→ كتاب الفوائد - 9 | كتاب الفوائد المؤلف: ابن القيم |
عودة إلى صفحة ابن القيم ← |
كتاب الفوائد |
صدق العزيمة والفعل ليس للعبد شيء أنفع من صدقه ربه في جميع أموره مع صدق العزيمة ، فصدقه في عزمه وفي فعله ، قال تعالى: « فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم» سورة محمد : الآية رقم :21 فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل ، فصدق العزيمة جمعها وجزمها وعدم التردد فيها بل تكون عزيمة لا يشوبها تردد ولا تلوم، فإذا صدقت عزيمته بقي عليه صدق الفعل ، وهو استفراغ الوسع وبذل الجهد فيه ، وألا يتخلف عنه بشيء من ظاهره وباطنه ، فعزيمة القصد تمنعه من ضعف الإرادة والهمة ، وصدق الفعل يمنعه من الكسل والفتور . ومن صدق الله في جميع أموره صنع الله له فوق ما يصنع لغيره. وهذا الصدق معنى يلتئم من صحة الإخلاص وصدق التوكل، فأصدق الناس من صح إخلاصه وتوكله.
القدر- إرادة العبد
رب ذو إرادة أمر عبدا ذا إرادة ، فإن وفقه وأراد من نفسه أن يعينه ويلهمه فعل ما أمر به ، وإن خذله وخلاه وإرادته ونفسه، وهو من هذه الحيثية لا يختار إلا ما تهواه نفسه وطبعه ، فهو من حيث هو إنسان لا يريد على تلك الحيثية، وهو كونه مسلما ومؤمنا وصابرا ومحسنا وشكورا وتقيا وبرا ، ونحو ذلك . وهذا أمر زائد على مجرد كونه إنسانا وإرادته صالحة، ولكن لا يكفي مجرد صلاحيتها إن لم تؤيد بقدر زائد على ذلك وهو التوفيق ، كما أنه لا يكفي في الرؤية مجرد صلاحية العين للإدراك إن لم يحصل سبب آخر من النور المنفصل عنها .
وقار الله من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم والتوقير لك من الناس وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره ، فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، قال تعالى: «ما لكم لا ترجون لله وقاراً» سورة نوح : الآية رقم :13 أي لا تعاملونه معاملة من توقرونه، والتوقير: العظمة. ومنه قوله تعالى : «وتوقروه» ، قال الحسن: ما لكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرونه؟! قال مجاهد: لا تبالون عظمة ربكم وقال ابن زيد : لا ترون لله طاعة . وقال ابن عباس : لا تعرفون حق عظمته.
وهذه الأقوال ترجع إلى معنى واحد، وهو أنهم لو عظموا الله وعرفوا حق عظمته وحدوه وأطاعوه وشكروه، فطاعته سبحانه واجتناب معاصيه والحياء منه بحسب وقاره في القلب . ولهذا قال بعض السلف : ليعظم وقار الله في قلب أحدكم أن يذكره عندما يستحي من ذكره ، فيقرن اسمه به كما تقول : قبح الله الكلب والخنزير والنتن ونحو ذلك ، فهذا من وقار الله.
ومن وقاره ألا تعدل به شيئا من خلقه ، لا في اللفظ ، بحيث تقول : والله وحياتك ، ما لي إلا الله وأنت ، وما شاء الله وشئت . ولا في الحب والتعظيم والإجلال ، ولا في الطاعة ، فتطيع المخلوق في أمره ونهيه كما تطيع الله ، بل أعظم ، كما عليه أكثر الظلمة والفجرة ، ولا في الخوف والرجاء . ويجعله أهون الناظرين إليه ، ولا يستهين بحقه ويقول: هو مبني على المسامحة ، ولا يجعله على الفضلة ، ويقدم حق المخلوق عليه ، ولا يكون الله ورسوله في حد وناحية ، والناس في ناحية وحد ، فيكون في الحد والشق الذي فيه الناس دون الحد والشق الذي فيه الله ورسوله ، ولا يعطي المخلوق في مخاطبته قلبه ولبه ويعطي الله في خدمته بدنه ولسانه دون قلبه وروحه ، ولا يجعل مراد نفسه مقدما على مراد ربه.
فهذا كله من عدم وقار الله في القلب ، ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقارا ولا هيبة، بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب وتعظيم . ومن وقار الله أن يستحي من اطلاعه على سره وضميره فيرى فيه ما يكره . ومن وقاره أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس. والمقصود أن من لا يوقر الله وكلامه وما آتاه من العلم والحكمة كيف يطلب من الناس توقيره وتعظيمه؟!
القرآن والعلم وكلام الرسول ﷺ صلات من الحق وتنبيهات و روادع و زواجر واردة إليك، والشيب زاجر ورادع وموقظ قائم بك، فلا ما ورد إليك وعظك! ولا ما قام بك نصحك! ومع هذا تطلب التوقير والتعظيم من غيرك! فأنت كمصاب لم تؤثر فيه مصيبته وعظا و انزجارا، وهو يطلب من غيره أن يتعظ و ينزجر بالنظر إلى مصابه. فالضرب لم يؤثر فيه زجرا وهو يريد الانزجار ممن نظر إلى ضربه.
من سمع بالمثلات والعقوبات والآيات في حق غيره ليس كمن رآها عيانا في غيره، فكيف بمن وجدها في نفسه؟ «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم» سورة فصلت : الآية رقم :53 ، فآياته في الآفاق مسموعة معلومة ، وآياته في النفس مشهودة مرئية ، فعياذا بالله من الخذلان.
قال تعالى: «إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم» سورة يونس : الآية رقم :96-97 ، وقال : «ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله » الأنعام : الآية رقم :111 .
والعاقل المؤيد بالتوفيق يعتبر بدون هذا ويتمم نقائص خلقته بفضائل أخلاقه وأعماله، فكلما امتحى من جثمانه أثر زاد إيمانه أثر، وكلما نقص من قوى بدنه زاد في قوة إيمانه ويقينه في الله والدار الآخرة، وإن لم يكن هكذا فالموت خير له؛ لأنه يقف به على حد معين من الألم والفساد، بخلاف العيوب والنقائص مع طول العمر ، فإنها زيادة في ألمه وهمه وغمه وحسرته ، وإنما حسن طول العمر ونفع ليحصل التذكر والاستدراك واغتنام الغرض والتوبة النصوح كما قال تعالى: «أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر» فاطر : الآية رقم : 37 فمن لم يورثه التعمير وطول البقاء إصلاح معايبه وتدارك فارطه واغتنام بقية أنفاسه فيعمل على حياة قلبه وحصول النعيم المقيم، وإلا فلا خير له في حياته، فإن العبد على جناح سفر إما إلى الجنة وإما إلى النار. فإذا طال عمره وحسن عمله كان طول سفره زيادة له في حصول النعيم واللذة، فإنه كلما طال السفر إليها كانت الصبابة أجل وأفضل ، وإذا طال عمره وساء عمله كان طول سفره زيادة في ألمه وعذابه ونزولا له إلى أسفل . فالمسافر إما صاعد وإما نازل ، وفي الحديث المرفوع: «خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وقبح عمله» رواه الترمذي و الدارمي وابن حنبل .
فالطالب الصادق في طلبه كلما خرب شيء من ذاته جعله عمارة لقلبه وروحه، وكلما نقص شيء من دنياه جعله زيادة في آخرته، وكلما منع شيئا من لذات دنياه جعله زيادة في لذات آخرته، وكلما ناله هم أو حزن أو غم جعله في أفراح آخرته. فنقصان بدنه ودنياه ولذته وجاهه ورئاسته أن زاد في حصول ذلك وتوفيره عليه في معاده، كان رحمة به وخيرا له وإلا كان حرمانا وعقوبة على ذنوب ظاهرة أو باطنة أو ترك واجب ظاهر أو باطن، فإن حرمان خير الدنيا والآخرة مرتب على هذه الأربعة، وبالله التوفيق.
الحياة طريق مسافر الناس منذ خلقوا لم يزالوا مسافرين ، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو النار، والعاقل يعلم أن السفر مبني على المشقة وركوب الأخطار. ومن المحال عادة أن يطلب فيه نعيم ولذة وراحة، إنما ذلك بعد انتهاء السفر. ومن المعلوم أن كل وطأة قدم أو كل آن من آنات السفر غير واقفة، ولا المكلف واقف ، وقد ثبت أنه مسافر على الحال التي يجب أن يكون المسافر عليها من تهيئة الزاد الموصل، وإذا نزل أو نام أو استراح فعلى قدم الاستعداد للسير.
المشاهدة عند العارفين أن الاشتغال بالمشاهدة عن البر في السير في السر وقوف ؛ لأنه في زمن المشاهدة لو كان صاحب عمل ظاهر أو باطن أو ازدياد من معرفة وإيمان مفصل كان أولى به، فإن اللطيفة الإنسانية تحشر على صورة عملها ومعرفتها وهمتها وإرادتها، والبدن يحشر على صورة عمله الحسن أو القبيح. وإذا انتقلت من هذه الدار شاهدت حقيقة ذلك. وعلى قدر قرب قلبك من الله تبعد من الأنس بالناس و مساكنتهم ، وعلى قدر صيانتك لسرك وإرادتك يكون حفظه. وملاك ذلك صحة التوحيد ثم صحة العلم بالطريق ثم صحة الإرادة ثم صحة العمل. والحذر كل الحذر من قصد الناس لك وإقبالهم عليك وأن يعثروا على موضع غرضك،فإنها الآفة العظمى.
مداخل الشيطان
كل ذي لب يعلم أنه لا طريق للشيطان عليه إلا من ثلاث جهات:
«أحدها:» التزيد والإسراف، فيزيد على قدر الحاجة فتصير فضلة وهي حظ الشيطان ومدخله إلى القلب، وطريق الاحتراز من إعطاء النفس تمام مطلوبها من غذاء أو نوم أو لذة أو راحة . فمتى أغلقت هذا الباب حصل الأمان من دخول العدو منه.
«الثانية:» الغفلة ، فإن الذاكر في حصن الذكر، فمتى غفل فتح باب الحصن فولجه العدو فيعسر عليه أو يصعب إخراجه.
«الثالثة:» تكلف ما لا يعنيه من جميع الأشياء.
طريق النجاح
طالب النفوذ إلى الله والدار الآخرة بل وإلى كل علم وصناعة ورئاسة بحيث يكون رأسا في ذلك مقتدى به فيه، يحتاج أن يكون شجاعا مقداما حاكما على وهمه، غير مقهور تحت سلطان تخيله ، زاهدا في كل ما سوى مطلوبه، عاشقا لما توجه إليه ، عارفا بطريق الوصول إليه والطرق القواطع عنه، مقدام الهمة ثابت الجأش لا يثنيه عن مطلوبه لوم لائم ولا عذل عاذل ، كثير السكون دائم الفكر غير مائل مع لذة المدح ولا ألم الذم، قائما بما يحتاج إليه من أسباب معونته لا تستفزه المعارضات ، شعاره الصبر وراحته التعب، محبا لمكارم الأخلاق، حافظا لوقته، لا يخالط الناس إلا على حذر كالطائر الذي يلتقط الحب بينهم، قائما على نفسه بالرغبة والرهبة، طامعا في نتائج الاختصاص على بني جنسه، غير مرسل شيئا من حواسه عبثا ولا مسرحا خواطره في مراتب الكون. وملاك ذلك هجر العوائد وقطع العلائق الحائلة بينك وبين المطلوب، وعند العوام أن لزوم الأدب مع الحجاب خير من اطراح الأدب مع الكشف.
أفضل الذكر
من الذاكرين من يبتدئ بذكر اللسان وإن كان على غفلة ، ثم لا يزال فيه حتى يحضر قلبه فيتواطأ على الذكر. ومنهم من لا يرى ذلك ولا يبتدئ على غفلة بل يسكن حتى يحضر قلبه فيشرع في الذكر بقلبه فإذا قوي استتبع لسانه فتواطئا جميعا. فالأول ينتقل الذكر من لسانه إلى قلبه. والثاني ينتقل من قلبه إلى لسانه، من غير أن يخلو قلبه منه، بل يسكن أولا حتى يحس بظهور الناطق فيه . فإذا أحس بذلك نطق قلبه ثم انتقل النطق القلبي إلى الذكر اللساني ثم يستغرق في ذلك حتى يجد كل شيء منه ذاكرا.
وأفضل الذكر وأنفعه ما واطأ فيه القلب اللسان وكان من الأذكار النبوية وشهد الذاكر معانيه ومقاصده.
أنفع الناس وأضرهم أنفع الناس لك رجل مكنك من نفسه حتى تزرع فيه خيرا أو تصنع إليه معروفا ، فإنه نعم العون لك على منفعتك وكمالك. فانتفاعك به في الحقيقة مثل انتفاعه بك أو أكثر . وأضر الناس عليك من مكن نفسه منك حتى تعصي الله فيه فإنه عون لك على مضرتك ونقصك.
اللذة المحرمة اللذة المحرمة ممزوجة بالقبح حال تناولها مثمرة للألم بعد انقضائها، فإذا اشتدت الداعية منك إليها ففكر في انقطاعها وبقاء قبحها وألمها ثم وازن بين الأمرين وانظر ما بينهما من التفاوت. والتعب بالطاعة ممزوج بالحسن مثمر للذة والراحة، فإذا ثقلت على النفس ففكر في انقطاع تعبها وبقاء حسنها ولذتها وسرورها، ووازن بين الأمرين وآثر الراجح على المرجوح، فإن تألمت بالسبب فانظر إلى ما في المسبب من الفرحة والسرور واللذة يهن عليك مقاساته، وإن تألمت بترك اللذة المحرمة فانظر إلى الألم الذي يعقبه ووازن بين الألمين. وخاصية العقل تحصيل أعظم المنفعتين بتفويت أدناهما واحتمال أصغر الألمين لدفع أعلاهما. وهذا يحتاج إلى علم بالأسباب ومقتضياتها ، وإلى عقل يختار به الأولى والأنفع له منها، فمن وفر قسمه من العقل والعلم اختار الأفضل وآثره ، ومن نقص حظه منهما أو من أحدهما اختار خلافه ، ومن فكر في الدنيا والآخرة علم أنه لا ينال واحدا منهما إلا بمشقة فليتحمل المشقة لخيرهما وأبقاهما.
في كل عضو أمر ونهي
لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر، وله عليه فيه نهي، وله فيه نعمة، وله به منفعة ولذة . فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدى شكر نعمته عليه فيه وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه عطله الله من انتفاعه بذلك العضو وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته.
وله عليه في كل وقت من أوقاته عبودية تقدمه إليه وتقربه منه، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه، وإن شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخر، فالعبد لا يزال في تقدم أو تأخر ولا وقوف في الطريق ألبتة . قال تعالى : «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» سورة المدثر : الآية رقم :37 .
فريقا الجنة والنار أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع . فافترقوا فرقتين: فرقة قابلت أمره بالترك ونهيه بالارتكاب وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه ، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك. وقسم قالوا: إنما نحن عبيدك ، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة ، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك. فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين . كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة ، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم .
فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك ، وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت ، فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين ، فأنت مع إحداهما لا محالة . فالفريق الأول استغشوا الهوى واستنصحوا العقل فشاوروه ، وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له ، وجوارحهم للعمل بما أمروا به ، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة ، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى العمل ، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها ، واستوطنوا الآخرة قبل انتقالهم إليها ، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه ، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها ، فعجل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها إن آنسهم بنفسه وأقبل بقلوبهم إليه وجمعها على محبته وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها والغم من خوف ذهابها ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدانهم ، والملأ الأعلى بأرواحهم.
من صفات التوحيد التوحيد ألطف شيء وأنزهه أنظفه وأصفاه ، فأدنى شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدا أدنى شيء يؤثر فيها . ولهذا تشوشه اللحظة واللفظة والشهوة الخفية . فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده ، وإلا استحكم وصار طبعا يتعسر عليه قلعه . وهذه الآثار و الطبوع التي تحصل فيه : منها ما يكون سريع الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون سريع الحصول بطيء الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول سريع الزوال ، ومنها ما يكون بطيء الحصول بطيء الزوال.
ولكن من الناس من يكون توحيده كبيرا عظيما ، ينغمر فيه كثير من تلك الآثار ، ويستحيل فيه بمنزلة الماء الكثير الذي يخالطه أدنى نجاسة أو وسخ فيغتر به صاحب التوحيد الذي هو دونه ، فيخلط توحيده الضعيف بما خلط به صاحب التوحيد العظيم الكثير توحيده ، فيظهر من تأثيره فيه ما لم يظهر في التوحيد الكثير.
وأيضا فإن المحل الصافي جدا يظهر لصاحبه مما يدنسه ما لا يظهر في المحل الذي لم يبلغ في الصفاء مبلغه فيتدراكه بالإزالة دون هذا فإنه لا يشعر به. وأيضا فإن قوة الإيمان والتوحيد إذا كانت قوية جدا أحالت المواد الرديئة وقهرتها بخلاف القوة الضعيفة. وأيضا فإن صاحب المحاسن الكثيرة والغامرة للسيئات ليسامح بما لا يسامح به من أتى مثل تلك السيئات وليست له مثل تلك المحاسن ، كما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد * * * جاءت محاسنه بألف شفيع
وأيضا فإن صدق الطلب وقوة الإرادة وكمال الانقياد يحيل تلك العوارض والغواشي الغريبة إلى مقتضاه وموجبه، كما أن الكذب وفساد القصد وضعف الانقياد يحيل الأقوال والأفعال الممدوحة إلى مقتضاه وموجبه، كما يشاهد ذلك في الأخلاط الغالبة وإحالتها لصالح الأغذية إلى طبعها.
لا يجمع الله ذخائره في قلب فيه سواه
ترك الشهوات لله، وإن أنجى من عذاب الله وأوجب الفوز برحمته، فذخائر الله وكنوز البر ولذة الأنس والشوق إليه والفرح والابتهاج به، لا تحصل في قلب فيه غيره، وإن كان من أهل العبادة والزهد والعلم فإن الله سبحانه أبى أن يجعل ذخائره في قلب فيه سواه وهمته متعلقة بغيره، وإنما يودع ذخائره في قلب يرى الفقر غنى مع الله، والغنى فقرا دون الله، والعز ذلا دونه ، والذل عزا معه، والنعيم عذابا دونه، والعذاب نعيما معه.
وبالجملة ، فلا يرى الحياة إلا به ومعه ، والموت والألم والهم والغم والحزن، إذا لم يكن معه، فهذا له جنتان: جنة في الدنيا معجلة، وجنة يوم القيامة .
الإنابة والاعتكاف
الإنابة هي عكوف القلب على الله عز وجل كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه. وحقيقة ذاك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة كما قال إمام الحنفاء لقومه: «ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون» سورة الأنبياء : الآية رقم :52 ، فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الرب الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصور الممثلة. فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهممهم وإراداتهم على تماثيلهم ، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفا عليها، فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي ﷺ عبدا لها ودعا عليه بالتعس و النكس فقال : « تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش» رواه البخاري في كتاب الجهاد. وابن ماجه في الزهد
الناس في هذه الدار على جناح سفر كلهم، وكل مسافر فهو ظاعن إلى مقصده ونازل على من يسر بالنزول عليه، وطالب الله والدار والآخرة إنما هو ظاعن إلى الله في حال سفره ونازل عليه عند القدوم عليه، فهذه همته في سفره وفي انقضائه: «يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي» سورة الفجر : الآية رقم :27- 30 ،وقالت امرأة فرعون : «رب ابن لي عندك بيتا في الجنة» التحريم الآية رقم : 11 فطلبت كون البيت عنده قبل طلبها أن يكون في الجنة، فإن الجار قبل الدار.
من كلام الشيخ علي
قيل لي في نوم كاليقظة أو يقظة كالنوم: لا تبد فاقة إلى غيري فأضاعفها عليك مكافأة لخروجك عن حدك في عبوديتك. ابتليتك بالفقر لتصير ذهبا خالصا فلا تزيفن بعد السبك. حكمت لك بالفقر ولنفسي بالغنى، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى وإن وصلتها بغيري حسمت عنك مواد معونتي طردا لك عن بابي . لا تركن إلى شيء دوننا فإنه وبال عليك وقاتل لك، إن ركنت إلى العمل رددناه عليك، وإن ركنت إلى المعرفة ذكرناها عليك، وإن ركنت إلى الوجد استدرجناك فيه.
وإن ركنت إلى العلم أوقفناك معه، وإن ركنت إلى المخلوقين وكلناك إليهم، ارضنا لك ربا نرضاك لنا عبدا.
الشهقة عند سماع القرآن الشهقة التي تعرض عند سماع القرآن أو غيره لها أسباب: «أحدها : » أن يلوح له عند السماع درجة ليست له فيرتاح إليها فتحدث له الشهقة فهذه شهقة شوق. «وثانيها: » أن يلوح له ذنب ارتكبه فيشهق خوفا وحزنا على نفسه، وهذه شهقة خشية. «وثالثها: » أن يلوح له نقص فيه لا يقدر على دفعه عنه فيحدث له ذلك حزنا فيشهق شهقة حزن. «و رابعها: » أن يلوح له كمال محبوبه ويرى الطريق إليه مسدودة عنه فيحدث ذلك شهقة آسف وحزن. «و خامسها: » أن يكون قد توارى عنه محبوبه واشتغل بغيره فذكره السماع محبوبه، فلاح له جماله ورأى الباب مفتوحا والطريق ظاهرة ، فشهق فرحا.وسرورا بما لاح له. وبكل حال: فسبب الشهقة قوة الوارد وضعف المحل عن الاحتمال . والقوة أن يعمل ذلك الوارد عمله داخلا ولا يظهر عليه، وذلك أقوى له وأدوم، فإنه إذا أظهره ضعف أثره وأوشك انقطاعه . هذا حكم الشهقة من الصادق ، فإن الشاهق إما صادق وإما سارق وإما منافق.
أنواع الفكر أصل الخير والشر من قبل التفكر ، فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض . وأنفع الفكر الفكر في مصالح المعاد وفي طرق اجتلابها وفي دفع مفاسد المعاد وفي طرق اجتنابها ، فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار. ويليها أربعة: فكر في مصالح الدنيا وطرق تحصيلها ، وفكر في مفاسد الدنيا وطرق الاحتزاز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء . ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة.فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها أثمر له ذلك الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت.
وهذه الأفكار تعلي همته وتحييها بعد موتها و سفولها وتجعله في واد والناس في واد. وبإزاء هذه الأفكار الأفكار الرديئة التي تجول في قلوب أكثر هذا الخلق كالفكر فيما لم يكلف الفكر فيه ولا أعطي الإحاطة به من فضول العلم الذي لا ينفع، كالفكر في كيفية ذات الرب وصفاته، مما لا سبيل للعقول إلى إدراكه.
ومنها الفكر في الصناعات الدقيقة التي لا تنفع بل تضر، كالفكر في الشطرنج والموسيقى وأنواع الأشكال و التصاوير. ومنها الفكر في العلوم التي لو كانت صحيحة لم يعط الفكر فيها النفس كمالا ولا شرفا، كالفكر في دقائق المنطق والعلم الرياضي والطبيعي ، وأكثر علوم الفلاسفة التي لو بلغ الإنسان غاياتها لم يكمل بذلك ولم يزك نفسه. ومنها الفكر في الشهوات واللذات وطرق تحصيلها ، وهذا وإن كان للنفس فيه لذة لكن لا عاقبة له ومضرته في عاقبة الدنيا قبل الآخرة أضعاف مسرته. ومنها الفكر فيما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كالفكر فيما إذا صار ملكا أو وجد كنزا أو ملك ضيعة ماذا يصنع وكيف يتصرف ويأخذ ويعطي وينتقم ونحو ذلك من أفكار السفل. ومنها الفكر في جزئيات أحوال الناس وما جراياتهم ومداخلهم ومخارجهم وتوابع ذلك من فكر النفوس المبطلة الفارغة من الله ورسوله والدار الآخرة. ومنها الفكر في دقائق الحيل والمكر التي يتوصل بها إلى أغراضه وهواه مباحة كانت أو محرمة. ومنها الفكر في أنواع الشعر وصروفه و فانينه في المدح والهجاء والغزل والمراثي ونحوها، فإنه يشغل الإنسان عن الفكر فيما فيه سعادته وحياته الدائمة. ومنها الفكر في المقدرات الذهنية التي لا وجود لها في الخارج ولا بالناس حاجة إليها ألبتة، وذلك موجود في كل علم حتى في علم الفقه والأصول والطب ، فكل هذه الأفكار مضرتها أرجح من منفعتها، ويكفي في مضرتها شغلها عن الفكر فيما هو أولى به وأعود عليه بالنفع عاجلا وآجلا.
الطلب والصبر
الطلب لقاح الإيمان، فإذا اجتمع الإيمان والطلب أثمرا العمل الصالح.
وحسن الظن بالله لقاح الافتقار والاضطرار إليه، فإذا اجتمعا أثمرا إجابة الدعاء.
والخشية لقاح المحبة ، فإذا اجتمعا أثمرا امتثال الأوامر واجتناب المناهي. والصبر لقاح اليقين، فإذا اجتمعا أورثا الإمامة في الدين ، قال تعالى : «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون» سورة السجدة: الآية رقم :24 .وصحة الاقتداء بالرسول لقاح الإخلاص، فإذا اجتمعا أثمرا قبول العمل والاعتداد به .
والعمل لقاح العلم، فإذا اجتمعا كان الفلاح والسعادة ، وإن انفرد أحدهما عن الآخر لم يفد شيئا. والحلم لقاح العلم، فإذا اجتمعا حصلت سيادة الدنيا والآخرة وحصل الانتفاع بعلم العالم ، وإن انفرد أحدهما عن صاحبه فات النفع والانتفاع . والعزيمة لقاح البصيرة ، فإذا اجتمعا نال صاحبهما خير الدنيا والآخرة وبلغت به همته من العلياء كل مكان، فتخلف الكمالات إما من عدم البصيرة وإما من عدم العزيمة .
وحسن القصد لقاح لصحة الذهن ، فإذا فقدا فقد الخير كله، وإذا اجتمعا أثمرا أنواع الخيرات . وصحة الرأي لقاح الشجاعة، فإذا اجتمعا كان النصر والظفر ، وإن فقدا فالخذلان والخيبة، وإن وجد الرأي بلا شجاعة فالجبن والعجز، وإن حصلت الشجاعة بلا رأي فالتهور والعطب ، والصبر لقاح البصيرة ، فإذا اجتمعا فالخير في اجتماعهما. قال الحسن: إذا شئت أن نرى بصيرا لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابرا لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت صابرا بصيرا فذاك. والنصيحة لقاح العقل، فكلما قويت النصيحة قوى العقل واستنار.
والتذكر والتفكر كل منهما لقاح الآخر، إذا اجتمعا أنتجا الزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة. والتقوى لقاح التوكل ، فإذا اجتمعا استقام القلب . ولقاح أخذ أهبة الاستعداد للقاء قصر الأمل، فإذا اجتمعا فالخير كله في اجتماعهما والشر في فرقتهما. ولقاح الهمة العالية النية الصحيحة ، فإذا اجتمعا بلغ العبد غاية المراد.
موقف العبد بين يدي الله
للعبد بين يدي الله موقفان: موقف بين يديه في الصلاة، وموقف بين يديه يوم لقائه، فمن قام بحق الموقف الأول هون عليه الموقف الآخر، ومن استهان بهذا الموقف ولم يوفه حقه شدد عليه ذلك الموقف . قال تعالى «ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا، إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا» سورة الإنسان : الآية رقم :26- 27 .
لذة الآخرة أبقى اللذة من حيث هي مطلوبة للإنسان بل ولكل حي فلا تذم من جهة كونها لذة وإنما تذم ويكون تركها خيرا من نيلها وأنفع إذا تضمنت فوات لذة أعظم منها وأكمل ، أو أعقبت ألما حصوله أعظم من ألم فواتها . فههنا يظهر الفرق بين العاقل الفطن والأحمق الجاهل. فمتى عرف العقل التفاوت بين اللذتين و الألمين وأنه لا نسبة لأحدهما إلى الآخر هان عليه ترك أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتمال أيسر الألمين لدفع أعلاهما. وإذا تقررت هذه القاعدة فلذة الآخرة أعظم وأدوم ، ولذة الدنيا أصغر وأقصر، وكذلك ألم الآخرة وألم الدنيا، والمعول في ذلك على الإيمان واليقين ، فإذا قوي اليقين وباشر القلب آثر الأعلى على الأدنى في جانب اللذة واحتمل الألم الأسهل على الأصعب ، والله المستعان.
مناداة أيوب ربه
قوله تعالى : « وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين » سوره الأنبياء ، الآية 83 جمع في هذا الدعاء بين حقيقة التوحيد وإظهار الفقر والفاقة إلى ربه ووجود طعم المحبة في التملق له ، والإقرار له بصفة الرحمة وأنه أرحم الراحمين والتوسل إليه بصفاته سبحانه وشدة حاجته هو وفقره ، ومتى وجد المبتلى هذا كشفت عنه بلواه . وقد جرب أنه من قالها سبع مرات ولا سيما مع هذه المعرفة كشف الله ضره.
دعاء يوسف
قوله تعالى عن يوسف نبيه أنه قال : « أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين » يوسف : 101 . جمعت هذه الدعوة الإقرار بالتوحيد والاستسلام للرب وإظهار الافتقار إليه والبراءة من موالاة غيره سبحانه ، وكون الوفاة على الإسلام أجل غايات العبد وأن ذلك بيد الله لا بيد العبد ، والاعتراف بالمعاد وطلب مرافقة السعداء .
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه قوله تعالى : « وإن من شيء إلا عندنا خزائنه » الحجر : 21 متضمن لكنز من الكنوز وهو أن كل شيء لا يطلب إلا ممن عنده خزائنه ومفاتيح تلك الخزائن بيده . وأن طلبه من غيره طلب ممن ليس عنده ولا يقدر عليه. وقوله : « وأن إلى ربك المنتهى » سوره النجم ، الآية 42 متضمن لكنز عظيم، وهو أن كل مراد إن لم يرد لأجله ويتصل به فهو مضمحل منقطع فإنه ليس إليه المنتهى وليس المنتهى إلا إلى الذي انتهت إليه الأمور كلها فانتهت إلى خلقه ومشيئته وحكمته وعلمه ، فهو غاية كل مطلوب ، وكل محبوب لا يحب لأجله فمحبته عناء وعذاب. وكل عمل لا يراد لأجله فهو ضائع وباطل. وكل قلب لا إليه فهو شقي محجوب عن سعادته وفلاحه ، فاجتمع ما يراد منه كله في قوله «وإن من شيء إلا عندنا خزائنه» ، واجتمع ما يراد له كله في قوله : «وأن إلى ربك المنتهى» ، فليس وراءه سبحانه غاية تطلب وليس دونه غاية إليها المنتهى.
من أسرار التوحيد
وتحت هذا سر عظيم من أسرار التوحيد، وهو أن القلب لا يستقر ولا يطمئن ويسكن إلا بالوصول إليه، وكل ما سواه مما يحب ويراد فمراد لغيره. وليس المراد المحبوب لذاته إلا واحد إليه المنتهى ويستحيل أن يكون المنتهى إلى اثنين كما يستحيل أن يكون ابتداء المخلوقات من اثنين ، فمن كان انتهاء محبته ورغبته وإرادته وطاعته إلى غيره بطل عليه ذلك وزال عنه وفارقه أحوج ما كان إليه. ومن كان انتهاء محبته ورغبته ورهبته وطلبه هو سبحانه ظفر بنعيمه ولذاته وبهجته وسعادته أبد الآباد.
العبد دائما متقلب بين أحكام الأوامر وأحكام النوازل، فهو محتاج بل مضطر إلى العون عند الأوامر، وإلى اللطف عند النوازل، وعلى قدر قيامه بالأوامر يحصل له من اللطف عند النوازل ، فإن كمل القيام بالأوامر ظاهرا وباطنا ناله اللطف ظاهرا وباطنا، وإن قام بصورها دون حقائقها وبواطنها ناله اللطف في الظاهر وقل نصيبه من اللطف في الباطن.
فإن قلت: وما اللطف الباطن؟ فهو ما يحصل للقلب عند النوازل من السكينة والطمأنينة وزوال القلق والاضطراب والجزع، فيستخذى بين يدي سيده ذليلا له مستكينا ناظرا إليه بقلبه ساكنا إليه بروحه وسره، قد شغله مشاهدة لطفه به عن شدة ما هو فيه من الألم، وقد غيبه عن شهود ذلك معرفته بحسن اختياره له وأنه عبد محض يجري عليه سيده أحكامه رضي أو سخط، فإن رضي نال الرضا وإن سخط فحظه السخط، فهذا اللطف الباطن ثمرة تلك المعاملة الباطنة يزيد بزيادتها وينقص بنقصانها.
محبة الله
لا يزال العبد منقطعا عن الله حتى تصل إرادته ومحبته بوجهه الأعلى . والمراد بهذا الاتصال أن تفضي المحبة إليه وتتعلق به وحده فلا يحجبها شيء دونه، وأن تتصل المعرفة بأسمائه وصفاته وأفعاله فلا يطمس نورها ظلمة التعطيل، كما لا يطمس نور المحبة ظلمة الشرك، وأن يتصل ذكره به سبحانه فيزول بين الذاكر والمذكور حجاب الغفلة والتفاته في حال الذكر إلى غير مذكوره. فحينئذ يتصل الذكر به ويتصل العمل بأوامره ونواهيه فيفعل الطاعة لأنه أمر بها و أحبها، ويترك المناهي لكونه نهي عنها وأبغضها.
فهذا معنى اتصال العمل بأمره ونهيه، وحقيقة زوال العلل الباعثة على الفعل والترك من الأغراض والحظوظ العاجلة، ويتصل التوكل والحب به بحيث يصير واثقا به سبحانه مطمئنا إليه راضيا بحسن تدبيره له غير متهم له في حال من الأحوال ، ويتصل فقره وفاقته به سبحانه دون من سواه ، ويتصل خوفه ورجاؤه وفرحه وسروره وابتهاجه به وحده، فلا يخاف غيره ولا يرجوه ولا يفرح به كل الفرح ولا يسر به غاية السرور.
وإن ناله بالمخلوق بعض الفرح والسرور فليس الفرح التام والسرور الكامل والابتهاج والنعيم وقرة العين وسكون القلب إلا به سبحانه، وما سواه إن أعان على هذا المطلوب فرح به وسر به، وإن حجب عنه فهو بالحزن به والوحشة منه واضطراب القلب بحصوله أحق منه بأن يفرح به، فلا فرحة ولا سرور إلا به أو بما أوصل إليه أعان على مرضاته . وقد أخبر سبحانه أنه لا يحب الفرحين بالدنيا وزينتها ، وأمر بالفرح بفضله ورحمته وهو الإسلام والإيمان والقرآن ، كما فسره الصحابة والتابعون. والمقصود أن من اتصلت له هذه الأمور بالله سبحانه فقد وصل ، وإلا فهو مقطوع عن ربه متصل بحظه ونفسه ملبس عليه في معرفته وإرادته وسلوكه.
النعم كلها من الله
قد فكرت في هذا الأمر فإذا أصله أن تعلم أن النعم كلها من الله وحده، نعم الطاعات ونعم اللذات ، فترغب إليه أن يلهمك ذكرها ويوزعك شكرها، قال تعالى : «وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون» سورة النحل : الآية رقم :53 ، وقال «واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون » الأعراف : الآية رقم : 69 ، وكما أن تلك النعم منه ومن مجرد فضله فذكرها وشكرها لا ينال إلا بتوفيقه.
والذنوب من خذلانه وتخليه عن عبده و تخليته بينه وبين نفسه، وإن لم يكشف ذلك عن عبده فلا سبيل له إلى كشفه عن نفسه فإذا هو مضطر إلى التضرع والابتهال إليه أن يدفع عنه أسبابها حتى لا تصدر منه ، وإذا وقعت بحكم المقادير ومقتضى البشرية فهو مضطر إلى التضرع والدعاء أن يدفع عنه موجباتها وعقوباتها فلا ينفك العبد عن ضرورته إلى هذه الأصول الثلاثة، ولا فلاح له إلا بها: الشكر ، وطلب العافية، والتوبة النصوح. ثم فكرت فإذا مدار ذلك على الرغبة والرهبة، وليسا بيد العبد بل بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاء ، فإن وفق عبده بقلبه إليه وملأه رغبة ورهبة ، وإن خذله تركه ونفسه ولم يأخذ بقلبه إليه ولم يسأله ذلك، وما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
التوفيق والخذلان ثم فكرت هل للتوفيق والخذلان سبب أم هما بمجرد المشيئة لا سبب لهما؟ فإذا سببهما أهلية المحل وعدمها، فهو سبحانه خالق المحال متفاوتة في الاستعداد والقبول أعظم تفاوت، فالجمادات لا تقبل ما بقلبه الحيوان، وكذلك النوعان كل منهما متفاوت في القبول . فالحيوان الناطق يقبل ما لا يقبله البهيم، وهو متفاوت في القبول أعظم تفاوت، وكذلك الحيوان البهيم متفاوت في القبول، لكن ليس بين النوع الواحد من التفاوت كما بين النوع الإنساني.
فإذا كان المحل قابلا للنعمة بحيث يعرفها ويعرف قدرها وخطرها ويشكر المنعم بها ويثني عليه بها ويعظمه عليها، ويعلم أنها من محض الجود وعين المنة، من غير أن يكون هو مستحقا لها ولا هي له ولا به، وإنما هي الله وحده و به وحده. فوحده بنعمته إخلاصا وصرفها في محبته شكرا، وشهدها من محض جوده منه ، وعرف فذلك وتقصيره في شكرها عجزا وضعفا وتفريطا ، وعلم أنه إن أدامها عليه فذلك محض صدقته وفضله وإحسانه ، وإن سلبه إياها فهو أهل لذلك مستحق له.
وكلما زاده من نعمة ازداد ذلا له وانكسارا وخضوعا بين يديه وقياما بشكره وخشية له سبحانه أن يسلبه إياها لعدم توفيته شكرها كما سلب نعمته عمن لم يعرفها ولم يرعها حق رعايتها، فإن لم يشكر نعمته وقابلها بضد ما يليق أن يقابل به سلبه إياها ولا بد، قال تعالى : «وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين » الأنعام : الآية رقم :53 ، وهم الذين عرفوا قدر النعمة وقبلوها وأحبوها وأثنوا على المنعم بها وأحبوه وقاموا بشكره وقال تعالى : «وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله، الله أعلم حيث يجعل رسالته» الأنعام : الآية رقم :124.
أسباب الخذلان
وسبب الخذلان عدم صلاحية المحل وأهليته وقبوله للنعمة بحيث لو وافته النعم لقال هذا لي، وإنما أوتيته لأني أهله ومستحقه كما قال تعالى : «قال إنما أوتيته على علم عندي» سورة القصص: الآية رقم :78 ، أي على علم علمه الله عندي أستحق به ذلك وأستوجبه وأستأهله . قال الفراء : أي على فضل عندي أني كنت أهله ومستحقا له إذ أعطيته وقال مقاتل : يقول على خير علمه الله عندي.
وذكر عبد الله بن الحارث بن نوفل سليمان بن داود فيما أوتي من الملك ، ثم قرأ قوله تعالى : «هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر» سورة النمل : الآية رقم :40 ولم يقل هذا من كرامتي ، ثم ذكر قارون وقوله: «إنما أوتيته على علم عندي» القصص : الآية رقم :78 يعني أن سليمان رأى ما أوتيه من فضل الله عليه ومنته وأنه ابتلي به فشكره، وقارون رأى ذلك من نفسه واستحقاقه وكذلك قوله سبحانه : «ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي » فصلت : الآية رقم :50 ، أي أنا أهله وحقيق به فاختصاصي به كاختصاص المالك بملكه.
والمؤمن يرى ذلك ملكا لربه وفضلا منه من به على عبده من غير استحقاق منه بل صدقة تصدق بها على عبده ، وله ألا يتصدق بها. فلو منعه إياها لم يكن قد منعه شيئا هو له يستحقه عليه، فإذا لم يشهد ذلك رأى فيه أهلا ومستحقا فأعجبته نفسه وطغت بالنعمة وعلت بها واستطالت على غيرها ، فكان حظها منها الفرح والفخر ، كما قال تعالى: «ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليؤوس كفور، ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور» سورة هود : الآية رقم :9- 10 ، فذمه باليأس والكفر عند الامتحان بالبلاء وبالفرح والفخر عند الابتلاء بالنعماء واستبدل بحمد الله وشكره والثناء عليه إذ كشف عنه البلاء قوله : «ذهب السيئات عني» ، ولو أنه قال : أذهب الله السيئات عني برحمته ومنه لما ذم على ذلك ، بل كان محمودا عليه، ولكنه غفل عن المنعم بكشفها ونسب الذهاب إليها وفرح وافتخر.
فإذا علم الله سبحانه هذا من قلب عبد فذلك من أعظم أسباب خذلانه وتخليه عنه، فإن محله لا تناسبه النعمة المطلقة التامة كما قال تعالى « إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون » الأنفال :22-23 فأخبر سبحانه أن محلهم غير قابل لنعمته ، ومع عدم القبول ففيهم مانع يمنع آخر يمنع وصولها إليهم وهو توليهم وإعراضهم إذا عرفوها وتحققوها.
ومما ينبغي أن يعلم أن أسباب الخذلان من بقاء النفس على ما خلقت عليه في الأصل وإهمالها و تخليتها ، فأسباب الخذلان منها وفيها وأسباب التوفيق من جعل الله سبحانه لها قابلة للنعمة. فأسباب التوفيق منه ومن فضله وهو الخالق لهذه وهذه ،كما خلق أجزاء الأرض، هذه قابلة للنبات وهذه غير قابلة له ،وخلق الشجر ،هذه تقبل الثمرة وهذه لا تقبلها ،وخلق النحلة قابلة لأن يخرج منه بطونها شراب مختلف ألوانه، و الزنبور غير قابل لذلك .وخلق الأرواح الطيبة قابلة لذكره وشكره وحجته وإجلاله وتعظيمه وتوحيده ونصيحة عباده وخلق الأرواح الخبيثة غير قابلة لذلك بل لضده، وهو الحكيم العليم .
تفسير أول سورة العنكبوت قال الله تعالى « ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون.ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين. أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون. من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم .ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين .والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم و لنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون. ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعمها إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين .ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين » سورة العنكبوت ،الآية 1-11 .
وقال الله تعالى : « أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب » البقرة :214،قال الله تعالى لما ذكر المرتد والمكره بقوله: «من كفر بالله من بعد إيمانه» النحل :106،قال بعد ذلك « ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» النحل 110
فالناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين : إما أن يقول أحدهم آمنا وإما ألا يقول آمنا ،بل يستمر على عمل السيئات .فمن قال آمنا امتحنه الرب عز وجل وابتلاه وألبسه الابتلاء والاختبار ليبين الصادق من الكذاب ،ومن لم يقل آمنا فلا يحسب أنه يسبق الرب لتجربته ،فإن أحدا لن يعجز الله تعالى هذه سنته تعالى يرسل الخلق فيكذبهم الناس ويؤذونهم ،قال تعالى: «وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن» ،وقال تعالى: « كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون » الذاريات :52 وقال تعالى: « ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك» فصلت :43 ومن آمن بالرسل وأطاعهم عادوه وآذوه فابتلي بما يؤلمه،وإن لم يؤمن بهم عوقب فحصل ما يؤلمه أعظم وأدوم ،فلا بد من حصول الألم لكل نفس سواء آمنت أم كفرت ،لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة،والكافر تحصل له النعمة ابتداء ثم يصير في الألم.
رأي الشافعي في الابتلاء والتمكن سأل رجل الشافعي فقال : يا أبا عبد الله ، أيما أفضل للرجل أن يمكَّن أو يبتلى ؟ فقال الشافعي : لا يمكَّن حتى يبتلى فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، فلما صبروا مكنهم ، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم ألبتة .
من أرضى الله وأسخط الناس وهذا أصل عظيم فينبغي للعاقل أن يعرفه ، وهذا يحصل لكل أحد فإن الإنسان مدني بالطبع لا بد له من أن يعيش مع الناس ، والناس لهم إرادات وتصورات يطلبون منه أن يوفقهم عليها وإن لم يوافقهم آذوه وعذبوه، وإن وافقهم حصل له الأذى والعذاب تارة منهم وتارة من غيرهم.
ومن اختبر أحواله وأحوال الناس وجد من هذا شيئاً كثيراً كقوم يريدون الفواحش والظلم ولهم أقوال باطلة في الدين أو شرك ، فهم مرتكبون ما ذكره الله من المحرمات في قوله تعالى: « قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون » سورة الأعراف : الآية 33، وهم في مكان مشترك كدار جامعة أو خان أو قيسرية أو مدرسة أو رباط أو قرية أو درب أو مدينة فيها غيرهم ، هم لا يتمكنون مما يريدون إلا بموافقة أولئك ، أو بسكوتهم عن الإنكار عليهم فيطلبون من أولئك الموافقة أو السكوت ، فإن وافقهم أو سكتوا سلموا من شرهم في الابتلاء ، ثم قد يتسلطون هم أنفسهم على أولئك يهينونهم ويعاقبونهم أضعاف ما كان أولئك يخافون ابتداء كمن يطلب منهم شهادة الزور أو الكلام في الدين بالباطل ، إما في الخبر وإما في الأمر أو المعاونة على الفاحشة والظلم ، فإن لم يجبهم آذوه وعادوه ، وإن أجابهم فهم أنفسهم يتسلطون عليه فيهينونه ويؤذونه أضعاف ما كان يخافه وإلا عذب بغيرهم .
فالواجب ما في حديث عائشة الذي بعثت به إلى معاوية ، ويروى موقوفاً ومرفوعاً: « من أرضى الله بسخط الناس كفاه الله مؤونة الناس » وفي لفظ « رضي الله عنه وأرضى عنه الناس ، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً » وفي لفظ « عاد حامده من الناس ذاما » .
وهذا يجري فيمن يعين الملوك والرؤساء على أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع المنتسبين إلى العلم والدين على بدعهم ، فمن هداه الله وأرشده امتنع من فعل المحرم وصبر على أذاهم وعداوتهم ، ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما جرى للرسل وأتباعهم مع من آذاهم وعاداهم ، مثل المهاجرين في هذه الأمة ومن ابتلي من علمائها وعبادها وتجارها وولاتها.
لا بد من الابتلاء وقد يجوز في بعض الأمور إظهار الموافقة وإبطان المخالفة كالمكره على الكفر كما هو مبسوط في غير هذا الموضع ، إذ المقصود هنا : أنه لا بد من الابتلاء بما يؤذي الناس ، فلا خلاص لأحد مما يؤذيه ألبتة ؛ ولهذا ذكر الله تعالى في غير موضع أنه لا بد أن يبتلي الناس ، والابتلاء يكون بالسراء والضراء ، ولا بد أن يبتلي الإنسان بما يسره وما يسوءه ، فهو محتاج إلى أن يكون صابراً شكوراً ، قال تعالى : «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً » سورة الكهف : الآية 7، وقال تعالى : « و بلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون » ، وقال تعالى : «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ، ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى » طه : 123-124، وقال تعالى : «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين» آل عمران : 142.
هذا في آل عمران . وقد قال قبل ذلك في البقرة _ فإن البقرة نزلت أكثرها قبل آل عمران _: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب» سورة البقرة : الآية 214، وذلك أن النفس لا تزكو وتصلح حتى تمحص بالبلاء ، كالذهب الذي لا يخلص جيده من رديئه حتى يفتن في كبير الامتحان إذا كانت النفس ظالمة وهي منشأ شر يحصل للعبد ، فلا يحصل له شر إلا منها ، قال تعالى: « وما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك» النساء : 79، وقال تعالى : « أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم » آل عمران : 165، وقال : « وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير » الشورى : 30 ، وقال : «ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» الأنفال : 53 ، « وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دونه من وال » الرعد : 11 .
وقد ذكر عقوبات الأمم من آدم إلى آخر وقت ، وفي كل ذلك يقول إنهم ظلموا أنفسهم فهم الظالمون لا المظلومون ، وأول من اعترف بذلك أبواهم ، «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين » سورة الأعراف : الآية 23وقال لإبليس : « لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين » ، وإبليس إنما اتبعه الغواة منهم كما قال : « فبما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين » ، وقال تعالى « إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين » ، والغي إتباع هوى النفس ، وما زال السلف معترفين بذلك كقول أبي بكر وعمر وابن مسعود : أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه . وفي الحديث الإلهي حديث أبي ذر الذي يرويه الرسول عن ربه عز وجل: « يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه »
سيد الاستغفار
وفي الحديث الصحيح ، حديث سيد الاستغفار ، أن يقول العبد : «اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك ، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي و أبوء بذنبي فاغفر لي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها إذا أصبح موقناً بها فمات من يومه دخل الجنة ، ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة » . رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة
وفي حديث أبي بكر الصديق من طريق أبي هريرة وعبد الله بن عمرو : أن رسول الله ﷺ علمه ما يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه : «اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه ، أشهد ألا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءاً أو أجره إلى مسلم ، قله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك » .
وكان النبي ﷺ يقول في خطبته: «الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا» . وقد قال النبي ﷺ: «إني آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تتهافتون تهافت الفراش» رواه البخاري والترمذي والنسائي وابن حنبل بألفاظ مختلفة ، شبههم بالفراش لجهله وخفة حركته، وهي صغيرة النفس، فإنها جاهلة سريعة الحركة.
وفي الحديث: «مثل القلب مثل ريشة ملقاة بأرض فلاة» . وفي حديث آخر: «للقلب أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا» . ومعلوم سرعة حركة الريشة والقدر مع الجهل، ولهذا يقال لمن أطاع من يغويه: إنه استخفه. قال عن فرعون إنه استخف قومه فأطاعوه. وقال تعالى: «فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون» سورة الروم الآية 60 فإن الخفيف لا يثبت بل يطيش، وصاحب اليقين ثابت، يقال: أيقن إذا كان مستقرًّا، واليقين: استقرار الإيمان في القلب علماً وعملاً، فقد يكون علم العبد جيداً لكن نفسه لا تصبر عند المصائب بل تطيش.
أصل الغضب
قال الحسن البصري: إذا شئت أن ترى بصيراً لا صبر له رأيته، وإذا شئت أن ترى صابراً لا بصيرة له رأيته، فإذا رأيت بصيراً صابراً فذاك : قال تعالى: «وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون» سورة السجدة، الآية 24 ، ولهذا تشبه النفس بالنار في سرعة حركتها وإفسادها وغضبها، وشهوتها من النار والشيطان من النار.
وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال: «الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ» رواه أحمد في مسنده 4/226، وفي الحديث الآخر: «الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم» ، ألا ترى إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه، وهو غليان دم القلب لطلب الانتقام. وفي الحديث المتفق على صحته: «الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم»
وفي الصحيحين: «أن رجلين استبا عند النبي ﷺ وقد اشتد غضب أحدهما، فقال النبي صلى الله عليه: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد، لو قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» رواه أحمد 5/240، وقد قال تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم، وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم، وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم» فصلت : 34-36، وقال تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن السيئة نحن أعلم بما يصفون، وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون» المؤمنون: 96 - 98.