الرئيسيةبحث

كتاب الأم/الأحباس/الخلاف في الصدقات المحرمات

الخلاف في الصدقات المحرمات

[قال الشافعي]: رحمه الله: فخالفنا بعض الناس في الصدقات المحرمات وقال من تصدق بصدقة محرمة وسبلها فالصدقة باطل وهي ملك للمتصدق في حياته ولوارثه بعد موته قبضها من تصدق بها عليه، أو لم يقبضها وقال لي بعض من يحفظ قول قائل هذا: إنا رددنا الصدقات الموقوفات بأمور قلت له وما هي؟ فقال: قال شريح جاء محمد ﷺ بإطلاق الحبس فقلت له وتعرف الحبس التي جاء رسول الله ﷺ بإطلاقها؟ قال لا أعرف حبسا إلا الحبس بالتحريم فهل تعرف شيئا يقع عليه اسم الحبس غيرها؟

[قال الشافعي]: فقلت له أعرف الحبس التي جاء رسول الله ﷺ بإطلاقها وهي غير ما ذهبت إليه وهي بينة في كتاب الله عز وجل قال اذكرها قلت: قال الله عز وجل: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} فهذه الحبس التي كان أهل الجاهلية يحبسونها فأبطل الله شروطهم فيها وأبطلها رسول الله ﷺ بإبطال الله إياها وهي أن الرجل كان يقول: إذا نتج فحل إبله ثم ألقح فأنتج منه هو حام أي قد حمى ظهره فيحرم ركوبه ويجعل ذلك شبيها بالعتق له ويقول في البحيرة والوصيلة على معنى يوافق بعض هذا ويقول لعبده أنت حر سائبة لا يكون لي، ولاؤك، ولا علي عقلك قال: فهل قيل في السائبة غير هذا؟ فقلت نعم قيل إنه أيضا في البهائم قد سيبتك.

[قال الشافعي]: فلما كان العتق لا يقع على البهائم رد رسول الله ﷺ ملك البحيرة والوصيلة والحام إلى مالكه وأثبت العتق وجعل الولاء لمن أعتق السائبة وحكم له بمثل حكم النسب، ولم يحبس أهل الجاهلية علمته دارا ولا أرضا تبررا بحبسها، وإنما حبس أهل الإسلام.

[قال الشافعي]: فالصدقات يلزمها اسم الحبس وليس لك أن تخرج مما لزمه اسم الحبس شيئا إلا بخبر عن رسول الله ﷺ يدل على ما قلت وقلت أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر (أن عمر بن الخطاب ملك مائة سهم من خيبر اشتراها فأتى رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله إني أصبت مالا لم أصب مثله قط، وقد أردت أن أتقرب به إلى الله عز وجل فقال حبس الأصل، وسبل الثمرة).

[قال الشافعي]: وأخبرني عمر بن حبيب القاضي عن عبد الله بن عون عن نافع عن ابن عمر (بأن عمر بن الخطاب قال يا رسول الله إني أصبت مالا من خيبر لم أصب مالا قط أعجب إلي أو أعظم عندي منه فقال رسول الله ﷺ إن شئت حبست أصله وسبلت ثمره) فتصدق به عمر بن الخطاب رضي الله عنه ثم حكى صدقته به.

[قال الشافعي]: فقال: إن كان هذا ثابت فلا يجوز إلا أن يكون الحبس التي أطلق غير الحبس التي أمر بحبسها قلت هذا عندنا، وعندك ثابت، وعندنا أكثر من هذا، وإن كانت الحجة تقوم عندنا، وعندك بأقل منه قال فكيف أجزت الصدقات المحرمات، وإن لم يقبضها من تصدق بها عليه؟ فقلت اتباعا وقياسا فقال: وما الاتباع؟ فقلت له لما سأل عمر رسول الله ﷺ عن ماله فأمره أن يحبس أصل ماله ويسبل ثمره دل ذلك على إجازة الحبس وعلى أن عمر كان يلي حبس صدقته ويسبل ثمرها بأمر النبي ﷺ لا يليها غيره، قال: فقال: أفيحتمل قول النبي ﷺ حبس أصلها وسبل ثمرها اشترط ذلك؟ قلت نعم والمعنى الأول أظهرهما وعليه من الخبر دلالة أخرى قال وما هي؟ قلت إذا كان عمر لا يعرف وجه الحبس أفيعلمه حبس الأصل وسبل الثمر ويدع أن يعلمه أن يخرجها من يديه إلى من يليها عليه ولمن حبسها عليه؛ لأنها لو كانت لا تتم إلا بأن يخرجها المحبس من يديه إلى من يليها دونه، كان هذا أولى أن يعلمه؛ لأن الحبس لا يتم إلا به، ولكنه علمه ما يتم له، ولم يكن في إخراجها من يديه شيء يزيد فيها، ولا في إمساكها يليها هو شيء ينقص صدقته، ولم يزل عمر بن الخطاب المتصدق بأمر رسول الله ﷺ يلي فيما بلغنا صدقته حتى قبضه الله تبارك وتعالى، ولم يزل علي بن أبي طالب رضي الله عنه يلي صدقته بينبع حتى لقي الله عز وجل، ولم تزل فاطمة عليها السلام تلي صدقتها حتى لقيت الله تبارك وتعالى.

[قال الشافعي]: أخبرنا بذلك أهل العلم من ولد فاطمة وعلي وعمر ومواليهم ولقد حفظنا الصدقات عن عدد كثير من المهاجرين والأنصار لقد حكى لي عدد كثير من أولادهم وأهليهم أنهم لم يزالوا يلون صدقاتهم حتى ماتوا ينقل ذلك العامة منهم عن العامة لا يختلفون فيه، وإن أكثر ما عندنا بالمدينة ومكة من الصدقات لكما وصفت لم يزل يتصدق بها المسلمون من السلف يلونها حتى ماتوا وأن نقل الحديث فيها كالتكلف، وإن كنا قد ذكرنا بعضه قبل هذا. فإذا كنا إنما أجزنا الصدقات، وفيها العلل التي أبطلها صاحبك بها من قول شريح جاء محمد بإطلاق الحبس بأنه لا يجوز أن يكون مال مملوكا ثم يخرجه مالكه من ملكه إلى غير مالك له كله إلا بالسنة واتباع الآثار فكيف اتبعناهم في إجازتها وإجازتها أكثر ونترك اتباعهم في أن يحوزها كما حازوها، ولم يولوها أحدا؟ فقال: فما الحصة فيه من القياس؟ قلت له لما (أجاز رسول الله ﷺ أن يحبس الأصل أصل المال وتسبل الثمرة) دل ذلك على أنه أجاز أن يخرجه مالك المال من ملكه بالشرط إلى أن يصير المال محبوسا لا يكن لمالكه بيعه، ولا أن يرجع إليه بحال كما لا يكون لمن سبل ثمره عليه بيع الأصل، ولا ميراثه فكان هذا مالا مخالفا لكل مال سواه؛ لأن كل مال سواه يخرج من مالكه إلى مالك فالمالك يملك بيعه وهبته ويجوز للمالك الذي أخرجه من ملكه أن يملكه بعد خروجه من يديه ببيع وهبة وميراث وغير ذلك من وجوه الملك ويجامع المال المحبوس الموقوف العتق الذي أخرجه مالكه من ماله بشيء جعله الله إلى غير ملك نفسه، ولكن ملكه منفعة نفسه بلا ملك لرقبته كما ملك المحبس من جعل منفعة المال له بغير ملك منه لرقبة المال وكان بإخراجه الملك من يديه محرما على نفسه أن يملك المال بوجه أبدا كما كان محرما أن يملك العبد بشيء أبدا فاجتمعا في معنيين، وإن كان العبد مفارقه في أنه لا يملك منفعة نفسه غير نفسه كما يملك منفعة المال مالك، وذلك أن المال لا يكون مالكا إنما يملك الآدميون، فلو قال قائل لماله أنت حر لم يكن حرا، ولو قال أنت موقوف لم يكن موقوفا؛ لأنه لم يملك منفعته أحدا، وهو إذا قال لعبده أنت حر، فقد ملكه منفعة نفسه فقال قد قال فيها فقهاء المكيين وحكامهم قديما وحديثا، وقد علمنا أنهم يقولون قولك، وأبو يوسف حين أجاز الصدقات قال قولك في أنها تجوز، وإن وليها صاحبها حتى يموت واحتج فيها بأنه إنما أجازها اتباعا وأن المتصدقين بها من السلف ولوها حتى ماتوا، ولكنا قد ذهبنا فيها وبعض البصريين إلى أن الرجل إن لم يخرجها من ملكه إلى من يليها دونه في حياته لمن تصدق بها عليه كانت منتقضة وأنزلها منزلة الهبات، وتابعنا بعض المدنيين فيها وخالفنا في الهبات.

[قال الشافعي]: فقلت له قد حفظنا عن سلفنا ما وصفت وما أعرف عن أحد من التابعين أنه أبطل صدقة بأن لم يدفعها المتصدق بها إلى وال في حياته وما هذا إلا شيء أحدثه منهم من لا يكون قوله حجة على أحد وما أدري لعله سمع قولكم، أو قول بعض البصريين فيه فاتبعه فقال وأنا أقوم بهذا القول عليك قلت له هذا قول تخالفه فكيف تقوم به؟ قال أقوم به لمن قاله من أصحابنا وأصحابك فأقول إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه نحل عائشة جداد عشرين وسقا فمرض قبل أن تقبضه فقال لها: لو كنت خزنتيه وقبضتيه كان لك، وإنما هو اليوم مال الوارث، وإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ما بال رجال ينحلون أبناءهم نحلا ثم يمسكونها فإن مات أحدهم قال مال أبي نحلنيه، وإن مات ابنه قال مالي وبيدي لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد حتى يكون إن مات أحق بها " وأنه شكا إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه قول عمر فرأى أن الوالد يجوز لولده ما داموا صغارا، فأقول إن الصدقات الموقوفات قياسا على هذا.

ولا أزعم ما زعمت من أنها مفترقة فقلت له أفرأيت لو اجتمعت هي والصدقات في معنى واختلفتا في معنيين، أو أكثر الجمع بينهما أولى بتأويل، أو التفريق؟ قال بل التفريق فقلت له أفرأيت الهبات كلها والنحل والعطايا سوى الوقف لو تمت لمن أعطيها ثم ردها على الذي أعطاها، أو لم يقبلها منه، أو رجعت إليه بميراث، أو شراء، أو غير ذلك من وجوه الملك أيحل له أن يملكها؟ قال نعم: قلت، ولو تمت لمن أعطيها حل له بيعها وهبتها؟ قال: نعم، قلت: أفتجد الوقف إذا تم لمن وقف له يرجع إلى مالكه أبدا بوجه من الوجوه، أو يملكه من وقف عليه ملكا يكون له فيه بيعه وهبته وأن يكون موروثا عنه؟ قال: لا، قلت والوقوف خارجه من ملك مالكها بكل حال ومملوكة المنفعة لمن وقفت عليه غير مملوكة الأصل؟ قال نعم: قلت أفترى العطايا تشبه الوقوف في معنى واحد من معانيها؟ قال في أنها لا تجوز إلا مقبوضة قلت: كذلك قلت أنت فأراك جعلت قولك أصلا قال: قسته على ما ذكرت إن خالف بعض أحكامه قلت: فكيف يجوز أن يقاس الشيء بخلافه وهي مخالفة لما ذكرت من العطايا غيرها؟ أورأيت لو قال لك قائل: أراك تسلك بالعطايا كلها مسلكا واحدا فأزعم أن الرجل إذا أوجب الهدي على نفسه بكلام، أو ساقه، أو قلده أو أشعره كان له أن يبيعه ويهبه ويرجع؛ لأنه لمساكين الحرم، ولم يقبضوه أله ذلك؟ قال: لا. قلت وأنت تقول لو دفع رجل إلى وال مالا يحمل به في سبيل الله، أو يتصدق به متطوعا لم يكن له أن يخرجه من يدي الوالي بل يدفعه؟ قال نعم قال ما العطايا بوجه واحد قلت فعمدت إلى ما دلت عليه السنة وجاءت الآثار بإجازته من الصدقات المحرمات فجعلته قياسا على ما يخالفه وامتنعت من أن تقيس عليه ما هو أقرب منه مما لا أصل فيه تفرق بينه وبينه. قال: وقلت له لو قال لك قائل: أنا أزعم أن الوصية لا تجوز إلا مقبوضة. قال: وكيف تكون الوصية مقبوضة؟ قلت بأن يدفعها الموصي إلى الموصى له ويجعلها له بعد موته فإن مات جازت، وإن لم يدفعها لم تجز كما أعتق رجل مماليك له فأنزلها النبي ﷺ وصية، وكما يهب في المرض فيكون وصية قال ليس ذلك له. قلت: فإن قال لك ولم؟ قال أقول؛ لأن الوصايا مخالفة للعطايا في الصحة قلت: فأذكر من قال يجوز بغير ما وصفنا من السلف. قال: ما أحفظه عن السلف وما أعلم فيه اختلافا قلنا: فبان لك أن المسلمين فرقوا بين العطايا، قال: ما وجدوا بدا من التفريق بينهما. قلت: والوصايا بالعطايا أشبه من الوقف بالعطايا، فإن للموصي أن يرجع في وصيته بعد الإشهاد عليها ويرجع في ماله إن مات من أوصى له بها، أو ردها فكيف باينت بين العطايا والوصايا سواها وامتنعت من المباينة بين الوقف والعطايا سواه وأنت تفرق بين العطايا سواه فرقا بينا فنقول في العمرى هي لصاحبها لا ترجع إلى الذي أعطاها، ولا تقول هذا في العارية، ولا العطية غير العمرى، قال بالسنة. قلت: وإذا جاءت السنة اتبعتها؟ قال فذلك يلزمني. قلت: فقد وصفت لك في الوقف السنة والخبر العام عن الصحابة، ولم تتبعه، وقلت له أرأيت النحل والهبة والعطايا غير الوقف ألصاحبها أن يرجع فيها ما لم يقبضها من جعلها له؟ قال: نعم، قلت: فمن تقويت به فمن قال قولك من أصحابنا يقول لا يرجع فيها، وإن مات قبل يقبضها من أعطيها رجعت ميراثا يكون في ذلك الوقف فيسوي بين قوليه، قال: فهذا قول لا يستقيم، ولا يجوز فيه إلا واحد من قولين إما أن يكون كما قلت إذا تكلم بالوقف، أو العطية تمت لمن جعلها له وجبر على إعطائها إياه، وإما أن يكون لا يتم إلا بالقبض مع العطايا فيكون له أن يرجع ما لم تتم بقبض من أعطيها، ولا يجوز أبدا أن يكون له حبسها إذا تكلم بإعطائها، ولا يكون لوارثه ملكها عنه إذا لم ترجع في حياته إلى ملكه لم ترجع في وفاته إلى ملكه فتكون موروثة عنه، وهذا قول محال وكل ما وهبت لك فلي الرجوع فيه ما لم تقبضه، أو يقبض لك، وهذا مثل أن أقول: قد بعتك عبدي بألف فإن قلت قد رجعت قبل أن تختار أخذه كان لي الرجوع وكل أمر لا يتم إلا بأمرين لم يجز أن يملك بواحد. فقلت: هذا كما قلت إن شاء الله، ولكن رأيتك ذهبت إلى رد الصدقات قال ما عندي فيها أكثر مما وصفت فهل لك فيها حجة غير ما ذكرت مما لزمك به عندنا إثبات الصدقات؟ قال ما عندي فيها أكثر مما وصفت.

[قال الشافعي]: رحمه الله قلت ففيما وصفت أن صدقات المهاجرين والأنصار بالمدينة معروفة قائمة، وقد ورث المهاجرين والأنصار النساء الغرائب والأولاد ذوو الدين والإهلاك لأموالهم والحاجة إلى بيعه فمنعهم الحكام في كل دهر إلى اليوم فكيف أنكرت إجازتها مع عموم العلم؟ وأنت تقول لو أخرج رجل بيتا من داره فبناه مسجدا وأذن فيه لمن صلى، ولم يتكلم بوقفه كان وقفا للمصلين، ولم يكن له أن يعود في ملكه إذا أذن للمصلين فيه، وفي قولك هذا أنه لم يخرجه من ملكه، ولو كان إذنه في الصلاة إخراجه من ملكه كان إخراجه إلى غير مالك بعينه فكان مثل الحبس الذي يلزمك إطلاقها لحديث شريح فعمدت إلى ما جاءت به السنة من الوقف في الأموال والدور وما أخرجه مالكه من ملك نفسه فأبطلته بعلة وأجزت المسجد بلا خبر من أحد من أصحاب رسول الله ﷺ ثم جاوزت القصد فيه فأخرجته من ملك صاحبه، ولم يخرجه صاحب من ملكه إنما يخرجه بالكلام وأنت تعيب على المدنيين أن يقضوا بحيازة عشرة وعشرين سنة. إذا حاز الرجل الدار والمحوز عليه حاضر يراه يبنيها ويهدمها، وهو يبيع المنازل لا يكلمه فيها. وقلت الصمت والحوز لا يبطل الحق إنما يبطله القول وتجعل إذن صاحب المسجد، وهو لم ينطق بوقفه وقفا فتزكن عليه وتعيب ما هو أقوى في الحجة من قول المدنيين في الحيازة من قولك في المسجد وتقول هذا وهو إزكان، وقلت له: أرأيت لو أذن في داره للحاج أن ينزلوها سنة، أو سنتين أتكون صدقة عليهم؟ قال لا وله منعهم متى شاء من النزول فيها، قلت: فكيف لم تقل هذا في المسجد يخرجه من الدار، ولا يتكلم بوقفه. فقال: إن صاحبينا قد عابا قول صاحبهم وصارا إلى قولكم في إجازة الصدقات، فقلت له ما زاد قولنا قوة بنزوعهما إليه، ولا ضعفا بفراقهما حين فارقاه ولهما بالرجوع إليه أسعد، وما علمتهما أفادا حين رجعا إليه علما كانا يجهلانه، قال: ولكن قد يصح عندهما الشيء بعد أن لم يصح، فقلت: الله أعلم كيف كان رجوعهما ومقامهما والرجوع بكل حال خير لهما إن شاء الله وقلت له أيجوز لعالم أن يأتيه الخبر عن رسول الله ﷺ في أمر منصوص فيقول به، وإن عارضه معارض بخبر غير منصوص فيقول به ثم يأتي مثله فلا يقبله ويصرف أصلا إلى أصل؟ قال: لا، قلت: فقد فعلت وصرفت الصدقات إلى النحل وهما مفترقان عندك. وقلت له: أيجوز أن يأتيك الحديث عن بعض أصحاب النبي ﷺ في الصدقات بأمر يدل على أنهم تصدقوا بها وولوها وهم لا يفعلون إلا الجائز عندهم، ثم يقولون في النحل عندهم: إنما تكون بأن تكون مقبوضات، فتقول: أجعلوا الصدقات مثله؟ قال: لا، قلت: فقد فعلت قال: فلو كان هذا مأثورا عندهم عرفه الحجازيون، فقلت قد ذكرت لك بعض ما حضرني من الأخبار على الدلالة عليه وأنه قول المكيين، ولا أعلم من متقدمي المدنيين أحدا قال بخلافه.

[قال الشافعي]: ووصفت لك أن أهل هذه الصدقات من آل علي وغيرهم قد ذكروا ما وصفت من أن عليا رضي الله عنه ومن تصدق لم يزل يلي صدقته وصدقاتهم فيه جارية ثم ثبتت قائمة مشهورة القسم والموضع إلى اليوم، وهذا أقوى من خبر الخاصة، فقال فما تقول في الرجل يتصدق على ابنه، أو ذي رحمه، أو أجنبي بصدقة غير محرمة، ولا في سبيل المحرمة بالتسبيل أيكون له ما لم يقبضها المتصدق عليه أن يرجع فيها؟ قلت: نعم، قال وسبيلها سبيل الهبات والنحل؟ قلت: نعم. قال فأين هذا لي؟ قلت معنى تصدقت عليك متطوعا معنى وهبت لك ونحلتك؛ لأنه إنما هو شيء من مالي لم يلزمني أن أعطيكه، ولا غيرك أعطيتك متطوعا، وهو يقع عليه اسم صدقة ونحل وهبة وصلة وإمتاع ومعروف وغير ذلك من أسماء العطايا وليس يحرم علي لو أعطيتكه فرددته علي أن أملكه، ولو مت أن أرثه كما يحرم علي لو تصدقت عليك بصدقة محرمة أن أملكها عنك بميراث، أو غيره، وقد لزمها اسم صدقة بوجه أبدا؟ قلت له نعم أخبرنا سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن عبد الله بن يزيد الأنصاري ذكر الحديث.

[قال الشافعي]: وأخبرنا الثقة، أو سمعت مروان بن معاوية عن عبد الله بن عطاء المديني عن ابن بريدة الأسلمي عن أبيه (أن رجلا سأل النبي ﷺ فقال إني تصدقت على أمي بعبد وإنها ماتت فقال رسول الله ﷺ قد وجبت صدقتك، وهو لك بميراثك) قال فلم جعلت ما تصدق به غير واجب عليه على أحد بعينه في معنى الهبات تحل لمن لا تحل له الصدقة الواجبة فهل من دليل على ما وصفت؟ قلت: نعم أخبرني محمد بن علي بن شافع قال أخبرني عبد الله بن حسن بن حسين عن غير واحد من أهل بيته وأحسبه قال زيد بن علي أن فاطمة بنت رسول الله ﷺ تصدقت بمالها على بني هاشم وبني المطلب وأن عليا رضي الله عنه تصدق عليهم وأدخل معهم غيرهم.

[قال الشافعي]: وأخرج إلى والي المدينة صدقة علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأخبرني أنه أخذها من آل أبي رافع وأنها كانت عندهم فأمر بها فقرئت علي، فإذا فيها تصدق بها علي رضي الله عنه على بني هاشم وبني المطلب وسمى معهم غيرهم، قال وبنو هاشم وبنو المطلب تحرم عليهم الصدقة المفروضة، ولم يسم علي، ولا فاطمة منهم غنيا، ولا فقيرا، وفيهم غني.

[قال الشافعي]: أخبرنا إبراهيم عن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات كان يضعها الناس بين مكة والمدينة فقلت أو قيل له؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة.

[قال الشافعي]: فقال أفتجيز أن يتصدق الرجل على الهاشمي والمطلبي والغني منهم ومن غيرهم متطوعا؟ فقلت: نعم استدلالا بما وصفت وأن الصدقة تطوعا إنما هي عطاء، ولا بأس أن يعطى الغني تطوعا قال: فهل تجد أنه يجوز أن يعطى الغني؟ فقلت: ما للمسألة من هذا موضع، ولا بأس أن يعطى الغني قال: فاذكر فيه حجة قلت أخبرنا سفيان عن معمر عن الزهري عن السائب بن يزيد عن حويطب بن عبد العزى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استعملني، قال: فهل تحرم الصدقة تطوعا على أحد؟ فقلت: لا إلا أن رسول الله ﷺ كان لا يأخذها ويأخذ الهدية، وقد يجوز تركه إياها على ما رفعه الله به وأبانه من خلقه تحريما ويجوز لغير ذلك؛ لأن معنى الصدقات من العطايا هبة لا يراد ثوابها ومعنى الهدية يراد ثوابها قال: أفتجد دليلا على قبوله الهدية؟ فقلت: نعم، أخبرنيه مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن القاسم بن محمد عن عائشة (أن رسول الله ﷺ دخل فقرب إليه خبز وأدم من أدم البيت فقال ألم أر برمة لحم فقالوا ذلك شيء تصدق به على بريرة فقال هو لها صدقة، وهو لنا هدية) فقال: ما الذي يجوز أن يكون صدقة محرمة؟ قلت: كل ما كان الشهود يسمونه بحدود من الأرضين والدور معمورها وغير معمورها والرقيق فقال أما الأرضون والدور فهي صدقات من مضى فكيف أجزت الرقيق وأصحابنا لا يجيزون الصدقة بالرقيق إلا أن يكونوا في الأرض المتصدق بها فقلت له تصدق السلف بالدور والنخل ولعل في النخل زرعا أفرأيت إن قال قائل لا أجيز الصدقة بحمام، ولا مقبرة؛ لأنهما مخالفان للدور وأراضي النخل والزرع هل الحجة عليه إلا أن يقال إذا كان السلف تصدقوا بدور وأراضي نخل وزرع فكان ذلك إنما يعرف بالحدود وقد تتغير، وكذلك الحمام والمقبرة يعرفان بحد، وإن تغيرا قال هذه حجة عليه قال، فإذا كانوا يعرفون العبيد بأعيانهم أتجدهم في معرفة الشهود بهم في معنى الأرضين والنخل، أو أكثر بأنهم إذا عرفوا بأعيانهم كانوا كأرض تعرف حدودها؟ قال إنهم لقريب مما وصفت قلت فكيف أبطلت الصدقة المحرمة فيهم؟ قال قد يهلكون ويأبقون وتنقطع منفعتهم قلت فكل هذا يدخل الأرض والشجر قد تخرب الأرض بذهاب الماء ويأتي عليها السيل فيذهب بها وتنهدم الدار ويذهب بها السيل فما كانت قائمة فهي موقوفة، ولا جناية لنا فيما أتى عليها من قضاء الله عز وجل قلت: وكذلك العبد لا جناية لنا في ذهابه، ولا نقصه.

[قال الشافعي]: وكل ما عرف بعينه وقطع عليه الشهود مثل الإبل والبقر والغنم أنه صدقة محرمة جازت الصدقة في الماشية قال وتتم الصدقات المحرمات أن يتصدق بها مالكها على قوم معروفين بأعيانهم وأنسابهم وصفاتهم ويجمع في ذلك أن يقول المتصدق بها تصدقت بداري هذه على قوم، أو رجل معروف بعينه يوم تصدق بها، أو صفته أو نسبه حتى يكون إنما أخرجها من ملكه لمالك ملكه منفعتها يوم أخرجها ويكون مع ذلك أن يقول: صدقة لا تباع، ولا توهب، أو يقول: لا تورث، أو يقول: غير موروثة أو يقول: صدقة محرمة، أو يقول: صدقة مؤبدة، فإذا كان واحد من هذا، فقد حرمت الصدقة فلا تعود ميراثا أبدا، وإن قال: صدقة محرمة على من لم يكن بعدي بعينه ولا نسبه ثم على بني فلان، أو قال: صدقة محرمة على من كان بعدي بعينه فالصدقة منفسخة، ولا يجوز أن يخرجها من ملكه إلا إلى مالك منفعة له فيها يوم يخرجها إليه، وإذا انفسخت عادت في ملك صاحبها كما كانت قبل أن يتصدق بها. ولو تصدق بداره صدقة محرمة على رجل بعينه، أو قوم بأعيانهم، ولم يسلبها على من بعدهم كانت محرمة أبدا، فإذا انقرض الرجل المتصدق بها عليه، أو القوم المتصدق بها عليهم كانت هذه صدقة محرمة بحالها أبدا ورددناها على أقرب الناس بالرجل الذي تصدق بها يوم ترجع الصدقة إنما تصير غير راجعة موروثة بواحد مما وصفنا أو ما كان في معناه، وإنما فسخناها إذا تصدق بها فكانت حين عقدت صدقة لا مالك لمنفعتها؛ لأنه لا يجوز أن تخرج من مالك إلى غير مالك منفعة؛ لأنها لا تملك منفعة نفسها كما يملك العبد منفعة نفسه بالعتق، ولا يزول عنها الملك إلا إلى مالك منفعة فيها فأما إذا لم يقل في صدقته محرمة، أو بعض ما قلنا مما هو في معنى تحريمها من شرط المتصدق فالصدقة كالهبات تملك بما تملك به الأموال غير المحرمات وكالعمرى، أو غيرها من العطايا. وسواء في الصدقات المحرمات يوم يتصدق بها إلى مالك يملك منفعتها سبلت بعده، أو لم تسبل أو دفعت إليه، أو إلى غير المتصدق أو لم تدفع كل ذلك يحرم بيعها بكل حال وسواء في الصدقات كل ما جازت فيه الصدقات المحرمات من أرض ودار وغيرهما وعلى ما شرط المتصدق لمن تصدق بها عليه من منفعتها فإن شرط أن لبعضهم على بعض الأثرة بالتقدمة، أو الزيادة من المنفعة فذلك على ما اشترط فإن شرطها عليهم بأسمائهم وأنسابهم فسواء كانوا أغنياء، أو فقراء فإن قال الأحوج منهم فالأحوج كانت على ما شرط لا يعدى بها شرطه، وإن شرطها على جماعة رجال ونساء تخرج النساء منها إذا تزوجن ويرجعن إليها بالفراق وموت الأزواج كانت على ما شرط، وكذلك إن شرط بأن يخرج الرجال منها بالغين ويدخلوا صغارا، أو يخرجوا أغنياء ويدخلوا فقراء، أو يخرجوا غيبا عن البلد الذي به الصدقة ويدخلوا حضورا كيفما شرط أن يكون ذلك كان إذا بقي لمنفعتها مالك سوى من أخرجه منها.