الرئيسيةبحث

كتاب المناظر/المقالة الأولى/الفصل الثاني


نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان بينهما بعد ما. فإن المبصر إذا كان ملتصقاً بسطح البصر فليس يدركه البصر وإن كان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر.

ونجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه لها لا بالانعكاس إلا إذا كان مقابلاً للبصر وكان بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين سطح البصر خط مستقيم متوهم أو خطوط مستقيمة متوهمة ولم يتوسط بين سطح البصر وبين المبصر جسم كثيف يقطع جميع الخطوط المستقيمة التي توهم بين سطح البصر وبين سطح المبصر الذي يدركه البصر.

ونجد كل مبصر يدركه البصر ويكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه له بالانعكاس متى قطعت جميع الخطوط المستقيمة التي تتوهم بين سطح البصر وبين سطحه الذي يدركه البصر بجسم كثيف استتر ذلك البصر عن البصر وخفي عنه ولم يدركه وإن كان بين البصر وبينه في هذه الحال هواء متصل لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة إذا كان اتصاله على غير استقامة ومتى قطع الساتر جميع الخطط المستقيمة التي بين جزء من سطح المبصر وبين سطح البصر حتى لا يبقى بين ذلك الجزء من المبصر وبين شيء من الجزء من سطح البصر الذي منه يكون الإبصار خط مستقيم إلا وقد قطعه ذلك الساتر استتر من المبصر ذلك الجزء فقط الذي قطع الساتر جميع الخطوط المستقيمة التي بينه وبين موضع الإبصار من سطح البصر.

وإذا استقرئت جميع المبصرات في جميع الأوقات واعتبرت وحررت وجدت على الصفة التي ذكرناها مطردة ولا تتغير. فيدل ذلك على أن كل مبصر يدركه البصر ويكون معه في هواء واحد وإذا كان إدراكه له لا بالانعكاس فإن بين كل نقطة من سطح المبصر وبين نقطة ما من سطح البصر أو أكثر من نقطة خطاً مستقيماً أو خطوطاً مستقيمة لا يقطعها شيء من الأجسام الكثيفة.

فأما كيف يعتبر هذا المعنى اعتباراً محرراً فإن اعتباره ممكن مستهل بالمساطر والأنابيب. فإذا شاء معتبر أن يعتبر ذلك ويحرره فليتخذ مسطرة في غاية الصحة والاستقامة موازياً لخطي نهايتها ويتخذ أنبوباً أسطوانياً أجوف طوله في غاية الاستقامة واستدارته في غاية ما يمكن من الصحة ودائرتا طرفيه متوازيتان.

ولتكن متانته متشابهة وليكن مقتدر السعة وليس بأوسع من محجر العين وليخط في سطحه الظاهر خطاً مستقيماً يمتد من محيط إحدى قاعدتيه إلى النقطة المقابلة لها من الناحية الأخرى. وليكن هذا الأنبوب أقصر من طول المسطرة بمقدار يسير وليقسم الخط الذي في وسط المسطرة بثلثة أقسام وليكن الأوسط من الأقسام مساوياً لطول الخط الذي في سطح الأنبوب ويكون القسمان الباقيان اللذان عن جنبتيه بأي قدر كان.

ثم يلصق الأنبوب بسطح المسطرة ويطبق الخط الذي في سطحه على القسم الأوسط من الخط الذي في وسط سطح لمسطرة ويتحرى أن ينطبق نهايتا طرفيه على النقطتين اللتين فصلتا الخط الأوسط ويلصق الأنبوب بسطح المسطرة على هذه الصفة إلصاقاً ملتحماً وثيقاً ل ينحل ولا يتغير. فإذا أحكمت هذه الآلة وأراد المعتبر أن يعتبر بها إدراك البصر للمبصرات فليعين على مبصر من المبصرات وليلصق طرف هذه المسطرة بالجفن الأسفل من إحدى عينيه ويلصق الطرف الآخر بسطح المبصر ويستر العين الأخرى وينظر في هذه الحال في ثقب الأنبوب: فإنه يرى من المبصر الجزء المقابل لثقب الأنبوب الذي عند طرف المسطرة.

وإذا ستر الأنبوب بجسم كثيف استتر ذلك الجزء من المبصر الذي كان يراه من ثقب الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر أدرك ذلك الجزء كما كان يدركه في الأول. وإن ستر بالجسم الكثيف بعض ثقب الأنبوب الذي هو والبصر الساتر على سمت مستقيم وهذه الاستقامة تتحرر بالمسطرة وباستقامة الأنبوب.

فإن ذلك الجزء الذي يستتر من الجزء المبصر إذا ستر بعض ثقب الأنبوب يكون أبداً هو والبصر والجزء المستتر من ثقب الأنبوب على خط مواز للخط المستقيم الذي يمتد في سطح المسطرة ومواز لطول الأنبوب. ثم إذا رفع الساتر عاد إدراك البصر لذلك الجزء من المبصر كذلك دائماً لا يختلف ولا ينتقض. وإذا نظر الناظر إلى المبصر من ثقب الأنبوب وخفي الجزء الذي كان يدركه البصر من سطح المبصر فإن بين ذلك الجزء من المبصر في تلك الحال وبين سطح البصر هواء متصلاً لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة ومسافات لا نهاية لها غير مستقيمة.

إذ بين طرف الأنبوب وبين البصر فضاء منكشف وكذلك بين المبصر وبين الطرف الآخر من الأنبوب إلا أن الهواء المتصل الذي بين البصر وبين المبصر في تلك الحال ليس هو متصلاً على استقامة بل هو اتصالاً على غير استقامة ولم ينقطع في تلك الحال من الخطوط التي يمكن أن نتوهم بين البصر وبين ذلك الجزء من المبصر إلا الخطوط المستقيمة فقط. فلو كان ممكناً أن يدرك البصر المبصر الذي هو معه في هواء واحد على غير سمت الاستقامة لقد كان يدرك الجزء من المبصر المقابل لثقب الأنبوب بعد سد ثقب الأنبوب.

لكن يوجد ما هذه صفته من المبصرات إذا اعتبر وتؤمل على هذه الصفة التي حددناها فليس يدركه البصر عند سد الأنبوب. فيجب من هذا الاعتبار وجوباً تسقط معه الشبهات أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه لا بالانعكاس إلا على سموت الخطوط المستقيمة فقط التي تتوهم ممتدة بين سطحه وبين سطح البصر.

وأيضاً فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان في المبصر ضوء ما إما من ذاته أو مشرق عليه من غيره. ومتى كان المبصر مظلماً لا ضوء فيه بوجه من الوجوه لم يدركه البصر ولم يحس به. ونجد البصر إذا كان في مكان مظلم فقد يدرك المبصرات إذا كانت مقابلة له وكانت مضيئة بأي ضوء كان وكان الهواء الذي بينه وبينها متصلاً لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة. فإذا كان المبصر في مكان مظلم ولم يكن فيه شيء من الضوء وكان البصر في مكان مضيء فليس يدرك البصر ذلك المبصر ولا يحس به. ونجد هذه الحال مطردة لا تختلف ولا تتغير.

فدل ذلك على أن المبصر إذا كان فيه ضوء ما وكان من المبصرات التي يصح أن يدركها البصر وكان الضوء الذي بالمبصر إلى الحد الذي يصح أن يحس به البصر فإن البصر يدرك ذلك المبصر كان الهواء المحيط بالبصر مضيئاً بغير الضوء الذي في المبصر أو لم يكن مضيئاً بغير ذلك الضوء. ونجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدراً وأريد بالحجم مساحة المبصر جسماً كان أو سطحاً أو خطاً وليس يدرك من المبصرات ما كان بغاية الصغر. ويوجد من الأجسام الصغار بالاستدلال ما لا يدركه البصر بوجه من الوجوه.

فإن إنسان عين البعوضة وما جرى مجراه في الصغر ليس يدركه البصر بوجه من الوجوه وهو مع ذلك جسم موجود. وأصغر المقادير التي يمكن أن يدركها البصر تكون بحسب قوة البصر أيضاً وضعفه فإن من الأجسام الصغار ما يدركها بعض الناس ويحس بها وتخفى عن أبصار كثير من الناس ولا يدركونها بوجه من الوجوه إن كانت أبصارهم ليست في غاية القوة. وإذا اعتبرت جميع المبصرات وأصغر من المبصرات وجدت ليست في غاية الصغر بل يوجد كل مبصر وإن كان في غاية الصغر فقد يمكن أن يكون في الأجسام الموجودة ما هو أصغر منه ولا يحس به البصر. فدل ذلك على أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان حجمه مقتدراً أو كان في مبصر مقتدر الحجم كاللون والشكل وما أشبه ذلك فإن أصغر المقادير التي يدركها البصر يكون بحسب قوة ذلك البصر.

وأيضاً فإنا نجد البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان كثيفاً أو كان فيه بعض الكثافة. فإن الجسم إذا كان غاية الشفيف كالهواء اللطيف فلبس يدركه البصر ويدرك ما وراءه. فليس بجس البصر بالجسم المشف إلا إذا كان أغلظ من الهواء من الهواء المتوسط بينه وبين البصر. وكل جسم كثيف فله لون أو ما يجري مجرى اللون كأضواء الكواكب وصور الأجسام النيرة. وكذلك كل جسم مشف فيه بعض الكثافة فليس يخلوا من اللون.

وأيضاً فإنا نجد البصر إذا كان يدرك مبصراً من المبصرات ثم بعد عنه بعداً شديداً خفي ذلك عن البصر فلم يدركه. ونجد المبصر إذا بعد عن البصر بعداً شديداً حتى ينتهي إلى حد يخفي عن البصر فلا يدركه البصر فقد يمكن للبصر أن يدرك من ذلك البعد بعينه إذا لم يكن في غاية التفاوت مبصراً غير ذلك المبصر إذا كان أعظم جثة من المبصر الخفي. فدل ذلك على أن الأبعاد التي يصح أن يدرك منها المبصر والأبعاد التي يخفى منها المبصر إنما تكون بحسب عظم المبصر.

ونجد الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات وما كان من المبصرات أشد إضاءة فقد يدركه البصر من بعد قد تخفى من مثله المبصرات المساوية لذلك المبصر في العظم إذا كانت الأضواء التي فيها أضعف من الضوء الذي في ذلك المبصر. وذلك أنه إذا كان في موضع من المواضع نار مشتعلة وكان حواليها أشخاص وأجسام مساو كل واحد منها لجملة النار في العظم أو ليست بمتفاوتة العظم وأشرق عليها ضوء تلك النار ثم قصد تلك النار قاصد من بعد شديد في سواد الليل فإن ذلك القاصد يرى النار قبل أن يرى شيئاً مما حواليها من الأشخاص والأجسام التي هي مساوية لها في العظم وأعظم منها ومضيئة بضوء تلك النار. ثم إذا قرب ذلك الإنسان من النار ظهرت له الأشخاص التي حول النار وما قرب منها ويظهر ما كان من تلك الأشخاص قريباً من النار والضوء الذي عليه قوي قبل أن يظهر ما كان بعيداً من النار والضوء الذي عليه ضعيف ثم إذا وصل إليها ظهر له جميع ما حول النار وبالقرب منها من المبصرات.

وكذلك إذا اعتبرت المبصرات المتباعدة في ضوء النهار يوجد الذي عليه ضوء الشمس والأضواء القوية تظهر من الأبعاد التي تخفى منها المبصرات المساوية لها في العظم وفي اللون التي تكون في الظل والأضواء التي عليها ضعيفة. فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي منها يصح أن يدرك البصر المبصرات والأبعاد التي تخفى منها المبصرات إنما تكون بحسب الأضواء التي في المبصرات. ونجد أيضاً الأجسام الساطعة البياض والمشرقة الألوان قد تظهر من الأبعاد التي قد تخفى من مثلها الأجسام الكدرة والترابية والمنكسفة مع تساويها في الحجم وفي الضوء وفي جميع الأحوال ما سوى اللون.

وذلك أن السفن المقلعة في البحر إذا كانت على بعد شديد فإن أقلاعها تظهر من البعد كالنجوم إذا كانت قلوعها بيضاء ويدرك البصر بياضها ولا يدرك مع ذلك السفن ولا شيئاً مما فيها مما ليس بساطع البياض ما دامت على مسافة بعيدة ثم إذا قربت من البصر وكذلك إذا كانت أشخاص على سطح الأرض وكانت متساوية الأقدار أو ليست أقدارها متفاوتة الاختلاف وكانت مختلفة الألوان وكان بعضها بيضاً ساطعة البياض وكان بعضها ذا ألوا مشرقة وبعضها ترابية أو منكسف الألوان وكان الضوء المشرق عليها واحداً ثم قصدها قاصد من بعد شديد فإنه يرى البيض منها الساطعة البياض قبل أن يرى شيئاً من الأشخاص الباقية.

ثم إذا قرب ظهرت الأشخاص المشرقة الألوان قبل أن تظهر الترابية والمنكسفة الألوان. ثم كلما قرب ظهرت له الباقية إلى أن يظهر له جميعها ويحس بها معاً. فيلزم من ذلك أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدرك منها البصر المبصرات والأبعاد التي تخفى منها المبصرات إنما تكون بحسب ألوان المبصرات.

ونجد أيضاً الأبعاد التي يصح أن يدرك من مثلها مبصر من المبصرات والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات إنما تكون بحسب قوة البصر. فإن الحديد البصر قد يدرك مبصراً من المبصرات من بعد قد يخفى منه ذلك المبصر بعينه في تلك الحال بعينها عن الضعيف البصر. فيلزم من جميع ما ذكرناه واستقريناه من أحوال أبعاد المبصرات أن تكون الأبعاد التي يصح أن يدرك من مثلها مبصر من المبصرات والأبعاد التي يخفى من مثلها مبصر من المبصرات إنما تكون بحسب ذلك المبصر بعينه وبحسب أحواله وبحسب المعاني التي فيه وبحسب البصر أيضاً الذي يدركه بعينه في قوته وضعفه.

فقد تبين من جميع ما ذكرناه مما يوجد بالاستقراء والاعتبار ويوجد مطرداً لا يختلف ولا ينتقض أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات التي تكون معه في هواء واحد ويكون إدراكه له لا بالانعكاس إلا إذا اجتمعت للمبصر المعاني التي ذكرناها وهي أن يكون بينه وبين البصر بعد ما بحسب ذلك المبصر ويكون مقابلاً للبصر أعني أن يكون بين كل نقطة من سطحه الذي يدركه البصر وبين نقطة ما من سطح البصر خط مستقيم متوهم ويكون فيه ضوء ما إما من ذاته أو من غيره ويكون حجمه مقتدراً بالإضافة إلى قوة إحساس البصر ويكون الهواء الذي بينه وبين سطح البصر أو الجسم الذي بينه وبين سطح البصر مشفاً متصل الشفيف لا يتخلله شيء من الأجسام الكثيفة ويكون كثيفاً أو فيه بعض الكثافة أعني أن لا يكون فيه شفيف أو يكون مشفاً وشفيفه أغلظ من شفيف الهواء المبسوط بينه وبين سطح البصر أو الجسم المشف المتوسط بينه وبين سطح البصر وليس يكون الكثيف إلا ذا لون أو ما يجري مجرى اللون وكذلك المشف الذي فيه بع الغلظ.

فهذه المعاني هي التي لا يتم الإبصار إلا بعد اجتماعها للمبصر. وإذا اجتمعت هذه المعاني للمبصر وكان البصر سليماً من الآفات فإنه يدرك ذلك المبصر وإذا عدم البصر واحداً من هذه المعاني إذن هي خواص البصر التي بها وباجتماعها يتم الإبصار. وقد يظهر أيضاً بالاستقراء أن كل مبصر يدركه البصر ثم يبعد عنه حتى ينتهي إلى الحد الذي يخفى عن البصر فإن بين البعد الذي يخفى منه ذلك المبصر وبين سطح البصر أبعاداً كثيرة مختلفة لا تنحصر ولا تتعين يدرك البصر من كل واحد منها ذلك المبصر إدراكاً صحيحاً ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر وإذا أدرك البصر المبصر على بعد من هذه الأبعاد إدراكاً صحيحاً ثم تباعد عنه على تدريج وترتيب خفيت أجزاءه الصغار والمعاني اللطيفة إن كانت فيه كالنقوش والوشوم والغضون والنقط قبل أن تخفى جملته ويخفى ما صغر من هذه المعاني ودق قبل أن يخفى ما هو اعظم وأغلظ.

وتوجد الأبعاد التي تخفى منها الأجزاء الصغار وتلتبس المعاني اللطيفة وتشتبه كثيرة غير معنية ولا محصورة. ويوجد أيضاً المبصر إذا تمادى في التباعد على التدريج والترتيب تصاغرت جملته عند البصر قبل أن يخفى جميعه على البصر ولا يحس به ولا بشيء منه وإن ازداد بعد ذلك تباعداً لم يدركه البصر. ويوجد أيضاً المبصر إذا قرب من البصر قرباً شديداً وقبل أن يلتصق بسطح البصر فإنه تعظم جثته عند البصر وتشتبه صورته وتلتبس المعاني اللطيفة التي تكون فيه فلا يمكن البصر تمييزها وتحققها. وكلما قرب من سطح البصر بعد هذه الحال قرباً أكثر كان التباسه أشد حتى إذا التصق بسطح البصر بطل إحساس البصر به ولم يدرك منه إلا ستره فقط.

وإذا كان جميع ذلك كذلك فالبعد إذن الذي منه يدرك البصر المبصر إدراكاً صحيحاً ليس هو بعداً واحداً معيناً والبعد الذي تشتبه منه صورة المبصر وتخفى أجزاؤه الصغار وتخفى المعاني اللطيفة التي تكون فيه وتشتبه وتلتبس ليس هو بعداً واحداً معيناً. فلنسم جميع البعاد التي يدرك منها البصر المبصر ويدرك جميع أجزائه ويدرك جميع ما فيه من المعاني التي يصح أن يدركها البصر ويكون إدراكه له وللمعاني التي فيه إدراكاً لا يكون بينه وبين حقيقة المبصر وبين حقيقة المعاني التي فيه تفاوت محسوس بالإضافة إلى حقيقته ولا تخالف صورته التي تحصل في الحس صورته الحقيقية خلافاً يمكن أن يظهر فيه تفاوت محسوس عند التأمل أبعاداً معتدلة وإن كانت كثيرة وذات عرض.

ولنسم الأبعاد التي يخفى منها المبصر والأبعاد التي تخفى منها أجزاء المبصر التي لها نسبة محسوسة إلى جملة المبصر والأبعاد التي تخفى منها المعاني اللطيفة التي تكون في المبصر التي قد تظهر من الأبعاد المعتدلة والأبعاد أيضاً التي تلتبس منها هذه المعاني وتشتبه الأبعاد الخارجة عن الاعتدال ما كان منها مسرفاً في البعد عن وإذ قد تبين أن البصر ليس يدرك شيئاً من المبصرات إلا إذا كان فيه ضوء ما من ذاته وإما من غيره وكان كثير من الأجسام المبصرة قد يظهر ضوؤها على الأجسام المقابلة لها ويظهر ضوؤها على البصر عند إدراك البصر لها فقد وجب أن نبحث عن خواص الأضواء وعن كيفية إشراق الأضواء ونبحث أيضاً عما يعرض بين البصر والضوء ثم نجمع بين ذلك وبين ما يخص البصر ونتلطف في القياس ونتوصل إلى النتيجة