قواعد الأحكام في مصالح الأنام - الجزء الثاني2 | قواعد الأحكام في مصالح الأنام المؤلف: العز بن عبد السلام |
قواعد الأحكام في مصالح الأنام - الجزء الثالث2 |
( فَائِدَةٌ ) لَيْسَ قَوْلُ الْحَاكِمِ ( يَثْبُتُ عِنْدِي ) حُكْمًا بِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الْحَاكِمُ إذَا أَطْلَقْت لَفْظَ الثُّبُوتِ فَإِنَّمَا أَعْنِي بِهِ الْحُكْمَ بِالْحَقِّ الَّذِي يَثْبُتُ عِنْدِي ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ، فَمَنْ قَضَى بِأَنَّ لَفْظَ الثُّبُوتِ إخْبَارٌ عَنْ الْحُكْمِ كَلَفْظِ الْقَضَاءِ وَالْحُكْمِ فَقَدْ أَخْطَأَ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَةَ الْمُتَرَدِّدَةَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ حَكَمٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَجِبْ حَمْلُهَا عَلَى أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ إلَّا أَنْ تَكُونَ ظَاهِرَةً فِيهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ غَيْرُهَا . وَلَفْظُ الثُّبُوتِ قَدْ يُعَبِّرُ بِهِ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ الْحُكْمِ وَيُعَبِّرُ بِهِ الْأَكْثَرُونَ عَنْ غَيْرِ الْحُكْمِ ، فَمِنْ أَيْنَ لِمَنْ لَمْ يَقْضِ بِأَنَّ مُطْلَقَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ إنَّمَا أَطْلَقَهَا بِإِزَاءِ الْحُكْمِ ، وَحَمْلُ الْمُجْمَلِ عَلَى أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ غَيْرُ جَائِزٍ فَمَا الظَّنُّ بِحَمْلِهِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْمَرْجُوحِ ، وَلَا وَقْفَةَ عِنْدِي فِي نَقْضِ حُكْمِ مَنْ يَحْكُمُ بِأَنَّ الْإِثْبَاتَ حُكْمٌ ، لِمُخَالَفَتِهِ الْقَاعِدَةَ الْمَجْمَعَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فِي مَنْعِ حَمْلِ اللَّفْظَةِ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْهَا الْمُتَسَاوِيَيْنِ ، أَوْ عَلَى الْمَعْنَى الْمَرْجُوحِ ، وَالْقَوْمُ يَسْمَعُونَ أَلْفَاظًا لَمْ يَعْرِفُوا مَعَانِيَهَا وَلَا مَأْخَذَهَا فَيَخْتَارُونَ بِلَا عِلْمٍ . بَلْ لَا يَفْهَمُونَ حَقِيقَةَ الْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
( فَائِدَةٌ ) : لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْبَاطِنِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فِي فَسْخٍ وَلَا عَقْدٍ ، وَلَا فِي غَيْرِهِمَا إلَّا أَنْ يَقَعَ الْحُكْمُ فِي مُجْتَهَدٍ فِيهِ ، فَفِي تَغَيُّرِ الْبَاطِنِ فِيهِ خِلَافٌ يُفَرِّقُ فِي أَنَّ لَهُ بَيْنَ الْحُكْمِ عَلَى الْعَامِّيِّ ، وَالْحُكْمِ عَلَى الْمُجْتَهِدِ ، إذْ لَيْسَ اجْتِهَادُ الْحَاكِمِ أَوْلَى مِنْ اجْتِهَادِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ .
( فَائِدَةٌ ) قَدْ أَقَامَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ الْحَاكِمِ : " ثَبَتَ عِنْدِي " مَقَامِ قَوْلِ اثْنَيْنِ ، وَقَدْ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْثَقَ مِنْهُ وَأَعْدَلَ ، وَيَغْلِبُ الظَّنُّ بِقَوْلِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَغْلِبُ بِقَوْلِهِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ . مِثَالُهُ : إذَا جَعَلْنَا الثُّبُوتَ نَقْلًا لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّا نُقِيمُ قَوْلَ الْحَاكِمِ " ثَبَتَ عِنْدِي " مَقَامَ قَوْلِ شُهُودِ الْوَاقِعَةِ .
( فَائِدَةٌ ) إذَا ادَّعَى رَجُلٌ رِقَّ إنْسَانٍ يَسْتَسْخِرُهُ اسْتِسْخَارَ الْعَبْدِ وَيَنْطَاعُ انْطِيَاعَ الْعَبْدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا كَانَ بَالِغًا ، وَإِنْ صَغِيرًا فَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ كَالثُّبُوتِ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الثَّبَاتِ الْمِلْكُ ، وَالْأَصْلَ وَالْغَالِبَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْغَلَبَةَ الدَّالَيْنِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لَا يُعَارِضُهُمَا مُجَرَّدُ الِاسْتِسْخَارِ فَضْلًا عَنْ أَنْ يُرَجَّحَ عَلَيْهِمَا ، وَهِيَ مَوْجُودَانِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وُجُودُهُمَا فِي حَقِّ الْبَالِغِ فَعَلَى هَذَا لَا يَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يَلْتَفِتَ إلَى قَوْلِ الْمُدَّعِي ؛ لِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّبَا بِالْأَصْلِ وَالْغَلَبَةِ عَلَى مُجَرَّدِ اسْتِسْخَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْحَاكِمِ اسْتِسْخَارٌ لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِجَعْلِ الصَّبِيِّ كَالثَّوْبِ ، إذْ لَا مُعَارِضَ لِرُجْحَانِ جَانِبِهِ بِالْأَصْلِ وَالْغَلَبَةِ ، فَكَيْفَ نَحْكُمُ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ مَعَ رُجْحَانِ جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ وَجْهَيْنِ لَا مُعَارِضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؟ ، . وَالْعَجَبُ مِمَّنْ لَا يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الصَّبِيِّ بَعْدَ الْبُلُوغِ مَعَ الرُّجْحَانِ الْمَذْكُورِ ؛ لِأَنَّ مَنْ جَعَلَهُ كَالثَّوْبِ يَحْتَجُّ بِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِقَوْلِهِ ، فَإِذَا صَارَ قَوْلُهُ مُعْتَبَرًا فَكَيْفَ نَجْزِمُ بِرِقِّهِ مَعَ ظُهُورِ صِدْقِهِ وَكَذِبِ غَرِيمِهِ فِي دَعْوَاهُ ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَتَوَقَّفُ فِيهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ ، وَكَذَلِكَ إقَامَةُ قَوْلِ الْحَاكِمِ وَحْدَهُ مَقَامَ قَوْلِ شَاهِدَيْنِ ، بَلْ مَقَامَ قَوْلِ أَرْبَعَةِ شُهُودٍ ، وَلَيْسَتْ الْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةً إجْمَاعِيَّةً ، فَإِنَّ مَنْ جَعَلَ الثُّبُوتَ حُكْمًا نَفَّذَ قَوْلَ الْحَاكِمِ ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْإِنْشَاءِ قَدَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَمَالِكٌ يَخْتَلِفُ فِي إقْرَارِ الْحَاكِمِ إذَا مَنَعَ الْقَضَاءَ بِعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ مَوْجُودَةٌ فِي قَوْلِهِ حَكَمْتُ مِثْلَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْكَامِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إنْشَاءَ تَصَرُّفٍ فِي حَقٍّ مِنْ حُقُوقِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَيَمْلِكُ الْمُجْبَرُ الْإِقْرَارَ بِهِ وَيَمْلِكُ الْمُجْبَرُ بِتَزْوِيجِ الْمُجْبَرَةِ لِظُهُورِ صِدْقِهِ وَلِتَعَلُّقِ حَقِّهِ ؛ بِخِلَافِ إقْرَارِ الْأَخِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي النِّكَاحِ . وَلَوْ مَلَكَ إنْشَاءً تَصَرُّفٍ بِالتَّوْكِيلِ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ فِي إنْشَائِهِ فِيهِ خِلَافٌ ، إذْ الْأَصْلُ عَدَمُ الْإِنْشَاءِ وَلَيْسَ الْحَقُّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ .
( فَائِدَةٌ ) الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِمَّنْ يُخْبِرُ عَنْ الْوَاقِعَةِ عَنْ سَمَاعٍ أَوْ مُشَاهَدَةٍ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِمَّنْ يُخْبِرُ بِذَلِكَ عَمَّنْ شَهِدَ الْوَاقِعَةَ ، أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ الْعَدْلَ إذَا قَالَ أَخْبَرَنِي فُلَانُ الْعَدْلُ أَنَّهُ رَأَى فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا فَإِنَّا نَظُنُّ صِدْقَهُ فِي ذَلِكَ ظَنًّا مُنْحَطًّا عَنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِمَّنْ يُخْبِرُ أَنَّهُ رَآهُ قَتَلَهُ . وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةٌ بِشُهُودِ الْفَرْعِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ حُضُورِ شُهُودِ الْأَصْلِ أَوْ عِنْدَ الْمَشَقَّةِ فِي حُضُورِهِمْ ، إذْ لَا يَجْتَزِئُ بِالظَّنِّ الضَّعِيفِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الظَّنِّ الْقَوِيِّ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ إذَا وَجَدَ النِّصَابَ ، بِخِلَافِ مِثْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ التَّوَسُّعَ فِي بَابِ الرِّوَايَةِ مَقْصُودٌ بِخِلَافِ الشَّهَادَاتِ .
( فَائِدَةٌ ) : إذَا أَمَرَ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِلْمَأْمُورِ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ كَيْ لَا يَغُرَّهُ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ ، فَإِنَّهُ إذَا عَلِمَ بِنَدْبِهِ فَقَدْ لَا تَسْخُو بِهِ نَفْسُهُ .
( فَائِدَةٌ ) لَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ فِي مَحَلٍّ يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ اجْتِهَادُهُ فَحَكَمَ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا ، كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِمَا حَكَمَ بِهِ أَوَّلًا ، وَلَا يَبْطُلُ الْأَوَّلُ بِذَلِكَ بَلْ يَنْقَطِعُ مِنْ حِينِ تَغَيَّرَ الِاجْتِهَادُ ، وَيَبْقَى الْأَوَّلُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ، كَمَا تُنْتَقَضُ الطَّهَارَةُ عِنْدَ النَّاقِضِ وَتَنْقَطِعُ أَحْكَامُهَا حِينَئِذٍ ، وَلَا تَبْطُلُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى النَّاقِضِ . وَكَذَلِكَ فَسْخُ الْمُعَامَلَاتِ ، فَقَوْلُنَا انْتَقَضَتْ الْوُضُوءُ وَانْفَسَخَ الْبَيْعُ وَانْتَقَضَ الْعَهْدُ ، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ أَصْلُهُ انْتَقَضَ أَحْكَامُ الْوُضُوءِ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ، وَانْفَسَخَتْ أَحْكَامُ الْبَيْعِ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ . وَانْتَقَضَتْ أَحْكَامُ الْعَهْدِ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ وَالْبَيْعَ وَالْعَهْدَ حَقَائِقُ قَدْ دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهَا وَلَا رَفْعُهَا .
أَحَدُهُمَا : مَا يَدُلُّ عَلَى شَرْعِيَّتِهَا . وَالثَّانِي : مَا يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِهَا مُسْتَنِدَةً إلَى أَسْبَابِهَا : فَالْأَسْبَابُ مُثْبِتَةٌ ، وَالْأَدِلَّةُ مُظْهِرَةٌ . فَأَمَّا أَدِلَّةُ شَرْعِيَّةِ الْأَحْكَامِ : فَالْكِتَابُ ، وَالسُّنَّةُ ، وَالْإِجْمَاعُ ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ الْمُعْتَبَرُ .
وَأَمَّا أَدِلَّةُ وُقُوعِهَا وَوُقُوعِ أَسْبَابِهَا وَشَرَائِطِهَا وَمَوَانِعِهَا وَأَوْقَاتُهَا وَإِحْلَالِهَا فَضَرْبَانِ ، أَحَدُهُمَا : مَا يَتَحَقَّقُ ، وَيُعْلَمُ أَسْبَابُ وُقُوعِهِ كَالْعِلْمِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ وَتَوَابِعِهَا مِنْ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالسُّنَّةِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَكَالْعِلْمِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِوُجُودِ الظُّهْرِ وَتَوَابِعِهَا ، وَكَذَلِكَ مَصِيرُ ظِلِّ الشَّمْسِ مِثْلَهُ ، وَغُرُوبُ الشَّمْسِ ، وَمَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَهِيَ أَسْبَابٌ لِوُجُوبِ الْعَصْرِ وَالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَتَوَابِعِهَا ، وَكَذَلِكَ الْأَسْبَابُ الْمُرَتَّبَاتُ كَالْقَتْلِ وَالْقَطْعِ ، وَكَذَلِكَ الْمَسْمُوعَاتُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَعُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يُظَنُّ تَحَقُّقُ أَسْبَابِهَا وَوُقُوعُهُ بِظُنُونٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ ، وَهِيَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا إقْرَارُ الْمُقِرِّينَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ أَرْبَعٍ مِنْ الْمُعَدَّلِينَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مِنْ الصَّالِحِينَ ، ثُمَّ شَهَادَةُ عَدْلٍ وَاحِدٍ مَعَ الْيَمِينِ . وَمِنْهَا شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِمَا يَخْفَى غَالِبًا عَلَى الرِّجَالِ الْمُعَدَّلِينَ ، وَمِنْهَا الْأَيْمَانُ الْوَاقِعَةُ بَعْدَ نُكُولِ النَّاكِلِينَ . وَمِنْهَا أَيْمَانُ الْقَسَامَةِ مَعَ اللَّوْثِ عَلَى الْقَائِلِينَ ، وَمِنْهَا أَيْمَانُ اللِّعَانِ عَلَى الْقَاذِفِينَ . وَأَمَّا يَمِينُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَأَيْمَانُ لِعَانِ النِّسَاءِ فَدَافِعَةٌ لِلْمُدَّعَى بِهِ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لَهُ . وَمِنْهَا خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي دُخُولِ الْأَوْقَاتِ وَتَعْرِيفِ جِهَاتِ الْقِبْلَةِ ، وَتَعْرِيفِ مَا وَقَعَ فِي الْأَوَانِي مِنْ النَّجَاسَاتِ . وَمِنْهَا : تَقْوِيمُ الْمُقَوِّمِينَ ، وَمَسْحُ الْمَاسِحِينَ ، وَقِسْمَةُ الْقَاسِمِينَ ، وَخَرْصُ الْخَارِصِينَ . وَمِنْهَا اسْتِلْحَاقُ الْمُسْتَلْحِقِينَ ، وَقِيَافَةُ الْقَائِفِينَ ، وَالِانْتِسَابُ عِنْدَ عَدَمِ الْقِيَافَةِ إلَى الْوَالِدَيْنِ . وَمِنْهَا زِفَافُ الْعَرُوسِ إلَى بَعْلِهَا مَعَ إخْبَارِهَا بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ مَعَ إخْبَارِ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ ، وَمِنْهَا إخْبَارُ الْمَرْأَةِ عَنْ حَيْضِهَا وَطُهْرِهَا ، وَمِنْهَا إخْبَارُ الْمُكَلَّفِ عَمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَمِنْهَا إخْبَارُهُ عَنْ تَحَقُّقِ مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ كَالثَّبَاتِ فِي الدُّيُونِ ، وَإِخْبَارِ الْمَأْذُونِ وَالْوَلِيِّ عَمَّا يُعَامَلَانِ بِهِ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا وَصْفُ اللُّقَطَةِ ، وَتَبْيِينُ عِفَاصِهَا وَوِكَائِهَا فَإِنَّهُ مُجَوِّزٌ لِدَفْعِهَا ، وَمِنْهَا دَلَالَةُ الْأَيْدِي عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَحَقِّينَ . وَمِنْهَا دَلَالَةُ الْأَيْدِي وَالتَّصَرُّفِ إلَى إمْلَاكِ الْمَالِكِينَ ، وَمِنْهَا وَصْفُ اللُّقَطَةِ دَلَالَةُ الِاسْتِفَاضَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا اسْتَفَاضَتْ . وَمِنْهَا دَلَالَةُ الدَّارِ عَلَى إسْلَامِ اللَّقِيطِ ، وَمِنْهَا دَلَالَةُ وَصْفِ الْأَبْنِيَةِ وَأَشْكَالِهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمُسْتَحَقِّينَ . وَمِنْهَا دَلَالَةُ الِاسْتِطْرَاقِ عَلَى اشْتَرَاك أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِيمَا يَسْتَطْرِقُونَ فِيهِ إذَا كَانَ مُفْسِدًا مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ . وَمِنْهَا دَلَالَةُ الْأَجْنِحَةِ وَالْمَيَازِيبِ وَالْقِنَى وَالْجَدَاوِلِ وَالسَّوَاقِي وَالْأَنْهَارِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا اتَّصَلَتْ بِمِلْكِهِ . وَمِنْهَا مُعَامَلَةُ مَنْ يُجْهَلُ رُشْدُهُ وَحُرِّيَّتُهُ ، وَأَكْلُ طَعَامِهِ وَالْحُكْمُ لَهُ وَعَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ . وَلَوْ تَوَقَّفَتْ الْمُعَامَلَاتُ عَلَى إثْبَاتِ الرُّشْدِ وَالْحُرِّيَّةِ لَمَا عَامَلْنَا كَثِيرًا مِنْ التُّجَّارِ الْوَارِدِينَ ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْأَسْوَاقِ الْمُقِيمِينَ ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الصُّنَّاعِ الْمُتَرَبِّصِينَ لِاسْتِعْمَالِ الْمُسْتَعْمَلِينَ كَالْحَاكَةِ وَالْأَسَاكِفَةِ وَالْخَيَّاطِينَ وَالنَّجَّارِينَ ، وَلَمَا جَازَ لِسَائِلٍ وَفَقِيرٍ وَعَالِمٍ أَنْ يَتَنَاوَلُوا الزَّكَاةَ وَالصَّدَقَةَ إلَّا مِمَّنْ ثَبَتَ رُشْدُهُ وَحُرِّيَّتُهُ عِنْدَهُمْ مِنْ الْبَاذِلِينَ ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ الْعُسْرِ الشَّدِيدِ الْمُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُحَاكَمَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ . وَهَذَا مَا غَلَبَ فِيهِ الظَّاهِرُ عَلَى اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ الْمَقْطُوعِ بِهِ ، فَإِنَّا نَقْطَعُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ إنْ كَانَ تَحْتَ الْحَجْرِ إذْ هُوَ صَغِيرٌ ، وَقَدْ زَالَ حَجْرُ الصَّبِيِّ بِالْبُلُوغِ ، فَاحْتَمَلَ بَعْدَ زَوَالِهِ أَنْ يَخْلُفَهُ الرُّشْدُ ، وَجَازَ أَنْ يَخْلُفَهُ حَجْرُ السَّفَهِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، فَيُحْجَرُ عَلَى مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْبُلُوغِ لِلشَّكِّ فِي الرُّشْدِ ، بَلْ لِقِلَّةِ الْعِفَّةِ عَلَى مَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِبُلُوغِهِ ، فَإِذَا انْتَهَى إلَى حَدٍّ يَغْلِبُ فِيهِ الرُّشْدُ عِنْدَ النَّاسِ حُكِمَ بِرُشْدِهِ لِغَلَبَةِ الرُّشْدِ عَلَيْهِ ، وَلِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ إجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُعَامَلَةِ الْمَجْهُولِينَ الْبَالِغِينَ إلَى حُدُودِ الرُّشْدِ فِي الْغَالِبِ . وَمِنْهَا اسْتِصْحَابُ الْأُصُولِ كَمَنْ لَزِمَهُ طَهَارَةٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ زَكَاةٌ أَوْ حَجٌّ أَوْ عُمْرَةٌ أَوْ دَيْنٌ لِآدَمِيٍّ ثُمَّ شَكَّ فِي أَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِيَامُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهُ فِي عُهْدَتِهِ ، وَلَوْ شَكَّ هَلْ لَزِمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَزِمَهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ عَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ شَكَّ فِي عِتْقِ أَمَتِهِ أَوْ طَلَاقِ زَوْجَتِهِ ، أَوْ شَكَّ فِي نَذْرٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ كُلَّهُمْ أَبْرِيَاءَ الذِّمَمِ وَالْأَجْسَادِ مِنْ حُقُوقِهِ وَحُقُوقِ الْعِبَادِ إلَى أَنْ تَتَحَقَّقَ أَسْبَابُ وُجُوبِهَا فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ مُفِيدَةٌ لِظُنُونٍ مُتَفَاوِتَةٍ فِي قُوَّتِهَا وَضَعْفِهَا أُثْبِتَ ضَعِيفُهَا لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فَاكْتَفَى فِي الِاسْتِفَاضَةِ فِي السَّيِّبِ إلَى الْإِبَانَةِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَلَوْ ثَبَتَتْ الِاسْتِفَاضَةُ لَانْسَدَّ بَابُ إثْبَاتِ الْأَنْسَابِ ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى فِي الْأَمْوَالِ وَمَنَافِعِ الْأَمْوَالِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ ؛ لِكَثْرَةِ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُمَا وَالِارْتِفَاقِ فِي الظَّعْنِ وَالْإِقَامَةِ ، فَلَوْ شَرَطَ فِيهِمَا عَدَدَ الشُّهُودِ لَتَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْوَالِ ، إذْ لَا يَتَيَسَّرُ الْعَدَدُ فِي كُلِّ مَكَان مِنْ الْحَضَرِ أَوْ السَّفَرِ وَاكْتَفَى فِي النِّسَاءِ الْمُجَرَّدَاتِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ إذْ لَوْ لَمْ نَكْتَفِ بِهِنَّ لَغَلَبَ ضَيَاعُ ذَلِكَ الْحَقِّ وَفَوَاتُهُ ، وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى شَرْطِ الْأَرْبَعَةِ فِي الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ الزِّنَا ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ظَنَّهُ بَلْ الْغَرَضُ مِنْ كَثْرَةِ الْعَدَدِ فِي الزِّنَا سَتْرُ الْأَعْرَاضِ ، وَدَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ فَضَيَّقَ الشَّرْعُ طَرِيقَ إثْبَاتِهِ دَفْعًا لِمَفَاسِدِهِ إذْ لَا يَتَيَسَّرُ حُضُورُ أَرْبَعَةٍ مِنْ الْعُدُولِ يُشَاهِدُونَ زِنَا الزَّانِينَ ، وَلَا عَارَ عَلَى الْقَاتِلِينَ ، وَلَا عَلَى عَشَائِرِهِمْ فِي الْغَالِبِ بَلْ قَدْ يَتَبَجَّجُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ بِقَتْلِ الْأَعْدَاءِ وَتَتَمَدَّحُ بِهِ عَشَائِرُهُمْ . وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَشْهُورٌ فِي أَسْفَارِ الْعَرَبِ وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ حُرَّاسٌ عَلَى كَتْمِ الْفَوَاحِشِ كَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ ، وَقَدْ عِيبَ عَلَى امْرِئِ الْقَيْسِ ذِكْرُهُ مُقَدَّمَ الزِّنَا فِي بَعْضِ قَصَائِدِهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ كَذِبُ الْعِلْمِ وَإِخْلَافُهُ ، وَالظَّنُّ يُتَصَوَّرُ الْكَذِبُ وَالْإِخْلَافُ . إلَّا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْوِفَاقَ غَالِبٌ عَلَيْهِ ، وَلِذَلِكَ اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ وَاتَّبَعَهُ الْعُقَلَاءُ فِي التَّصَرُّفَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، فَإِنَّ الصِّدْقَ الظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مَعَ جَمِيعِ الْأَدِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا ، وَإِنْ كَذَبَ الظَّنُّ فَقَدْ فَاتَتْ الْمَصَالِحُ وَتَحَقَّقَتْ الْمَفَاسِدُ وَلَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الشَّرْعِ مِنْ ذَلِكَ ، وَيُعْفَى عَنْ كَذِبِهِ فِي حَقِّ الْعَامِلِينَ بِهِ لِجَهْلِهِمْ بِكَذِبِهِ ، وَلَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا وَطَاقَتَهَا . فَإِنْ قِيلَ : مَا تَقُولُونَ إذَا تَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ ؟ قُلْنَا : أَمَّا أَدِلَّةُ نَصْبِ الشَّرِيعَةِ وَوَضْعِ الْأَحْكَامِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الدَّلِيلَيْنِ بَلْ يَتَوَقَّفُ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُ تَرَجُّحٌ مِنْ نَسْخٍ وَغَيْرِهِ ، فَإِنْ بَذَلَ جَهْدَهُ فَلَمْ يَظْفَرْ بِمُرَجِّحٍ ، وَرَجَعَ حِينَئِذٍ إلَى الْقِيَاسِ ، وَإِذًا لَيْسَ أَحَدُ الدَّلِيلَيْنِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ تَعَارُضُ عِلْمَيْنِ ، وَلَا تَعَارُضُ ظَنَّيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُؤَدٍّ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ أَدِلَّتِهَا الَّتِي ذَكَرْنَاهَا ، فَتَعَارَضَ الشَّهَادَتَانِ وَالْخَبَرَانِ وَالْأَصْلَانِ وَالظَّاهِرَانِ . وَكَذَلِكَ يَتَعَارَضُ الْأَصْلُ وَالظَّاهِرُ ، وَتَعَارَضَتْ الْأَدِلَّةُ الْمُفِيدَةُ لِلظُّنُونِ ، فَإِنْ كَانَ التَّعَارُضُ بَيْنَ ظَاهِرَيْنِ كَشَهَادَتَيْنِ مُتَنَاقِضَتَيْنِ أَوْ خَبَرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَجَبَ التَّوْقِيفُ ؛ لِانْتِفَاءِ الظَّنِّ الَّذِي هُوَ مُسْتَنَدُ الْأَحْكَامِ ، إذْ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ إلَّا بِعِلْمٍ أَوْ اعْتِقَادٍ ، فَإِذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ ظَنِّيَّانِ فَإِنْ وَجَدْنَا مِنْ أَنْفُسِنَا الظَّنَّ الْمُسْتَنِدَ إلَى أَنَّ أَحَدَ الدَّلِيلَيْنِ حَكَمْنَا بِهِ . وَإِنْ وَجَدْنَا الشَّكَّ وَالتَّرَدُّدَ عَلَى سَوَاءٍ وَجَبَ التَّوَقُّفُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الظَّنُّ عِنْدَ التَّعَارُضِ بَيْنَ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْهُ عِنْدَ انْفِرَادِهِ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ مُعَارِضِهِ فِي حَالِ الِانْفِرَادِ . مِثَالُ ذَلِكَ الْيَدُ : ظَاهِرَةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ ذِي الْيَدِ ، وَالْبَيِّنَةُ وَالْإِقْرَارُ وَالْيَمِينُ الْمَرْدُودَةُ مُرَجِّحَةٌ ؛ لِقُوَّةِ إفَادَتِهَا الظَّنَّ ، فَإِذَا تَعَارَضَتْ بَيِّنَتَانِ وَلَمْ نَجِدْ ظَنًّا لِتَسَاوِيهِمَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُقُوطِهِمَا ، فَإِنَّ الْقَرْعَ بَيْنَهُمَا لَا يُفِيدُ رُجْحَانَ أَحَدِهِمَا بِالْقُرْعَةِ ، وَإِذَا لَمْ يُرَجَّحْ أَحَدُهُمَا حَكَمْنَا بِالشَّكِّ ، وَالْحُكْمُ بِالشَّكِّ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَالْقُرْعَةُ فِي الشَّرْعِ لِتَعْيِينِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ ، وَهَهُنَا لَا يُعَيَّنُ رُجْحَانُهُ ، وَالشَّكُّ بَعْدَ وُجُودِهَا مِثْلُهُ قَبْلَ وُجُودِهَا ، إذْ لَمْ يُفِدْ رُجْحَانًا فِي الظَّنِّ ، وَلَا بَيَانًا فِيهِ ، وَمَنْ قَسَمَ بَيْنَ الْمُتَدَاعِيَيْنِ فَقَدْ خَالَفَ مُوجِبَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي نِصْفِ مَا شَهِدَتْ بِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَاهِدَةٌ بِالْجَمِيعِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ تَعَارُضُ الْبَيِّنَتَيْنِ الْمُتَسَاوِيَتَيْنِ كَاجْتِمَاعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْعَيْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْيَدَيْنِ مُفِيدَةٌ لِلظَّنِّ غَيْرُ مُكَذِّبَةٍ لِصَاحِبَتِهِمَا ، وَالْبَيِّنَتَانِ هَهُنَا مُتَكَاذِبَتَانِ لَا يَحْصُلُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ظَنٌّ ، وَالْبَيِّنَةُ مَا فِيهِ بَيَانٌ . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيَانٌ كَانَ الْحُكْمُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ عَلَى خِلَافِ الشَّرْعِ ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى وَقْفِ الْبَيِّنَتَيْنِ إلَى إصْلَاحِ الْخَصْمَيْنِ فَمَا أَبْعَدَ ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ الْحُكْمِ إلَى اتِّفَاقِ الِاصْطِلَاحِ .
وَقَدْ يَتَعَارَضُ أَصْلٌ وَظَاهِرٌ ، وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ اسْتِصْحَابًا بَلْ لِمُرَجِّحٍ يَنْضَمُّ إلَيْهِ مِنْ خَارِجٍ ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : طِينُ الشَّارِعِ فِي الْبُلْدَانِ فِي نَجَاسَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ نَجَسٌ لِغَلَبَةِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهِ . وَالثَّانِي : أَنَّهُ طَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ طَهَارَتُهُ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : الْمَقْبَرَةُ الْقَدِيمَةُ الْمَشْكُوكُ فِي نَبْشِهَا فِي تَحْرِيمِ الصَّلَاةِ فِيهَا قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : التَّحْرِيمُ ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْقُبُورِ النَّبْشُ ، وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : فِي الصَّلَاةِ فِي ثِيَابِ مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ بِمُخَامَرَةِ النَّجَاسَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَجُوزُ لِغَلَبَةِ النَّجَاسَةِ عَلَيْهَا . وَالثَّانِي : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّهَارَةُ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي النَّفَقَةِ مَعَ اجْتِمَاعِهِمَا وَتَلَازُمِهِمَا وَمُشَاهَدَةِ مَا يَنْقُلُهُ الزَّوْجُ إلَى مَسْكَنِهِمَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ . فَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ قَبْضِهَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَمَالِكٌ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ ، وَقَوْلُهُ ظَاهِرٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَسَائِرِ الدُّيُونِ أَنَّ الْعَادَةَ الْغَالِبَةَ مُثِيرَةٌ لِلظَّنِّ بِصِدْقِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ الِاسْتِصْحَابِ فِي الدُّيُونِ فَإِنَّهُ لَا مُعَارِضَ لَهُ ، وَلَوْ حَصَلَ لَهُ مُعَارِضٌ كَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لَأَسْقَطْنَاهُ ، مَعَ أَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ أَضْعَفُ مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ فِي إنْفَاقِ الْأَزْوَاجِ عَلَى نِسَائِهِمْ مَعَ الْمُخَالَطَةِ الدَّائِمَةِ ، نَعَمْ لَوْ اخْتَلَفْنَا فِي نَفَقَةِ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَبْعُدْ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : مَا إذَا ادَّعَى الْجَانِي شَلَلَ عُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَادَّعَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ سَلَامَتَهُ فَقَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَالثَّانِي : الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ الْغَالِبَ مِنْ أَعْضَاءِ النَّاسِ السَّلَامَةُ ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْجَانِي وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي وُجُودِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الظَّاهِرَ وُجُودُهُ لِلْغَلَبَةِ ، وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ الْجَانِي فِي ذِمَّةِ ذَلِكَ الْعُضْوِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَمِنْ قِصَاصِهِ .
وَقَدْ يَتَعَارَضُ أَصْلَانِ وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا وَلِذَلِكَ مِثَالَانِ : أَحَدُهُمَا : إذَا قَدَّ مَلْفُوفًا نِصْفَيْنِ فَزَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ حَيٌّ وَطَلَبَ الْقِصَاصَ وَزَعَمَ الْقَادُّ أَنَّهُ مَيِّتٌ ، فَعَلَى قَوْلٍ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَادِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ مِنْ الدِّيَةِ وَبَدَنِهِ مِنْ الْقِصَاصِ . وَعَلَى قَوْلٍ ، قَوْلُ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاةِ الْمَقْدُودِ ، وَقِيلَ إنْ كَانَ مَلْفُوفًا فِي ثِيَابِ الْأَحْيَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَوْلِيَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَلْفُوفًا فِي ثِيَابِ الْأَمْوَاتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجْنِيَاءِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا غَابَ الْعَبْدُ وَانْقَطَعَتْ أَخْبَارُهُ فَفِي وُجُوبِ فِطْرَتِهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ حَيَاتِهِ . وَالثَّانِي : لَا تَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّةِ السَّيِّدِ عَنْ فِطْرَتِهِ .
قَدْ يَتَعَارَضُ ظَاهِرَانِ ، وَيَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِيهِمَا وَلِذَلِكَ مِثَالَانِ : أَحَدُهُمَا : إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الِاشْتِرَاكَ فِي الْجَمِيعِ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا نَظَرًا إلَى الظَّاهِرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْيَدِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَلِيقُ بِهِ نَظَرًا إلَى الظَّاهِرِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْعَادَةِ الْغَالِبَةِ ، وَهَذَا مَذْهَبٌ ظَاهِرٌ مُتَّجَهٌ ، فَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ جُنْدِيًّا فَادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُ الْمَرْأَةِ فِي مَغَازِلِهَا وَحِقَاقِهَا وَمَقَانِعِهَا ، وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا شَرِيكَتُهُ فِي خَيْلِهِ وَسِلَاحِهِ وَأَقْبِيَتِهِ وَمَنَاطِقِهِ وَجُبَّتِهِ وَخُوذَتِهِ وَبَرْدِيَّتِهِ فَإِنَّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا ظَنًّا لَا يُمْكِنُنَا دَفْعُهُ أَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَجْنَادِ لِلزَّوْجِ ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ فَقِيهًا فَنَازَعَتْهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ ، أَوْ مُقْرِئًا فَنَازَعَتْهُ فِي كُتُبِ الْقِرَاءَةِ ، أَوْ طَبِيبًا فَنَازَعَتْهُ فِي كُتُبِ الطِّبِّ ، أَوْ مُحَدِّثًا فَنَازَعَتْهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ، أَوْ حَجَّامًا فَنَازَعَتْهُ فِي آلَةِ الْحِجَامَةِ ، أَوْ نَسَّاجًا فَنَازَعَتْهُ فِي آلَةِ النَّسْجِ ، أَوْ بَيْطَارًا فَنَازَعَتْهُ فِي آلَةِ الْبَيْطَرَةِ ، وَنَازَعَهَا هَؤُلَاءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مِنْ الْمَكَاحِلِ وَالْمُغَازَلِ وَالْحِقَاقِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَجِدُ فِي نَفْسِهِ ظَنًّا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّ مَا يَخْتَصُّ بِالْأَزْوَاجِ الْمَذْكُورِينَ لَهُمْ ، وَمَا يَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ لَهُنَّ ، وَمَا أَبْعَدَ الْمُشَارَكَةَ بَيْنَ الْجُنْدِيِّ وَامْرَأَتِهِ فِي حَقَّيْهِمَا .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا تَأَمَّلَ النَّاسُ الْهِلَالَ فَشَهِدَ بِرُؤْيَتِهِ عَدْلَانِ مِنْهُمْ ، وَلَمْ يَتَفَوَّهْ غَيْرُهُمَا بِرُؤْيَتِهِ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ، فَسَمِعَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ شَهَادَتَهُمَا وَظُهُورَ صِدْقِهِمَا بِمَا ثَبَتَ مِنْ عَدَالَتِهِمَا الْوَازِعَةِ عَنْ الْكَذِبِ ، وَرَأَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَدَّ شَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ تُكَذِّبُهُمَا ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْجَمْعَ الْكَثِيرَ إذَا رَأَوْا الْهِلَالَ شَهَرُوهُ وَتَفَوَّهُوا بِرُؤْيَتِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَفَوَّهْ بِرُؤْيَتِهِ إلَّا الشَّاهِدَانِ دَلَّ الظَّاهِرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْعَادَةِ عَلَى كَذِبِهِمَا أَوْ عَلَى ضَعْفِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِمَا ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مِنْ الدَّلَائِلِ عَلَى ثُبُوتِ الْأَحْكَامِ وَلَا يُكَذَّبُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الدَّلَائِلِ إلَّا نَادِرًا ، فَلِذَلِكَ اعْتَمَدَ الشَّرْعُ عَلَيْهَا كَيْ لَا تَفُوتَ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ غَالِبَةٌ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ .
( فَائِدَةٌ ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ أَوْ بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ ، وَلَا نَجْتَزِي فِي بَعْضِ الصُّوَرِ بِمُجَرَّدِ الظُّهُورِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الِاسْتِصْحَابِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِمَا ظَنًّا مُسْتَفَادًا مِنْ سَبَبٍ آخَرَ . وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا لَنْ نَجْمَعَ بَيْنَ ظَنَّيْنِ مُسْتَفَادَيْنِ ظَاهِرَيْنِ كَتَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيمَا هُوَ فِي يَدِهِ ، فَإِنَّ يَدَهُ دَالَّةٌ عَلَى صِدْقِهِ ، وَكَذَلِكَ يَمِينُهُ ظَاهِرَةٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ ، إذْ الْغَالِبُ مِمَّنْ يَعْرِفُ الرَّبَّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَتَجَرَّأُ عَلَى الْحَلِفِ بِهِ كَاذِبًا . الْمِثَالُ الثَّانِي : تَحْلِيفُ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ خَصْمِهِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ يَمِينِهِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : لَا نَجْتَزِي بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ اسْتِصْحَابِ الْأَصْلِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ ظَنٌّ مُسْتَفَادٌ مِنْ ظَاهِرٍ كَتَحْلِيفِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ يَتَعَلَّقُ بِذِمَّتِهِ أَوْ بِبَدَنِهِ ؛ فَإِنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِنْهُمَا ، وَلَا نَكْتَفِي بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْهُ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الْمُسْتَفَادَ مِنْ يَمِينِهِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ ، أَوْ ثَوْبٌ طَاهِرٌ بِثَوْبٍ نَجِسٍ فَأَرَادَ اسْتِعْمَالَ أَحَدِهِمَا بِنَاءً عَلَى الِاسْتِصْحَابِ لَمْ يَجُزْ ، فَإِنَّا لَا نَحْكُمُ بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاسْتِصْحَابِ حَتَّى نَضُمَّ إلَيْهِ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ الِاجْتِهَادِ ، وَنَكْتَفِيَ فِي الْقِبْلَةِ بِالظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ ؛ لِتَعَذُّرِ ضَمِّ الِاسْتِصْحَابِ إلَيْهِ ، إذْ لَيْسَ فِي الْجِهَاتِ جِهَةٌ يُقَالُ : الْأَصْلُ وُجُوبُ الْقِبْلَةِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الِاجْتِهَادُ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ نَكْتَفِي فِيهِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ ؛ لِتَعَذُّرِ الِاسْتِصْحَابِ . وَلَوْ أَثْبَتَهُ مَاءٌ وَبَوْلٌ فَلَا اجْتِهَادَ إذْ لَا نَقْنَعُ فِي هَذَا الْبَابِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الِاجْتِهَادِ وَفِيهِ وَجْهٌ ، وَالْفَارِقُ تَعَذُّرُ ذَلِكَ فِي الْقِبْلَةِ وَالْأَحْكَامِ ، وَتَيَسُّرُهُ فِي الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَالنَّجَسِ . وَأَمَّا الِاجْتِهَادُ فِي دُخُولِ رَمَضَانَ وَدُخُولِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مُسْتَفَادٌ مِنْ مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ دُونَ أَصْلٍ يُسْتَصْحَبُ . فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يُبْنَى إنْكَارُ الْمُنْكِرِ عَلَى الظُّنُونِ كَمَا ذَكَرْتُمُوهُ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ الْإِنْكَارُ مَبْنِيٌّ عَلَى الظُّنُونِ كَغَيْرِهِ ، فَإِنَّا لَوْ رَأَيْنَا إنْسَانًا يَسْلُبُ ثِيَابَ إنْسَانٍ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ ظَاهِرِ يَدِ الْمَسْلُوبِ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْنَاهُ يَجُرُّ امْرَأَةً إلَى مَنْزِلِهِ يَزْعُمُ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ مَا ادَّعَاهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَيْنَاهُ يَقْتُلُ إنْسَانًا يَزْعُمُ أَنَّهُ كَافِرٌ حَرْبِيٌّ دَخَلَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ وَهُوَ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْإِنْكَارُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ حُنَفَاءَ ، وَالدَّارُ دَالَّةٌ عَلَى إسْلَامِ أَهْلِهَا لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا ، فَإِذَا أَصَابَتْ ظُنُونُنَا فِي ذَلِكَ فَقَدْ قُمْنَا بِالْمَصَالِحِ الَّتِي أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْنَا الْقِيَامَ بِهَا وَأُجِرْنَا عَلَيْهَا إذَا قَصَدْنَا بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ - تَعَالَى - . وَإِنْ اخْتَلَفَتْ ظُنُونُنَا أُثِبْنَا عَلَى قُصُودِنَا وَكُنَّا مَعْذُورِينَ فِي ذَلِكَ كَمَا عُذِرَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي إنْكَارِهِ عَلَى الْخَضِرِ خَرْقَ السَّفِينَةِ وَقَتْلَ الْغُلَامِ وَبَالَغَ فِي إنْكَارِهِ بِقَسَمِهِ بِاَللَّهِ فِي قَوْلَيْهِ : { لَقَدْ جِئْت شَيْئًا إمْرًا } ، { لَقَدْ جِئْت شَيْئًا نُكْرًا } . وَلَوْ اطَّلَعَ مُوسَى عَلَى مَا فِي خَرْقِ السَّفِينَةِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَعَلَى مَا فِي قَتْلِ الْغُلَامِ مِنْ الْمَصْلَحَةِ ، وَعَلَى مَا فِي تَرْكِ السَّفِينَةِ مِنْ مَفْسَدَةِ غَصْبِهَا ، وَعَلَى مَا فِي إبْقَاءِ الْغُلَامِ مِنْ كُفْرِ أَبَوَيْهِ وَطُغْيَانِهِمَا لَمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِ وَلَسَاعَدَهُ فِي ذَلِكَ وَصَوَّبَ رَأْيَهُ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْقُرْبَةِ إلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - ، وَلَوْ وَقَعَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَكَانَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ . وَلَهُ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ : مِنْهَا : أَنْ تَكُونَ السَّفِينَةُ لِيَتِيمٍ يَخَافُ عَلَيْهَا الْوَصِيُّ أَنْ تُغْصَبَ وَعَلِمَ الْوَصِيُّ أَنَّهُ لَوْ خَرَقَهَا لَزَهِدَ الْغَاصِبُ عَنْ غَصْبِهَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ خَرْقُهَا حِفْظًا لِلْأَكْثَرِ بِتَفْوِيتِ الْأَقَلِّ ، فَإِنَّ حِفْظَ الْكَثِيرِ الْخَطِيرِ بِتَفْوِيتِ الْقَلِيلِ الْحَقِيرِ مِنْ أَحْسَنِ التَّصَرُّفَاتِ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } . وَمِنْهَا : لَوْ هَرَبَ مِنْ الْإِمَامِ مَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فَأَمَرَ الْإِمَامُ مَنْ يَلْحَقُهُ لِيَقْتُلَهُ فَاسْتَغَاثَ بِنَا لِنَمْنَعَهُ مِنْ قَتْلِهِ فَإِغَاثَتُهُ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا إذَا لَمْ نَعْلَمْ بِالْوَاقِعَةِ ، بَلْ لَوْ لَمْ يَنْدَفِعْ الْهَامُّ بِقَتْلِهِ إلَّا بِالْقَتْلِ لَقَتَلْنَاهُ . وَلَوْ اطَّلَعْنَا عَلَى الْبَاطِنِ لَسَاعَدَنَا عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ الْأَجْرُ فِي مُسَاعَدَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ جَوَّزَ الشَّرْعُ اللِّعَانَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ فِي أَيْمَانِهِ وَلِعَانِهِ ؟ قُلْنَا : إنَّمَا جَوَّزَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرًا يَقْتَضِي تَصْدِيقَهُ ، فَإِنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الزَّوْجِ الصِّدْقُ فِي قَذْفِهَا إذْ الْغَالِبُ أَنَّ الْأَزْوَاجَ لَا يَقْذِفُونَ أَزْوَاجَهُمْ ، وَالظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمَرْأَةِ الصِّدْقُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ زِنَاهَا . وَمِثْلُ ذَلِكَ : مَا لَوْ قَالَ رَجُلٌ إنْ كَانَ هَذَا الطَّائِرُ غُرَابًا فَزَوْجَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ ؛ وَقَالَ آخَرُ إنْ لَمْ يَكُنْ غُرَابًا فَزَوْجَتِي طَالِقٌ أَوْ عَبْدِي حُرٌّ أَوْ أَمَتِي حُرَّةٌ ، وَلَمْ نَعْلَمْ حَالَ الطَّائِرِ فَإِنَّا نُقِرُّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّعْلِيقِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُهُ الْبُضْعَ وَرَقَبَةَ الرَّقِيقِ فَأَشْبَهَ اللِّعَانَ ، وَلَوْ انْتَقَلَ رَقِيقُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ لَقَطَعْنَا بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فِيهِمَا ؛ لِتَحَقُّقِ الْمَفْسَدَةِ فِي حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا عُمِلَ بِالظُّنُونِ فِي مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ ؛ لِأَنَّ كَذِبَ الظُّنُونِ نَادِرٌ وَصِدْقَهَا غَالِبٌ ؛ فَلَوْ تَرَكَ الْعَمَلَ بِهَا خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ نَادِرِ كَذِبِهَا لَتَعَطَّلَتْ مَصَالِحُ كَثِيرَةٌ غَالِبَةٌ خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ مَفَاسِدَ قَلِيلَةٍ نَادِرَةٍ ، وَذَلِكَ عَلَى خِلَافِ حِكْمَةِ الْإِلَهِ الَّذِي شَرَّعَ الشَّرَائِعَ لِأَجْلِهَا . وَلَقَدْ هَدَى اللَّهُ أُولِي الْأَلْبَابِ إلَى مِثْلِ هَذَا قَبْلَ تَنْزِيلِ الْكِتَابِ ، فَإِنَّ مُعْظَمَ تَصَرُّفِهِمْ فِي مَتَاجِرِهِمْ وَصَنَائِعِهِمْ ، وَإِقَامَتِهِمْ وَأَسْفَارِهِمْ وَسَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِمْ مَبْنِيٌّ عَلَى أَغْلَبِ الْمَصَالِحِ مَعَ تَجْوِيزِ أَنْدَرِ الْمَفَاسِدِ ، فَإِنَّ الْمُسَافِرَ مَعَ تَجْوِيزِهِ لِتَلَفِهِ وَتَلَفِ مَالِهِ فِي السَّفَرِ يَبْتَنِي سَفَرُهُ عَلَى السَّلَامَةِ الْغَالِبَةِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَطْبُ نَفْسِهِ وَمَالِهِ نَادِرًا لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ عَلَيْهِ وَنُدْرَةِ الْهَلَاكِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ ، وَلَوْ قَعَدَ الْمَرْءُ فِي بَيْتِهِ مُهْمِلًا لِمَصَالِحِ دِينِهِ وَدِينَاهُ خَوْفًا مِنْ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَكَدَمَهُ بَعِيرٌ أَوْ رَفَسَهُ بَغْلٌ أَوْ نَدَسَهُ حِمَارٌ أَوْ قَتَلَهُ جَبَّارٌ مَعَ نُدْرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَأَلْحَقَهُ الْعُقَلَاءُ بِالْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَالْمَجَانِينِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ جَبَّارٌ يَطْلُبُهُ أَوْ عَدُوٌّ يُرْهِبُهُ أَوْ كَلْبٌ عَقُورٌ يَقْصِدُهُ لِيَعَضَّهُ فَخَرَجَ عَلَى هَؤُلَاءِ مُغَرِّرًا بِنَفْسِهِ لَعَدَّهُ الْعُقَلَاءُ مِنْ الْحَمْقَى وَالنَّوْكَى وَلَلَامَتْهُ الشَّرَائِعُ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَعَدَ عَنْ الْقِتَالِ عَنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَحَرِيمِهِ وَأَطْفَالِهِ ، وَإِحْرَازِ دِينِهِ لَعُدَّ جُبْنُهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ أَقْبَحِ الْقَبَائِحِ لِمَا فَوَّتَ بِهِ مِنْ عَظِيمِ الْمَصَالِحِ ، وَإِنْ كَانَ التَّغْرِيرُ بِالنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ قَبِيحًا مِنْ غَيْرِ مَصَالِحَ يَحُوزُهَا وَمَفَاسِدَ يُجَوِّزُهَا ، لَعَدَّ الْعُقَلَاءُ ذَلِكَ قَبِيحًا مِنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَطَرَ عِبَادَهُ عَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيُحَصِّلُوهَا ، وَعَلَى مَعْرِفَةِ مُعْظَمِ الْمَفَاسِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِيَتْرُكُوهَا ، وَلَوْ اسْتَقْرَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ عَمَّا رَكَّزَهُ اللَّهُ فِي الطِّبَاعِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا الْيَسِيرُ الْقَلِيلُ ، فَمُعْظَمُ مَا تَحُثُّ عَلَيْهِ الطَّبَائِعُ قَدْ حَثَّتْ عَلَيْهِ الشَّرَائِعُ وَمَا اتَّفَقَ عَلَى الصَّوَابِ إلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ كَثُرَ فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولُوا مَا وَجَبَ بِيَقِينٍ فَلَا يُبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِيَقِينٍ ، فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْيَقِينَ مُسْتَعَارٌ لِلظَّنِّ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا . الْوَجْهُ الثَّانِي : نَقُولُ إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَوْجَبَ عَلَيْنَا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ مَا نَظُنُّ أَنَّهُ الْوَاجِبُ فَإِذَا كَانَ الْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْمَظْنُونَ فَالْمُكَلَّفُ يَتَيَقَّنُ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ مَظْنُونٌ لَهُ وَأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمْ يُكَلِّفْهُ إلَّا مَا يَظُنُّهُ ، وَإِنَّ قَطْعَهُ بِالْحُكْمِ عِنْدَ ظَنِّهِ لَيْسَ قَطْعُهُ بِمُتَعَلَّقِ ظَنِّهِ بَلْ هُوَ قَطْعٌ بِوُجُودِ ظَنِّهِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الظَّنِّ وَبَيْنَ الْقَطْعِ بِوُجُودِ الْمَظْنُونِ . فَعَلَى هَذَا مَنْ ظَنَّ الْكَعْبَةِ فِي جِهَةٍ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ بِوُجُوبِ اسْتِقْبَالِ تِلْكَ الْجِهَةِ ، وَلَا يَقْطَعُ بِكَوْنِ الْكَعْبَةِ فِيهَا ، وَالْوَرَعُ تَرْكُ مَا يَرِيبُ الْمُكَلَّفُ إلَى مَا لَا يَرِيبُهُ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالِاحْتِيَاطِ فَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِإِنَاءٍ نَجِسٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ سِوَاهُمَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاجْتِهَادُ ، فَإِذَا أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى طَهَارَةِ أَحَدِهِمَا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إنَاءٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ ، كَمَنْ تَعَذَّرَتْ عَلَيْهِ مَعْرِفَةُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاجْتِهَادُ وَالْبِنَاءُ عَلَيْهِ . وَإِنْ كَانَ مَعَهُ إنَاءٌ طَاهِرٌ بِيَقِينٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَجْتَهِدَ بَيْنَ الْإِنَاءَيْنِ ، فَإِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى الْيَقِينِ تَخَيَّرَ فِي التَّطَهُّرِ بِأَيِّ الْمَاءَيْنِ شَاءَ ، وَإِنْ أَدَّاهُ الِاجْتِهَادُ إلَى الظَّنِّ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ اسْتِعْمَالُهُ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الطَّاهِرَ بِالظَّنِّ كَالطَّاهِرِ بِالْيَقِينِ . وَكَمَا لَوْ لَبِسَ ثَوْبًا طَاهِرًا بِالظَّنِّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ثَوْبٍ طَاهِرٍ بِيَقِينٍ ، وَفِيهِ وَجْهٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَى الِاجْتِهَادِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ طَاهِرٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَفِي الْعَمَلِ بِعُمُومِ هَذَا الْحَدِيثِ إشْكَالٌ ؛ لِأَنَّك إذَا حَمَلْتَهُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ لِصِيغَةِ الْأَمْرِ فَخَرَجَتْ مِنْهُ الْمَنْدُوبَاتُ . وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَى الْمَنْدُوبَاتِ كَانَ تَحَكُّمًا ، وَإِنْ حَمَلْتَهُ عَلَيْهِمَا جَمَعَتْ بَيْنَ الْمَجَازِ وَالْحَقِيقَةِ أَوْ بَيْنَ الْمُشْتَرَكَاتِ ، وَالْحَمْلُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ أَوْلَى مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْإِيجَابُ ، وَالْغَالِبَ عَلَى الْعُمُومِ التَّخْصِيصُ ، وَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ صِيغَةِ الْإِيجَابِ أَوْلَى مِنْ الْحَمْلِ عَلَى الْعُمُومِ مَعَ غَلَبَةِ تَخْصِيصِهِ . وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ : { وَافْعَلُوا الْخَيْرَ } ، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ الْعَمَلَ بِالظَّنِّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعِلْمُ أَوْ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ كَمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُعْظَمَ مَصَالِحِ الذُّنُوبِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالْمُبَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الظُّنُونِ الْمَضْبُوطَةِ بِالضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ . وَلَوْ شَكَّ الْمُصَلِّي فِي فَرَائِضِ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَعْدَادِ رَكَعَاتِهَا وَجَبَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ هَهُنَا ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى بِالْيَقِينِ إلَّا الِاعْتِقَادُ دُونَ الْعِلْمِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ } مُعْتَقِدًا أَنَّهُ كَمَّلَ الصَّلَاةَ ، وَلَوْ كَانَ الْعِلْمُ شَرْطًا لَمَا سَلَّمَ مَعَ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ ، وَلَوْ شَكَّ الْإِمَامُ فِي أَعْدَادِ الرَّكَعَاتِ فَسَبَّحَ لَهُ الْجَمَاعَةُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ أَكْمَلَ الصَّلَاةَ ، فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا تُحِيلُ الْعَادَةُ وُقُوعَ النِّسْيَانِ مِنْ جَمِيعِهِمْ بَنَى الْإِمَامُ عَلَى قَوْلِهِمْ لِعِلْمِهِ . فَإِنْ قِيلَ : مَاذَا تَقُولُونَ فِي قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ } وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذِبُ الْحَدِيثِ } ؟ . قُلْنَا : أَمَّا الْآيَةُ فَلَمْ يَنْهَ فِيهَا عَنْ كُلِّ ظَنٍّ ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ بَعْضِهِ وَهُوَ أَنْ نَبْنِيَ عَلَى الظَّنِّ مَا لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ عَلَيْهِ ، مِثْلُ أَنْ يَظُنَّ بِإِنْسَانٍ أَنَّهُ زَنَى أَوْ سَرَقَ أَوْ قَطَعَ الطَّرِيقَ أَوْ قَتَلَ نَفْسًا أَوْ أَخَذَ مَالًا أَوْ ثَلَبَ عِرْضًا فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاخِذَهُ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ يَسْتَنِدُ إلَيْهَا ظَنُّهُ . وَأَرَادَ أَنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَى ظَنِّهِ الْمَذْكُورِ فَهَذَا هُوَ الْإِثْمُ ، وَتَقْدِيرُ الْآيَةِ اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ اتِّبَاعِ الظَّنِّ إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ ، وَيَجِبُ تَقْدِيرُ هَذَا ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الظَّنِّ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِهِ الْمُثِيرَةِ لَهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ لِاجْتِنَابِ مَا لَا يُطَاقُ اجْتِنَابُهُ ، إذْ لَا يُمْكِنُ الظَّانُّ دَفْعَهُ عَنْ نَفْسِهِ مَعَ قِيَامِ أَسْبَابِهِ ، وَلَنْ يُكَلِّفَ اللَّهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا . وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ : إيَّاكُمْ وَاتِّبَاعَ بَعْضِ الظَّنِّ ، وَإِنَّمَا قَدَّرَ ذَلِكَ لِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى وُجُوبِ اتِّبَاعِ الظَّنِّ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ . وَكَذَلِكَ جَوَازُ اتِّبَاعِهِ فِيمَا أَوْرَدْنَاهُ ، وَاتِّبَاعُ هَذِهِ الظُّنُونِ الْمَذْكُورَةِ سَبَبٌ لِعِلَاجِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنَّ ظَنًّا هَذِهِ عَاقِبَتُهُ خَيْرٌ مِنْ عِلْمٍ لَا يَجْلِبُ خَيْرًا وَلَا يَدْفَعُ ضَيْرًا ، فَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ ظَنٍّ مُوجِبٍ لِرِضَا الرَّحْمَنِ وَسُكْنَى الْجِنَانِ ، وَرُبَّمَا كَانَ كَثِيرًا مِنْ الْعُلُومِ مُؤَدِّيًا إلَى سَخَطِ الدَّيَّانِ وَخُلُودِ النِّيرَانِ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا كَثِيرًا مِنْ أَرْبَابِ هَذِهِ الْعُلُومِ قَدْ فَارَقُوا الْإِسْلَامَ وَنَبَذُوا الْإِيمَانَ وَذَمُّوا عِلْمَ الشَّرَائِعِ وَمَدَحُوا عِلْمَ الطَّبَائِعِ { أُولَئِكَ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا } . فَالسَّعَادَةُ كُلُّ السَّعَادَةِ اتِّبَاعُ الْقُرْآنِ ، وَالتَّمَسُّكُ بِشَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ وَسُنَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ فَقَدْ بَعُدَ مِنْ اللَّهِ بِقَدْرِ مَا خَالَفَ مِنْهُ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُقِلْ ، وَمَنْ شَاءَ فَلْيَسْتَكْثِرْ ، وَسَيَعْلَمُ الْمَغْرُورُ إذَا انْقَشَعَ الْغُبَارُ أَفَرَسٌ تَحْتَهُ أَمْ حِمَارٌ ؟ وَمَا مِثْلُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الزَّمَانِ إلَّا كَمِثْلِ الْمُنَافِقِينَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ .
وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : مِنْهَا إذَا صَلَّى إلَى جِهَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ كَذِبُ ظَنِّهِ فَفِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا شَكَّ فِي طَهَارَةِ الْحَدَثِ فَصَلَّى بِالِاسْتِصْحَابِ ثُمَّ ظَهَرَ كَذِبُ ظَنِّهِ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِاهْتِمَامِ الشَّرْعِ بِطَهَارَةِ الْحَدَثِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا رَأَى الْمُتَيَمِّمُ الْمُسَافِرُ رَكْبًا فَظَنَّ أَنَّ مَعَهُمْ مَاءً فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ بَطَلَ تَيَمُّمُهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا ظَنَّ الْمُتَيَمِّمُ فَقْدَ الْمَاءِ فَصَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ فِي بَعْضِ قُمَاشِهِ مَاءً أَوْ وَجَدَ بِئْرًا حَيْثُ يَلْزَمُهُ الطَّلَبُ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِلصَّلَاةِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا صَلَّى بِمَا يَظُنُّ طَهَارَتَهُ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ نَجِسٌ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ وَلَا وَجْهَ لِلْخِلَافِ فِي ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا صَلَّى فَرِيضَةً عَلَى ظَنِّ دُخُولِ وَقْتِهَا بِأَنْ أَخْبَرَهُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ مُخْبِرٌ ثُمَّ أَخْلَفَ ظَنَّهُ وَجَبَتْ الْإِعَادَةُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ أَشْبَاحًا فِي اللَّيْلِ فَخَافُوهُمْ فَصَلُّوا صَلَاةَ شِدَّةِ الْخَوْفِ ثُمَّ بَانَ أَنَّهَا أَنْعَامٌ فَقَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا تَجِبُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ الصَّلَاةَ بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ وَقَدْ تَحَقَّقَ . وَالثَّانِي : تَجِبُ الْإِعَادَةُ لِكَذِبِ الظَّنِّ وَانْتِفَاءِ الضَّرَرِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا صَلَّى خَلْفَ مَنْ يَظُنُّهُ مُسْلِمًا أَوْ ذَكَرًا فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ لَزِمَتْهُ الْإِعَادَةُ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ عَلَى الْأَظْهَرِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ وَالْأُنُوثَةَ لَا يَخْفَيَانِ غَالِبًا ، وَكَذَلِكَ الْخُنُوثَةُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْخُنُوثَةَ خِلْقَةٌ لِلْعَادَةِ وَالدَّوَاعِي مُتَوَفِّرَةٌ عَلَى إشَاعَةِ مِثْلِهَا وَكَذَلِكَ لَا يُوجَدُ خُنْثَى مُشْكِلٌ فِي بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ إلَّا كَانَ مَشْهُورًا عِنْدَ النَّاسِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ مُعْتَقِدًا بَقَاءَهُ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ ، وَلَا يَخْرُجُ عَلَى الْخِلَافِ فِي بَقَائِهَا نَفْلًا ، إذْ لَيْسَ لَنَا نَفْلٌ عَلَى صُورَةِ الْكُسُوفِ فَيَنْدَرِجُ فِي نِيَّتِهِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا أَدَّى الزَّكَاةَ مِنْ مَالِ يَظُنُّ حِلَّهُ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ ، لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّى دَيْنًا أَوْ عَيْنًا ظَانًّا وُجُوبَ أَدَائِهَا عَلَيْهِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا عَجَّلَ الزَّكَاةَ عَلَى ظَنِّ بَقَاءِ الْفَقْرِ إلَى الْحَوْلِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ بِاسْتِغْنَاءِ الْفَقِيرِ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ بِذَلِكَ ، وَلَهُ الرُّجُوعُ بَاطِنًا لِخُرُوجِ الْمَقْبُوضِ عَنْ كَوْنِهِ زَكَاةً .
وَمِنْهُمَا أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الزَّكَاةَ إلَى مَنْ يَظُنُّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ كَالْفَقْرِ وَالْغُرْمِ وَالْكِتَابَةِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ لَمْ تَسْقُطْ الزَّكَاةُ عَنْهُ ، وَلَهُ اسْتِرْجَاعُ مَا دَفَعَهُ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا أَكْمَلَ الصَّائِمُونَ عِدَّةَ شَعْبَانَ عَلَى ظَنِّ بَقَائِهِ ثُمَّ كَذَبَ ظَنُّهُمْ فِي النَّهَارِ ، وَجَبَ الْقَضَاءُ ، وَفِي إمْسَاكِ مَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ قَوْلَانِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا تَسَحَّرَ الصَّائِمُ ظَانًّا بَقَاءَ اللَّيْلِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ صَدَقَ ظَنُّهُ أَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ صِدْقُهُ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ ، وَإِنْ أَكَلَ ظَانًّا دُخُولَ اللَّيْلِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ لَزِمَهُ الْقَضَاءُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ النَّهَارِ ، وَإِنْ أَكَلَ فِي النَّهَارِ أَوْ جَامَعَ لَظَنَّ أَنَّهُ مُفْطِرٌ فَكَذَبَ ظَنُّهُ لَمْ يَبْطُلْ صَوْمُهُ .
وَمِنْهَا : إذَا اجْتَهَدَ الْأَسِيرُ فِي الصَّوْمِ فَصَامَ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ اجْتِهَادِهِ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ ، فَإِنْ وَقَعَ صَوْمُهُ بَعْدَ الشَّهْرِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ وَقَعَ قَبْلَ الشَّهْرِ فَقَوْلَانِ ، وَإِنْ قُلْنَا لَا يُجْزِئُهُ فَفِي انْعِقَادِهِ وَجْهَانِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ ثُمَّ بَانَ أَنَّهُ مَغْصُوبٌ أَوْ مَمْلُوكٌ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا أَكْمَلَ الْحُجَّاجُ ذَا الْقَعْدَةِ وَوَقَفُوا فِي التَّاسِعِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِمْ بِالْعَاشِرِ فَإِنْ كَانُوا شِرْذِمَةً قَلِيلَةً وَجَبَ الْقَضَاءُ ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعَ الْحَاجِّ لَمْ يَجِبْ الْقَضَاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ الْعَامَّةِ ، وَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي الثَّامِنِ فَوَجْهَانِ لِنُدْرَةِ ذَلِكَ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ مَنْ نَذَرَ هَدْيًا مُعَيَّنًا أَوْ صَدَقَةً مُعَيَّنَةً ظَنًّا أَنَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ ثُمَّ كَذَبَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ نَذْرُهُ ، وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ظَنًّا أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ جَعَلَ بَعِيرَهُ هَدِيَّةً أَوْ أُضْحِيَّةً ظَنًّا أَنَّهُ حَيٌّ فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَ ذَلِكَ ، وَلَوْ نَذَرَ صَوْمَ يَوْمٍ مُعَيَّنٍ ظَانًّا أَنَّهُ يُقْبَلُ الصَّوْمُ فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَ نَذْرُهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا أَوْقَعَ شَيْئًا مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ أَوْ التَّبَرُّعَاتِ أَوْ الْأَوْقَافِ أَوْ الْهِبَاتِ أَوْ الْوَصَايَا أَوْ الْهَدَايَا ظَنًّا أَنَّهُ يَمْلِكُهُ فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ ، وَلَوْ شَرَطَ عَقْدًا فِي عَقْدٍ فَأَتَى بِالْعَقْدِ الْمَشْرُوطِ ظَانًّا وُجُوبَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَخْلَفَ ظَنَّهُ فِي وُجُوبِهِ صَحَّ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْأَصَحِّ لِوُجُوبِ أَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَضَى دَيْنًا يَظُنُّ وُجُوبَهُ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ ، فَإِنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ إسْقَاطٌ يَسْتَدْعِي ثُبُوتًا ، فَلَمْ يَجِدْ حَقِيقَتَهُ ، بِخِلَافِ الْعَقْدِ الَّذِي ظَنَّ وُجُوبَهُ ، فَإِنَّ حَقِيقَتَهُ قَدْ وُجِدَتْ بِأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا ، وَغَلِطَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَأَلْحَقَ الْعَقْدَ بِالدَّيْنِ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا بَاعَ مَالَ أَبِيهِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَيِّتٌ وَأَنَّهُ قَدْ وَرِثَهُ فَفِي صِحَّةِ بَيْعِهِ قَوْلَانِ ، وَلَوْ بَاعَ مَالَ أَبِيهِ ظَانًّا أَنَّهُ لَهُ ، فَظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَهُ بَعْدَ أَنْ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ صَحَّ بَيْعُهُ لِجَزْمِهِ بِالرِّضَا .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا تَوَكَّلَ فِي تَصَرُّفٍ ظَانًّا بَقَاءَ وَكَالَتِهِ ثُمَّ كَذَبَ ظَنُّهُ بِأَنْ مَاتَ الْمُوَكِّلُ أَوْ أَزَالَ الْمِلْكَ عَمَّا وَكَّلَهُ فِيهِ بَطَلَ ، وَإِنْ عَزَلَهُ فَقَوْلَانِ ، وَلَوْ مَاتَ الْإِمَامُ فَتَصَرَّفَ الْحُكَّامُ بَعْدَهُ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ حَيٌّ ؛ نَفَذَ تَصَرُّفُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ اسْتَنَابَهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ دُونَ نَفْسِهِ ، وَلَوْ مَاتَ الْحَاكِمُ ، فَفِي انْعِزَالِ نُوَّابِهِ لِمَوْتِهِ خِلَافٌ مَأْخَذُهُ أَنَّهُمْ نُوَّابُهُ أَوْ نُوَّابُ الْمُسْلِمِينَ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا وَكَّلَ فِي إعْتَاقِ عَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ ظَانًّا أَنَّهُ عَبْدُ الْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا هُوَ عَبْدُهُ نَفَذَ عِتْقُهُ .
وَمِنْهَا : مَا لَوْ ضَيَّفَ بِطَعَامٍ يَظُنُّهُ لِلْمُضِيفِ فَكَذَبَ ظَنُّهُ لَزِمَهُ الْعَزْمُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ أَوْ كَاتَبَ أَوْ دَبَّرَ ثُمَّ اخْتَلَفَ ظَنُّهُ فِي الْمِلْكِ بَطَلَ تَصَرُّفُهُ .
وَمِنْهَا : أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا خَلِيَّةً مِنْ الْمَوَانِعِ وَكَذَبَ ظَنُّهُ ، أَوْ ظَنَّ أَنَّ الَّذِي زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَ نِكَاحُهُ ، وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا ظَانًّا بَقَاءَ زَوْجِيَّتِهِمَا فَكَذَبَ ظَنُّهُ بِأَنْ طَلَّقَهَا وَكِيلُهُ فَعَلِمَتْ بِذَلِكَ أَوْ فَسَخَتْ النِّكَاحَ فِي غَيْبَتِهِ أَوْ ارْتَدَّتْ فَانْفَسَخَ النِّكَاحُ ، أَوْ انْفَسَخَ بِمُصَاهَرَةٍ أَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ رَجَعَ بِمَا أَنْفَقَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ آلَى مِنْهَا أَوْ ظَاهَرَ ظَانًّا بَقَاءَ نِكَاحِهَا فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَ الطَّلَاقُ وَالْإِيلَاءُ وَالظِّهَارُ . وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَجَعَهَا ظَانًّا بَقَاءَ عِدَّتِهَا فَكَذَبَ ظَنُّهُ بَطَلَتْ رَجْعَتُهُ ، وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا أَجْنَبِيَّةً فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا يَظُنُّهُ لِغَيْرِهِ فَإِذَا هُوَ عَبْدُهُ ، نَفَذَ طَلَاقُهُ وَعِتْقُهُ ، وَلَوْ وَطِئَ أَمَةً يَظُنُّهَا مَمْلُوكَتَهُ أَوْ حُرَّةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ فَأَخْلَفَ ظَنَّهُ وَجَبَتْ الْعِدَّةُ وَمَهْرُ الْمِثْلِ .
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْحَاكِمُ أَوْ الْإِمَامُ رَجُلًا قِصَاصًا أَوْ حَدًّا أَوْ رَجْمًا فِي زِنًا أَوْ جَلْدًا فِي حَدٍّ فَمَاتَ الْمَحْدُودُ مِنْ الْجَلْدِ فَأَخْلَفَ الظَّنَّ ، وَجَبَ الضَّمَانُ وَلَا يُطَالَبُ بِهِ الْجَلَّادُ . وَهَلْ يَتَعَلَّقُ بِعَاقِلَةِ الْإِمَامِ وَالْحَاكِمِ أَوْ بِبَيْتِ الْمَالِ ؟ فِيهِ خِلَافٌ وَلَوْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِالشَّهَادَةِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِقْرَارِ أَوْ وَلَّى عَلَى الْأَيْتَامِ مَنْ ظَنَّ أَهْلِيَّتَهُ لِذَلِكَ ثُمَّ أَخْلَفَ ظَنَّهُ بَطَلَ حُكْمُهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَمَ بِعِلْمِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْجَلْدَ قَدْ أُسْقِطَ قَبْلَ حُكْمِهِ بَطَلَ حُكْمُهُ ، وَلَوْ اجْتَهَدَ الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ شَرْعِيٍّ ثُمَّ بَانَ كَذِبُ ظَنِّهِ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِظَنٍّ يُسَاوِيهِ أَوْ تَرَجَّحَ عَلَيْهِ أَدْنَى رُجْحَانٍ ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمٌ يَنْقُضُ حُكْمَهُ وَبَنَى عَلَى اجْتِهَادِهِ الثَّانِي فِيمَا عَدَا الْأَحْكَامَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الِاجْتِهَادِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ تَبَاعَدَ الْمَأْخَذَانِ بِحَيْثُ تَبْعُدُ إصَابَتُهُ فِي الظَّنِّ الْأَوَّلِ نُقِضَ حُكْمُهُ ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ اجْتِهَادُهُ الْأَوَّلُ مُخَالِفًا لِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ جَلِيٍّ ، أَوْ لِلْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ يُنْقَضُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ بَنَى عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ثَانِيًا ، إلَّا أَنْ يَسْتَوِيَ الظَّنَّانِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ عَلَى الْأَصَحِّ .
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَحْوَجَ بَعْضَهُمْ إلَى بَعْضٍ لِتَقُومَ كُلُّ طَائِفَةٍ بِمَصَالِحِ غَيْرِهَا ، فَيَقُومُ بِمَصَالِحِ الْأَصَاغِرِ الْأَكَابِرُ ، وَالْأَصَاغِرُ بِمَصَالِحِ الْأَكَابِرِ ، وَالْأَغْنِيَاءُ بِمَصَالِحِ الْفُقَرَاءِ ، وَالْفُقَرَاءُ بِمَصَالِحِ الْأَغْنِيَاءِ ، وَالنُّظَرَاءُ بِمَصَالِحِ النُّظَرَاءِ ، وَالنِّسَاءُ بِمَصَالِحِ الرِّجَالِ ، وَالرِّجَالُ بِمَصَالِحِ النِّسَاءِ ، وَالرَّقِيقُ بِمَصَالِحِ السَّادَاتِ ، وَالسَّادَاتُ بِمَصَالِحِ الْأَرِقَّاءِ ، وَهَذَا الْقِيَامُ مُنْقَسِمٌ إلَى جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ إلَى دَفْعِ مَفَاسِدِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا . أَمَّا احْتِيَاجُ الْأَصَاغِرِ إلَى الْأَكَابِرِ فَهُوَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : الِاحْتِيَاجُ إلَى الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ إلَى الْوُلَاةِ الْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ إلَى الْقُضَاةِ الْقَائِمِينَ بِإِنْصَافِ الْمَظْلُومِينَ مِنْ الظَّالِمِينَ وَحِفْظِ الْحُقُوقِ عَلَى الْغَائِبِينَ ، وَعَلَى الْأَطْفَالِ وَالْمَجَانِينِ ، ثُمَّ إلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ الْقَائِمِينَ بِمَصَالِحِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ ، ثُمَّ بِأَوْلِيَاءِ النِّكَاحِ ، ثُمَّ بِالْأَمَانَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَلَوْلَا نَصْبُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لَفَاتَتْ الْمَصَالِحُ الشَّامِلَةُ ، وَتَحَقَّقَتْ الْمَفَاسِدُ الْعَامَّةُ وَلَاسْتَوْلَى الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ ، وَالدَّنِيءُ عَلَى الشَّرِيفِ ، وَكَذَلِكَ وُلَاةُ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ الْحُكَّامُ لَوْ لَمْ يُنَصَّبُوا لَفَاتَتْ حُقُوقُ الْمُسْلِمِينَ وَلَضَاعَتْ أَمْوَالُ الْغُيَّبِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تُفَوَّضْ التَّرْبِيَةُ إلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لَضَاعَ الْبَنُونَ وَالْبَنَاتُ . وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُفَوَّضْ الْإِنْكَاحُ إلَى الرِّجَالِ لَاسْتَحْيَا مُعْظَمُ النِّسَاءِ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ، وَلَتَضَرَّرْنَ بِالْخَجَلِ وَالِاسْتِحْيَاءِ ، وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَحْسَنَاتُ الْخَفِرَاتُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَانَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَوْ لَمْ تُشْرَعْ لَضَاعَتْ الْأَمْوَالُ الَّتِي اسْتَأْمَنَهُمْ الشَّرْعُ عَلَيْهَا وَلَتَضَرَّرَ مَالِكُوهَا ، وَكَذَلِكَ اللُّقَطَاءُ لَوْ لَمْ يُشْرَعْ الْتِقَاطُهُمْ لَفَاتَتْ عَلَى أَرْبَابِهَا وَسَنَذْكُرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَوَائِدَ كُلِّ وِلَايَةٍ وِلَايَةٍ . وَأَمَّا احْتِيَاجُ الْأَكَابِرِ إلَى الْأَصَاغِرِ فَنَوْعَانِ . أَحَدُهُمَا : الِاحْتِيَاجُ إلَى الْمُعَاوَنَةِ وَالْمُسَاعَدَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْأَجْسَامِ الْخَاصَّةِ بِهِمْ وَذَلِكَ بِالْمَنَافِعِ كَالِاسْتِيدَاعِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْحِرَاثَةِ وَالنِّسَاجَةِ وَالنِّجَارَةِ وَالتِّجَارَةِ وَالْبِنَاءِ وَالطِّبِّ وَالْمِسَاحَةِ وَالْقِسْمَةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يَحْتَاجُ الْعِبَادُ إلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ ، كَالْوَكَالَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْجَعَالَةِ وَالسِّفَادَةِ وَالْحَلْبِ وَكِرَاءِ الْجِمَالِ وَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْأَنْعَامِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَيْهِ أَوْ تَدْعُو إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ لَوْ لَمْ يَأْذَنْ الشَّرْعُ فِي هَذَا بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، لَأَدَّى إلَى هَلَاكِ الْعَالَمِ ، إذْ لَا يَتِمُّ نِظَامُهُ إلَّا بِمَا ذَكَرْتُهُ ، وَلِذَلِكَ قَالَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - : { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا } ، أَيْ لِتُسَخِّرَ الْأَغْنِيَاءُ الْفُقَرَاءَ فِيمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ لَاحْتَاجَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ حَرَّاثًا زَرَّاعًا سَاقِيًا بَاذِرًا حَاصِدًا دَائِسًا مُنَقِّيًا طَحَّانًا عَجَّانَا خَبَّازًا طَبَّاخًا ، وَلَاحْتَاجَ فِي آلَاتِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَكُونَ حَدَّادًا لِآلَاتِهِ نَجَّارًا لَهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ جَلْبِ الْحَدِيدِ وَالْأَخْشَابِ وَاسْتِصْنَاعِهَا ، وَكَذَلِكَ اللِّبَاسُ يَفْتَقِرُ قُطْنُهُ وَكَتَّانُهُ إلَى مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ الزَّرْعُ ثُمَّ إلَى غَزْلِهِ وَنَسْجِهِ أَوْ جَزِّهِ إنْ كَانَ مِنْ الْأَصْوَافِ وَالْأَوْبَارِ وَالْأَشْعَارِ ، ثُمَّ إلَى غَزْلِهِ وَنَسْجِهِ . وَكَذَلِكَ الْمَسَاكِنُ لَوْ لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهَا لَكَانَ أَكْثَرُ النَّاسِ مَطْرُوحِينَ عَلَى الطُّرُقَاتِ مُتَعَرِّضِينَ لِلْآفَاتِ وَظُهُورِ الْعَوْرَاتِ ، وَلِانْكِشَافِ أَزْوَاجِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَأَخَوَاتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ حِرْفَةٍ مِنْ الْحِرَفِ وَصَنْعَةٍ مِنْ الصَّنَائِعِ لَوْ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ فِيهَا لَتَعَطَّلَتْ جَمِيعُ مَصَالِحِهَا الْمَبْنِيَّةِ عَلَيْهَا لِنُدْرَةِ التَّبَرُّعِ بِهَا ، وَلَا سِيَّمَا الدَّلَّاكُ وَالْحَلَّاقُ وَالْحَشَّاشُ وَالْقَمَّامُ لَوْلَا اضْطِرَارُ الْفَقْرِ إلَيْهِ لَمَا بَاشَرُوهُ وَلَا أَكَبُّوا عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحْوَجَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَلَا مَسُوءَةَ لِاضْطِرَارِهِمْ إلَيْهِ . وَمِنْ حِكْمَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنْ وَفَّرَ دَوَاعِيَ كُلِّ قَوْمٍ عَلَى الْقِيَامِ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَصَالِحِ فَزَيَّنَ لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ وَحَبَّبَهُ إلَيْهِمْ لِيَصِيرُوا بِذَلِكَ إلَى مَا قَضَى لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ . وَلَوْ نَظَرَ النَّاظِرُونَ فِي جُلِّ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَدِقِّهَا ، لَعَجَزُوا عَنْ شُكْرِهَا ، بَلْ لَوْ عَدُّوهَا لَمَا أَحْصَوْا عَدَّهَا ، وَلَا قُدِّرَ شَيْءٌ مِنْهَا إلَّا عِنْدَ فَقْدِهِ وَعَدَمِهِ ، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَلَّا يُخَلِّيَنَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرْمِهِ ، فَلَوْ فَقَدَ أَحَدُنَا بَيْتًا يَأْوِيهِ ، أَوْ ثَوْبًا يُوَارِيهِ أَوْ مُدْفِئًا يُدْفِئُهُ ، لَمَا أَطَاقَ الصَّبْرَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّنَا لَمَّا غَمَرَتْنَا النِّعَمُ نَسِينَاهَا . وَكَذَلِكَ احْتَاجَ النُّظَرَاءُ إلَى النُّظَرَاءِ فِي الْمُعَامَلَاتِ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالْأَعْيَانِ ، وَإِبَاحَتُهُمَا بِالْمُعَاوَضَاتِ ، وَالْعَوَارِيّ وَالْإِبَاحَاتِ كَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَرَاكِبِ وَالْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يُبِحْ الشَّرْعُ فِيهِ التَّمْلِيكَ بِالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ لَهَلَكَ الْعَالَمُ ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّعَ بِهِ نَادِرٌ . وَمِنْ هَذِهِ الْمُعَامَلَاتِ : مَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ ، وَمِنْهَا مَا أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ نَدْبٌ ، وَمِنْهَا مَا أَجْمَعُوا عَلَى إبَاحَتِهِ كَالتَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ مِنْ لُبْسِ النَّاعِمَاتِ ، وَأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ ، وَشُرْبِ اللَّذِيذَاتِ ، وَسُكْنَى الْقُصُورِ الْعَالِيَاتِ ، وَالْغُرَفِ الْمُرْتَفِعَاتِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ كُلُّ قِسْمٍ مِنْهَا فِي مَنَازِلَ مُتَفَاوِتَاتٍ . فَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَتَنْقَسِمُ إلَى الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ وَالتَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ . فَالضَّرُورَاتُ : كَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَرَاكِبِ الْجَوَالِبِ لِلْأَقْوَاتِ وَغَيْرِهَا مِمَّا تَمَسُّ إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ ، وَأَقَلُّ الْمُجْزِئُ مِنْ ذَلِكَ ضَرُورِيٌّ ، وَمَا كَانَ فِي ذَلِكَ فِي أَعَلَا الْمَرَاتِبِ كَالْمَآكِلِ الطَّيِّبَاتِ وَالْمَلَابِسِ النَّاعِمَاتِ ، وَالْغُرَفِ الْعَالِيَاتِ ، وَالْقُصُورِ الْوَاسِعَاتِ ، وَالْمَرَاكِبِ النَّفِيسَاتِ وَنِكَاحِ الْحَسْنَاوَاتِ ، وَالسَّرَارِي الْفَائِقَاتِ ، فَهُوَ مِنْ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ ، وَمَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا فَهُوَ مِنْ الْحَاجَاتِ . وَأَمَّا مَصَالِحُ الْآخِرَةِ فَفِعْلُ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ الضَّرُورِيَّاتِ وَفِعْلُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَاتِ الْفَاضِلَاتِ مِنْ الْحَاجَاتِ ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ التَّابِعَةِ لِلْفَرَائِضِ وَالْمُسْتَقِلَّات فَهِيَ مِنْ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ . وَفَاضِلُ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَفْضُولِهِ ، فَيُقَدَّمُ مَا اشْتَدَّتْ الضَّرُورَةُ إلَيْهِ عَلَى مَا مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ سَاوَى الشَّرْعُ فِي الْقِسْمَةِ الْعَامَّةِ عَلَى تَفَاوُتِ الْحَاجَاتِ دُونَ الْفَضَائِلِ وَالْمَنَاقِبِ فَهَلَّا كَانَتْ قِسْمَةُ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ كَذَلِكَ ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ قِسْمَةَ الْقَدَرِ لَوْ كَانَتْ كَقِسْمَةِ الشَّرْعِ لَأَدَّى إلَى أَنْ يَعْجِزَ النَّاسُ عَنْ قِيَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمَذْكُورَةِ ، وَأَدَّى ذَلِكَ إلَى هَلَاكِ الْعَالَمِ وَتَعْطِيلِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ الْغَرَضَ بِقِسْمَةِ الْقَدَرِ أَنْ يَنْظُرَ الْغَنِيُّ إلَى مَنْ دُونَهُ امْتِحَانًا لِشُكْرِهِ ، وَيَنْظُرَ الْفَقِيرُ إلَى الْغَنِيِّ اخْتِبَارًا لِصَبْرِهِ ، وَقَدْ نَصَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا بِقَوْلِهِ : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } وَالْغَرَضُ بِالْقِسْمَةِ الشَّرْعِيَّةِ إنَّمَا هِيَ دَفْعُ الْحَاجَاتِ وَالضَّرُورَاتِ فَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ . وَأَمَّا قِيَامُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِالْمَصَالِحِ بِالْإِعْفَافِ مِنْ الطَّرَفَيْنِ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ وَبِقَضَاءِ الْأَوْطَارِ وَبِسُكُونِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ ، وَعَوْدَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا ، وَبِرَحْمَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا حَتَّى يَصِيرَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ كَالْحَمِيمِ الشَّفِيقِ ، أَوْ الْأَخِ الشَّقِيقِ ، يُفْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى الْآخَرِ بِمَا لَا يُقْضَى بِهِ إلَى وَلَدٍ وَلَا وَالِدٍ وَلَا صَدِيقٍ ، وَكَذَلِكَ بِمَا يَجِبُ لِلنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَسَاكِنِ ، وَمَا يَجِبُ لِلرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ لُزُومِ الْبُيُوتِ وَالطَّوَاعِيَةِ إذَا دَعَاهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَنَقْلِهَا إلَى أَيِّ الْبِلَادِ شَاءَ ، وَإِلَى أَيِّ الْأَوْطَانِ أَرَادَ ، وَتَوْرِيثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، وَبِمَا يُنْدَبُ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا زَائِدٌ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ . وَأَمَّا انْتِفَاعُ الرَّقِيقِ بِالسَّادَاتِ فَبِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَسَاكِنِ . وَأَمَّا انْتِفَاعُ السَّادَاتِ بِالرَّقِيقِ فَبِخِدْمَتِهِمْ فِي كُلِّ مَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ خِدْمَتَهُمْ فِيهِ ، وَيَزِيدُ الْإِنَاثُ عَلَى ذَلِكَ بِالِاسْتِمْتَاعِ وَالِانْتِفَاعِ .
اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَحْسَنَ إلَيْهِ وَفَّقَهُ لِطَاعَتِهِ وَنَيْلِ مَثُوبَتِهِ ، وَمَنْ خَذَلَهُ أَبْعَدَهُ بِمَعْصِيَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ ، فَمَصَالِحُ الْآخِرَةِ الْحُصُولُ عَلَى الثَّوَابِ ، وَالنَّجَاةُ مِنْ الْعِقَابِ ، وَمَفَاسِدُهَا الْحُصُولُ عَلَى الْعِقَابِ وَفَوَاتُ الثَّوَابِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَصَالِحِ الْآجِلَةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْعِبَادَاتِ كُلِّهَا إجْلَالُ الْإِلَهِ وَتَعْظِيمُهُ وَمَهَابَتُهُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالتَّفْوِيضُ إلَيْهِ . وَكَفَى بِمَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ صِفَاتِهِ شَرَفًا ، وَالْآخِرَةُ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ ثَوَابٍ يَقَعُ عَلَيْهَا مَا عَدَا النَّظَرَ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ . وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا فَمَا تَدْعُ إلَيْهِ الضَّرُورِيَّاتُ أَوْ الْحَاجَاتُ وَالتَّتِمَّاتُ وَالتَّكْمِلَاتُ . وَأَمَّا مَفَاسِدُهَا فَفَوَاتُ ذَلِكَ بِالْحُصُولِ عَلَى أَضْدَادِهِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بِالْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ ، وَقَدْ نَدَبَ الرَّبُّ إلَى الْإِكْثَارِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ عَلَى قَدْرِ الِاسْتِطَاعَاتِ ، وَنَدَبَ إلَى الِاقْتِصَارِ فِي الْمَصَالِحِ الدُّنْيَوِيَّةِ عَلَى مَا تَمَسُّ إلَيْهِ الضَّرُورَاتُ وَالْحَاجَاتُ ، فَرَغَّبَ الْأَغْنِيَاءَ الْأَشْقِيَاءَ فِي تَكْثِيرِ مَا أَمَرَ بِتَقْلِيلِهِ وَفِي تَقْلِيلِ مَا أَمَرَ بِتَكْثِيرِهِ فَسَخِطَ عَلَيْهِمْ وَأَشْقَاهُمْ ، وَأَبْعَدَهُمْ وَأَقْصَاهُمْ وَقَدْ قَالَ فِي أَكْثَرِهِمْ : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } وَرَغَّبَ الْأَنْبِيَاءَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْكَفَافِ مِنْ الْأَعْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ ، وَفِي الْإِكْثَارِ مِنْ التَّسَبُّبِ فِي الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، فَقَرَّبَهُمْ الرَّبُّ إلَيْهِ وَأَزْلَفَهُمْ لَدَيْهِ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ ، وَأَسْعَدَهُمْ وَتَوَلَّاهُمْ ، فَيَا شِقْوَةَ مَنْ آثَرَ الْخَسِيسَ الْفَانِيَ عَلَى النَّفِيسِ الْبَاقِي ، وَيَا غِبْطَةَ مَنْ أَرْضَى مَوْلَاهُ وَآثَرَ أُخْرَاهُ عَلَى أُولَاهُ فَلِمِثْلِ ذَلِكَ فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ ، وَفِيهِ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ .
( فَائِدَةٌ ) التَّكَالِيفُ كُلُّهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ وَاَللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْكُلِّ ، وَلَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ بَلْ لَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِ شَيْئًا ، وَلَوْ كَانُوا كُلُّهُمْ عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ يَزِدْ ذَلِكَ فِي مُلْكِهِ شَيْئًا ، وَلَمْ يَبْلُغُوا ضُرَّهُ فَيَضُرُّوهُ وَلَا نَفْعَهُ فَيَنْفَعُوهُ ، وَكُلٌّ ضَالٌّ إلَّا مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ ، وَجَائِعٌ إلَّا مَنْ أَطْعَمَهُ اللَّهُ ، وَعَارٍ إلَّا مَنْ كَسَاهُ ، وَإِنَّمَا سَبَقَ عِلْمُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِتَرْتِيبِ بَعْضِ الْحَادِثَاتِ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُقَدَّمُهَا مُوجِبًا لِمُؤَخَّرِهَا وَلَا مُنْشِئًا لَهُ بَلْ هُوَ الْمُتَّحِدُ بِتَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا ، وَبِالْعُقُوبَاتِ عَلَى الْمُخَالَفَاتِ ، وَبِالْمَثُوبَاتِ عَلَى الطَّاعَاتِ مِنْ غَيْر أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ مِنْهَا مِمَّا تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ، بَلْ الْكُلُّ مُسْتَنِدٌ إلَيْهِ ، وَلَوْ عَاقَبَ مِنْ غَيْرِ كُفْرٍ وَعِصْيَانٍ لَكَانَ عَدْلًا مُقْسِطًا ، وَلَوْ أَثَابَ مِنْ غَيْرِ طَاعَةٍ ، وَإِيمَانٍ لَكَانَ مُتَفَضِّلًا ، وَقَدْ أَجْرَى أَحْكَامَهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى أَسْبَابٍ رَبَطَ بِهَا لِيَعْرِفَ الْعِبَادُ بِالْأَسْبَابِ أَحْكَامَهَا لِيُسَارِعُوا بِذَلِكَ إلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ إذَا وَقَفُوا عَلَى الْأَسْبَابِ ، فَأَمَرَ الْمُكَلَّفِينَ كُلَّهُمْ وَنَهَاهُمْ ، وَدَعَاهُمْ إلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ وَاقْتَضَاهُمْ ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْصُونَهُ وَلَا يُطِيعُونَهُ ، وَيُخَالِفُونَهُ وَلَا يُوَافِقُونَهُ لِسَبْقِ عِلْمِهِ فِي ذَلِكَ فِيهِمْ وَنُفُوذِ إرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا عَلِمَ مِنْهُمْ ذَلِكَ فَلِمَ وَجَّهَ الْخِطَابَ إلَيْهِمْ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمْ لَا يُطِيعُونَ وَلَا يَمْتَثِلُونَ ، وَكَيْفَ يَطْلُبُ مِنْهُمْ مَا يُخَالِفُ عِلْمَهُ فِيهِمْ ، وَهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى تَبْدِيلِ عِلْمِهِ ، وَلَا عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِهِ ، فَعَلَى هَذَا قَدْ كَلَّفَهُمْ بِمَا لَا يُطِيقُونَ ؛ لِأَنَّ مَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَوَاجِبٌ أَلَّا يَكُونَ ، وَمَا عَلِمَ أَنْ يَكُونَ فَوَاجِبٌ حَتْمٌ أَنْ يَكُونَ . قُلْنَا : أَحْسَنُ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ تَوَجُّهَ الْخِطَابِ إلَى الْأَشْقِيَاءِ الَّذِينَ لَا يَمْتَثِلُونَ مَا أُمِرُوا بِهِ ، وَلَا يَجْتَنِبُونَ مَا نُهُوا عَنْهُ ، لَيْسَ طَلَبًا عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عَلَامَةٌ وُضِعَتْ عَلَى شَقَاوَتِهِمْ ، وَأَمَارَةٌ نُصِبَتْ عَلَى تَعْذِيبِهِمْ ، إذْ لَا يَبْعُدُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يُعَبَّرَ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْخَبَرِ كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا } ، وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { إنَّمَا أَمْرُهُ إذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } ، وَكَقَوْلِهِ : { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } وَكَقَوْلِهِ : { قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } ، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي تَعْذِيبِ مَنْ لَمْ يُذْنِبْ وَلَمْ يُخَالِفْ مَا سَنَذْكُرُهُ فِي إيلَامِ الْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ وَالصِّبْيَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - . وَكَمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : { إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُنْشِئُ فِي الْجَنَّةِ أَقْوَامًا } ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْحُورِ الْعِينِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَيْسَ بِدَعًا مِنْ إحْسَانِهِ الْمُبْتَدَأِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ ، فَإِنَّهُ قَدْ أَحْسَنَ إلَى الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، وَإِلَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَكَذَلِكَ أَحْسَنَ إلَى الْفُجَّارِ وَالْأَبْرَارِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ إلَى الْحَيَوَانَاتِ مِنْ الْوُحُوشِ وَالْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ ، وَقَدْ يُكَلِّفُ بِالطَّاعَةِ وَلَا يُثِيبُ عَلَيْهَا كَمَا كَلَّفَ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ ، وَمَنْ اعْتَرَضَ زَادَ شَقَاؤُهُ ، وَاشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَعَظُمَ عَنَاؤُهُ . وَيُجَابُ عَلَى اعْتِرَاضِهِ أَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ لَيْسَتْ مُقَيَّدَةً بِمَصَالِحِ الْعُبُودِيَّةِ ، وَلَا حَجْرَ لِلْعِبَادِ عَلَى رَبِّهِمْ حَتَّى لَا يَفْعَلَ إلَّا مَا يُصْلِحُهُمْ ، بَلْ الْقُدْرَةُ الْأَزَلِيَّةُ مُطْلَقَةٌ لَا تَتَقَيَّدُ بِمَا يُصْلِحُ الْعِبَادَ وَلَا بِمَا يَعْمُرُ الْبِلَادَ ، وَلَا بِمَا يُوجِبُ الرَّشَادَ ، وَقَدْ شَاهَدْنَا مَا يُبْتَلَى بِهِ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَلَا تَكْلِيفَ عَلَيْهِ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبَهَائِمِ مِنْ الْآلَامِ وَالْأَوْصَابِ وَالْجُوعِ وَالظَّمَأِ وَالْغَرَقِ وَالْحَرْقِ ، مَعَ أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الرَّبَّ لَا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ وَلَا يَتَضَرَّرُ بِفَقْدِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْتَفِعُ الْمُبْتَلَى بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَفِعُ بِفَقْدِهِ . فَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْأَشْقِيَاءِ : إنَّمَا ذَلِكَ لِيُثِيبَهُمْ عَلَيْهِ ؟ قُلْنَا لَهُ : قَدْ ضَلَلْت عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ، أَمَا كَانَ فِي قُدْرَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنْ يُحْسِنَ إلَيْهِمْ إلَّا عِوَضًا عَنْ تَعْذِيبِهِمْ ؟ فَإِنْ قَالَ : لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَخْفَى مَا فِي قُبْحِ هَذَا الْكَلَامِ . وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قِيلَ لَهُ فَلِمَاذَا أَضَرَّ بِهَؤُلَاءِ الْمَسَاكِينِ ؟ فَإِنْ قَالَ الشَّقِيُّ : إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَدْفَعَ ضَرَرَ مِنَّتِهِ . فَجَوَابُهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ كَانَ قَادِرًا عَلَى أَلَّا يَخْلُقَ لِمِنَّتِهِ ضَرَرًا . الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّ مِنَّةَ رَبِّ الْعَالَمِينَ شَرَفًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَا خُرُوجَ لِأَحَدٍ مِنْهَا وَلَا انْفِكَاكَ لَهُ عَنْهَا ، وَكَيْفَ نَخْرُجُ عَنْهَا وَهُوَ الْخَالِقُ لِذَوَاتِنَا وَجَمِيعِ صِفَاتِنَا وَأَرْزَاقِنَا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إنْ قُدِّرَ فِي مِنَّةِ الرَّبِّ ضَرَرٌ - تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ - فَمَفْسَدَةُ ذَلِكَ الضَّرَرِ أَخَفُّ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ بِمَا لَا يَتَنَاهَى ، فَإِنَّا لَوْ فَرَضْنَا مُبْتَلًى مُلْقًى عَلَى الْمَزَابِلِ مَجْذُومًا مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ فَأَتَاهُ إنْسَانٌ غَنِيٌّ يَقْدِرُ عَلَى أَلْفِ قِنْطَارٍ مِنْ الْمَالِ فَقَلَعَ عَيْنَهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ لُقْمَةً فَقِيلَ لَهُ لِمَ قَلَعْتَ عَيْنَ هَذَا الضَّعِيفِ الْمِسْكِينِ ؟ قَالَ إنَّمَا قَلَعْتُهَا ثُمَّ أُطْعِمُهُ هَذِهِ اللُّقْمَةَ ، فَقِيلَ لَهُ : أَكُنْت قَادِرًا عَلَى إطْعَامِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْلَعَ عَيْنَهُ ؟ فَقَالَ نَعَمْ : كُنْتُ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ فَقِيلَ : لَهُ فَلِمَ قَلَعْتهَا مَعَ سَعَةِ غِنَاك وَقُدْرَتِك عَلَى أَنْ لَا تَقْلَعَهَا ؟ فَقَالَ ؛ لِأُحْسِنَ إلَيْهِ بِدَفْعِ تَمْنُنِّي عَلَيْهِ ، لَقَطَعَ الْعُقَلَاءُ بِقُبْحِ مَا أَتَاهُ وَلَعَدُّوهُ مِنْ أَسْخَفِ النَّاسِ عَقْلًا ، وَأَفْسَدِهِمْ عَمَلًا ، وَأَفْشَلِهِمْ رَأْيًا ، فَإِنْ اعْتَبَرُوا الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ كَانَ هَذَا مُكَذِّبًا لَهُمْ لِقُبْحِهِ فِي الشَّاهِدِ ، وَحُسْنِ صُدُورِهِ مِنْ الرَّبِّ . وَإِنْ لَمْ يَعْتَبِرُوا الْغَائِبَ بِالشَّاهِدِ لَمْ يَجُزْ لَهُمْ إلْحَاقُ الْغَائِبِ بِالشَّاهِدِ مَعَ ظُهُورِ الْفَارِقِ ، فَإِنَّ هَذَا قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ حَسَنٌ فِي الْغَائِبِ . وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَدَرِيَّةُ إذَا سَلَّمُوا الْعِلْمَ خَصِمُوا ، وَمَعْنَاهُ إذَا سَلَّمُوا أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِمَا يَقَعُ فِي الْعَالَمِ مِنْ الْمَفَاسِدِ فَلَمْ يُزِلْهَا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إزَالَتِهَا فَهَذَا قَبِيحٌ فِي الشَّاهِدِ مِمَّنْ قَدَرَ عَلَى إزَالَتِهِ ، وَلَا يَقْبُحُ مِنْ الرَّبِّ لِمُوَافَقَتِهِمْ عَلَى أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مُثِّلَ ذَلِكَ بِرَجُلٍ لَهُ عَبْدٌ مُفْسِدٌ مُقَيَّدٌ يَعْلَمُ مَالِكُهُ أَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَهُ لَأَفْسَدَ أَمْلَاكَ سَيِّدِهِ وَأَمْوَالَهُ ، وَلَزَنَا بِإِمَائِهِ وَبَنَاتِهِ وَنِسَائِهِ ، وَلَقَتَلَ أَوْلَادَهُ وَأَحِبَّاءَهُ ، فَأَطْلَقَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ قَادِرًا عَلَى دَفْعِهِ مِنْ غَيْرِ عُسْرٍ فَلَمْ يَدْفَعْهُ ، فَإِنَّ هَذَا قَبِيحٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ ، وَلَمْ يُلْحِقُوا الْغَائِبَ فِيهِ بِالشَّاهِدِ . فَإِنَّ اللَّهَ أَقْدَرَ الْعَاصِينَ عَلَى عِصْيَانِهِمْ ، وَالْمُفْسِدِينَ عَلَى إفْسَادِهِمْ ، مَعَ أَنَّهُ عَالِمٌ بِمَا يَصْدُرُ مِنْهُمْ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْفَسَادِ ، وَهُوَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ نَاظِرٌ إلَيْهِمْ لَا يُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى تَغْيِيرِهِ ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا حَسَنٌ مِنْ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِذَا انْقَطَعَ الْغَائِبُ عَنْ الشَّاهِدِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَكَيْفَ يُلْحَقُ بِهِ فِيمَا سِوَاهَا ، فَيَقُولُ بَعْدَ هَذَا إنَّمَا نَصَبْت الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُكَلَّفِينَ دُونَ بَعْضٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ عَلِمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُمْ يَأْتَمِرُونَ بِأَوَامِرِهِ ، وَيَزْدَجِرُونَ بِزَوَاجِرِهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَصَالِحَ الْآخِرَةِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِمُعْظَمِ مَصَالِحِ الدُّنْيَا كَالْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَنَاكِحِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمَنَافِعِ ، فَلِذَلِكَ انْقَسَمَتْ الشَّرِيعَةُ إلَى الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فِي طَلَبِ الْمَصَالِحِ الْأُخْرَوِيَّةِ ، وَإِلَى الْعِبَادَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا كَالزَّكَاةِ ، وَإِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الْأُخْرَى كَالصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ انْقَسَمَتْ الْمُعَامَلَاتُ إلَى مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الدُّنْيَا كَالْبِيَاعَاتِ وَالْإِجَارَاتِ ، وَإِلَى مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مَصَالِحُ الْآخِرَةِ كَالْإِجَارَةِ بِالطَّاعَاتِ عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَإِلَى مَا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَصْلَحَتَانِ . أَمَّا مَصَالِحُ الْأُخْرَى فَلِبَاذِلِيهِ ، وَأَمَّا الْمَصَالِحُ الدُّنْيَا فَلِآخِذِيهِ وَقَابِلِيهِ ، وَإِلَى مَا يَتَخَيَّرُ بَاذِلُوهُ بَيْنَ أَنْ يَجْعَلُوهُ لِدُنْيَاهُمْ أَوْ أُخْرَاهُمْ ، أَوْ أَنْ يُشْرِكُوا فِيهِ بَيْنَ دُنْيَاهُمْ وَأُخْرَاهُمْ . وَأَمَّا الْعِبَادَاتُ فَأَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : الْمَعَارِفُ الْمُخْتَصَّةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - ، وَكَذَلِكَ الْأَحْوَالُ الْمَبْنِيَّةُ عَلَيْهَا . النَّوْعُ الثَّانِي : الْأَقْوَالُ الْمُخْتَصَّةُ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَسَائِرِ الْمَدَائِحِ الَّتِي بِهَا يُمْدَحُ الْإِلَهُ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْأَفْعَالُ الْمُخْتَصَّةُ بِاَللَّهِ كَالْحَجِّ فِي الْعُمْرَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالصِّيَامِ وَالطَّوَافِ الْمُجَرَّدِ وَالِاعْتِكَافِ . النَّوْعُ الرَّابِعُ : مَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ حَقُّ اللَّهِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْعِبَادِ كَالصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ . النَّوْعُ الْخَامِسُ : مَا يَشْتَمِلُ عَلَى الْحَقَّيْنِ وَيَغْلِبُ عَلَيْهِ حَقُّ الْعِبَادِ كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَسَتْرِ الْعَوْرَاتِ ، وَقَدْ يَجْتَمِعُ الْحَقَّانِ فِي الدِّمَاءِ ، وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَنْسَابِ . وَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَحَقُّ اللَّهِ - تَعَالَى - فِيهَا تَابِعٌ لِحُقُوقِ الْعِبَادِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُبَاحُ بِإِبَاحَتِهِمْ وَيُتَصَرَّفُ فِيهَا بِإِذْنِهِمْ ، وَفِي الْجِهَادِ الْحَقَّانِ جَمِيعًا . وَأَمَّا الْمُعَامَلَاتُ فَأَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : مَا وُضِعَ لِإِفَادَةِ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ كَالْبُيُوعِ وَالْإِجَارَاتِ وَتَدْخُلُهُ الْمَصَالِحُ الْآجِلَةُ بِالْمُبَاحَاتِ وَالْمُسَامَحَاتِ . النَّوْعُ الثَّانِي : مَا يَكُونُ مَصْلَحَةً عِوَضِيَّةً آجِلَةً كَالِاسْتِئْجَارِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، وَكَالِاسْتِئْجَارِ لِلْأَذَانِ بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ أَوْ بِتَعْلِيمِ الْقُرْآنِ وَكَالِاسْتِئْجَارِ بِالْحَجِّ أَوْ بِالْعُمْرَةِ عَلَى الصِّيَامِ ، وَكَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى بِنَاءِ الْمَسَاجِدِ بِالْحَجِّ أَوْ الْأَذَانِ أَوْ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : مَا تَكُونُ إحْدَى مَصْلَحَتَيْهِ عَاجِلَةً وَالثَّانِيَةُ آجِلَةً كَالْقَرْضِ ، مَصْلَحَتُهُ لِلْمُقْتَرِضِ عَاجِلَةٌ وَلِلْمُقْرِضِ آجِلَةٌ إذَا قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ ، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ إحْضَارِ مَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ لِلْمَضْمُونِ ، وَالْآجِلَةُ لِلضَّامِنِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْقُرْبَةَ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - . النَّوْعُ الرَّابِعُ : مَا تَكُونُ إحْدَى مَصْلَحَتَيْهِ عَاجِلَةً وَالْأُخْرَى يَتَخَيَّرُ بَاذِلُهَا بَيْنَ تَعْجِيلِهَا وَتَأْجِيلِهَا ، أَوْ مَا تَأَجَّلَ بَعْضُهَا دُونَ بَعْضٍ كَضَمَانِ الدُّيُونِ مَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ . وَأَمَّا الْآجِلَةُ ، فَإِنْ ضَمِنَ ذَلِكَ بِعِوَضٍ كَانَ كَالْقَرْضِ ، وَإِنْ ضَمِنَهُ مَجَّانًا أُثِيبَ عَلَيْهِ إنْ قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ . وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ الرُّجُوعَ بِالْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي قَبُولِ الْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ وَالْوَكَالَاتِ مَصْلَحَتُهَا الْعَاجِلَةُ لِلْمَالِكِ وَالْمُوَكِّلِ وَالْمُودِعِ وَفِي الْآجِلِ لِلْقَابِلِ إنْ قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ . النَّوْعُ الْخَامِسُ : مَا تَكُونُ مَصْلَحَتُهُ الْآجِلَةُ لِبَاذِلِيهِ ، وَالْعَاجِلَةُ لِقَابِلِيهِ كَالْأَوْقَافِ وَالْهِبَاتِ وَالْعَوَارِيّ وَالْوَصَايَا وَالْهَدَايَا . وَمِنْ ذَلِكَ الْمُسَامَحَةُ بِبَعْضِ الْأَعْوَاضِ ، مَصْلَحَتُهَا الْعَاجِلَةُ لِلْمُسَامِحِ الْقَابِلِ ، وَالْآجِلَةُ لِلْمُسَامِحِ الْبَاذِلِ . وَأَمَّا الْوِلَايَاتُ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي إحْدَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ فَمَصْلَحَتُهَا الْآجِلَةُ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ وَالْمُقْتَدِينَ ، إذْ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْفَرِيقَيْنِ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ فِي الْجُمُعَاتِ مُؤَكَّدَةٌ فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ . وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى الْأَمْوَاتِ فَفَائِدَتُهَا لِلْمُصَلِّي وَالْمُصَلَّى عَلَيْهِ آجِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتْ فِي الْحَضَانَةِ فَمَصْلَحَتُهَا لِلْمَحْضُونِ فِي الْعَاجِلِ وَالْحَاضِنِ فِي الْآجِلِ . وَإِنْ كَانَتْ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ فَمَصْلَحَتُهَا الْعَاجِلَةُ لَهَا ، وَيُثَابُ عَلَيْهَا الْوَلِيُّ إذَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ فِي الْآجِلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَائِقًا إلَى النِّكَاحِ قَاصِدًا لِلْعَفَافِ فَإِنَّ النِّكَاحَ لِلتَّائِقِ أَفْضَلُ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي الْعِبَادَاتِ ، وَالْوَلِيُّ مُعِينٌ عَلَيْهِ وَثَوَابُ الْإِعَانَةِ عَلَى قَدْرِ فَضْلِ الْمُعَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ فِي الْحَجْرِ فَهُوَ ضَرْبَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ لِمَصْلَحَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَالْحَجْرِ عَلَى السُّفَهَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ فَمَصْلَحَةُ الْحَاجِرِ فِيهِ آجِلَةٌ وَمَصْلَحَةُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَاجِلَةٌ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْحَجْرُ لِمَصْلَحَةِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَحَجْرِ الرِّقِّ وَالْفَلَسِ وَالْمَرَضِ . أَمَّا حَجْرُ الرِّقِّ فَمَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ لِلسَّادَاتِ ، وَالْعَبْدُ إذَا أَدَّى حَقَّ اللَّهِ ، وَحَقَّ مَوَالِيهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ . وَأَمَّا حَجْرُ الْفَلَسِ فَمَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ لِلْغُرَمَاءِ وَمَصْلَحَتُهُ الْآجِلَةُ لِلْحَاكِمِ ، وَفِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ . وَأَمَّا الشَّهَادَاتُ ، فَإِنْ كَانَتْ بِحُقُوقِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ فَالْقِيَامُ بِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْآجِلَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ كَانَتْ مَصَالِحُهَا الْعَاجِلَةُ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَالْآجِلَةُ لِلشَّاهِدِ إذَا قَصَدَ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ ، وَإِعَانَةَ أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ عَلَى حِفْظِ حَقِّهِ . وَالْحُكْمُ كَالشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ تَصَرُّفُ الْإِمَامِ إنْ تَصَرَّفَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ الْمَحْضَةِ ، كَانَتْ مَصَالِحُ تَصَرُّفِهِ آجِلَةً ، وَإِنْ تَصَرَّفَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ كَانَتْ مَصَالِحُ الْعِبَادِ عَاجِلَةً وَمَصَالِحُ الْإِمَامِ آجِلَةً ، وَإِنْ تَصَرَّفَ لِإِقَامَةِ الْحَقَّيْنِ حَصَلَ الْمَحْكُومُ لَهُ عَلَى الْفَوَائِدِ الْعَاجِلَةِ وَحَصَلَ الْإِمَامُ عَلَى الْأَجْرَيْنِ . وَأَمَّا الِالْتِقَاطُ ، فَمَصْلَحَتُهُ الْعَاجِلَةُ لِلَّقِيطِ وَمَصْلَحَتُهُ الْآجِلَةُ لِلْمُلْتَقِطِ . وَأَمَّا اللُّقَطَةُ ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُلْتَقِطُ الْحِفْظَ وَالتَّعْرِيفَ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لِلْمَالِكِ فِي الْعَاجِلِ وَلِلْمُلْتَقِطِ فِي الْآجِلِ ، وَإِنْ الْتَقَطَ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّمْلِيكِ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ الْعَاجِلَةُ لِلْمَالِكِ وَلِلْمُلْتَقِطِ مَعَ مَا يُرْجَى لِلْمُلْتَقِطِ مِنْ الْأَجْرِ فِي الْآجِلِ . وَإِنْ كَانَتْ الْوِلَايَةُ عَلَى الْقِسْمَةِ فَإِنْ قَسَمَهَا مَجَّانًا كَانَتْ الْفَائِدَةُ الْعَاجِلَةُ لِلْمُقْتَسِمِينَ وَالْآجِلَةُ لِلْقَاسِمِينَ ، لِمَا فِيهَا مِنْ إعَانَةِ الْمُقْتَسِمِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ بِعِوَضٍ لَا مُسَامَحَةَ فِيهِ كَانَتْ عَاجِلَةً لِلْقَاسِمِينَ وَالْمُقْتَسِمِينَ ، وَإِنْ سَامَحَ الْقَاسِمُ فِي الْأُجْرَةِ كَانَ لَهُ أَجْرُ الْمُسَامِحِينَ .
الْإِنْسَانُ مُكَلَّفٌ بِعِبَادَةِ الدَّيَّانِ بِاكْتِسَابٍ فِي الْقُلُوبِ وَالْحَوَاسِّ وَالْأَرْكَانِ مَا دَامَتْ حَيَاتُهُ ، وَلَمْ تَتِمَّ حَيَاتُهُ إلَّا بِدَفْعِ ضَرُورَاتِهِ وَحَاجَاتِهِ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَلَمْ يَتَأَتَّ ذَلِكَ إلَّا بِإِبَاحَتِهِ التَّصَرُّفَاتِ الدَّافِعَةَ لِلضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ . وَالتَّصَرُّفَاتُ أَنْوَاعٌ : نَقْلٌ ، وَإِسْقَاطٌ وَقَبْضٌ ، وَإِذْنٌ وَرَهْنٌ ، وَخَلْطٌ وَتَمَلُّكٌ ، وَاخْتِصَاصٌ ، وَإِتْلَافٌ ، وَتَأْدِيبٌ خَاصٌّ وَعَامٌّ ، فَنَذْكُرُ كُلَّ نَوْعٍ فِي بَابٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى - . الْبَابُ الْأَوَّلُ فِي نَقْلِ الْحَقِّ مِنْ مُسْتَحِقٍّ إلَى مُسْتَحِقٍّ . وَهُوَ ضَرْبَانِ : الضَّرْبُ الْأَوَّلُ : فِي النَّقْلِ بِعِوَضٍ وَهُوَ أَنْوَاعٌ . الْأَوَّلُ : الْبَيْعُ وَهُوَ نَقْلُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ الْعِوَضَانِ عَيْنًا ، وَإِنْ كَانَ دَيْنًا فَهُوَ مُقَابِلُهُ الْتِزَامُ دَيْنٍ بِالْتِزَامِ دَيْنٍ إلَى أَنْ يَتَّفِقَ التَّقَابُضُ فَيَنْتَقِلُ مِلْكُ الْبَائِعِ إلَى الْمُشْتَرِي وَمِلْكُ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ . وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ عَيْنًا وَالثَّمَنُ دَيْنًا كَانَ الْتِزَامُ الدَّيْنِ فِي نَقْلِ مُقَابِلِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ فَإِذَا قَبَضَ الدَّيْنَ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْبَائِعِ . النَّوْعُ الثَّانِي : الْإِجَارَةُ وَهِيَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ مَنَافِعَ ، وَتَتَعَلَّقُ الْمَنَافِعُ وَالْحُقُوقُ تَارَةً بِالذِّمَمِ وَتَارَةً بِالْأَعْيَانِ . النَّوْعُ الثَّالِثُ : الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ التَّابِعَةُ لَهَا وَهِيَ : الْتِزَامُ أَعْمَالِ الْفِلَاحَةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الْغَلَّةِ الْمَعْمُولِ عَلَى تَحْصِيلِهَا . النَّوْعُ الرَّابِعُ : الْقَرْضُ وَهُوَ تَعَاقُدٌ عَلَى الْإِجَارَةِ بِجُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الْأَرْبَاحِ . النَّوْعُ الْخَامِسُ : السَّلَمُ وَهُوَ بَيْعُ دَيْنٍ بِعَيْنٍ مَقْبُوضَةٍ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بِدَيْنٍ يُقْبَضُ فِيهِ . النَّوْعُ السَّادِسُ : الْقَرْضُ وَهُوَ بَدَلُ عَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ . النَّوْعُ السَّابِعُ : الْجَعَالَةُ وَهِيَ بَذْلُ مَالٍ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ مَقْصُودٍ مَجْهُولٍ ، وَفِي الْمَعْلُومِ خِلَافٌ . وَالْحَوَالَةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ بَيْعٍ وَقَبْضٍ ، وَالصُّلْحُ بَيْعٌ أَوْ إجَارَةٌ أَوْ إبْرَاءٌ أَوْ هِبَةٌ ، وَالْقِسْمَةُ بَيْعٌ عَلَى قَوْلٍ وَتَمْيِيزُ حَقٍّ عَلَى آخَرَ وَتَكُونُ نَوْعًا مُسْتَقِلًّا . وَأَمَّا الْفُسُوخُ فَهِيَ تَرَادٌّ بَيْنَ الْعِوَضَيْنِ أَوْ رَدٌّ فِي أَحَدِهِمَا فِي مُقَابَلَةِ قِيمَةِ الْآخَرِ كَالْفَسْخِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ ، وَخِيَارِ الشَّرْطِ وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَخِيَارِ التَّدْلِيسِ ، وَخِيَارِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَخِيَارِ رُجُوعِ الْبَائِعِ بِفَلَسِ الْمُشْتَرِي ، وَخِيَارِ تَعَذُّرِ إمْضَاءِ الْعَقْدِ . وَكَذَلِكَ مَا سَرَقَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَكَذَلِكَ اغْتِنَامُ أَمْوَالِهِمْ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَاتِلِ السَّلَبَ . وَكَذَلِكَ الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ مِنْ الْمُحَابِينَ . وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فَهُوَ نَقْلٌ لِلْمَنَافِعِ وَالْغَلَّاتِ إلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ ، وَهَلْ هُوَ نَقْلٌ لِرِقَابِ الْأَعْيَانِ فِيهِ خِلَافٌ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : النَّقْلُ مَجَّانًا بِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالزَّكَاةِ .
وَهِيَ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا : إسْقَاطٌ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَمِنْهُ الْإِبْرَاءُ الَّذِي يُسْقِطُ الدَّيْنَ مِنْ الذِّمَّةِ وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى الْمَدِينِ ، وَمِنْهُ إسْقَاطُ الْقِصَاصِ بِالْعَفْوِ فَإِنَّ الْعَفْوَ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ عَنْ الْجَانِي ، وَلَا يَنْقُلُهُ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ اللِّعَانُ يُسْقِطُ حَدَّ الْقَذْفِ عَنْ الزَّوْجِ وَلَا يَنْقُلُهُ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَفْوُ عَنْ التَّعْزِيرِ وَعَنْ حَدِّ الْقَذْفِ ، وَكَذَلِكَ إسْقَاطُ حَقِّ النِّكَاحِ وَالِاسْتِمْتَاعِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْمِلْكَ عَنْ الرِّقَابِ ، وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى الرَّقِيقِ ، وَكَذَلِكَ وَقْفُ الْمَسَاجِدِ يُسْقِطُ مِلْكَهَا وَلَا يَنْقُلُهُ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : الْإِسْقَاطُ بِالْأَعْوَاضِ كَإِسْقَاطِ حَقِّ الزَّوْجِ مِنْ الْبُضْعِ بِالْخُلْعِ أَوْ بِالطَّلَاقِ عَلَى مَالٍ ، وَكَالصُّلْحِ عَنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُهُ عَنْ الْمَدِينِ وَلَا يَنْقُلُهُ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ ، وَبَيْعُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْمِلْكَ ، وَلَا يَنْقُلُهُ إلَى الرَّقِيقِ ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَنْ الْقِصَاصِ فِي النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ الْقِصَاصَ عَنْ الْجَانِي وَلَا يَنْقُلُهُ إلَيْهِ ، فَيَقَعُ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ النَّقْلُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْإِسْقَاطُ مِنْ الْآخَرِ . وَأَمَّا مُقَابَلَةُ الْإِسْقَاطِ عِنْدَ تَسَاوِي الدُّيُونِ فِي بَابِ التَّقَاصِّ فَلَا نَقْلَ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَا مِنْ أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا هُوَ سُقُوطٌ فِي مُقَابَلَةِ سُقُوطٍ إذَا لَمْ يُشْتَرَطْ الرِّضَا أَوْ إسْقَاطٌ فِي مُقَابَلَةِ إسْقَاطِ مَا لَهَا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يُقَابَلُ إسْقَاطُ حَدِّ الْقَذْفِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَعْوَاضِ عَلَى الْأَصَحِّ .
وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ أَحَدُهَا : قَبْضٌ بِمُجَرَّدِ إذْنِ الشَّرْعِ دُونَ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ وَهُوَ أَنْوَاعٌ : فَمِنْهَا اللُّقَطَةُ وَمَالُ اللَّقِيطِ وَقَبْضُ الْمَغْصُوبِ مِنْ الْغَاصِبِ لِلْوُلَاةِ وَالْحُكَّامِ وَفِي الْآحَادِ خِلَافٌ وَمِنْهَا قَبْضُ الْحَاكِمِ أَمْوَالَ الْغُيَّبِ الَّتِي لَا حَافِظَ لَهَا ، وَمِنْ ذَلِكَ قَبْضُ أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِمْ بِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ ، وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْغُيَّبِ وَالْمَحْبُوسِينَ الَّذِينَ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ حِفْظِ أَمْوَالِهِمْ ، وَمِنْهَا مَنْ طَيَّرَتْ الرِّيحُ ثَوْبًا إلَى حِجْرِهِ أَوْ دَارِهِ ، وَمِنْهَا الْمُودَعُ إذَا مَاتَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةُ عِنْدَهُ ، وَمِنْهَا قَبْضُ الْمُضْطَرِّ مِنْ طَعَامِ الْأَجَانِبِ مَا تُدْفَعُ بِهِ ضَرُورَتُهُ . وَكَذَلِكَ سَرِقَةُ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ قَبْضُ الْإِنْسَانِ حَقَّهُ إذَا ظَفِرَ بِهِ ، بِجِنْسِهِ أَوْ بِغَيْرِ جِنْسِهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ قَبْضِهِ عَلَى إذْنِ مُسْتَحِقِّهِ كَقَبْضِ الْمَبِيعِ وَقَبْضِ الْمُتَسَاوَمِ عَلَيْهِ ، وَالْقَبْضِ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَقَبْضِ الرُّهُونِ ، وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ ، وَالْعَوَارِيّ ، وَقَبْضِ جَمِيعِ الْأَمَانَاتِ .
الضَّرْبُ الثَّالِثُ : قَبْضٌ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ الشَّرْعِ وَلَا مِنْ الْمُسْتَحِقِّ ، فَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ عَالِمًا بِتَحْرِيمِهِ فَهُوَ قَبْضُ الْمَغْصُوبِ وَهُوَ مُضَمَّنُ الْأَعْيَانِ وَالْمَنَافِعِ وَالصِّفَاتِ ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا مِثْلَ أَنْ يَقْبِضَ مَالًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ فَإِذَا هُوَ لِغَيْرِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا إبَاحَةَ فِيهِ ، وَتُضْمَنُ بِهِ الْعَيْنُ وَالْمَنَافِعُ وَالصِّفَاتُ .
الْبَابُ الرَّابِعُ فِي الْإِقْبَاضِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : الْمُنَاوَلَةُ فِيمَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِمُنَاوَلَتِهِ كَالْحُلِيِّ وَالْجَوَاهِرِ . النَّوْعُ الثَّانِي : مَا لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ كَالْعَقَارِ ، وَإِقْبَاضُهُ بِتَمْكِينِ الْقَابِضِ مِنْ الْمُقْبَضِ مَعَ إزَالَةِ يَدِ الْمُقْبِضِ وَتَمَكُّنِ الْقَابِضِ مِنْ الْقَبْضِ . الثَّالِثُ : مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يُسْتَحَقُّ كَيْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ ، فَقَبْضُهُ بِكَيْلِ مَكِيلِهِ وَوَزْنِ مَوْزُونِهِ : ثُمَّ نَقَلَهُ بَعْدَ تَقْدِيرِهِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا جَرَتْ الْعَادَةُ بِنَقْلِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ وَلَا وَزْنٍ كَالْمَتَاعِ وَالنُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَنَحْوِهَا فَقَبْضُهُ بِنَقْلِهِ إلَى مَكَان لَا يَخْتَصُّ بِبَائِعِهِ ، وَلَا تَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ عَلَى الْأَصَحِّ . النَّوْعُ الرَّابِعُ : الثِّمَارُ عَلَى الْأَشْجَارِ إذَا أَيْنَعَتْ وَبَدَا صَلَاحُهَا وَالْأَصَحُّ أَنَّ تَخْلِيَتَهَا قَبْضٌ لَهَا . النَّوْعُ الْخَامِسُ : مَا يَقْبِضُهُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ أَوْ حَفِيدِهِ وَيَقْبِضُهُ مِنْ نَفْسِهِ عَنْ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ وَمِنْ نَفْسِهِ لِوَلَدِهِ . النَّوْعُ السَّادِسُ : إذَا كَانَ لِلْمَدِينِ حَقٌّ فِي يَدِ رَبِّ الدَّيْنِ فَأَمَرَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ يَدِهِ لِنَفْسِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ .
( فَائِدَةٌ ) إذَا كَانَ الْمَقْبُوضُ غَائِبًا فَلَا بُدَّ أَنْ يَمْضِيَ زَمَانٌ يُمْكِنُ الْمُضِيُّ إلَيْهِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ مَا يَسْتَحِقُّ قَبْضُهُ بِيَدِ الْقَابِضِ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ مُضِيِّ الزَّمَانِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ الرُّؤْيَةِ خِلَافٌ فَإِنْ شَرَطْنَاهَا فَفِي اشْتِرَاطِ نَقْلِهِ خِلَافٌ .
الْبَابُ الْخَامِسُ فِي الْتِزَامِ الْحُقُوقِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ وَهِيَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : بِنَذْرٍ فِي الذِّمَمِ أَوْ الْأَعْيَانِ . الثَّانِي : الْتِزَامُ الدُّيُونِ بِالضَّمَانِ . الثَّالِثُ : ضَمَانُ الدَّرَكِ . الرَّابِعُ : ضَمَانُ الْوَجْهِ . الْخَامِسُ : ضَمَانُ إحْضَارِ مَا يَجِبُ إحْضَارُهُ مِنْ الْأَعْيَانِ الْمَضْمُونَاتِ .
الْبَابُ السَّادِسُ الْخَلْطُ وَالشَّرِكَةُ ضَرْبَانِ . أَحَدُهُمَا : شَرِكَةُ شِيَاعٍ . وَالثَّانِي : شَرِكَةٌ فِيمَا لَا يَتَمَيَّزُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
الْبَابُ السَّابِعُ إنْشَاءُ الْمِلْكِ فِيمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ وَهُوَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهُمَا : إرْقَاقُ الْكُفَّارِ بِالْقَهْرِ وَالْأَسْرِ . الثَّانِي : التَّمْلِيكُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ . الثَّالِثُ : التَّمْلِيكُ بِالِاصْطِيَادِ . الرَّابِعُ : تَمَلُّكُ الْمُبَاحَاتِ بِالْحِيَازَةِ كَالْمَعَادِنِ وَالْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ وَالْأَحْجَارِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ الَّتِي فِي الْمَعَادِنِ وَالْبِحَارِ .
الْبَابُ الثَّامِنُ : الِاخْتِصَاصُ بِالْمَنَافِعِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : الِاخْتِصَاصُ بِإِحْيَاءِ الْمَوَاتِ بِالتَّحَجُّرِ وَالْإِقْطَاعِ . الثَّانِي : الِاخْتِصَاصُ بِالسَّبْقِ إلَى بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ . الثَّالِثُ : الِاخْتِصَاصُ بِالسَّبْقِ إلَى مَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ . الرَّابِعُ : الِاخْتِصَاصُ بِمَقَاعِدِ الْمَسَاجِدِ لِلصَّلَاةِ وَالْعُزْلَةِ وَالِاعْتِكَافِ . الْخَامِسُ : الِاخْتِصَاصُ بِالسَّبْقِ إلَى الْمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَالْأَوْقَافِ . السَّادِسُ : الِاخْتِصَاصُ بِمَوَاقِعِ النُّسُكِ كَالْمَطَافِ وَالْمَسْعَى وَعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ وَمِنًى وَبِرَمْيِ الْجِمَارِ . السَّابِعُ : الِاخْتِصَاصُ بِالْخَانَاتِ الْمُسَبَّلَةِ فِي الطُّرُقَاتِ . الثَّامِنُ : الِاخْتِصَاصُ بِالْكِلَابِ وَالْمُحْتَرَمِ مِنْ الْخُمُورِ .
الْبَابُ التَّاسِعُ فِي الْإِذْنِ وَهُوَ ضَرْبَانِ أَحَدُهَا : مَا تَرْجِعُ فَائِدَتُهُ إلَى الْمَأْذُونِ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الْمَنَافِعِ فَهُوَ الْعَوَارِيّ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْأَعْيَانِ فَهُوَ الْمَنَائِحُ وَالضِّيَافَاتُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَرْضَ إذْنٌ فِي الْإِتْلَافِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى الْقَبُولِ بِالْقَوْلِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا تَرْجِعُ فَائِدَتُهُ إلَى الْآذِنِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ الِاسْتِصْنَاعِ كَالْحَلْقِ وَالْحِجَامَةِ وَالدَّلْكِ فَفِي اسْتِحْقَاقِ الْأُجْرَةِ بِهِ خِلَافٌ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ التَّصَرُّفِ الْقَوْلِيِّ فَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي أَصْنَافِ الْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفًا فِعْلِيًّا كَالْقَبْضِ وَالْإِقْبَاضِ فَهُوَ التَّوْكِيلُ فِي كُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِذْنُ مِنْ الْأَفْعَالِ الْقَابِلَةِ لِلتَّوْكِيلِ .
الْبَابُ الْعَاشِرُ الْإِتْلَافُ وَهُوَ أَضْرُبٌ أَحَدُهَا : إتْلَافٌ لِإِصْلَاحِ الْأَجْسَادِ وَحِفْظِ الْأَرْوَاحِ ، كَإِتْلَافِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ ، وَذَبْحِ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ حِفْظًا لِلْأَمْزِجَةِ وَالْأَرْوَاحِ ، وَيُلْحَقُ بِهِ قَطْعُ الْأَعْضَاءِ الْمُتَآكِلَةِ حِفْظًا لِلْأَرْوَاحِ ، فَإِنَّ إفْسَادَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ جَائِزٌ لِلْإِصْلَاحِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : إتْلَافُ الدَّفْعِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ . أَحَدُهَا : الْقَتْلُ وَالْقَطْعُ وَالْجَرْحُ ؛ لِدَفْعِ ضَرَرِ الصِّيَالِ عَلَى الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ . الثَّانِي : قَتْلُ الْحَيَوَانَاتِ الْمُؤْذِيَةِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ وَالسِّبَاعِ وَالضِّبَاعِ . الثَّالِثُ : قَتْلُ الْكُفَّارِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ فِي قِتَالِ الطَّلَبِ ، وَدَفْعًا لِمَفْسَدَتَيْ الْكُفْرِ وَالْإِضْرَارِ بِالْمُسْلِمِينَ فِي قِتَالِ الدَّفْعِ . الرَّابِعُ : قَتْلُ الْبُغَاةِ دَفْعًا لِبَغْيِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عَنْ الطَّاعَةِ . الْخَامِسُ : إتْلَافٌ لِدَفْعِ الْمَعْصِيَةِ كَقِتَالِ الظَّلَمَةِ دَفْعًا لِظُلْمِهِمْ وَعِصْيَانِهِمْ ، وَكَذَلِكَ تَخْرِيبُ دِيَارِ الْكُفَّارِ وَقَطْعُ أَشْجَارِهِمْ وَتَحْرِيقُهَا ، وَإِتْلَافُ مَلَابِسِهِمْ وَتَمْزِيقُهَا ، وَهِيَ نَوْعٌ مِنْ الْجِهَادِ . السَّادِسُ : إتْلَافُ مَا يُعْصَى اللَّهُ بِهِ كَالْمَلَاهِي وَالصُّلْبَانِ وَالْأَوْثَانِ . السَّابِعُ : إتْلَافُ الزَّجْرِ كَرَمْيِ الزُّنَاةِ وَالْقِصَاصِ مِنْ الْجُنَاةِ ، وَقَطْعُ السُّرَّاقِ وَالْمُحَارِبِينَ ؛ زَجْرًا عَنْ السَّرِقَةِ وَالْمُحَارَبَةِ وَالْجِنَايَةِ وَصَوْنًا لَهُمْ .
الْبَابُ الْحَادِيَ عَشْرَ التَّأْدِيبُ وَالزَّجْرُ وَهُوَ أَضْرُبٌ أَحَدُهَا : مَا قَدَّرَهُ الشَّرْعُ كَحَدِّ الزِّنَا وَالْقَذْفِ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ . الثَّانِي : مَا لَا تَقْدِيرَ فِيهِ كَالتَّعْزِيرَاتِ . الثَّالِثُ : التَّأْدِيبُ كَتَأْدِيبِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لِلْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ . الرَّابِعُ : تَأْدِيبُ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إلَى السَّادَاتِ فِي الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ . الْخَامِسُ : تَأْدِيبُ الدَّوَابِّ بِأَنْوَاعِ الرِّيَاضَاتِ . وَمَهْمَا حَصَلَ التَّأْدِيبُ بِالْأَخَفِّ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالْحَبْسِ وَالِاعْتِقَادِ ، لَمْ يُعْدَلْ إلَى الْأَغْلَظِ إذْ هُوَ مَفْسَدَةٌ لَا فَائِدَةَ فِيهِ ؛ لِحُصُولِ الْغَرَضِ بِمَا دُونَهُ .
فَصْلٌ فِي تَصَرُّفِ الْوُلَاةِ وَنُوَّابِهِمْ يَتَصَرَّفُ الْوُلَاةُ وَنُوَّابُهُمْ بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّصَرُّفَاتِ بِمَا هُوَ الْأَصْلَحُ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ دَرْءًا لِلضَّرَرِ وَالْفَسَادِ ، وَجَلْبًا لِلنَّفْعِ وَالرَّشَادِ ، وَلَا يَقْتَصِرُ أَحَدُهُمْ عَلَى الصَّلَاحِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلَحِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ ، وَلَا يَتَخَيَّرُونَ فِي التَّصَرُّفِ حَسَبَ تَخَيُّرِهِمْ فِي حُقُوقِ أَنْفُسِهِمْ مِثْلَ أَنْ يَبِيعُوا دِرْهَمًا بِدِرْهَمٍ ، أَوْ مَكِيلَةَ زَبِيبٍ بِمِثْلِهَا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي حُقُوقِ الْيَتَامَى فَأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ فِي حُقُوقِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْأَئِمَّةُ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ اعْتِنَاءَ الشَّرْعِ بِالْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَوْفَرُ وَأَكْثَرُ مِنْ اعْتِنَائِهِ بِالْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ جَرَّ فَسَادًا أَوْ دَفَعَ صَلَاحًا فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ كَإِضَاعَةِ الْمَالِ بِغَيْرِ فَائِدَةٍ ، وَإِضْرَارِ الْأَمْزِجَةِ لِغَيْرِ عَائِدَةٍ ، وَالْأَكْلُ عَلَى الشِّبَعِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِ الْأَمْوَالِ ، وَإِفْسَادِ الْأَمْزِجَةِ ، وَقَدْ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ الْأَرْوَاحِ ، وَلَوْ وَقَعَتْ مِثْلَ قِصَّةِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَانِنَا هَذَا لَجَازَ تَعْيِيبُ الْمَالِ حِفْظًا لِأَصْلِهِ وَلَأَوْجَبَتْ الْوِلَايَةُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ حِفْظًا لِلْأَكْثَرِ بِتَفْوِيتِ الْأَقَلِّ فَإِنَّ الشَّرْعَ يُحَصِّلُ الْأَصْلَحَ بِتَفْوِيتِ الْمَصَالِحِ ، كَمَا يَدْرَأُ الْأَفْسَدَ بِارْتِكَابِ الْمَفَاسِدِ ، وَمَا لَا فَسَادَ فِيهِ وَلَا صَلَاحَ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ الْوُلَاةُ عَلَى الْمُوَلَّى عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ الِانْفِكَاكُ عَنْهُ .
( فَوَائِدُ ) الْأُولَى : الْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ لِتَكُونَ الْعَدَالَةُ وَازِعَةً عَنْ التَّقْصِيرِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِأَنَّ الْوَازِعَ الطَّبَعِيَّ يَزَعُ عَنْ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ الْمُوَلَّى عَلَيْهِ . وَلَمْ تُشْتَرَطُ الْوِلَايَةُ فِي قَبُولِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الطَّبْعَ يَزَعُ عَنْ الْكَذِبِ فِيمَا يَضُرُّ بِنَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ ، وَالْوَازِعُ الطَّبِيعِيُّ أَقْوَى مِنْ الْوَازِعِ الشَّرْعِيِّ .
الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ : يُشْتَرَطُ فِي الْأَنْكِحَةِ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ مِنْ الْأَلْفَاظِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَالشُّهُودِ تَمْيِيزًا لِلنِّكَاحِ عَنْ السِّفَاحِ وَدَرْءًا لِلتُّهْمَةِ عَنْ الِافْتِضَاحِ .
الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ : كُلُّ شَيْءٍ عَسِرَ اجْتِنَابُهُ فِي الْعُقُودِ فَإِنَّ الشَّرْعَ يَسْمَحُ فِي تَحَمُّلِهِ كَبَيْعِ الْفُسْتُقِ فِي قِشْرِهِ وَمَا لَا تَدْعُو إلَيْهِ الْحَاجَةُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَنْكِحَةِ رُؤْيَةُ الْمَنْكُوحَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَرَضُ يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ اخْتِلَافًا ظَاهِرًا لِمَا فِي شَرْطِ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى النِّسَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَلِذَلِكَ تَقَدَّرَتْ مُدَّةُ النِّكَاحِ بِعُمُرِ أَقْصَرِ الزَّوْجَيْنِ عُمُرًا ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ أَنْ تَكُونَ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، كَمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْمُزَارَعَةِ ، وَلَيْسَ النِّكَاحُ نَقْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذْ يُثْبِتُ لِلزَّوْجِ مِنْ حُقُوقِ الِاسْتِمْتَاعِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِلْمَرْأَةِ فَهُوَ كَالنَّقْلِ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِنْشَاءُ تَمْلِيكٍ مِنْ وَجْهٍ ، وَلَا يَتَصَرَّفُ الزَّوْجُ فِي إزَالَتِهِ إلَّا بِالْإِسْقَاطِ دُونَ النَّقْلِ فِيمَا أَنْشَأَهُ الْمَوْلَى مِنْ حَقِّ الِاسْتِمْتَاعِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لِلْمَرْأَةِ .
فَصْلٌ فِيمَا يَسْرِي مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : أَنْ يُعْتِقَ مِنْ عَبْدِهِ جُزْءًا مُعَيَّنًا أَوْ شَائِعًا فَيَسْرِي إلَى سَائِرِهِ لِمَا فِي تَحْصِيلِ الْعِتْقِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْأَحْرَارِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : أَنْ يُعْتِقَ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ جُزْءًا مُعَيَّنًا أَوْ شَائِعًا فَيَسْرِي الْعِتْقُ إلَى بَقِيَّتِهِ ، وَلَا يَسْرِي الْعِتْقُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ إلَّا إعْتَاقَ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ يَسْرِي إلَى جَنِينِهَا ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْجَنِينَ يَسْرِي إلَى أُمِّهِ عَلَى الْأَصَحِّ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا طَلَّقَ مِنْ امْرَأَتِهِ جُزْءًا مُعَيَّنًا أَوْ شَائِعًا سَرَى الطَّلَاقُ إلَى بَقِيَّتِهَا احْتِيَاطًا لِلْأَبْضَاعِ بِخِلَافِ الْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى مَحَلِّهِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَهُ أَوْ كُلَّهُ ، فَإِنَّهُ يَسْرِي إلَى جَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي عَفْوِ الشَّرِيكِ فِي ذَلِكَ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : الْعَفْوُ عَنْ بَعْضِ الْمَأْخُوذِ بِالشُّفْعَةِ مُسْقِطٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ وَدَفْعًا لِلتَّضَرُّرِ بِتَفْرِيقِ الْمَأْخُوذِ .
قَاعِدَةٌ فِي أَلْفَاظِ التَّصَرُّفَاتِ . لَا يَتَعَيَّنُ لِلْعُقُودِ لَفْظٌ إلَّا النِّكَاحُ ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ لَهُ لَفْظُ التَّزْوِيجِ أَوْ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَلْفَاظِ لَا تَسْتَقِلُّ بِالدَّلَالَةِ عَلَى مَقَاصِدِ النِّكَاحِ ، فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ يَدُلُّ عَلَى نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الرَّقَبَةِ ، ثُمَّ الْمَنَافِعُ وَالثِّمَارُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْتَفَادَةٌ مِنْ الْمِلْكِ غَيْرُ مَعْقُودٍ عَلَيْهَا ، وَلَفْظُ الْإِجَارَةِ يَدُلُّ عَلَى تَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ الْمُقَدَّرَةِ ، وَالنِّكَاحُ مُؤَجَّلٌ بِمَوْتِ أَقْصَرِ الزَّوْجَيْنِ عُمُرًا أَوْ بِالْعُمُرَيْنِ إنْ مَاتَ الزَّوْجَانِ مَعًا ، وَجَمِيعُ أَلْفَاظِ الْعُقُودِ لَا تَدُلُّ عَلَى خَصَائِصِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ نَوَى جَمِيعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَلَا اطِّلَاعَ لِلشُّهُودِ عَلَى النِّيَّاتِ .
قَاعِدَةٌ فِيمَا تُحْمَلُ عَلَيْهِ أَلْفَاظُ التَّصَرُّفَاتِ . مَنْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالرَّهْنِ وَالْوَكَالَةِ وَالسَّلَمِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنِّكَاحِ وَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالْهَدْيِ ، وَعَيَّنَ أَوْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ عَلَّقَ عَلَيْهِ طَلَاقًا ، أَوْ عَتَاقًا ، أَوْ نَذْرًا ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ وَيَمِينَهُ وَتَعْلِيقَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ ذَلِكَ دُونَ الْفَاسِدِ لِظُهُورِهِ فِيهِ ، فَإِنْ تَأَوَّلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ مُحْتَمِلًا لِمَا نَوَاهُ قُبِلَ تَأْوِيلُهُ فِي الْفَسَادِ دُونَ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ أَسِيرُ الْمُسْتَفْتِي ، وَالْحَاكِمَ أَسِيرُ الْحِجَجِ الشَّرْعِيَّةِ وَالظَّوَاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْتَمِلْهُ لَفْظُهُ لَمْ يُقْبَلْ تَأْوِيلُهُ فِي الْفُتْيَا إلَّا أَنْ يَقْصِدَ وَضْعَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي أَرَادَهُ فَلَا يَنْفَعُهُ عَلَى الْأَصَحِّ . وَإِنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ وَجَبَ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ السَّرِقَةِ صَرِيحٌ فِي أَخْذِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَلَا يَجِبُ الْقَطْعُ بِذِكْرِ السَّرِقَةِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهِ وَلِخَفَاءِ شَرَائِطِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَالنِّكَاحِ .
وَلِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ الشُّرُوطِ فِي النِّكَاحِ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ فِي شَرَائِطِهِ ، وَطَرَدَهُ بَعْضُهُمْ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بِالِاحْتِيَاطِ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَجْلِ الْأَبْضَاعِ ، وَيَجِبُ طَرْدُ مَا قَالَ فِي بَيْعِ الْجَوَارِي ، وَلَوْ قِيلَ : إنَّ الْبَيْعَ أَوْلَى بِالتَّفْصِيلِ مِنْ النِّكَاحِ لَكَانَ مُتَّجَهًا ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْأَنْكِحَةِ وُقُوعُهَا بِالشَّرَائِطِ الْمُعْتَبَرَةِ ، وَلَيْسَتْ الْبُيُوعُ كَذَلِكَ لِغَلَبَةِ بَيْعِ الْمُعَاطَاةِ وَبَيْعِ مَا لَمْ يُرَ مِنْ الْمَتَاعِ .
وَإِنْ ادَّعَى أَمْرًا مُخْتَلَفًا فِي حَدِّهِ وَحَقِيقَتِهِ الشَّرْعِيَّةِ كَدَعْوَى الرَّضَاعِ وَالْمِيرَاثِ وَالتَّفْسِيقِ وَنَجَاسَةِ الْمَاءِ . فَلِلْمُدَّعَى بِهِ حَالَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ تَخْتَلِفَ رُتْبَتُهُ وَلَهُ مِثَالَانِ : أَحَدُهُمَا الشَّهَادَةُ بِالرَّضَاعِ ، وَلِلْحَاكِمِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ : الْحَالُ الْأُولَى أَنْ يَقُولَ بِأَدْنَى رُتَبِ الْأَسْبَابِ فَيَحْرُمُ بِالْمَصَّةِ وَالْمَصَّتَيْنِ كَمَالِكٍ فَيَلْزَمُهُ السَّمَاعُ وَالْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَتَرَدَّدْ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ وَبَيْنَ مَا لَا يُقْبَلُ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَقُولَ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ فَلَا يَكْفِي بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ بِالرَّضَاعِ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الثَّلَاثِ الْمُحَرَّمَةِ وَمَا دُونَهَا . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْهَا رَضَعَاتٍ ، فَلِمَنْ يَقُولُ بِالثَّلَاثِ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى شَهَادَتِهِ ، إذْ لَا تَرَدُّدَ فِيهَا بَيْنَ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِهِ ، وَإِنْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِالْخَمْسِ لَمْ يَحْكُمْ بِهَا ؛ لِتَرَدُّدِهَا بَيْنَ الْخَمْسِ وَمَا دُونَهَا . الْمِثَالُ الثَّانِي : أَنْ يَشْهَدَ بِانْحِصَارِ الْإِرْثِ فِي إنْسَانٍ وَلَا يَذْكُرُ سَبَبَ الْإِرْثِ مِثْلَ أَنْ يَقُولَ أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا وَارِثُ فُلَانٍ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَاهُ ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ يَقُولُ بِتَوْرِيثِ ذَوِي الْأَرْحَامِ قِبَلَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَرِثَ بِالرَّحِمِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَرِثَ بِالْقَرَابَةِ أَوْ بِالْوَلَاءِ فَلَمْ تَتَرَدَّدْ الشَّهَادَةُ بَيْنَ مَا يُورَثُ وَمَا لَا يُورَثُ ؛ لِأَنَّهَا إنْ حُمِلَتْ عَلَى أَدْنَى الْأَسْبَابِ ثَبَتَ الْإِرْثُ ، وَإِنْ حُمِلَتْ عَلَى أَعْلَاهَا ثَبَتَ الْإِرْثُ ، فَالْإِرْثُ ثَابِتٌ بِكُلِّ حَالٍ دَنِيَّةٍ أَوْ عَلِيَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ مِمَّنْ لَا يُوَرِّثُ بِالرَّحِمِ لَمْ يَقْبَلْ الشَّهَادَةَ حَتَّى يُبَيِّنَ الشَّاهِدُ سَبَبَ الْإِرْثِ كَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ لِتَرَدُّدِ شَهَادَتِهِ بَيْنَ مَا يُثْبِتُ الْإِرْثَ وَمَا لَا يُثْبِتُهُ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ وَارِثُهُ بِالْبُنُوَّةِ لَقَبِلَ ؛ لِأَنَّ حَصْرَ الْإِرْثِ فِي الْأُخُوَّةِ قَدْ يَكُونُ الْأَخُ مِنْ الْأُمِّ عِنْدَ مَنْ يَرَاهُ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا لَا رُتَبَ لَهُ فِي التَّبَرُّعِ وَلَيْسَ لَهُ لَفْظٌ يَخْتَصُّ بِهِ وَيَظْهَرُ فِيهِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَشْهَدَ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ أَوْ طَعَامٍ فَإِنْ ذَكَرَ سَبَبًا مَجْمَعًا عَلَيْهِ أَوْ سَبَبًا يَرَاهُ الْحَاكِمُ قَبِلَ شَهَادَتَهُ ، وَإِنْ أَطْلَقَ شَهَادَتَهُ لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَعْتَقِدُ مَا لَيْسَ بِنَجِسٍ نَجِسًا إمَّا لِجَهْلِهِ بِالنَّجَاسَاتِ ، وَإِمَّا لِاعْتِقَادِهِ نَجَاسَةً لَا يَرَاهَا الْحَاكِمُ كَسُؤْرِ السِّبَاعِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : تَفْسِيقُ الشُّهُودِ لَا يُقْبَلُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ مَا لَيْسَ بِمُفَسِّقٍ مُفَسِّقًا ، أَوْ يَرَى التَّفْسِيقَ بِسَبَبٍ لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مُفَسِّقًا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الشَّهَادَةُ بِالْإِكْرَاهِ لَا تُقْبَلُ مُطْلَقَةً ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَرَى مَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ إكْرَاهًا لِجَهْلِهِ ، أَوْ يَعْتَقِدُ الْإِكْرَاهَ بِسَبَبٍ لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ إكْرَاهًا ، وَلَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ الْمُعْتَبَرِ لَفْظٌ يَظْهَرُ فِيهِ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَدْنَى الرُّتَبِ . وَضَابِطُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ وَالرِّوَايَةَ الْمُرَدَّدَةَ بَيْنَ مَا يُقْبَلُ وَمَا لَا يُقْبَلُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا إذْ لَيْسَ حَمْلُهَا عَلَى مَا يُقْبَلُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهَا عَلَى مَا لَا يُقْبَلُ ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ ، فَلَا يُتْرَكُ الْأَصْلُ إلَّا بِيَقِينٍ أَوْ ظَنٍّ يَعْتَمِدُ الشَّرْعُ عَلَى مِثْلِهِ . وَأَيْضًا فَإِنَّ اللَّفْظَ الْمُرَدَّدَ الْمَحْمَلَ غَيْرَ مَقْبُولٍ فِي الشَّهَادَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَجَّهُ إلَى مَقْصُودِ الْخَصْمِ بِدَلَالَةٍ لَفْظِيَّةٍ بِخِلَافِ مَا ذُكِرَ مِنْ أَلْفَاظِ التَّصَرُّفَاتِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي مَدْلُولَاتِهَا وَيُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَسْأَلَتَانِ . إحْدَاهُمَا : أَنَّ الشَّهَادَةَ الْمُطْلَقَةَ بِالْمِلْكِ مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ سَبَبَهُ . وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالدَّيْنِ مَعَ أَنَّ أَسْبَابَهُمَا مُخْتَلَفٌ فِيهَا فَلَعَلَّ الشَّاهِدَ أَسْنَدَ الْمِلْكَ وَالدَّيْنَ إلَى سَبَبٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِجَهْلِهِ ، أَوْ أَسْنَدَهُمَا إلَى سَبَبٍ لَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ سَبَبًا وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا . الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا قَالَ الشَّاهِدُ : إنَّ بَيْنَ هَذَيْنِ رَضَاعًا مُحَرَّمًا فَإِنَّ الرَّضَاعَ يَثْبُتُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا مَعَ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يَظُنُّ أَنَّ التَّحْرِيمَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْمَصَّةِ أَوْ بِثَلَاثِ رَضَعَاتٍ أَوْ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ فَيَصِفُهُ بِالتَّحْرِيمِ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِ وَمَذْهَبِهِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُحَرِّمُونَ وَيُحَلِّلُونَ وَيُوجِبُونَ وَيَحْظُرُونَ بِنَاءً عَلَى عَقَائِدِهِمْ وَمَذَاهِبِهِمْ ، وَلَوْ أَطْلَقَ الشَّاهِدُ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ اللَّقِيطَ مِلْكُ الْمُلْتَقِطِ فِيهِ قَوْلَانِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ يُسْنِدُ الشَّهَادَةَ إلَى يَدِ الِالْتِقَاطِ مَعَ جَهْلِهِ بِكَوْنِهَا يَدَ الْتِقَاطٍ . وَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ إشْكَالٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يُقِرُّ فِي الْغَالِبِ بِمَا يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ وَلَيْسَ كُلُّ عَقْدٍ يُبَاشَرُ صَحِيحًا ، بَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ ، وَلَيْسَ الْعَقْدُ الْمُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ نَادِرًا بَلْ هُوَ غَالِبٌ ، فَفِي حَمْلِ الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِفْصَالٍ هَذَا الْإِشْكَالِ ، وَلَا سِيَّمَا الْمُعَاطَاةُ فَإِنَّهُ غَالِبٌ عَلَى الْمُحَقِّرَاتِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِبَيْعِ مُحَقَّرٍ أَوْ شِرَائِهِ فَكَيْفَ يُؤَاخِذُهُ مَنْ لَا يَرَى بَيْعَ الْمُعَاطَاةِ ؟ وَكَذَلِكَ بَيْعُ مَا لَمْ يُرَ كَثِيرُ الْوُقُوعِ ، وَلَا سِيَّمَا فِي الثِّيَابِ الْمَطْوِيَّةِ ، وَالسِّلَعِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّهَا لَا تُقْلَبُ وَلَا تُرَى فِي الْبِيَاعَاتِ . كَالثِّيَابِ وَالْأَكْسِيَةِ وَالْجُلُودِ وَغَيْرِهَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَفْسِرَ الْمُقِرُّ كَمَا يَسْتَفْسِرُ الشَّاهِدُ ، فَإِنْ ذَكَرَ سَبَبًا صَحِيحًا حَكَمَ بِهِ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ثَبَتَ الْمَالُ وَلَا يَقْطَعُ حَتَّى يَفْصِلَهَا . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا قَبِلْتُمْ الشَّهَادَةَ بِالْمَجْهُولِ وَطَالَبْتُمْ الشَّاهِدَ بِتَفْسِيرِهِ كَمَا تَقْبَلُونَ الْإِقْرَارَ بِالْمَجْهُولِ وَتُطَالِبُونَ الْمُقِرَّ بِتَفْسِيرِهِ ؟ . قُلْنَا : هَذَا مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَالْمُخْتَارُ قَبُولُهُ وَاسْتِفْسَارُ الشَّاهِدِ عَمَّا شَهِدَ بِهِ كَمَا يَسْتَفْسِرُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ، إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا كَبِيرُ فَارِقٍ وَيُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِفْسَارَهُ أَقْرَبُ إلَى فَصْلِ الْحُكُومَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُفَسِّرْ الشَّاهِدُ أَلْزَمْنَا الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِتَفْسِيرِ مَا أَجْمَلَهُ الشَّاهِدُ كَمَا يُلْزَمُ الْمُقِرُّ بِتَفْسِيرِ مَا أَجْمَلَهُ فِي إقْرَارِهِ .
قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ الْوَقْتِ الَّذِي يَثْبُتُ فِيهِ أَحْكَامُ الْأَسْبَابِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ . لِلْأَسْبَابِ مَعَ أَحْكَامِهَا أَحْوَالٌ : أَحَدُهَا مَا تَقْتَرِنُ أَحْكَامُهُ بِأَسْبَابِهِ كَالْأَفْعَالِ . الثَّانِيَةُ : مَا يَتَقَدَّمُ أَحْكَامُهُ عَلَى أَسْبَابِهِ . الثَّالِثَةُ : مَا اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَرْتِيبِ أَحْكَامِهِ عَلَى أَسْبَابِهِ وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَتَعَجَّلُ أَحْكَامُهُ ، وَإِلَى مَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَعْضُ أَحْكَامِهِ . فَأَمَّا الْأَفْعَالُ فَتَقْتَرِنُ أَحْكَامُهَا بِهَا وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا حِيَازَةُ الْمُبَاحِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْحَشِيشِ وَالْحَطَبِ ، وَالْمَعَادِنِ ، وَالْمِيَاهِ ، وَالصُّيُودِ كَالْأَخْذِ بِالْأَيْدِي أَوْ بِالشِّبَاكِ ، أَوْ الْإِثْبَاتِ بِالرَّمْيِ بِالسِّهَامِ ، أَوْ بِالطَّعْنِ بِالرِّمَاحِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : قَتْلُ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يَقْتَرِنُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْأَسْلَابِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الْخَمْرُ وَالزِّنَا وَقَطْعُ الطَّرِيقِ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا حُدُودُهَا ، وَالتَّفْسِيقُ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى التَّفْسِيقِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : مَا يَتَعَلَّقُ عَلَيْهِ طَلَاقٌ أَوْ إعْتَاقٌ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَدُخُولِ الدَّارِ فَإِنَّ أَحْكَامَهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَقْرُونَةٌ بِهِ .
وَأَمَّا مَا يَتَقَدَّمُ أَحْكَامُهُ عَلَى أَسْبَابِهِ . فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا إذَا تَلِفَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ بِالتَّلَفِ قُبَيْلَ التَّلَفِ ؛ لِتَعَذُّرِ اقْتِرَانِهِ بِهِ وَوُقُوعِهِ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الِانْفِسَاخَ انْقِلَابُ الْمِلْكَيْنِ إلَى بَاذِلَيْهِمَا ، وَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِلَابُ الْمِلْكَيْنِ بَعْدَ تَلَفِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا فَيَتَعَيَّنُ انْقِلَابُهُ إلَى مِلْكِ الْبَائِعِ قُبَيْلَ تَلَفِهِ ، وَكَذَلِكَ تَجِبُ مُؤْنَةُ تَجْهِيزِهِ وَتَكْفِينِهِ عَلَى بَائِعِهِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : قَتْلُ الْخَطَأِ وَلَهُ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يَقْتَرِنُ بِهِ وَهُوَ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ . الثَّانِي : مَا يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الدِّيَةِ ؛ لِتَكُونَ مَوْرُوثَةً عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَتُقْضَى مِنْهَا دُيُونُهُ وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِبَدَلِ نَفْسِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، فَإِنَّ الْأَبْدَالَ فِي الشَّرْعِ حُقُوقٌ لِمَنْ يَخْتَصُّ بِالْمُبْدَلِ وَهُوَ أَخَصُّ بِنَفْسِهِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا } ؛ وَلِأَنَّهَا تُورَثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْحَجْبَانِ اللَّذَانِ هُمَا مِنْ خَصَائِصِ الْمِيرَاثِ ، وَلَا يُقَدَّرُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْكَفَّارَةِ إذْ لَا حَاجَةَ إلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ بِغَيْرِ سَبَبٍ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَك مَجَّانًا أَوْ بِعِوَضٍ سَمَّاهُ فَأَعْتَقَهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ قَبْلَ عِتْقِهِ ثُمَّ يُعْتَقُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَغَلِطَ مَنْ قَالَ : يَقَعُ الْعِتْقُ وَالْمِلْكُ مَعًا ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ اخْتِصَاصٌ وَالْعِتْقَ قَاطِعٌ لِكُلِّ اخْتِصَاصٍ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا حَكَمْنَا بِزَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ فَأَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ بِالِاعْتِقَاقِ مِلْكًا مُتَقَدِّمًا عَلَى الْإِعْتَاقِ ، كَيْ لَا يَقَعَ الْإِعْتَاقُ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُعْتِقِ ، وَلَوْ أَجَازَ الْبَائِعُ فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي وَقُلْنَا بِبَقَاءِ مِلْكِ الْبَائِعِ كَانَ إعْتَاقُهُ كَإِعْتَاقِ الْبَائِعِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ .
وَأَمَّا مَا اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِ تَرْتِيبِ أَحْكَامِهِ عَلَى أَسْبَابِهِ ، فَهُوَ الْأَسْبَابُ الْقَوْلِيَّةُ . وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ ، وَإِلَى مَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْجَوَابِ ، فَأَمَّا مَا يَسْتَقِلُّ بِهِ الْمُتَكَلِّمُ فَكَالْإِبْرَاءِ ، وَطَلَاقِ الثَّلَاثِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالْعَتَاقِ وَالرَّجْعَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَحْكَامَ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَقْتَرِنُ بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهَا ، فَتَقْتَرِنُ الْحُرِّيَّةُ بِالرَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ ، وَالطَّلَاقُ بِالْقَافِ مِنْ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ، وَالْإِبْرَاءُ بِالْمِيمِ مِنْ قَوْلِهِ أَبْرَأْتُك مِنْ دِرْهَمٍ ، وَلَوْ قَالَ خَصْمُهُ أَبْرِئْنِي مِنْ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَبْرَأْتُك اقْتَرَنَتْ الْبَرَاءَةُ بِالْكَافِّ مِنْ قَوْلِهِ أَبْرَأْتُك ، وَكَذَلِكَ الرَّجْعَةُ ، تَعُودُ أَحْكَامُ النِّكَاحِ مَعَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهَا ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْأَشْعَرِيِّ وَالْحُذَّاقِ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا مُطَرَّدٌ فِي جَمِيعِ الْأَلْفَاظِ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِذَا قَالَ اُقْعُدْ كَانَ أَمْرًا مَعَ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِ اُقْعُدْ ، وَإِذَا قَالَ لَا تَقْعُدْ كَانَ نَهْيًا مَعَ الدَّالِ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَقْعُدْ ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِيرُ وَالشَّهَادَاتُ وَأَحْكَامُ الْحُكَّامِ . وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ لَا تَقْتَرِنُ هَذِهِ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بَلْ تَقَعُ عَقِيبَهَا مِنْ غَيْرِ تَخَلُّلِ زَمَانٍ ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاقْتِرَانِ أَنَّ مَنْ سَمِعَ حَرْفًا مِنْ آخِرِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ عَلَى مُطْلَقِهَا بِمُوجِبِهَا عِنْدَ آخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهَا . وَأَمَّا مَا يَفْتَقِرُ إلَى الْجَوَابِ فَكَالْمُعَاوَضَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْمُحَاوَرَاتِ ، وَالْأَصَحُّ اقْتِرَانُ أَحْكَامِهَا بِآخِرِ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِهَا . فَإِذَا قَالَ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارَ بِأَلْفٍ اقْتَرَنَتْ صِحَّةُ الْبَيْعِ بِالتَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ قَبِلْت عَلَى الْأَصَحِّ ، وَلَوْ قَالَ بِعْنِيهَا بِأَلْفٍ فَقَالَ بِعْتُك انْعَقَدَ الْبَيْعُ مَعَ الْكَافِ عَلَى الْأَصَحِّ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ زَوَّجْتُك ابْنَتِي فَقَالَ قَبِلْت انْعَقَدَ النِّكَاحُ مَعَ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهِ قَبِلْت ، إنْ قُلْنَا لَا يَفْتَقِرُ إلَى أَنْ يَقُولَ قَبِلْت نِكَاحَهَا ، وَإِنْ قُلْنَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَلِكَ انْعَقَدَ مَعَ الْأَلْفِ مِنْ نِكَاحِهَا . وَلَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْت ، وَقَعَ الطَّلَاقُ مَعَ التَّاءِ مِنْ قَوْلِهَا شِئْت ، وَلَوْ قَالَ أَجَّرْتُك دَارٍ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ قَبِلْت انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ مَعَ قَوْلِهِ قَبِلْت ، وَلَوْ قَالَ أَجِّرْنِي دَارَك بِدِرْهَمٍ فَقَالَ أَجَّرْتُك انْعَقَدَتْ الْإِجَارَةُ مَعَ قَوْلِهِ أَجَّرْتُك .
وَأَمَّا مَا يَتَعَجَّلُ أَحْكَامُهُ وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُ بَعْضُ أَحْكَامِهِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : الْبَيْعُ وَيَقْتَرِنُ الِانْعِقَادُ وَالصِّحَّةُ بِآخِرِ حُرُوفِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيَتَرَاخَى لُزُومُهُ إلَى الْإِجَازَةِ وَالِافْتِرَاقِ ، وَانْقِضَاءِ خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَفِي اقْتِرَانِ الْمِلْكِ بِهِ أَقْوَالٌ . أَحَدُهَا : يَقْتَرِنُ بِهِ . وَالثَّانِي : يَتَرَاخَى إلَى لُزُومِهِ . وَالثَّالِثُ : أَنَّ اقْتِرَانَهُ بِهِ مَوْقُوفٌ ، فَإِنْ أُجِيزَ الْعَقْدُ تَبَيَّنَّا اقْتِرَانَهُ ، ، وَإِنْ فُسِخَ أَوْ انْفَسَخَ تَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ . الْمِثَالُ الثَّانِي : عَقْدُ الْهِبَةِ ، وَيَقْتَرِنُ صِحَّتُهَا وَانْعِقَادُهَا بِآخِرِ حُرُوفِهَا عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيَتَرَاخَى لُزُومُهَا إلَى قَبْضِهَا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الرَّهْنُ وَيَقْتَرِنُ انْعِقَادُهُ بِآخِرِ حُرُوفِهِ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَيَتَرَاخَى لُزُومُهُ عَلَى إقْبَاضِهِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ وَيَقْتَرِنُ وُقُوعُهُ وَتَنْقِيصُهُ لِلْعَدَدِ وَتَحْرِيمُهُ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَتَمْكِينُهُ لِلرَّجْعَةِ بِالْقَافِ مِنْ قَوْلِهِ طَالِقٌ وَيَتَرَاخَى قَطْعُهُ النِّكَاحَ إلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ . وَأَمَّا الرَّجْعَةُ فَيَقْتَرِنُ بِهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا . وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ : إنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ فِيهَا بِالْقَبُولِ ، وَهُوَ عَلَى وَفْقِ مَا ذَكَرْنَاهُ وَهُوَ بَعِيدٌ ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ آخَرَانِ : أَحَدُهُمَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ بِمَوْتِ الْمُوصَى فَيَقَعُ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ . وَالثَّانِي وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمِلْكَ مَوْقُوفٌ فَإِنْ قِيلَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ حَصَلَ بِالْمَوْتِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَإِنْ رَدَّ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ ، وَهَذَا مِمَّا خَالَفَتْ فِيهِ الْوَصَايَا سَائِرَ التَّصَرُّفَاتِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : قَتْلُ الْخَطَأِ يَتَقَدَّمُ وُجُوبُ دِيَتِهِ وَيَتَرَاخَى طَلَبُ ثُلُثِهَا إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ الْأُولَى ، وَالثُّلُثُ الثَّانِي إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَالثَّالِثُ إلَى الثَّالِثَةِ ، وَكَذَلِكَ الْأَعْوَاضُ الْمُؤَجَّلَةُ يَقْتَرِنُ وُجُوبُهَا بِأَسْبَابِهَا وَيَتَرَاخَى طَلَبُهَا إلَى انْقِضَاءِ آجَالِهَا .
( فَائِدَةٌ ) اعْلَمْ أَنَّ الْأَسْبَابَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى مَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهُ وَهُوَ الْأَكْثَرُ ، وَإِلَى مَا لَا يُنَاسِبُهَا ، وَهُوَ التَّعَبُّدُ . وَفِي الْأَشْبَاهِ اخْتِلَافٌ . مِثَالُ مَا لَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهُ : وُجُوبُ غَسْلِ الْأَطْرَافِ فِي الْوُضُوءِ بِالْمَسِّ وَاللَّمْسِ وَخُرُوجِ الْخَارِجِ مِنْ السَّبِيلَيْنِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تُعْقَلُ مُنَاسَبَتُهُ لِغَسْلِ الْأَطْرَافِ ، إذْ كَيْفَ يُعْفَى عَنْ مَحَلِّ النَّجَاسَةِ وَيَجِبُ غَسْلُ مَا لَمْ تُصِبْهُ النَّجَاسَةُ ؟ مِثَالُ مَا يُنَاسِبُ أَحْكَامَهُ : وُجُوبُ غُسْلِ النَّجَاسَةِ ، وُجُوبُ عِقَابِ الْجُنَاةِ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ الْجِنَايَاتِ ، وَوُجُوبُ اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي الْوُلَاةِ لِتَحَمُّلِهِمْ عَدَالَتَهُمْ عَلَى إقَامَةِ مَصَالِحِ الْوِلَايَاتِ ، وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْغَنَائِمِ لِلْغَانِمَيْنِ ، فَإِنَّ الْقِتَالَ يُنَاسِبُ إيجَابَهَا لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَّلُوهَا بِقِتَالِهِمْ وَتَسَبَّبُوا إلَيْهَا بِرِمَاحِهِمْ وَسِهَامِهِمْ ، وَكَذَلِكَ جَعْلُ الْأَسْلَابِ لِلْقَاتِلِينَ الْمُخَاطِرِينَ لِقُوَّةِ تَسَبُّبِهِمْ إلَى تَحْصِيلِهَا تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْمُخَاطَرَةِ بِقَتْلِ الْمُشْتَرَكِينَ . وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْفَيْءِ لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ لِمَا نَصَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ، وَقَدْ جَعَلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْهِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَجْنَادِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَهُ فِي إرْعَابِ الْكَافِرِينَ . وَكَذَلِكَ إيجَابُ الْأَسْلَابِ لِلْمُثْخَنِينَ دُونَ الذَّابِحِينَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ كَمَا وَقَعَ فِي قِصَّةِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمَا أَثْخَنَا أَبَا جَهْلٍ وَذَبَحَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ إنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْقَاتِلُ ؛ لِأَنَّهُ كَفَى مَئُونَتَهُ وَدَفَعَ شَرَّهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِالْمُثْخَنِينَ دُونَ الذَّابِحِينَ بَعْدَ الْإِثْخَانِ ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ قَبُولِ الرِّوَايَاتِ وَالشَّهَادَاتِ بِالْمُعَدِّلِينَ لِاخْتِصَاصِهِمْ بِظُهُورِ صِدْقِهِمْ وَالثِّقَةِ بِأَقْوَالِهِمْ بَيْنَ كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُ الْمُعَامَلَاتِ وَالْمُنَاكَحَاتِ دَفْعًا لِلضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ ، فَمِنْ الْأَسْبَابِ مَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمٌ وَاحِدٌ ، وَمِنْهَا مَا يُبْنَى عَلَيْهِ حُكْمَانِ ، إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ السَّبَبُ الْوَاحِدُ إلَى قَرِيبٍ مِنْ سِتِّينَ حُكْمًا أَوْ أَكْثَرَ . فَلِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ حُكْمٌ وَاحِدٌ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا : مِلْكُ الصَّيْدِ بِالْحِيَازَةِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالشَّهَادَةِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : وُجُوبُ الْحُكْمِ بِالْإِقْرَارِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : وُجُوبُ الْحُكْمِ إذَا حَلَفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : تَنْجِيسُ الْمَاءِ بِمُصَادَفَةِ النَّجَاسَةِ مَعَ الْقِلَّةِ أَوْ عِنْدَ تَغَيُّرِ أَحَدِ أَوْصَافِهِ ، وَلِلنَّجَاسَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ ، وَكَذَلِكَ حُصُولُ الطَّهَارَةِ عِنْدَ الْغُسْلِ الْمَشْرُوعِ وَلِلطَّهَارَةِ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : وُجُوبُ الطَّاعَةِ عِنْدَ أَمْرِ الْإِمَامِ أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ السَّيِّدِ أَوْ الْوَالِدِ . الْمِثَالُ السَّابِعُ : تَخَيُّرُ الْقَاتِلِ بَعْدَ تَمَامِ الْإِيجَابِ فِي قَرِيبِ الزَّمَانِ دُونَ بَعِيدِهِ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ : إتْلَافُ الْأَمْوَالِ خَطَأٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ . الْمِثَالُ التَّاسِعُ : قَتْلُ الْمُحْرِمِ الصَّيْدَ مُوجِبٌ لِلتَّخَيُّرِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ وَذَلِكَ حُكْمٌ وَاحِدٌ . الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : أَهْلِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَالْقَضَاءِ مُوجِبَةٌ لِتَوْلِيَةِ الْإِمَامِ وَالْقُضَاةِ . الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشْرَ : الطِّيبُ وَالْأَدْهَانُ مُوجِبَانِ لِلتَّخَيُّرِ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ . الْمِثَالُ الثَّانِيَ عَشَرَ : حَلْقُ الرَّأْسِ مُوجِبٌ لِلتَّخَيُّرِ بَيْنَ الصِّيَامِ وَالصَّدَقَةِ وَالنُّسُكِ . الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشْرَ : مِلْكُ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ مُوجِبٌ لِلْخِيَارِ بَيْنَ الشَّاةِ وَبَيْنَ بِنْتِ مَخَاضٍ أَوْ لَبُونٍ وَالْحِقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَالثَّنِيَّةِ . وَلِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ حُكْمَانِ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا قَتْلُ الْخَطَأِ وَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ وَلَهُ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ . وَالثَّانِي : وُجُوبُ الضَّمَانِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الْحِنْثُ فِي الْيَمِينِ إذَا كَانَ مُبَاحًا أَوْ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا فَلَهُ حُكْمَانِ أَحَدُهُمَا : التَّخَيُّرُ بَيْنَ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ ، وَالثَّانِي تَرْتِيبُ الصِّيَامِ ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ مُحَرَّمًا فَإِنْ كَانَ كَبِيرَةً أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ وَالتَّفْسِيقَ وَالتَّفْكِيرَ الْمَذْكُورَ ، وَإِنْ كَانَ الْحِنْثُ صَغِيرَةً أَوْجَبَ التَّحْرِيمَ وَالتَّخْيِيرَ وَالتَّرْتِيبَ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : التَّمَتُّعُ مُوجِبٌ لِحُكْمَيْنِ أَحَدُهُمَا الْهَدْيُ ، وَالثَّانِي الصِّيَامُ عِنْدَ الْعَجْزِ . وَأَمَّا السَّبُّ وَالضَّرْبُ فَإِنَّهُمَا مُوجِبَانِ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّعْزِيرِ مَا لَمْ يَنْتَهِيَا إلَى حَدِّ الْكَبَائِرِ ، فَإِنْ انْتَهَيَا إلَى حَدِّ الْكَبَائِرِ حَصَلَ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالتَّعْزِيرُ . وَلِمَا لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ ثَلَاثَةُ أَحْكَامٍ أَمْثِلَةُ - أَحَدُهَا إتْلَافُ الْأَمْوَالِ عَمْدًا وَأَحْكَامُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّعْزِيرُ وَإِيجَابُ الضَّمَانِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الْقَذْفُ وَأَحْكَامُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْجَلْدُ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : زِنَا الثَّيِّبِ وَأَحْكَامُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالرَّجْمُ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : شُرْبُ الْخَمْرِ وَأَحْكَامُهُ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْحَدُّ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : شُرْبُ النَّبِيذِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّفْسِيقِ وَالْحَدِّ عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْتَقِدُ تَحْرِيمَهُ فَهُوَ مُوجِبٌ لِحَدِّهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَلَا تَفْسِيقٍ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : الظِّهَارُ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّفْسِيقِ وَالْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ . وَأَمَّا قَتْلُ الْعَمْدِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّفْسِيقِ وَالتَّخْيِيرِ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ ، وَزَادَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَّارَةَ فَلَهُ عَلَى مَذْهَبِهِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ . وَأَمَّا مَالُهُ مِنْ الْأَسْبَابِ أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ فَكَزِنَا الْبِكْرِ وَهُوَ مُوجِبٌ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّفْسِيقِ وَالْجِلْدِ وَالتَّغْرِيبِ . وَأَمَّا الْحَدَثُ الْأَصْغَرُ فَسَبَبٌ لِتَحْرِيمِ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَسَجْدَةِ الشُّكْرِ وَالسَّهْوِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ حَدَثُ الْجَنَابَةِ وَهُوَ الْحَدَثُ الْأَوْسَطُ بِتَحْرِيمِ الصَّوْمِ وَالْوَطْءِ وَالطَّلَاقِ . وَأَمَّا الْوَطْءُ فَلَهُ أَحْكَامٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا الْأَحْكَامُ السَّبْعَةُ فِي الْجَنَابَةِ ، وَمِنْهَا الْعَشَرَةُ فِي الْحَيْضِ ، وَمِنْهَا أَحْكَامُهُ فِي الصَّوْمِ وَهِيَ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْإِفْسَادُ ، وَإِيجَابُ الْكَفَّارَةِ الْمُرَتَّبَةِ ، وَمِنْهَا أَحْكَامُهُ فِي الِاعْتِكَافِ الْوَاجِبِ ، وَهِيَ التَّحْرِيمُ وَالْإِفْسَادُ وَالتَّعْزِيرُ ، وَأَمَّا التَّفْسِيقُ فَإِنْ وَقَعَ الْجِمَاعُ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ فِسْقًا . وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَإِنْ وَقَعَ فِي وَقْتِ مُلَابَسَةِ الْحَاجَةِ فَلَيْسَ بِمُفَسِّقٍ ؛ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي إبَاحَةِ ذَلِكَ ، وَإِنْ وَقَعَ وَرَاءَ ذَلِكَ فَفِيهِ وَقْفَةٌ . وَمِنْهَا : أَحْكَامُهُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهِيَ التَّحْرِيمُ وَالتَّفْسِيقُ وَالْكَفَّارَةُ ، وَإِفْسَادُ الصِّحَّةِ دُونَ الِانْعِقَادِ ، وَأَمَّا الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ وَاجِبٌ بِالْإِحْرَامِ لَا بِالْجِمَاعِ ، وَمِنْهَا تَحْلِيلُ الْمَرْأَةِ لِمُطَلَّقِهَا ، وَمِنْهَا تَقْرِيرُ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَإِيجَابُهُ لِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَفِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ ، وَوَطْءِ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ الِاسْتِبْرَاءَ فِي الْمَمْلُوكَةِ إذَا مُلِكَتْ ، وَبَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهَا ، وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ لِلتَّحْرِيمِ وَالتَّفْسِيقِ وَالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ . وَكَذَلِكَ إيجَابُهُ لِإِلْحَاقِ الْأَوْلَادِ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ الْمُشْتَرَكَاتِ ، وَكَذَلِكَ إلْحَاقُهُ النَّسَبَ إذَا وَقَعَ بِالشُّبْهَةِ فِي الْعَزَبَاتِ الْخَلِيَّاتِ ، وَمِنْهَا التَّحْصِينُ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الزِّنَا ، وَمِنْهَا حُصُولُ الْفَيْئَةِ بِهِ فِي الْإِيلَاءِ وَحُصُولُ الْعَوْدِ بِهِ فِي الظِّهَارِ عِنْدَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ ، وَمِنْهَا قَطْعُهُ لِلْعِدَّةِ إذَا وَقَعَ فِي أَثْنَائِهَا بِشُبْهَةٍ وَحَصَلَ مِنْهُ الْحَمْلُ ، وَمِنْهَا تَحْرِيمُهُ أُمَّ الزَّوْجَةِ وَجَدَّاتِهَا وَبِنْتَ الزَّوْجَةِ وَبَنَاتِهَا وَتَفْسِيقُهُ ، وَإِيجَابُهُ الْحَدَّ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَمِنْهَا تَحْرِيمُهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَتَفْسِيقُهُ ، وَإِيجَابُهُ الْحَدَّ عَلَى مَنْ عَلِمَهُ . وَمِنْهَا تَحْرِيمُهُ وَتَفْسِيقُهُ إذَا وَقَعَ بِشُبْهَةِ الشَّرِكَةِ ، وَإِيجَابِهِ لِبَعْضِ الْمَهْرِ ، وَمِنْهَا تَحْرِيمُهُ وَطْءَ الزَّوْجِ فِي عِدَّةِ النِّكَاحِ إذَا وَقَعَتْ فِي أَثْنَاءِ النِّكَاحِ ، وَإِيجَابُهُ التَّعْزِيرَ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ حَرَّمْنَاهُ عَلَى الزَّوْجِ ، فَالتَّمْكِينُ مِنْهُ حَرَامٌ عَلَى النِّسَاءِ إذَا عَلِمْنَ مُوجِبَ لِلتَّعْزِيرِ إنْ وَقَعَ بِشُبْهَةٍ كَالْوَطْءِ فِي الْجَارِيَةِ الْمَمْلُوكَةِ ، وَالْحَدِّ إنْ خَلَا عَنْ الشُّبْهَةِ : إمَّا بِالرَّجْمِ أَوْ بِالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الشُّبْهَةُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ، فَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالنِّسَاءِ فَلَهُنَّ مُهُورُ أَمْثَالِهِنَّ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِنَّ وَلَا تَحْرِيمَ ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالرَّجُلِ تَعَلَّقَ بِالنِّسَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالزُّنَاةِ ، وَلَا مَهْرَ لِلنِّسَاءِ وَعَلَيْهِنَّ الْعِدَدُ .
فَصْلٌ فِي تَقْسِيمِ الْمَوَانِعِ مَوَانِعُ صِحَّةِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ قِسْمَانِ ، أَحَدُهُمَا مَا يَمْنَعُ الصِّحَّةَ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ الدَّوَامِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : إحْدَاهَا : الْكُفْرُ وَهُوَ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ وَدَوَامِهَا . الْمِثَالُ الثَّانِي : الرِّدَّةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا إنْ وَقَعَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ وَقَعَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَدَامَتْ حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الدَّوَامَ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الْحَدَثُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ وَالطَّوَافِ وَدَوَامَهُمَا . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْمَحْرَمِيَّةُ تَمْنَعُ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَاسْتِمْرَارِهِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : الرَّضَاعُ يَمْنَعُ مِنْ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ وَدَوَامِهِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ وَلَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : الْإِحْرَامُ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الْعِدَّةُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ الدَّوَامَ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : وُجُودُ الطُّولِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَلَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ ، الْمِثَالُ الرَّابِعُ : أَمْنُ الْعَنَتِ يَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ وَلَا يَمْنَعُ الدَّوَامَ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : تَوْقِيتُ النِّكَاحِ مَانِعٌ مِنْ ابْتِدَائِهِ وَلَا يَمْنَعُ اسْتِدَامَتَهُ ، إذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا أَوْ بَعْدَ شَهْرٍ ، خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ أَلْحَقَهُ بِالِابْتِدَاءِ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : رُؤْيَةُ الْمَاءِ مَانِعَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ ، وَغَيْرُ مَانِعَةٍ فِي الدَّوَامِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمِثَالُ السَّابِعُ : وِجْدَانُ الرَّقَبَةِ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ وَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ . وَالرَّقَبَةُ مَانِعَةٌ مِنْ ابْتِدَاءِ الصَّوْمِ وَغَيْرُ مَانِعَةٍ مِنْ دَوَامِهِ .
فَصْلٌ فِي الشَّرْطِ الشَّرْطُ فِي الِاصْطِلَاحِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ وَلَيْسَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ وَلَا يُجْزِئُ لِعِلَّتِهِ ، وَأَمَّا فِي اللَّفْظِ فَأَكْثَرُ مَا يُعَبَّرُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ عَنْ الْأَسْبَابِ أَوْ عَنْ أَسْبَابِ الْأَسْبَابِ فَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ عَنْ الْأَسْبَابِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا قَوْلُهُ : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاعْتِدَاءَ الْأَوَّلَ سَبَبُ الِاعْتِدَاءِ الثَّانِي الْمِثَالُ الثَّانِي - قَوْلُهُ : { فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا } وَالْخَوْفُ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ فِي ذَلِكَ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ - قَوْلُهُ : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِهَا . الْمِثَالُ الرَّابِعُ - قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ . } الْمِثَالُ الْخَامِسُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } الْمِثَالُ السَّادِسُ قَوْلُهُ : { مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ . } وَأَمَّا التَّعْبِيرُ بِلَفْظِ الشَّرْطِ عَنْ أَسْبَابِ الْأَسْبَابِ الْمَحْذُوفَةِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا وقَوْله تَعَالَى : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، تَقْدِيرُهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَأَفْطَرَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ فَالْمَرَضُ وَالسَّبَبُ سَبَبَانِ لِجَوَازِ الْإِفْطَارِ . وَالْإِفْطَارُ سَبَبٌ لِصَوْمِ عِدَّةٍ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ . الْمِثَالُ الثَّانِي وقَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } ، تَقْدِيرُهُ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَتَحَلَّلْتُمْ فَعَلَيْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ . أَيْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ قَوْلُهُ : { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } عَلَى التَّخْيِيرِ عَلَى أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا مَنْطُوقٌ بِهِ ، وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الصِّيَامِ .
قَاعِدَةٌ فِي بَيَانِ الشُّبُهَاتِ الْمَأْمُورِ بِاجْتِنَابِهَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، فَمَنْ تَرَكَ الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ } وَهَذَا حَثٌّ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى تَرْكِ الْمُشْتَبِهَاتِ . اعْلَمْ أَنَّ التَّحْلِيلَ وَالتَّحْرِيمَ وَالْإِبَاحَةَ وَالنَّدْبَ وَالْإِيجَابَ وَالْكَرَاهَةَ لَيْسَ لَهَا مُتَعَلَّقٌ إلَّا أَفْعَالُ الْعِبَادِ الْمَقْدُورُ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى التَّسَبُّبِ لَهَا ، وَلَا يَطْلُبُ الشَّرْعُ مِنْ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ إلَّا مَا يَقْدِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَيْهِ كَمَا لَا يَجِدُهُ إلَّا فِي مَقْدُورٍ عَلَيْهِ ، فَلَيْسَ وَصْفُ الْأَفْعَالِ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ وَالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ وَالْإِيجَابِ وَصْفًا حَقِيقِيًّا قَائِمًا بِالْأَفْعَالِ إذْ لَا يَقُومُ عَرَضٌ بِعَرَضٍ ، وَلَا يَقَعُ التَّكْلِيفُ إلَّا بِالْأَعْرَاضِ ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ تَعَلُّقِ الشَّرْعِ بِالْأَفْعَالِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصْفُ بِالسَّبَبِيَّةِ وَالشَّرْطِيَّةِ وَالْمَانِعِيَّةِ وَالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمِلْكِ وَالِاخْتِصَاصِ ، فَالْمَمْلُوكُ مَا ثَبَتَ لَهُ أَحْكَامُ الْمِلْكِ ، وَالْحُرُّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْحُرِّيَّةِ ، وَالرَّقِيقُ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الرِّقِّ ، وَالْوَقْفُ مَا ثَبَتَتْ لَهُ أَحْكَامُ الْوَقْفِ ، بِخِلَافِ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالْكُفْرَ وَالْبِرَّ وَالْفُجُورَ أَوْصَافٌ حَقِيقِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِالْمَحَلِّ ، وَإِطْلَاقُ أَسْمَائِهَا عَلَى النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ وَالْغَافِلِ عَنْهَا إنَّمَا هُوَ مِنْ مَجَازِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِمَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَالْوَصْفُ بِهَا فِي حَالِ الْغَفْلَةِ عَنْهَا كَالْوَصْفِ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَإِحْرَامُ الْأَحْكَامِ عَلَيْهَا مِنْ بَابِ إعْطَاءِ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ عَلَى مَا سَنَذْكُرُهُ عَقِيبَ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ الْأَفْعَالُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ ضَرْبَانِ - أَحَدُهُمَا مَا هُوَ حَسَنٌ فِي ذَاتِهِ وَثَمَرَاتِهِ كَمَعْرِفَةِ الْإِلَهِ وَصِفَاتِهِ وَالْإِيمَانِ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ أَحْسَنُ مَا كُلِّفَهُ الْإِنْسَانُ ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ الَّتِي هِيَ خُلُودُ الْجِنَانِ وَالزَّحْزَحَةُ عَنْ النِّيرَانِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا هُوَ قَبِيحٌ فِي ذَاتِهِ وَثَمَرَاتِهِ كَالْجَهْلِ بِمَا يَجِبُ مِنْ الْعِرْفَانِ وَالْإِيمَانِ ، وَثَمَرَاتُهُ خُلُودُ النِّيرَانِ وَحِرْمَانُ الْجِنَانِ ، وَجَزَاؤُهُ مِثْلُهُ فِي الْقُبْحِ قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إلَّا مِثْلَهَا } . وَمِنْ الْأَفْعَالِ مَا هُوَ حَقِيقَتُهُ وَذَاتُهُ وَلَكِنَّهُ يُنْهَى عَنْهُ مَرَّةً لِقُبْحِ ثَمَرَاتِهِ وَيُؤْمَرُ بِهِ تَارَةً لِحُسْنِ ثَمَرَاتِهِ وَيُبَاحُ تَارَةً لِمَصَالِحَ تَتَقَارَبُهُ فِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ وَالْإِحْجَامِ عَنْهُ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ - أَحَدُهَا الْقَتْلُ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ بِاعْتِبَارِ ثَمَرَاتِهِ لَا بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ لِأَنَّ ذَاتَه فَسَادٌ وَإِتْلَافٌ . الْقِسْمُ الْأَوَّلُ : قَتْلُ مَنْ يَجِبُ قَتْلُهُ مِنْ الْكَافِرِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ حَسَنٌ لِحُسْنِ ثَمَرَاتِهِ ، أَمَّا قَتْلُ الْكَافِرِ فَلِمَا فِيهِ مِنْ مَحْوِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْسَدِ الْمَفَاسِدِ وَإِبْدَالِهِ بِالْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ أَصْلَحُ الْمَصَالِحِ ، وَأَمَّا قَتْلُ الْجَانِي ، فَلِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ الْأَرْوَاحِ بِزَجْرِ الْجُنَاةِ عَنْ الْجِنَايَاتِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : تَحْرِيمُ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مُمَاثِلٌ فِي ذَاتِهِ لِقَتْلِ الْكَافِرِينَ وَالْمُسْلِمِينَ الْمُحَارِبِينَ ، وَلَكِنَّهُ حُرِّمَ لِقُبْحِ ثَمَرَاتِهِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : قَتْلُ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ بِالْقِصَاصِ مِنْ الْجُنَاةِ ، فَإِنَّهُ حَسَنٌ لِثَمَرَاتِهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الْأَكْلُ مُتَّحِدٌ فِي ذَاتِهِ وَحَقِيقَتِهِ ، وَإِنَّمَا قُبِّحَ لِأَسْبَابِهِ أَوْ لِثَمَرَاتِهِ ، فَأَكْلُ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ مُسَاوٍ فِي حَقِيقَتِهِ وَذَاتِهِ لِأَكْلِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَلَكِنَّهُ حُرِّمَ لِقُبْحِ أَسْبَابِهِ وَثَمَرَاتِهِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الْوَطْءُ مُتَّحِدٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَذَاتِهِ لَكِنَّهُ يَحْرُمُ تَارَةً لِقُبْحِ ثَمَرَاتِهِ وَيَحِلُّ تَارَةً لِحُسْنِ ثَمَرَاتِهِ ، وَقَدْ يَجْمَعُ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَفَاسِدَ كَثِيرَةً فَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَحْكَامُهَا وَزَوَاجِرُهَا ، وَكَفَّارَاتُهَا . مِثَالُهُ ، إذَا زِنَا بِأُمِّهِ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ وَهُمَا صَائِمَانِ فِي رَمَضَانَ ، فَقَدْ أَتَى بِكَبَائِرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُهَا لَوْ تَفَرَّقَتْ . فَإِنَّهُ بِالنَّظَرِ إلَى انْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلتَّحْرِيمِ وَلِلتَّفْسِيقِ وَالتَّعْزِيرِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى إيقَاعِ الزِّنَا بِأُمِّهِ مُرْتَكِبٌ لِكَبِيرَةٍ عَظِيمَةٍ وَهِيَ أَنَّ عُقُوقَ الْأُمِّ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْزِيرِ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ مُفْسِدًا لِلْعُمْرَةِ مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ مُفَسِّقَةٍ مُوجِبَةٍ لِكَفَّارَةٍ مُرَتَّبَةٍ ، وَبِالنَّظَرِ إلَى كَوْنِهِ زَانِيًا مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ مُفَسِّقَةٍ مُوجِبَةٍ لِلرَّجْمِ إنْ كَانَ مُحْصَنًا ، وَالْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ إنْ كَانَ بِكْرًا . وَكَذَلِكَ قَدْ يَجْمَعُ الْفِعْلُ الْوَاحِدُ مَصَالِحَ شَتَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يُخْبِرَ الْإِمَامُ بِظُهُورِ الزِّنَا وَالرِّبَا وَاسْتِلَابِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ الرِّجَالِ وَتَعْطِيلِ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَاةِ وَانْتِهَاكِ الْحُرُمَاتِ وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ فَيَأْمُرُ بِتَغْيِيرِ ذَلِكَ كُلِّهِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ يُثَابُ عَلَى تَسَبُّبِهِ إلَى تَغَيُّرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ بِكَلِمَةٍ كَمَا يُثَابُ عَلَيْهَا إذَا تَسَبَّبَ إلَى إزَالَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَلَى حِدَتِهَا .
وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا قَائِمٌ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ ، وَالثَّانِي خَارِجٌ عَنْ الْمَحَلِّ ، فَأَمَّا الْقَائِمُ بِالْمَحَلِّ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ فَهُوَ كُلُّ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِالْمَحَلِّ مُوجِبَةٍ لِلتَّحْرِيمِ كَصِفَةِ الْخَمْرِ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ ، لِمَا قَامَ بِشُرْبِهَا مِنْ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعُقُولِ ، وَكَالْمَيْتَةِ حُرِّمَتْ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ الِاسْتِقْذَارِ ، وَكَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ يَحْرُمُ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ ، وَكَالسُّمُومِ الْقَاتِلَةِ حُرِّمَتْ لِمَا قَامَ بِهَا مِنْ الصِّفَةِ الْقَاتِلَةِ ، وَكَذَلِكَ الصِّفَاتُ النِّسْبِيَّةُ كَالْأُمُومَةِ وَالْجُدُودَةِ وَالْبُنُوَّةِ وَالْأُخُوَّةِ وَالْعُمُومَةِ وَالْخُؤُولَة وَاللِّعَانِ الْمُحَرِّمِ لِلنِّكَاحِ . وَأَمَّا الْقَائِمُ بِالْمَحَلِّ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْلِيلِ فَهُوَ كُلُّ صِفَةٍ قَائِمَةٍ بِالْمَحَلِّ مُوجِبَةٍ لِلتَّحْلِيلِ ، كَصِفَةِ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ . وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْ الْمَحَلِّ فَضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا الْأَسْبَابُ الْبَاطِلَةُ كَالْغَصْبِ وَالْقِمَارِ وَالْحُرِّيَّةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْبَيْعِ فَهَذِهِ أَسْبَابٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْمَحَلِّ مُوجِبَةٌ لِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : الْأَسْبَابُ الصَّحِيحَةُ كَالْبَيْعِ الصَّحِيحِ وَالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهَا شَرْعًا إمَّا بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ فَهَذَا حَلَالٌ بِسَبَبِهِ ، فَمَا كَانَ فِي هَذِهِ الْأَعْيَانِ حَلَالًا بِوَصْفِهِ وَسَبَبِهِ فَهُوَ حَلَالٌ بَيِّنٌ كَمَا لَوْ بَاعَ النَّعَمَ أَوْ الْبُرَّ أَوْ الشَّعِيرَ أَوْ الرُّطَبَ أَوْ الْعِنَبَ بَيْعًا صَحِيحًا مُتَّفَقًا عَلَى صِحَّتِهِ أَوْ مَنْصُوصًا عَلَيْهَا ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ حَرَامٌ بِوَصْفِهِ وَسَبَبِهِ فَهُوَ حَرَامٌ بَيِّنٌ كَالْخَمْرِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ يُغْصَبَانِ مِنْ ذِمِّيٍّ ، وَمَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْيَانِ مُتَّفَقًا عَلَى وَصْفِهِ الْقَائِمِ بِهِ مُخْتَلَفًا فِي سَبَبِهِ الْخَارِجِ عَنْهُ ، أَوْ كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى سَبَبِهِ الْخَارِجِ عَنْهُ مُخْتَلَفًا فِي وَصْفِهِ الْقَائِمِ بِهِ ، فَإِنَّك تَنْظُرُ إلَى مَأْخَذِ تَحْلِيلِهِ وَتَحْرِيمِهِ بِالنَّظَرِ إلَى وَصْفِهِ الْقَائِمِ بِهِ وَإِلَى سَبَبِهِ الْخَارِجِ عَنْهُ ، فَإِنْ كَانَتْ أَدِلَّتُهُمَا مُتَفَاوِتَةٌ ، فَمَا رَجَحَ دَلِيلُ تَحْرِيمِهِ كَانَ حَرَامًا ، وَمَا رَجَحَ دَلِيلُ تَحْلِيلِهِ كَانَ حَلَالًا ، وَإِنْ تَقَارَبَتْ أَدِلَّتُهُ كَانَ مُشْتَبَهًا وَكَانَ اجْتِنَابُهُ مِنْ تَرْكِ الشُّبُهَاتِ ، فَإِنَّهُ أَشْبَهُ الْمُحَلِّلِ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ دَلِيلِ تَحْلِيلِهِ ، وَأَشْبَهَ الْمُحَرَّمَ مِنْ جِهَةِ قِيَامِ دَلِيلِ تَحْرِيمِهِ فَمَنْ تَرَكَ مِثْلَ هَذَا فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ ، وَإِذَا تَقَارَبَتْ الْأَدِلَّةُ فَمَا كَانَ أَقْرَبُ إلَى أَدِلَّةِ التَّحْرِيمِ تَأَكَّدَ اجْتِنَابُهُ وَاشْتَدَّتْ كَرَاهَتُهُ ، وَمَا كَانَ أَقْرَبُ إلَى أَدِلَّةِ التَّحْلِيلِ خَفَّ الْوَرَعُ فِي اجْتِنَابِهِ وَإِنْ كَافَأَ دَلِيلُ التَّحْلِيلِ دَلِيلَ التَّحْرِيمِ حُرِّمَ الْإِقْدَامُ وَلَمْ يُتَخَيَّرْ عَلَى الْأَصَحِّ ، وَكُلُّ حُكْمٍ اسْتَنَدَ إلَى دَلِيلٍ لَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَنَقَضَ حُكْمَهُ فَذَلِكَ دَالٌّ عَلَى الْبُطْلَانِ ، لِأَنَّا إنَّمَا حَكَمْنَا بِنَقْضِهِ لِبُطْلَانِ دَلِيلِهِ ، وَمَا بَطَلَ دَلِيلُهُ كَانَ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ .
وَقَدْ أَطْلَقَ الْفُقَهَاءُ أَنَّ اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ شُبْهَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى إطْلَاقِهِ ، إذْ لَيْسَ عَيْنُ الْخِلَافِ شُبْهَةً بِدَلِيلِ أَنَّ خِلَافَ عَطَاءٍ فِي جَوَازِ وَطْءِ الْجَوَارِي بِالْإِبَاحَةِ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَدْرَأُ الْحَدَّ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ الدَّارِئَةُ لِلْحَدِّ فَفِي مَأْخَذِ الْخِلَافِ وَأَدِلَّتِهِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْخِلَافِ فِي النِّكَاحِ بِلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ ، وَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ ، فَإِنَّ الْأَدِلَّةَ فِيهِ مُتَقَارِبَةٌ لَا يُبْعِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ إصَابَةَ خَصْمِهِ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَنَذْكُرُ لِذَلِكَ أَمْثِلَةً : أَحَدُهَا : أَكْلُ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ لَوْ اُشْتُرِيَ بِعَقْدِ غَيْرِ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ لَوْ وَقَعَ فِيمَا يَحِلُّ بِصِفَتِهِ لَكَانَ الْخِلَافُ فِي صِفَتِهِ قَائِمًا ، وَصِفَتُهُ مَا قَامَ بِهِ مِنْ نَابِهِ وَمِخْلَبِهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : أَكْلُ الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالرُّطَبِ وَالْعِنَبِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ إذَا اُشْتُرِيَتْ بِبَيْعٍ مُخْتَلَفٍ فِي صِحَّتِهِ كَبَيْعِ الْفُضُولِيِّ وَبَيْعِ الْغَائِبِ وَالْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ لَكَانَ الْخِلَافُ فِي سَبَبِهِ قَائِمًا مُوجِبًا لِلْوَرَعِ فِي مُبَاشَرَتِهِ ، وَيَخْتَلِفُ الْوَرَعُ فِي مُبَاشَرَتِهِ ، وَيَخْتَلِفُ الْوَرَعُ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ أَدِلَّتِهِمَا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : نِكَاحُ الْمَخْلُوقَةِ مِنْ مَاءِ الزَّانِي إذَا عُقِدَ عَلَيْهَا عَقْدٌ لَوْ عُقِدَ عَلَى أَجْنَبِيَّةٍ لَكَانَ صَحِيحًا بِالنَّصِّ أَوْ الْإِجْمَاعِ فَهَذَا مِمَّا يَشْتَدُّ التَّوَرُّعُ فِي نِكَاحِهَا لِلِاخْتِلَافِ فِي كَوْنِ صِفَتِهَا مُقْتَضِيَةً لِلتَّحْرِيمِ .
وَقَدْ يُلْتَبَسُ مَا حُلَّ بِوَصْفِهِ وَسَبَبِهِ بِمَا حُرِّمَ بِوَصْفِهِ وَسَبَبِهِ وَلَهُ حَالَانِ . أَحَدُهُمَا : أَنْ تَلْتَبِسَ عَيْنٌ وَاحِدَةٌ بِأُخْرَى كَمَا إذَا اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَجْنَبِيَّةٍ فَالْإِقْدَامُ عَلَى تَزْوِيجِ إحْدَاهُمَا أَوْ وَطِئَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ حَرَامٌ بَيِّنٌ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنَّ تَخْتَلِطَ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَهْلِ بَلَدٍ لَا يَنْحَصِرُونَ فَأَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَهَا مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ أَوْ نَكَحَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَوَطْؤُهَا حَلَالٌ بَيِّنٌ ، وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ أَعْدَادٌ كَثِيرَةٌ ، فَإِذَا جَاوَزَ الْعَدَدَ مِائَتَيْنِ مَثَلًا كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ، وَإِذَا زَادَ كَانَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ، وَإِذَا نَقَصَتْ رُتَبُ الْعَدَدِ عَلَى أَهْلِ الْبَلْدَةِ كَانَتْ رُتَبُ الْوَرَعِ مُرَتَّبَةً عَلَى رُتَبِ النَّقْصِ ، وَلَوْ اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ مُبَاحَةٌ بِحَمَامَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَكَانَ كَاخْتِلَاطِ الْأُخْتَيْنِ وَلَا اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ مَمْلُوكَةٌ بِحَمَامٍ مُبَاحٍ لَا يَنْحَصِرُ كَانَ كَاخْتِلَاطِ الْأُخْتِ بِأَهْلِ بَلْدَةٍ لَا يَنْحَصِرُونَ ، وَلَوْ اخْتَلَطَ حَمَامٌ مُبَاحٍ لَا يَنْحَصِرُ بِحَمَامٍ مَمْلُوكٍ لَا يَنْحَصِرُ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِيهِ لِأَنَّ نِسْبَةَ مَا لَا يَنْحَصِرُ إلَى نِسْبَةِ مَا يَنْحَصِرُ كَنِسْبَةِ الْمُنْحَصِرِ إلَى مَا لَا يَنْحَصِرُ .
( فَائِدَةٌ ) مَا كَانَ حَرَامًا بِوَصْفِهِ وَسَبَبِهِ أَوْ بِأَحَدِهِمَا فَلَا يَأْتِيه التَّحْلِيلُ إلَّا مِنْ جِهَةِ الضَّرُورَةِ أَوْ الْإِكْرَاهِ ، وَمَا كَانَ حَلَالًا بِوَصْفِهِ فَلَا يَأْتِيهِ التَّحْرِيمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ سَبَبِهِ ، وَمَا كَانَ حَلَالًا بِسَبَبِهِ لَا يَأْتِيهِ التَّحْرِيمُ إلَّا مِنْ جِهَةِ وَصْفِهِ ، فَلَوْ عُقِدَ عَلَى الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ عَقْدٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّةِ مِثْلِهِ لَمْ يَأْتِهِ التَّحْرِيمُ إلَّا مِنْ قِبَلِ وَصْفِهِ .
( فَائِدَةٌ ) إذَا أَكَلَ بُرًّا مَغْصُوبًا أَوْ شَاةً مَغْصُوبَةً صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَكَلَ حَرَامًا لِكَوْنِهِ حَرَامًا بِسَبَبِهِ ، وَصَحَّ أَنْ يُقَالَ مَا أَكَلَ حَرَامًا لِأَنَّهُ حَلَالٌ بِصِفَتِهِ ، وَإِنْ أَكَلَ بُرًّا مُشْتَرَكًا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ صَحَّ أَنْ يُقَالَ أَكَلَ حَرَامًا وَحَلَالًا لِأَنَّ نَصِيبَهُ حَلَالٌ لَهُ بِمِلْكِهِ وَصِفَتِهِ ، وَنَصِيبُ شَرِيكِهِ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِهِ دُونَ صِفَتِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا لَا يَأْثَمُ إثْمَ مَنْ أَكَلَ طَعَامًا كُلُّهُ مَغْصُوبٌ لِكَمَالِ الْمَفْسَدَةِ فِي الْمَغْصُوبِ وَنَقْصِهَا فِي الْمُشْتَرَكِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرَكَ حَرَّمَ تَحْرِيمَ الْوَسَائِلِ وَهَذَا حَرَّمَ تَحْرِيمَ الْمَقَاصِدِ ، فَلَوْ أَكَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ لَأَكَلَ مَا هُوَ حَلَالٌ بِصِفَتِهِ حَرَامٌ بِسَبَبِهِ ، وَإِنْ ذَبَحَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ فَإِنْ حَرَّمْنَا تَذْكِيَتَهُ كَانَ أَكْلًا لِمَا حُرِّمَ بِصِفَتِهِ وَسَبَبِهِ ، وَإِنْ أَبَحْنَا ذَكَاتَهُ كَانَ أَكْلًا لِمَا حُرِّمَ بِسَبَبِهِ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ دُونَ صِفَتِهِ .
( فَائِدَةٌ ) مَا يَحْرُمُ بِوَصْفِهِ لَا يَحِلُّ إلَّا لِضَرُورَةٍ أَوْ إكْرَاهٍ ، وَمَا حُلَّ بِصِفَّتِهِ لَا يَحْرُمُ إلَّا بِفَسَادِ سَبَبِهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا حُلَّ بِالنِّسْبَةِ الْقَائِمَةِ بِهِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ أَنْ تَحِلَّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ وَلَا بِضَرُورَةٍ وَلَا إكْرَاهٍ ، وَهَذَا كَكُفْرِ الْجِنَانِ لَا يَحِلُّ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ ، بِخِلَافِ كُفْرِ اللِّسَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْ هَؤُلَاءِ بِسَبْقِهِ فَهَلْ يُوصَفُ وَطْؤُهُ بِالتَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ ؟ قُلْنَا : لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَصَارَ كَأَفْعَالِ الْمَجَانِينِ وَالصِّبْيَانِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي النِّسْيَانِ .
فَصْلٌ فِي التَّقْدِيرِ عَلَى خِلَافِ التَّحْقِيقِ التَّقْدِيرُ إعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ ، أَوْ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ ، فَأَمَّا إعْطَاءُ الْمَعْدُومِ حُكْمَ الْمَوْجُودِ فَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : إيمَانُ الصِّبْيَانِ فِي وَقْتِ الطُّفُولَةِ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَتَّصِفُوا بِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا قُدِّرَ وُجُودُهُ وَأُجْرِيَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْجُودِ الْمُقَدَّرِ أَحْكَامُ الْإِيمَانِ ، وَكَذَلِكَ تَقْدِيرُ الْإِيمَانِ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ إذَا غَفَلُوا عَنْهُ أَوْ زَالَ إدْرَاكُهُمْ بِنَوْمٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ . الْمِثَالُ الثَّانِي : تَقْدِيرُ الْكُفْرِ فِي أَوْلَادِ الْكُفَّارِ مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَتَعَقَّلُونَ إيمَانًا وَلَا كُفْرًا وَتَجْرِي عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا أَحْكَامُ آبَائِهِمْ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الْعَدَالَةُ مُقَدَّرَةٌ فِي الْعُدُولِ إذَا غَفَلُوا عَنْهَا وَزَوَالُ إدْرَاكِهِمْ بِنَوْمٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْفِسْقُ يُقَدَّرُ فِي الْفَاسِقِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْهُ أَوْ مَعَ زَوَالِ الْإِدْرَاكِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : الْإِخْلَاصُ وَالرِّيَاءُ فَإِنَّهُمَا يُقَدَّرَانِ مَعَ زَوَالِهِمَا ، وَمَنْ مَاتَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ فَمَنْ غَفَلَ عِنْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ إيمَانِهِ ، وَمِنْ الْكَافِرِينَ عَنْ كُفْرِهِ ، وَمِنْ الْمُخْلِصِينَ عَنْ إخْلَاصِهِ ، وَمِنْ الْمُرَائِينَ عَنْ رِيَائِهِ ، وَمِنْ الْعُدُولِ وَالْفَسَقَةِ عَنْ عَدَالَتِهِ وَفِسْقِهِ وَمِنْ الْمُصِرِّينَ وَالْمُقْلِعِينَ عَنْ إصْرَارِهِ وَإِقْلَاعِهِ ، لَقِيَ اللَّهَ بِذَلِكَ الْمُقَدَّرِ فِي حَقِّهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ } الْمِثَالُ السَّادِسُ : تَقْدِيرُ النِّيَّاتِ فِي الْعِبَادَاتِ مَعَ عُزُوبِهَا وَالْغَفْلَةِ عَنْهَا . الْمِثَالُ السَّابِعُ : تَقْدِيرُ الْعُلُومِ لِلْعُلَمَاءِ مَعَ غَيْبَتِهَا عَنْهُمْ ، فَيُقَدَّرُ الْفِقْهُ فِي الْفَقِيهِ مَعَ غَفْلَتِهِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ الشِّعْرُ فِي الشَّاعِرِ ، وَالطِّبُّ فِي الطَّبِيبِ وَعِلْمُ الْحَدِيثِ فِي الْمُحَدِّثِ . وَأَمَّا نُبُوَّةُ الْأَنْبِيَاءِ فَقَدْ جُعِلَ النَّبِيُّ بِمَعْنَى الْمُنْبِئِ عَنْ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُقَدِّرُهَا فِي حَالِ سُكُوتِ النَّبِيِّ عَنْ الْإِنْبَاءِ وَتَحَقُّقِهَا فِي حَالِ مُلَابَسَةِ الْإِنْبَاءِ ، وَمَنْ جَعَلَ النَّبِيَّ بِمَعْنَى الْمُنْبِئِ الْمُخْبِرِ كَانَتْ النُّبُوَّةُ عِبَارَةً عَنْ تَعَلُّقِ إنْبَاءِ اللَّهِ بِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ وَصْفًا حَقِيقِيًّا ، فَإِنَّ مُتَعَلَّقَ الْخِطَابِ لَا يَسْتَفِيدُ صِفَةً حَقِيقِيَّةً مِنْ تَعَلُّقِ الْخِطَابِ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ : تَقْدِيرُ الصَّدَاقَةِ فِي الْأَصْدِقَاءِ وَالْعَدَاوَةِ فِي الْأَعْدَاءِ وَالْحَسَدِ فِي الْحُسَّادِ مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْهَا وَفِي حَالِ النَّوْمِ وَالْغَشْيِ . فَإِنْ قِيلَ : مَا مَعْنَى وقَوْله تَعَالَى : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ } فَالْجَوَابُ أَنَّ الْحَسَدَ الْحُكْمِيَّ لَا يَضُرُّ الْمَحْسُودَ لِغَفْلَةِ الْحَاسِدِ عَنْهُ ، وَالْحَسَدُ الْحَقِيقِيُّ هُوَ الْحَاثُّ عَلَى أَذِيَّةِ الْمَحْسُودِ ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ } صَالِحٍ لِلْحَسَدِ الْحُكْمِيِّ وَالْحَقِيقِيِّ قَالَ : { إذَا حَسَدَ } تَخْصِيصًا لِلْحَسَدِ الْحَقِيقِيِّ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ الْأَذَى بِالِاسْتِعَاذَةِ فَإِنَّ الْحُكْمِيَّ لَا ضَرَرَ فِيهِ . الْمِثَالُ التَّاسِعُ : صَوْمُ الْمُتَطَوِّعِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ إذَا نَوَاهُ قَبْلَ الزَّوَالِ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَرَاهُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ . الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : إذْ بَاعَ سَارِقًا فَقُطِعَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَفِي تَقْدِيرِ الْقَطْعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مَذْهَبَانِ ، فَإِنْ قُدِّرَ قَطْعُهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثَبَتَ الرَّدُّ لِلْمُشْتَرِي وَإِلَّا فَلَا . الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : إذَا بَاعَ عَبْدًا مُرْتَدًّا فَقُتِلَ بِالرِّدَّةِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَفِي تَقْدِيرِ الْقَتْلِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَجْهَانِ ، فَإِنْ قَدَّرْنَاهُ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَطَلَ الْبَيْعُ وَرَجَعَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَإِلَّا فَلَا . الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : الذِّمَمُ وَهِيَ تَقْدِيرُ أَمْرِ الْإِنْسَانِ يَصْلُحُ لِلِالْتِزَامِ وَالْإِلْزَامُ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقٍ لَهُ . الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : الدُّيُونُ فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ مَوْجُودَةً فِي الذِّمَمِ مِنْ غَيْرِ تَحَقُّقٍ لَهَا وَلَا لِمَحِلِّهَا ، وَيَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهَا وُجُوبُ الزَّكَاةِ فِيهَا ، وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ وُجُودُهَا لَمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِي مَعْدُومٍ ، وَلَا يُقَالُ إنَّمَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهَا لِأَنَّهَا تُفْضَى إلَى الْوُجُودِ بِقَبْضِهَا ، فَإِنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ عَلَى غَنِيٍّ مَلِيٍّ وَفِي مُقِرٍّ حَاضِرٍ يَدْفَعُهُ مَتَى طُولِبَ بِهِ وَمَضَتْ عَلَيْهِ أَحْوَالٌ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ثُمَّ تَعَذَّرَ أَخْذُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَدِينِ مُعْسِرًا فَإِنَّ مَالِكَهُ يُطَالَبُ بِزَكَاةِ مَا مَضَى وَإِنْ لَمْ يُفِضْ أَمْرُهُ إلَى التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ . الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : تَقْدِيرُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي عُرُوضِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ مَلَكَ نِصَابًا مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ اشْتَرَى بِهَا عُرُوضًا لِلتِّجَارَةِ وَمَضَى عَلَى الْعُرُوضِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَإِنَّ الزَّكَاةَ تَلْزَمُهُ تَقْدِيرًا لِبَقَاءِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فِي الْعُرُوضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْعَرَضَ لِلتِّجَارَةِ بِمَا لَا زَكَاةَ فِيهِ فَإِنَّا نُقَدِّرُ نَقْدَ الْبَلَدِ فِي النِّصَابِ . الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : تَقْدِيرُ الْمِلْكِ فِي الْمَمْلُوكَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَمْرًا حَقِيقِيًّا قَائِمًا بِالْمَمْلُوكِ ؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فِيهِ لِتُجْرَى عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ ، وَكَذَلِكَ الرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ مُقَدَّرَانِ فِي الْأَحْرَارِ وَلَيْسَا بِصِفَةٍ حَقِيقِيَّةٍ لِلْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَإِنَّمَا رَجَعَ الْمِلْكُ وَالرِّقُّ وَالْحُرِّيَّةُ إلَى تَعَلُّقِ أَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ بِهَذِهِ الْمُحَالِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجِيَّةُ فِي الزَّوْجَيْنِ أَمْرٌ مُقَدَّرٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ خَاصَّةٌ .
وَأَمَّا إعْطَاءُ الْمَوْجُودِ حُكْمَ الْمَعْدُومِ فَلَهُ مِثَالَانِ - أَحَدُهُمَا وُجُودُ الْمَاءِ يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسَافِرُ لِعَطَشِهِ أَوْ لِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، أَوْ لِنَفَقَةِ ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ ، أَوْ لِزِيَادَةِ ثَمَنِهِ عَلَى ثَمَنِ مِثْلِهِ ، أَوْ بِهِبَةِ ثَمَنِهِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ مَعْدُومًا مَعَ وُجُودِهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : وُجُودُ الْمُكَفِّرِ الرَّقَبَةُ مَعَ احْتِيَاجِهِ إلَيْهَا وَاعْتِمَادُهُ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا تُقَدَّرُ مَعْدُومَةً لِيَنْتَقِلَ إلَى بَدَلِهَا .
وَمِنْ التَّقْدِيرَاتِ : إعْطَاءُ الْمُتَأَخِّرِ حُكْمَ الْمُتَقَدِّمِ كَمَنْ رَمَى سَهْمًا أَوْ دَهْوَرَ حَجَرًا ثُمَّ مَاتَ فَأَصَابَا بَعْدَ مَوْتِهِ شَيْئًا فَأَفْسَدَاهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ تَقْدِيرًا لِإِفْسَادِهِ قُبَيْلَ مَوْتِهِ . وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلٍّ عُدْوَانًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ مَوْتِهِ وَجَبَ ضَمَانُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ تَرِكَةٌ صُرِفَتْ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ أَتْلَفَهَا الْوَرَثَةُ لَزِمَهُمْ ضَمَانُهَا وَتُصْرَفُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَخْلُفْ شَيْئًا بَقِيَتْ الظَّلَّامَةُ إلَى الْقِيَامَةِ .
وَمِنْ التَّقْدِيرَاتِ : إعْطَاءُ الْآثَارِ وَالصِّفَاتِ حُكْمَ الْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَاتِ كَالْمُفْلِسِ إذَا قَصَّرَ الثَّوْبَ الْمَبِيعَ فَهَلْ يَكُونُ قَصْرُهُ كَصَبْغِهِ فِيهِ قَوْلَانِ : فَإِنْ جَعَلْنَاهُ كَصَبْغِهِ كَانَ ذَلِكَ تَقْدِيرًا لِلْمَعْدُومِ مَوْجُودًا ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُعَرَّى شَيْءٌ مِنْ الْعُقُودِ وَالْمُعَاوَضَاتِ مِنْ جَوَازِ إيرَادِهِ عَلَى مَعْدُومٍ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ قَدْ يَكُونُ مُقَابَلَةَ عَيْنٍ بِعَيْنٍ ، وَقَدْ يَكُونُ مُقَابَلَةَ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَقَدْ يُقَابَلُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ ثُمَّ يُنَفَّعُ التَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ وَكِلَاهُمَا عِنْدَ الْعَقْدِ مَعْدُومٌ . وَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَإِنْ قُوبِلَتْ الْمَنْفَعَةُ بِمَنْفَعَةٍ كَانَ الْعِوَضَانِ مَعْدُومَيْنِ ، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِعَيْنٍ كَانَتْ الْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً . وَأَمَّا السَّلَمُ فَمُقَابَلَةُ مَعْدُومٍ بِمَوْجُودٍ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا ، أَوْ بِدَيْنٍ يُقْبَضُ فِي الْمَجْلِسِ إنْ كَانَ رَأْسُ السَّلَمِ دَيْنًا . وَأَمَّا الْقَرْضُ فَمُقَابَلَةُ مَوْجُودٍ بِمَعْدُومٍ . وَأَمَّا الْوَكَالَةُ فَإِذَنْ فِي مَعْدُومٍ . وَأَمَّا الْمُضَارَبَةُ فَعَمَلُ الْعَامِلِ فِيهَا مَعْدُومٌ وَكَذَلِكَ الْأَرْبَاحُ . وَأَمَّا الْمُسَاقَاةُ وَالْمُزَارَعَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِمَا فَمُقَابَلَةُ مَعْدُومٍ بِمَعْدُومٍ ، فَإِنَّ عَمَلَ الْفَلَّاحِ مَعْدُومٌ وَنَصِيبُهُ مِنْ الثَّمَرِ وَالزَّرْعِ مَعْدُومٌ ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُسَاقَاةُ عَلَى الثَّمَرِ بَعْدَ وُجُودِهِ فِي الصِّحَّةِ خِلَافٌ . وَأَمَّا الْجَعَالَةُ فَإِنَّ عَيْنَ الْجَعْلِ كَانَ مُقَابَلَةَ مَعْلُومٍ بِمَعْدُومٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْهُ كَانَ مُقَابَلَةَ مَعْدُومٍ بِمَعْدُومٍ . وَأَمَّا الْوَقْفُ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِمَنَافِعَ مَعْدُومَةٍ وَفَوَائِدَ مَعْقُودَةٍ تَارَةً لِمَوْجُودٍ وَتَارَةً لِمَفْقُودٍ ، وَتَمْلِيكُ الْمَفْقُودِ أَعْظَمُ أَحْوَالِ الْوَقْفِ ، فَإِنَّ الْمُسْتَحِقِّينَ الْمَوْجُودِينَ وَقْتَ الْوَقْفِ إذَا انْقَرَضُوا صَارَتْ الْغَلَّاتُ وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةً الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ : قَطْعُ أَعْضَاءِ الْجَانِي حِفْظًا لِأَعْضَاءِ النَّاسِ . الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ : جُرْحُ الْجَانِي حِفْظًا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْجِرَاحِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ : قَتْلُ الْجَانِي مَفْسَدَةٌ بِتَفْوِيتِ حَيَاتِهِ لَكِنَّهُ جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ حَيَاةِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَلِذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } . الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : التَّمْثِيلُ بِالْجُنَاةِ إذَا مَثَّلُوا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُفْسِدَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، لَكِنَّهُ مَصْلَحَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ التَّمْثِيلِ فِي الْجِنَايَةِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : حَدُّ الْقَاذِفِ صِيَانَةٌ لِلْأَعْرَاضِ . الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : جَلْدُ الزَّانِي وَنَفْيُهُ حِفْظًا لِلْفُرُوجِ وَالْأَنْسَابِ وَدَفْعًا لِلْعَارِ . الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : الرَّجْمُ فِي حَقِّ الزَّانِي الثَّيِّبِ مُبَالَغَةً فِي حِفْظِ مَا ذَكَرْنَاهُ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : حَدُّ الشُّرْبِ حِفْظًا لِلْعُقُولِ عَنْ الطَّيْشِ وَالِاخْتِلَالِ . الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : حُدُودُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ . الْمِثَالُ السِّتُّونَ : دَفْعُ الصُّولِ - وَلَوْ بِالْقَتْلِ - عَنْ النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ . وَأَمَّا الْحَوَالَةُ فَتَتَعَلَّقُ بِدَيْنٍ فِي مُقَابَلَةِ دَيْنٍ ، وَهِيَ مُعَاوَضَةٌ عَلَى رَأْيٍ ، وَقَبْضٍ مُقَدَّرٍ عَلَى رَأْيٍ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُرَكَّبَةِ فَيَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْقَبْضِ . مِنْ وَجْهٍ ، وَحُكْمُ الْمُعَاوَضَةِ مِنْ وَجْهٍ . وَأَمَّا الصُّلْحُ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهِ بَيْعًا أَوْ إجَارَةً أَوْ إبْرَاءً أَوْ هِبَةً ، وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَلَى الْمَعْدُومِ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ مَعَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ طَافِحَةٌ بِهَا فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ، بَلْ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالْإِبَاحَةُ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِكَسْبٍ مَعْدُومٍ ، وَكَذَلِكَ مُعْظَمُ النُّذُورِ وَالْوُعُودِ لَا تَتَعَلَّقُ إلَّا بِمَعْدُومٍ .
قَاعِدَةٌ فِيمَا يُقْبَلُ مِنْ التَّأْوِيلِ وَمَا لَا يُقْبَلُ مَنْ ذَكَرَ لَفْظًا ظَاهِرًا مَعَ الْأَدِلَّةِ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ تَأَوَّلَهُ لَمْ يُقْبَلْ تَأْوِيلُهُ فِي الظَّاهِرِ إلَّا فِي صُورَةٍ يَكُونُ إقْرَارُهُ فِيهَا مَبْنِيًّا عَلَى ظَنِّهِ ، فَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِنَفْيِ الرَّجْعَةِ ، وَإِقْرَارُ الْمُشْتَرِي فِي الْخِصَامِ بِأَنَّ الْمَبِيعَ مِلْكُ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُمَا مَقْبُولٌ وَلَا نَحْكُمُ عَلَيْهِمَا بِظَاهِرِ إقْرَارِهِمَا ، إذَا تَأَوَّلَاهُ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا لَا يُنَاقِضُهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ إقْرَارَهُمَا لَا مَحَلَّ لَهُ إلَّا ظَنُّهُمَا ، وَلَيْسَ تَكْذِيبُ الظَّنِّ بِمُنَاقِضٍ لِتَحَقُّقِ الظَّنِّ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ أَظُنُّ كَذَا وَكَذَا ثُمَّ كَذِب ظَنِّي . وَكَذَلِكَ قَوْلُ السَّيِّدِ لِمُكَاتَبِهِ إذَا أَدَّى النُّجُومَ اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ ظَهَرَتْ النُّجُومُ مُسْتَحَقَّةً ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ إذَا تَأَوَّلَ قَوْلَهُ بِأَنَّهُ بَنَاهُ عَلَى أَنَّهُ عِتْقٌ بِأَدَاءِ النُّجُومِ ، وَنَحْوُهُ إذَا شَهِدَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ سِوَى فُلَانٍ ثُمَّ ظَهَرَ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تَبْطُلُ إلَّا فِي الْحَصْرِ ، لِأَنَّهُ أَسْنَدَ شَهَادَتَهُ بِذَلِكَ إلَى ظَاهِرٍ وَيَبْقَى الْحَصْرُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ أُخَرُ . وَأَمَّا قَبُولُهُ فِي الْبَاطِنِ فَلَهُ أَحْوَالٌ : إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ قَابِلًا لِتَأْوِيلِهِ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ فِي الْفُتْيَا وَلَا يُقْبَلُ فِي الْحُكْمِ ، فَلَوْ طَلَّقَ بِصَحِيحِ اللَّفْظِ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت بِذَلِكَ طَلَاقًا مِنْ وَثَاقٍ لَمْ يُقْبَلْ فِي الْحُكْمِ وَلَا يَسَعُ امْرَأَتَهُ أَنْ تُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا لَا يَسَعُ الْحُكْمَ تَسْلِيمُهَا لِأَنَّهُمَا مُتَعَبَّدَانِ فِي الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ ، وَإِنْ صَدَّقَتْهُ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْدِيقُهَا لِمَا لِلَّهِ فِي تَحْرِيمِ الْأَبْضَاعِ مِنْ الْحَقِّ ، وَكَذَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ قَالَ أَرَدْت حُرِّيَّةَ النَّفْسِ وَالْأَخْلَاقِ لَمْ يُقْبَلْ وَلَا يَسَعُهَا أَنْ تُسَلِّمَ نَفْسَهَا إلَيْهِ وَلَا أَنْ تَدَعَ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ لِلَّهِ عَلَى الْحَرَائِرِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَسَعُهُ تَصْدِيقُهُ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ مِنْ الْحُقُوقِ عَلَى الْأَحْرَارِ ، كَالْجُمُعَةِ وَالْجِهَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُكَلَّفُ بِهِ الْأَحْرَارُ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْحُرِّيَّةِ يَتَضَمَّنُ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ أَقَرَّ بِحَقٍّ لِغَيْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُسْتَحِقُّ ، وَلَا عِبْرَةَ بِمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَاوِي فِي مِثْلِ هَذَا . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَنْوِيَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ مِثْلَ أَنْ يَنْوِيَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا وَيُلْزَمُ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِمَا . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَنْوِيَ وَضْعَ اللَّفْظِ اللُّغَوِيِّ عَلَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ فِي اللُّغَةِ فَفِيهِ خِلَافٌ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَضْعِ الْخَاصِّ كَمَنْ يُعَبِّرُ بِالْأَلْفَيْنِ عَنْ الْأَلْفِ فِي مَسْأَلَةِ السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ . الْحَالُ الرَّابِعَةُ : أَنْ يَنْوِيَ مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فِي اللُّغَةِ احْتِمَالًا ظَاهِرًا لَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ لَا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا ، بَلْ يَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَيَجْرِي اللَّفْظُ عَلَى مُقْتَضَاهُ فِي اللُّغَةِ . مِثَالُهُ : إذَا حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَأَوِّلًا لِيَمِينِهِ أَوْ مُعَلِّقًا لَهَا عَلَى الْمَشِيئَةِ وَهُوَ مُبْطِلٌ لِذَلِكَ ، وَلَا عِبْرَةَ بِنِيَّتِهِ لِمَا تُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ إبْطَالِ فَائِدَةِ الْأَيْمَانِ ، فَإِنَّهَا إنَّمَا شُرِعَتْ لِيَهَابَ الْخَصْمُ الْإِقْدَامَ عَلَيْهَا خَوْفًا مِنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَلَوْ صَحَّ تَأْوِيلُهُ وَاعْتُبِرَتْ نِيَّتُهُ بَطَلَتْ هَذِهِ الْفَائِدَةُ وَفَاتَ بِسَبَبِهَا حُقُوقٌ كَثِيرَةٌ وَاسْتُحِلَّتْ بِذَلِكَ الْأَمْوَالُ وَالْأَبْضَاعُ ، فَإِذَا حَلَفَ مَا طَلَّقَهَا أَوْ مَا أَعْتَقَهَا أَوْ مَا بِعْته أَوْ مَا قَتَلَتْهُ وَمَا قَذَفَتْهُ وَتَأَوَّلَ يَمِينَهُ بِمَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ مُبْطِلًا فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لَانْتُهِكَتْ حُرْمَةُ الْأَبْضَاعِ وَالدِّمَاءِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ ، وَلَبِيعَ الْأَحْرَارُ وَلَزُنِيَ بِالنِّسَاءِ ، فَلَمَّا جَرَّ اعْتِبَارُ تَأْوِيلِهِ هَذَا الْفَسَادَ الْعَظِيمَ سَقَطَ تَأْوِيلُهُ فَاسْتُثْنِيَ هَذَا مِنْ قَاعِدَةِ النِّيَّةِ الَّتِي يَحْتَمِلُهَا اللَّفْظُ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بِحَقٍّ وَهُوَ مُعْسِرٌ بِهِ فَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيَّ وَتَأَوَّلَ يَمِينَهُ بِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَيَّ الْآنَ صَحَّ تَأْوِيلُهُ وَلَا يُؤَاخَذُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَأْوِيلِهِ هَهُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا بَلْ خَصْمُهُ ظَالِمٌ بِمُطَالَبَتِهِ إنْ كَانَ عَالِمًا بِعُسْرِهِ أَوْ مُخْطِئٌ بِمُطَالَبَتِهِ إنْ كَانَ جَاهِلًا بِعُسْرِهِ فَلَا تُغَيَّرُ الْقَوَاعِدُ لِخَطَأِ الْمُخْطِئِينَ وَلَا لِظُلْمِ الظَّالِمِينَ ، بِخِلَافِ التَّأْوِيلِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَكَانَ مُؤَدِّيًا إلَى الْمَفَاسِدِ الَّتِي ذَكَرْنَا وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ يَمِينُك عَلَى مَا يُصَدِّقُك عَلَيْهِ صَاحِبُك } ، يُرِيدُ بِالْمُسْتَحْلِفِ الْحَاكِمَ وَبِالصَّاحِبِ الْخَصْمَ .
وَكَذَلِكَ الْيَمِينُ فِي اللِّعَانِ إذَا تَأَوَّلَهَا أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَمْ يَصِحَّ تَأْوِيلُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْقَذْفِ فِي الرَّجُلِ وَإِبْطَالِ حَدِّ الزِّنَا فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ . وَكَذَلِكَ يَمِينُ الْمُدَّعِينَ فِي أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَفِي رَدِّ الْوَدَائِعِ وَتُلْفِهَا .
فَصْلٌ فِيمَنْ أَطْلَقَ لَفْظًا لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمُقْتَضَاهُ . إذَا نَطَقَ الْأَعْجَمِيُّ بِكَلِمَةِ كُفْرٍ أَوْ أَيْمَانٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ إعْتَاقٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ صُلْحٍ أَوْ إبْرَاءٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَزِمْ مُقْتَضَاهُ ، وَلَمْ يَقْصِدْ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ إذَا نَطَقَ الْعَرَبِيُّ بِمَا يَدُلُّ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي بِلَفْظٍ أَعْجَمِيٍّ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْهُ . فَإِنَّ الْإِرَادَةَ لَا تَتَوَجَّهُ إلَّا إلَى مَعْلُومٍ أَوْ مَظْنُونٍ ، وَإِنْ قَصَدَ الْعَرَبِيُّ بِنُطْقِ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْكَلِمِ مَعَ مَعْرِفَتِهِ بِمَعَانِيهَا نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَعَانِيهَا مِثْلَ أَنْ قَالَ الْعَرَبِيُّ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ لِلسَّنَةِ أَوْ لِلْبِدْعَةِ وَهِيَ حَامِلٌ بِمَعْنَى اللَّفْظَيْنِ ، أَوْ نَطَقَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ الرَّجْعَةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْإِعْتَاقِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ مَعْنَاهُ مَعَ كَوْنِهِ عَرَبِيًّا فَإِنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذْ لَا شُعُورَ لَهُ بِمَدْلُولِهِ حَتَّى يَقْصِدُ إلَى اللَّفْظِ الدَّالِّ عَلَيْهِ ، وَكَثِيرًا مَا يُخَالِعُ الْجُهَّالُ مِنْ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ مَدْلُولَ اللَّفْظِ لِلْخُلْعِ وَيَحْكُمُونَ بِصِحَّتِهِ لِلْجَهْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ .
( فَائِدَةٌ ) اللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُهُ فِي اللُّغَةِ أَوْ عُرْفِ الشَّرْعِ أَوْ عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَا يُحْمَلُ عَلَى الِاحْتِمَالِ الْخَفِيِّ مَا لَا يُقْصَدُ أَوْ يُقْتَرَنُ بِهِ دَلِيلٌ ، فَمَنْ حَلَفَ بِالْقُرْآنِ لَمْ تَنْعَقِدْ يَمِينُهُ عِنْدَ النُّعْمَانِ لِأَنَّهُ ظَاهِرٌ فِي هَذِهِ الْأَلْفَاظِ فِي عُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَلَا سِيَّمَا فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالْجُهَّالِ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ كَلَامَ النَّفْسِ وَلَا يَخْطِرُ لَهُمْ بِبَالٍ ، وَخَالَفَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ فِي قَوْلِهِمَا بَعْدُ وَلَا سِيَّمَا فِيمَنْ حَلَفَ بِالْمُصْحَفِ عِنْدَ أَصْحَابِ مَالِكٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْطِرُ بِبَالِهِ الْكَلَامُ الْقَدِيمُ وَلَا التَّجَوُّزُ بِالْمُصْحَفِ عَنْهُ بَلْ الْحَلِفُ بِهِ كَالْحَلِفِ بِالْكَعْبَةِ .
( فَائِدَةٌ ) تَعْلِيقُ التَّصَرُّفِ عَلَى الْمَشِيئَةِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْزِمَ بِمَا عَلَّقَهُ تَعَلُّقَ مَا جَزَمَ بِهِ عَلَى الْمَشِيئَةِ فَهَذَا مُفَوَّضٌ إلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ فِيمَا جَزَمَ بِهِ ، فَيَصِحُّ تَصَرُّفُهُ لِأَنَّهُ جَزَمَ بِهِ وَلَمْ يَشُكَّ ، وَإِنَّمَا اعْتَرَفَ بِأَنَّ مَا جَزَمَ بِهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَهَذَا التَّصَرُّفُ نَافِذٌ لَا إشْكَالَ فِيهِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : أَنْ لَا يَجْزِمَ بِالتَّصَرُّفِ بَلْ يُعَلِّقُهُ عَلَى الْمَشِيئَةِ مُتَرَدِّدًا فِي إيقَاعِهِ وَتَحَقُّقِهِ فَهَذَا تَصَرُّفٌ غَيْرُ نَافِذٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْزِمُ وَلَمْ يَقْصِدْ إلَيْهِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْعَامِّيُّ ذَلِكَ وَاسْتَثْنَى فِيهِ اُحْتُمِلَ أَنْ يُطْلِقَهُ شَاكًّا ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُطْلِقَهُ جَازِمًا مُفَوِّضًا ، فَعِنْدِي فِيهِ وَقْفَةٌ فِي وُجُوبِ اسْتِفْصَالِهِ عَنْ مُرَادِهِ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَغْلَبَ عَلَى النَّاسِ هُوَ الْجَزْمُ ، وَالشَّكُّ نَادِرٌ ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ التَّفْوِيضِ أَغْلَبُ مِنْ تَعْلِيقِ التَّرْدِيدِ .
فَصْلٌ فِيمَا أُثْبِتَ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا : إذَا ادَّعَى الْبَرُّ التَّقِيُّ الصَّدُوقُ الْمَوْثُوقُ بِعَدَالَتِهِ وَصِدْقِهِ عَلَى الْفَاجِرِ الْمَعْرُوفِ بِغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَإِنْكَارِهَا أَنَّهُ غَصَبَهُ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَأَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ ظُهُورِ صِدْقِ الْمُدَّعِي وَبُعْدِ صِدْقِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : لَوْ ادَّعَى هَذَا الْفَاجِرُ عَلَى هَذَا التَّقِيِّ وَطَلَبَ يَمِينَهُ حَلَّفْنَاهُ مَعَ أَنَّ الظَّاهِرَ كَذِبُهُ فِي دَعْوَاهُ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا أَتَتْ الزَّوْجَةُ بِالْوَلَدِ لِدُونِ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْأَقْرَاءِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ مَعَ أَنَّ الْغَالِبَ الظَّاهِرَ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَتَأَخَّرُ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ . فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا لَحِقَهُ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الزِّنَا وَعَدَمُ الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، قُلْنَا وُقُوعُ الزِّنَا أَغْلَبُ مِنْ تَأَخُّرِ الْحَمْلِ إلَى أَرْبَعِ سِنِينَ إلَّا سَاعَةً وَاحِدَةً وَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ حَدُّ الزِّنَا فَإِنَّ الْحُدُودَ تَسْقُطُ بِالشُّبُهَاتِ ، بِخِلَافِ إلْحَاقِ الْأَنْسَابِ فَإِنَّ فِيهِ مَفَاسِدَ عَظِيمَةً مِنْهَا جَرَيَانُ التَّوَارُثِ وَمِنْهَا نَظَرُ الْوَلَدِ إلَى مَحَارِمِ الزَّوْجِ ، وَمِنْهَا إيجَابُ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ وَالسُّكْنَى ، وَمِنْهَا الْإِنْكَاحُ وَالْحَضَانَةُ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُهُ مَعَ نُدْرَةِ الْوِلَادَةِ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : لَوْ زَنَى بِهَا إنْسَانٌ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ لِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الزِّنَا وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ النِّكَاحِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوَطْءَ فَإِنَّا نُلْحِقُهُ بِالزَّوْجِ مَعَ ظُهُورِ صِدْقِهِ بِالْأَصْلِ وَالْغَلَبَةِ وَمَعَ ظُهُورِ كَوْنِهِ مِنْ الزَّانِي بِوَضْعِهِ عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ ، لَكِنَّ الزَّوْجَ يُمْكِنُ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ ، وَإِنَّمَا الْمُشْكِلُ أَنْ يَلْزَمَ بِضَرَرٍ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ اسْتَبْرَأَهَا بِقُرْءٍ ثُمَّ أَتَتْ بِتِسْعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَهَذَا مُشْكِلٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْأَمَةَ فِرَاشٌ حَقِيقِيٌّ ، وَهَذِهِ مُدَّةٌ غَالِبَةٌ فَكَيْفَ لَا يَلْحَقُهُ الْوَلَدُ لِفِرَاشٍ حَقِيقِيٍّ مَعَ غَلَبَةِ الْمُدَّةِ ، وَيَلْحَقُ بِإِمْكَانِ الْوَطْءِ فِي الزَّوْجَةِ مَعَ قِلَّةِ الْمُدَّةِ أَوْ نُدْرَةِ الْوِلَادَةِ فِي مِثْلِهَا ؟ وَقَدْ خَالَفَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ مُتَّجَهٌ .
( فَائِدَةٌ ) قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ الْأَغْبِيَاءِ أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَلْحَقُ إلَّا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَهُوَ خَطَأٌ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَلْحَقُ بِدُونِ ذَلِكَ فَلَوْ جَنَى عَلَى الْحَامِلِ فَأَجْهَضَتْ جَنِينًا مَيِّتًا لِدُونِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِأَبَوَيْهِ وَتَثْبُتُ الْغُرَّةُ لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجْهَضَتْهُ بِغَيْرِ جِنَايَةٍ لَكَانَ مُؤْنَةُ تَكْفِينِهِ وَتَجْهِيزِهِ عَلَى أَبِيهِ وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْأَشْهُرِ الْوَلَدُ الْكَامِلُ دُونَ النَّاقِصِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ مَالٌ عَظِيمٌ فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُ تَفْسِيرَهُ بِأَقَلِّ مَا يُتَمَوَّلُ وَهَذِهِ خِلَافٌ ظَاهِرِ اللَّفْظِ ، وَعَلَّلَ الشَّافِعِيُّ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ الْعَظِيمَ لَا ضَابِطَ لَهُ لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هِمَمِ النَّاسِ ، فَقَدْ يَرَى الْفَقِيرُ الْمُدْقِعُ الدِّينَارَ عَظِيمًا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَالْغَنِيُّ الْمُكْثِرُ قَدْ لَا يَرَى الْمِئِينَ عَظِيمَةً بِالنِّسْبَةِ إلَى غِنَائِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْعَظَمَةِ ضَابِطٌ يُرْجَعُ إلَيْهِ رَجَعَ الشَّافِعِيُّ إلَى مَا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ فِي اللُّغَةِ حَمْلًا لِلْعَظَمَةِ عَلَى الصِّفَةِ بِكَوْنِهِ حَلَالًا أَوْ خَالِصًا مِنْ الشُّبْهَةِ وَلَا يَخْفَى مَا فِي هَذَا مِنْ مُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى النِّصَابِ الزَّكَوِيِّ وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعَظَمَةَ نِسْبِيَّةٌ وَلَمْ يَسْتَعْمِلْ الشَّرْعُ لَفْظَهَا فِي نُصُبِ الزَّكَاةِ ، وَكَيْفَ يُحْمَلُ قَوْلُ فَقِيرٍ يَعْتَقِدُ أَنَّ الدِّينَارَ عَظِيمٌ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا وَيُحْمَلُ قَوْلُ الْخَلِيفَةِ الَّذِي يَعْتَقِدُ أَنَّ الْمِئِينَ حَقِيرَةٌ وَالْقِنْطَارَ عَظِيمٌ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارَا وَالْمَخْرَجُ مِنْ هَذَا صَعْبٌ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَنْتَ أَزَنَى النَّاسِ أَوْ قَالَ أَنْتَ أَزَنَى مِنْ زَيْدٍ فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّ زِنَاهُ أَكْثَرُ مِنْ زِنَا زَيْدٍ وَأَكْثَرُ مِنْ زِنَا سَائِرِ النَّاسِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا حَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى يَقُولَ أَنْتَ أَزَنَى زُنَاةِ النَّاسِ ، وَفُلَانٌ زَانٍ وَأَنْتَ أَزَنَى مِنْهُ وَفِي هَذَا بُعْدٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْمَجَازَ قَدْ غَلَبَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ ، فَيُقَالُ فُلَانٌ أَشْجَعُ النَّاسِ ، وَأَسْخَى النَّاسِ ، وَأَعْلَمُ النَّاسِ ، وَأَحْسَنُ النَّاسِ ، وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ يَفْهَمُونَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ أَشْجَعُ شُجْعَانِ النَّاسِ ، وَأَسْخَى أَسْخِيَاءِ النَّاسِ ، وَأَعْلَمُ عُلَمَاءِ النَّاسِ ، وَأَحْسَنُ حِسَانِ النَّاسِ ، وَالتَّعْيِيرُ الَّذِي وَجَبَ الْحَدُّ لِأَجْلِهِ حَاصِلٌ بِهَذَا اللَّفْظِ فَوْقَ حُصُولِهِ بِقَوْلِهِ أَنْتَ زَانٍ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ : أَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَقُ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْمُتَدَاوَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ مَدْلُولُ الْأَلْفَاظِ ، وَاسْتِعْمَالُهُ فِي الْأَلْفَاظِ أَظْهَرُ وَأَغْلَبُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي مَدْلُولِهَا ، فَإِذَا حَلَفَ بِالْقُرْآنِ فَقَدْ حَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الْأَلْفَاظِ فَلَمْ يَحْكُمْ بِانْعِقَادِ يَمِينِهِ ، وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ عَلَى الْكَلَامِ الْقَدِيمِ وَهُوَ خِلَافُ الظَّاهِرِ مِنْ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ وَأَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ تَحْنِيثُ الْحَالِفِ بِالْمُصْحَفِ إذَا خَالَفَ مُوجِبَ يَمِينِهِ .
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إذَا رَأَيْت الْهِلَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَرَآهُ غَيْرُهَا طَلُقَتْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ حَمْلًا لِلرُّؤْيَةِ عَلَى الْعِرْفَانِ ، وَهَذَا عَلَى خِلَافِ الْوَضْعِ وَعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ ، وَخَالَفَهُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي ذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِصِحَّةِ قَوْلِ النَّاسِ رَأَيْنَا الْهِلَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَرَوْهُ كُلُّهُمْ : وَجَوَابُهُ أَنَّ قَوْلَ النَّاسِ : رَأَيْنَا الْهِلَالَ مِنْ مَجَازِ نِسْبَةِ فِعْلِ الْبَعْضِ إلَى الْكُلِّ ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ " وَإِنْ تَقْتُلُونَا نَقْتُلْكُمْ " مَعْنَاهُ وَإِنْ تَقْتُلُوا بَعْضَنَا نَقْتُلْكُمْ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا } ، وَإِنَّمَا قَتَلَهُ بَعْضُهُمْ وَادَّارَءُوا فِيهِ ، وَكَذَلِكَ وقَوْله تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، فَنَسَبَ الْمُعَاهَدَةَ إلَى الْجَمَاعَةِ مَعَ تَفَرُّدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا ، فَلَيْسَ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ الشَّافِعِيُّ بِمَجَازٍ لِمَحَلِّ النِّزَاعِ ، فَإِنَّ مَجَازَ مَحَلِّ النِّزَاعِ لَا يَشْهَدُ لِمَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ ، فَإِنَّهُ عَلَّقَهُ عَلَى نَفْسِ رُؤْيَتِهَا وَهِيَ وَاحِدَةٌ لَا يُنْسَبُ إلَيْهَا مَا وُجِدَ فِي غَيْرِهَا ، فَاسْتَدَلَّ بِنَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ عَلَى نَوْعٍ آخَرَ لَا يُنَاسِبُهُ وَلَا يُوَافِقُهُ .
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : لَوْ ادَّعَى السُّوقَةُ عَلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ عَلَى عَظِيمٍ مِنْ الْمُلُوكِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِكَنْسِ دَارِهِ وَسِيَاسَةِ دَوَابِّهِ ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يَقْبَلُهُ وَهَذَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ وَمُخَالَفَةِ الظَّاهِرِ ، وَخَالَفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ وَخِلَافُهُ مُتَّجَهٌ لِظُهُورِ كَذِبِ الْمُدَّعِي . وَالْقَاعِدَةُ فِي الْأَخْبَارِ مِنْ الدَّعَاوَى وَالشَّهَادَاتِ وَالْأَقَارِيرِ وَغَيْرِهَا أَنَّ مَا كَذَّبَهُ الْعَقْلُ أَوْ جَوَّزَهُ وَأَحَالَتْهُ الْعَادَةُ فَهُوَ مَرْدُودٌ . وَأَمَّا مَا أَبْعَدَتْهُ الْعَادَةُ مِنْ غَيْرِ إحَالَةٍ فَلَهُ رُتَبٌ فِي الْبُعْدِ وَالْقُرْبِ قَدْ يُخْتَلَفُ فِيهَا ، فَمَا كَانَ أَبْعَدَ وُقُوعًا فَهُوَ أَوْلَى بِالرَّدِّ ، وَمَا كَانَ أَقْرَبَ وُقُوعًا فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَبَيْنَهُمَا رُتَبٌ مُتَفَاوِتَةٌ .
الْمِثَالُ الثَّانِيَ عَشَرَ : إذَا ادَّعَى الصَّدُوقُ اللَّهْجَةِ أَنَّهُ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ إلَى رَبِّهِ وَهُوَ فَاجِرٌ كَذَّابٌ فَأَنْكَرَهُ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ .
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : إذَا تَعَاشَرَ الزَّوْجَانِ عَلَى الدَّوَامِ مُدَّةَ عِشْرِينَ سَنَةً فَادَّعَتْ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهَا شَيْئًا وَلَمْ يُكْسِهَا شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَعَ مُخَالَفَةِ هَذَا الظَّاهِرِ فِي الْعَادَةِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَبِلَ نِكَاحَهَا مِنْ الْحَاكِمِ بِإِذْنِهَا ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَقَعُ عَقِيبَ النِّكَاحِ وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لَحِقَهُ ، وَهَذَا خُرُوجٌ عَنْ الْعَادَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْمَشْرِقِيِّ وَالْمَغْرِبِيَّةِ ، إلَّا أَنَّهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ عَلَى الزَّوْجِ وَفِيهِ إشْكَالٌ إذْ لَا يَجِبُ الْأَيْمَانُ فِي الشَّرْعِ عَلَى مَنْ يُقْطَعُ بِصِدْقِهِ .
فَصْلٌ فِي تَنْزِيلِ دَلَالَةِ الْعَادَاتِ وَقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ الْأَقْوَالِ فِي تَخْصِيصِ الْعُمُومِ وَتَقْيِيدِ الْمُطْلَقِ وَغَيْرِهِمَا وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا : التَّوْكِيلُ فِي الْبَيْعِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ وَغَالِبُ نَقْدِ بَلَدِ الْبَيْعِ تَنْزِيلًا لِلْغَلَبَةِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ اللَّفْظِ ، كَأَنَّهُ قَالَ لِلْوَكِيلِ بِعْ هَذَا بِثَمَنِ مِثْلِهِ مِنْ نَقْدِ هَذَا الْبَلَدِ إنْ كَانَ لَهُ نَقْدٌ وَاحِدٌ ، أَوْ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ هَذَا الْبَلَدِ إنْ كَانَ لَهُ نُقُودٌ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِوَكِيلِهِ : بِعْ دَارِي هَذِهِ فَبَاعَهَا بِجَوْزَةٍ فَعِنْدَ أَهْلِ الْعُرْفِ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مُرَادٍ وَلَا دَاخِلٌ تَحْتَ لَفْظِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ فِي بَيْعِ جَارِيَةٍ تُسَاوِي أَلْفًا فَبَاعَهَا بِتَمْرَةٍ ، فَإِنَّ الْعُقَلَاءَ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُنْدَرِجٍ فِي لَفْظِهِ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ بِخِلَافِهِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : حَمْلُ الْإِذْنِ فِي النِّكَاحِ عَلَى الْكُفْءِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ هُوَ الْمُتَبَادَرُ إلَى الْأَفْهَامِ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا قَالَ مَنْ هُوَ أَشْرَفُ النَّاسِ وَأَفْضَلُهُمْ وَأَغْنَاهُمْ لِوَكِيلِهِ وَكَّلْتُك فِي تَزْوِيجِ ابْنَتَيْ ، فَزَوَّجَهَا بِعَبْدٍ فَاسِقٍ مُشَوَّهِ الْخَلْقِ عَلَى نِصْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَقْطَعُونَ بِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُرَادٍ بِاللَّفْظِ ، لِأَنَّ اللَّفْظَ قَدْ صَارَ عِنْدَهُمْ مُقَيَّدًا بِالْكُفْءِ وَمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا طَارِئٌ عَلَى أَصْلِ الْوَضْعِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا وَكَّلَهُ فِي إجَارَةِ دَارِهِ سَنَةً ، وَأُجْرَةُ مِثْلِهَا أَلْفٌ فَأَجَّرَهَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْبَيْعِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ أَعْطَيْتنِي أَلْفًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْإِعْطَاءَ يَتَقَيَّدُ بِالْفَوْرِ لِلْعُرْفِ فِي ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ ، إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ تَتَقَيَّدُ بِالْفَوْرِ لِلْعُرْفِ فِي ذَلِكَ تَنْزِيلًا لِلِاقْتِضَاءِ الْعُرْفِيِّ مَنْزِلَةَ الِاقْتِضَاءِ اللَّفْظِيِّ ، وَالْعُرْفُ فِي هَذَيْنِ دُونَ الْعُرْفِ فِي التَّقْيِيدِ بِالْقِيمَةِ وَنَقْدِ الْبَلَدِ فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا بَاعَ ثَمَرَةً قَدْ بَدَا صَلَاحُهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ إبْقَاؤُهَا إلَى أَوَانِ جِدَادِهَا ، وَالتَّمْكِينِ مِنْ سَقْيِهَا بِمَائِهَا لِأَنَّ هَذَيْنِ مَشْرُوطَانِ بِالْعُرْفِ فَصَارَ كَمَا لَوْ شَرْطَاهُمَا بِلَفْظِهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ بَاعَ مَاشِيَةً وَشَرَطَ سَقْيَهَا أَوْ عَلَفَهَا عَلَى الْبَائِعِ أَوْ شَرَطَ إبْقَاءَهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعٍ مُدَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ فَلِمَ صَحَّ هَذَا الِاشْتِرَاطُ هَهُنَا ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ مَاسَّةٌ إلَيْهِ وَحَامِلَةٌ عَلَيْهِ فَكَانَ مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ عَنْ الْقَوَاعِدِ تَحْصِيلًا لِمَصَالِحِ هَذَا الْعَقْدِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : حَمْلُ الْوَدَائِعِ وَالْأَمَانَاتِ عَلَى حِرْزِ الْمِثْلِ فَلَا تُحْفَظُ الْجَوَاهِرُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ بِإِحْرَازِ الثِّيَابِ وَالْأَحْطَابِ تَنْزِيلًا لِلْعُرْفِ مَنْزِلَةَ تَصْرِيحِهِ بِحِفْظِهَا فِي حِرْزِ مِثْلِهَا .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : حَمْلُ الصِّنَاعَاتِ عَلَى صِنَاعَةِ الْمِثْلِ فِي مَحَلِّهَا ، فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْخَيَّاطُ لِخِيَاطَةِ الْكِرْبَاسَ الْغَلِيظَ وَالْبَزِّ الرَّفِيعِ كالديبقي فَإِنَّهُ يُحْمَلُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى مِثْلِهِ فِي الْعَادَةِ ، فَلَوْ خَاطَ الديبقي خِيَاطَةَ الْكَرَابِيسِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا تَنْزِيلًا لِلَّفْظِ مَنْزِلَةَ التَّصْرِيحِ بِخِيَاطَةِ الْمِثْلِ . وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْأَبْنِيَةِ يُحْمَلُ فِي كُلِّ مَبْنًى عَلَى الْبِنَاءِ اللَّائِقِ بِمِثْلِهِ مِنْ حُسْنِ النَّظْمِ وَالتَّأْلِيفِ وَغَيْرِهِمَا . وَكَذَلِكَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الطَّبْخِ وَالْخُبْزِ يُحْمَلُ عَلَى إنْضَاجِ الْمِثْلِ دُونَ مَا تَجَاوَزَهُ أَوْ قَصَرَ عَنْهُ ، فَإِذَا تَرَكَ الْخُبْزَ فِي التَّنُّورِ عَلَى مَا جَرَتْ الْعَادَةُ فِي مِثْلِهِ فَاتَّفَقَ أَنَّهُ احْتَرَقَ لَمْ يَلْزَمْهُ الضَّمَانُ تَنْزِيلًا لِمُقْتَضَى الْعُرْفِ مَنْزِلَةَ صَرِيحِ اللَّفْظِ ، وَلَوْ صَرَّحَ لَهُ ذَلِكَ بِلَفْظِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانٌ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهُ بِإِذْنِهِ ، فَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ بِالْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْإِتْلَافِ بِالْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ . وَكَذَلِكَ حَمْلُ إجَارَةِ الدَّوَابِّ عَلَى الْيَسِيرِ الْمُعْتَادِ وَالْمَنَازِلِ الْمُعْتَادَةِ ، وَكَذَلِكَ دُخُولُ حَمْلِ الْأَمْتِعَةِ وَالْبَسْطِ وَأَوَانِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى الدَّوَابِّ إذَا اُسْتُؤْجِرَتْ لِلرُّكُوبِ فِي الْأَسْفَارِ لِإِطْرَادِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اُسْتُؤْجِرَتْ لِلتَّرَدُّدِ فِي الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ . وَكَذَلِكَ دُخُولُ مَاءِ الْآبَارِ وَالْأَنْهَارِ فِي عُقُودِ الْإِجَارَاتِ وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ بِتَبَعِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ إجَارَةِ الْخِدْمَةِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِالْمُسْتَأْجِرِ الْمَخْدُومِ فِي رُتْبَتِهِ وَمَنْصِبِهِ وَقَدْرِ حَالِهِ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ الْحِبْرِ عَلَى النَّاسِخِ ، وَالْخَيْطِ عَلَى الْخَيَّاطِ لِاضْطِرَابِ الْعُرْفِ فِيهِ . وَكَذَلِكَ مَا يُسْتَثْنَى مِنْ الْمَنَافِعِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ كَأَوْقَاتِ الصَّلَاةِ ، وَأَوْقَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَقَضَاءِ الْحَاجَاتِ وَاللَّيْلِ فَإِنَّهُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُدَّةِ الِاسْتِئْجَارِ لِلْخِدْمَةِ ، إلَّا الْأَوْقَاتَ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِالِاسْتِخْدَامِ فِيهَا فَإِنَّ الْأَلْفَاظَ مُنَزَّلَةٌ عَلَيْهَا كَأَنَّهُ صُرِّحَ بِهَا مِنْ جِهَةِ أَنَّ دَلَالَةَ الْعُرْفِ عَلَيْهَا كَدَلَالَةِ اللَّفْظِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ فِي الْعِبَادَةِ خُرُوجُ الْمُعْتَكِفِ مِنْ مُعْتَكَفِهِ فِي أَوْقَاتِ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ ، حَتَّى كَأَنَّهُ قَالَ أَعْتَكِفُ شَهْرًا إلَّا أَوْقَاتَ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ . وَإِذَا وَقَعَتْ الْإِجَارَةُ عَلَى مُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ كَانَ عَمَلُ الْأَجِيرِ مَحْمُولًا عَلَى الْمُتَوَسِّطِ فِي الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ خُرُوجٍ عَلَى الْعَادَةِ فِي التَّبَاطُؤِ وَالْإِسْرَاعِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : تَوْزِيعُ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ الْمَبِيعَةِ فِي الصَّفْقَةِ الْوَاحِدَةِ وَعَلَى الْمَنَافِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِإِجَارَةٍ وَاحِدَةٍ . مِثَالُهُ فِي الْبُيُوعِ : إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفًا وَأُخْرَى تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِتِسْعِمِائَةٍ فَإِنَّا نُقَابِلُ الَّتِي تُسَاوِي أَلْفًا بِسِتِّمِائَةٍ وَاَلَّتِي تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ ، وَمِثَالُهُ فِي الْإِجَارَةِ إجَارَةُ مَنَازِلِ مَكَّةَ فَإِنَّ الشَّهْرَ مِنْهَا فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ يُسَاوِي عَشَرَةً ، وَبَقِيَّةُ السَّنَةِ تُسَاوِي عَشَرَةً فَيُقَابَلُ شَهْرُ الْمَوْسِمِ بِنِصْفِ الْأُجْرَةِ ، وَبَقِيَّةُ السَّنَةِ بِمَا بَقِيَ مِنْهَا ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ يَبْذُلُونَ أَشْرَفَ الثَّمَنَ فِي أَشْرَفِ الْمُثَمَّنِ ، وَأَرْذَلَهُ فِي أَرْذَلِهِ وَيُقَابِلُونَ النَّفِيسَ بِالنَّفِيسِ وَالْخَسِيسَ بِالْخَسِيسِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ . وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى خَرَزَةً وَدُرَّةً بِأَلْفٍ فِي أَنَّهُ بَذَلَ فِي الدِّرَّةِ أَكْثَرَ الثَّمَنِ وَفِي الْخَرَزَةِ أَقَلَّهُ ، وَأَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا خَسِيسَةً مَعَ دَارٍ نَفِيسَةٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً فَارِهَةً مَعَ دَابَّةٍ بَطِيئَةٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ سَيْفًا قَاطِعًا وَسَيْفًا كَالًّا ، أَنَّهُ بَذَلَ أَكْثَرَ الْأُجْرَةِ فِي أَكْثَرِ ذَلِكَ مَنْفَعَةً وَأَقَلَّ الْأُجْرَةِ فِي أَقَلِّ ذَلِكَ مَنْفَعَةً . وَلِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ امْتَنَعَتْ مَسْأَلَةُ مُدِّ عَجْوَةٍ ، وَمَسْأَلَةُ الْمُرَاطَلَةِ ، وَكَذَلِكَ أَخْذُ الشِّقْصِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، وَجَازَ لِمَنْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِثَمَنٍ أَنْ يُوَزِّعَ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَتِهِمَا ثُمَّ يُخْبِرُ أَنَّهُ اشْتَرَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَقْتَضِيهِ التَّوْزِيعُ عَلَى الْقِيمَةِ . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي مَسْأَلَةِ مُدِّ عَجْوَةٍ مِنْ مُقَابِلِهِ الرِّبَوِيِّ بِمِثْلِهِ مِنْ الرِّبَوِيِّ فَبَعِيدٌ إذْ لَا يَخْطُرُ مَا ذَكَرَهُ عَلَى بَالِ أَحَدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدِينَ ، بِخِلَافِ الْحَمْلِ عَلَى التَّوْزِيعِ فَإِنَّهُ غَالِبٌ مَفْهُومٌ . فَإِنْ قِيلَ : وَضْعُ الْعُقُودِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْعِوَضُ فِي مُقَابَلَةِ الْمَقْصُودِ ، وَأَنْ تَتَوَزَّعَ أَجْزَاءُ الْعِوَضِ عَلَى أَجْزَاءِ الْمَقْصُودِ ، فَإِذَا مَاتَ الْأَجِيرُ فِي أَثْنَاءِ الْحَجِّ فَهَلَّا تَسْقُطُ جَمِيعُ أُجْرَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ؟ قُلْنَا : إنْ جَوَّزْنَا الْبِنَاءَ عَلَى مَا فَعَلَهُ الْأَجِيرُ فَقَدْ حَصَلَ الْأَجِيرُ أُجْرَةَ الْمَقْصُودِ ، وَإِنْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَهُوَ الْقِيَاسُ ، إذْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ الْحَجِّ ، وَلَمْ تَبْرَأْ الذِّمَّةُ مِنْ شَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْإِيجَارَاتِ فِيمَنْ اسْتَأْجَرَ لِبِنَاءِ حَائِطٍ فَبَنَى شَطْرَهُ ، أَوْ لِطَحْنِ حِنْطَةٍ فَطَحَنَ بَعْضَهَا ، أَوْ لِخِيَاطَةِ ثَوْبٍ فَخَاطَ بَعْضَهُ ، أَوْ لِكِتَابَةِ مُصْحَفٍ فَكَتَبَ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ قَدْ حَصَلَ بَعْضُ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ - وَالْأَجِيرُ فِي الْحَجِّ لَمْ يَحْصُلْ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ - وَإِنْ أَتَى بِمُعْظَمِ أَرْكَانِ الْحَجِّ . فَيُشْبِهُ مَا لَوْ رَدَّ عَامِلُ الْجَعَالَةِ الْعَبْدَ الْآبِقَ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ إلَى بَابِ دَارِ الْجَاعِلِ فَهَرَبَ مِنْهُ قَبْلَ تَسْلِيمِهِ إلَى الْجَاعِلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ شَيْئًا مِنْ مَقْصُودِ الْجَاعِلِ . الْقَوْلُ الثَّانِي : أَنَّ الْأُجْرَةَ تُوَزَّعُ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَيَسْتَحِقُّ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا عَمِلَ ، وَيَسْقُطُ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا تَرَكَ ، قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ ، وَفِيهِ بُعْدٌ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَعْمَالِ إنَّمَا يُقَسَّطُ عَلَيْهَا لِاشْتِمَالِهَا عَلَى تَحْصِيلِ بَعْضِ الْمَقْصُودِ ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالُ لَمْ تَحْصُلْ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ ، وَالْعُقُودُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى مُرَاعَاةِ الْمَقْصُودِ دُونَ صُوَرِ الْأَعْوَاضِ ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ نَظَرٌ إلَى مَصْلَحَةٍ الْأَجِيرِ لَكِنَّهُ بَعِيدٌ مِنْ الْأَقْيِسَةِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : اسْتِصْنَاعُ الصُّنَّاعِ الَّذِينَ جَرَتْ عَادَتُهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَعْمَلُونَ إلَّا بِالْأُجْرَةِ إذَا اسْتَصْنَعَهُمْ مُسْتَصْنِعٌ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ أُجْرَةٍ كَالدَّلَّالِ وَالْحَلَّاقِ وَالْفَاصِدِ وَالْحَجَّامِ وَالنَّجَّارِ وَالْحَمَّالِ وَالْقَصَّارِ ، فَالْأَصَحُّ أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْأُجْرَةِ مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ عَلَى ذَلِكَ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ : تَقْدِيمُ الطَّعَامِ إلَى الضِّيفَانِ إذَا أَكْمَلَ وَضْعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَدَخَلَ الْوَقْتُ الَّذِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهِمْ فِيهِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَنْزِيلًا لِلدَّلَالَةِ الْعُرْفِيَّةِ مَنْزِلَةَ اللَّفْظِيَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُطْعَمَ السِّنَّوْرَ وَلَا السَّائِلَ مَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْ بَاذِلِ الطَّعَامِ الرِّضَا بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْأَرَاذِلِ أَنْ يَأْكُلُوا مِمَّا بَيْنَ أَيْدِي الْأَمَاثِلِ مِنْ الْأَطْعِمَةِ النَّفِيسَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِالْأَمَاثِلِ ، إذْ لَا دَلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ بِلَفْظٍ وَلَا عُرْفٍ زَاجِرٍ عَنْ ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا أَكَلَ الضَّيْفُ فَوْقَ شِبَعِهِ فَهَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا هُوَ الْإِذْنُ فِي مِقْدَارِ الشِّبَعِ ؟ قُلْت : يَنْبَغِي أَنْ لَا يَحْرُمَ عَلَيْهِ لِكَوْنِهِ عَلَى خِلَافِ الْإِذْنِ إذْ لَا يَتَقَيَّدُ الْإِذْنُ بِالْعُرْفِ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُضَيِّعٌ لِمَا أَفْسَدَهُ مِنْ الطَّعَامِ لِغَيْرِ فَائِدَةٍ . فَإِنْ قِيلَ : هَلْ يَكُونُ هَذَا إذْنًا فِي مَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ ، لِأَنَّ مَا قَدْ يَأْكُلُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الضِّيفَانِ مَجْهُولٌ لِلْآذِنِ ؟ قُلْنَا : لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِبَاحَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُبَاحُ مَعْلُومًا لِلْمُبِيحِ فَلَوْ أَبَاحَ الْأَكْلَ مِنْ ثِمَارِ بُسْتَانِهِ ، أَوْ مَنَحَ شَاةً أَوْ نَاقَةً أَوْ أَعَارَ دَابَّةً وَلَمْ يُقَيِّدْ مُدَّةَ الِانْتِفَاعِ ، أَوْ أَعْطَاهُ نَخْلَةً يَرْتَفِقُ بِثِمَارِهَا عَلَى الدَّوَامِ جَازَ ذَلِكَ ، وَهَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ الرِّضَا بِالْمَجْهُولَاتِ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ أَحَدُ الضِّيفَانِ يَأْكُلُ أَكْلَةً مِثْلَ عَشْرَةِ أَنْفُسٍ ، وَرَبُّ الطَّعَامِ يَشْعُرُ بِكَثْرَةِ أَكْلِهِ ، فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ وَالْعُرْفِيِّ فِيمَا جَاوَزَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّعَامُ كَثِيرًا فَأَكَلَ لُقَمًا كِبَارًا مُسْرِعًا فِي مَضْغِهَا وَابْتِلَاعِهَا حَتَّى أَكَلَ أَكْثَرَ الطَّعَامِ وَيَحْرُمُ أَصْحَابُهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ وَاللَّفْظِيِّ فِيهِ ، وَلِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ مِنْ غَيْرِ إذْنٍ . فَإِنْ قِيلَ : فَمَا حُكْمُ مَسْأَلَةِ الْقِرَانِ ؟ قُلْت لَهَا أَحْوَالٌ : إحْدَاهَا أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ كَثِيرًا يُفَضَّلُ عَنْ شِبَعٍ الْجَمِيعُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَأْكُلَ كَيْفَ شَاءَ مِنْ إفْرَادٍ أَوْ قِرَانٍ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ قَلِيلًا فَهَذِهِ مَسْأَلَةُ النَّهْيِ فِي حَقِّ الضِّيفَانِ وَأَمَّا صَاحِبُ الطَّعَامِ فَلَهُ الْإِفْرَادُ وَالْقِرَانُ ، وَإِنْ كَانَ قِرَانُهُ مُخَالِفًا لِلْمُرُوءَةِ وَأَدَبِ الْمُؤَاكَلَةِ . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَكُونَ الطَّعَامُ قَلِيلًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْآكِلِينَ فَهَذَا أَيْضًا فِي مَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قِرَانِ الضِّيفَانِ .
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : دُخُولُ الْحَمَّامَاتِ وَالْقَيَاسِيرِ وَالْخَانَاتِ إذَا افْتَتَحَتْ أَبْوَابُهَا فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ فِي الِارْتِفَاقِ بِهَا فِيهَا فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، إقَامَةً لِلْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ مَقَامَ صَرِيحِ الْإِذْنِ ، وَلَا يَجُوزُ لِدَاخِلِ الْحَمَّامِ أَنْ يُقِيمَ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، وَلَا أَنْ يَسْتَعْمِلَ مِنْ الْمَاءِ أَكْثَرَ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ إذْنٌ لَفْظِيٌّ وَلَا عُرْفِيٌّ ، وَالْأَصْلُ فِي الْأَمْوَالِ التَّحْرِيمُ مَا لَمْ يَتَحَقَّقْ السَّبَبُ الْمُبِيحُ .
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : الدُّخُولُ إلَى دُورِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ : بِالدُّخُولِ فِيهَا بَعْدَ فَتْحِ أَبْوَابِهَا لِلْحُكُومَاتِ وَالْخُصُومَاتِ وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِيهَا عَلَى حُصُرِهَا وَبُسُطِهَا إلَى انْقِضَاءِ حَاجَةِ الدَّاخِلِ إلَيْهَا ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُقِيمَ إلَى قَضَاءِ حَاجَتِهِ إقَامَةً طَوِيلَةً أَوْ أَرَادَ مَنْ لَا حَاجَةَ لَهُ الدُّخُولَ لِلتَّنَزُّهِ أَوْ لِلْوُقُوفِ عَلَى مَا يَجْرِي لِلْخُصُومِ ، فَالْأَظْهَرُ جَوَازُهُ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِمِثْلِهِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : الدُّخُولُ إلَى الْمَدَارِسِ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ فِيهِ ، وَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ إلَى الْكَنَائِسِ بِغَيْرِ إذْنٍ لِانْتِفَاءِ الْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ وَاللَّفْظِيِّ ، فَإِنَّهُمْ يَكْرَهُونَ دُخُولَ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهَا .
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : دُخُولُ الدُّورِ بِإِخْبَارِ الصِّبْيَانِ عَنْ إذْنِ رَبِّ الدَّارِ فِي الدُّخُولِ جَائِزٌ عَلَى الْأَظْهَرِ لِمَا اُقْتُرِنَ بِهِ مِنْ بَعْدِ جُرْأَتِهِمْ عَلَى مَالِكِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ حَمْلُ الْهَدَايَا مَعَ الصِّبْيَانِ وَإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ مَالِكَهَا قَدْ أَهْدَاهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُهَا وَالِارْتِفَاقُ بِهَا فَلَوْ أَذِنَ فِي الدُّخُولِ فَاسِقٌ أَوْ حَمَلَ الْهَدِيَّةَ فَاسِقٌ فَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِقْدَامُ قَوْلًا وَاحِدًا لِأَنَّ قَوْلَهُ مَقْبُولٌ فِي الشَّرْعِ مُعْتَبَرٌ وَجُرْأَتُهُ أَبْعَدُ مِنْ جُرْأَةِ الصِّبْيَانِ ، وَلَا وَقْفَةَ عِنْدِي فِي الْمَسْتُورِ ، وَعَلَى هَذَا عَمِلَ النَّاسُ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَاسْتُثْنِيَ ذَلِكَ لِمَا عَلَى الْمَالِكِ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَأُصُولُ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْأَشْيَاءَ إذَا ضَاقَتْ اتَّسَعَتْ .
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : الْتِقَاطُ كُلِّ مَالٍ حَقِيرٍ جَرَتْ الْعَادَةُ أَنَّ مَالِكَهُ لَا يُعَرِّجُ عَلَيْهِ وَلَا يَلْتَفِتُ إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَمَلُّكُهُ وَالِارْتِفَاقُ بِهِ لِاطِّرَادِ الْعَادَاتِ بِبَذْلِهِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : الشُّرْبُ وَسَقْيُ الدَّوَابِّ مِنْ الْجَدَاوِلِ وَالْأَنْهَارِ الْمَمْلُوكَةِ إذَا كَانَ السَّقْيُ لَا يَضُرُّ بِمَالِكِهَا جَائِزٌ إقَامَةٌ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ مَقَامَ الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ . فَلَوْ أَوْرَدَ أَلْفًا مِنْ الْإِبِلِ إلَى جَدْوَلٍ ضَعِيفٍ فِيهِ مَاءٌ يَسِيرٌ ، فَلَا أَرَى جَوَازَ ذَلِكَ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُعْتَادِ لِأَنَّهُ لَا يَقْتَضِيهِ إذْنٌ لَفْظِيٌّ وَلَا عُرْفِيٌّ ، وَلَوْ كَانَ الْجَدْوَلُ أَوْ النَّهْرُ لِمَنْ لَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ كَالْيَتِيمِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ أَوْ سَقَطَ مِنْ يَتِيمٍ أَوْ مَنْ وَقَفَ عَلَى الْمَسَاجِدِ مَا لَوْ كَانَ لِمَالِكٍ يُعَبِّرُ إذْنُهُ لَأُبِيحَ ، فَعِنْدِي فِي هَذَا وَقْفَةٌ لِأَنَّ صَرِيحَ إذْنِ الْمُسْتَحِقِّ لَا يُؤَثِّرُ هَهُنَا ، فَكَيْفَ يُؤَثِّرُ مَا قَامَ مَقَامَهُ مِنْ الْعُرْفِ الْمُعْتَادِ ؟ .
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : حَمْلُ الْأَلْفَاظِ الْحَقِيقِيَّةِ الْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَجَازِهَا إذَا عُلِمَتْ كَلَفْظِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَحَمْلِ لَفْظِ الْأَخْبَارِ عَلَى الْإِنْشَاءِ ، وَاسْتِعْمَالِ الْمَاضِي فِي أَلْفَاظِ الْمُعَامَلَاتِ : كَبِعْت وَأَجَّرْت وَضَمِنْت وَوَكَّلْت وَوَهَبْت وَأَقْرَضْت وَوَقَفْت وَتَصَدَّقْت ، وَحَمْلُ الْمُسْتَقْبَلِ عَلَى إنْشَاءِ الشَّهَادَاتِ كَأَشْهَدُ بِكَذَا . وَكَذَلِكَ الدَّعْوَى فِي قَوْلِهِ ادَّعَى عَلَيْهِ بِكَذَا لِأَنَّ أَشْهَد مُرَدَّدٌ بَيْنَ الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ ، وَهُوَ مُنْصَرِفٌ إلَى الْحَالِ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَضْعُهُ أَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ أَمْرٍ مُحَقَّقٍ ثَابِتٍ مِنْ غَيْرِ اللَّفْظِ ، فَصَارَ بِالْعُرْفِ بِإِنْشَاءٍ لِلْحُرِّيَّةِ وَالطَّلَاقِ بِحَيْثُ لَا يَثْبُتَانِ إلَّا مَعَ آخِرِ حُرُوفِ الْكَلِمَةِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ ، أَوْ عَقِيبَهُ عَلَى قَوْلِ آخَرِينَ .
الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : حَمْلُ أَوْقَافِ الْمَدَارِسِ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ أَرْبَابُهَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِقَدْرِ رُتْبَتِهِمْ فِي الْفِقْهِ وَالتَّفَقُّهِ وَالْإِعَادَةِ وَالتَّدْرِيسِ . وَكَذَلِكَ تَقْدِيمُ الْعِمَارَةِ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْغَلَّةِ حَتَّى يَنْزِلَ لَفْظُ الْوَاقِفِ عَلَيْهِ كَمَا يَنْزِلُ الْمُوَكِّلُ عَلَى الْمَبِيعِ بِثَمَنِ الْمِثْلِ مِنْ غَالِبِ نَقْدِ الْبَلَدِ وَكَذَلِكَ وَقْتُ التَّدْرِيسِ مَحْمُولٌ عَلَى الْبُكُورِ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ ، فَلَوْ أَرَادَ الْمُدَرِّسُ أَنْ يَذْكُرَ الدَّرْسَ فِي اللَّيْلِ أَوْ وَقْتَ الزَّوَالِ أَوْ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ .
الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : وُجُوبُ الْإِثَابَةِ فِي سِبَابِ الْأَرَاذِلِ لِلْأَمَاثِلِ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ فِيهِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : انْدِرَاجُ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ فِي بَيْعِ الدَّارِ وَلَوْ لَمْ يُصَرِّحْ الْبَائِعُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الْغَالِبِ فِيهِ وَانْدِرَاجُهُمَا فِي بَيْعِ الْأَرْضِ ، وَالسَّاحَةِ وَالْعَرْصَةِ أَبْعَدُ لِأَنَّهُمَا قَدْ يُفْرَدَانِ عَنْ الْمِلْكِ فِي السَّاحَاتِ وَالْأَرَاضِيِ وَالْعِرَاصِ ، بِخِلَافِ الْأَبْنِيَةِ وَالدِّيَارِ .
الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : دُخُولُ ثِيَابِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي بَيْعِهِمَا عِنْدَ مَنْ رَآهُ لِاطِّرَادِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : التَّوْكِيلُ فِي أَدَاءِ الدُّيُونِ يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْأَدَاءِ بِحُكْمِ الْعُرْفِ .
الْمِثَالُ الثَّانِيَ وَالْعِشْرُونَ : الِاعْتِمَادُ فِي كَوْنِ الرِّكَازِ جَاهِلِيًّا أَوْ غَيْرَ جَاهِلِيٍّ عَلَى الْعَلَامَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِإِحْدَى الْمِلَّتَيْنِ : فَمَا وُجِدَتْ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْإِسْلَامِ كَانَ لُقَطَةً وَاجِبَةَ التَّعْرِيفِ ، وَمَا كَانَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ رِكَازًا يَجِبُ فِيهِ الْخُمُسُ ، وَمَا خَلَا مِنْ الْعَلَامَتَيْنِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ ، فَالنَّصُّ أَنَّهُ لُقَطَةٌ ، وَجَعَلَهُ بَعْضُهُمْ كَالرِّكَازِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ } .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرِينَ : إذْنُ الْإِمَامِ لِلْجَلَّادِ فِي جَلْدِ الْحُدُودِ وَالتَّعْزِيرَاتِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى حِزْبٍ بَيْنَ حِزْبَيْنِ لِسُقُوطٍ بَيْنَ سَقُوطَيْنِ فِي زَمَنٍ بَيْنَ زَمَانَيْنِ وَإِذَا أَمَرَ الْإِمَامُ بِالرَّجْمِ تَعَيَّنَ الرَّجْمُ بِالْأَحْجَارِ الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَجُوزُ بِالصُّخُورِ وَلَا بِالْحَصَيَاتِ الصِّغَارِ وَلَا يَجْلِدُ عُرْيَانَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوَضْعِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ مَعْنَى جَلَدَهُ ضَرَبَ جِلْدَهُ ، كَمَا يُقَالُ رَأَسَهُ إذَا ضَرَبَ رَأْسَهُ ، وَرَكَبَهُ إذَا ضَرَبَ رُكْبَتَهُ إلَّا أَنَّهُ صَارَ بِعُرْفِ الِاسْتِعْمَالِ مَحْمُولًا عَلَى الْحَائِلِ خِلَافًا لِمَالِكٍ فِي تَجْرِيدِ الرِّجَالِ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } مَعَ انْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَجَرَّدُ فَيُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ فِيهِمَا اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ فَاضْرِبُوا جِلْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَوْقَ ثَوْبِهِ .
وَأَمَّا إشَارَةُ الْأَخْرَسِ الْمُفْهِمَةِ فَهِيَ كَصَرِيحِ الْمَقَالِ إنْ فَهِمَهَا جَمِيعُ النَّاسِ ، كَمَا لَوْ قِيلَ لَهُ كَمْ طَلَّقْت امْرَأَتَك ، فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الثَّلَاثِ ، وَكَمْ أَخَذْت مِنْ الدَّرَاهِمِ ؟ فَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ الْخَمْسِ . وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَفْهَمُهُ النَّاسُ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الظَّوَاهِرِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَتَرَدَّدُ فِيهِ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْكِنَايَاتِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اُعْتُقِلَ لِسَانُهُ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقِيلَ لَهُ لِفُلَانٍ عَلَيْك أَلْفٌ فَأَشَارَ بِرَأْسِهِ - أَيْ نَعَمْ - أَوْ أَشَارَ بِرَأْسِهِ إلَى فَوْقٍ أَيْ لَا شَيْءَ لَهُ - وَكَذَا لَوْ قِيلَ لَهُ قَتَلْت زَيْدًا ؟ وَكَذَلِكَ كِتَابَتُهُ تَقُومُ مَقَامَ إشَارَتِهِ وَأَمَّا كِتَابَةُ غَيْرِهِ مِنْ الْقَادِرِينَ عَلَى النُّطْقِ فَفِي إقَامَتِهَا مَقَامَ كَلَامِهِ قَوْلَانِ .
فَصْلٌ فِي حَمْلِ الْأَلْفَاظِ عَلَى ظُنُونٍ مُسْتَفَادَةٍ مِنْ الْعَادَاتِ لِمَسِيسِ الْحَاجَاتِ إلَى ذَلِكَ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا : إزْفَافُ الْعَرُوسِ إلَى زَوْجِهَا مَعَ كَوْنِهِ لَا يَعْرِفُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَنَّ زِفَافَهَا شَاهِدٌ عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لِبُعْدِ التَّدْلِيسِ فِي ذَلِكَ فِي الْعَادَاتِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : الْأَكْلُ مِنْ الْهَدْي الْمَنْحُورِ الْمُشَعَّرِ بِالْفَلَاةِ جَائِزٌ عَلَى الْمُخْتَارِ لِدَلَالَةِ النَّحْرِ وَالْإِشْعَارِ الْقَائِمَيْنِ مَقَامَ صَرِيحِ اللَّفْظِ عَلَى الْبَذْلِ وَالْإِطْلَاقِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : الدُّخُولُ إلَى الْأَزِقَّةِ وَالدُّرُوبِ الْمُشْتَرَكَةِ جَائِزٌ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ الْمُطَّرِدِ فِيهِ ، فَلَوْ مَنَعَهُ بَعْضُ الْمُسْتَحِقِّينَ امْتَنَعَ مِنْ الدُّخُولِ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ يَتِيمٌ أَوْ مَجْنُونٌ فَفِي هَذَا نَظَرٌ ، وَلَوْ اسْتَنَدَ لِجِدَارِ إنْسَانٍ فَإِنْ كَانَ اسْتِنَادُهُ مِمَّا يُؤَثِّرُ فِيهِ اخْتِلَالًا أَوْ مَيْلًا أَوْ سُقُوطًا لَمْ يَجُزْ لِعَدَمِ الْإِذْنِ اللَّفْظِيِّ وَالْعُرْفِيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْجِدَارُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ أَلْبَتَّةَ جَازَ الِاسْتِنَادُ إلَيْهِ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيِّ ، فَإِنْ مَنَعَهُ مَالِكُهُ مِنْ الِاسْتِنَادِ إلَيْهِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مِثْلِ هَذَا مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ عِنَادٌ مَحْضٌ فَيَصِيرُ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ لَا تَنْظُرُ إلَى حُسْنِ دَارِي ، وَلَا إلَى نَضَارَةِ أَشْجَارِي ، وَلَا إلَى رَوْنَقِ أَثْوَابِي وَلَا إلَى كُثْرِ أَصْحَابِي .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : طَرْقُ بَابِ الدَّارِ وَالْإِيقَادُ مِنْ السُّرُجِ وَالْمَصَابِيحِ كُلُّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلْإِذْنِ الْعُرْفِيّ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ يَكْفِي فِيهَا الْمُنَاوَلَةُ لِأَنَّ قَرِينَةَ حَالِ الْفَقِيرِ تَشْهَدُ عَلَى أَنَّهَا صَدَقَةٌ ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ شَرَطَ فِيهَا اللَّفْظَ لِأَنَّهُ خِلَافُ مَا دَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : الْمُعَاطَاةُ فِي الْمُحَقَّرَاتِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ لِمَنْ جَلَسَ فِي الْأَسْوَاقِ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى الرِّضَا بِالْمُعَاوَضَةِ دَلَالَةَ صَرِيحِ الْأَلْفَاظِ ، وَكَذَلِكَ الطَّائِفٌ بِالْمُحَقَّرَاتِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : إتْلَافُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ وَوَطْءُ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ الْمَبِيعَةَ بِحَضْرَةِ الْبَائِعِ فَإِنَّهُ يَتَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْإِمْضَاءِ بِصَرِيحِ اللَّفْظِ ، وَلَوْ وَطِئَهَا الْبَائِعُ لَكَانَ فَسْخًا لِدَلَالَتِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْفُجُورِ مَعَ إمْكَانِ الْوَطْءِ الْحَلَالِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : سُكُوتُ الْأَبْكَارِ إذَا اُسْتُؤْذِنَّ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يَدُلُّ ظَاهِرًا عَلَى الرِّضَا بِهِ ، إذْ لَوْ كَرِهَتْهُ لَصَرَّحَتْ بِالْمَنْعِ ، إذْ لَا تَسْتَحِي مِنْ الْمَنْعِ اسْتِحْيَاءَهَا مِنْ الْإِذْنِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ : الِاعْتِمَادُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالضِّيَافَاتِ وَالتَّبَرُّعَاتِ عَلَى بَذْلِ الْبَاذِلِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا عَلَى مِلْكِهِ وَاخْتِصَاصِهِ ظَاهِرَةٌ فِي الْعُرْفِ الْمُطَّرِدِ .
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : مُعَامَلَةُ مَجْهُولِ الْحُرِّيَّةِ وَالرُّشْدِ ، وَسَمَاعُ دَعْوَاهُ وَإِقْرَارِهِ وَأَكْلُ طَعَامِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ ، وَإِبَاحَتُهُ وَالدُّخُولُ فِي مَنْزِلِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِطْلَاقُ .
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ الْعَارِفِينَ بِالصِّفَاتِ النَّفِيسَةِ الْمُوجِبَةِ لِارْتِفَاعِ الْقِيمَةِ ، وَبِالصِّفَاتِ الْخَسِيسَةِ الْمُوجِبَةِ لِانْحِطَاطِ الْقِيمَةِ لِغَلَبَةِ الْإِصَابَةِ عَلَى تَقْوِيمِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ الْخَارِصِينَ لِغَلَبَةِ إصَابَتِهِمْ فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ .
الْمِثَالُ الثَّانِيَ عَشَرَ : اعْتِمَادُ الْمُنْتَسِبِ عَلَى مَيْلِ طَبْعِهِ إلَى أَحَدِ الْمُتَدَاعِينَ فِي الِانْتِسَابِ وَهَذَا مِنْ أَضْعَفِ الظُّنُونِ ، وَلِذَلِكَ كَانَ فِي آخِرِ رُتَبِ الْإِلْحَاقِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَائِفِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : الِاعْتِمَادُ عَلَى كَيْلِ الْكَائِلِينَ وَوَزْنِ الْوَازِنِينَ وَمِسَاحَةِ الْمَاسِحِينَ لِغَلَبَةِ الْإِصَابَةِ فِي ذَلِكَ .
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : الِاعْتِمَادُ فِي رَفْعِ اللُّقَطَةِ عَلَى وَصْفِ مَنْ يَصِفُ وِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا وَقَدْرَهَا لِظُهُورِ دَلَالَتِهِ عَلَى صِدْقِهِ بِأَنَّهَا مِلْكُهُ .
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : الِاعْتِمَادُ عَلَى أَمَارَاتِ الطَّهَارَةِ وَالنَّجَاسَةِ وَجِهَةِ الْقِبْلَةِ .
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : حَبْسُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ مَسْتُورَيْنِ إلَى أَنْ يُعَدَّلَا لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ الْمَسْتُورِينَ الْعَدَالَةُ .
الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : حَمْلُ الدَّعَاوَى بِالْأَسْبَابِ وَالتَّصَرُّفَاتِ وَالْعُقُودِ - عَلَى صَحِيحِهَا دُونَ فَاسِدِهَا لِغَلَبَةِ صَحِيحِهَا وَنُدْرَةِ فَاسِدِهَا .
الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : سَمَاعُ الشَّهَادَاتِ بِالْإِقْرَارِ مَعَ إهْمَالِ الشَّاهِدِ ذِكْرَ أَهْلِيَّةِ الْمُقِرِّ لِلْإِقْرَارِ لِغَلَبَةِ الرُّشْدِ وَالِاخْتِيَارِ عَلَى الْمُقِرِّينَ الْمُتَصَرِّفِينَ .
الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : دَلَالَةُ الِاتِّصَالِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ فَإِذَا حَالَ جِدَارٌ بَيْنَ أَرْضَيْنِ ، فَإِذَا كَانَتَا لِمُسْتَحِقَّيْنِ خَاصَّيْنِ كَانَ الْجِدَارُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ اتِّصَالَهُ بِمِلْكَيْهِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَهُمَا ، وَلَوْ كَانَ حَائِلًا بَيْنَ الشَّارِعِ وَبَيْنَ مِلْكٍ ، أَوْ بَيْنَ مَوَاتٍ وَبَيْنَ مِلْكٍ ، اُخْتُصَّ بِهِ الْمَالِكُ لِأَنَّ الطُّرُقَ وَالْمَوَاتَ لَا تُحَوَّطُ عَلَيْهَا فِي الْعَادَةِ بِخِلَافِ الْمِلْكِيَّةِ .
الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : دَلَالَةُ أَوْضَاعِ الْأَبْنِيَةِ عَلَى اخْتِصَاصِ أَحَدِ الْمُتَجَاوِرِينَ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَ مِلْكَيْنِ جِدَارٌ مُتَّصِلٌ بِأَبْنِيَةِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ اتِّصَالَ تَدَاخُلٍ وَتَرْصِيفٍ ، فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ ذُو التَّرْصِيفِ ، لِأَنَّ مَعَهُ دَلَالَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا الِاتِّصَالُ ، وَالثَّانِي التَّدَاخُلُ وَالتَّرْصِيفُ ، وَلَوْ تَدَاخَلَ مِنْ أَحَدِ طَرَفَيْهِ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا وَمِنْ الطَّرَفِ الْآخَرِ فِي مِلْكِ الْآخَرِ اشْتَرَكَا فِيهِ لِتَسَاوِيهِ فِي الدَّلَالَتَيْنِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : الْأَبْوَابُ الْمُشْرَعَةُ فِي الدُّرُوبِ الْمُنْسَدَّةِ دَالَّةٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ فِي الدُّرُوبِ إلَى حَدِّ كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فَيَكُونُ الْأَوَّلُ شَرِيكًا مِنْ أَوَّلِ الدَّرْبِ إلَى بَابِهِ الْأَوَّلِ ، وَيَكُونُ الثَّانِي شَرِيكًا مِنْ أَوَّلِ الدَّرْبِ إلَى بَابِهِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ الثَّالِثُ أَوْ الرَّابِعُ إلَى أَنْ يَصِيرَ الَّذِي فِي صَدْرِ الدَّرْبِ شَرِيكًا مِنْ أَوَّلِ الدَّرْبِ إلَى آخِرِ الْأَبْوَابِ ، وَيَخْتَصُّ بِمَا وَرَاءَ آخِرِ الْأَبْوَابِ إلَى صَدْرِ الدَّرْبِ عَلَى الْمَذْهَبِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : وُجُودُ الْأَجْنِحَةِ الْمُشْرَعَةِ الْمُطِلَّةِ عَلَى مِلْكِ الْجَارِ وَعَلَى الدُّرُوبِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا وُضِعَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ . وَكَذَلِكَ الْقَنَوَاتُ الْمَدْفُونَةُ تَحْتَ الْأَمْلَاكِ ، وَالْجَدَاوِلُ وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ فِي أَمْلَاكِ النَّاسِ دَالَّةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا لِأَرْبَابِ الْمِيَاهِ ، لِأَنَّ صُوَرَهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّهَا وُضِعَتْ بِاسْتِحْقَاقٍ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : دَلَالَةُ الْأَيْدِي عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ . فَإِنْ قِيلَ : هَذَا ظَاهِرٌ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ كَثِيَابِ الْإِنْسَانِ الَّذِي هُوَ لَابِسُهَا وَعَدَدِ الدَّوَابِّ الْمَشْدُودِ عَلَيْهَا ، وَالْبَزُّ الَّذِي فِي أَيْدِي التُّجَّارِ . وَأَمَّا مَا اطَّرَدَتْ الْعَادَةُ بِإِيجَارِهِ وَخُرُوجِهِ عَنْ يَدِ مَالِكِهِ إلَى يَدِ مُسْتَأْجِرِهِ الثَّوَاب فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ شَرِيفٍ وَأَفْضَلُ مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ رُوحَانِيٍّ أَوْ جُسْمَانِيٍّ ، وَقَدْ جُعِلَ زِيَادَةً عَلَى الْأُجُورِ ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَابَلَ بِهِ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ . وَكَذَلِكَ رِضْوَانُ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطِيته وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي : عُلُومٌ إلْهَامِيَّةٌ ، يُكْشَفُ بِهَا عَمَّا فِي الْقُلُوبِ ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنَيْهِ مِنْ الْغَائِبَاتِ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسَمَاعِ مِثْلِهِ ، وَكَذَلِكَ شَمُّهُ وَمَسُّهُ وَلَمْسُهُ وَكَذَلِكَ يُدْرِكُ بِقَلْبِهِ عُلُومًا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَكْوَانِ ، وَقَدْ رَأَى إبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْبِلَادَ النَّائِيَةَ ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى السَّمَوَاتِ وَأَفْلَاكَهَا وَكَوَاكِبَهَا وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَيَقْرَأُ مَا فِيهِ . وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ صَرِيرَ الْأَقْلَامِ وَأَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ ، وَيَفْهَمُ أَحَدُهُمْ مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعَزَّهُمْ وَأَدْنَاهُمْ ، وَأَذَلَّ آخَرِينَ وَأَقْصَاهُمْ ، { وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } .
فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ الْعَالِمُ وَالْحَاكِمُ وَمَا لَا يُثَابَانِ عَلَيْهِ إنْ قِيلَ : عَلَى أَيِّ شَيْءٍ يُثَابُ الْعَالِمُ وَالْحَاكِمُ ؟ قُلْنَا : إنْ تَعَلَّمَا الْعِلْمَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ أَثِمَا مَا لَمْ يَتُوبَا ، فَإِنْ أَفْتَى أَحَدُهُمَا وَحَكَمَ لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ كَانَا مَأْثُومَيْنِ أَيْضًا لِرِيَائِهِمَا ، فَإِنْ أَفْتَى أَحَدُهُمَا وَحَكَمَ الْآخَرُ مُخْلِصَيْنِ لِلَّهِ أُثِيبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا فَعَلَهُ خَالِصًا لِلَّهِ ، وَإِنْ تَعَلَّمَا مُخْلِصَيْنِ لِلَّهِ أُجِرَا عَلَى تَعَلُّمِهِمَا ، فَإِنْ عَزَمَا عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِمَا أَمَرَا بِهِ فِي الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ أُثِيبَا عَلَى عَزْمِهِمَا ، فَإِنْ أَمْضَيَا مَا عَزَمَا عَلَيْهِ ، أُثِيبَا عَلَى عَزْمِهِمَا وَفِعْلِهِمَا ، وَإِنْ رَجَعَا عَمَّا عَزَمَا عَلَيْهِ ، أُثِيبَا الْخَبَرَيْنِ وَالشَّهَادَتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُكَذِّبْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَمِلَ بِهِمَا عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ كَدَابَّةٍ عَلَيْهَا رَاكِبَانِ فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِهَا لَهُمَا ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْيَدَيْنِ لَا تُكَذِّبُ الْأُخْرَى وَكَذَلِكَ الدَّارُ فِيهَا سَاكِنَانِ ، وَالْخَشَبَةُ لَهَا حَامِلَانِ ، وَالْحَبْلُ يَتَجَاذَبُهُ اثْنَانِ وَالْجِدَارُ الْمُتَّصِلُ بِمِلْكَيْنِ فَهَذَا يُحْكَمُ بِهِ لَهُمَا ، إذْ لَا تَكَاذُبَ بَيْنَهُمَا .
وَلِلْقُرْبِ وَالِاتِّصَالِ مَرَاتِبُ بَعْضُهَا أَقْوَى مِنْ بَعْضٍ فِي الدَّلَالَةِ أَعْلَاهَا : مَا اشْتَدَّ اتِّصَالُهُ بِالْإِنْسَانِ كَثِيَابِهِ الَّتِي هُوَ لَابِسُهَا وَعِمَامَتِهِ وَمِنْطَقَتِهِ وَخَاتَمِهِ وَسَرَاوِيلِهِ وَنَعْلِهِ الَّذِي فِي رِجْلِهِ وَدَرَاهِمِهِ الَّتِي فِي كُمِّهِ أَوْ جَيْبِهِ أَوْ يَدِهِ ، فَهَذَا الِاتِّصَالُ أَقْوَى الْأَيْدِي لِاحْتِوَائِهِ عَلَيْهَا وَدُنُوِّهِ مِنْهَا . الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ : الْبِسَاطُ الَّذِي هُوَ جَالِسٌ عَلَيْهِ أَوْ الْبَغْلُ الَّذِي هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ فَهَذَا فِي الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ . الرُّتْبَةُ الثَّالِثَةُ : الدَّابَّةُ الَّتِي هُوَ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا ، فَإِنَّ يَدَهُ فِي ذَلِكَ أَضْعَفُ مِنْ يَدِ رَاكِبِهَا . الرُّتْبَةُ الرَّابِعَةُ : الدَّارُ الَّتِي هُوَ سَاكِنُهَا ، وَدَلَالَتُهَا دُونَ دَلَالَةِ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَسْئُولٍ عَلَى جَمِيعِهَا وَيُقَدِّمُ أَقْوَى الْيَدَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا ، فَلَوْ كَانَ اثْنَانِ فِي دَارٍ فَتَنَازَعَا فِي الدَّارِ وَفِي مَا هُمَا لَابِسَانِهِ جُعِلَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بِأَيْمَانِهِمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الِاتِّصَالِ وَجُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَا هُوَ لِبَاسُهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ لِقُوَّةِ الْقُرْبِ وَالِاتِّصَالِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الرَّاكِبَانِ فِي مَرْكُوبِهِمَا حَلَفَا وَجُعِلَ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا ، وَلَوْ اخْتَلَفَ الرَّاكِبُ مَعَ الْقَائِدِ أَوْ السَّائِقِ قُدِّمَ الرَّاكِبُ عَلَيْهِمَا بِيَمِينِهِ .
مِنْهَا : أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مُتَقَوِّمًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ بِقِيمَتِهِ مِنْ نَقْدِ الْبَلَدِ ، أَوْ مِنْ غَالِبِهِ إنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ ، أَوْ مِنْ أَغْلَبِهِ إنْ كَانَ فِيهِ نُقُودٌ بَعْضُهَا أَغْلَبُ مِنْ بَعْضٍ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ مَلَكَ خَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ شَاةٌ مِنْ شِيَاهِ الْبَلَدِ .
وَمِنْهَا : وُجُوبُ الْفِطْرَةِ مِنْ غَالِبِ قُوتِ الْبَلَدِ .
وَمِنْهَا : أَنَّ مَنْ مَلَكَ التَّصَرُّفَ الْقَوْلِيَّ بِأَسْبَابٍ مُخْتَلِفَةٍ ثُمَّ صَدَرَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ صَالِحٌ لِلِاسْتِنَادِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَغْلَبِهَا . فَمِنْ هَذَا تَصَرُّفُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفُتْيَا وَالْحُكْمِ وَالْأَمَانَةِ الْعُظْمَى ، فَإِنَّهُ إمَامُ الْأَئِمَّةِ ، فَإِذَا صَدَرَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ حُمِلَ عَلَى أَغْلِبْ تَصَرُّفَاتِهِ وَهُوَ الْفُتْيَا مَا لَمْ يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ لَمَّا شَكَتْ إلَيْهِ إمْسَاكَ أَبِي سُفْيَانَ وَشُحَّهُ : خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } اُحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فُتْيَا ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا ، فَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ حُكْمًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ فُتْيَا ، لِأَنَّ فُتْيَاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغْلَبُ مِنْ أَحْكَامِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ شُرُوطَ الْقَضَاءِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } مَحْمُولٌ عَلَى الْفُتْيَا لِأَنَّهُ أَغْلَبُ تَصَرُّفِهِ بِالْقَضَاءِ وَبِالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } حَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى التَّصَرُّفِ بِالْفُتْيَا لِأَنَّهُ الْغَالِبُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ يَكْفِي فِي ذَلِكَ إذْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِمَّا يُحْمَلُ عَلَى غَالِبِ التَّصَرُّفِ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ وَالْمُضَارِبِ ، وَالْوَصِيِّ ، وَالْوَلِيِّ الْعَامِّ وَالْخَاصِّ ، إذَا اشْتَرَوْا شَيْئًا بِثَمَنِ مِثْلِهِ مِمَّا يَصِحُّ شِرَاؤُهُ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُ يَقَعُ لَهُمْ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ التَّصَرُّفُ لِأَنْفُسِهِمْ فَقُصِرَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَنْوُوا بِهِ مَنْ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ ، وَإِنْ اشْتَرَوْهُ مُطْلَقًا بِعَيْنِ مَالِ الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ تَعَيَّنَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِمْ إذْ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ . ( قَاعِدَةٌ ) كُلُّ تَصَرُّفٍ تَقَاعَدَ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ فَلَا يَصِحُّ بَيْعُ حُرٍّ وَلَا أُمِّ وَلَدٍ ، وَلَا نِكَاحُ مَحْرَمٍ ، وَلَا مُحْرِمٍ ، وَلَا إجَارَةَ عَلَى عَمَلٍ مُحَرَّمٍ ، فَإِنْ شُرِطَ نَفْيُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ صَحَّ عَلَى قَوْلٍ مُخْتَارٍ لِأَنَّ لُزُومَهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْخِيَارُ دَخِيلٌ عَلَيْهِ .