولوا هجرا ومن أعظم الهجر الشرك عندها قولا وفعلا وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ زوروا القبور فإنها تذكركم الموت وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال مر رسول الله ﷺ بقبور المدينة فأقبل عليهم بوجهه فقال السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم أنتم سلفنا ونحن بالأثر رواه أحمد والترمذي وحسنه فهذه الزيارة التي شرعها رسول الله ﷺ لأمته وعلمهم إياها هل تجد فيها شيئا مما يعتمده أهل الشرك والبدع أم تجدها مضادة لما هم عليه من كل وجه وما أحسن ما قال مالك بن أنس رحمه الله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم أعرضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك ولقد جرد السلف الصالح التوحيد وحموا جانبه حتى كان أحدهم إذا سلم على
النبي ﷺ ثم أراد الدعاء استقبل القبلة وجعل ظهره الى جدار القبر ثم دعا ونص على ذلك الأئمة الأربعة أنه يستقبل القبلة وقت الدعاء حتى لا يدعو عند القبر فإن الدعاء عبادة وفي الترمذي وغيره الدعاء هو العبادة فجرد السلف العبادة لله ولم يفعلوا عند القبور منها إلا ما أذن فيه رسول الله ﷺ من الدعاء لأصحابها والاستغفار لهم والترحم عليهم وأخرج أبو داود عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا تجعلوا بيوتكم قبورا ولا تجعلوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم وإسناده جيد ورواته ثقات مشاهير وقوله ولا تجعلوا بيوتكم قبورا أي لا تعطلوها عن الصلاة فيها والدعاء والقراءة فتكون بمنزلة القبور فأمر بتحري النافلة في البيوت ونهى عن تحري النافلة عند القبور وهذا ضد ما عليه المشركون من النصارى وأشباههم ثم إن في تعظيم القبور واتخاذها أعيادا من المفاسد العظيمة التي لا يعلمها إلا الله ما يغضب لأجله كل من في قلبه وقار لله وغيره على التوحيد وتهجين وتقبيح للشرك ولكن ما لجرح بميت إيلام فمن المفاسد اتخاذها أعيادا والصلاة إليها والطواف بها وتقبيلها واستلامها وتعفير الخدود على ترابها وعبادة أصحابها والاستغاثة بهم وسؤالهم النصر والرزق والعافية وقضاء الدين وتفريج الكربات وإغاثة اللهفات وغير ذلك من أنواع الطلبات التي كان عباد الأوثان يسألونها أوثانهم فلو رأيت غلاة المتخذين لها عيدا وقد نزلوا عن
الأكوار والدواب إذا رأوها من مكان بعيد فوضعوا لها الجباه وقبلوا الأرض وكشفوا الرؤوس وارتفعت أصواتهم بالضجيج وتباكوا حتى تسمع لهم النشيج ورأوا أنهم قد أربوا في الربح على الحجيج فاستغاثوا بمن لا يبدىء ولا يعيد ونادوا ولكن من مكان بعيد حتى اذا دنوا منها صلوا عند القبر ركعتين ورأوا أنهم قد أحرزوا من الأجر ما لم يحرزه من صلى إلى القبلتين فتراهم حول القبر ركعا سجدا يبتغون فضلا من الميت ورضوانا وقد ملؤوا أكفهم خيبة وخسرانا فلغير الله بل للشيطان ما يراق هناك من العبرات ويرتفع من الأصوات ويطلب من الميت من الحاجات ويسأل من تفريج الكربات وإغاثة اللهفات وإغناء ذوي الفاقات ومعافاة ذوي العاهات والبليات ثم انثنوا بعد ذلك حول القبر طائفين تشبيها له بالبيت الحرام الذي جعله الله مباركا وهدى للعالمين ثم أخذوا في التقبيل والاستلام أرأيت الجحر الأسود وما يفعل به وفد البيت الحرام ثم عفروا لديه تلك الجباه والخدود التي يعلم الله أنها لم تعفر كذلك بين يديه في السجود ثم كملوا مناسك حج القبر بالتقصير هناك والحلاق واستمتعوا بخلاقهم من ذلك الوثن إذ لم يكن لهم عند الله من خلاق وقد قربوا لذلك الوثن القرابين وكانت صلاتهم ونسكهم وقربانهم لغير الله رب العالمين فلو رأيتهم يهنىء بعضهم بعضا ويقول أجزل الله لنا ولكم أجرا وافرا وحظا فإذا رجعوا سألهم غلاة المتحلفين أن يبيع أحدهم ثواب حجة القبر بحجة المتخلف إلى البيت الحرام فيقول لا ولا بججك كل عام هذا ولم نتجاوز فيما حكيناه عنهم ولا استقصينا جميع بدعهم وضلالهم
إذ هي فوق ما يخطر بالبال ويدور في الخيال وهذا مبدأ عبادة الأصنام في قوم نوح كما تقدم وكل من شم أدنى رائحة من العلم والفقة يعلم أن من أهم الأمور سد الذريعة إلى هذا المحظور وأن صاحب الشرع أعلم بعاقبة ما نهى عنه وما يؤول إليه وأحكم في نهيه عنه وتوعده عليه وأن الخير والهدى في اتباعه وطاعته والشر والضلال في معصيته ومخالفته انتهى كلامه باب ما جاء في كثرة الحلف وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب أخرجاه وعن سلمان أن رسول الله ﷺ قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشيمط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع الا بيمينه رواه الطبراني بسند صحيح وفي الصحيح عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ خبر أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوم يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن
وفيه عن ابن مسعود أن النبي ﷺ قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته وقال ابراهيم كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار فيه مسائل الأولى الوصية بحفظ الأيمان الثانية الإخبار بأن الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة الثالثة الوعيد الشديد فيمن لا يبيع ولا يشتري إلا بيمينه الرابعة التنبيه على أن الذنب يعظم مع قلة الداعي الخامسة ذم الذين يحلفون ولا يستحلفون السادسة ثناؤه ﷺ على القرون الثلاثة أو الأربعة وذكر ما يحدث السابعة ذم الذين يشهدون ولا يستشهدون الثامنة كون السلف يضربون الصغار على الشهادة والعهد قوله باب ما جاء في كثرة الحلف أي من النهي عنه والوعيد وقول الله تعالى واحفظوا أيمانكم قال ابن جرير لا تتركوها بغير تكفير وذكر غيره من المفسرين عن ابن عباس يريد لا تحلفوا وقال آخرون احفظوا أيمانكم عن الحنث فلا تحنثوا
والمصنف أراد من الآية المعنى الذي ذكره ابن عباس فإن القولين متلازمان فيلزم من كثرة الحلف كثرة الحنث مع ما يدل عليه من الاستخفاف وعدم التعظيم لله وغير ذلك مما ينافي كمال التوحيد الواجب أو عدمه قوله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول الحلف منفقة للسلع ممحقة للكسب أخرجاه أي البخاري ومسلم وأخرجه أبو داود والنسائي والمعنى أنه إذا حلف على سلعة أنه أعطى فيها كذا وكذا أو أنه اشتراها بكذا وكذا وقد يظنه المشتري صادقا فيما حلف عليه فيأخذها بزيادة على قيمتها والبائع كذاب وحلف طمعا في الزيادة فيكون قد عصى الله تعالى فيعاقب بمحق البركة فإذا ذهبت بركة كسبه دخل عليه من النقص أعظم من تلك الزيادة التي دخلت عليه بسبب حلفه وربما ذهب ثمن تلك السلعة رأسا وما عند الله لا ينال إلا بطاعته وإن تزخرفت الدنيا للعاصي فعاقبتها اضمحلال وذهاب وعقاب قوله وعن سلمان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم أشميط زان وعائل مستكبر ورجل جعل الله بضاعته لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه رواه الطراني بسند صحيح وسلمان لعله سلمان الفارسي أبو عبدالله أسلم مقدم النبي ﷺ المدينة وشهد الخندق روى عنه أبو عثمان النهدي وشرحبيل بن السمط وغيرهما قال النبي صلىالله عليه وسلم سلمان منا أهل البيت إن الله يحب من أصحابي أربعة عليا وأبا ذر وسلمان والمقداد أخرجه الترمذي وابن ماجه قال الحسن كان سلمان أميرا على ثلاثين ألفا يخطب بهم في عباءة يفترش نصفها
ويلبس نصفها توفي في خلافة عثمان رضي الله عنه قال أبو عبيدة سنة ست وثلاثين عن ثلاثمائة وخمسين سنة ويحتمل أنه سلمان بن عامر بن أوس الضبي قوله ثلاثة لا يكلمهم الله نفي كلام الرب تعالى وتقدس عن هؤلاء العصاة دليل على أنه يكلم من أطاعه وأن الكلام صفة من صفات كماله والأدلة على ذلك من الكتاب والسنة أظهر شيء وأبينه وهذا هو الذي عليه أهل السنة والجماعة من المحققين قيام الأفعال بالله سبحانه وأن الفعل يقع بمشيئته تعالى وقدرته شيئا فشيئا ولم يزل متصفا به فهو حادث الآحاد قديم النوع كما يقول ذلك أئمة أصحاب الحديث وغيرهم من أصحاب الشافعي وأحمد وسائر الطوائف كما قال تعالى إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فأتى بالحروف الدالة على الحال والاستقبال أيضا وذلك في القرآن كثير قال شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله فإذا قالوا لنا يعني النفاة فهذا يلزمه أن تكون الحوادث قائمة به ومن أنكر هذا قبلكم من السلف والأئمة ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك مع صريح العقل ولفظ الحوادث مجمل فقد يراد به الأعراض والنقائص والله تعالى منزه عن ذلك ولكن يقوم به ما يشاء من كلامه وأفعاله ونحو ذلك مما دل عليه الكتاب والسنة والقول الصحيح هو قول أهل العلم والحديث الذين يقولون لم يزل الله متكلما إذا شاء كما قال ابن المبارك وأحمد بن حنبل وغيرهما من أئمة السنة قلت ومعنى قيام الحوادث به تعالى قدرته عليها وإيجاده لها بمشيئته وأمره والله اعلم
قوله ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم لما عظم ذنبهم عظمت عقوبتهم فعوقبوا بهذه الثلاث التي هي أعظم العقوبات قوله أشيمط زان صغره تحقيرا له وذلك لأن داعي المعصية ضعف في حقه فدل على أن الحامل له على الزنا محبة المعصية والفجور وعدم خوفه من الله وضعف الداعي إلى المعصية مع فعلها يوجب تغليظ العقوبة عليه بخلاف الشاب فإن قوة داعي الشهوة منه قد تغلبه مع خوفه من الله وقد يرجع على نفسه بالندم ولومها على المعصية فينتهي ويرجع وكذا العائل المستكبر وليس له ما يدعوه إلى الكبر لأن الداعي إلى الكبر في الغالب كثرة المال والنعم والرياسة والعائل الفقير لا داعي له إلى أن يستكبر فاستكباره مع عدم الداعي إليه يدل على أن الكبر طبيعة له كامن في قلبه فعظمت عقوبته لعدم الداعي إلى هذا الخلق الذميم الذي هو من اكبر المعاصي قوله ورجل جعل الله بضاعته بنصب الاسم الشريف اي الحلف به جعله بضاعته لملازمته له وغلبته عليه وهذه أعمال تدل على أن صاحبها إن كان موحدا فتوحيده ضعيف وأعماله ضعيفة بحسب ما قام بقلبه وظهر على لسانه وعمله من تلك المعاصي العظيمة على قلة الداعي إليها نسأل الله السلامة والعافية ونعوذ بالله من كل عمل لا يحبه ربنا ولا يرضاه قوله وفي الصحيح أي صحيح مسلم وأخرجه أبو داود والترمذي ورواه البخاري بلفظ خيركم قوله عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم قال عمران فلا أدري أذكر بعد قرنه
مرتين أو ثلاثا ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يستشهدون ويخونون ولا يؤتمنون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن قوله خير أمتي فرني لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون ويتفاضل فيها العاملون فغلب الخير فيها وكثر أهله وقل الشر فيها وأهله واعتز فيها الاسلام والإيمان وكثر فيها العلم والعلماء ثم الذين يلونهم فضلوا على من بعدهم لظهور الإسلام فيهم وكثرة الداعي إليه والراغب فيه والقائم به وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب قوله فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثا هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه والمشهور في الروايات أن القرون المفضلة ثلاثة الثالث دون الأولين في الفضل لكثرة البدع فيه لكن العلماء متوافرون والاسلام فيه ظاهر والجهاد فيه قائم ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين وكثرة الأهواء فقال ثم إن بعدكم قوما يشهدون ولا يشتشهدون لاستخفافهم بأمر الشهادة وعدم تحريهم للصدق وذلك لقلة دينهم وضعف إسلامهم قوله ويخونون ولا يؤتمنون يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم أو أكثرهم قوله وينذرون ولا يوفون اي لا يؤدون ما وجب عليهم فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم وعدم إيمانهم
قوله ويظهر فيهم السمن لرغبتهم في الدنيا ونيل شهواتهم والتنعم بها وغفلتهم عن الدار الآخرة والعمل لها وفي حديث أنس لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم قال أنس سمعته من نبيكم ﷺ فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم حتى فيمن ينتسب إلى العلم ويتصدر للتعليم والتصنيف قلت بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع وصنفوا في ذلك نظما ونثرا فنعوذ بالله من موجبات غضبه قوله وفيه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته قلت وهذه حال من صرف رغبته إلى الدنيا ونسي المعاد فخف أمر الشهادة واليمين عنده تحملا وأداء لقلة خوفه من الله وعدم مبالاته بذلك وهذا هو الغالب على الأكثر والله المستعان فإذا كان هذا قد وقع في صدر الإسلام الأول فما بعده أكثر بأضعاف فكن من الناس على حذر قوله قال إبراهيم هو النخعي كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار وذلك لكثرة علم التابعين وقوة إيمانهم ومعرفتهم بربهم وقيامهم بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه من أفضل الجهاد ولا يقوم الدين إلا به وفي هذا الرغبة في تمرين الصغار على طاعة ربهم ونهيهم عما يضرهم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه وقوله وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا وعن بريدة قال كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرا فقال اغزوا بسم الله في سبيل الله قاتلوا من كفر بالله اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم الى ثلاث خصال أو خلال فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم الى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا ان يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله تعالى ولا يكون لهم في الغيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم فإن هم أبوا فاستعن بالله وقاتلهم وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا
تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهما ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمة أصحابكم أهون من أن نخفروا ذمة الله وذمة نبيه وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا رواه مسلم فيه مسائل الأولى الفرق بين ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين الثانية الإرشاد إلى أقل الأمرين خطرا الثالثة قوله اغزوا بسم الله في سبيل الله الرابعة قوله قاتلوا من كفر بالله الخامسة قوله استعن بالله وقاتلهم السادسة الفرق بين حكم الله وحكم العلماء السابعة في كون الصحابي يحكم عند الحاجة بحكم لا يدري أيوافق حكم الله أم لا قوله باب ما جاء في ذمة الله وذمة رسوله وقول الله تعالى وأفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد وكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا الآية قال العماد بن كثير وهذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود
والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ولهذا قال ولا تنقضوا الإيمان بعد توكيدها ولا تعارض بين هذا وقوله ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وبين قوله ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم واحفظوا أيمانكم أي لا تتركوها بلا تكفير وبين قوله ﷺ في الصحيحين إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها الا أتيت الذي هو خير منها وتحللتها وفي رواية وكفرت عن يميني لا تعارض بين هذا كله وبين الآية المذكورة هنا وهي ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان الواردة على حث أو منع ولهذا قال مجاهد في الآية يعني الحلف أي حلف الجاهلية ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال قال رسول الله ﷺ لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام الا شدة وكذا رواه مسلم ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه الى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه وقوله تعالى إن الله يعلم ما تفعلون تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها قوله عن بريدة هو ابن الحصيب الأسلمي وهذا الحديث من رواية ابنه سليمان عنه قاله في المفهم قوله قال كان رسول الله ﷺ إذا أمر أميرا على جيش او سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى فيه من الفقه تأمير الأمراء ووصيتهم قال الحربي السرية الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها والجيش ما كان أكثر من ذلك وتقوى الله التحرز بطاعته من عقوبته
قلت وذلك بالعمل بما أمر الله به والانتهاء عما نهى عنه قوله ومن معه من المسلمين خيرا أي ووصاه بمن معه أن يفعل معهم خيرا من الرفق بهم والإحسان إليهم وخفض الجناح لهم وترك التعاظم عليهم قوله اغزوا باسم الله هذا أي اشرعوا في فعل الغزو مستعينين بالله مخلصين له قلت فتكون الباء في بسم الله هنا للاستعانة والتوكل على الله قوله قاتوا من كفر بالله هذا العموم يشمل جميع أهل الكفر المحاربين وغيرهم وقد خصص منهم من له عهد والرهبان والنسوان ومن لم يبلغ الحلم وقد قال متصلا به ولا تقتلوا وليدا وإنما نهى عن قتل الرهبان والنسوان لأنه لا يكون منها قتال غالبا وإن كان منهم قتال أو تدبير قتلوا قلت وكذلك الذراري والأولاد قوله ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا الغلول الأخذ من الغنيمة من غير قسمتها والغدر نقض العهد والتمثيل هنا التشويه بالقبيل كقطع أنفه وأذنه والعبث به ولا خلاف في تحريم الغلول والغدر وفي كراهية المثلة قوله وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خلال أو خصال الرواية بالشك وهو من بعض الرواة ومعنى الخلال والخصال واحد قوله فأيتهن ما اجابوك فاقبل منهم وكف عنهم قيدناه عمن يوثق بعلمه وتقييده بنصب أيتهن على أن يعمل فيها أجابوك لا على إسقاط حرف الجر وما زائدة ويكون تقدير الكلام فإلى أيتهن أجابوك
فاقبل منهم كما تقول جئتك إلى كذا وفي كذا فيعدى إلى الثاني بحرف الجر قلت فيكون في ناصب أيتهن وجهان ذكرهما الشارح الأول منصوب على الاشتغال والثاني على نزع الخافض قوله ثم ادعهم إلى الإسلام كذا وقعت الرواية في جميع نسخ كتاب مسلم ثم ادعهم بزيادة ثم والصواب إسقاطها كما روي في غير كتاب مسلم كمصنف أبي داود وكتاب الأموال لأبي عبيد لأن ذلك هو ابتداء تفسير الثلاث الخصال وقوله ثم ادعهم الى التحول من دارهم الى دار المهاجرين يعني المدينة وكان في أول الأمر وجوب الهجرة الى المدينة على كل من دخل في الإسلام وهذا يدل على أن الهجرة واجبة على كل من آمن من أهل مكة وغيرهم قوله فإن أبوا أن يتحولوا يعني أن من أسلم ولم يهاجر ولم يجاهد لا يعطى من الخمس ولا من الفيء شيئا وقد أخذ الشافعي رحمه الله بالحديث في الأعراب فلم ير لهم من الفيء شيئا وإنما لهم الصدقة المأخوذة من أغنيائهم فترد على فقرائهم كما أن أهل الجهاد وأجناد المسلمين لا حق لهم في الصدقة عنده ومصرف كل مال في أهله وسوى مالك رحمه الله وأبو حنيفة رحمه الله بين المالين وجوزا صرفهما للضعيف قوله فإن هم أبوا فاسألهم الجزية فيه حجة لمالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر عربيا كان أو غيره كتابيا كان أو غيره وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم وقال الشافعي لا تؤخذ إلى من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه وتؤخذ من المجوس
قلت لأن النبي ﷺ أخذها منهم وقال سنوا بهم سنة أهل الكتاب وقد اختلفوا في القدر المفروض من الجزية فقال مالك أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهما على أهل الورق وهل ينقص منها الضعيف أولا قولان وقال الشافعي فيه دينار على الغني والفقير وقال ابو حنيفة رحمه الله والكوفيون على الغني ثمانية وأربعون درهما والوسط أربعة وعشرون درهما والفقير اثنا عشر درهما وهو قول أحمد بن حنبل رحمه الله قال يحيى بن يوسف الصرصري الحنبلي رحمه الله ... وقاتل يهودا والنصارى وعصبة ال ... مجوس فإن هم سلموا الجزية اصدد ... على الأدون اثني عشر درهما افرضن ... وأربعة من بعد عشرين زد ... لأوسطهم حالا ومن كان موسرا ... ثمانية مع اربعين لتنقد ... وتسقط عن صبيانهم ونسائهم ... وشيخ لهم فإن وأعمى ومقعد ... وذي الفقر والمجنون أو عبد مسلم ... ومن وجبت منهم عليه فيهتدي ... وعند مالك وكافة العلماء على الرجال الأحرار البالغين العقلاء دون غيرهم وإنما تؤخذ ممن كان تحت قهر المسلمين لاممن نأى بداره ويجب تحويلهم إلى بلاد المسلمين أو حربهم قوله وإذا حاصرت أهل حصن الكلام إلى آخره فيه حجة لمن يقول من الفقهاء وأهل الأصول إن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد وهو المعروف من مذهب مالك وغيره ووجه الاستدلال به أنه ﷺ قد نص على أن الله تعالى قد حكم حكما معينا في المجتهدات فمن وافقه فهو
المصيب ومن لم يوافقه فهو المخطىء قوله وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك ان تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه الحديث الذمة العهد وتخفر تنقص يقال أخفرت الرجل إذا نقضت عهده وخفرته اجرته ومعناه أنه خاف من نقض من لم يعرف حق الوفاء للعهد كجملة الأعراب فكأنه يقول إن وقع نقض من متعد معتد كان نقض عهد الخلق أهون من نقض عهد الله تعالى والله أعلم قوله وقول نافع وقد سئل عن الدعوة قبل القتال ذكر فيه أن مذهب مالك يجمع بين الأحاديث في الدعوة قبل القتال قال وهو أن مالكا قال لا يقاتل الكفار قبل ان يدعوا ولا تلتمس غرتهم إلا يكونوا قد بلغتهم الدعوة فيجوز أن تلتمس غرتهم وهذا الذي صار إليه مالك هو الصحيح لأن فائدة الدعوة أن يعرف العدو أن المسلمين لا يقاتلون للدنيا ولا للعصبية وإنما يقاتلون للدين فإذا علموا بذلك أمكن أن يكون ذلك سببا مميلا لهم إلى الانقياد إلى الحق بخلاف ما إذا جهلوا مقصود المسلمين فقد يظنون أنهم يقاتلون للملك وللدنيا فيزيدون عتوا وبغضا والله أعلم باب ما جاء في الإقسام على الله عن جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ قال رجل والله لا يغفر الله لفلان فقال الله تعالى من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم
وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد قال أبو هريرة تكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته فيه مسائل الأولى التحذير من التألي على الله الثانية كون النار أقرب إلى أحدنا من شراك نعله الثالثة أن الجنة مثل ذلك الرابعة فيه شاهد لقوله إن الرجل ليتكلم بالكلمة الخ الخامسة أن الرجل قد يغفر له بسبب هو من أكره الأمور إليه قوله باب ما جاء في الإقسام على الله ذكر المصنف فيه حديث جندب بن عبدالله قال قال رسول الله ﷺ قال رجل والله لا يغفر الله لفلان قال الله تعالى من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان إني قد غفرت له وأحبطت عملك رواه مسلم قوله يتألى أي يحلف والألية بالتشديد الحلف وصح من حديث أبي هريرة قال البغوي في شرح السنة وساق بالسند إلى عكرمة ابن عمار قال دخلت مسجد المدينة فناداني شيخ قال يا يمامي تعال وما أعرفه قال لا تقولن لرجل والله لا يغفر الله لك أبدا ولا يدخلك الجنة قلت ومن أنت يرحمك الله قال أبو هريرة فقلت إن هذه كلمة يقولها أحدنا لبعض أهله إذا غضب أو لزوجته أو لخادمه قال فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابين أحدهما مجتهد في
العبادة والآخر كأنه يقول مذنب فجعل يقول أقصر عما أنت فيه قال فيقول خلني وربي قال فوجده يوما على ذنب استعظمه فقال أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا فقال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبدا قال فبعث الله إليهما ملكا فقبض أرواحهما فاجتمعا عنده فقال للمذنب ادخل الجنة برحمتي وقال للآخر اتستطيع أن تحظر على عبدي رحمتي قال لا يا رب قال اذهبوا به الى النار قال أبو هريرة والذي نفسي بيده تكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته رواه أبو داود في سننه وهذا لفظه عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول كان رجلان في بني إسرائيل متآخين فكان أحدهما يذنب والآخر مجتهد في العبادة فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب فيقول اقصر فوجده يوما على ذنب فقال له أقصر فقال خلني وربي أبعثت علي رقيبا قال والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة فقبضت أرواحهما فاجتمعا عند رب العالمين فقال لهذا المجتهد أكنت بي عالما أو كنت على ما في يدي قادرا فقال للمذنب اذهب فادخل الجنة وقال للآخر اذهبوا به الى النار قوله وفي حديث أبي هريرة أن القائل رجل عابد يشير إلى قوله في هذا الحديث أحدهما مجتهد في العبادة وفي هذه الاحاديث بيان خطر اللسان وذلك يفيد التحرز من الكلام كما في حديث معاذ قلت يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به قال ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم والله أعلم
باب لا يستشفع بالله على خلقه عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال جاء أعرابي إلى النبي ﷺ فقال يا رسول الله نهكت الأنفس وجاع العيال وهلكت الأموال فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك وبك على الله فقال النبي ﷺ سبحان الله سحبان الله فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك أتدري ما الله إن شأن الله أعظم من ذلك إنه لا يستشفع بالله على أحد وذكر الحديث رواه أبو داود فيه مسائل الأولى إنكاره على من قال نستشفع بالله عليك الثانية تغيره تغيرا عرف في وجوه أصحابه من هذه الكلمة الثالثة أنه لم ينكر عليه قوله نستشفع بك على الله الرابعة التنبيه على تفسير سبحان الله الخامسة أن المسلمين يسألونه ﷺ الاستسقاء قوله باب لا يستشفع بالله على خلقه وذكر الحديث وسياق أبي داود في سننه أتم مما ذكره المصنف رحمه الله ولفظه عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال أتى رسول الله ﷺ أعرابي فقال يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال
ونهكت الأموال وهلكت الأنعام فاستسق الله لنا فإنا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك قال رسول الله ﷺ ويحك أتدري ما تقول وسبح رسول الله ﷺ فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ثم قال ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه شأن الله أعظم من ذلك ويحك أتدري ما الله إن عرشه على سمواته لهكذا وقال بأصابعه مثل القبة عليه وإنه ليئط به أطيط الرجل بالراكب قال ابن بشار في حديثه إن الله فوق عرشه وعرشه فوق سمواته قال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن عنده في الرد على الجهمية من حديث محمد بن إسحاق بن يسار قوله ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه فإنه تعالى رب كل شيء ومليكه والخير كله بيده لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا راد لما قضى وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون والخلق وما في أيديهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء وهو الذي يشفع الشافع إليه ولهذا أنكر على الأعرابي قوله وسبح الله كثيرا وعظمه لأن هذا القول لا يليق بالخالق سبحانه وبحمده وإن شأن الله أعظم من ذلك وفي هذا الحديث إثبات علو الله على خلقه وأن عرشه فوق سمواته وفيه تفسير الاستواء بالعلو كما فسره الصحابة والتابعون والأئمة خلافا للمعطلة والجهمية والمعتزلة ومن أخذ عنهم كالأشاعرة ونحوهم ممن ألحد في أسماء الله وصفاته وصرفها عن المعنى الذي وضعت له ودلت عليه من إثبات صفات الله تعالى التي دلت على كماله جل وعلا كما عليه السلف الصالح والأئمة
ومن تبعهم ممن تمسك بالسنة فإنهم أثبتوا ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله من صفات كماله على ما يليق بجلاله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في مفتاح دار السعادة بعد كلام سبق فيما يعرف العبد بنفسه وبربه من عجائب مخلوقاته قال بعد ذلك والثاني أن يتجاوز هذا إلى النظر بالبصيرة الباطنة فتفتح له أبواب السماء فيجول في أقطارها وملكوتها وبين ملائكتها ثم يفتح له باب بعد باب حتى ينتهي به سير القلب الى عرش الرحمن فينظر سعته وعظمته وجلاله ومجده ورفعته ويرى السموات السبع والأرضين السبع بالنسبة اليه كحلقة ملقاة بأرض فلاة ويرى الملائكة حافين من حول العرش لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتقديس والتكبير والأمر ينزل من فوقه بتدبير الممالك والجنود التي لا يعلمها الا ربها ومليكها فينزل الأمر بإحياء قوم وإماته آخرين واعزاز قوم وإذلال آخرين وإنشاء ملك وسلب ملك وتحويل نعمة من محل إلى محل وقضاء الحاجات على اختلافها وتبيانها وكثرتها من جبر كسير وإغناء فقير وشفاء مريض وتفريج كرب ومغفرة ذنب وكشف ضر ونصر مظلوم وهداية حيران وتعليم جاهل ورد آبق وأمان خائف وإجارة مستجير ومدد لضعيف وإغاثة لملهوف وإعانة لعاجز وانتقام من ظالم وكف لعدوان فهي مراسيم دائرة بين العدل والفضل والحكمة والرحمة تنفد في أقطار العوالم لا يشغله سمع شيء منها عن سمع غيره ولا تغلطه كثرة المسائل والحوائج على اختلاف لغاتها وتبيانها واتحاد وقتها ولا يتبرم بإلحاح الملحين ولا تنقص ذرة من خزائنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم فحينئذ يقوم القلب بين يدي الرحمن مطرقا لهيبته خاشعا لعظمته عاليا لعزته فيسجد بين يدي
الملك الحق المبين سجدة لا يرفع رأسه منها الى يوم المزيد فهذا سفر القلب وهو في وطنه وداره ومحل ملكه وهذا من أعظم ثمرته وربحه وأجل منفعته وأحسن عاقبته سفر هو حياة الأرواح ومفتاح السعادة وغنيمة العقول والألباب لا كالسفر الذي هو قطعة من العذاب اه كلامه رحمه الله وأما الاستشفاع بالرسول ﷺ في حياته فالمراد به استجلاب دعائه وليس خاصا به ﷺ بل كل حي صالح يرجى أن يستجاب له فلا بأس أن يطلب منه أن يدعو للسائل بالمطالب الخاصة والعامة كما قال النبي ﷺ لعمر لما أراد أن يعتمر من المدينة لا تنسنا يا أخي من صالح دعائك وأما الميت فإنما يشرع في حقه الدعاء له على جنازته وعلى قبره وفي غير ذلك وهذا هو الذي يشرع في حق الميت وأما دعاؤه فلم يشرع بل قد دل الكتاب والسنة على النهي عنه والوعيد عليه كما قال تعالى والذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم فبين الله تعالى أن دعاء من لا يسمع ولا يستجيب شرك يكفر به المدعو يوم القيامة اي ينكره ويعادي من فعله كما في آية الأحقاف وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين فكل ميت أو غائب لا يسمع ولا يستجيب ولا ينفع ولا يضر والصحابة رضي الله عنهم لا سيما أهل السوابق منهم كالخلفاء الراشدين لم ينقل عن أحد منهم ولا عن غيرهم أنهم أنزلوا حاجاتهم بالنبي ﷺ بعد وفاته حتى في أوقات الجدب كما وقع لعمر رضي الله عنه لما خرج
ليستسقي بالناس خرج بالعباس عم النبي ﷺ فأمره أن يستسقي لأنه حي حاضر يدعو ربه فلو جاز أن يستسقي بأحد بعد وفاته لاستسقى عمر رضي الله عنه والسابقون الأولون بالنبي ﷺ وبهذا يظهر الفرق بين الحي والميت لأن المقصود من الحي دعاؤه إذا كان حاضرا فإنهم في الحقيقة إنما توجهوا إلى الله بطلب دعاء من يدعوه ويتضرع إليه وهم كذلك يدعون ربهم فمن تعدى المشروع إلى مالا يشرع ضل واضل ولو كان دعاء الميت خيرا لكان الصحابة اليه أسبق وعليه أحرص وبهم أليق وبحقه أعلم وأقوم فمن تمسك بكتاب الله نجا ومن تركه واعتمد على عقله هلك وبالله التوفيق باب ما جاء في حماية النبي ﷺ حمى التوحيد وسده طرق الشرك عن عبدالله بن الشخير رضي الله عنه قال انطلقت في وفد بني عامر الى رسول الله ﷺ فقلنا أنت سيدنا فقال السيد الله تبارك وتعالى قلنا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا فقال قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان رواه أبو داود بسند جيد وعن أنس رضي الله عنه أن أناسا قالوا يا رسول الله ياخبرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا فقال يا ايها الناس قولوا بقولكم ولا يستهوينكم الشيطان أنا محمد عبد الله ورسوله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله تعالى رواه النسائي بسند جيد
فيه مسائل الأولى تحذير الناس من الغلو الثانية ما ينبغي أن يقول من قيل له أنت سيدنا الثالثة قوله لا يستجرينكم الشيطان مع أنهم لم يقولوا إلا الحق الرابعة قول ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي قوله باب ما جاء في حماية المصطفى ﷺ حمى التوحيد وسده طرق الشرك حمايته ﷺ حمى التوحيد عما يشوبه من الأقوال والأعمال التي يضمحل معها التوحيد أو ينقص وهذا كثير في السنة الثابتة عنه ﷺ كقوله لا تطروني كما اطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبدالله ورسوله وتقدم قوله إنه لا يستغاث بي وإنما يستغاث بالله تعالى ونحو ذلك ونهى عن التمادح وشدد القول فيه كقوله لمن مدح انسانا ويلك قطعت عنق صاحبك الحديث أخرجه ابو داود عن عبدالرحمن بن أبي بكرة عن أبيه أن رجلا أثنى على رجل عند النبي ﷺ فقال له قطعت عنق صاحبك ثلاثا وقال إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجه عن المقداد بن الأسود وفي هذ الحديث نهى عن أن يقولوا أنت سيدنا وقال السيد الله تبارك وتعالى ونهاهم أن يقولوا وأفضلنا فضلا وأعظمنا طولا وقال لا يستجرينكم الشيطان وكذلك قوله في حديث انس أن ناسا قالوا يا رسول الله يا خيرنا وابن خيرنا إلى الخ كره ﷺ أن يواجهوه بالمدح فيفضي بهم الى الغلو وأخبر ﷺ أن مواجهة المادح للممدوح بمدحه ولو بما هو فيه من عمل الشيطان لما
نقضي محبة المدح إليه من تعاظم الممدوح في نفسه وذلك ينافي كمال التوحيد فإن العبادة لا تقوم إلا بقطب رحاها الذي لا تدور إلا عليه وذلك غاية الذل في غاية المحبة وكمال الذل يقتضي الخضوع والخشية والاستكانة لله تعالى وأن لا يرى نفسه إلا في مقام الذم لها والمعاتبة لها في حق ربه وكذلك الحب لا تحصل غايته إلا اذا كان يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه الله من الأقوال والأعمال والإدارات ومحبة المدح من العبد لنفسه تخالف ما يحبه الله منه والمادح يغره من نفسه فيكون آثما فمقام العبودية يقتضي كراهة المدح رأسا والنهي عنه صيانة لهذا المقام فمتى أخلص العبد الذل لله والمحبة له خلصت أعماله وصحت ومتى أدخل عليها ما يشوبها من هذه الشوائب دخل على مقام العبودية بالنقص أو الفساد وإذا أداه المدح الى التعاظم في نفسه والإعجاب بها وقع في أمر عظيم ينافي العبودية الخاصة كما في الحديث الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني شيئا منها عذبته وفي الحديث لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر وهذه الآفات قد تكون محبة المدح سببا لها وسلما إليها والعجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وأما المادح فقد يفضي به المدح إلى أن ينزل الممدوح منزلة لا يستحقها كما يوجد كثيرا في أشعارهم من الغلو الذي نهى عنه الرسول ﷺ وحذر أمته أن يقع منهم فقد وقع الكثير منه حتى صرحوا فيه بالشرك في الربوبية والإلهية والملك كما تقدمت الإشارة الى شيء من ذلك والنبي ﷺ لما أكمل الله له مقام العبودية صار يكره أن يمدح صيانة لهذا المقام وأرشد الى ترك ذلك نصحا لهم وحماية لمقام التوحيد عن أن يدخله ما يفسده أو يضعفه من الشرك ووسائله فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم
ورأوا أن فعل ما نهاهم ﷺ عن فعله قربة من أفضل القربات وحسنة من اعظم الحسنات وأما تسمية العبد بالسيد فاختلف العلماء في ذلك قال العلامة ابن القيم في بدائع الفوائد اختلف الناس في جواز إطلاق السيد على البشر فمنعه قوم ونقل عن مالك واحتجوا بقول النبي ﷺ لما قيل له يا سيدنا قال السيد الله تبارك وتعالى وجوزه قوم واحتجوا بقول النبي ﷺ للأنصار قوموا الى سيدكم وهذا أصح من الحديث الأول قال هؤلاء السيد أحد ما يضاف إليه فلا يقال للتميمي سيد كندة ولا يقال الملك سيد البشر قال وعلى هذا فلا يجوز أن يطلق على هذا الاسم وفي هذا نظر فإن السيد إذا أطلق عليه تعالى فهو في منزلة المالك والمولى والرب لا بمعنى الذي يطلق على المخلوق انتهى قلت فقد صح عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في معنى قول الله تعالى قل أغير الله أبغي ربا أي إلها وسيدا وقال في قول الله تعالى الله الصمد إنه السيد الذي كمل في جميع أنواع السؤدد وقال أبو وائل هو السيد الذي انتهى سؤده وأما استدلالهم بقول النبي ﷺ للأنصار قوموا الى سيدكم فالظاهر أن النبي ﷺ لم يواجه سعدا به فيكون في هذا المقام تفصيل والله أعلم باب ما جاء في قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا
قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون عن ابن مسعود رضي الله عنه قال جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله ﷺ فقال يا محمد إنا نجد أن الله يجعل السموات على اصبع والأرضين على اصبع والشجر على اصبع والثرى على اصبع وسائر الخلق على اصبع فيقول أنا الملك فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر ثم قرأ وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة وفي رواية لمسلم والجبال والشجر على اصبع ثم يهزهن فيقول أنا الملك أنا الله وفي رواية للبخاري يجعل السموات على اصبع والماء والثرى على إصبع وسائر الخلق على إصبع آخرجاه ولمسلم عن ابن عمر مرفوعا يطوي الله السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون ثم يطوي الأرضين السبع ثم يأخذهن بشماله ثم يقول أنا الملك أين الجبارون اين المتكبرون وروي عن ابن عباس قال ما السموات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن الا كخردلة في يد أحدكم وقال ابن جرير حدثني يونس أخبرنا ابن وهب قال قال ابن زيد حدثني أبي قال قال رسول الله ﷺ ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس قال وقال أبو در رضي الله عنه سمعت رسول الله ﷺ يقول
ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض وعن ابن مسعود قال بين السماء الدنيا والتي تليها خمسمائة عام وبين كل سماء خمسمائة عام وبين السماء السابعة والكرسي خمسمائة عام وبين الكرسي والماء خمسمائة عام والعرش فوق الماء والله فوق العرضشلا يخفى عليه شيء من أعمالكم أخرجه ابن مهدي عن حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبدالله ورواه بنحوه المسعودي عن عاصم عن أبي وائل عن عبدالله قاله الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال وله طرق وعن العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ هل تدرون كم بين السماء والأرض قلنا الله ورسوله أعلم قال بينهما مسيرة خمسمائة سنة ومن كل سماء الى سماء مسيرة خمسمائة سنة وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة سنة وبين السماء السابعة والعرش بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض والله تعالى فوق ذلك وليس يخفى عليه شيء من أعمال بني آدم أخرجه أبو داود وغيره فيه مسائل الأولى تغسير قوله تعالى والأرض جميعا قبضته يوم القيامة الثانية أن هذه العلوم وأمثالها باقية عند اليهود الذين في زمنه ﷺ لم ينكروها ولم يتأولوها الثالثة أن الحبر لما ذكر للنبي ﷺ صدقه ونزل القرآن بتقرير ذلك
الرابعة وقوع الضحك من رسول الله ﷺ لما ذكر الحبر هذا العلم العظيم الخامسة التصريح بذكر اليدين وأن السموات في اليد اليمنى والأرضين في الأخرى السادسة التصريح بتسميتها الشمال السابعة ذكر الجبارين والمتكبرين عند ذلك الثامنة قوله كخردلة في كف أحدكم التاسعة عظم الكرسي بالنسبة إلى السماء العاشرة عظم العرش بالنسبة إلى الكرسي الحادية عشرة أن العرض غير الكرسي والماء الثانية عشرة كم بين كل سماء إلى سماء الثالثة عشرة كم بين السماء السابعة والكرسي الرابعة عشرة كم بين الكرسي والماء الخامسة عشرة أن العرش فوق الماء السادسة عشرة أن الله فوق العرش السابعة عشرة كم بين السماء والأرض الثامنة عشرة كثف كل سماء مائة سنة التاسعة عشرة أن البحر الذي فوق السموات أسفله واعلاه خمسمائة سنة والله أعلم
قوله باب قول الله تعالى وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون أي من الأحاديث والآثار في معنى هذه الآية الكريمة قال العماد ابن كثير رحمه الله تعالى يقول تعالى ما قدر المشركون الله حق قدره حتى عبدوا معه غيره وهو العظيم الذي لا أعظم منه القادر على كل شيء المالك لكل شيء وكل شيء تحت قهره وقدرته قال مجاهد نزلت في قريش وقال السدي ما عظموه حق عظمته وقال محمد بن كعب لو قدروه حق قدره ما كذبوه وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف وذكر حديث ابن مسعود كما ذكره المصنف رحمه الله في هذا الباب قال ورواه البخاري في غير موضع من صحيحه والأمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي كلهم من حديث سليمان بن مهران وهو الأعمش عن إبراهيم عن عبيدة عن ابن مسعود بنحوه
قال الإمام أحمد حدثنا معاوية حدثنا الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال جاء رجل من أهل الكتاب إلى النبي ﷺ فقال يا أبا القاسم أبلغك أن الله تعالى يجعل الخلائق على إصبع والسموات على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع والثرى على إصبع وسائر الخلائق على إصبع فيقول أنا الملك فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه تصديقا لقول الحبر قال وأنزل الله وما قدروا الله حق قدره الآية وهكذا رواه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن الأعمش به وقال الإمام أحمد حدثنا الحسين بن حسن الأشقر حدثنا أبو كدينة عن عطاء عن أبي الضحى عن ابن عباس قال مر يهودي برسول الله ﷺ وهو جالس فقال كيف تقول يا أبا القاسم يوم يجعل الله السموات على ذه واشار بالسبابة والأرض على ذه والجبال على ذه وسائر الخلق على ذه كل ذلك يشير بأصابعه فأنزل الله وما قدروا الله حق قدره وكذا رواه الترمذي في التفسير بسنده عن أبي الضحى مسلم بن صبيح به وقال حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ثم قال البخاري حدثنا سعيد بن عفير حدثنا الليث حدثني عبدالرحمن بن خالد بن مسافر عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه فيقول أنا الملك أين ملوك الأرض تفرد به من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقال البخاري في موضع آخر حدثنا مقدم بن محمد حدثنا عمي القاسم ابن يحيى عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن رسول الله ﷺ قال إن الله تعالى يقبض يوم القيامة الأرضين على إصبع وتكون
السماء بيمينه ثم يقول أنا الملك تفرد به أيضا من هذا الوجه ورواه مسلم من وجه آخر وقد رواه الإمام أحمد من طريق آخر بلفظ أبسط من هذا السياق وأطول فقال حدثنا عفان حدثنا حماد بن سلمة أنبأنا إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة عن عبيد الله بن مقسم عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر وما قدروا الله حق قدره الأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ورسول الله ﷺ يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر يمجد الرب تعالى نفسه أنا الجبار المتكبر انا الملك أنا العزيز أنا الكريم فرجف برسول الله ﷺ المنبر حتى قلنا ليخزن به قوله ولمسلم عن ابن عمر الحديث كذا في رواية مسلم قال الحميدي وهي أتم وهي عند مسلم من حديث سالم عن أبيه وأخرجه البخاري من حديث عبيدالله عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما قال إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماء بيمينه وأخرجه مسلم من حديث عبيدالله ابن مقسم قلت وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على عظمة الله وعظيم قدرته وعظم مخلوقاته وقد تعرف سبحانه وتعالى إلى عباده بصفاته وعجائب مخلوقاته وكلها تدل على كماله وأنه هو المعبود وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وتدل على إثبات الصفات له على ما يليق بجلال الله وعظمته إثباتا بلا تمثيل وتنزيها بلا تعطيل وهذا هو الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة وعليه سلف الأمة وأئمتها ومن تبعهم بإحسان واقتفى أثرهم على الإسلام والإيمان وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي ﷺ ربه بذكر
صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه ولم يقل النبي ﷺ في شيء منها إن ظاهرها غير مراد وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه فلو كان هذا حقا بلغه أمينه أمته فإن الله أكمل به الدين وأتم به النعمة فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين وتلقى الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم ﷺ ما وصف به ربه من صفات كماله ونعوت جلاله فآمنوا به وآمنوا بكتاب الله وما تضمنه من صفات ربهم جل وعلا كما قال تعالى والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وكذلك التابعون لهم بإحسان وتابعوهم والأئمة من المحدثين والفقهاء كلهم وصف الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله ﷺ ولم يجحدوا شيئا من الصفات ولا قال أحد منهم إن ظاهرها غير مراد ولا إنه يلزم من إثباتها التشبيه بل أنكروا على من قال ذلك غاية الإنكار فصنفوا في رد هذه الشبهات المصنفات الكبار المعروفة الموجودة بأيدي أهل السنة والجماعة قال شيخ الإسلام أحمد بن تميمية رحمه الله تعالى وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره وسنة رسول الله صلىالله عليه وسلم وكلام الصحابة والتابعين وكلام سائر الأئمة مملوءة كلها بما هو نص أو ظاهر أن الله تعالى فوق كل شيء وأنه فوق العرش فوق السموات مستو على عرشه مثل قوله تعالى إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه وقوله تعالى يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي وقوله تعالى بل رفعه الله إليه وقوله تعالى ذي المعارج
تعرج الملائكة والروح إليه وقوله تعالى يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه وقوله تعالى يخافون ربهم من فوقهم وقوله تعالى هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وقوله تعالى إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين وقوله تعالى ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه الآية فذكر التوحيدين في هذه الآية وقوله تعالى الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وقوله تعالى تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى الرحمن على العرش استوى وقوله تعالى وتوكل على الحي الذي لا يموت وسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيرا الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيرا وقوله تعالى الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع أفلا تتذكرون يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان
مقداره ألف سنة مما تعدون وقوله تعالى هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير فذكر عموم علمه وعموم قدرته وعموم إحاطته وعموم رؤيته وقوله تعالى أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض فغذا هي تمور أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا فستعلمون كيف نذير وقوله تعالى تنزيل من حكيم حميد وقوله تعالى تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم وقوله تعالى وقال فرعون يا همان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا انتهى كلامه رحمه الله قلت وقد ذكر الأئمة رحمهم الله تعالى فيما صنفوه في الرد على نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة ونحوهم أقوال الصحابة والتابعين فمن ذلك ما رواه الحافظ الذهبي في كتاب العلو وغيره بالأسانيد الصحيحة عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنها قالت في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى قالت الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإقرار به إيمان والجحود به كفر رواه ابن المنذر واللالكائي وغيرهما بأسانيد صحاح قال وثبت عن سفيان بن عيينة رحمه الله تعالى أنه قال لما سئل ربيعة بن أبي عبدالرحمن كيف الاستواء قال الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ وعلينا التصديق وقال
ابن وهب كنا عند مالك فدخل رجل فقال يا أبا عبدالله الرحمن على العرش استوى كيف استوى فأطرق مالك رحمه الله وأخذته الرحضاء وقال الرحمن على العرش استوى كما وصف نفسه ولا يقال كيف وكيف عنه مرفوع وأنت صاحب بدعة أخرجوه رواه البيهقي بإسناد صحيح عن ابن وهب ورواه عن يحيى بن يحيى أيضا ولفظه قال الإستواء غير مجهول والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعه قال الذهبي فانظر إليهم كيف أثبتوا الاستواء لله وأخبروا أنه معلوم لا يحتاج لفظه إلى تفسير ونفوا عنه الكيفية قال البخاري في صحيحه قال مجاهد استوى علا على العرش وقال إسحاق بن راهويه سمعت غير واحد من المفسرين يقول الرحمن على العرش استوى أي ارتفع وقال محمد بن جرير الطبري في قوله تعالى الرحمن على العرش استوى أي علا وارتفع وشواهده في أقوال الصحابة والتابعين وأتباعهم فمن ذلك قول عبدالله ابن رواحة رضي الله عنه ... شهدت بأن وعد الله حق ... وأن النار مثوى الكافرينا ... وأن العرش فوق الماء طاف ... وفوق العرش رب العالمينا ... وتحمله ملائكة شداد ... ملائكة الإله مسومينا ... وروى الدارمي والحاكم والبيهقي بأصح إسناده إلى علي بن الحسين بن شقيق قال سمعت عبدالله بن المبارك يقول نعرف ربنا بأنه فوق سبع سمواته على العرش استوى بائن من خلقه ولا نقول كما قالت الجهمية قال الدارمي حدثنا حسن بن الصباح البزار حدثنا علي بن الحسين بن شقيق عن
ابن المبارك قيل له كيف نعرف ربنا قال بأنه فوق السماء السابعة على العرش بائن من خلقه وقد تقدم قول الأوزاعي كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله تعالى ذكره بائن من خلقه ونؤمن بما وردت به السنة وقال أبو عمر الطلمنكي في كتاب الأصول أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته وقال في هذا الكتاب أيضا أجمع أهل السنة على أن الله تعالى استوى على عرشه على الحقيقة لا على المجاز ثم ساق بسنده عن مالك قوله الله السماء وعلمه في كل مكان ثم قال في هذا الكتاب أجمع المسلمون من أهل السنة أن معنى قوله وهو معكم أينما كنتم ونحو ذلك من القرآن أن ذلك علمه وأن الله فوق السموات بذاته مستو على عرشه كيف شاء وهذا لفظه في كتابه وهذا كثير في كلام الصحابة والتابعين والأئمة أثبتوا ما أثبته الله في كتابه على لسان رسوله على الحقيقة على ما يليق بجلال الله وعظمته ونفوا عنه مشابهة المخلوقين ولم يمثلوا ولم يكيفوا كما ذكرنا ذلك عنهم في هذا الباب وقال الحافظ الذهبي أول من أنكر أن الله فوق عرشه هو الجعد بن درهم وكذلك أنكر جميع الصفات وقتله خالد بن عبدالله القسري وقصته مشهورة فأخذ هذه المقالة عند الجهم بن صفوان إمام الجهمية فأظهرها واحتج لها بالشبهات وكان ذلك في آخر عصر التابعين فأنكر مقالته أئمة ذلك العصر مثل الأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والليث بن سعد والثوري وحماد بن زيد وحماد بن سلمة وابن المبارك ومن بعدهم من أئمة الهدى فقال الأوزاعي إمام أهل الشام على رأس الخمسين ومائة عند ظهور هذه المقالة ما أخبرنا عبدالواسع الأبهري بسنده إلى أبي بكر البيهقي أنبأنا
أبو عبدالله الحافظ أخبرني محمد بن علي الجوهري ببغداد حدثنا ابراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي سمعت الأوزاعي يقول كنا والتابعون متوافرون نقول إن الله فوق عرشه ونؤمن بما وردت به السنة من صفاته أخرجه البيهقي في الصفات ورواته أئمة ثقات وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى لله أسماء وصفات لا يسع أحدا ردها ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه كفر وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل ونثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال ليس كمثله شيء وهو السميع البصير من فتح الباري قوله عن العباس بن عبد المطلب ساقه المصنف رحمه الله مختصرا والذي في سنن أبي داود عن العباس بن عبد المطلب قال كنت في البطحاء في عصابة فيهم رسول الله ﷺ فمرت بهم سحابة فنظر إليها فقال ما تسمون هذه قالوا السحاب قال والمزن قالوا المزن قال والعنان قالوا والعنان قال أبو داود لم أتقن العنان جيدا قال هل تدرون ما بين السماء والأرض قالوا لا ندري قال إن بعد ما بينهما إما واحدة أو اثنتان أو ثلاثة وسبعون سنة ثم السماء التي فوقها كذلك حتى عد سبع سموات ثم فوق السابعة بحر بين أسفله وأعلاه مثل ما بين سماء إلى سماء ثم فوق ذلك ثمانية أوعال بين أظلافهم وركبهم مثل ما بين سماء إلى سماء ثم على ظهورهم العرش بين أسفله وأعلاه كما بين سماء إلى سماء ثم الله تعالى فوق ذلك وأخرجه الترمذي وابن ماجه وقال الترمذي حسن غريب وقال الحافظ الذهبي رواه أبو داود بإسناد حسن وروى الترمذي نحوه من حديث أبي هريرة وفيه ما بين سماء إلى سماء خمسمائة عام ولا منافاة بينهما لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلا ونيف وسبعون سنة على سير
البريد لأنه يصح أن يقال بينا وبين مصر عشرون يوما باعتبار سير العادة وثلاثة أيام باعتبار سير البريد وروى شريك بعض هذا الحديث عن سماك فوقفه هذا آخر كلامه قلت فيه التصريح بأن الله فوق عرشه كما تقدم في الآيات المحكمات والأحاديث الصحيحة وفي كلام السلف من الصحابة والتابعين وتابعيهم وهذا الحديث له شواهد في الصحيحين وغيرهما ولا عبرة بقول من ضعفه لكثرة شواهده التي يستحيل دفعها وصرفها عن ظواهرها وهذا الحديث كأمثاله يدل على عظمة الله وكماله وعظم مخلوقاته وأنه المتصف بصفات الكمال التي وصف بها نفسه في كتابه ووصفه بها رسول الله ﷺ ويدل على كمال قدرته وأنه هو المعبود وحده لا شريك له دون كل ما سواه وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين