الرئيسيةبحث

كتاب الاعتبار/الباب الأول/اختبارات وملاحظات

كتاب الاعتبار
اختبارات وملاحظات
المؤلف: أسامة بن المنقذ



اختبارات وملاحظات



الخوف من الفأرة والحية

ومن عجائب القلوب أن الأنسان يخوض المغامرات ويركب الأخطار ولا يرتاع قلبه من ذلك، ويخاف ممن لا يخاف منه الصبيان والنسوان. ولقد رأيت عمي عز الدولة أبا العساكر سلطان رحمه الله وهو من أشجع أهله له مواقع المشهورة والطعنات المذكورة، وهو إذا رأى الفأرة تغيرت صورة وجهه ولحقه كالزمع من نظرها وقام من الموضع الذي يراها فيه. وكان في غلمانه رجلاً شجاع معروف بالشجاعة والأقدام اسمه صندوق يفزع من الحية حتى يخرج عقله. فقال له والدي رحمه الله وهو واقف بين يدي عمي يا صندوق أنت رجل جيد معروف بالشجاعة ما تستحي تفزع من الحية؟ قال يا مولاي أي شيء في هذا من العجب؟ في حمص رجل شجاع بطل من الأبطال يفزع من الفأر ويموت - يعني مولاه. فقال عمي رحمه اللهقبحك الله يا كذا وكذا. ورأيت مملوكاً لولدي يرحمه الله يقال له لؤلؤ، وكان رجلاً جيداً ومقداما. وقد خرجت ليلة من شيزر ومعي بغال كثيرة وبهائم أريد احمل عليها من الجبل خشباً قد قطعته هناك لناعورة لي، فسرنا من ظاهر شيزر ونحن نظن أن الصبح قد دنا، فوصلنا إلى قرية يقال لها دبيس، وما تنصف الليل. فقلت أنزلوا ما ندخل الجبل في الليل. فلما نزلنا واستقرنا سمعنا صهيل حصان فقلناالإفرنج! فركبنا في الظلام وأنا أحدث نفسي ان أطعن رجل واد منهم وآخذ حصانهم ويأخذون دوابنا والرجل الذي مع الدواب، فقلت للؤلؤ وثلاثة من الغلمانتقدمونا اكشفوا هذا الصهيل. فتقدمونا يركضون فلقوا أولئك وهم في جمع وسواد كثير، فسبق إليهم لؤلؤ وقال تكلموا وإلى قتلتكم كلكم وهو رام جيد، فعرفوا صوته وقال وا حاجب لؤلؤ؟ قال نعم. وإذ هم عسكر حماة مع الأمير سيف الدين سوار رحمه الله قد أغار على بلاد الإفرنج وعاد وكان هذه أقدامه على ذلك الجمع، وإذا رأى في بيته حية خرج منهزماً وقال لامرأتهدونك والحية! فتقوم إليها تقتلها.

جرح وضبعة

والمحارب ولو انه الأسد اتلفه واعجز اليسير من العوائق كما أصابني على حمص. خرجت وقتل حصاني وضربت خمسين سيفاً - كل ذلك لنفاذ المشيئة، ثم لتواني الركابي في تركيب عنان اللجام، فإنه عقده في الباشات ولم يشقه. فلما جذبته أريد الخروج من بينهم انحل العنان من عقدته في البشات، فنالني ما نالني. وقد كان صاح صائح يوماً بشيزر من قبله فلبسنا وفزعنا. فكان الصائح كذاباً. فرحل أبي وعمي رحمهما الله ووقفت بعدهما، فوقع الصائح من الشمال من جانب الإفرنج، فركضت حصاني إلى الصائح، فرأيت الناس في المخاض يركب بعضهم بعضاً وقال واالإفرنج! فعبرت المخاض وقلت للناسلا بأس عليكم أنا دونكم! ثم طلعت أركض إلى رابية القرافطة، وإذا الخيل مقبلة في جمع كثير، وقدم تقدم منهم فارس لابس ذردية وخوذة وقد دنا مني فقصدته استفرص بعضه من أصحابي واستقبلني، فحين حركت حصاني إليه انقطع ركابي وما بقي لي مندوحة عن لقائه فقمت إليه بلا ركاب، فلما تدنينا ولم يبقى إلا الطعن سلم علي وخدمني وإذا هو السلار زين الدين إسماعيل بن عمر بن بختيار، وكان نهض مع عسكر حماة إلى بلد كفرطاب، فخرج عليهم الإفرنج فعادوا إلى شيزر منهزمين، وتقدمهم الأمير سوار رحمه الله. فسبيل الرجل المحارب يتفقد عدة حصانه، فإن ايسر الأشياء وأقلها يؤذي ويهلك، كل ذلك مقرون بما يجري به الأقدار والأقضية. وقد شهدت قتال الأسد في مواقف لا يحصيها، وقتلت عدة منها لم يشركني أحد في قتلها، فما نالني من شيء منها أذى. وخرجت يوما مع والدي يرحمه الله إلى الصيد في جبل قريب من البلد نصيد منه الحجل بالبزاة، ولم يكن الوالد رحمه الله ونحن معه والبازيارية على الجبل وبعض الغلمان والبازيارية أسفل من الجبل للتخليص من الزاة والوقوف على النبج، فقامت لنا ضبعة فدخلت مغارة، وفي تلك المغارة محجر دخلت فيه فصحت بغلام لي ركابي اسمه يوسف خلع ثيابه وأخذ سيكنه ودخل في ذلك المحجر، وأنا في يدي قنطارية مستقبل الموضع إذا خرجت طعنتها، فصاح الغلام إليكم قد خرجت! فطعنتها أخطأتها لأن الضبعة رقيقة الحجم. وصاح الغلامعندي ضبعة أخرى! فخرجت في إثرها، فقمت وقفت في باب المغارة وهي ديقة الباب متعليه مقدار قامتين أنظر ما يعمل أصحابنا الذين في الوطا بالضباع التي نزلت إليهم، فخرجت ضبعة ثالثة، وأنا مشغول بالنظر إلى الأوائل، فندستني رمتني من باب المغارة إلى قراره التي تحته فكادت تكسرني فتأذيت بضبعه وما تأذيت بالسباع، فسبحان مقدر الأقدار ومسبب الأسباب.

الخادم والفصاد ونشر الساق وغيره

وشاهدت من ضعف نفوس بعض الرجال وخورهم ما لا كنت أظن بالنساء. فمن ذلك أنني كنت على باب دار والدي رحمه الله وأنا صبي وعمري دون العشر سنين، فلطم غلام لوالدي اسمه محمد العجمي صبياً من خدام الدار فانهزم منه وجاء تعلق بثوبي، فلحقه وهو ماسك بثوبي فلطمه، فضربته بقضيب كان في يدي فدفعني، فجذبت من وسطي سكيناً ضربته بها فوقعت في بزه الأيسر فوقع. وجاءنا غلام كبير لوالدي يقال له القائد أسد فوقف عليه ونظر الجرح وإذا تنفس طلع منه الدم مثل فواقع الماء، فاصفر وارتعد ووقع مغشياً عليه، فحمل إلى داره وكان يسكن معنا في الحصن على تلك الحال، فما أفاق من غشيته إلى آخر النهار، وقد مات المجروح وقبر. ومما يقارب ذلككان يزورنا رجل من أهل حلب فيه فضل وأدب يلعب بالشطرنج طبقة ويلعب بها غائباً يقال له أبو المرجى سالم بن قانت رحمه الله، فكان يقيم عندنا سنة ولأكثر ولأقل، فربما مرض فيصف له الطبيب الفصاد، فإذا حضر الفصاد تغير لونه وأرتعد، فإذا فصده غشي عليه فلا يزال في غشيه حتى يشد فصاده ثم يفيق. ومما يضاد ذلك انه كان في أصحابنا من بني كنانة رجل أسود يقال له عي ابن فرج طلعت في رجله حبة فتخبثت وتناثرت أصابعه وانتنت رجله فقال له الجراحيما لرجلك إلا القطع وإلا تلفت. فحصل عنده منشاراً وجعل ينشر ساقه حتى يغلبه فيض الدم ويغشى عليه، فإذا من أجلد الرجال وأقواهم، فكان يركب في سرجه بركاب واحد، وفي الجانب الأخر سير تكون فيه ركبته، ويحضر القتال ويطاعن الإفرنج وهو في تلك الحال، وكنت أراه رحمه الله لا يستطيع رجل يشابكه ولايقابضه، وكان خفيف الروح مع قوته وشجاعته. فأصبح يوماً من الأيام وهو وبنو كنانة يسكنون حصننا حصن الجسر، أرسل إلى رجال من وجوه بني كنانة فقال اليوم يوم مطير وعندي فضلة نبيذ ومأكول تتفضلون علي بالحضور لنشرب. فاجتمعوا عنده فجلس في باب البيت وقال هل فيكم من يخرج من الباب إن لم أشأ؟ يشير إلى قوته. قال والا والله. قال هذا يوم مطير، وما أصبح في داري دقيق ولا خبز ولا نبيذ، وما فيكم إلا من في داره ما يحتاجه ليومه، أنفذوا إلى دوركم أحضروا طعامكم ونبيذكم، والبيت من عندي، ونجتمع اليوم نشرب ونتحدث. قال وا كلهمنعم ما رأيت يا أبا الحسن! وأنفذوا واحضروا ما في دورهم من طعام وشراب وقضوا نهارهم عنده، وكان رجلاً محترماً، فتعالى من خلق الخلق أطواراً أين جلد هذا وقوة نفسه من خور أولئك وضعف نفوسهم؟ وقريب من هذا ان رجلاً من بني كنانة حدثني بحصن الجسر ان رجلاً في الحصن استسقى فشق بطنه وبرئ وعاد صحيحاً كما كان. فقلت أريد أبصره واستخبره. وكان الذي حدثني رجل من بني كنانة يقال له أحمد بن معبد بن أحمد فاحضر ذلك الرجل عندي فإستخبرته عن حاله وكيف فعل في نفسه فقال أنا رجل صعلوك وحيد استسقى جوفي وكبرت حتى عجزت عن التصرف وتبرمت بالحياة فأخذت موسي فضربت به فوق سرتي في عرض جوفي، شققته فخرج منه قدر طباختين ماء يعني قدرين. وما زال الماء ينزل منه حتى ضمر جوفي، فخيطته وداويت الجرح فبرأ، فزال ما كان بي. وأراني موضع الشق في جوفه أطول من شبر ولا شبهة ان هذا الرجل كان له في الأرض رزق يستوفيه. وإلا فقد رأيت من استسقى وفصد الطبيب جوفه فخرج منه الماء كما خرج من الذي بزل نفسه إلا أنه مات من ذلك الفصد، لكن الأجل حصن حصين.

فرسان الإفرنج يهاجمون شيزر ويفشلون

النصر في الحرب من الله تبارك وتعالى لا بترتيب وتدبير ولا بكثرة نفير ولا نصير، وقد كنت إذا بعثني عمي رحمه الله لقتال أتراك أو إفرنج أقوله لهيا مولاي أمرني بما أتدبر به إذا لقيت العدو. فيقوليا بني الحرب تدبر نفسها وصدق. وكان امرني ان آخذ امرأته وأولاده خاتون بنت تاج الدولة تتش والعسكر وامضي أوصلهم إلى حصن مصياث وهو إذ ذاك له، وكان يشفق عليهم من حر شيزر، فركبت وركب أبي وعمي رحمهما الله معنا إلى بعض الطريق، وعاد وليس معهما إلى المماليك الصغار لجر الجنائب وحمل السلاح والعسكر كله معي. فلما قربا من المدينة سمعا طبل الجسر يضرب. فقال اشيء قد جرى في الجسر فدفعا خيلهما تناقلا ونحباً إلى الجسر. وكان بيننا وبين الإفرنج لعنهم الله هدنة. فنفذوا من كشف لهم مخاضة يعبرون منها إلى مدينة الجسر وهي في الجزيرة لا يعبر إليها إلا من الجسر معقود بالحجر والكلس لا يصل الإفرنج إليه، فدلهم ذلك الجاسوس على مخاضه، فركبوا جميعهم من افامية فأصبحوا إلى ذلك الموضع الذي دلهم عليه، عبروا الماء وملكوا المدينة ونهبوا وسلبوا وقتلوا ونفذوا بعض السبي والنهب إلى افامية وملكوا الدور، وعلم كل واحد منهم صليبه على دار وركز عليه رايته. فلما اشرف ابي وعمي رحمهما الله على الحصن كبر أهل الحصن وصاحوا. فألقى الله سبحانه وتعالى على الإفرنج الرعب والخذلان فذهلوا على الموضع الذي عبروا منه ورموا خيلهم وهم بدروعهم عليها في غير مخاض، فغرق منهم جماعة كثيرة كان الفارس يغوص في الماء فيسقط عن سرجه ويرسب في الماء ويطلع الحصان. ومضى من سلم منهم منهزمين لا يلوي بعضهم عل بعض وهم في جمع كثير، وأبي وعمي معهما عشرة مماليك صبيان. فأقام عمي في الجسر ورجع أبي إلى شيزر، وواصلت أنا أولاد عمي إلى مصياث وعدت من يومي وصلت العشاء فأخبرت بما جرى، فحضرت عندى والدي رحمه الله وشاورته في ان امضي إلى عمي إلى حصن الجسر. قال تصل في الليل وهم نيام. ولكن سر عليهم من بكرة. فأصبحت سرت وحضرت عنده وركبنا وقفنا على ذلك الموضع الذي غرق فيه الإفرنج ونزل إليه جماعة من السباح فأخرجوا جماعة من فرسانهم موتى. فقلت لعمييا مولاي ما نقطع رؤوسهم وننفذها إلى شيزر؟ قال افعل فقطعنا منهم نحو من العشرين رأساً فكان الدم يسيل منهم كأنهم قد قتلوا تلك الساعة ولهم يوم وليلة. وأظن الماء حفظ فيهم دمهم.

وغنم الناس منهم سلاحاً كثيراً من الزرديات والسيوف والقنطاريات والخوذ والكلسات والزرد. ورأيت رجلاً من الفلاحين الجسر حضر عند عمي ويده في ثيابه. فقال له عمي يمزح معهأي شيء أعزلت لي من الغنيمة؟ قال أعزلت لك حصاناً بعدته وزرديته وترساً وسيفاً. ومضى أحضر الجميع، فأخذ عمي العدة وأعطاه الحصان وقال أي شيء بيدك؟ قال يا مولاي تقابضت أنا والإفرنجي ولا معي عدة ولا سيف فرميته ولكمت وجهه وعليه اللثام الزرد حتى أسكرته وأخذت سفه وقتلته به، وتهرأ الجلد على عقد أصابعي وورمت يدي فما تنفعني. وأظهر لنا يده وهي كما قال قد انكشفت عظام أصابعه.

وكان في جند الجسر رجل كردي يقال له أبو الجيش وله بنت اسمها رفول قد سباها الإفرنج، وهو قد توسوس عليها يقول لكل من لقيه يوماً سبيت رفول! فخرجنا من الغد نسير على النهر فرأينا في جانب الماء سواداً فقلنا لبعض الغلمان اسبح ابصر ما هذا السواد. فمضى إليه فإذا ذلك السواد رفول عليها ثوب أزرق وقد رمت نفسها من على فرس الإفرنجي الذي أخذها فغرقت، وعلق ثوبها في شجرة الصفصاف، فسكنت لوعة أبيها أبي الجيش فكانت الصيحة التي وقعت في الإفرنج وهزيمتهم وهلاكهم من لطف الله عز وجل لا بقوة ولا بعسكر. فتبارك الله القادر على ما يشاء. وقد يكون الترهيب في بعض الأوقات نافع في الحرب. من ذلك ان أتابك وصل الشام وأنا معه في سنة تسع وعشرين وخمس مائة وصار قاصداً دمشق. فلما نزلنا القطيفة قال لي صلاح الدين رحمه اللهاركب وتقدمنا إلى فستقة. أقم على الطريق لا يهرب أحد من العسكر إلى دمشق. فتقدمت ساعة وإذا صلاح الدين قد أتى في قلة من الصحابة. فرأينا بعذراء دخاناً فأرسل خيلاً تبصر ما هو دخان. فإذا هم قوم من عسكر دمشق يحرقون التبن الذي في عذراء فانهزموا، فتتبعهم صلاح الدين ونحن معه لعل في ثلاثين أربعين فارساً فوصلنا القصير وإذا عسكر دمشق جميعه في القصير قاطع الجسر ونحن عند الخان فوقفنا مستترين بالخان، ويخرج منا خمسة ستته فوارس حتى يبصرهم عسكر دمشق ويعودون إلى خلف الخان نوهمهم ان لنا كميناً ونفذ صلاح الدين فارساً إلى أتابك يعرفه ما نحن فيه. فرأينا نحوًا من عشرة فوارس مقبلين إلينا مسرعين والعسكر خلفهم متتابع. فوصلنا فإذا هو أتابك قد تقدم والعسكر في إثره. فأنكر على صلاح الدين فعله وقال تسرعت إلى باب دمشق بثلاثين فارساً لتكسر يا موسى ولامه وهم يتكلمون بالتركي ولا أدري ما يقولون. فلما وصلنا أوائل العسكر قلت لصلاح الدينعن آمرك اخذ هؤلاء الذين قد وصلوا وأعبر إلى خيل دمشق الواقفة مقابلهم اقلعهم. قال لا كذا وكذا ممن ينصح في خدمة هذا! ما تسمع أي شيء قد عمل بي؟ ولولا لطف الله تعالى ثم ذلك الترهيب والتخييل كانوا قلعونا. وجرى لي مثل ذلك وقد سرت مع عمي رحمه الله من شيزر يريد كفرطاب ومعنا خلق من الفلاحين والصعاليك لنهب ما على كفرطاب من غلة وقطن. فانتشر الناس بالنهب وخيل كفرطاب قد ركبت ووقفت عند البلد، ونحن بينهم وبين الناس المنتشرين في الزرع والقطن، وإذا فارس من أصحابنا يركض من الطلائع قال جاءت خيل افامية! فقال عمي تقف أنت مقابل خيل كفر طاب، واسير أنا بالعسكر ألقي خيل افامية. فوقفت في عشر فوارس من شجر الزيتون متوارين، ويخرج منا ثلاثة أربعة يخيلون للفرنج ويعودون إلى شجر الزيتون، والإفرنج يعتقدونا اننا في جماعة فيهم يجتمعون ويصيحون ويدفعون خيلهم إلى ان يقربوا منا ونحن لا نتزعزع فيرجعوا، فما زلنا كذلك حتى عاد عمي وانهزموا الإفرنج الذين جاءوا من افامية. فقال له بعض غلمانهيا مولاي ترى ما فعل يعنيني؟ تخلف عنك وما سار معك للقاء خيل افامية. فقال له عميلولا وقوفه في عشرة فوارس مقابل خيل كفرطاب وراجلها كانوا اخذوا هذا العالم كله. فكان الترهيب والتخيل للإفرنج في ذلك الوقت انفع من قتالهم لأننا كنا قلة وهم في جمع كثير.

الخام المسروق وقلة الخبرة

وجرى لي مثل ذالك بدمشق، كنت يوماً مع الأمير معين الدين رحمه الله فأتاه فارس فقال قد أخذ الحرامية قافلة في العقبة حاملة خام فقال لينركب إليهم. فقلت الأمر لك، أمر الشاوشية تستركب العسكر معك. قال أي شيء حاجتنا إلى المعسكر؟ قلتوما يضرنا من ركوبهم؟ قال ما نحتاجهم. وكان رحمه الله من أشجع الفرسان، واكن قوة النفس في بعض المواضع تفريط ومضرة. فركبنا في نحو من عشرين فارساً، فلما أن ضحونا نفذ فارسين كذا وفارسين كذا وفارسين كذا وفارساً كذا يكشفون الطرقات. وسرنا نحن في قلة فحانت صلاة العصر. فقلت ا لغلام لييا سونج أشرف مغرباً إلى ما نصلي. فما سلمنا إلا والغلام يركض. قال هذه الرجالة وعلى رؤوسهم شقاق الخام في الوادي! فقال معين الدين رحمه الله اركبوا. قلتأمهل علينا نلبس كزاغنداتنا فإذا رأيناهم رميناهم برؤوس الخيل وطعناهم فما يدرون كثير نحن أو قليل. قال إذا وصلنا إليهم لبسنا. وركب وسرنا إليهم فلحقناهم في وادي حلبون وهو واد ضيق لعل ما بين الجبلين خمسه أذرع، والجبال من جانبيه وعره رفيعة وطريقه ضيقه إنما يمشي فيها فارس، وهم قي سبعين رجلا بالقسي والنشاب. فلما وصلناهم كان غلماننا خلفنا بسلاحنا لا يصلون إلينا وأولئك قوم منهم في الوادي ومنهم قوم في سفح الجبل، فظننت ان الذين في الوادي من أصحابنا فلاحي الضياع قد فزعوا خلفهم والذين في الجبل هم الحراميه، فجذبت سيفي وحملت على الذين في السفح. فلما طلع الحصان في ذلك الوعر إلا بآخر روحه. فلما صرت إليهم وحصاني قد وقف ما بقي يندفع استوفى واحد منهم نشبته في فوقه ليضربني، فصحت عليه وتهددت فمسك يده عني، وعدت انزلت الحصان وما اصدق اخلص منهم.

وطلع الأمير معين الدين إلى أعلى الجبل يظن أن هناك من الفلاحين من يستفزهم، وصاح إلي من أعلى الجبللا تفارقهم حتى أعود وتراي عنا. فرجعت إلى الذين في الوادي وقد علمت انهم من الحرامية فحملت عليهم وحدي لضيق المكان فانهزما وراموا ما كان معهم من الخام. وخلصت منهم بهيمتين كانت عليهما خام ايضاَ، وطلعوا إلى المغارة في سفح الجبل ونحن نراهم وما لنا إليهم سبيل. وعاد الأمير معين الدين رحمه الله آخر النهار وما وجد من يستفزه، ولو كان معنا العسكر كنا ضربنا رقابهم واستخلصنا كل ما معهم.

وقد جرى لي مرة أخرى مثل هذا والسبب فيه نفاذ المشيئة ثم قلة المخبرة بالحرب، وذلك اننا سرنا مع الأمير قطب الدين خسرو بن تليل من حماة نريد دمشق إلى خدمة الأمير العادل نور الدين رحمه الله فوصلنا إلى حمص. فلما عزم على الرحيل على طريق بعلبك قلت لهأنا أتقدم ابصر الكنيسة بعلبك إلى حين تصل. قال افعل. فركبت ومضية، فأنا في الكنيسة جاءني فارس من عنده يقولقد خرجت رجالة حرامية على قافلة أخذها، فاركب ولقني إلى الجبل فركبت ولقيته، فصعدنا في الجبل فلقينا الحرامية في وادي تحتنا، والجبل الذي نحن عليه محيط بذلك الوادي. فقال له بعض أصحابهتنزل إليهم. قلتلا تفعل، ندور على الجبل ونصير فوق رؤوسهم نحول بينهم وبين طريقهم إلى المغرب ونأخذهم. وكانوا من بلاد الأفرنج، فقال آخرإلى ما ندور على الجبل نكون قد وصلنا إليهم وأخذناهم فنزلنا. فلما رأنا الحرامية صعدوا في الجبل. فقال لياصعد إليهم. فحرصت على الطلوع، فما قدرت. وكان على الجبل من خيالة ستة سبعة فترجلوا إليهم وجاءوا يقدون خيلهم معهم وأولئك في جماعة. فحملوا على أصحابنا فقتلوا منهم فارسين وأخذوا حصانيهما وحصاناً آخر وسلم صاحبه، ونزلوا من جانب الجبل الأخر بالغنية. وعدنا نحن وقد قتل من فارسان وأخذ منا ثلاثة حصن وقافلة. فهذا تغرير لقلة المخبرة بالحرب.

الحصار

فأما التغرير في الأقدام فما هو للزهد في الحياة، وإنما سببه ان الرجل إذا عرف بالأقدام ووسم بأسم الشجاعة وحضر القتال طالبته همته بفعل ما يذكر به ويعجز عنه سواه، وخافت نفسه الموت وركوب الخطر كادت تغلبه وتصده عما يريد يفعله حتى يضطرها ويحملها على مكروهها، فيعتريه الزمع وتغير اللون لذلك. فإذا دخل في الحرب بطل روعه وسكن جأشه. ولقد حضرت حصار الحصن الصور مع ملك الأمراء أتابك زنكي رحمه الله وتقدم شيء من ذكره، وكان للأمير فخر الدين أرسلان بن داود بن سقمان بن ارتق رحمه الله، وكان محشوناً بالرجال الجرخية. وذلك بعد كسرته على آمد، فأول ما ضربت الخيام نفذ رجلاً من أصحابه صاح تحت الحصنيا جماعة الجرخية، يقول لكم أتابكونعمة السلطان لئن قتل من أصحابي رجلاً واحد بنشابكم لأقطعن أيديكم! ونصب على الحصان المناجيق فهدمت جانباً منه وبلغ الهدم منه بحيث نطلع الرجال، فجاء رجل من جنادرية أتابك من أهل حلب يقال له ابن العريق طلع في تلك الثغرة وضاربهم بسيفه فجرحوه عدة جراح ورموه من البرج إلى الخندق، وتكاثر الناس عليهم في تلك الثغرة فملكوا الحصن، وطلع نواب أتابك إليه فأخذوا مفاتيحه نفذها إلى حسام الدين تمرتاش بن إيلغازي بن أرتق وأعطاه الحصن. واتفق ان نشابة جرخ ضربت رجلاً من الخرسانية في ركبته قطعت الفلكة التي على المفصل الركبة فمات. فأول ما ملك أتابك الحصن استدعى الجرخية وهم تسعة نفر، فجاءوا وقسيهم موترة على أكتافهم، فأمر بجز إبهاماتهم من زنودهم فاسترخت أيديهم وتلفت.

وأما ابن العريق فداوى جراحه وبرء بعد ان شارف على الموت، وكان رجلاً شجاعاً يحمل نفسه على الأخطار. ورأيت مثل ذلك وقد نزل أتابك على الحصن البارعة وحوله صفا صخر لا تنضرب عليه الخيام، فنزل أتابك في الوطا ووكل به الأمراء بالنوبة. فركب إليه أتابك يوماً والنوبة للأمير أبي بكر الدبيسي وما معه أهبة القتال، فوقف أتابك وقال لأبي بكر تقدم قاتلهم. فزحف بأصحابه يقال له مزيد، لم يكن قبل ذلك من المشهورين بالقتال والشجاعة، فقاتل قتالاً عظيماً وضرب فيهم بسيفه وفرق جمعهم وجرح عدة جراح، فرأيته قد حملوه إلى العسكر وهو في آخر رمقه ثم عوفي، وقدمه أبو بكر الدبيسي وخلع عليه وجعله من جملة جنادريته.

الغسياني يقطع من يشاء نصفين ويسبي المعاهدين

كان أتابك يقول لي ثلاثة غلمان أحدهم يخاف الله تعالى ولا يخافني يعني زين الدين علي كوجك رحمه الله، والأخر يخافني وما يخاف الله تعالى يعني نصير الله صنقر رحمه الله والآخر ما يخاف الله ولا يخافني يعني صلاح الدين محمد بن أيوب الغسياني رحمه الله. وشهدت منه تجاوز الله عنه، ما يحقق قول أتابك، وذلك أنا زحفنا يوماً على حمص وقد أصاب الأرض مطراً عظيم حتى ما بقيت الخيل تتصرف من ثقل الأرض بالوحل والرجالة يتناوشون وصلاح الدين واقف وأنا معه، ونحن نرى الرجالة بين أيدينا، فعدا واحد من الرجالة إلى رجالة حمص أختلط بهم، وصلاح الدين يراه فقال لواحد من أصحابههات ذاك الرجل الذي كان إلى جانبه. فمضى أحضره، فقال لهمن هذا الذي كان انهزم من جانبك دخل إلى حمص؟ قال والله يا مولاي ما اعرفه. قال وسطوه قلتيا مولاي تعتقله وتكشف عن ذلك الرجل فأن كان يعرفه أو مته بنسب ضربت رقبته، وإلا ترى فيه رأيك. فكأنه جنح إلى قولي، فقال غلام له من خلفه يهرب واحد يؤخذ الذي كان في جانبه تضرب رقبته أو يوسط. فأحنقه كلامه وقال وسطوه، فرفسوه كالجاري العادة ووسطوه وما له ذنب إلا اللجاج وقلة مراقبة الله تعالى. وحضرته مرة أخرى بعدما وصلنا من مصاف بغداد، وأتابك يجتهد يظهر تجلداً وقوة وقد أمر صلاح الدين بالمسير إلى الأمير قفجاق يكبسه، فسرنا من الموصل ستة أيام ونحن في غاية الضعف، فوصلنا موضعه وجدناه قد تعلق في جبال كوهستان، فنزلنا على حصن يقال له ماسر ونزلنا عليه طلوع الشمس، وامرأة طلعت من الحصن وقال تمعكم خام؟ قلناأي وقت هذا للبيع والشراء؟ قال تنريد الخام نكفنكم به. فإلى خمسة أيام تمتون كلكم. تريد ان ذلك الموضع وخم. فنزل ورتب الزحف من بكرة وأمر النقابين الدخول تحت البرج من تلك البراج، والحصن كله معمور بالطين، والرجال الذين فيه من الفلاحين، فزحفنا إليه وطلعنا إلى التلة، ونقب الخرسانية برجاً فوقع وعليه إثنان، أما الواحد فمات أما الآخر فأخذوه أصحابنا وجاءوا به إلى صلاح الدين. قال وسطوه. قلت يا مولاي هذا شهر رمضان، وهذا رجلاً مسلم لانتقلد إثمه قال وسطوه حتى يسلموا الحصن قلتيا مولاي الحصن تمتلكه. قال وسطوه، ولج فيه فوسطوه، وأخذنا الحصن في ساعة تلك، فجاء إلى الباب يريد النزول من الحصن، فكان معه جماعة وغلبة. فوكل به قوماً من أصحابه ومضى نزل في خيمته لحظة بقدر ما تفرق العسكر الذي كان معه، ثم ركب وقال لياركب فركبنا وطلعنا إلى الحصن، فجلس وأحضر ناطور الحصن يعرفه بما فيه، وأحضر بين يديه نساء وصبيان نصارى ويهود. فحضرت عجوز كردية فقال ت لذلك الناطوررأيت ابني فلاناً؟ قال قتل ضربته نشابة. قال تفابني فلان؟ قال وسطه الأمير فصاحت وكشفت رأسها وشعرها كالقطنة المندوفة، فقال لها الناطوراسكتي لأجل الأمير. قال توأي شيء بقي للأمير يعمل بي، كان لي ولدان قتلهما فدفعوها.

ومضى الناطور فاحضر شيخاً كبيراً مليح الشيبة يمشي على عصاتين سلم على صلاح الدين قال أي شيء هذا الشيخ؟ قال إمام الحصن. قال تقدم يا شيخ تقدم تقدم حتى جلس بين يديه قبض لحيته فمد يده قبض لحيته وأخرج سكينة مشدودة في بند قبائه وقطع لحيته من حكمته، فبقيت في يده مثل البرجم فقال له ذلك الشيخ يا مولاي بأي شيء أستوجب ان تفعل بي هذا الفعل؟ قال بعصيانك على السلطان. قال والله ما علمت بوصولكم حتى جاء الناطور الساعة اعلمني واستدعاني. ثم رحلنا نزلنا على حصن آخر للأمير قفجاق يقال له الكرخيني أخذناه فوجدوا فيه خزانة ملأى بالثياب خام مخيطة صدقة لفقراء مكة، وسبى من كان في الحصن من النصارى واليهود المعهادين، ونهب ما فيها نهب الروم، فالله سبحانه يتجاوز عنه.

اقف من هذا الفصل عند هذا الحد متمثلاً بقولي

دع ذكر من قتل الهوى فحديثهم
 
فينا يشيب ذكره المولودا.


وأعود إلى ذكر شيء مما جرى لنا والإسماعيلية في حصن شيزر.

الإسماعيلية تهاجم شيزر

اجتاز في ذلك اليوم ابن عم لي يقال له أبو عبد الله هاشم رحمه الله فرأى رجلاً من الباطنية في برج من دار عمي معه سيفه وترسه والباب مفتوح وبراً منه خلق كثير من أصحابنا وما يجسر أحد أن يدخل إليه، فقال ابن عمي لواحد من أولئك الوقوفادخل إليه، فدخل إليه، فما مهله الباطني ان ضربه فجرحه، فخرج وهو مجروح. فقال لأخر ادخل إليه، فدخل إليه فضربه الباطني فجرحه وخرج كما خرج صاحبه. فقال ابن عمييا رئيس جواد ادخل إليه. فقال له الباطنييا مؤخر أنت ليش ما تدخل؟ تداخل لي الناس وأنت واقف، ادخل حتى تبصر. فدخل إليه الرئيس جواد فقتله. وهذا الجواد حكم في الثقاف رجل شجاع ثقف. وما مر عليه إلا أعوام قليلة حتى رأيته بدمشق سنة أربع وثلاثين وخمس مائة وهو علاف يبيع الشعير والتبن، وقد كبر حتى صار كالشن البالي يعجز عن دفع الفأر عن علفه، فما بال الرجال، فكنت أتعجب من أول أمره، عندما صار عليه آخر أمره، وما أحال من حاله طول عمره.

تأملات أسامة بشأن طول العمر

ولم أدر ان داء الكبر عام يعدي كل من اغفله الحمام. فلما توقلت ذروة التسعين وأبلاني مر الأيام والسنين، صرت كجواد علاف لا لجواد المتلاف. ولصقت من الضعف بالأرض، ودخل من الكبر بعضي ببعض، حتى انكرت نفسي وتحسرت على أمسي، وقلت في وصف حالي


لما بلغت من الحياة إلى المدى
 
قد كنت أهواه تمنيت الردا
لم يبقى طول العمر مني منة
 
ألقى بها صرف الزمان إذا اعتدا
ضعفت قواي وخانني الثقتان
 
من بصري وسمعي حين شارفت المدى
فإذا نهضت حسبت أني حامل
 
جبلاً وأمشي إن مشيت مقيدا
وأدب في كفي العصا وعهدتها
 
في الحرب تحمل أسمراً ومهندا
وأبيت في لين المهاد مسهداً
 
بلغ الكمال وتم عاد كما بدا


وأنا القائل بمصر أذم من العيش الراحة والدعة وما كان أعجل تقضيه وأسرعه

أنظر إلى صرف دهري كيف عودني
 
بعد المشيب سوى عاداتي الأول
وفي تغاير صرف الدهر معتبر
 
وأي حال على الأيام لم تحل
قد كنت مسعر حرب كلما خمدت
 
أذكيتها باقتداح البيض في القلل
همي منازلة الأقران أحسبهم
 
فراشي فهم مني على وجل
أمضي على الهول من ليل وأهجم من
 
سيل وأقدم في الهيجاء من أجل
فصرت كالغداة المكسال مضجعها
 
على الحشايا وراء السجف والكلل
قد كدت أعفن من طول الثواء كما
 
يصدئ الهند طول اللبث في الخلل
أروح بعد دروع الحرب في حلل
 
من الدبيقي فبؤساً لي وللحلل
وما الرفاهة من رامي ولا أربي
 
ولا التنعيم من شأني ولا شغلي
ولست أرضى بلوغ المجد في رفه
 
ولا العلى دون حطم البيض والأسل


وكنت أظن ان الزمان لايبلي جديده ولا يهي شديده، واني إذا عدت إلى الشام وجدت به أيامي كعهدي ما غيرها الزمان بعدي. فلما عدت كذبتني وعود المطامع، وكان ذلك الظن كالسراب اللامع. اللهم غفرًا هذه جملة اعتراضية عرضت، ونفثة هم اقضت ثم انقضت. أعود إلى المهم وأدع تعسف الليل المدلهم، لوصفت القلوب من كدر الذنوب، فوضت إلى عالم الغيوم، علمت ان ركوب أخطار الحروب، لا ينقص مدة الأجل المكتوب. فأنني رأيت يوم تقاتلنا نحن والإسماعيلية في حصن شيزر معتبراً يوضح للشجاع العاقل والجبان الجاهل، ان العمر موقت مقدر، لا يتقدم أجله ولا يتأخر. وذلك اننا بعد فراغنا ذلك اليوم من القتال، صاح إنسان من جانب الحصنالرجال! وعندي جماعة من أصحابي معهم سلاحهم، فبادرنا إلى الذي صاح فقلناما بالك؟ فقال حس الرجال هاهنا. فجئنا إلى إسطبل خال مظلم فدخلنا فوجدنا رجلين معهما سلاحهما فقتلناهما. ووجدنا رجل من أصحابنا مقتولاً وهو على شيء فرفعناه، ووجدنا تحته رجلاً من الباطنية قد تسجى ورفع المقتول على صدره، فحملنا صاحبنا وقتلنا الذي كان تحته ووضعنا صاحبنا في الجامع بالقرب من ذلك المكان وفيه جراح عظيمة، ولا نشك انه ميت لا يتحرك ولا يتنفس. وأنا والله كنت أحرك رأسه على بلاط الجامع برجلي ولا نشك انه ميت. وكان المسكين يجتاز الأصطبل فسمع حساً فأدخل رأسه ليحقق السماع، فجذبه واحد منهم فضربوه بالسكاكين حتى ظنوا انه قد مات. فقضى الله سبحانه ان خيطت الجراح التي في رقبته وفي جسمه وعوفي وعاد من صحته كما كان عليه. فتبارك الله مقدر الأقدار وموقت الآجال والأعمار. وشاهدت ما يقارب ذلك وهو ان الإفرنج لعنهم الله أغاروا علينا ثلث الليل الآخر. فركبنا نتبعهم فمنعنا عمي عز الدين رحمه الله من اتباعهم وقال هذه مكيدة والإغارة تكون بالليل. وخرج من البلد رجالة خلفهم ما علمنا بهم. فوقع الإفرنج ببعضهم عند رجوعهم، قتلوا وسلم بعضهم. واصبحت أنا واقفاً في بندر قنين قرية عند المدينة فرأيت ثلاثة شخوص مقبلة أما إثنان كالناس، أما الأوسط فما وجهه كوجه الناس. فلما دنوا منا فأما الوسطاني منه قد ضربه إفرنجي بسيف في وسط انفه قطع وجهه إلى أذنيه، وقد استرخى نصف وجهه وصار على صدره. وبين النصفين من وجهه فتح قريب من شبر وهو يمشي بين رجلين، فدخل البلد فخاط الجراحي وجهه وداواه، فالتحم ذلك الجرح وعوفي وعاد إلى ما كان عليه إلى ان مات على فراشه، كان يبيع الدواب ويسمى ابن غازي المشطوب، وإنما سمي بالمشطوب بتلك الضربة. فلا يظن ظان ان الموت يقدمه ركوب المخاطر، ولا يأخره شدة حرر، ففي بقائي أوضح معتبر، فكم لقيت من الأهوال وتقحمت المخاوف والأخطار ولاقيت الفرسان وقتلت الأسود وضربت بالسيوف وطعنت بالرماح وجرحت بالسهام والجروح وأنا من الأجل في حصن حصين - إلى ان بلغت تمام التسعين، فرأيت الصحة والبقاء، كما قال ﷺكفى بالصحة داء. فأعقبت النجاة من تلك الأهوال، ما هو أصعب من القتل والقتال. وكان الهلاك في كنه الجيش اسهل من تكاليف العيش، استرجعت مني الأيام بطول الحياة سائر محبوب اللذات، وشاب كدر النكد صفو العيش الرغد فأنا كما قلت

مع الثمانين عاث الدهر في جلدي
 
وساءني ضعف رجلي واضطراب يدي
فاعجب لضعف جد مضطرب
 
كخط مرتعش الكفين مرتعد
فاعجب لضعف يدي عن حملها قلماً
 
من بعد حطم القنا في لبة الأسد
وإن مشيت وفي كفي العصا ثقلت
 
رجلي كأني أخوض الوحل في الجلد
فقل لمن يتمنى طول مدته
 
هذي عواقب طول العمر والمدد


ضعفت القوة ووهنت، وتقضت بلهينة العيش وانتهت، ونكسني التعمير بين الأنام، والى الخمول يؤول تسعر الظلام، حتى أصبحت كما قلت

تناستني الآجال حتى كأنني
 
دريئة سفر بالفلاة حسير
ولما تدع مني الثمانون منة
 
كأني إذا رمت القيام كسير
أؤدي صلاتي قاعداً وسجودها
 
علي إذا رمت السجود عسير
وقد أنذرتني هذه الحال أنني
 
دنوت رحلة مني وحان مسير


مديح صلاح الدين

أعجزني وهن السنين عن خدمة السلاطين، فهجرت مغشى أبوابهم وقطعت اسبابي من اسبابهم واستقلت من خدمتهم ورددت عليهم ما حولوني من نعمهم، لعلمي ان ضعف الهرم لا يقوى على تكاليف الخدم، وان سوق الشيخ الكبير لا ينفق على الأمير. ولزمت داري وجعلت الخمول شعاري ورضيت نفسي بالانفراد في الغربة ومفارقة الأوطان والتربة، إلى ان تسكن نفارتها عن مرارتها وصبرت صبر الأسير على قده، والظمآن ذي الغلة عن ورده. مكاتبة مولانا الملك الناصر صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، جامع كلام الإيمان قامع عبدة الصلبان، رافع علم العدل والإحسان، محي دولة أمير المؤمنين أبو المظفر يوسف بن أيوب، جمل الله الأسلم والمسلمين بطول بقائه، وأيدهم بماضي سيوفه وأرائه، واضفى عليهم وارف ظله كما أصفى لهم من الأكدار موارد فضله برحمة نقبت عني في البلاد ودوني الحزن والسهل، بمضيعة من الأرض لامال لدي ولا أهل. فأستنقذني من أنياب النوائب براية الجميل وحملني إلى بابه العالي بإنعامه الغامر الجزيل، وجبر ما هاضه الزمان مني، ونفق على كرمه ما كسد عليه من سواه من علو سني، فغمرني بغرائب الرغائب، وانهينني من إنعامه اهنى المواهب حتى رعى لي بفائض الكرم، ما اسلفت سواه من الخدم، فهو يعتد لي بذلك ويرعاه رعاية من كأنه شاهد وراه، فعطاياه تطرقني وأنا راقد وتسري إلي وأنا محتسب قاعد، فأنا من إنعامه كل يوم في مزيد، وإكرام كتكرمة الأهل وأنا أقل العبيد. امنني جميل رأيه حادث الحادثات، وأخلف لي إنعامه ما سلبه الزمان بالنكبات المجحفات، وأفاض علي من نوافل فضله بعد تأدية فرضه وسنته، ما يعجز الأعناق عن حمل ايسر منته. ولم يبقى لي جوده املاً ارجوا نيله، اقضي زماني بالدعاء به نهاره وليله، والرحمة التي تدارك بها العباد، أحيى ببركتها البلاد، والسلطان الذي أحيى سنة الخلفاء الراشدين، واقام عمود الدولة والدين، والبحر الذي لا ينضب لكثرة الواردين مأوه، والجواد الذي لا ينقطع مع تتابع الوافدين عطاؤه. فلا زالت الأمة من سيوفه في حمى منيع، ومن إنعامه في ربيع مريع. ومن عدله في أنوار تكشف عنهم ظلم المظالم، وتكف بسطة يد المعتدي الغانم، ومن دولته القاهرة في ظل وارف، وفي سعود متتابع آنف في أثر سالف، ما تعاقب الليل والنهار، ودار الفلك الدوار

دعوت وقد أمن الحافظان
 
وذو العرش ممن دعاه قريب
وقد قال سبحانه للعباد
 
سلوني فإني سميع مجيب


والحمد لله رب العالمين وصلواته على سيدنا محمد وعلى آله أجمعين، وحسبنا الله ونعه الوكيل.