قواعد الأحكام في مصالح الأنام المؤلف: العز بن عبد السلام |
قواعد الأحكام في مصالح الأنام - الجزء الثاني |
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَ وَالْجِنَّ لِيُكَلِّفَهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ ، وَيُقَدِّسُوهُ وَيُمَجِّدُوهُ وَيَشْكُرُوهُ وَلَا يَكْفُرُوهُ ، وَيُطِيعُوهُ وَلَا يَعْصُوهُ ، وَأَرْسَلَ إلَيْهِمْ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُعَزِّرُوهُ وَيُوَقِّرُوهُ وَيُطِيعُوهُ وَيَنْصُرُوهُ ؛ فَأَمَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ بِكُلِّ بِرٍّ وَإِحْسَانٍ ، وَزَجَرَهُمْ عَلَى لِسَانِهِ عَنْ كُلِّ إثْمٍ وَطُغْيَانٍ وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالطَّغْوَى . وَحَثَّهُمْ عَلَى الِاقْتِدَاءِ وَالِاتِّبَاعِ ، كَمَا زَجَرَهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالِابْتِدَاعِ . وَكَذَلِكَ أَمَرَ عِبَادَهُ بِكُلِّ خَيْرٍ ؛ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ ، وَوَعَدَهُمْ بِالثَّوَابِ عَلَى قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ بِقَوْلِهِ : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } . وَنَهَاهُمْ عَنْ كُلِّ شَرٍّ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ ، وَتَوَعَّدَهُمْ بِالْعِقَابِ عَلَى مَحْظُورٍ جَلِيلِهِ وَحَقِيرِهِ بِقَوْلِهِ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } ، وَبِقَوْلِهِ : { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } . وَكَذَلِكَ أَمَرَهُمْ بِتَحْصِيلِ مَصَالِحِ إجَابَتِهِ وَطَاعَتِهِ ، وَدَرْءِ مَفَاسِدِ مَعْصِيَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ ؛ إحْسَانًا إلَيْهِمْ ، وَإِنْعَامًا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ طَاعَتِهِمْ وَعِبَادَتِهِمْ . فَعَرَّفَهُمْ مَا فِيهِ رُشْدُهُمْ وَمَصَالِحُهُمْ لِيَفْعَلُوهُ ، وَمَا فِيهِ غَيُّهُمْ وَمَفَاسِدُهُمْ لِيَجْتَنِبُوهُ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الشَّيْطَانَ عَدُوٌّ لَهُمْ لِيُعَادُوهُ وَيُخَالِفُوهُ ، فَرَتَّبَ مَصَالِحَ الدَّارَيْنِ عَلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ ، فَأَنْزَلَ الْكُتُبَ بِالْأَمْرِ وَالزَّجْرِ وَالْوَعْدِ الْوَعِيدِ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَصْلَحَهُمْ بِدُونِ ذَلِكَ ؛ وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيْحُكُمْ مَا يُرِيدُ ، وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ جَلْبِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا عَلَى الظُّنُونِ الِاعْتِمَادُ فِي جَلْبِ مُعْظَمِ مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمَا عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الظُّنُونِ . وَلِلدَّارَيْنِ مَصَالِحُ إذَا فَاتَتْ فَسَدَ أَمْرُهُمَا ، وَمَفَاسِدُ إذَا تَحَقَّقَتْ هَلَكَ أَهْلُهُمَا ، وَتَحْصِيلُ مُعْظَمِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ بِتَعَاطِي أَسْبَابِهَا مَظْنُونٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ ؛ فَإِنَّ عُمَّالَ الْآخِرَةِ لَا يَقْطَعُونَ بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ وَإِنَّمَا يَعْمَلُونَ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظُّنُونِ ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يَخَافُونَ أَلَّا يُقْبَلَ مِنْهُمْ مَا يَعْمَلُونَ ، وَقَدْ جَاءَ التَّنْزِيلُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } ، فَكَذَلِكَ أَهْلُ الدُّنْيَا إنَّمَا يَتَصَرَّفُونَ بِنَاءً عَلَى حُسْنِ الظُّنُونِ ، وَإِنَّمَا اُعْتُمِدَ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْغَالِبَ صِدْقُهَا عِنْدَ قِيَامِ أَسْبَابِهَا ؛ فَإِنَّ التُّجَّارَ يُسَافِرُونَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يُسْتَعْمَلُونَ بِمَا بِهِ يَرْتَفِقُونَ ، وَالْأَكَّارُونَ يَحْرُثُونَ وَيَزْرَعُونَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ مُسْتَغَلُّونَ ، وَالْجَمَّالُونَ وَالْبَغَّالُونَ يَتَصَدَّرُونَ لِلْكِرَاءِ لَعَلَّهُمْ يُسْتَأْجَرُونَ ، وَالْمُلُوكُ يُجَنِّدُونَ الْأَجْنَادَ وَيُحَصِّنُونَ الْبِلَادَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ بِذَلِكَ يَنْتَصِرُونَ . وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ الْأَجْنَادُ الْحَذَرَ وَالْأَسْلِحَةَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَغْلِبُونَ وَيَسْلَمُونَ ، وَالشُّفَعَاءُ يَشْفَعُونَ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يُشْفَعُونَ وَالْعُلَمَاءُ يَشْتَغِلُونَ بِالْعُلُومِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَنْجَحُونَ وَيَتَمَيَّزُونَ . وَكَذَلِكَ النَّاظِرُونَ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْمُجْتَهِدُونَ فِي تَعَرُّفِ الْأَحْكَامِ ، يَعْتَمِدُونَ فِي الْأَكْثَرِ عَلَى ظَنِّ أَنَّهُمْ يَظْفَرُونَ بِمَا يَطْلُبُونَ ، وَالْمَرْضَى يَتَدَاوَوْنَ لَعَلَّهُمْ يُشْفَوْنَ وَيَبْرَءُونَ . وَمُعْظَمُ هَذِهِ الظُّنُونِ صَادِقٌ مُوَافِقٌ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَلَا كَاذِبٍ ، فَلَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ الْغَالِبَةِ الْوُقُوعُ خَوْفًا مِنْ نُدُورِ وَكَذِبِ الظُّنُونِ ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا الْجَاهِلُونَ .
فِيمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ لِمَا عَارَضَهُ أَوْ رَجَحَ عَلَيْهِ وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ مَصَالِحَ مُتَجَانِسَةٍ وَأَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ الْأَمْرِ ، إمَّا لِمَشَقَّةِ مُلَابَسَتِهَا وَإِمَّا لِمَفْسَدَةٍ تُعَارِضُهَا ، وَزَجَرَ عَنْ مَفَاسِدَ مُتَمَاثِلَةٍ وَأَخْرَجَ بَعْضَهَا عَنْ الزَّجْرِ إمَّا لِمَشَقَّةِ اجْتِنَابِهَا ، وَإِمَّا لِمَصْلَحَةٍ تُعَارِضُهَا ، وَيُعَبَّرُ عَنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ ، وَالنَّفْعِ وَالضَّرِّ ، وَالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ كُلَّهَا خُيُورٌ نَافِعَاتٌ حَسَنَاتٌ ، وَالْمَفَاسِدَ بِأَسْرِهَا شُرُورٌ مُضِرَّاتٌ سَيِّئَاتٌ ، وَقَدْ غَلَبَ فِي الْقُرْآنِ اسْتِعْمَالُ الْحَسَنَاتِ فِي الْمَصَالِحِ ، وَالسَّيِّئَاتِ فِي الْمَفَاسِدِ .
فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ وَفِي تَفَاوُتِهِمَا وَمُعْظَمُ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَفَاسِدِهَا مَعْرُوفٌ بِالْعَقْلِ وَذَلِكَ مُعْظَمُ الشَّرَائِعِ ؛ إذْ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصَالِحِ الْمَحْضَةِ ، وَدَرْءَ الْمَفَاسِدِ الْمَحْضَةِ عَنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ وَعَنْ غَيْرِهِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الْمَصَالِحِ فَأَرْجَحِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ دَرْءَ أَفْسَدِ الْمَفَاسِدِ فَأَفْسَدِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ أَرْجَحِ الْمَصَالِحِ فَأَرْجَحِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ دَرْءَ أَفْسَدِ الْمَفَاسِدِ فَأَفْسَدِهَا مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَرْجُوحَةِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ ، وَأَنَّ دَرْءَ الْمَفَاسِدِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الْمَرْجُوحَةِ مَحْمُودٌ حَسَنٌ . وَاتَّفَقَ الْحُكَمَاءُ عَلَى ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ الشَّرَائِعُ عَلَى تَحْرِيمِ الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ ، وَعَلَى تَحْصِيلِ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ . وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ فَالْغَالِبُ أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي التَّسَاوِي وَالرُّجْحَانِ ، فَيَتَحَيَّرُ الْعِبَادُ عِنْدَ التَّسَاوِي وَيَتَوَقَّفُونَ إذَا تَحَيَّرُوا فِي التَّفَاوُتِ وَالتَّسَاوِي . وَكَذَلِكَ الْأَطِبَّاءُ يَدْفَعُونَ أَعْظَمَ الْمَرَضَيْنِ بِالْتِزَامِ بَقَاءِ أَدْنَاهُمَا ، وَيَجْلِبُونَ أَعْلَى السَّلَامَتَيْنِ وَالصِّحَّتَيْنِ وَلَا يُبَالُونَ بِفَوَاتِ أَدْنَاهُمَا ، وَيَتَوَقَّفُونَ عِنْدَ الْحِيرَةِ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ ؛ فَإِنَّ الطِّبَّ كَالشَّرْعِ وُضِعَ لِجَلْبِ مَصَالِحِ السَّلَامَةِ وَالْعَافِيَةِ ، وَلِدَرْءِ مَفَاسِدِ الْمَعَاطِبِ وَالْأَسْقَامِ ، وَلِدَرْءِ مَا أَمْكَنَ دَرْؤُهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِجَلْبِ مَا أَمْكَنَ جَلْبُهُ مِنْ ذَلِكَ . فَإِنْ تَعَذَّرَ دَرْءُ الْجَمِيعِ أَوْ جَلْبُ الْجَمِيعِ فَإِنْ تَسَاوَتْ الرُّتَبُ تُخُيِّرَ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ اُسْتُعْمِلَ التَّرْجِيحُ عِنْدَ عِرْفَانِهِ وَالتَّوَقُّفُ عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ . وَاَلَّذِي وَضَعَ الشَّرْعَ هُوَ الَّذِي وَضَعَ الطِّبَّ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْضُوعٌ لِجَلْبِ مَصَالِحَ وَدَرْءِ مَفَاسِدِهِمْ . وَكَمَا لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ لِلْمُتَوَقِّفِ فِي الرُّجْحَانِ فِي الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ حَتَّى يَظْهَرَ لَهُ الرَّاجِحُ ، فَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لِلطَّبِيبِ الْإِقْدَامُ مَعَ التَّوَقُّفِ فِي الرُّجْحَانِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ لَهُ الرَّاجِحُ ، وَمَا يَحِيدُ عَنْ ذَلِكَ فِي الْغَالِبِ إلَّا جَاهِلٌ بِالصَّالِحِ وَالْأَصْلَحِ ، وَالْفَاسِدِ وَالْأَفْسَدِ ، فَإِنَّ الطِّبَاعَ مَجْبُولَةٌ عَلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا جَاهِلٌ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الشَّقَاوَةُ أَوْ أَحْمَقُ زَادَتْ عَلَيْهِ الْغَبَاوَةُ . فَمَنْ حَرَّمَ ذَبْحَ الْحَيَوَانِ مِنْ الْكَفَرَةِ رَامٍ بِذَلِكَ مَصْلَحَةَ الْحَيَوَانِ فَحَادَ عَنْ الصَّوَابِ ؛ لِأَنَّهُ قَدَّمَ مَصْلَحَةَ حَيَوَانٍ خَسِيسٍ عَلَى مَصْلَحَةِ حَيَوَانٍ نَفِيسٍ ، وَلَوْ خَلَوْا عَنْ الْجَهْلِ وَالْهَوَى لَقَدَّمُوا الْأَحْسَنَ عَلَى الْأَخَسِّ ، وَلَدَفَعُوا الْأَقْبَحَ بِالْتِزَامِ الْقَبِيحِ . { فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ } ؟ فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ أَطْلَعَهُ عَلَى دَقِّ ذَلِكَ وَجُلِّهِ ، وَوَفَّقَهُ لِلْعَمَلِ بِمُقْتَضَى مَا أَطْلَعَهُ عَلَيْهِ فَقَدْ فَازَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ . قَالَ : وَقَدْ كُنَّا نَعُدُّهُمْ قَلِيلًا فَقَدْ صَارُوا أَقَلَّ مِنْ الْقَلِيلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي الْأَحْكَامِ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ وَعَصَمَهُ مِنْ الزَّلَلِ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الرَّاجِحَةِ ، فَأَصَابَ الصَّوَابَ فَأَجْرُهُ عَلَى قَصْدِهِ وَصَوَابِهِ ، بِخِلَافِ مَنْ أَخْطَأَ الرُّجْحَانَ فَإِنَّ أَجْرَهُ عَلَى قَصْدِهِ وَاجْتِهَادِهِ ، وَيُعْفَى عَنْ خَطَئِهِ وَزَلَلِهِ . وَأَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ الْخَطَأُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُصُولِ . وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَصْلَحِ فَالْأَصْلَحِ وَدَرْءَ الْأَفْسَدِ فَالْأَفْسَدِ مَرْكُوزٌ فِي طَبَائِعِ الْعِبَادِ نَظَرًا لَهُمْ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ ، كَمَا ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَلَوْ خَيَّرْت الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ بَيْنَ اللَّذِيذِ وَالْأَلَذِّ لَاخْتَارَ الْأَلَذَّ ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ الْحَسَنِ وَالْأَحْسَنِ لَاخْتَارَ الْأَحْسَنَ ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ فَلْسٍ وَدِرْهَمٍ لَاخْتَارَ الدِّرْهَمَ ، وَلَوْ خُيِّرَ بَيْنَ دِرْهَمٍ وَدِينَارٍ لَاخْتَارَ الدِّينَارَ . لَا يُقَدِّمُ الصَّالِحَ عَلَى الْأَصْلَحِ إلَّا جَاهِلٌ بِفَضْلِ الْأَصْلَحِ ، أَوْ شَقِيٌّ مُتَجَاهِلٌ لَا يَنْظُرُ إلَى مَا بَيْنَ الْمَرْتَبَتَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْخَالِصَةَ عَزِيزَةُ الْوُجُودِ ، فَإِنْ الْمَآكِلَ وَالْمَشَارِبَ وَالْمَلَابِسَ وَالْمَنَاكِحَ وَالْمَرَاكِبَ وَالْمَسَاكِنَ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِنَصَبٍ مُقْتَرِنٍ بِهَا ، أَوْ سَابِقٍ ، أَوْ لَاحِقٍ ، وَأَنَّ السَّعْيَ فِي تَحْصِيلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا شَاقٌّ عَلَى مُعْظَمِ الْخَلْقِ لَا يُنَالُ إلَّا بِكَدٍّ وَتَعَبٍ ، فَإِذَا حَصَلَتْ اقْتَرَنَ بِهَا مِنْ الْآفَاتِ مَا يُنْكِدُهَا وَيُنَغِّصُهَا ، فَتَحْصِيلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ شَاقٌّ . أَمَّا الْمَآكِلُ وَالْمَشَارِبُ فَيَتَأَلَّمُ الْإِنْسَانُ بِشَهْوَتِهَا ، ثُمَّ يَتَأَلَّمُ بِالسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِهَا . ثُمَّ يَتَأَلَّمُ بِمَا يَصِيرُ إلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ النَّجَاسَةِ وَالْأَقْذَارِ وَمُعَالَجَةِ غُسْلِهِ بِيَدِهِ . وَأَمَّا الْمَلَابِسُ فَمَفَاسِدُهَا مَشَقَّةُ اكْتِسَابِهَا ، وَمَا يَقْتَرِنُ بِهَا مِنْ آفَاتِهَا ؛ كَالتَّخَرُّقِ وَالتَّفَتُّقِ وَالْبِلَى وَالِاحْتِرَاقِ . وَأَمَّا الْمَنَاكِحُ فَيَتَأَلَّمُ الْمَرْءُ بِمُؤَنِهَا وَنَفَقَتِهَا وَكُسْوَتِهَا وَجَمِيعِ حُقُوقِهَا . وَأَمَّا الْمَرَاكِبُ فَمَفَاسِدُهَا مَشَقَّةُ اكْتِسَابِهَا وَالْعَنَاءُ فِي الْقِيَامِ بِعَلَفِهَا وَسَقْيِهَا وَحِفْظِهَا وَسِيَاسَتِهَا ، وَمَا عَسَاهُ يَلْحَقُهَا مِنْ الْآفَاتِ ، وَكَذَلِكَ الرَّقِيقُ فِيهِ هَذِهِ الْمَفَاسِدُ . وَأَمَّا الْمَسَاكِنُ فَلَا تَحْصُلُ إلَّا بِكَدٍّ وَنَصَبٍ ، وَتَقْتَرِنُ بِهَا آفَاتُهَا مِنْ الِانْهِدَامِ وَالِاحْتِرَاقِ وَالتَّزَلْزُلِ وَالتَّعَيُّبِ وَسُوءِ الْجَارِ ، وَالضِّيقِ عَلَى مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ ضِيقَهَا ، وَاتِّسَاعِهَا عَلَى مَنْ يَتَأَلَّمُ بِاتِّسَاعِهَا ، وَسُوءِ صُقْعِهَا فِي الْوَخَامَةِ وَالدَّمَامَةِ وَالْبُعْدِ مِنْ الْمَاءِ وَمُجَاوَرَةِ الْأَتُّونَاتِ وَالْحَمَّامَاتِ وَالْمَدَابِغِ ذَوَاتِ الرَّوَائِحِ الْمُسْتَخْبَثَاتِ . وَالِاشْتِهَاءُ كُلُّهُ مَفَاسِدُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْآلَامِ ، فَلَا تَحْصُلُ لَذَّةُ شَهْوَةٍ إلَّا بِتَأَلُّمِ الطَّبْعِ بِتِلْكَ الشَّهْوَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ مُؤَدِّيَةً إلَى مَفْسَدَةٍ عَاجِلَةٍ أَوْ آجِلَةٍ يَعْقُبُهَا مَا يَنْبَنِي عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعِظَامِ ، وَرُبَّ شَهْوَةِ سَاعَةٍ أَوْرَثَتْ حُزْنًا طَوِيلًا وَعَذَابًا وَبِيلًا . فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَتْ الشَّهْوَةُ أَلَمًا وَمَرَارَةً فَالْجَنَّةُ إذَنْ دَارُ الْآلَامِ وَالْمَرَارَاتِ لِأَنَّ فِيهَا مَا تَشْتَهِي الْأَنْفُسُ ؟ قُلْت أَلَمُ الشَّهْوَةِ مُخْتَصٌّ بِدَارِ الْمِحْنَةِ . وَأَمَّا دَارُ الْكَرَامَةِ فَإِنَّ اللَّذَّةَ تَحْصُلُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ يَتَقَدَّمُهَا أَوْ يَقْتَرِنُ بِهَا ، لِأَنَّ اللَّذَّةَ وَالْأَلَمَ فِي ذَلِكَ عَرَضَانِ مُتَلَازِمَانِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِحُكْمِ الْعَادَةِ الْمُطَّرِدَةِ ، وَتِلْكَ الدَّارُ قَدْ خُرِقَتْ فِيهَا الْعَادَةُ كَمَا خُرِقَتْ فِي الْمُخَاطِ وَالْبُصَاقِ وَالْبَوْلِ وَالْغَائِطِ وَالتَّعَادِي وَالتَّحَاسُدِ وَمَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ . وَكَذَلِكَ تُخْرَقُ الْعَادَةُ فِي وُجْدَانِ لَذَّتِهَا مِنْ غَيْرِ أَلَمٍ سَابِقٍ أَوْ مُقَارِنٍ ؛ فَيَجِدُ أَهْلُهَا لَذَّةَ الشَّرَابِ مِنْ غَيْرِ عَطَشٍ وَلَا ظَمَأٍ ، وَلَذَّةَ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا سَغَبٍ ، وَكَذَلِكَ خَرْقُ الْعَادَاتِ فِي الْعُقُوبَاتِ ؛ فَإِنَّ أَقَلَّ عُقُوبَاتِ الْآخِرَةِ لَا تَبْقَى مَعَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ حَيَاةٌ . وَأَمَّا فِي تِلْكَ الدَّارِ فَإِنَّ أَحَدَهُمْ لَتَأْتِيهِ أَسْبَابُ الْمَوْتِ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ . وَأَمَّا مَصَالِحُ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالنَّقْلِ ، وَمَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدُهُمَا فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ فَمِنْهَا ؛ مَا هُوَ فِي أَعْلَاهَا ، وَمِنْهَا مَا هُوَ فِي أَدْنَاهَا ، وَمِنْهَا مَا يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مُنْقَسِمٌ إلَى مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ . فَكُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ فَفِيهِ مَصْلَحَةُ الدَّارَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا ، وَكُلُّ مَنْهِيٍّ عَنْهُ فَفِيهِ مَفْسَدَةٌ فِيهِمَا أَوْ فِي إحْدَاهُمَا ، فَمَا كَانَ مِنْ الِاكْتِسَابِ مُحَصَّلًا لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ فَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، وَمَا كَانَ مِنْهَا مُحَصَّلًا لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ فَهُوَ أَرْذَلُ الْأَعْمَالِ . فَلَا سَعَادَةَ أَصْلَحَ مِنْ الْعِرْفَانِ وَالْإِيمَانِ وَطَاعَةِ الرَّحْمَنِ ، وَلَا شَقَاوَةَ أَقْبَحَ مِنْ الْجَهْلِ بِالدَّيَّانِ وَالْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ . وَيَتَفَاوَتُ ثَوَابُ الْآخِرَةِ بِتَفَاوُتِ الْمَصَالِحِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَيَتَفَاوَتُ عِقَابُهَا بِتَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ فِي الْأَغْلَبِ ، وَمُعْظَمُ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ الْأَمْرُ بِاكْتِسَابِ الْمَصَالِحِ وَأَسْبَابِهَا ، وَالزَّجْرُ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَفَاسِدِ وَأَسْبَابِهَا ، فَلَا نِسْبَةَ بِمَصَالِح الدُّنْيَا وَمَفَاسِدِهَا إلَى مَصَالِحِ الْآخِرَةِ وَمَفَاسِدِهَا ، لِأَنَّ مَصَالِحَ الْآخِرَةِ خُلُودُ الْجِنَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ ، مَعَ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، فَيَا لَهُ مِنْ نَعِيمٍ مُقِيمٍ ، وَمَفَاسِدَهَا خُلُودُ النِّيرَانِ وَسَخَطُ الدَّيَّانِ مَعَ الْحَجْبِ عَنْ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ ، فَيَا لَهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ، وَالْمَصَالِحُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : أَحَدُهَا مَصَالِحُ الْمُبَاحَاتِ . الثَّانِي مَصَالِحُ الْمَنْدُوبَاتِ . الثَّالِثُ : مَصَالِحُ الْوَاجِبَاتِ . وَالْمَفَاسِدُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : مَفَاسِدُ الْمَكْرُوهَاتِ . الثَّانِي : مَفَاسِدُ الْمُحَرَّمَاتِ .
( فَائِدَةٌ ) قَدَّمَ الْأَوْلِيَاءُ وَالْأَصْفِيَاءُ مَصَالِحَ الْآخِرَةِ عَلَى مَصَالِحِ هَذِهِ الدَّارِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِتَفَاوُتِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَدَرَءُوا مَفَاسِدَ الْآخِرَةِ بِالْتِزَامِ مَفَاسِدِ بَعْضِ هَذِهِ الدَّارِ لِمَعْرِفَتِهِمْ بِتَفَاوُتِ الرُّتْبَتَيْنِ . وَأَمَّا أَصْفِيَاءُ الْأَصْفِيَاءِ فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا أَنَّ لَذَّاتِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ أَشْرَفُ اللَّذَّاتِ فَقَدَّمُوهَا عَلَى لَذَّاتِ الدَّارَيْنِ . وَلَوْ عَرَفَ النَّاسُ كُلُّهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَا عَرَفُوهُ ؛ لَكَانُوا أَمْثَالَهُمْ فَنَصِبُوا لِيَسْتَرِيحُوا وَاغْتَرَبُوا لِيَقْتَرِبُوا . فَمِنْهُمْ مَنْ تَحْضُرُهُ الْمَعَارِفُ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ ، فَيَنْشَأُ عَنْهَا الْأَحْوَالُ اللَّائِقَةُ بِهَا بِغَيْرِ تَصَنُّعٍ وَلَا تَخَلُّقٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَذْكِرُ الْمَعَارِفَ لِيَنْشَأَ عَنْهَا أَحْوَالُهَا ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ . وَقَدْ يَتَكَلَّفُ الْمَحْرُومُ اسْتِحْضَارَ الْمَعَارِفِ فَلَا تَحْضُرُهُ ، فَسُبْحَانَ مَنْ عَرَّفَ نَفْسَهُ لِهَؤُلَاءِ مِنْ غَيْرِ تَعَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ وَلَا وَصَبٍ ، بَلْ جَادَ عَلَيْهِمْ وَسَقَاهُمْ خَالِصَ وَبْلِهِ وَصَافِيَ فَضْلِهِ فَشَغَلَهُمْ بِهِ عَمَّا سِوَاهُ فَلَا هَمَّ لَهُمْ سِوَاهُ وَلَا مُؤْنِسَ لَهُمْ غَيْرَهُ وَلَا مُعْتَمَدَ لَهُمْ إلَّا عَلَيْهِ ، لِعِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ لَهُمْ إلَّا إلَيْهِ ؛ فَرَضُوا بِقَضَائِهِ وَصَبَرُوا عَلَى بَلَائِهِ وَشَكَرُوا لِنَعْمَائِهِ ، يَتَّسِعُ عَلَيْهِمْ مَا يَضِيقُ عَلَى النَّاسِ وَيَضِيقُ عَلَيْهِمْ مَا يَتَّسِعُ لِلنَّاسِ ، أَدَبُهُمْ الْقُرْآنُ مُعَلِّمُهُمْ الرَّحْمَنُ وَجَلِيسُهُمْ الدَّيَّانُ وَسَرَابِيلُهُمْ الْإِذْعَانُ ، قَدْ انْقَطَعُوا عَنْ الْإِخْوَانِ وَتَغَرَّبُوا عَنْ الْأَوْطَانِ ، بُكَاؤُهُمْ طَوِيلٌ وَفَرَحُهُمْ قَلِيلٌ يَرِدُونَ كُلَّ حِينٍ مَوْرِدًا لَمْ يَتَوَهَّمُوهُ ، وَيَنْزِلُونَ مَنْزِلًا لَمْ يَفْهَمُوهُ ، وَيُشَاهِدُونَ مَا لَمْ يَعْرِفُوهُ ، لَا يَعْرِفُ مَنَازِلَهُمْ عَارِفٌ ، وَلَا يَصِفُ أَحْوَالَهُمْ وَاصِفٌ ، إلَّا مَنْ نَازَلَهَا وَلَابَسَهَا ، قَدْ اتَّصَفُوا بِأَخْلَاقِ الْقُرْآنِ عَلَى حَسْبِ الْإِمْكَانِ ، وَتِلْكَ الْأَخْلَاقُ مُوجِبَةٌ لِرِضَا الرَّحْمَنِ وَسُكْنَى الْجِنَانِ فِي الرَّغَدِ وَالْأَمَانِ ، مَعَ النَّظَرِ إلَى الدَّيَّانِ .
فِيمَا تُعْرَفُ بِهِ مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدُهُمَا أَمَّا مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ ، فَإِنْ خَفِيَ مِنْهَا شَيْءٌ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الْمُعْتَبَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ . وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَمَعْرُوفَةٌ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ ، فَإِنْ خَفِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّتِهِ ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُتَنَاسِبَاتِ وَالْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ رَاجِحَهُمَا وَمَرْجُوحَهُمَا فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَا تَعَبَّدَ اللَّهَ بِهِ عِبَادَهُ وَلَمْ يَقِفْهُمْ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَفْسَدَتِهِ ، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ حُسْنُ الْأَعْمَالِ وَقُبْحُهَا ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَلْبُ مَصَالِحِ الْحَسَنِ ، وَلَا دَرْءُ مَفَاسِدِ الْقَبِيحِ ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا إثَابَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ ، وَإِنَّمَا يَجْلِبُ مَصَالِحَ الْحَسَنِ وَيَدْرَأُ مَفَاسِدَ الْقَبِيحِ طُولًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتَفَضُّلًا ، وَلَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا إذْ لَا حَجْرَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ .
الْغَرَضُ بِوَضْعِ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ مَصَالِحِ الطَّاعَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ لِسَعْيِ الْعِبَادِ فِي تَحْصِيلِهَا ، وَبَيَانُ مَقَاصِدِ الْمُخَالَفَاتِ لِيَسْعَى الْعِبَادُ فِي دَرْئِهَا ، وَبَيَانُ مَصَالِحِ الْعِبَادَاتِ لِيَكُونَ الْعِبَادُ عَلَى خَبَرٍ مِنْهَا ، وَبَيَانُ مَا يُقَدَّمُ مِنْ بَعْضِ الْمَصَالِحِ عَلَى بَعْضٍ ، وَمَا يُؤَخَّرُ مِنْ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ عَلَى بَعْضٍ ، وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ اكْتِسَابِ الْعَبِيدِ دُونَ مَا لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إلَيْهِ ، وَالشَّرِيعَةُ كُلُّهَا مَصَالِحُ إمَّا تَدْرَأُ مَفَاسِدَ أَوْ تَجْلِبُ مَصَالِحَ ، فَإِذَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ : { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } ؛ فَتَأَمَّلْ وَصِيَّتَهُ بَعْدَ نِدَائِهِ ، فَلَا تَجِدُ إلَّا خَيْرًا يَحُثُّك عَلَيْهِ أَوْ شَرًّا يَزْجُرُك عَنْهُ ، أَوْ جَمْعًا بَيْنَ الْحَثِّ وَالزَّجْرِ ، وَقَدْ أَبَانَ فِي كِتَابِهِ مَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمَفَاسِدِ حَثًّا عَلَى اجْتِنَابِ الْمَفَاسِدِ وَمَا فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ مِنْ الْمَصَالِحِ حَثًّا عَلَى إتْيَانِ الْمَصَالِحِ . فَصْلٌ فِي تَقْسِيمِ اكْتِسَابِ الْعِبَادِ اعْلَمْ أَنَّ اكْتِسَابَ الْعِبَادِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَصَالِحِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهَا : مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ . وَالثَّانِي : مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحَ أُخْرَوِيَّةٍ . الثَّالِثُ مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَصَالِحَ دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ ، وَكُلُّ هَذِهِ الِاكْتِسَابَاتِ مَأْمُورٌ بِهَا ، وَيَتَأَكَّدُ الْأَمْر بِهَا عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهَا فِي الْحُسْنِ وَالرَّشَادِ ، وَمِنْ هَذِهِ الِاكْتِسَابَاتِ مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ الثَّوَابِ كَالْمَعْرِفَةِ وَالْإِيمَانِ ، وَقَدْ يَكُونُ الثَّوَابُ خَيْرًا مِنْ الِاكْتِسَابِ كَالنَّظَرِ إلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَرِضَاهُ الَّذِي هُوَ أَعْلَى مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ سِوَى النَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْ الِاكْتِسَابِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمَفَاسِدِ وَهُوَ أَنْوَاعٌ : أَحَدُهُمَا : مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ دُنْيَوِيَّةٍ ، الثَّانِي مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ أُخْرَوِيَّةٍ ، الثَّالِثُ : مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَفَاسِدَ دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ ، وَكُلُّ هَذِهِ الِاكْتِسَابَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا ، وَيَتَأَكَّدُ النَّهْيُ عَنْهَا عَلَى قَدْرِ مَرَاتِبِهَا فِي الْقُبْحِ وَالْفَسَادِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْمَصَالِحُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : اللَّذَّاتُ وَأَسْبَابُهَا ، وَالْأَفْرَاحُ وَأَسْبَابُهَا . وَالْمَفَاسِدُ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : الْآلَامُ وَأَسْبَابُهَا ، وَالْغُمُومُ وَأَسْبَابُهَا ، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى دُنْيَوِيَّةٍ وَأُخْرَوِيَّةٍ ، فَأَمَّا لَذَّاتُ الدُّنْيَا وَأَسْبَابُهَا وَأَفْرَاحُهَا وَآلَامُهَا وَأَسْبَابُهَا ، وَغُمُومُهَا وَأَسْبَابُهَا ، فَمَعْلُومَةٌ بِالْعَادَاتِ ، وَمِنْ أَفْضَلِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا لَذَّاتُ الْمَعَارِفِ وَبَعْضِ الْأَحْوَالِ ، وَلَذَّاتُ بَعْضِ الْأَفْعَالِ فِي حَقِّ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَبْدَالِ ، فَلَيْسَ مَنْ جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ كَمَنْ جُعِلَتْ الصَّلَاةُ شَاقَّةً عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مَنْ يَرْتَاحُ إلَى إيتَاءِ الزَّكَاةِ كَمَنْ يَبْذُلُهَا وَهُوَ كَارِهٌ لَهَا ، وَأَمَّا لَذَّاتُ الْآخِرَةِ وَأَسْبَابُهَا وَأَفْرَاحُهَا وَأَسْبَابُهَا ، وَآلَامُهَا وَأَسْبَابُهَا وَغُمُومُهَا وَأَسْبَابُهَا ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ ، وَالزَّجْرُ وَالتَّهْدِيدُ . وَأَمَّا اللَّذَّاتُ فَمِثْلُ قَوْلِهِ : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ } ، وَقَوْلِهِ : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ } . وَأَمَّا الْأَفْرَاحُ فَفِي مِثْلِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا } ، وَقَوْلِهِ : { فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ } . وَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ } . وَأَمَّا الْآلَامُ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وَقَوْلِهِ : { وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَان وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } . وَأَمَّا الْغُمُومُ فَفِي مِثْلِ قَوْلِهِ : { كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا } .
( فَائِدَةٌ ) سَعَى النَّاسُ كُلُّهُمْ فِي جَانِبِ الْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ وَفِي دَرْءِ الْغُمُومِ الْمُؤْلِمَاتِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَطْلُبُ الْأَعْلَى مِنْ ذَلِكَ فَالْأَعْلَى وَقَلِيلٌ مَا هُمْ . وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ عَلَى طَلَبِ الْأَدْنَى ، وَمِنْهُمْ السَّاعُونَ فِي الْمُتَوَسِّطَاتِ ، وَالْقَدَرُ مِنْ وَرَاءِ سَعْيِ السَّعَادَةِ وَكُلٌّ مُتَسَبِّبٌ فِي مَطْلُوبِهِ . فَمِنْ بَيْنِ ظَافِرٍ وَخَائِبٍ وَمَغْلُوبٍ وَغَالِبٍ وَرَابِحٍ وَخَاسِرٍ وَمُتَمَكِّنٍ وَحَاسِرٍ ، كُلُّهُمْ يَتَقَلَّبُونَ وَإِلَى الْقَضَاءِ يَنْقَلِبُونَ ، فَمَنْ طَلَبَ لَذَّاتِ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ فِي الدُّنْيَا وَلَذَّةَ النَّظَرِ وَالْقُرْبِ فِي الْآخِرَةِ فَهُوَ أَفْضَلُ الطَّالِبِينَ ، لِأَنَّ مَطْلُوبَهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ مَطْلُوبٍ ، وَمَنْ طَلَبَ نَعِيمَ الْجِنَانِ وَأَفْرَاحَهَا وَلَذَّاتِهَا فَهُوَ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ ، وَمَنْ طَلَبَ أَفْرَاحَ هَذِهِ الدَّارِ وَلَذَّاتِهَا فِي الدَّرَجَةِ الثَّالِثَةِ ، ثُمَّ يَتَفَاوَتُ هَؤُلَاءِ الطُّلَّابُ فِي رُتَبِ مَطْلُوبَاتِهِمْ . فَمِنْهُمْ الْأَعْلَوْنَ وَالْمُتَوَسِّطُونَ ، فَأَمَّا طُلَّابُ الْآخِرَةِ فَاقْتَصَرُوا مِنْ طَلَبِ لَذَّاتِ الدُّنْيَا وَأَفْرَاحِهَا عَلَى مَا يَدْفَعُ الْحَاجَةَ أَوْ الضَّرُورَةَ وَاشْتَغَلُوا بِمَطَالِبِ الْآخِرَةِ ، وَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَّا إلَى مَا قُدِّرَ لَهُ ، وَقَدْ غَرَّ بَعْضَهُمْ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوا بَعْضَ مَا طَلَبُوا فَظَنُّوا أَنَّهُمْ نَالُوا ذَلِكَ بِحَزْمِهِمْ وَقُوَاهُمْ فَخَابُوا وَنَكَصُوا وَوُكِّلُوا إلَى أَنْفُسِهِمْ فَهَلَكُوا ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَاظَبَ أَنَّهُ لَا يَنَالُ خَيْرًا إلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلَا يَنَالُ ضَيْرًا إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ فَهَؤُلَاءِ لَا يَزَالُونَ فِي زِيَادَةٍ ، لِأَنَّ الطَّاعَاتِ وَالْمَعَارِفَ وَالْأَحْوَالَ إذَا دَامَتْ أَدَّتْ إلَى أَمْثَالِهَا وَإِلَى أَفْضَلَ مِنْهَا . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَمَنْ أَقْبَلَ عَلَى اللَّهِ أَقْبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ اللَّهِ أَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَمَنْ تَقَرَّبَ إلَى اللَّهِ شِبْرًا تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنْهُ ذِرَاعًا تَقَرَّبَ مِنْهُ بَاعًا ، وَمَنْ مَشَى إلَيْهِ هَرْوَلَ إلَيْهِ وَمَنْ نَسَبَ شَيْئًا إلَى نَفْسِهِ فَقَدْ زَلَّ وَضَلَّ ، وَمَنْ نَسَبَ الْأَشْيَاءَ إلَى خَالِقِهَا الْمُنْعِمِ بِهَا كَانَ فِي الزِّيَادَةِ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } ، { وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ } . وَأَفْضَلُ مَا تُقُرِّبَ بِهِ التَّذَلُّلُ لِعِزَّةِ اللَّهِ وَالتَّخَضُّعُ لِعَظَمَتِهِ وَالْإِيحَاشُ لِهَيْبَتِهِ ، وَالتَّبَرِّي مِنْ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إلَّا بِهِ ، وَهَذَا شَأْنُ الْعَارِفِينَ ، وَمَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ طَرِيقُ الْجَاهِلِينَ أَوْ الْغَافِلِينَ ، وَقَدْ تَمَّتْ الْحِكْمَةُ وَفُرِغَ مِنْ الْقِسْمَةِ ، وَسَيَنْزِلُ كُلُّ أَحَدٍ فِي دَارِ قَرَارِهِ حُكْمًا وَعَدْلًا وَحَقًّا ، قِسْطًا وَفَضْلًا ، وَمَا ثَبَتَ فِي الْقِدَمِ لَا يُخْلِفُهُ الْعَدَمُ وَلَا تُغَيِّرُهُ الْهِمَمُ ، بَعْدَ أَنْ جَرَى بِهِ الْقَلَمُ وَقَضَاهُ الْعَدْلُ الْحَكَمُ ، فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ وَإِلَى أَيْنَ الْمَذْهَبُ وَقَدْ عَزَّ الْمَطْلَبُ وَوَقَعَ مَا يُذْهِبُ ، فَيَا خَيْبَةً مِنْ طَلَبِ مَا لَمْ تَجُزْ بِهِ الْأَقْدَارُ وَلَمْ تَكْتُبْهُ الْأَقْلَامُ ، يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَةٍ مَا أَعْظَمَهَا وَخَيْبَةٍ مَا أَفْحَمَهَا . أَيْنَ الْمَهْرَبُ مِنْ اللَّهِ وَأَيْنَ الذَّهَابُ عَنْ اللَّهِ وَأَيْنَ الْفِرَارُ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ ؟ بَيِّنًا يُرَى أَحَدُهُمْ قَرِيبًا دَانِيًا إذْ أَصْبَحَ بَعِيدًا نَائِيًا ، لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَلَا حِفْظًا وَلَا رَفْعًا بِأَيِّ نَوَاحِي الْأَرْضِ نَرْجُو وِصَالَكُمْ وَأَنْتُمْ مُلُوكٌ مَا لِمَقْصِدِكُمْ نَحْوُ وَاَللَّهِ لَنْ تَصِلَ إلَى شَيْءٍ إلَّا بِاَللَّهِ فَكَيْفَ تُوصَلُ بِغَيْرِهِ .
( فَصْلٌ ) الْمَصَالِحُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ الْأَفْرَاحُ وَاللَّذَّاتُ ، وَالثَّانِي مَجَازِيٌّ وَهُوَ أَسْبَابُهَا ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الْمَصَالِحِ مَفَاسِدُ فَيُؤْمَرُ بِهَا أَوْ تُبَاحُ لَا لِكَوْنِهَا مَفَاسِدَ بَلْ لِكَوْنِهَا مُؤَدِّيَةً إلَى مَصَالِحَ ، وَذَلِكَ كَقَطْعِ الْأَيْدِي الْمُتَآكِلَةِ حِفْظًا لِلْأَرْوَاحِ ، وَكَالْمُخَاطَرَةِ بِالْأَرْوَاحِ فِي الْجِهَادِ ، وَكَذَلِكَ الْعُقُوبَاتُ الشَّرْعِيَّةُ كُلُّهَا لَيْسَتْ مَطْلُوبَةً لِكَوْنِهَا مَفَاسِدَ بَلْ لِكَوْنِهَا الْمَقْصُودَةَ مِنْ شَرْعِهَا كَقَطْعِ السَّارِقِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَقَتْلِ الْجُنَاةِ وَرَجْمِ الزُّنَاةِ وَجَلْدِهِمْ وَتَغْرِيبِهِمْ : وَكَذَلِكَ التَّعْزِيرَاتُ ، كُلُّ هَذِهِ مَفَاسِدُ أَوْجَبَهَا الشَّرْعُ لِتَحْصِيلِ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْحَقِيقَةِ ، وَتَسْمِيَتُهَا بِالْمَصَالِحِ مِنْ مَجَازِ تَسْمِيَةِ السَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ . وَكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا حَقِيقِيٌّ وَهُوَ الْغُمُومُ وَالْآلَامُ ، وَالثَّانِي مَجَازِيٌّ وَهُوَ أَسْبَابُهَا ، وَرُبَّمَا كَانَتْ أَسْبَابُ الْمَفَاسِدِ مَصَالِحَ فَنَهَى الشَّرْعُ عَنْهَا لَا لِكَوْنِهَا مَصَالِحَ بَلْ لِأَدَائِهَا إلَى الْمَفَاسِدِ وَذَلِكَ كَالسَّعْيِ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالشُّبُهَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ وَالتَّرَفُّهَاتِ بِتَرْكِ مَشَاقِّ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ فَإِنَّهَا مَصَالِحُ نُهِيَ عَنْهَا لَا لِكَوْنِهَا مَصَالِحَ بَلْ لِأَدَائِهَا إلَى الْمَفَاسِدِ الْحَقِيقَةِ وَتَسْمِيَتُهَا مَفَاسِدُ مِنْ مَجَازِ تَسْمِيَةِ السَّبَبِ بِاسْمِ الْمُسَبَّبِ .
( فَائِدَةٌ ) الْمَصَالِحُ الْمَحْضَةُ قَلِيلَةٌ وَكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ الْمَحْضَةُ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهَا اشْتَمَلَ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } . وَالْمَكَارِهُ مَفَاسِدُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا مَكْرُوهَاتٍ مُؤْلِمَاتٍ ، وَالشَّهَوَاتُ مَصَالِحُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهَا شَهَوَاتٍ مَلَذَّاتٍ مُشْتَهَيَاتٍ ، وَالْإِنْسَانُ بِطَبْعِهِ يُؤْثِرُ مَا رُجِحَتْ مَصْلَحَتُهُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ ، وَيَنْفِرُ مِمَّا رُجِحَتْ مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ ، وَلِذَلِكَ شُرِعَتْ الْحُدُودُ وَوَقَعَ التَّهْدِيدُ وَالزَّجْرُ وَالْوَعِيدُ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا نَظَرَ إلَى اللَّذَّاتِ وَإِلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا مِنْ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ نَفَرَ مِنْهَا بِطَبْعِهِ لِرُجْحَانِ مَفَاسِدِهَا ، لَكِنَّ الْأَشْقِيَاءَ لَا يَسْتَحْضِرُونَ ذِكْرَ مَفَاسِدِهَا إذَا قَصَدُوهَا ، وَلِذَلِكَ يُقْدِمُونَ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ إذَا ذَكَرَ مَا فِي قُبْلَةٍ مُحَرَّمَةٍ مِنْ التَّعْزِيرِ وَالذَّمِّ الْعَاجِلَيْنِ وَالْعِقَابِ الْآجِلِ ، زَجَرَهُ ذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ اطِّلَاعَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِ حَمَلَهُ أَلَمُ الِاسْتِحْيَاءِ وَالْخَجَلِ عَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ وَاجْتِنَابِ لَذَّاتِهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا فَكَّرَ فِي الْمَصَالِحِ الشَّاقَّةِ مِنْ الْغُمُومِ وَالْآلَامِ دَعَاهُ ذَلِكَ إلَى تَرْكِهَا ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى مَكَارِهِهَا وَمَشَاقِّهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ يَصْبِرُ عَلَى أَلَمِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ ، وَأَلَمِ قَلْعِ الْأَضْرَاسِ الْمُتَوَجِّعَةِ وَأَلَمِ قَطْعِ الْأَعْضَاءِ الْمُتَآكِلَةِ ؛ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ لَذَّاتِ الْعَافِيَةِ وَفَرَحَاتِهَا . وَكَذَلِكَ إذَا ذَكَرَ اطِّلَاعَ الرَّبِّ عَلَيْهِ وَنَظَرَهُ إلَيْهِ حَمَلَهُ ذَلِكَ عَلَى الطَّاعَةِ وَتَحَمُّلِ مَكَارِهِهَا وَمَشَاقِّهَا ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ الطَّعَامِ الشَّهِيِّ وَالشَّرَابِ الْهَنِيِّ لِمَا يَتَوَقَّعُ مِنْ سُوءِ عَاقِبَةِ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمَا جَعَلَ فِي الطَّاعَاتِ شَيْئًا مِنْ الْمَكَارِهِ وَالْمَشَقَّاتِ ، كَمَا فَعَلَ بِالْمَلَائِكَةِ ، وَلَمَا جَعَلَ فِي الْمَعَاصِي شَيْئًا مِنْ اللَّذَّاتِ وَالرَّاحَاتِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمَا قَعَدَ أَحَدٌ عَنْ طَاعَةٍ وَلَا أَقْدَمَ عَلَى مَعْصِيَةٍ ، وَلَكِنْ سَبَقَ الْقَضَاءُ بِشِدَّةِ الِابْتِلَاءِ ، وَلَيْسَ الْمَلَائِكَةُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ، وَلَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ، إذْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ وَلَا أَلَمَ . وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْجَنَّةِ يُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ ، كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَخْلُقْ الْأَوْهَامَ وَلَا الشُّكُوكَ وَلَا التَّخَيُّلَاتِ وَلَا الظُّنُونَ فِي الْعَقَائِدِ وَلَا فِي غَيْرِهَا ، بَلْ خَلَقَ الْعِلْمَ بِالْأَشْيَاءِ مِنْ غَيْرِ تَوَهُّمٍ مُضَلِّلٍ وَلَا شَكٍّ مُتْعِبٍ ، وَلَا تَخَيُّلٍ مُجْهِلٍ وَلَا ظَنٍّ مُوهِمٍ ، وَلَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَزُولُ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ فِي الْجَنَّةِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لِأَهْلِهَا إلَّا مَحْضُ الْعُلُومِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ نَعِيمُهُمْ وَسُرُورُهُمْ وَفَرَحُهُمْ وَحُبُورُهُمْ ، أَمْ يَبْقَى ذَلِكَ كَمَا هُوَ فِي الدُّنْيَا ؟ وَلَقَدْ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، وَلَعَلَّ هَذَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا تَنْفَعُهُ طَاعَةُ الطَّائِعِينَ ، وَلَا تَضُرُّهُ مَعْصِيَةُ الْعَاصِينَ ، وَإِنَّمَا نَفْعُ الطَّاعَاتِ لِأَرْبَابِهَا وَسُوءُ الْمُخَالَفَاتِ لِأَصْحَابِهَا .
وَالْقُلُوبُ مَعَادِنُ الْخَوَاطِرِ وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالْعُزُومِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْبُغْضِ وَالْحُبِّ وَالطَّوَاعِيَةِ وَالْإِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ وَالْأَقْوَالِ ، وَكَذَلِكَ اسْتِحْسَانُ الْحَسَنِ وَاسْتِقْبَاحُ الْقَبِيحِ ، وَكَذَلِكَ الظُّنُونُ الصَّادِقَةُ وَالْكَاذِبَةُ ، وَقَدْ قُسِمَ لِكُلِّ قَلْبٍ مِنْ ذَلِكَ مَا سَبَقَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ وَجَرَتْ بِهِ الْأَقْلَامُ ، وَاَللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ، أَسْعَدَ مَنْ أَسْعَدَ بِغَيْرِ عِلَّةٍ ، وَأَشْقَى مَنْ أَشْقَى بِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَكَيْفَ الْخَلَاصُ مِمَّا حُقَّ وَكُتِبَ ، وَأَيْنَ الْمَهْرَبُ مِمَّا حُتِمَ وَوَجَبَ ؟ فَمِثْلُ الْقَلْبِ كَمِثْلِ نَهْرٍ تَجْرِي فِيهِ الْمِيَاهُ عَلَى الدَّوَامِ ، فَكَذَلِكَ الْخَوَاطِرُ فِي وُرُودِهَا عَلَى قُلُوبِ الْأَنَامِ لَا يَذْهَبُ خَاطِرُنَا بِهِ وَلَا مَا ابْتَنَى عَلَيْهِ مِنْ الْعُزُومِ وَالْأَحْوَالِ وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ إلَّا رَدَّهُ خَاطِرٌ إمَّا مِنْ نَوْعِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ ثُمَّ الْمِيَاهُ الْجَارِيَةُ مِنْهَا مَا يَنْفَعُ ، وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ ، فَكَذَلِكَ الْخَوَاطِرُ الْجَارِيَةُ فِي الْقُلُوبِ وَالْوَارِدَةُ عَلَيْهَا مِنْهَا مَا يَنْفَعُ وَمِنْهَا مَا يَضُرُّ وَمِنْهَا مَا لَا يَنْفَعُ وَلَا يَضُرُّ وَالْإِنْسَانُ بَعْدَ ذَلِكَ مُكَلَّفٌ بِاجْتِنَابِ الْعُزُومِ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَوَسَائِلِهَا ، وَبِالْقُصُودِ إلَى الْمَصَالِحِ وَأَسْبَابِهَا وَلَا تَكْلِيفَ قَبْلَ وُرُودِ الْخَوَاطِرِ ، وَلَا بِوُرُودِ الْخَوَاطِرِ وَلَا بِمَيْلِ الطَّبْعِ إلَى مَا وَرَدَتْ بِهِ الْخَوَاطِرُ ، وَلَا بِنُفُورِهِ عَمَّا أَتَتْ بِهِ الْخَوَاطِرُ . وَالْخَوَاطِرُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ غَيْرِ اكْتِسَابٍ كَوُرُودِ الْمِيَاهِ عَلَى الْأَنْهَارِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا يَرِدُ عَلَى الْقُلُوبِ مِنْ الْخَوَاطِرِ بِالِاكْتِسَابِ ، وَعَلَى الِاكْتِسَابِ يَتَرَتَّبُ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ .
فَصْلٌ فِي الْحَثِّ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ لَمَّا عَلِمَ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ قَدْ جَبَلَ عِبَادَهُ عَلَى الْمَيْلِ إلَى الْأَفْرَاحِ وَاللَّذَّاتِ ، وَالنُّفُورِ مِنْ الْغُمُومِ وَالْمُؤْلِمَاتِ وَأَنَّهُ قَدْ حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَالنَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ، وَعَدَ مَنْ عَصَى هَوَاهُ وَأَطَاعَ مَوْلَاهُ بِمَا أَعَدَّهُ فِي الْجِنَانِ مِنْ الْمَثُوبَةِ وَالرِّضْوَانِ ، تَرْغِيبًا فِي الطَّاعَاتِ لِيَتَحَمَّلُوا مَكَارِهَهَا وَمَشَاقَّهَا ، وَيَتَوَعَّدُ مَنْ عَصَى مَوْلَاهُ وَأَطَاعَ هَوَاهُ بِمَا أَعَدَّهُ فِي النِّيرَانِ مِنْ الْعُقُوبَةِ وَالْهَوَانِ ، زَجْرًا عَنْ الْمُخَالَفَاتِ لِيَجْتَنِبُوا مَلَاذَّهَا وَرَفَاهِيَتَهَا ، وَمَدَحَ الطَّائِعِينَ تَرْغِيبًا فِي الدُّخُولِ فِي حَمْدِهِ وَمِدْحَتِهِ ، وَذَمَّ الْعَاصِينَ تَنْفِيرًا مِنْ الدُّخُولِ فِي لَوْمِهِ وَمَذَمَّتِهِ . وَكَذَلِكَ وَضَعَ الْحُدُودَ وَالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةَ زَجْرًا عَنْ السَّيِّئَاتِ . فَالْوَاجِبُ عَلَى الْعِبَادِ اتِّبَاعُ الرَّشَادِ ، وَتَنَكُّبُ أَسْبَابِ الْفَسَادِ ، وَقَضَاءُ اللَّهِ وَقَدْرُهُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ ، فَلَا رَادَّ لِحُكْمِهِ وَلَا مُعَقِّبَ لِقَضَائِهِ ، وَلَا خُرُوجَ لِعَبْدٍ عَمَّا حُكِمَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ .
فِي بَيَانِ أَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ بِمَثَابَةِ الْأَوْقَاتِ التَّكَالِيفُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ جَالِبَةً لِلْمَصَالِحِ بِأَنْفُسِهَا وَلَا دَارِئَةً لِلْمَفَاسِدِ بِأَنْفُسِهَا ، بَلْ الْأَسْبَابُ فِي الْحَقِيقَةِ مَوَاقِيتُ لِلْأَحْكَامِ وَلِمَصَالِحِ الْأَحْكَامِ ، وَاَللَّهُ هُوَ الْجَالِبُ لِلْمَصَالِحِ الدَّارِئُ لِلْمَفَاسِدِ ، وَلَكِنَّهُ أَجْرَى عَادَتَهُ وَطَرَدَ سُنَّتَهُ بِتَرْتِيبِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ ، لِتَعْرِيفِ الْعِبَادِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ فَيَطْلُبُوهُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَوُجُودِهَا ، وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ شَرٍّ فَيَجْتَنِبُوهُ عِنْدَ قِيَامِهَا وَتَحَقُّقِهَا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ ، فَكَمْ مِنْ مُرَغَّبٍ لَمْ يَرْغَبْ ، وَكَمْ مِنْ مُرَهَّبٍ لَمْ يُرْهَبْ ، وَكَمْ مِنْ مَزْجُورٍ لَمْ يَزْدَجِرْ ، وَكَمْ مِنْ مُذَكَّرٍ لَمْ يَتَذَكَّرْ ، وَكَمْ مِنْ مَأْمُورٍ بِالصَّبْرِ لَمْ يَصْطَبِرْ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَطَعَ كُلَّ مُسَبَّبٍ عَنْ سَبَبِهِ ، وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَاتِ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَسْبَابِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْمُسَبَّبَاتِ ، لَكِنَّهُ قَرَنَ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبَّبَاتِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ ، لِيُضِلَّ بِذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ . وَكَذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَأَقَامَ الْأَجْسَادَ بِدُونِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَلَمَا تَحَلَّلَ شَيْءٌ مِنْ أَجْزَائِهَا حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى الْخَلَفِ وَالْإِبْدَالِ . فَلَهُ أَنْ يَخْلُقَ أَلَمَ النَّارِ بِغَيْرِ نَارٍ وَلَذَّةَ الشَّرَابِ وَالطَّعَامِ وَالْجِمَاعِ مِنْ غَيْرِ مَاءٍ وَلَا طَعَامٍ وَلَا جِمَاعٍ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَابِ الْمُؤْلِمَاتِ ، وَاللَّذَّاتِ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَهَا دُونَ مُسَبِّبَاتِهَا ، وَلَوْ شَاءَ لَخَلَقَ مُسَبَّبَاتِهَا دُونَهَا وَكَذَلِكَ الْقُوَى الَّتِي أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ آثَارَهَا ابْتِدَاءً كَجَذْبِ الْغِذَاءِ بِغَيْرِ قُوَّةٍ جَاذِبَةٍ ، وَأَمْسَكَ الْغِذَاءَ فِي حَالِ إمْسَاكِهِ بِغَيْرِ قُوَّةٍ مُمْسِكَةٍ ، وَغَذَّى بِغَيْرِ ، قُوَّةٍ مُغَذِّيَةٍ ، وَدَفَعَ بِغَيْرِ قُوَّةٍ دَافِعَةٍ ، وَصَوَّرَ بِغَيْرِ قُوَّةٍ مُصَوِّرَةٍ ، وَلَمَّا رَأَى الْأَغْبِيَاءُ الْعُمْيُ عَنْ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ رَبْطَ الْمُسَبَّبَاتِ مِنْ غَيْرِ انْفِكَاكٍ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ ، اعْتَقَدُوا أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ صَادِرَةٌ عَنْ الْأَسْبَابِ ، وَأَنَّ الْأَسْبَابَ أَفَادَتْهَا الْوُجُودَ ؛ فَاقْتَطَعُوا ذَلِكَ عَنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ وَمُسَبِّبِ الْأَسْبَابِ ، وَأَضَافُوهُ إلَى تِلْكَ الْأَسْبَابِ : وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى أَبْرَزَتْ حُسْنَ وَجْهِهَا لَهَامَ بِهَا اللُّوَّامُ مِثْلَ هُيَامِي وَلَكِنَّهَا أَخْفَتْ مَحَاسِنَ وَجْهِهَا فَضَلُّوا جَمِيعًا عَنْ حُضُورِ مَقَامِي وَمَا أَشَدَّ طَمَعَ النَّاسِ فِي مَعْرِفَةِ مَا لَمْ يَضَعْ اللَّهُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ سَبَبًا ، كُلَّمَا نَظَرُوا فِيهِ وَحَرَصُوا عَلَيْهِ ازْدَادُوا حِيرَةً وَغَفْلَةً ، فَالْحَزْمُ الْإِضْرَابُ عَنْهُ كَمَا فَعَلَ السَّلَفُ الصَّالِحُ ، وَالْبَصَائِرُ كَالْأَبْصَارِ فَمَنْ حَرَصَ أَنْ يَرَى بِبَصَرِهِ مَا وَارَتْهُ الْجِبَالُ لَمْ يَنْفَعْهُ إطَالَةُ تَحْدِيقِهِ إلَى ذَلِكَ مَعَ قِيَامِ السَّاتِرِ . وَكَذَلِكَ تَحْدِيقُ الْبَصَائِرِ إلَى مَا غَيَّبَهُ اللَّهُ عَنْهَا وَسَتَرَهُ بِالْأَوْهَامِ وَالظُّنُونِ وَالِاعْتِقَادَاتِ الْفَاسِدَةِ كَمْ مِنْ اعْتِقَادٍ جَزَمَ الْمَرْءُ بِهِ وَبَالَغَ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى مُخَالِفِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ وَقُبْحُهُ بَعْدَ الْجَزْمِ بِصَوَابِهِ وَحُسْنِهِ . وَمِنْ السَّعَادَةِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَرْءُ لِنَفْسِهِ الْمُوَاظَبَةَ عَلَى أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَأَفْضَلِهَا بِحَيْثُ لَا يَضَعُ بِذَلِكَ مَا هُوَ أَوْلَى بِالتَّقْدِيمِ مِنْهُ ، وَالسَّعَادَةُ كُلُّهَا فِي اتِّبَاعِ الشَّرِيعَةِ فِي كُلِّ وِرْدٍ وَصَدْرٍ ، وَنَبْذِ الْهَوَى فِيمَا يُخَالِفُهَا ؛ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى } ، أَيْ فَلَا يَضِلُّ فِي الدُّنْيَا عَنْ الصَّوَابِ وَلَا يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ بِالْعَذَابِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ : { اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ، الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا } مَا مِنْ طَاعَةٍ يَأْتِي بِهَا الطَّالِبُ عَلَى وَجْهِهَا إلَّا أَحْدَثَتْ فِي قَلْبِهِ نُورًا ، وَكُلَّمَا كَثُرَتْ الطَّاعَاتُ تَرَاكَمَتْ الْأَنْوَارُ حَتَّى يَصِيرَ الْمُطِيعُ إلَى دَرَجَاتِ الْعَارِفِينَ الْأَبْرَارِ { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لِنُهْدِيَهُمْ سُبُلَنَا } وَهَذَا مِمَّا يَعْرِفُهُ الْمُطِيعُونَ الْمُخْلِصُونَ . فَإِذَا خَلَتْ الْأَعْمَالُ عَنْ الْإِخْلَاصِ لَمْ يَزْدَدْ الْعَامِلُونَ إلَّا ظُلْمَةً فِي الْقُلُوبِ ، لِأَنَّهُمْ عَاصُونَ بِتَرْكِ الْإِخْلَاصِ وَإِبْطَالِ مَا أَفْسَدَهُ الرِّيَاءُ وَالتَّصَنُّعُ مِنْ الْأَعْمَالِ . وَعَلَى الْجُمْلَةِ فَلَوْ أَنَّ الرَّبَّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَرَّفَ عِبَادَهُ نَفْسَهُ وَأَوْصَافَهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا اسْتِدْلَالٍ لَهَامُوا فِي جَلَالِهِ وَتَحَيَّرُوا فِي كَمَالِهِ ، لَكِنَّهُ كَشَفَ الْحِجَابَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السُّعَدَاءِ وَسَدَلَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَشْقِيَاءِ ، فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ كَشْفَ حِجَابٍ سَدَلَهُ اللَّهُ وَلَا حِفْظَ مَا ضَيَّعَهُ اللَّهُ وَأَهْمَلَهُ ، جَرَتْ الْمَقَادِيرُ مِنْ الْأَزَلِ وَاسْتَمَرَّتْ فِي الْأَبَدِ وَجَفَّتْ الْأَقْلَامُ بِمَا قُضِيَ عَلَى الْأَنَامِ ؛ فَلَا يَتَقَدَّمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ قَدْرَ أُنْمُلَةٍ وَلَا يَتَأَخَّرُ إلَّا بِمَقَادِيرَ سَابِقَةٍ وَكِتَابَةٍ لَاحِقَةٍ . فَلَوْ تَهَيَّأَتْ أَسْبَابُ السَّعَادَةِ كُلُّهَا لِلْأَشْقِيَاءِ لَمَا سَعِدُوا ، وَلَوْ تَهَيَّأَتْ أَسْبَابُ الشَّقَاوَةِ كُلُّهَا لِلسُّعَدَاءِ لَمَا شَقُوا : { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ } ، { وَإِنْ يَمْسَسْك اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إلَّا هُوَ ، وَإِنْ يُرِدْك بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ } .
فِي بَيَانِ مَا رُتِّبَ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْمُخَالَفَاتِ الطَّاعَاتُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ فِي الْآخِرَةِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالنُّسُكِ وَالِاعْتِكَافِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ فِي الْآخِرَةِ لِبَاذِلِهِ وَفِي الدُّنْيَا لِآخِذِيهِ كَالزَّكَاةِ وَالصَّدَقَاتِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْأَوْقَافِ وَالصَّلَاةِ ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الطَّاعَاتِ وَالشَّرُّ كُلُّهُ فِي الْمُخَالَفَاتِ ؛ وَلِذَلِكَ جَاءَ الْقُرْآنُ بِالْحَثِّ عَلَى الطَّاعَاتِ دَقِّهَا وَجُلِّهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا ، وَالزَّجْرِ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ دَقِّهَا وَجُلِّهَا قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا ، فَأَمَّا الْحَثُّ عَلَى الطَّاعَاتِ فَبِمَدْحِهَا وَبِمَدْحِ فَاعِلِيهَا ، وَبِمَا وُعِدُوا عَلَيْهَا مِنْ الرِّضَا وَالْمَثُوبَاتِ ، وَبِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا مِنْ الْكِفَايَةِ وَالْهِدَايَةِ ، وَالتَّأَهُّلِ لِلشَّهَادَةِ وَالرِّوَايَةِ وَالْوِلَايَةِ . وَأَمَّا الزَّجْرُ عَنْ الْمُخَالَفَاتِ فَبِذَمِّهَا وَذَمِّ فَاعِلِيهَا ، وَبِمَا وُعِدُوا عَلَيْهَا مِنْ السَّخَطِ وَالْعُقُوبَاتِ ، وَبِرَدِّ الشَّهَادَاتِ وَالْوِلَايَاتِ وَالِانْعِزَالِ عَنْ الْوِلَايَاتِ . وَأَمَّا مَا قُرِنَ بِالْآيَاتِ مِنْ الصِّفَاتِ فَإِنَّهُ جَاءَ أَيْضًا حَاثًّا عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَزَجْرًا عَنْ الْمُخَالَفَاتِ ، مِثْلَ أَنْ يَذْكُرَ سَعَةَ رَحْمَتِهِ لِيَرْجُوهُ فَيَعْمَلُوا بِالطَّاعَاتِ ، وَيَذْكُرَ شِدَّةَ نِقْمَتِهِ لِيَخَافُوهُ فَيَجْتَنِبُوا الْمُخَالَفَاتِ ، وَيَذْكُرَ نَظَرَهُ إلَيْهِمْ ، لِيَسْتَحْيُوا مِنْ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ فَلَا يَعْصُوهُ ، وَيَذْكُرَ تَفَرُّدَهُ بِالضُّرِّ وَالنَّفْعِ ، لِيَتَوَكَّلُوا عَلَيْهِ وَيَغُوضُوا إلَيْهِ ، وَيَذْكُرَ إنْعَامَهُ عَلَيْهِمْ وَإِحْسَانَهُ إلَيْهِمْ ، لِيُحِبُّوهُ وَيُطِيعُوهُ وَلَا يُخَالِفُوهُ ، فَإِنَّ الْقُلُوبَ مَجْبُولَةٌ عَلَى حُبِّ مَنْ أَنْعَمَ عَلَيْهَا وَأَحْسَنَ إلَيْهَا . وَكَذَلِكَ يَذْكُرُ أَوْصَافَ كَمَالِهِ لِيُعَظِّمُوهُ وَيَهَابُوهُ ، وَيَذْكُرُ سَمْعَهُ لِيَحْفَظُوا أَلْسِنَتَهُمْ مِنْ مُخَالَفَتِهِ ، وَيَذْكُرُ بَصَرَهُ لِيَسْتَحْيُوا مِنْ نَظَرِ مُرَاقَبَتِهِ ، وَيَجْمَعُ بَيْنَ ذِكْرِ رَحْمَتِهِ وَعُقُوبَتِهِ ، لِيَكُونُوا بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، فَإِنَّ السَّطْوَةَ لَوْ أُفْرِدَتْ بِالذِّكْرِ لَخِيفَ مِنْ أَدَائِهَا إلَى الْقُنُوطِ مِنْ رَحْمَتِهِ ، وَلَوْ أُفْرِدَتْ الرَّحْمَةُ بِالذِّكْرِ لَخِيفَ مِنْ إفْضَائِهَا إلَى الْغُرُورِ بِإِحْسَانِهِ وَكَرَامَتِهِ ، مِثْلُ قَوْلِهِ : { نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ } ، وَقَوْلِهِ : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } ، وَقَوْلِهِ : { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَقَدْ يَجْمَعُ الْمَدَائِحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، لِيَتَعَرَّفَ بِهَا إلَى عِبَادِهِ فَيَعْرِفُوهُ بِهَا وَيُعَامِلُوهُ بِمُقْتَضَاهَا . وَكَذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي قَصَصِ الْأَوَّلِينَ وَإِنْجَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَإِهْلَاكِ الْكَافِرِينَ ، إنَّمَا ذَكَرَهُ زَجْرًا عَنْ الْكُفْرِ وَحَثًّا عَلَى الْإِيمَانِ ، فَيَا خَيْبَةَ مَنْ خَالَفَهُ وَعَصَاهُ ، وَيَا غِبْطَةَ مَنْ أَطَاعَهُ وَاتَّقَاهُ .
فِيمَا عُرِفَتْ حِكْمَتُهُ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ وَمَا لَمْ تُعْرَفْ حِكْمَتُهُ مِنْ الْمَشْرُوعَاتِ الْمَشْرُوعَاتُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ جَالِبٌ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَصْلَحَةٍ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا جَلْبُهُ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْؤُهُ لِمَفْسَدَةٍ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَبُّدِ . وَفِي التَّعَبُّدِ مِنْ الطَّوَاعِيَةِ وَالْإِذْعَانِ مِمَّا لَمْ تُعْرَفْ حِكْمَتُهُ وَلَا تُعْرَفُ عِلَّتُهُ مَا لَيْسَ مِمَّا ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ وَفُهِمَتْ حِكْمَتُهُ ، فَإِنَّ مُلَابِسَهُ قَدْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ حِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ ، وَالْمُتَعَبِّدُ لَا يَفْعَلُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ إلَّا إجْلَالًا لِلرَّبِّ وَانْقِيَادًا إلَى طَاعَتِهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَرَّدَ التَّعَبُّدَاتُ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، ثُمَّ يَقَعَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ ، مِنْ غَيْرِ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ مَصْلَحَةِ الثَّوَابِ ، وَدَرْءِ مَفْسَدَةٍ غَيْرُ مَفْسَدَةِ الْعِصْيَانِ ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّوَاعِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ تِلْكَ الطَّوَاعِيَةُ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ ، سِوَى مَصْلَحَةِ أَجْرِ الطَّوَاعِيَةِ .
فَصْلٌ فِي تَفَاوُتِ رُتَبِ الْأَعْمَالِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ طَلَبُ الشَّرْعِ لِتَحْصِيلِ أَعْلَى الطَّاعَاتِ ، كَطَلَبِهِ لِتَحْصِيلِ أَدْنَاهَا فِي الْحَدِّ وَالْحَقِيقَةِ ، كَمَا أَنَّ طَلَبَهُ لِدَفْعِ أَعْظَمِ الْمَعَاصِي كَطَلَبِهِ لِدَفْعِ أَدْنَاهَا ، إذْ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَ طَلَبٍ وَطَلَبٍ ، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْمَطْلُوبَاتِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، لِذَلِكَ انْقَسَمَتْ الطَّاعَاتُ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ ، لِانْقِسَامِ مَصَالِحِهَا إلَى الْكَامِلِ وَالْأَكْمَلِ ، وَانْقَسَمَتْ الْمَعَاصِي إلَى الْكَبِيرِ وَالْأَكْبَرِ لِانْقِسَامِ مَفَاسِدِهَا إلَى الرَّذِيلِ وَالْأَرْذَلِ .
فِيمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ الصَّغَائِرُ مِنْ الْكَبَائِرِ إذَا أَرَدْتَ مَعْرِفَةَ الْفَرْقِ بَيْنَ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ فَاعْرِضْ مَفْسَدَةَ الذَّنْبِ عَلَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ أَقَلِّ مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ فَهِيَ مِنْ الصَّغَائِرِ وَإِنْ سَاوَتْ أَدْنَى مَفَاسِدِ الْكَبَائِرِ أَوْ أَرْبَتْ عَلَيْهَا فَهِيَ مِنْ الْكَبَائِرِ . فَمَنْ شَتَمَ الرَّبَّ أَوْ الرَّسُولَ أَوْ اسْتَهَانَ بِالرُّسُلِ أَوْ كَذَّبَ وَاحِدًا مِنْهُمْ أَوْ ضَمَخَ الْكَعْبَةَ بِالْعَذِرَةِ أَوْ أَلْقَى الْمُصْحَفَ فِي الْقَاذُورَاتِ فَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ، وَلَمْ يُصَرِّحْ الشَّرْعُ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَمْسَكَ امْرَأَةً مُحْصَنَةً لِمَنْ يَزْنِي بِهَا أَوْ مُسْلِمًا لِمَنْ يَقْتُلُهُ فَلَا شَكَّ أَنَّ مَفْسَدَةَ ذَلِكَ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَكَذَلِكَ لَوْ دَلَّ الْكُفَّارَ عَلَى عَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ يَسْتَأْصِلُونَهُمْ بِدَلَالَتِهِ وَيَسْبُونَ حُرُمَهُمْ وَأَطْفَالَهُمْ ، وَيَغْتَنِمُونَ أَمْوَالَهُمْ وَيَزْنُونَ بِنِسَائِهِمْ وَيُخَرِّبُونَ دِيَارَهُمْ ، فَإِنَّ تَسَبُّبَهُ إلَى هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَعْظَمُ مِنْ تَوْلِيَتِهِ يَوْمَ الزَّحْفِ بِغَيْرِ عُذْرٍ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ كَذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُقْتَلُ بِسَبَبِهِ ، وَلَوْ كَذَبَ عَلَى إنْسَانٍ كَذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهُ تُؤْخَذُ مِنْهُ تَمْرَةٌ بِسَبَبِ كَذِبِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَقَدْ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الزُّورِ وَأَكْلَ مَالَ الْيَتِيمِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَإِنْ وَقَعَا فِي مَالٍ خَطِيرٍ فَهَذَا ظَاهِرٌ ، وَإِنْ وَقَعَا فِي مَالٍ حَقِيرٍ كَزَبِيبَةٍ وَتَمْرَةٍ فَهَذَا مُشْكِلٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ الْكَبَائِرِ فِطَامًا عَنْ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، كَمَا جُعِلَ شُرْبُ قَطْرَةٍ مِنْ الْخَمْرِ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ فِيهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُضْبَطَ ذَلِكَ الْمَالُ بِنِصَابِ السَّرِقَةِ . وَالْحُكْمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ كَبِيرَةٌ فَإِنَّ شَاهِدَ الزُّورِ مُتَسَبِّبٌ مُتَوَسِّلٌ وَالْحَاكِمُ مُبَاشِرٌ فَإِذَا جُعِلَ التَّسَبُّبُ كَبِيرَةً فَالْمُبَاشَرَةُ أَكْبَرُ مِنْ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ اثْنَانِ بِالزُّورِ عَلَى قَتْلٍ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ فَسَلَّمَ الْحَاكِمُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ إلَى الْوَالِي فَقَتَلَهُ وَكُلُّهُمْ عَالِمُونَ بِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فَشَهَادَةُ الزُّورِ كَبِيرَةٌ وَالْحُكْمُ أَكْبَرُ مِنْهَا وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ أَكْبَرُ مِنْ الْحُكْمِ ، وَالْوُقُوفُ عَلَى تَسَاوِي الْمَفَاسِدِ وَتَفَاوُتِهَا عِزَّةٌ وَلَا يَهْتَدِي إلَيْهَا إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْوُقُوفُ عَلَى التَّسَاوِي أَعَزُّ مِنْ الْوُقُوفِ عَلَى التَّفَاوُتِ ، وَلَا يُمْكِنُ ضَبْطُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَّا بِالتَّقْرِيبِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ النَّصِّ عَلَى كَوْنِ الذَّنْبِ كَبِيرَةً أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ مِنْ الْكَبَائِرِ أَنْ يَشْتُمَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ يَشْتُمُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ فَقَالَ . نَعَمْ يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } . رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي الصَّحِيحِ . جَعَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّسَبُّبَ إلَى سَبِّهِمَا مِنْ الْكَبَائِرِ ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مُبَاشَرَةَ سَبِّهِمَا أَكْبَرُ مِنْ التَّسَبُّبِ إلَيْهِ . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ : { إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ } جُعِلَ اللَّعْنُ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لِفَرْطِ قُبْحِهِ بِخِلَافِ السَّبِّ الْمُطْلَقِ . وَقَدْ نَصَّ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى أَنَّ عُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْكَبَائِرِ ، مَعَ الْخِلَافِ فِي رُتَبِ الْعُقُوقِ ، وَلَمْ أَقِفْ فِي عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ وَلَا فِيمَا يَخْتَصَّانِ بِهِ مِنْ الْحُقُوقِ عَلَى ضَابِطٍ أَعْتَمِدُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مَا يَحْرُمُ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ فَهُوَ حَرَامٌ فِي حَقِّهِمَا وَمَا يَجِبُ لِلْأَجَانِبِ فَهُوَ وَاجِبٌ لَهُمَا ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ طَاعَتُهُمَا فِي كُلِّ مَا يَأْمُرَانِ بِهِ وَلَا فِي كُلِّ مَا يَنْهَيَانِ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ حَرُمَ عَلَى الْوَلَدِ الْجِهَادُ بِغَيْرِ إذْنِهِمَا لِمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمَا مِنْ تَوَقُّعِ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَلِشِدَّةِ تَفَجُّعِهِمَا عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ أُلْحِقَ بِذَلِكَ كُلُّ سَفَرٍ يَخَافَانِ فِيهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ ، وَقَدْ سَاوَى الْوَالِدَانِ الرَّقِيقَ فِي النَّفَقَةِ وَالْكُسْوَةِ وَالسُّكْنَى . وَقَدْ ضَبَطَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْكَبَائِرَ بِأَنْ قَالَ . كُلُّ ذَنْبٍ قُرِنَ بِهِ وَعِيدٌ أَوْ حَدٌّ أَوْ لَعْنٌ فَهُوَ مِنْ الْكَبَائِرِ . فَتَغْيِيرُ مَنَارِ الْأَرْضِ كَبِيرَةٌ لِاقْتِرَانِ اللَّعْنِ بِهِ . وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِ كَبِيرَةٌ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِهِ الْوَعِيدُ وَاللَّعْنُ وَالْحَدُّ ، وَالْمُحَارَبَةُ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةُ وَالْقَذْفُ كَبَائِرُ لِاقْتِرَانِ الْحُدُودِ بِهَا ، وَعَلَى هَذَا كُلُّ ذَنْبٍ عُلِمَ أَنَّ مَفْسَدَتَهُ كَمَفْسَدَةِ مَا قُرِنَ بِهِ الْوَعِيدُ أَوْ اللَّعْنُ أَوْ الْحَدُّ أَوْ أَكْبَرُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ فَهُوَ كَبِيرَةٌ .
( فَائِدَةٌ ) فَإِنْ قِيلَ الْكَذِبُ فِيمَا لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ صَغِيرَةٌ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا قَذْفًا لَا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَالْحَفَظَةَ ؟ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُوَاجِهْ بِهِ الْمَقْذُوفَ وَلَمْ يَغْتَبْهُ بِهِ عِنْدَ النَّاسِ ، هَلْ يَكُونُ قَذْفُهُ كَبِيرَةً مُوجِبَةً لِلْحَدِّ مَعَ خُلُوِّهِ مِنْ مَفْسَدَةِ الْأَذَى ؟ قُلْنَا الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْحَدِّ لِانْتِفَاءِ الْمَفْسَدَةِ وَلَا يُعَاقَبُ فِي الْآخِرَةِ عِقَابَ الْمُجَاهِرِ فِي وَجْهِ الْمَقْذُوفِ أَوْ فِي مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ ، بَلْ عِقَابَ الْكَذَّابِينَ غَيْرِ الْمُصِرِّينَ وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ : فَإِنَّ الَّذِي يُؤْذِيك مِنْهُ سَمَاعُهُ وَإِنَّ الَّذِي قَالُوا وَرَاءَك لَمْ يُقَلْ شَبَّهَهُ بِاَلَّذِي لَمْ يُقَلْ لِانْتِفَاءِ ضَرَرِهِ وَأَذِيَّتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ إذَا اغْتَابَهُ بِالْقَذْفِ لَمْ يَتَأَذَّ الْمَقْذُوفُ مَعَ غَيْبَتِهِ ، فَلِمَ أَوْجَبْتُمْ الْحَدَّ مَعَ انْتِفَاءِ مَفْسَدَةِ التَّأَذِّي ؟ قُلْنَا لِأَنَّ ذَلِكَ لَوْ بَلَغَهُ لَكَانَ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ الْقَذْفِ فِي الْخَلْوَةِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا قَذَفَهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْ النَّاسِ احْتَقَرُوهُ بِذَلِكَ وَزَهِدُوا فِي مُعَامَلَتِهِ وَمُوَاصَلَتِهِ ، وَرُبَّمَا أَشَاعُوا ذَلِكَ إلَى أَنْ يَبْلُغَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ ، وَالْإِنْسَانُ يَكْرَهُ بِطَبْعِهِ أَنْ يُهْتَكَ عِرْضُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَأَمَّا قَذْفُهُ فِي الْخَلْوَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى لِسَانِهِ وَبَيْنَ إجْرَائِهِ عَلَى قَلْبِهِ .
فِي مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً فِي ظَنِّهِ يَتَصَوَّرُهَا بِتَصَوُّرِ الْكَبَائِرِ وَلَيْسَتْ فِي الْبَاطِنِ كَبِيرَةً إنْ قِيلَ لَوْ أَنَّ إنْسَانًا قَتَلَ رَجُلًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فَظَهَرَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ دَمَهُ أَوْ وَطِئَ امْرَأَةً يَعْتَقِدُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ وَأَنَّهُ زَانٍ بِهَا فَإِذَا هِيَ زَوْجَتُهُ ، أَوْ أَمَتُهُ أَوْ أَكَلَ مَالًا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لِيَتِيمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، أَوْ شَهِدَ بِالزُّورِ فِي ظَنِّهِ وَكَانَتْ شَهَادَتُهُ مُوَافِقَةً لِلْبَاطِنِ ، أَوْ حَكَمَ بِبَاطِلٍ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ حَقٌّ ، فَهَلْ يَكُونُ مُرْتَكِبًا لِكَبِيرَةٍ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْمَفْسَدَةُ ؟ قُلْنَا أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَيَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْفَاسِقِينَ ، وَتَسْقُطُ عَدَالَتُهُ لِجُرْأَتِهِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ ، وَتَبْطُلُ بِذَلِكَ كُلُّ وِلَايَةٍ تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ ، لِأَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا شُرِطَتْ فِي الشَّهَادَاتِ وَالرِّوَايَاتِ وَالْوِلَايَاتِ ، لِتَحْصُلَ الثِّقَةُ بِصِدْقِهِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ وَبِأَدَائِهِ الْأَمَانَةَ فِي وِلَايَتِهِ ، وَقَدْ انْخَرَمَتْ الثِّقَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ لِجَرَاءَتِهِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ مَا يَعْتَقِدُهُ كَبِيرَةً ، لِأَنَّ الْوَازِعَ عَنْ الْكَذِبِ فِي أَخْبَارِهِ وَشَهَادَتِهِ ، وَعَنْ التَّقْصِيرِ فِي وِلَايَتِهِ إنَّمَا هُوَ خَوْفُهُ مِنْ الْجُرْأَةِ عَلَى رَبِّهِ بِارْتِكَابِ كَبِيرَةٍ ، أَوْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ ، فَإِذَا حَصَلَتْ جُرْأَتُهُ عَلَى مَا ذَكَرَتْهُ سَقَطَتْ الثِّقَةُ ، بِمَا يَزَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَشَهَادَتِهِ وَالنُّصْحِ فِي وِلَايَتِهِ . وَأَمَّا مَفَاسِدُ الْآخِرَةِ وَعَذَابُهَا فَلَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ زَانٍ وَلَا قَاتِلٍ وَلَا آكِلٍ مَالًا حَرَامًا ، لِأَنَّ عَذَابَ الْآخِرَةِ مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ فِي الْغَالِبِ كَمَا أَنَّ ثَوَابَهَا مُرَتَّبٌ عَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ فِي الْغَالِبِ ، وَلَا يَتَفَاوَتَانِ بِمُجَرَّدِ الطَّاعَةِ وَلَا بِمُجَرَّدِ الْمَعْصِيَةِ ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ ، وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَكَانَ أَجْرُ التَّصَدُّقِ بِتَمْرَةٍ كَأَجْرِ التَّصَدُّقِ بِبَدْرَةٍ ، وَلَكَانَتْ غِيبَةُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الْكَبَائِرِ كَغِيبَتِهِمْ بِنِسْبَتِهِمْ إلَى الصَّغَائِرِ ، وَلَكَانَ سَبُّ الْأَنْبِيَاءِ كَسَبِّ الْأَوْلِيَاءِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا لَا يُعَذَّبُ تَعْذِيبَ مَنْ ارْتَكَبَ صَغِيرَةً لِأَجْلِ جُرْأَتِهِ وَانْتِهَاكِهِ الْحُرْمَةَ بَلْ يُعَذَّبُ عَذَابًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ بِجُرْأَتِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِمَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ ، وَالْأَوْلَى أَنْ تُضْبَطَ الْكَبِيرَةُ بِمَا يُشْعِرُ بِتَهَاوُنِ مُرْتَكِبِهَا فِي دِينِهِ إشْعَارَ أَصْغَرِ الْكَبَائِرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا بِذَلِكَ ، وَلَمْ أَقِفْ لِأَحَدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى ضَابِطٍ لِذَلِكَ .
فِي حُكْمِ الْإِصْرَارِ عَلَى الصَّغَائِرِ فَإِنْ قِيلَ قَدْ جَعَلْتُمْ الْإِصْرَارَ عَلَى الصَّغِيرَةِ بِمَثَابَةِ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ ، فَمَا حَدُّ الْإِصْرَارِ أَيَثْبُتُ بِمَرَّتَيْنِ أَمْ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؟ قُلْنَا إذَا تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الصَّغِيرَةُ تَكَرُّرًا يُشْعِرُ بِقِلَّةِ مُبَالَاتِهِ بِدِينِهِ إشْعَارَ ارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ بِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ وَرِوَايَتُهُ بِذَلِكَ . وَكَذَلِكَ إذَا اجْتَمَعَتْ صَغَائِرُ مُخْتَلِفَةُ الْأَنْوَاعِ بِحَيْثُ يُشْعِرُ مَجْمُوعُهَا بِمَا يُشْعِرُ أَصْغَرُ الْكَبَائِرِ .
فِي إتْيَانِ الْمَفَاسِدِ ظَنًّا أَنَّهَا مِنْ الْمَصَالِحِ مَنْ أَتَى مَا هُوَ مَصْلَحَةٌ فِي ظَنِّهِ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ كَمَنْ أَكَلَ مَالًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ وَطِئَ جَارِيَتَهُ يَظُنُّ أَنَّهَا فِي مِلْكِهِ ، أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ سَكَنَ دَارًا يَعْتَقِدُهَا فِي مِلْكِهِ ، أَوْ اسْتَخْدَمَ عَبْدًا يَعْتَقِدُهُ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ بَانَ أَنَّ وَكِيلَهُ أَخْرَجَ ذَلِكَ عَنْ مِلْكِهِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ لِظَنِّهِ ، وَلَا يَتَّصِفُ فِعْلُهُ بِكَوْنِهِ طَاعَةً وَلَا مَعْصِيَةً وَلَا مُبَاحًا ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَأَفْعَالِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ ، وَيَلْزَمُ ضَمَانُ مَا فَوَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَائِزٌ ، وَالْجَوَائِزُ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَآثِمِ . وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ أَجْنَبِيَّةً يَعْتَقِدُهَا زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ فَإِنَّهُ لَا يَأْثَمُ وَيَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا .
فِيمَنْ فَعَلَ مَا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ وَاجِبًا وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا يَظُنُّهُ قُرْبَةً أَوْ مُبَاحًا وَهُوَ مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ؛ كَالْحَاكِمِ إذَا حَكَمَ بِمَا يَظُنُّهُ حَقًّا بِنَاءً عَلَى الْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ ، وَكَالْمُصَلِّي يُصَلِّي عَلَى ظَنِّ أَنَّهُ مُتَطَهِّرٌ ، أَوْ كَمَنْ يُصَلِّي عَلَى مُرْتَدٍّ يَعْتَقِدُهُ مُسْلِمًا ، وَكَالشَّاهِدِ يَشْهَدُ بِحَقٍّ عَرَفَهُ بِنَاءً عَلَى اسْتِصْحَابِ بَقَائِهِ فَظَهَرَ كَذِبُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَهَذَا خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ كَاَلَّذِي قَبْلَهُ ، وَلَكِنْ يُثَابُ فَاعِلُهُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ ، إلَّا مَنْ صَلَّى مُحْدِثًا فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ وَعَلَى مَا أَتَى بِهِ فِي صَلَاتِهِ مِمَّا لَا تُشْتَرَطُ الطَّهَارَةُ فِيهِ . وَلَوْ أُوجِرَ مُضْطَرًّا طَعَامًا قَاصِدًا لِحِفْظِ حَيَاتِهِ وَكَانَ الطَّعَامُ مَسْمُومًا فَقُتِلَ الْمُضْطَرُّ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ إيجَارِهِ ، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَالْكَفَّارَةُ فِي مَالِهِ ، وَنَظَائِرُ هَذَا كَثِيرَةٌ ، وَلَوْ أَكَلَ فِي الْمَخْمَصَةِ طَعَامًا يَجْهَلُ كَوْنَهُ مَسْمُومًا فَقَتَلَهُ فَلَا دِيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَفِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي مَالِهِ اخْتِلَافُ جَارٍ فِي كُلِّ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ .
فِي بَيَانِ تَقْسِيمِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : مَا تَعْرِفُهُ الْأَذْكِيَاءُ وَالْأَغْبِيَاءُ الثَّانِي مَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَذْكِيَاءُ ، الثَّالِثُ مَا يَخْتَصُّ بِمَعْرِفَتِهِ الْأَوْلِيَاءُ ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَمِنَ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ أَنْ يَهْدِيَهُ إلَى سَبِيلِهِ فَقَالَ : { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } ، وَلِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يَهْتَمُّونَ بِمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ وَشَرْعِهِ فَيَكُونُ بَحْثُهُمْ عَنْهُ أَتَمَّ وَاجْتِهَادُهُمْ فِيهِ أَكْمَلَ ، مَعَ أَنَّ مَنْ عَمِلَ بِمَا يَعْلَمُ وَرَّثَهُ اللَّهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ . وَكَيْفَ يَسْتَوِي الْمُتَّقُونَ وَالْفَاسِقُونَ ؟ لَا وَاَللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ فِي الدَّرَجَاتِ وَلَا فِي الْمَحْيَا وَلَا فِي الْمَمَاتِ . وَالْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْرِضُوا عَنْ الْجَهَلَةِ الْأَغْبِيَاءِ الَّذِينَ يَطْعَنُونَ فِي عُلُومِهِمْ وَيَلْغُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ ، وَيَفْهَمُونَ غَيْرَ مَقْصُودِهِمْ ، كَمَا فَعَلَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْقُرْآنِ الْمُبِينِ فَقَالُوا : { لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } . فَكَمَا جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ ، جَعَلَ لِكُلِّ عَالِمٍ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ عَدُوًّا مِنْ الْمُجْرِمِينَ . فَمَنْ صَبَرَ مِنْ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَاوَةِ الْأَغْبِيَاءِ كَمَا صَبَرَ الْأَنْبِيَاءُ ، نُصِرَ كَمَا نُصِرُوا وَأُجِرَ كَمَا أُجِرُوا وَظَفِرَ كَمَا ظَفِرُوا وَكَيْفَ يَفْلَحُ مَنْ يُعَادِي حِزْبَ اللَّهِ وَيَسْعَى فِي إطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ ؟ وَالْحَسَدُ يَحْمِلُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْيَهُودَ لَمَّا حَسَدُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَمَلَهُمْ حَسَدُهُمْ عَلَى أَنْ قَاتَلُوهُ وَعَانَدُوهُ ، مَعَ أَنَّهُمْ جَحَدُوا رِسَالَتَهُ وَكَذَّبُوا مَقَالَتَهُ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ تَفَاوُتِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ وَتَسَاوِيهَا الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ ، وَعَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ تَتَرَتَّبُ الْفَضَائِلُ فِي الدُّنْيَا ، وَالْأُجُورُ فِي الْعُقْبَى ، وَعَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ تَتَرَتَّبُ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ وَعُقُوبَاتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَقَدْ تَسْتَوِي مَصْلَحَةُ الْفِعْلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُوجِبُ الرَّبُّ تَحْصِيلَ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ نَظَرًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ، وَيَجْعَلُ أَجْرَهَا أَتَمَّ مِنْ أَجْرِ الَّتِي لَمْ يُوجِبْهَا . فَإِنَّ دِرْهَمَ النَّفْلِ مُسَاوٍ لِدِرْهَمِ الزَّكَاةِ لَكِنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَتَقَاعَدَ الْأَغْنِيَاءُ عَنْ بِرِّ الْفُقَرَاءِ فَيَهْلِكُ الْفُقَرَاءُ ، وَجَعَلَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى غَيْرِهِ ، تَرْغِيبًا فِي الْتِزَامِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى نَظِيرِهِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْإِيجَابِ وَوُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ وَعُمْرَتَهُ مُتَسَاوِيَانِ بِحَجِّ النَّفْلِ وَعُمْرَتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . الثَّانِي : أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسَاوٍ لِصَوْمِ شَعْبَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، مَعَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ ، بَلْ لَوْ وَقَعَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي أَقْصَرِ الْأَيَّامِ وَصَوْمُ غَيْرِهِ فِي أَطْوَلِهَا لَكَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ أَفْضَلَ مَعَ خِفَّتِهِ وَقِصَرِهِ مِنْ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ مَعَ ثِقَلِهَا وَطُولِهَا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : أَنَّ الذِّكْرَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْدَلَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مُسَاوِيَةٌ لِقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهَا إذَا قُرِئَتْ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْأَذْكَارُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ إذَا قُصِدَ بِهَا الْقِرَاءَةُ شُرِطَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ ، وَلَوْ قُصِدَ بِهَا الذِّكْرُ كَالْبَسْمَلَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَالْحَمْدَلَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا ، وَالتَّسْبِيحَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ ، مَعَ تَسَاوِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ . وَكَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ قَدْ تُسَاوِي مَصْلَحَتُهُ مَصْلَحَةَ نَظِيرِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ فِي سَدِّ الْخَلَّاتِ وَدَفْعِ الْحَاجَاتِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا إخْرَاجُ دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَحَدُهُمَا زَكَاةٌ وَالْآخَرُ صَدَقَةٌ . الثَّانِي : شَاتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَزَكَّى بِالْأُخْرَى ، الثَّالِثُ إخْرَاجُ الْعُشْرِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ عُشْرٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، فَالزَّكَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِالِاسْتِوَاءِ فِي دَفْعِ الْحَاجَاتِ وَسَدِّ الْخَلَّاتِ ، وَقَدْ يَكُونُ النَّفَلُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَكْمَلَ مَصْلَحَةً مِنْ الْفَرْضِ فِي الزَّكَاةِ وَتَكُونُ الزَّكَاةُ أَفْضَلَ . وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَاةٍ نَفِيسَةٍ أَوْ بِغَيْرِ نَفِيسٍ أَوْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَيُزْكِي بِشَاةٍ خَسِيسَةٍ أَوْ بَعِيرٍ رَذْلٍ أَوْ بِحِنْطَةٍ رَدِيَّةٍ . الثَّانِي : أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ مَخَاضٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَتَصَدَّقَ بِحِقَّةِ أَوْ جَذَعَةٍ . الثَّالِثُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفِضَّةٍ لَيِّنَةٍ حَسَنَةٍ وَيُزْكِيَ بِفِضَّةٍ خَشِنَةٍ رَدِيَّةٍ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ ، فَإِنَّ الْجَيِّدَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً وَأَتَمُّ فَائِدَةً فِي بَابِ الصَّدَقَاتِ ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَجْرَهُ دُونَ أَجْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ ، وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : { وَلَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْمُولٌ بِهِ إذَا سَاوَى الْفَرْضُ النَّفَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ وَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ ، وَفِي حَجِّ الْفَرْضِ وَحَجِّ النَّفْلِ وَفِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ النَّفْلِ ، فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَمَّا إذَا تَفَاوَتَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُزَكِّيَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَيَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَزَكَّى بِشَاةٍ وَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ شَاةٍ ، فَيُحْتَمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَفْضَلَ مِنْ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَفَاوُتِ الْمَصْلَحَتَيْنِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّ الْحَدِيثُ بِالْعَمَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَصْلَحَةِ كَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ مَعَ دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ ، وَشَاةِ الزَّكَاةِ مَعَ شَاةِ الصَّدَقَةِ ، وَلَكِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ تَفَضُّلِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى أَقَلِّ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ ، أَكْبَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا ، كَمَا فَضُلَ أَجْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ قِلَّةِ عَمَلِهَا عَلَى أَجْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ كَثْرَةِ عَمَلِهِمْ ، وَكَمَا فَضُلَ أَجْرُ الْفَرَائِضِ عَلَى مُسَاوِيهَا مِنْ النَّوَافِلِ طُولًا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، وَكَمَا أَنَّ قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِ رَمَضَانَ . وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ مَعَ التَّسَاوِي . وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدَيْنِ أَفْضَلُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ مَا شُرِعَ فِيهَا ، وَإِذَا كَانَتْ الْحَسَنَةُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ أَفْضَلَ مِنْ ثَلَاثِينَ أَلْفَ حَسَنَةٍ فِي غَيْرِهَا ، مَعَ أَنَّ تَسْبِيحَهَا كَتَسْبِيحِ غَيْرِهَا ، وَصَلَاتَهَا كَصَلَاةِ غَيْرِهَا ، وَقِرَاءَتَهَا كَقِرَاءَةِ غَيْرِهَا ؛ عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ عَلَى عِبَادِهِ فِي بَعْضِ الْأَزْمَانِ بِمَا لَا يَتَفَضَّلُ بِهِ فِي غَيْرِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِالتَّسَاوِي ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا تَفَضُّلًا مِنْ الْإِلَهِ ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ وَقْتٍ وَوَقْتٍ . وَكَذَلِكَ تَفَضُّلُهُ سُبْحَانَهُ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ بِتَضْعِيفِ الْأُجُورِ ؛ كَمَا جَعَلَ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَفْضَلَ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ مَعَ التَّسَاوِي بَيْنَ الصَّلَوَاتِ . وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُؤْجِرُ عَلَى قَلِيلِ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُؤْجِرُ عَلَى كَثِيرِهَا مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مِثْلُكُمْ وَمِثْلُ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ كَرَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ فَقَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ ، فَعَمِلَتْ الْيَهُودُ ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ فَعَمِلَتْ النَّصَارَى ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ ، فَهُمْ أَنْتُمْ ، فَغَضِبَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، وَقَالُوا مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا وَأَقَلَّ عَطَاءً ؟ ، فَقَالَ هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ قَالُوا لَا قَالَ فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ } ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ . وَيَدُلُّ هَذَا الْحَدِيثُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَيْسَ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } ، وَهُوَ مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ لِكُلِّ مُجْتَازٍ بِالطَّرِيقِ بِإِزَالَةِ الشَّوْكِ وَالْأَحْجَارِ وَالْأَقْذَارِ مَعَ مَشَقَّةِ ذَلِكَ وَخِفَّةِ النُّطْقِ بِكَلِمَةِ الْإِيمَانِ .
فَإِنْ قِيلَ هَلْ تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْمَعَارِفِ وَالْإِيمَانِ بِالْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ، كَمَا تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْعِبَادَاتِ بِالْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ؟ قُلْنَا نَعَمْ فَإِنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ وَالتَّعَرُّفَ الْأَوَّلَ مَفْرُوضٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَاسْتِحْضَارُهَا بَعْدَ ذَلِكَ نَفْلٌ لَا يَلْزَمُ تَعَاطِيهِ ، فَيَكُونُ تَفَاوُتُهُمَا لِسَبَبِ الْفَرْضِيَّةِ وَالنَّفْلِيَّةِ لَا بِتَفَاوُتِ شَرَفِهِمَا فِي أَنْفُسِهِمَا فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الشَّرَفِ وَالْكَمَالِ ، إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ وُجُوبِ التَّشَهُّدِ فِي الصَّلَاةِ وَنَحْوِهِ . وَأَمَّا التَّفَاوُتُ فِي الْأَحْوَالِ فَظَاهِرٌ فَإِنَّ مَرْتَبَةَ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ أَكْمَلُ مِنْ مَرْتَبَةِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، لِأَنَّ الْإِعْظَامَ وَالْإِجْلَالَ صَدَرَا عَنْ مُلَاحَظَةِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ فَكَانَ لَهُمَا شَرَفَانِ : أَحَدُهُمَا مِنْ مَصْدَرِهِمَا ، وَالثَّانِي مِنْ تَعَلُّقِهِمَا . وَأَمَّا الْخَوْفُ وَالرَّجَاءُ فَإِنَّ الْخَوْفَ صَدَرَ عَلَى مُلَاحَظَةِ الْعُقُوبَاتِ وَالرَّجَاءَ صَدَرَ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْمَثُوبَاتِ ، وَتَعَلَّقَا بِمَا صَدَرَا عَنْهُ فَانْحَطَّا عَنْ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ بِمَرْتَبَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ رُتْبَةُ الْمَحَبَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْإِنْعَامِ وَالْأَفْضَالُ مُنْحَطَّةٌ عَنْ رُتْبَةِ الْمَحَبَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْكَمَالِ وَالْجَمَالِ ، لِصُدُورِ تِلْكَ الْمَحَبَّةِ عَنْ مُلَاحَظَةِ الْأَغْيَارِ ، وَصُدُورِ مَحَبَّةِ الْإِجْلَالِ عَنْ مُلَاحَظَةِ أَوْصَافِ الْجَمَالِ وَالْكَمَالِ ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْمَهَابَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَحَبَّةِ الصَّادِرَةِ عَنْ مَعْرِفَةِ الْجَلَالِ وَالْجَمَالِ لِمَا فِي الْمَحَبَّةِ مِنْ اللَّذَّةِ بِجَمَالِ الْمَحْبُوبِ ، بِخِلَافِ الْمُعَظِّمِ الْهَائِبِ فَإِنَّ الْهَيْبَةَ وَالتَّعْظِيمَ يَقْتَضِيَانِ التَّصَاغُرَ وَالِانْقِبَاضَ ، وَلَا حَظَّ لِلنَّفْسِ فِي ذَلِكَ فَخَلَصَ لِلَّهِ وَحْدَهُ .
فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَسْتَوِي الْحَاجُّ عَنْ نَفْسِهِ وَالْمَحْجُوجُ عَنْهُ فِي مَقَاصِدِ الْحَجِّ ؟ قُلْنَا : قِيلَ يَسْتَوِيَانِ فِي بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ وَلَا يَسْتَوِيَانِ فِي الْأَجْرِ ، وَأَيْنَ مُجَرَّدُ بَذْلِ الْأُجْرَةِ فِي مُبَاشَرَةِ الْحَجِّ وَالْقِيَامِ بِأَرْكَانِهِ وَشَرَائِطِهِ وَسُنَنِهِ وَآدَابِهِ مَعَ تَحَمُّلِ مَشَقَّتِهِ ، وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ وَالتَّنَاوُشِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالتَّعْظِيمِ ، وَهَكَذَا الْأَبْدَالُ كُلُّهَا لَا تُسَاوِي مُبْدَلَاتِهَا ، فَلَيْسَ التَّيَمُّمُ كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ ، وَلَيْسَ صَوْمُ الْكَفَّارَةِ كَإِعْتَاقِهَا وَلَا إطْعَامُهَا كَصِيَامِهَا ، وَلَا تَسَاوَتْ الْأَبْدَالُ وَالْمُبْدَلَاتُ فِي الْمَصَالِحِ لِمَا فِي شَرْطِ الِانْتِقَالِ إلَى أَحَدِهِمَا مِنْ فَقْدِ الْآخَرِ . فَإِنْ قِيلَ لَوْ حَصَلَ لِلْأَجِيرِ عَلَى الْحَجِّ تَذَلُّلٌ وَتَمَسْكُنٌ وَتَنَاوُشٌ وَخُضُوعٌ وَخُشُوعٌ وَإِجْلَالٌ وَتَعْظِيمٌ وَمَهَابَةٌ وَمَحَبَّةٌ وَأُنْسٌ وَفَرَحٌ وَسُرُورٌ وَخَوْفٌ وَرَجَاءٌ وَبُكَاءٌ وَاسْتِحْيَاءٌ ، فَهَلْ يَحْصُلُ أَجْرُ ذَلِكَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ؟ قُلْنَا : لَا فَإِنَّ الْإِجَارَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَرْكَانِ الْحَجِّ وَوَاجِبَاتِهِ وَسُنَنِهِ وَلَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ إلَّا النِّيَّةَ لِوُقُوفِ الصِّحَّةِ عَلَيْهَا ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَمْ تَتَنَاوَلْهُ ، بَلْ لَوْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ لِلْعَجْزِ عَنْهُ فِي الْغَالِبِ ، وَعَدَمِ الِاحْتِيَاجِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ وَسُنَنِهِ .
فَإِنْ قِيلَ . مَا تَقُولُونَ فِي مَنْ سَدَّ جَوْعَةَ مِسْكِينٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ ؟ هَلْ يُسَاوِي أَجْرُهُ أَجْرَ مَنْ سَدَّ جَوْعَةَ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ ، مَعَ أَنَّ الْفَرْضَ سَدَّ عَشْرَ جَوْعَاتٍ ، وَالْكُلُّ عِبَادُ اللَّهِ ، وَالْفَرْضُ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمْ ، فَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَصَالِحِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ أَوْ فِي مَحَالَّ مُتَعَدِّدَةٍ ؟ قُلْنَا لَا يَسْتَوِيَانِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلِيٌّ لِلَّهِ أَوْ أَوْلِيَاءٌ لَهُ فَيَكُونُ إطْعَامُهُمْ أَفْضَلَ مِنْ تَكْرِيرِ إطْعَامِ وَاحِدٍ . وَقَدْ حَثَّ الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْإِحْسَانِ إلَى الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُرْجَى مِنْ دُعَاءِ الْجَمَاعَةِ مَا لَا يُرْجَى مِنْ دُعَاءِ الْوَاحِدِ ، كَمَا يُرْجَى مِنْ دُعَاءِ الْمُصَلِّينَ عَلَى الْمَيِّتِ إذَا بَلَغُوا أَرْبَعِينَ مَا لَا يُرْجَى مِنْ دُعَائِهِمْ إذَا نَقَصُوا عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيث ، وَلِمِثْلِ هَذَا أَوْجَبَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلَى الْأَصْنَافِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ أَنْوَاعٍ مِنْ الْمَصَالِحِ ، فَإِنَّ دَفْعَ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ نَوْعٌ مُخَالِفٌ لِدَفْعِ الرِّقِّ عَنْ الْمُكَاتَبِينَ ، وَالْغُرْمِ عَنْ الْغَارِمِينَ ، وَالْغُرْبَةِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ ، وَكَذَلِكَ التَّأْلِيفُ عَلَى الدِّينِ عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ سَهْمَ الْمُؤَلَّفَةِ بَاقٍ ، وَكَذَلِكَ إعَانَةُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ تِلْوُ الْإِيمَانِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يَتَرَتَّبُ الشَّرْعُ عَلَى الْفِعْلِ الْيَسِيرِ مِثْلَ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ الْخَطِيرِ ، كَمَا رُتِّبَ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ عَلَى الْحَجِّ الْمَبْرُورِ ، وَرُتِّبَ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى مُوَافَقَةِ تَأْمِينِ الْمُصَلِّي تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ ، وَرُتِّبَ غُفْرَانُ الذُّنُوبِ عَلَى قِيَامِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، كَمَا رَتَّبَهُ عَلَى قِيَامِ جَمِيعِ رَمَضَانَ ، فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذِهِ الطَّاعَاتِ وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي التَّكْفِيرِ فَلَا تَسَاوِي بَيْنَهَا فِي الْأُجُورِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى رَتَّبَ عَلَى الْحَسَنَاتِ رَفْعَ الدَّرَجَاتِ وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ التَّسَاوِي فِي تَكْفِيرِ السَّيِّئَاتِ التَّسَاوِي فِي رَفْعِ الدَّرَجَاتِ ، وَكَلَامُنَا فِي جُمْلَةِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْفِعْلِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، وَذَلِكَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ . فَمِنْ الْأَعْمَالِ مَا يَكُونُ شَرِيفًا بِنَفْسِهِ وَفِيمَا رُتِّبَ عَلَيْهِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، فَيَكُونُ الْقَلِيلُ مِنْهُ أَفْضَلَ مِنْ الْكَثِيرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالْخَفِيفُ مِنْهُ أَفْضَلَ مِنْ الشَّاقِّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا يَكُونُ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ فِي مِثْلِ هَذَا الْبَابِ كَمَا ظَنَّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ ، بَلْ ثَوَابُهُ عَلَى قَدْرِ خَطَرِهِ فِي نَفْسِهِ ، كَالْمَعَارِفِ الْعَلِيَّةِ وَالْأَحْوَالِ السَّنِيَّةِ وَالْكَلِمَاتِ الْمُرْضِيَةِ . فَرُبَّ عِبَادَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَةٍ فِي الْمِيزَانِ وَعِبَادَةٍ ثَقِيلَةٍ عَلَى الْإِنْسَانِ خَفِيفَةٍ فِي الْمِيزَانِ بِدَلِيلِ أَنَّ التَّوْحِيدَ خَفِيفٌ عَلَى الْجَنَانِ وَاللِّسَانِ وَهُوَ أَفْضَلُ مَا أُعْطِيَهُ الْإِنْسَانُ وَمَنَّ بِهِ الرَّحْمَنُ ، وَالتَّفَوُّهُ بِهِ أَفْضَلُ كُلِّ كَلَامٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُوجِبُ الْجِنَانَ وَيَدْرَأُ غَضَبَ الدَّيَّانِ ، وَقَدْ صَرَّحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ ، لَمَّا { قِيلَ لَهُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ } ، وَجُعِلَ الْجِهَادُ دُونَهُ مَعَ أَنَّهُ أَشَقُّ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ مَعْرِفَةُ التَّوْحِيدِ أَفْضَلُ الْمَعَارِفِ ، وَاعْتِقَادُهُ أَفْضَلُ الِاعْتِقَادَاتِ ، مَعَ سُهُولَةِ ذَلِكَ وَخِفَّتِهِ مَعَ تَحَقُّقِهِ ، وَقَدْ كَانَتْ قُرَّةُ عَيْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ ، وَكَانَتْ شَاقَّةً عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَيْسَتْ صَلَاةُ غَيْرِهِ مَعَ مَشَقَّتِهَا مُسَاوِيَةً لِصَلَاتِهِ مَعَ خِفَّتِهَا وَقُرَّتِهَا ، وَكَذَلِكَ إعْطَاءُ الزَّكَاةِ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ أَفْضَلُ مِنْ إعْطَائِهَا مَعَ الْبُخْلِ ، وَمُجَاهَدَةِ النَّفْسِ . وَكَذَلِكَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَاهِرَ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ . وَجَعَلَ لِلَّذِي يَقْرَؤُهُ يُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ أَجْرَيْنِ ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الثَّوَابَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ فِي جَمِيعِ الْعِبَادَاتِ مَا رَوَى أَبُو الدَّرْدَاءِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا بَلَى قَالَ : ذِكْرُ اللَّهِ ، قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ : مَا شَيْءٌ أَنَجَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي : سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ } ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَيْضًا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلَى الرَّحْمَنِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ } ، أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ . وَالْحَاصِلُ بِأَنَّ الثَّوَابَ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَفَاوُتِ الرُّتَبِ فِي الشَّرَفِ ، فَإِنْ تَسَاوَى الْعَمَلَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ كَانَ أَكْثَرُ الثَّوَابِ عَلَى أَكْثَرِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ } .
إنْ قِيلَ : مَا ضَابِطُ الْفِعْلِ الشَّاقِّ الَّذِي يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى الْخَفِيفِ ؟ قُلْت : إذَا اتَّحَدَ الْفِعْلَانِ فِي الشَّرَفِ وَالشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ ، وَكَانَ أَحَدُهُمَا شَاقًّا فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَجْرِهِمَا لِتَسَاوِيهِمَا فِي جَمِيعِ الْوَظَائِفِ ، وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِتَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِأَجْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، فَأُثِيبَ عَلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لَا عَلَى عَيْنِ الْمَشَاقِّ ، إذْ لَا يَصِحُّ التَّقَرُّبُ بِالْمَشَاقِّ ، لِأَنَّ الْقُرَبَ كُلَّهَا تَعْظِيمٌ لِلرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، وَلَيْسَ عَيْنُ الْمَشَاقِّ تَعْظِيمًا وَلَا تَوْقِيرًا . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَحَمَّلَ مَشَقَّةً فِي خِدْمَةِ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَرَى ذَلِكَ لَا لِأَجْلِ كَوْنِهِ شَقَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَرَاهُ لَهُ بِسَبَبِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخِدْمَةِ لِأَجْلِهِ ، وَذَلِكَ كَالِاغْتِسَالِ فِي الصَّيْفِ وَالرَّبِيعِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاغْتِسَالِ فِي شِدَّةِ بَرْدِ الشِّتَاءِ ؛ فَإِنَّ أَجْرَهُمَا سَوَاءٌ لِتَسَاوِيهِمَا فِي الشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ ، وَيَزِيدُ أَجْرُ الِاغْتِسَالِ فِي الشِّتَاءِ لِأَجْلِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْبَرْدِ ، فَلَيْسَ التَّفَاوُتُ فِي نَفْسِ الْغُسْلَيْنِ وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِيمَا لَزِمَ عَنْهُمَا . وَكَذَلِكَ مَشَاقُّ الْوَسَائِلِ فِي مَنْ يَقْصِدُ الْمَسَاجِدَ وَالْحَجَّ وَالْغَزْوَ مِنْ مَسَافَةٍ قَرِيبَةٍ ، وَآخَرَ يَقْصِدُ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ مِنْ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ ، فَإِنَّ ثَوَابَيْهِمَا يَتَفَاوَتَانِ بِتَفَاوُتِ الْوَسِيلَةِ ، وَيَتَسَاوَيَانِ مِنْ جِهَةِ الْقِيَامِ بِسُنَنِ هَذِهِ الْعِبَادَاتِ وَشَرَائِطِهَا وَأَرْكَانِهَا . فَإِنَّ الشَّرْعَ يُثِيبُ عَلَى الْوَسَائِلِ إلَى الطَّاعَاتِ كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْمَقَاصِدِ ، مَعَ تَفَاوُتِ أُجُورِ الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ . وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِكُلِّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا الْمُصَلِّي إلَى إقَامَةِ الْجَمَاعَةِ رَفْعَ دَرَجَةٍ وَحَطَّ خَطِيئَةٍ ، وَجَعَلَ أَبْعَدَهُمْ مَمْشًى إلَى الصَّلَاةِ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ أَقْرَبِهِمْ مَمْشًى إلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ جَعَلَ لِلْمُسَافِرِينَ إلَى الْجِهَادِ - بِمَا يَلْقَوْنَهُ مِنْ الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَالْمَخْمَصَةِ وَالنَّفَقَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ وَقَطْعِ الْأَوْدِيَةِ وَبِمَا يَنَالُونَهُ مِنْ الْأَعْدَاءِ وَبِالْوَطْءِ الْغَائِظِ لِلْكُفَّارِ - أَجْرَ عَمَلٍ صَالِحٍ ، فَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ النَّاشِئَةِ عَنْ الْعِبَادَةِ أَوْ عَنْ وَسَائِلِ الْعِبَادَةِ ، وَيَخْتَلِفُ أَجْرُ تَحَمُّلِ الْمَشَاقِّ بِشِدَّةِ الْمَشَاقِّ وَخِفَّتِهَا . فَإِنْ قِيلَ قَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا مُسْنَدًا عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ : { قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ يَصْدُرُ النَّاسُ بِنُسُكَيْنِ وَأَصْدُرُ بِنُسُكٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : انْتَظِرِي فَإِذَا طَهُرْت فَاخْرُجِي إلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي مِنْهُ ثُمَّ الْحَقِينَا عِنْدَ كَذَا وَكَذَا . قَالَ أَظُنُّهُ قَالَ : غَدًا وَلَكِنَّهَا عَلَى قَدْرِ نَصَبِك أَوْ قَالَ نَفَقَتِك } . قُلْت : هَذَا مَشْكُوكٌ فِيهِ هَلْ قَالَ قَدْرُ نَصَبِك أَوْ قَالَ قَدْرُ نَفَقَتِك ؟ فَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ قَوْلَهُ : عَلَى قَدْرِ نَفَقَتِك فَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُنْفَقُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ قَلِيلِهِ وَكَثِيرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَاقِعُ قَوْلَهُ : عَلَى قَدْرِ نَصَبِك فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ عَلَى قَدْرِ تَحَمُّلِ نَصَبِك لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ فِي بَعْضِ كُتُبِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ : بِعَيْنِي مَا يَتَحَمَّلُ الْمُتَحَمِّلُونَ مِنْ أَجْلِي . وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ مَوَارِدِ الشَّرْعِ وَمَصَادِرِهِ أَنَّ مَطْلُوبَ الشَّرْعِ إنَّمَا هُوَ مَصَالِحُ الْعِبَادِ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ ، وَلَيْسَتْ الْمَشَقَّةُ مَصْلَحَةً . بَلْ الْأَمْرُ بِمَا يَسْتَلْزِمُ الْمَشَقَّةَ بِمَثَابَةِ أَمْرِ الطَّبِيبِ الْمَرِيضَ بِاسْتِعْمَالِ الدَّوَاءِ الْمُرِّ الْبَشِعِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ غَرَضُهُ إلَّا الشِّفَاءَ ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ كَانَ غَرَضُ الطَّبِيبِ أَنْ يُوجِدَهُ مَشَقَّةُ أَلَمِ مَرَارَةِ الدَّوَاءِ ، لَمَا حَسُنَ ذَلِكَ فِيمَنْ يَقْصِدُ الْإِصْلَاحَ . وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ يَقْطَعُ مِنْ وَلَدِهِ الْيَدَ الْمُتَآكِلَةَ حِفْظًا لِمُهْجَتِهِ لَيْسَ غَرَضُهُ إيجَادَهُ أَلَمَ الْقَطْعِ ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ حِفْظُ مُهْجَتِهِ مَعَ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُتَوَجِّعًا مُتَأَلِّمًا لِقَطْعِ يَدِهِ . وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا حَكَاهُ { عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : وَمَا تَرَدَّدْت فِي شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مُسَاءَتَهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَشَاقَّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا مَشَاقٌّ تَسُوءُ الْمُؤْمِنَ وَغَيْرَهُ ، وَإِنَّمَا يَهُونُ أَمْرُهَا لِمَا يُبْتَنَى عَلَى تَحَمُّلِهَا مِنْ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ ، وَيَكُونُ قَلِيلُ الْعَمَلِ الْبَدَنِيِّ أَفْضَلَ مِنْ كَثِيرِهِ ، وَخَفِيفُهُ أَفْضَلَ مِنْ ثَقِيلِهِ ، كَتَفْضِيلِ الْقَصْرِ عَلَى الْإِتْمَامِ ، وَكَتَفْضِيلِ صَلَاةِ الصُّبْحِ مَعَ نَقْصِ رَكَعَاتِهَا عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ عِنْدَ مَنْ رَآهَا الصَّلَاةَ الْوُسْطَى ، مَعَ أَنَّهَا أُقْصَرُ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يُؤْتِي فَضْلَهُ مَنْ يَشَاءُ ، وَلَوْ كَانَ الثَّوَابُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ مُطْلَقًا ، لَمَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ، وَلَمَا فَضُلَتْ رَكْعَةُ الْوِتْرِ عَلَى رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، وَلَمَا فَضُلَتْ رَكْعَتَا الْفَجْرِ عَلَى مِثْلِهَا مِنْ الرَّوَاتِبِ . وَأَمَّا الْإِبْرَادُ بِالظُّهْرِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُبَادَرَةِ إلَى الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ مَصْلَحَةٍ رَاجِحَةٍ عَلَى مَصْلَحَةٍ مَرْجُوحَةٍ ، فَإِنَّ الْمَشْيَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ ، فَقُدِّمَ الْخُشُوعُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَفْضَلِ أَوْصَافِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ الَّتِي لَا تُدَانِيهِ فِي الرُّتْبَةِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى أُمِرَ بِالْمَشْيِ إلَى الْجَمَاعَةِ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ النِّدَاءِ وَتَكْمِيلِ الِاقْتِدَاءِ بِالْإِمَامِ ، لِأَنَّهُ لَوْ أَسْرَعَ لَانْزَعَجَ وَذَهَبَ خُشُوعُهُ ؛ فَقَدَّمَ الشَّرْعُ رِعَايَةَ الْخُشُوعِ عَلَى الْمُبَادَرَةِ وَعَلَى الِاقْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ ، وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ بِكُلِّ مَا يُشَوِّشُ الْخُشُوعَ كَإِفْرَاطِ الظَّمَأِ وَالْجُوعِ ، وَكَذَلِكَ يُؤَخِّرُهَا الْحَاقِنُ وَالْحَاقِبُ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَخَّرَ بِكُلِّ مُشَوِّشٍ يُؤَخِّرُ الْحَاكِمُ الْحُكْمَ بِمِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ تُؤَخَّرُ الصَّلَاةُ إلَى آخَرِ الْأَوْقَاتِ فِي حَقِّ مَنْ يَتَيَقَّنُ وُجُودَ الْمَاءِ فِي أَوَاخِرِ الْأَوْقَاتِ ؛ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الصَّلَاةِ بِطَهَارَةِ الْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى الْجَمَاعَاتِ ، وَإِنَّمَا فَضُلَتْ لِأَنَّ اهْتِمَامَ الشَّرْعِ بِشَرَائِط الْعِبَادَاتِ أَعْظَمُ مِنْ اهْتِمَامِهِ بِالسُّنَنِ الْمُكَمِّلَاتِ ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْقَادِرَ عَلَى الْمَاءِ لَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ ، وَالْقَادِرُ عَلَى الْمُبَادَرَةِ إلَى الْجَمَاعَاتِ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْمُبَادَرَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَبَيْنَ التَّأْخِيرِ وَالِانْفِرَادِ ، وَلَوْ كَانَتْ مَصْلَحَةُ الْمُبَادَرَةِ كَمَصْلَحَةِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَتَعَيَّنَتْ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهَا كَمَا يَتَعَيَّنُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ ، وَإِنَّمَا تَحَمَّلَ الصَّائِمُ مَشَقَّةَ رَائِحَةِ الْخُلُوفِ ، فَقَدْ فَضَّلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى إزَالَةِ الْخُلُوفِ بِالسِّوَاكِ ، مُسْتَدِلًّا بِأَنَّ ثَوَابَهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَلَمْ يُوَافِقْ الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ ثَوَابِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَضِيلَةِ حُصُولُ الرُّجْحَانِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوِتْرَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْجَدِيدِ أَفْضَلُ مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ ، مَعَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَكَمْ مِنْ عِبَادَةٍ قَدْ أَثْنَى الشَّرْعُ عَلَيْهَا وَذَكَرَ فَضِيلَتَهَا مَعَ أَنَّ غَيْرَهَا أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَزَاحُمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنَّ السِّوَاكَ نَوْعٌ مِنْ التَّطَهُّرِ الْمَشْرُوعِ لِإِجْلَالِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، لِأَنَّ مُخَاطَبَةَ الْعُظَمَاءِ مَعَ طَهَارَةِ الْأَفْوَاهِ تَعْظِيمٌ لَا شَكَّ فِيهِ ، وَلِأَجْلِهِ شُرِعَ السِّوَاكُ وَلَيْسَ فِي الْخُلُوفِ تَعْظِيمٌ وَلَا إجْلَالٌ ، فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ فَضِيلَةَ الْخُلُوفِ تَرْبُو عَلَى تَعْظِيمِ ذِي الْجَلَالِ بِتَطْيِيبِ الْأَفْوَاهِ ؟ ، وَيَدُلُّ أَنَّ مَصْلَحَةَ السِّوَاكِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخُلُوفِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } ، وَلَوْلَا أَنَّ مَصْلَحَتَهُ أَتَمُّ مِنْ مَصْلَحَةِ تَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْخُلُوفِ لَمَا أُسْقِطَ إيجَابُهُ لِمَشَقَّتِهِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَصْلَحَتَهُ انْتَهَتْ إلَى رُتَبِ الْإِيجَابِ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى اعْتِبَارِهِ بِقَوْلِهِ : { لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ } ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَخْصِيصٌ لِلْعَامِّ لِمُجَرَّدِ الِاسْتِدْلَالِ الْمَذْكُورِ الْمُعَارِضِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَلَا يَصِحُّ قِيَاسُهُ عَلَى دَمِ الشَّهِيدِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَاكَ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ ، فَشُرِعَ لَهُ تَطْهِيرُ فَمِهِ بِالسِّوَاكِ ، وَجَسَدُ الْمَيِّتِ قَدْ صَارَ جِيفَةً غَيْرَ مُنَاجِيَةٍ ، فَلَا يَصِحُّ - مَعَ ذَلِكَ - الْإِلْحَاقُ .
فِي تَسَاوِي الْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ قَدْ تَتَسَاوَى الْعُقُوبَاتُ الْعَاجِلَةُ مَعَ تَفَاوُتِ الزَّلَّاتِ مَعَ أَنَّ الْأَغْلَبَ تَفَاوُتُ الْعُقُوبَاتِ بِتَفَاوُتِ الْمُخَالَفَاتِ ، فَإِنَّ مَنْ شَرِبَ قَطْرَةً مِنْ الْخَمْرِ مُقْتَصِرًا عَلَيْهَا يُحَدُّ كَمَا يُحَدُّ مَنْ شَرِبَ مَا أَسْكَرَهُ وَخَبَلَ عَقْلَهُ مَعَ تَفَاوُتِ الْمَفْسَدَتَيْنِ ، وَلَمْ يَجْعَلْ الْوَسَائِلَ إلَى الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ ، مِثْلَ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ شُرْبِ الْقَطْرَةِ مِنْ الْخَمْرِ خِفَّةُ حَدِّ السُّكْرِ وَثِقَلُ مَا عَدَاهُ مِنْ الْحُدُودِ ، مَعَ أَنَّ التَّوَسُّلَ إلَى السَّرِقَةِ وَالْقَتْلِ لَا يُحَرِّكُ الدَّاعِيَةَ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَحُثُّ عَلَيْهِمَا ، بِخِلَافِ وَسَائِلِ الزِّنَا مِنْ النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَغَيْرِهِمَا ، فَإِنَّهَا تُؤَكِّدُ الْحَثَّ عَلَيْهِ ، وَالدُّعَاةَ إلَيْهِ ، وَالْقَتْلَ فِي الزَّوَاجِرِ . فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَكُونُ وِزْرُ مَنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ كَوِزْرِ مَنْ سَرَقَ أَلْفَ دِينَارٍ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقَطْعِ ؟ قُلْنَا : لَا ، بَلْ يَتَفَاوَتُ وِزْرُهُمَا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ بِتَفَاوُتِ مَفْسَدَةِ سَرِقَتَيْهِمَا . قَالَ تَعَالَى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } ، { وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ، وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } . وَالْقَطْعُ الْوَاجِبُ فِي الْأَلْفِ مُتَعَلِّقٌ بِرُبْعِ دِينَارٍ مِنْ الْأَلْفِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الِاسْتِوَاءِ فِي الْعُقُوبَةِ الْعَاجِلَةِ الِاسْتِوَاءُ فِي الْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُجَابَ بِمِثْلِ هَذَا فِي حَدَّيْ الْقَطْرَةِ وَالسَّكْرَةِ . لَكِنَّ الْحُدُودَ كَفَّارَةٌ لِأَهْلِهَا ، فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي الْحَدَّيْنِ وَتَكْفِيرِ الذَّنْبَيْنِ . وَفِي السَّرِقَتَيْنِ . اسْتَوَيَا فِي الْمَفْسَدَتَيْنِ ، وَهُمَا أَخْذُ رُبْعِ دِينَارٍ ، فَيُكَفِّرُ الْحَدَّانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِرُبْعِ الدِّينَارِ مِنْ السَّرِقَتَيْنِ ، وَيَبْقَى الزَّائِدُ إلَى تَمَامِ الْأَلْفِ لَا مُقَابِلَ لَهُ وَلَا تَكْفِيرَ . وَأَمَّا تَفَاوُتُ حَدَّيْ زِنَا الْبِكْرِ وَالْمُحْصَنِ ، فَفِيهِ إشْكَالٌ يَسَّرَ اللَّهُ حَلَّهُ .
فَإِنْ قِيلَ لِمَ فَرَّقَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي الْحُدُودِ مَعَ تَسَاوِيهِمْ فِي الْجَرَائِمِ وَتَحْقِيقِ الْمَفَاسِدِ ؟ قُلْنَا : تَعْذِيبُ الْأَمَاثِلِ عَلَى الْإِسَاءَةِ أَشَدُّ مِنْ تَعْذِيبِ الْأَرَاذِلِ ؛ لِأَنَّ صُدُورَ الْمَعْصِيَةِ مِنْهُمْ مَعَ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِمْ وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ أَقْبَحُ مِنْ صُدُورِهَا مِنْ الْأَرَاذِلِ . أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ ، { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } ، وَإِلَى قَوْلِهِ : { لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ، إذًا لَأَذَقْنَاك ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ } ، وَإِلَى قَوْلِهِ : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ } . وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ الْمُفَضَّلِ مِنْ شُكْرِ إحْسَانِ الْمُنْعِمِ الْمُتَفَضِّلِ ، فَإِذَا قَابَلَ إحْسَانَهُ بِعِصْيَانِهِ ، كَانَ ذَلِكَ أَقْبَحَ مِنْ عِصْيَانِ غَيْرِهِ . وَلِذَلِكَ قَبُحَتْ مَعْصِيَةُ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقُهُمَا لِمَا يَجِبُ مِنْ شُكْرِ إنْعَامِهِمَا بِتَرْبِيَتِهِمَا ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى : { أَنْ اُشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْك } وَلَوْ سَبَّ الْوَزِيرُ الْمِلْكَ بِمِسَبَّةٍ سَبَّهُ بِهَا السَّائِسُ لَاسْتَحَقَّ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ، وَلَمْ يُسَوِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ السَّائِسِ لِأَجْلِ الْإِنْعَامِ عَلَيْهِ ، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِ . فَإِنْ قِيلَ قَدْ سَوَّيْتُمْ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ وَقَتْلِ الْمُحَارِبَةِ ؟ قُلْنَا : سَوَّيْنَا بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِ تَبْعِيضِ الْقَطْعِ وَالْقَتْلِ .
فَإِنْ قِيلَ هَلْ يَسْتَوِي إثْمُ الذَّابِحِ ، وَإِثْمُ مَنْ قَطَعَ أُنْمُلَةَ إنْسَانٍ فَسَرَتْ إلَى نَفْسِهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ فِي الْكَفَّارَةِ وَالدِّيَةِ وَالْقِصَاصِ ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ ؛ لِأَنَّ جُرْأَةَ الذَّابِحِ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فِي الذَّبْحِ أَشَدُّ مِنْ جُرْأَةِ الْقَاطِعِ عَلَى انْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ فِي الْقَطْعِ . وَكَذَلِكَ لَوْ جَرَحَ أَحَدُ الْجَانِيَيْنِ جُرْحًا وَاحِدًا وَجَرَحَ الْآخَرُ مِائَةَ جِرَاحَةٍ ، أَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أُنْمُلَةً وَاحِدَةً وَقَطَعَ الْآخَرُ جَمِيعَ الْأَعْضَاءِ وَالْأَنَامِلِ ، فَمَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي تَعَدُّدِ الْمَعْصِيَةِ وَعِظَمِ الْجُرْأَةِ ، مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ . وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ الْجَانِي رَجُلًا أَوْ قَطَعَ الْجَانِي الْآخَرُ رَجُلًا إرْبًا إرْبًا حَتَّى مَاتَ ، فَإِنَّهُمَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الْعُهْدَةِ الْعَاجِلَةِ ، وَيَتَفَاوَتَانِ فِي الْعُقُوبَةِ الْآجِلَةِ لِعِظَمِ . الْجُرْأَةِ ، وَتَعَدُّدِ الْمَعْصِيَةِ فِي أَحَدِهِمَا وَاتِّحَادِهَا فِي الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ قَتْلُ الْمَثُلَةِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ الذَّبْحِ وَقَطْعِ الرَّقَبَةِ .
فَإِنْ قِيلَ هَلْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ ، قَدْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ عُقُوبَةً لِمُخَالَفَتِهِ وَحِرْمَانًا لَهُمْ أَوْ تَعَبُّدًا . أَمَّا تَحْرِيمُ الْحُرُمَاتِ ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفْرٍ ، وَكَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الثُّرُوبَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، عُقُوبَةً لَهُمْ لَا لِمَفْسَدَةٍ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ لَمَا أَحَلَّ ذَلِكَ لَنَا مَعَ أَنَّا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ . وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { كَذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ } ، وَبِقَوْلِهِ : { فَبِظُلْمٍ مِنْ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } . وَأَمَّا تَحْرِيمُ التَّعَبُّدِ فَكَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَالدَّهْنِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ ، فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا ، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ أَوْصَافِهَا ، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ ، وَإِنَّمَا حَرُمَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ .
فِي انْقِسَامِ الْمَصَالِحِ إلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ الْمَصَالِحُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا وَاجِبُ التَّحْصِيلِ ، فَإِنْ عَظُمَتْ الْمَصْلَحَةُ وَجَبَتْ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَنْدُوبَةُ التَّحْصِيلِ ، الثَّالِثُ مُبَاحَةُ التَّحْصِيلِ ثُمَّ الْمَصَالِحُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهُمَا : أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ ، إذْ لَا يَعْرِفُ أَحَدٌ بِمَ يُخْتَمُ لَهُ ؟ وَلَوْ عَرَفَ ذَلِكَ لَمْ يُقْطَعْ بِالْقَبُولِ ، وَلَوْ قُطِعَ بِالْقَبُولِ لَمْ يُقْطَعْ بِحُصُولِ ثَوَابِهَا وَمَصَالِحِهَا ، لِجَوَازِ ذَهَابِهَا بِالْمُوَازَنَةِ وَالْمُقَاصَّةِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مَصَالِحُ دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ قِسْمَانِ أَحَدُهُمَا نَاجِزُ الْحُصُولِ كَمَصَالِح الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ ، وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَسَاكِنِ وَالْمَرَاكِبِ ، وَكَذَلِكَ مَصَالِحُ الْمُعَامَلَاتِ النَّاجِزَةِ الْأَعْوَاضُ وَحِيَازَةُ الْمُبَاحِ - كَالِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِشَاشِ وَالِاحْتِطَابِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مُتَوَقَّعُ الْحُصُولِ كَالِاتِّجَارِ لِتَحْصِيلِ الْأَرْبَاحِ وَكَذَلِكَ الِاتِّجَارُ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِمَا يُتَوَقَّعُ فِيهَا مِنْ الْأَرْبَاحِ . وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُهُمْ الصَّنَائِعَ وَالْعُلُومَ لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَصَالِحِهَا وَفَوَائِدِهَا ، وَكَذَلِكَ بِنَاءُ الدَّارِ وَزَرْعُ الْحُبُوبِ وَغَرْسُ الْأَشْجَارِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَصَالِحُهُ مُتَوَقَّعَةٌ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا ، وَكَذَلِكَ مَا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَصَالِحِ الِانْزِجَارِ مِنْ الْحُدُودِ وَالْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ . الضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يَكُون لَهُ مَصْلَحَتَانِ إحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالْأُخْرَى آجِلَةٌ كَالْكَفَّارَاتِ وَالْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّاتِ ، فَإِنَّ مَصَالِحَهَا الْعَاجِلَةَ لِقَابِلِيهَا ، وَالْآجِلَةَ لِبَاذِلِيهَا ، فَمَصَالِحُهَا الْعَاجِلَةُ نَاجِزَةُ الْحُصُولِ ، وَالْآجِلَةُ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ .
فِي انْقِسَامِ الْمَفَاسِدِ إلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ الْمَفَاسِدُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ - أَحَدُهَا : مَا يَجِبُ دَرْؤُهُ فَإِنْ عَظُمَتْ مَفْسَدَتُهُ وَجَبَ دَرْؤُهُ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ وَذَلِكَ كَالْكُفْرِ وَالْقَتْلِ وَالزِّنَا وَالْغَصْبِ وَإِفْسَادِ الْعُقُولِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا تَخْتَلِفُ فِيهِ الشَّرَائِعُ فَيُحْظَرُ فِي شَرْعٍ وَيُبَاحُ فِي آخَرَ تَشْدِيدًا عَلَى مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ، وَتَخْفِيفًا عَلَى مَنْ أُبِيحَ لَهُ ، الثَّالِثُ : مَا تَدْرَؤُهُ الشَّرَائِعُ كَرَاهِيَةً لَهُ . ثُمَّ الْمَفَاسِدُ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ : أَحَدُهَا أُخْرَوِيَّةٌ وَهِيَ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ لَا يُقْطَعُ بِتَحَقُّقِهَا لِأَنَّهَا قَدْ تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ أَوْ الْعَفْوِ أَوْ الشَّفَاعَةِ أَوْ الْمُوَازَنَةِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : دُنْيَوِيَّةٌ وَهِيَ قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا : نَاجِزُ الْحُصُولِ كَالْكُفْرِ وَالْجَهْلِ الْوَاجِبِ الْإِزَالَةُ ، وَكَالْجَوْعِ وَالظَّمَأِ وَالْعُرْيِ وَضَرَرِ الصِّيَالِ وَالْقِتَالِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مُتَوَقَّعُ الْحُصُولِ كَقِتَالِ مَنْ يَقْصِدُنَا مِنْ الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ وَأَهْلِ الصِّيَالِ . الضَّرْبُ الثَّالِثُ : مَا يَكُونُ لَهُ مَفْسَدَتَانِ : إحْدَاهُمَا عَاجِلَةٌ وَالْأُخْرَى آجِلَةٌ ، كَالْكُفْرِ ، فَالْعَاجِلَةُ نَاجِزَةُ الْحُصُولِ وَالْآجِلَةُ مُتَوَقَّعَةُ الْحُصُولِ . وَأَمَّا مَا يَكُونُ مَفْسَدَتُهُ عَاجِلَةً وَمَصْلَحَتُهُ آجِلَةً فَكَالصِّيَالِ عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ ، فَإِنَّ دَرْءَ مَفْسَدَتِهِ عَاجِلٌ حَاصِلٌ لِمَنْ دُرِئَتْ عَنْهُ ، وَمَصْلَحَةُ دَرْئِهِ آجِلَةٌ لِمَنْ دَرَأَهُ .
( فَائِدَةٌ ) إذَا عَظُمَتْ الْمَصْلَحَةُ ، أَوْجَبَهَا الرَّبُّ فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ . وَكَذَلِكَ إذَا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ ، حَرَّمَهَا فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَقَدْ يُقَدِّمُ الشَّرْعُ بَعْضَ الْمَصَالِحِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِهَا ، وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ . وَكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ ، فَالْقِصَاصُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَاجِبٌ حَقًّا لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا ، وَهُوَ عِنْدَنَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُقْتَرِنٌ بِحَقِّ الرَّبِّ ، وَرُجِّحَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ فِي شَرْعِنَا نَظَرًا لِلْجَانِي وَلِوَلِيِّ الدَّمِ . وَكَذَلِكَ حَرُمَ فِي النِّكَاحِ الزِّيَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَرْعِ عِيسَى نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَكِيلَا يَتَضَرَّرْنَ بِكَثْرَةِ الضَّرَائِرِ وَالْإِمَاءِ ، وَأَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَطْءِ وَمُؤَنِ النِّكَاحِ ، وَأَجَازَ فِي شَرْعِنَا الزِّيَادَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَرَحْمَةً بِهِنَّ ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ .
فِي تَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ مَعَ تَسَاوِيهَا بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ كُلَّهَا مُتَسَاوِيَةٌ ، وَيَفْضُلَانِ بِمَا يَقَعُ فِيهِمَا لَا بِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِهِمَا ، وَيَرْجِعُ تَفْضِيلُهُمَا إلَى مَا يُنِيلُ اللَّهُ الْعِبَادَ فِيهِمَا مِنْ فَضْلِهِ وَكَرَمِهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَاقِبَ بِغَيْرِ كُفْرٍ وَلَا عِصْيَانٍ ، وَيَتَفَضَّلَ بِغَيْرِ طَاعَةٍ وَإِيمَانٍ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّهُ يُنْشِئُ فِي الْجَنَّةِ أَقْوَامًا وَفِي الْجَنَّةِ آخَرِينَ . وَكَذَلِكَ مَنْ خَلَقَهُ فِي الْجِنَانِ مِنْ الْحُورِ الْعَيْنِ . وَتَفْضِيلُ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا دُنْيَوِيٌّ كَتَفْضِيلِ الرَّبِيعِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْأَزْمَانِ ، وَكَتَفْضِيلِ بَعْضِ الْبُلْدَانِ عَلَى بَعْضٍ بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَنْهَارِ وَالثِّمَارِ وَطِيبِ الْهَوَاءِ وَمُوَافَقَةِ الْأَهْوَاءِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : تَفَضُّلٌ دِينِيٌّ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِيهِمَا بِتَفْضِيلِ أَجْرِ الْعَامِلِينَ كَتَفْضِيلِ صَوْمِ رَمَضَانَ عَلَى صَوْمِ سَائِرِ الشُّهُورِ وَكَذَلِكَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ ، وَيَوْمِ الِاثْنَيْنِ وَالْخَمِيسِ وَشَعْبَانَ وَسِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ ، فَضْلُهُمَا رَاجِعٌ إلَى جُودِ اللَّهِ وَإِحْسَانِهِ إلَى عِبَادِهِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ فَضْلُ الثُّلُثِ الْأَخِيرِ مِنْ كُلِّ لَيْلَةٍ رَاجِعٌ إلَى أَنَّ اللَّهَ يُعْطِي فِيهِ مِنْ إجَابَةِ الدَّعَوَاتِ وَالْمَغْفِرَةِ وَإِعْطَاءِ السُّؤَالِ وَنَيْلِ الْمَأْمُولِ مَا لَا يُعْطِيهِ فِي الثُّلُثَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ . وَكَذَلِكَ اخْتِصَاصُ عَرَفَةَ بِالْوُقُوفِ فِيهَا ، وَمِنًى بِالرَّمْيِ فِيهَا ، وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِالسَّعْيِ فِيهِمَا ، مَعَ الْقَطْعِ بِتَسَاوِي الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ ، وَكَذَلِكَ تَفْضِيلُ مَكَّةَ عَلَى سَائِرِ الْبُلْدَانِ .
فِي تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَى الْمَدِينَةِ إنْ قِيلَ : قَدْ ذَهَبَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ ، فَمَا الدَّلِيلُ عَلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ عَلَيْهَا ؟ قُلْنَا مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَجُودُ عَلَى عِبَادِهِ فِي مَكَّةَ بِمَا لَا يَجُودُ بِمِثْلِهِ فِي الْمَدِينَةِ ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : وُجُوبُ قَصْدِهَا لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَهَذَانِ وَاجِبَانِ لَا يَقَعُ مِثْلُهُمَا فِي الْمَدِينَةِ ، فَالْإِثَابَةُ عَلَيْهِمَا إثَابَةٌ عَلَى وَاجِبٍ ، وَلَا يَجِبُ قَصْدُ الْمَدِينَةِ بَلْ قَصْدُهَا بَعْدَ مَوْتِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِسَبَبِ زِيَارَتِهِ سُنَّةٌ غَيْرُ وَاجِبَةٍ . الْوَجْهُ الثَّانِي : إنْ فَضُلَتْ الْمَدِينَةُ بِإِقَامَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ ، كَانَتْ مَكَّةُ أَفْضَلَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بِهَا بَعْدَ النُّبُوَّةِ ثَلَاثَ عَشَرَةَ سَنَةً أَوْ خَمْسَ عَشَرَةَ سَنَةً وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرًا . الْوَجْهُ الثَّالِثُ : إنْ فَضُلَتْ الْمَدِينَةُ بِكَثْرَةِ الطَّارِقِينَ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ، فَمَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْهَا بِكَثْرَةِ مَنْ طَرَقَهَا مِنْ الصَّالِحِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إلَّا حَجَّهَا آدَم وَمَنْ دُونَهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ ، وَلَوْ كَانَ لِمَلِكٍ دَارَانِ فُضْلَيَانِ فَأَوْجَبَ عَلَى عَبِيدِهِ أَنْ يَأْتُوا إحْدَى دَارَيْهِ ، وَوَعَدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِغُفْرَانِ سَيِّئَاتِهِمْ وَرَفْعِ دَرَجَاتِهِمْ وَإِسْكَانِهِمْ فِي قُرْبِهِ وَجِوَارِهِ فِي أَفْضَلِ دُورِهِ ، لَمْ يُرَتِّبْ ذُو لُبٍّ أَنَّ اهْتِمَامَهُ بِهَذَا الْمَكَانِ أَتَمُّ مِنْ اهْتِمَامِهِ بِغَيْرِهِ مِنْ بُيُوتِهِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } . وَقَالَ : { الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ } ، وَقَالَ فِي الْمَدِينَةِ ، { مَنْ صَبَرَ عَلَى لَأْوَائِهَا وَشِدَّتِهَا كُنْت لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } . الْوَجْهُ الرَّابِعُ : أَنَّ التَّقْبِيلَ وَالِاسْتِلَامَ ضَرْبٌ مِنْ الِاحْتِرَامِ وَهُمَا مُخْتَصَّانِ بِالرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَّيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ السَّلَامِ . الْوَجْهُ الْخَامِسُ : أَنَّ اللَّهَ أَوْجَبَ عَلَيْنَا اسْتِقْبَالَهَا فِي الصَّلَاةِ حَيْثُمَا كُنَّا مِنْ الْبِلَادِ وَالْفَلَوَاتِ ، فَإِنْ قِيلَ إنْ دَلَّتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا عَلَى فَضْلِهَا فَلْتَكُنْ الصَّخْرَةُ أَفْضَلَ مِنْهَا لَمَّا وَجَبَتْ الصَّلَاةُ إلَيْهَا ؟ فَالْجَوَابُ إنَّ صَلَاتَهُ وَصَلَاةَ أُمَّتِهِ إلَى الْكَعْبَةِ أَطْوَلُ زَمَانًا ، فَإِنَّهَا قِبْلَتُهُمْ إلَى الْقِيَامَةِ ، وَلَوْلَا أَنَّ مَصْلَحَتَهَا أَكْبَرُ لَمَا اخْتَارَهَا لَهُمْ عَلَى الدَّوَامِ ، وَكُلُّ فِعْلٍ نُسِخَ إيجَابُهُ إلَى غَيْرِهِ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي زَمَانِهِ أَفْضَلَ مِنْ الْآخَرِ أَوْ مِثْلِهِ لِقَوْلِهِ : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } ، وَكَوْنُهُ أَفْضَلَ فِي زَمَانِهِ وَجْهٌ ، لَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِهِ عَلَى مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ وُجُوهٍ شَتَّى . الْوَجْهُ السَّادِسُ : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْنَا اسْتِدْبَارَ الْكَعْبَةِ وَاسْتِقْبَالَهَا عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَاتِ . الْوَجْهُ السَّابِعُ : أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، فَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ مِنْ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ إلَّا لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ . الْوَجْهُ الثَّامِنُ : أَنَّ اللَّهَ بَوَّأَهَا لِإِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَلِابْنِهِ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَجَعَلَهَا مُبَوَّأً وَمَوْلِدًا لِسَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَخَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ . الْوَجْهُ التَّاسِعُ : أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهَا حَرَمًا آمِنًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ . الْوَجْهُ الْعَاشِرُ : أَنَّ مَكَّةَ لَا تُدْخَلُ إلَّا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، إمَّا وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا ، وَلَيْسَ فِي الْمَدِينَةِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَا بَدَلٌ مِنْهُ . الْوَجْهُ الْحَادِيَ عَشَرَ : أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ فِي مَكَّةَ : { إنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا } ، عَبَّرَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَنْ الْحَرَمِ كُلِّهِ ، وَهَذَا مِنْ مَجَازِ التَّعْبِيرِ بِالْبَعْضِ عَنْ الْكُلِّ ، كَمَا يُعَبَّرُ بِالْوَجْهِ عَنْ الْجُمْلَةِ ، وَبِالرَّأْسِ عَنْ الْجُمْلَةِ . الْوَجْهُ الثَّانِيَ عَشَرَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اغْتَسَلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، وَهُوَ مَسْنُونٌ وَلَمْ يُنْقَلْ فِي الْمَدِينَةِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّ اغْتِسَالَهُ لِأَجْلِ الْحَجِّ لَا لِأَجْلِ دُخُولِ الْبَلَدِ كَمَا فِي غُسْلِ الْإِحْرَامِ ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْبَيْتِ فِي كِتَابِهِ بِمَا لَمْ يُثْنِ عَلَى الْمَدِينَةِ فَقَالَ : { إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةِ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ } ، وَكَيْفَ لَا نَعْتَقِدُ أَنَّ مَكَانًا أَوْجَبَ اللَّهُ إتْيَانَهُ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ أَفْضَلُ مِنْ مَكَان لَا يَجِبُ إتْيَانُهُ ، وَمِنْ شَرَفِ مَكَّةَ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُكْرَهُ فِيهَا فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ لِمَا رَوَى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ . { يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا طَافَ بِهَذَا الْبَيْتِ وَصَلَّى أَيَّةَ سَاعَةٍ شَاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } . أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنُ مَاجَهْ ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ . وَأَمَّا مَا رَوَاهُ مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اللَّهُمَّ إنَّك أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فَأَسْكِنِّي فِي أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيْك } . فَهَذَا حَدِيثٌ لَمْ يَصِحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ صَحَّ فَهُوَ مِنْ الْمَجَازِ الَّذِي لَا يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ ، وَهُوَ مِنْ مَجَازِ وَصْفِ الْمَكَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِ ، وَلَا يَقُومُ بِهِ قِيَامَ الْعَرَضِ بِالْجَوْهَرِ كَقَوْلِهِ { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ } وَصَفَهَا بِالطِّيبِ الَّذِي هُوَ صِفَةٌ لِهَوَائِهَا . وَكَذَلِكَ الْأَرْضُ الْمُقَدَّسَةُ وُصِفَتْ بِالْقُدْسِ الَّذِي هُوَ وَصْفٌ لِمَنْ حَلَّ بِهَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ الْمُقَدَّسِينَ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا ، وَكَذَلِكَ الْوَادِي الْمُقَدَّسُ وُصِفَ بِقُدْسِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبِقُدْسِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ حَلُّوا فِيهِ . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَحَبُّ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ مَسَاجِدُهَا وَأَبْغَضُ الْبِلَادِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى أَسْوَاقُهَا } ، أَرَادَ بِمَحَبَّةِ الْمَسَاجِدِ مَحَبَّةَ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ ذِكْرِهِ وَتِلَاوَةِ كِتَابِهِ وَالِاعْتِكَافِ وَالصَّلَوَاتِ ، وَأَرَادَ بِبُغْضِ الْأَسْوَاقِ مَا يَقَعُ فِيهَا مِنْ الْغِشِّ وَالْخِيَانَةِ وَسُوءِ الْمُعَامَلَةِ ، مَعَ كَوْنِ أَهْلِهَا لَا يَأْمُرُونَ بِمَعْرُوفٍ وَلَا يَنْهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ وَلَا يَغُضُّونَ الْأَبْصَارَ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ بَلَدٌ خَائِفٌ وَآمِنٌ وُصِفَ بِصِفَةِ مَنْ حَلَّ فِيهِ مِنْ الْخَائِفِينَ وَالْآمِنِينَ ، فَكَذَلِكَ وَصْفُهُ بِكَوْنِهِ مَحْبُوبًا هُوَ وَصْفٌ بِمَا حَصَلَ فِيهِ مِمَّا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، وَهُوَ إقَامَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِرْشَادُهُ أَهْلَهُ إلَى مَا بُعِثَ بِهِ ، فَكَانَتْ حِينَئِذٍ وَاجِبَةً عَلَيْهِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا كَانَ أَحَبَّ إلَى اللَّهِ كَانَ أَحَبَّ إلَى رَسُولِهِ ، وَكَذَلِكَ لَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ كَانَتْ إقَامَتُهُ بِهَا وَإِرْشَادُهُ أَهْلَهَا أَحَبَّ إلَى اللَّهِ وَإِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إقَامَتِهِ بِغَيْرِهَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الطَّاعَةَ الَّتِي هِيَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ غَيْرِهَا أَحَبُّ إلَى رَسُولِهِ مِنْ جَمِيعِ الطَّاعَاتِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَيْكَ أَلَا تَكُونَ أَحَبَّ إلَى رَسُولِهِ . كَمَا لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ أَحَبُّ الْبِقَاعِ إلَى أَنْ تَكُونَ أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَى رَبِّهِ . فَالتَّعْبِيرُ بِالْأَحَبِّ فِي الْبَلَدَيْنِ دَالٌّ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَإِلَى رَسُولِهِ ، إذْ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَالِفَ رَبَّهُ فِي مَحَبَّةِ مَا أَحَبَّهُ . وَيَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَلَدَيْنِ بِحَسْبِ مَا وَقَعَ فِيهِ : مِنْ إبْلَاغِ الرِّسَالَةِ ، وَالْأَمْرِ بِالطَّاعَاتِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمَعَاصِي ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِمَّا سِوَاهُ مِنْ النَّوَافِلِ ، وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى : أَخْرَجْتَنِي مِنْ أَحَبِّ الْبِقَاعِ إلَيَّ فِي أَمْرِ مَعَاشِي فَأَسْكِنِّي أَحَبَّ الْبِقَاعِ إلَيْك فِي أَمْرِ مَعَادِي وَهَذَا مُتَّجَهٌ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَزَلْ فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِهِ وَتَبْلِيغِ أَمْرِهِ إلَى أَنْ تَكَامَلَ الْوَحْيُ وَبَشَّرَهُ بِإِكْمَالِ دِينِهِ وَإِتْمَامِ إنْعَامِهِ بِقَوْلِهِ : { الْيَوْمَ أَكْمَلْت لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْت عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا } . وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمَاكِنَ وَالْأَزْمَانَ يُوصَفَانِ بِصِفَةِ مَا يَقَعُ فِيهِمَا قَوْله تَعَالَى : { رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا } وَقَوْلُهُ { أَوْ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا } فَوَصَفَهُمَا بِصِفَةِ أَهْلِهِمَا . وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : { إنَّمَا أُمِرْت أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا } وَصَفَهَا بِالتَّحْرِيمِ الْوَاقِعِ فِيهَا وَهُوَ تَحْرِيمُ صَيْدِهَا ، وَعَضُدِ شَجَرِهَا وَاخْتِلَاءِ خَلَائِهَا ، وَتَحْرِيمُ الْتِقَاطِ لَقَطَتِهَا إلَّا لِمُنْشِدٍ . وَكَذَلِكَ وَصَفَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْأَشْهُرَ بِالتَّحْرِيمِ . فِي قَوْلِهِ : { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } . وَفِي قَوْلِهِ . { الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ } . وَقَالَتْ الْعَرَبُ . يَوْمٌ بَارِدٌ وَلَيْلٌ نَائِمٌ ، وَنَهَارٌ صَائِمٌ ، وَمِنْهُ قَوْلُ جَرِيرٍ : وَنِمْت وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمٍ وَفِي الْكِتَابِ . { فَذَلِكَ يَوْمئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وَكَذَلِكَ يَوْمٌ عَصِيبٌ ، وَقَمْطَرِيرٌ ، وَثَقِيلٌ . كُلُّ ذَلِكَ صِفَةٌ لِمَا يَحْصُلُ فِي تِلْكَ الْأَزْمَانِ ، وَكَذَلِكَ وَصَفَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ بِكَوْنِهَا خَيْرًا مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ، إنَّمَا هُوَ وَصْفٌ لِلْعَمَلِ الْوَاقِعِ فِيهَا . وَأَمَّا فَضْلُ الثُّغُورِ فَعَائِدٌ إلَى فَضِيلَةِ الرِّبَاطِ فِيهَا عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ - فَيُثَابُ حَاضِرُوهَا عَلَى نِيَّةِ الْجِهَادِ - وَعَلَى التَّسَبُّبِ إلَيْهِ بِالْإِقَامَةِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ حِرَاسَتُهَا مِمَّنْ يَقْصِدُهَا مِنْ الْكُفَّارِ . وَأَمَّا فَضِيلَةُ الْمَسَاجِدِ فَلَيْسَتْ رَاجِعَةً إلَى أَجْرَامِهَا وَلَا إلَى أَعْرَاضٍ قَامَتْ بِأَجْرَامِهَا ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ فَضِيلَتُهَا إلَى مَقْصُودِهَا مِنْ إقَامَةِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمُعَاتِ فِيهَا . وَكَذَلِكَ الِاعْتِكَافُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ مُنِعَ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا ، وَإِيدَاعُ الْأَمَاكِنِ وَالْأَزْمَانِ لِهَذِهِ الْفَضَائِلِ كَإِيدَاعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ لَيْسَ إلَّا جُودًا مِنْ اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَتْ الرُّسُلُ لِقَوْمِهِمْ : { إنْ نَحْنُ إلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } . وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَوْصَافِ الشِّرَافِ لَمْ يَضَعْهَا الرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِيمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِمَعْنَى اقْتَضَاهَا وَاسْتَدْعَاهَا ، بَلْ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ . وَكَذَلِكَ مَا مَنَّ بِهِ مِنْ الْمَعَارِفِ وَالْأَحْوَالِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ ، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا فَضْلًا مِنْ فَضْلِهِ وَجُودًا مِنْ جُودِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ، فَكَذَلِكَ الْأَمَاكِنُ وَالْأَزْمَانُ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي بَعْضِهَا فَضْلًا لَا وُجُودَ لَهُ فِي غَيْرِهَا ، مَعَ الْقَطْعِ بِالتَّمَاثُلِ وَالْمُسَاوَاةِ ، وَكَذَلِكَ الْأَجْسَامُ الَّتِي فَضُلَتْ بِأَعْرَاضِهَا كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ .
اعْلَمْ أَنَّ الْمَصَالِحَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ لِعِظَمِ الْمَصْلَحَةِ فِي فِعْلِهِ ، وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ لِعِظَمِ الْمَفْسَدَةِ فِي تَرْكِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَتَعَلُّمِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الزَّائِدَةِ عَلَى مَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ إلَى نَيْلِ رُتْبَةِ الْفُتْيَا ، وَكَجِهَادِ الطَّلَبِ وَجِهَادِ الدَّفْعِ ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَإِطْعَامِ الْمُضْطَرِّينَ ، وَكُسْوَةِ الْعَارِينَ وَإِغَاثَةِ الْمُسْتَغِيثِينَ ، وَالْفَتَاوَى وَالْأَحْكَامِ بَيْنَ ذَوِي الِاخْتِصَامِ ، وَالْإِمَامَةِ الْعُظْمَى وَالشَّهَادَاتِ ، وَتَجْهِيزِ الْأَمْوَاتِ ، وَإِعَانَةِ الْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ وَحِفْظِ الْقُرْآنِ . وَالثَّانِي : فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَتَعَلُّمِ مَا يَتَعَيَّنُ تَعَلُّمُهُ مِنْ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ ، وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ ، وَأَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ عِبَادَاتِ الْأَعْيَانِ ، وَكَذَلِكَ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالصَّلَوَاتُ وَالزَّكَاةُ وَالصِّيَامُ . وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ دُونَ ابْتِلَاءِ الْأَعْيَانِ بِتَكْلِيفِهِ ، وَالْمَقْصُودُ بِتَكْلِيفِ الْأَعْيَانِ حُصُولُ الْمَصْلَحَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى حِدَتِهِ ، لِتَظْهَرَ طَاعَتُهُ أَوْ مَعْصِيَتُهُ ، فَلِذَلِكَ لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْعَيْنِ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِ بِهِ ، وَيَسْقُطُ فَرْضُ الْكِفَايَةِ بِفِعْلِ الْقَائِمِينَ بِهِ دُونَ مَنْ كُلِّفَ بِهِ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ . أَمَّا سُقُوطُهُ عَنْ فَاعِلِيهِ فَلِأَنَّهُمْ قَامُوا بِتَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ ، وَأَمَّا سُقُوطُهُ عَنْ الْبَاقِينَ فَلِتَعَذُّرِ التَّكْلِيفِ بِهِ وَالتَّكْلِيفُ تَارَةً يَسْقُطُ بِالِامْتِثَالِ ، وَتَارَةً يَسْقُطُ بِتَعَذُّرِ الِامْتِثَالِ ، فَإِذَا خَاضَ فِي فَرْضِ الْكِفَايَةِ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِهِ ثُمَّ لَحِقَهُ آخَرُونَ قَبْلَ تَحْصِيلِ مَصْلَحَتِهِ ، كَانَ مَا فَعَلُوهُ فَرْضًا وَإِنْ حَصَلَتْ الْكِفَايَةُ بِغَيْرِهِمْ ، لِأَنَّ مَصْلَحَتَهُ لَمْ تَحْصُلْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَخْرُجَ إلَى الْعَدُوِّ مَنْ يَسْتَقِلُّ بِدَفْعِهِمْ ثُمَّ يَلْحَقُ بِهِمْ آخَرُونَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْقِتَالِ ، فَيُكْتَبُ لَهُمْ أَجْرُ الْفَرْضِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُهُمْ فِي الثَّوَابِ بِقِلَّةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ . الْمِثَالُ الثَّانِي : أَنْ يَقُومَ بِغُسْلِ الْمَيِّتِ أَوْ تَكْفِينِهِ أَوْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَوْ حَمْلِهِ أَوْ دَفْنِهِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، ثُمَّ يَلْحَقُهُمْ مَنْ يُشَارِكُهُمْ فِي ذَلِكَ ، فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ عَلَى قَدْرِ عَمَلِهِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَشْتَغِلَ بِعِلْمِ الشَّرْعِ مَنْ تَحْصُلُ بِهِ الْكِفَايَةُ الْوَاجِبَةُ ، ثُمَّ يَلْحَقُ بِهِمْ مَنْ يَشْتَغِلُ بِهِ فَيَكُونُ مُفْتَرِضًا لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ لَمْ تَكْمُلْ بَعْدُ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَلَّى عَلَى الْجِنَازَةِ ثَانِيًا مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهَا أَوَّلًا بَعْدَ إسْقَاطِ فَرْضِهَا فِي الْحُكْمِ لَكَانَتْ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ فَرْضًا عِنْدَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ ، فَكَيْفَ يُحْكَمُ بِأَنَّهَا فَرْضٌ مَعَ سُقُوطِ الْفَرْضِ بِصَلَاةِ السَّابِقِينَ ، وَلَيْسَ هَذَا كَاللَّاحِقِينَ فِي الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْفَرْضِ لَا تَحْصُلُ إلَّا بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الصَّلَاةِ ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ جَمِيعَ مَصَالِحِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إذَا أُتِيَ بِهَا فَقَدْ دَخَلَتْ فِي الْوُجُودِ قَطْعًا وَلَا يَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى الظَّنِّ ، وَمَصْلَحَةُ فَرْضِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يُقْطَعُ بِدُخُولِهَا فِي الْوُجُودِ ، لِأَنَّ مَقْصُودَهَا الْأَعْظَمَ إجَابَةُ الدُّعَاءِ وَهُوَ غَيْبٌ لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ ، فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يُقْبَلَ دُعَاءُ مَنْ تَقَدَّمَ إلَى الصَّلَاةِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ مُحَصِّلَةً لِلْمَصْلَحَةِ الَّتِي هِيَ إجَابَةُ الدُّعَاءِ ، إذْ لَا يَلْزَمُ مَنْ هَهُنَا مِنْ ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ - إذَا صَلَّى عَلَيْهِ الْأَبْرَارُ - أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي الْبَاطِنِ ، بِخِلَافِ مَصَالِحِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ فَإِنَّهَا تَتَحَقَّقُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا . وَلِذَلِكَ يُكَرَّرُ الدُّعَاءُ عَلَى الْمَطْلُوبِ الْوَاحِدِ كَدُعَاءِ الْفَاتِحَةِ وَالْقُنُوتِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ يُكَرَّرُ التَّسْلِيمُ وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الْأَمْوَاتِ ، وَلَوْ عُلِمَتْ الْإِجَابَةُ لَكَانَ الدُّعَاءُ عَبَثًا ، وَكَذَلِكَ تَكْرِيرُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَالِافْتِرَاقِ مَعَ كَوْنِهِ دُعَاءً بِكُلِّ سَلَامَةٍ . وَكَذَلِكَ كَرَّرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِغْفَارَ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ سَبْعِينَ مَرَّةً أَوْ مِائَةَ مَرَّةٍ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ مَا يَسْتَغْفِرُ مِنْهُ بَلْ لِلْإِلْحَاحِ فِي الِاسْتِغْفَارِ عَلَى تَقْصِيرٍ وَاحِدٍ أَوْ تَقْصِيرَيْنِ وَاَللَّهُ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ أُمِرَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ وَعْدِهِ بِغُفْرَانِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ ؟ قُلْنَا وُعِدَ بِغُفْرَانٍ مَبْنِيٍّ عَلَى اسْتِغْفَارِهِ كَمَا وُعِدَ الْمُؤْمِنُونَ بِنَعِيمِ الْجِنَانِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْإِيمَانِ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا وَجَبَ تَكْرِيرُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ حُصُولُ الْإِجَابَةِ ؟ قُلْنَا لَا تُكَرَّرُ لِمَا فِي التَّكْرِيرِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا ضَابِطَ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ . فَإِنْ قِيلَ . إذًا بَعُدَ سُقُوطُ الْفَرْضِ بِصَلَاةِ الْفَجَرَةِ الَّذِينَ نُبْعِدُ إجَابَةَ دُعَائِهِمْ فَهَلَّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ الْمُصَلُّونَ بَرَرَةً يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ قَبُولُ دُعَائِهِمْ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْبَرَرَةَ لَا يُتَيَسَّرُونَ فِي أَوْقَاتِ حُضُورِ الْجَنَائِزِ وَرُبَّ فَاجِرٍ مَقْبُولِ الدُّعَاءِ لِشِدَّةِ تَضَرُّعِهِ وَقِيَامِهِ بِآدَابِ الدُّعَاءِ ، وَرُبَّ بَرٍّ مَرْدُودِ الدُّعَاءِ لِتَقْصِيرِهِ فِي الْقِيَامِ بِآدَابِهِ .
الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ الْمَصَالِحِ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَهُوَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا سُنَّةٌ عَلَى الْكِفَايَةِ كَالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، وَتَسْلِيمِ بَعْضِ الْجَمَاعَةِ عَلَى مَنْ مَرُّوا بِهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَمَا يُفْعَلُ بِالْأَمْوَاتِ مِمَّا نُدِبَ إلَيْهِ . وَالثَّانِي سُنَّةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ كَالرَّوَاتِبِ ، وَصِيَامِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ ، وَصَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ ، وَالتَّهَجُّدِ وَعِيَادَةِ الْمَرْضَى ، وَالِاعْتِكَافِ وَالتَّطَوُّعِ بِالنُّسُكَيْنِ ، وَالطَّوَافِ مِنْ غَيْرِ نُسُكٍ ، وَالصَّدَقَاتِ الْمَنْدُوبَاتِ ، وَمَصَالِحُ هَذَا دُونَ مَصَالِحِ الْوَاجِبِ . وَالْمَفَاسِدُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُؤْجَرُ عَلَى تَرْكِهِ إذَا نَوَى بِتَرْكِهِ الْقُرْبَةَ كَالتَّعَرُّضِ لِلدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ . وَالثَّانِي : مَا لَا يُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ وَتَفُوتُهُ مَصْلَحَةٌ بِتَرْكِهِ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَكْرُوهَاتِ ، وَغَمْسِ الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهِمَا لِمَنْ قَامَ مِنْ الْمَنَامِ ، وَتَرْكِ السُّنَنِ الْمَشْرُوعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ .
فِي انْقِسَامِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إلَى الْوَسَائِلِ وَالْمَقَاصِدِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَقَاصِدُ ، وَالثَّانِي وَسَائِلُ ، وَكَذَلِكَ الْمَكْرُوهَاتُ وَالْمُحَرَّمَاتُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَقَاصِدُ وَالثَّانِي : وَسَائِلُ ، وَلِلْوَسَائِلِ أَحْكَامُ الْمَقَاصِدِ ، فَالْوَسِيلَةُ إلَى أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ هِيَ أَفْضَلُ الْوَسَائِلِ ، وَالْوَسِيلَةُ إلَى أَرْذَلِ الْمَقَاصِدِ هِيَ أَرْذَلُ الْوَسَائِلِ ، ثُمَّ تَتَرَتَّبُ الْوَسَائِلُ بِتَرَتُّبِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ ، فَمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِلْوُقُوفِ عَلَى تَرَتُّبِ الْمَصَالِحِ عَرَفَ فَاضِلَهَا مِنْ مَفْضُولِهَا ، وَمُقَدَّمَهَا مِنْ مُؤَخَّرِهَا ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ فَيَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِمَعْرِفَةِ رُتَبِ الْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ يَدْرَأُ أَعْظَمَهَا بِأَخَفِّهَا عِنْدَ تَزَاحُمِهَا ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْعُلَمَاءُ فِي بَعْضِ رُتَبِ الْمَفَاسِدِ فَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا يُدْرَأُ مِنْهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ دَفْعِ جَمِيعِهَا ، وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِمَا ذَكَرْنَاهُ وَسَنَذْكُرُ أَمْثِلَةَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَصْلَحَةٌ أَوْجَبَهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَظَرًا لِعِبَادِهِ ، وَهِيَ مُتَفَاوِتَةُ الرُّتَبِ مُنْقَسِمَةٌ إلَى الْفَاضِلِ وَالْأَفْضَلِ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا . فَأَفْضَلُ الْمَصَالِحِ مَا كَانَ شَرِيفًا فِي نَفْسِهِ ، دَافِعًا لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ ، جَالِبًا لِأَرْجَحِ الْمَصَالِحِ ، وَقَدْ { سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ } . جَعَلَ الْإِيمَانَ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ لِجَلْبِهِ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ ، وَدَرْئِهِ لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ ، مَعَ شَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ وَشَرَفِ مُتَعَلَّقِهِ ، وَمَصَالِحُهُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا عَاجِلَةٌ وَهِيَ إجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ ، وَصِيَانَةُ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ وَالْحُرُمِ وَالْأَطْفَالِ . وَالثَّانِي : آجِلَةٌ وَهُوَ خُلُودُ الْجَنَانِ وَرِضَاءُ الرَّحْمَنِ . وَجَعْلُ الْجِهَادِ تِلْوَ الْإِيمَانِ ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِشَرِيفٍ فِي نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ وُجُوبُ الْوَسَائِلِ - وَفَوَائِدُهُ ضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا مَصَالِحُهُ ، وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ فَأَمَّا مَصَالِحُهُ الْعَاجِلَةُ فَإِعْزَازُ الدِّينِ ، وَمَحْقُ الْكَافِرِينَ ، وَشِفَاءُ صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ اغْتِنَامِ أَمْوَالِهِمْ وَتَخْمِيسِهَا ، وَإِرْقَاقِ نِسَائِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ . وَأَمَّا مَصَالِحُ الْآجِلَةِ فَالْأَجْرُ الْعَظِيمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } ، فَجَعَلَ الْأَجْرَ الْعَظِيمَ لِلْقَتْلَى وَالْغَالِبِينَ ، وَالْغَالِبُ أَفْضَلُ مِنْ الْقَتِيلِ ، لِأَنَّهُ حَصَّلَ مَقَاصِدَ الْجِهَادِ ، وَلَيْسَ الْقَتِيلُ مُثَابًا عَلَى الْقَتْلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ ، وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَى تَعَرُّضِهِ لِلْقَتْلِ فِي نُصْرَةِ الدِّينِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْ فَوَائِدِ الْجِهَادِ دَرْؤُهُ لِمَفَاسِدَ عَاجِلَةٍ وَآجِلَةٍ ، أَمَّا الْآجِلَةُ فَلِأَنَّهُ سَبَبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ ، وَالْغُفْرَانُ دَافِعٌ لِمَفَاسِدِ الْعِقَابِ . وَأَمَّا الْعَاجِلَةُ فَإِنَّهُ يَدْرَأُ الْكُفْرَ مِنْ صُدُورِ الْكَافِرِينَ إنْ قُتِلُوا أَوْ أَسْلَمُوا خَوْفًا مِنْ الْقَتْلِ ، وَكَذَلِكَ يَدْرَأُ اسْتِيلَاءَ الْكُفَّارِ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِينَ وَأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ وَإِرْقَاقِ حَرَمِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ ، وَانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الدِّينِ . وَجَعَلَ الْحَجَّ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ لِانْحِطَاطِ مَصَالِحِهِ عَنْ مَصَالِحِ الْجِهَادِ وَهُوَ أَيْضًا يَجْلِبُ الْمَصَالِحَ وَيَدْرَأُ الْمَفَاسِدَ . أَمَّا جَلْبُهُ لِلْمَصَالِحِ فَلِأَنَّ الْحَجَّ الْمَبْرُورَ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ وَأَمَّا دَرْؤُهُ لِلْمَفَاسِدِ فَإِنَّهُ يَدْرَأُ الْعُقُوبَاتِ بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ . قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، وَلَا تَزَالُ رُتَبُ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ تَتَنَاقَضُ إلَى رُتْبَةٍ لَوْ تَنَاقَضَتْ لَانْتَهَيْنَا إلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ الْمَنْدُوبَاتِ . وَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ رُتَبُ فَرْضِ الْكِفَايَةِ فِيمَا تَجْلِبُهُ مِنْ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَدْرَؤُهُ مِنْ مَفْسَدَةٍ ، فَقِتَالُ الدَّفْعِ أَفْضَلُ مِنْ قِتَالِ الطَّلَبِ ، وَدَفْعُ الصِّوَالِ عَنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَبْضَاعِ أَفْضَلُ مِنْ دَرْئِهِمْ عَنْ الْمَنَافِعِ وَالْأَمْوَالِ . وَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ رُتَبُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْمَفَاسِدِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : مِنْ رُتَبِ الْمَصَالِحِ : مَا نَدَبَ اللَّهُ عِبَادَهُ إلَيْهِ إصْلَاحًا لَهُمْ ، وَأَعْلَى رُتَبِ مَصَالِحِ النَّدْبِ دُونَ أَدْنَى رُتَبِ مَصَالِحِ الْوَاجِبِ ، وَتَتَفَاوَتُ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى مَصْلَحَةٍ يَسِيرَةٍ لَوْ فَاتَتْ لَصَادَفْنَا مَصَالِحَ الْمُبَاحِ . وَكَذَلِكَ مَنْدُوبُ الْكِفَايَةِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ مَصَالِحِهِ وَفَضَائِلِهِ .
فَائِدَةٌ فِي مَصَالِحِ الْمُبَاحِ : مَصَالِحُ الْمُبَاحِ عَاجِلَةٌ بَعْضُهَا أَنْفَعُ وَأَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا ، فَمَنْ أَكَلَ شِقَّ تَمْرَةٍ كَانَ مُحْسِنًا إلَى نَفْسِهِ بِمَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِشِقِّ تَمْرَةٍ كَانَ مُحْسِنًا إلَى نَفْسِهِ بِمَصْلَحَةٍ آجِلَةٍ ، وَإِلَى الْفُقَرَاءِ بِمَصْلَحَةٍ عَاجِلَةٍ ، وَمَنْ أَتَى مَصْلَحَةً أُخْرَوِيَّةً قَاصِرَةً عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَذُخْرُهَا ، وَمَنْ أَتَى مَصْلَحَةً مُتَعَدِّيَةً كَانَ لَهُ أَجْرُهَا وَلِمَنْ تَعَدَّتْ إلَيْهِ أَجْرُهَا الْآجِلُ إنْ كَانَتْ فِي دِينِهِ وَكَانَ نَفْعُهَا الْعَاجِلُ إنْ كَانَتْ فِي دُنْيَاهُ .
فِي بَيَانِ الْمَفَاسِدِ وَهِيَ ضَرْبَانِ : ضَرْبٌ حَرَّمَ اللَّهُ قُرْبَانَهُ ، وَضَرْبٌ كَرِهَ اللَّهُ إتْيَانَهُ ، وَالْمَفَاسِدُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ قُرْبَانَهُ رُتْبَتَانِ إحْدَاهُمَا : رُتْبَةُ الْكَبَائِرِ وَهِيَ مُنْقَسِمَةٌ إلَى الْكَبِيرِ وَالْأَكْبَرِ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهُمَا ، فَالْأَكْبَرُ أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ مَفْسَدَةً . وَكَذَلِكَ الْأَنْقَصُ فَالْأَنْقَصُ ، وَلَا تَزَالُ مَفَاسِدُ الْكَبَائِرِ تَتَنَاقَصُ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى مَفْسَدَةٍ لَوْ نَقَصَتْ لَوَقَعَتْ فِي أَعْظَمِ رُتَبِ مَفَاسِدِ الصَّغَائِرِ وَهِيَ الرُّتْبَةُ الثَّانِيَةُ . ثُمَّ لَا تَزَالُ مَفَاسِدُ الصَّغَائِرِ تَتَنَاقَصُ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى مَفْسَدَةٍ لَوْ فَاتَتْ لَانْتَهَتْ إلَى أَعْلَى رُتَبِ مَفَاسِدِ الْمَكْرُوهَاتِ وَهِيَ الضَّرْبُ الثَّانِي مِنْ رُتَبِ الْمَفَاسِدِ ، وَلَا تَزَالُ تَتَنَاقَصُ مَفَاسِدُ الْمَكْرُوهَاتِ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى حَدٍّ لَوْ زَالَ لَوَقَعَتْ فِي الْمُبَاحِ . وَقَدْ أَبَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفَاوُتِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثَ مَرَاتِبَ ، إذْ سُئِلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيُّ الذُّنُوبِ أَكْبَرُ ؟ فَقَالَ : { أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك ، قِيلَ ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَك قِيلَ . ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ : أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك } جَعَلَ الْكُفْرَ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ مَعَ قُبْحِهِ فِي نَفْسِهِ ، لِجَلْبِهِ لِأَقْبَحِ الْمَفَاسِدِ وَدَرْئِهِ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ ، فَإِنَّهُ يَجْلِبُ مَفَاسِدَ الْكُفْرِ وَيَدْرَأُ مَصَالِحَ الْإِيمَانِ . وَمَفَاسِدُهُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا عَاجِلٌ وَهُوَ إرَاقَةُ الدِّمَاءِ وَسَلْبُ الْأَمْوَالِ وَإِرْقَاقِ الْحَرَمِ وَالْأَطْفَالِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : آجِلٌ وَهُوَ خُلُودُ النِّيرَانِ مَعَ سُخْطِ الدَّيَّانِ . وَأَمَّا دَرْؤُهُ لِأَحْسَنِ الْمَصَالِحِ فَإِنَّهُ يَدْرَأُ فِي الدُّنْيَا عَنْ الْمُشْرِكِينَ التَّوْحِيدَ وَالْإِيمَانَ وَعَنْ الْإِسْلَامِ وَالْأَمْنِ مِنْ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ وَاغْتِنَامِ الْأَمْوَالِ ، وَيَدْرَأُ فِي الْآخِرَةِ نَعِيمَ الْجَنَانِ وَرِضَا الرَّحْمَنِ . وَجَعَلَ قَتْلَ الْأَوْلَادِ تَالِيًا لِاِتِّخَاذِ الْأَنْدَادِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِفْسَادِ وَقَطْعِ الْأَرْحَامِ وَالْخُرُوجِ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَالَةِ إلَى حَيِّزِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، مَعَ التَّعَرُّضِ لِعِقَابِ الْآخِرَةِ ، وَتَغْرِيمِ الدِّيَةِ وَالْكَفَّارَةِ ، وَالِانْعِزَالِ عَنْ الْوِلَايَةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ وَجَعَلَ الزِّنَا بِحَلِيلَةِ جَارِهِ تِلْوَ قَتْلِ الْأَوْلَادِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ الزِّنَا كَاخْتِلَافِ الْمِيَاهِ وَاشْتِبَاهِ الْأَنْسَابِ وَحُصُولِ الْعَارِ ، وَأَذِيَّةِ الْجَارِ ، وَالتَّعَرُّضِ لَحَدِّ الدُّنْيَا أَوْ لِعِقَابِ الْآخِرَةِ ، وَالِانْتِقَالِ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَالَةِ إلَى حَيِّزِ الْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَالِانْعِزَالِ عَنْ جَمِيعِ الْوِلَايَاتِ .
تَنْقَسِمُ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ إلَى نَفِيسٍ وَخَسِيسٍ ، وَدَقِيقٍ وَجُلٍّ ، وَكُثْرٍ وَقُلٍّ ، وَجَلِيٍّ وَخَفِيٍّ ، وَآجِلٍ أُخْرَوِيٍّ وَعَاجِلٍ دُنْيَوِيٍّ ، وَالدُّنْيَوِيُّ يَنْقَسِمُ إلَى مُتَوَقَّعٍ وَوَاقِعٍ ، وَمُخْتَلَفٍ فِيهِ وَمُتَّفَقٍ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ تَرْجِيحُ بَعْضِ الْمَصَالِحِ عَلَى بَعْضٍ ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمَصَالِحِ عَلَى بَعْضٍ ، وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمَفَاسِدِ عَلَى بَعْضٍ ، يَنْقَسِمُ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ وَالْمُخْتَلَفِ فِيهِ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ فَعَلَ مَا اُتُّفِقَ عَلَى صَلَاحِهِ ، وَتَرَكَ مَا اُتُّفِقَ عَلَى فَسَادِهِ ، وَأَسْعَدُ مِنْهُ مَنْ ضَمَّ إلَى ذَلِكَ فِعْلَ مَا اُخْتُلِفَ فِي صَلَاحِهِ ، وَتَرَكَ مَا اُخْتُلِفَ فِي فَسَادِهِ ، فَإِنَّ الِاحْتِيَاطَ لِحِيَازَةِ الْمَصَالِحِ بِالْفِعْلِ وَلِاجْتِنَابِ الْمَفَاسِدِ بِالتَّرْكِ ، وَقَلِيلٌ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ . وَقَدْ يُعَبَّرُ عَنْ الْقَلِيلِ بِالْمَعْدُومِ . فَمِنْ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَا يَشْتَرِكُ فِي مَعْرِفَتِهِ الْخَاصَّةُ وَالْعَامَّةُ ، وَمِنْهَا مَا يَنْفَرِدُ بِمَعْرِفَتِهِ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ ، وَلَا يَقِفُ عَلَى الْخَفِيِّ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ إلَّا مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ بِنُورٍ يَقْذِفُهُ فِي قَلْبِهِ ، وَهَذَا جَارٍ فِي مَصَالِحِ الدَّارَيْنِ وَمَفَاسِدِهِمَا ، وَفِي مِثْلِهِ طَالَ الْخِلَافُ وَالنِّزَاعُ بَيْنَ النَّاسِ فِي عُلُومِ الشَّرَائِعِ وَالطَّبَائِعِ ، وَتَدْبِيرِ الْمَسَالِكِ وَالْمَهَالِكِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْوِلَايَاتِ وَالنِّيَّاتِ وَجَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَلِأَجْلِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ نَصْبِ الْخَلِيفَتَيْنِ لِمَا يَقَعُ بَيْنَهُمَا مِنْ الِاخْتِلَافَاتِ فِي الْمَصَالِحِ وَالْأَصْلَحِ وَالْمَفَاسِدِ وَالْأَفْسَدِ ، لِأَنَّهُ لَوْ جَوَّزَ نَصْبَهُمَا لَتَعَطَّلَ تَحْصِيلُ مَا خَفِيَ مِنْ الْمَصَالِحِ وَاجْتِنَابِ مَا خَفِيَ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، وَكَذَلِكَ تَرْجِيحُ الْخَفِيِّ . وَأَمَّا نَصْبُ الْقَضَاءِ مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَحْكَامِ فَيَجُوزُ لِأَنَّ مَصَالِحَ الْقَضَاءِ خَاصَّةٌ ، وَمَصَالِحَ الْخِلَافَةِ عَامَّةً ، وَيَتَعَذَّرُ نَصْبُ قَاضٍ وَاحِدٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ نَصْبَ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ مِنْ الْوَسَائِلِ إلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ . وَأَمَّا نَصْبُ أَعْوَانِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فَمِنْ وَسَائِلِ الْوَسَائِلِ . وَكَذَلِكَ الرَّسَائِلُ الْإِلَهِيَّةُ وَسَائِلُ إلَى تَحْصِيلِ مَقَاصِدِ الشَّرَائِعِ وَهِيَ مِنْ أَفْضَلِ الْوَسَائِلِ وَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الشَّهَادَاتِ وَسِيلَةٌ إلَى أَدَائِهَا ، وَأَدَاؤُهَا وَسِيلَةٌ إلَى الْحُكْمِ بِهَا وَالْحُكْمُ بِهَا وَسِيلَةٌ إلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ .
الْأَفْعَالُ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا مَا خَفِيَتْ عَنَّا مَصَالِحُهُ وَمَفَاسِدُهُ فَلَا نُقْدِمُ عَلَيْهِ حَتَّى تَظْهَرَ مَصْلَحَتُهُ الْمُجَرَّدَةُ عَنْ الْمَفْسَدَةِ أَوْ الرَّاجِحَةُ عَلَيْهَا ، وَهَذَا الَّذِي جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِمَدْحِ الْأَنَاةِ فِيهِ إلَى أَنْ يَظْهَرَ رُشْدُهُ وَصَلَاحُهُ . الضَّرْبُ الثَّانِي مَا ظَهَرَتْ لَنَا مَصْلَحَتُهُ ، وَلَهُ حَالَانِ : أَحَدُهُمَا أَلَّا تُعَارِضَ مَصْلَحَتُهُ مَفْسَدَتَهُ وَلَا مَصْلَحَةً أُخْرَى ، فَالْأَوْلَى تَعْجِيلُهُ ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ تُعَارِضَ مَصْلَحَتُهُ مَصْلَحَةً هِيَ أَرْجَحُ مِنْهُ مَعَ الْخُلُوِّ عَنْ الْمَفْسَدَةِ ، فَيُؤَخَّرُ عَنْهُ رَجَاءً إلَى تَحْصِيلِهِ ، وَإِنْ عَارَضَتْهُ مَفْسَدَةٌ تُسَاوِيهِ قُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ التَّعْجِيلِ لِمَا ذَكَرْنَا فِيمَا خَلَا عَنْ الْمُعَارِضِ . وَالضَّابِطُ أَنَّهُ مَهْمَا ظَهَرَتْ الْمَصْلَحَةُ الْخَلِيَّةُ عَنْ الْمَفَاسِدِ يَسْعَى فِي تَحْصِيلِهَا ، وَمَهْمَا ظَهَرَتْ الْمَفَاسِدُ الْخَلِيَّةُ عَنْ الْمَصَالِحِ يَسْعَى فِي دَرْئِهَا ، وَإِنْ الْتَبَسَ الْحَالُ احْتَطْنَا لِلْمَصَالِحِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهَا وَفَعَلْنَاهَا ، وَلِلْمَفَاسِدِ بِتَقْدِيرِ وُجُودِهَا وَتَرَكْنَاهَا . وَإِنْ دَارَ الْفِعْلُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ وَأَتَيْنَا بِهِ ، وَهَذَا فِيمَا لَا تُشْتَرَطُ النِّيَّةُ فِيهِ كَدَفْعِ الصَّائِلِ عَنْ النَّفْسِ فَإِنَّهُ مَحْبُوبٌ عَلَى قَوْلٍ وَوَاجِبٌ عَلَى آخَرَ . وَأَمَّا مَا تُشْتَرَطُ فِيهِ النِّيَّةُ فَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ حَزْمِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ دَارَ بَيْنَ النَّدْبِ وَالْإِبَاحَةِ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ وَأَتَيْنَا بِهِ ، وَإِنْ دَارَ بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْمَكْرُوهِ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ حَرَامٌ وَاجْتَنَبْنَاهُ ، وَإِنْ دَارَ بَيْنَ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ بَنَيْنَا عَلَى أَنَّهُ مَكْرُوهٌ وَتَرَكْنَاهُ . وَقَدْ جَاءَتْ الشَّرِيعَةُ بِمَدْحِ السُّرْعَةِ فِي أُمُورٍ كَالذَّبْحِ وَالنَّحْرِ وَضَرْبِ الرِّقَابِ فِي الْقِصَاصِ ، لِمَا فِي السُّرْعَةِ فِي ذَلِكَ مِنْ تَهْوِينِ الْمَوْتِ ، وَقَدْ كَتَبَ اللَّهُ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَمَرَ بِإِحْسَانِ الْقِتْلَةِ وَالذِّبْحَةِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا قِصَاصُ الْأَطْرَافِ تُحْمَدُ فِيهِ السُّرْعَةُ . وَلَوْ صِيلَ عَلَى مُسْلِمٍ فِي نَفْسٍ أَوْ بِضْعٍ أَوْ مَالٍ بِحَيْثُ لَوْ اقْتَصَرْنَا فِي الدَّفْعِ عَنْهُ لَتَحَقَّقَتْ الْمَفْسَدَةُ ، فَإِنَّ السُّرْعَةَ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ وَاجِبٌ لَا يَسَعُ تَرْكُهَا . وَكَذَلِكَ السُّرْعَةُ فِي الْقِتَالِ وَمُكَافَحَةِ الْأَبْطَالِ ، وَقَدْ مَدَحَ اللَّهُ الْمُسَارَعَةَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَثْنَى عَلَى الْمُسَارِعِينَ فِيهَا ، وَقَالَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَعَجَّلَتْ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى } . وَقَدْ جَعَلَ لِمَنْ قَتَلَ الْوَزَغَ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ مِائَةَ حَسَنَةٍ ، وَلِمَنْ قَتَلَهُ بِضَرْبَتَيْنِ سَبْعِينَ حَسَنَةً ، لِمَا فِي الضَّرْبَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى إزْهَاقِ رُوحِهِ وَدَفْعِ ضَرَرِهِ وَإِحْسَانِ قِتْلَتِهِ .
قَاعِدَةٌ فِي الْمُوَازَنَةِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَصْلَحَتَانِ وَتَعَذَّرَ جَمْعُهُمَا فَإِنْ عُلِمَ رُجْحَانُ إحْدَاهُمَا قُدِّمَتْ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ رُجْحَانٌ ، فَإِنْ غَلَبَ التَّسَاوِي فَقَدْ يَظْهَرُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ رُجْحَانُ إحْدَاهُمَا فَيُقَدِّمُهَا وَيَظُنُّ آخَرُ رُجْحَانَ مُقَابِلِهَا فَيُقَدِّمُهُ ، فَإِنْ صَوَّبْنَا الْمُجْتَهِدَيْنِ فَقَدْ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَصْلَحَةٌ لَمْ يُحَصِّلْهَا الْآخَرُ ، وَإِنْ حَصَرْنَا الصَّوَابَ فِي أَحَدِهِمَا فَاَلَّذِي صَارَ إلَى الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ مُصِيبٌ لِلْحَقِّ وَاَلَّذِي صَارَ إلَى الْمَصْلَحَةِ الْمَرْجُوحَةِ مُخْطِئٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، إذَا بَذَلَ جُهْدَهُ فِي اجْتِهَادِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَعَارَضَتْ الْمَفْسَدَةُ وَالْمَصْلَحَةُ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ تُصَوِّبُونَ الْمُخْتَلِفَيْنِ ، مَعَ أَنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ أَصَابَ الْمَرْجُوحَ الَّذِي لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ لَمَّا جَازَ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَيْهِ . قُلْنَا : تَرْكُ الرُّجْحَانِ رُخْصَةً عَلَى خِلَافِ الْقَوَاعِدِ وَفِي الرُّخَصِ تُتْرَكُ الْمَصَالِحُ الرَّاجِحَةُ إلَى الْمَصَالِحِ الْمَرْجُوحَةِ لِلْعُذْرِ دَفْعًا لِلْمَشَاقِّ ، وَلَوْ قُلْنَا بِوُجُوبِ الِاسْتِدْرَاكِ لَأَدَّى إلَى مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ عَامَّةٍ بِخِلَافِ مَنْ أَخْطَأَ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ ، وَالْأَقْيِسَةَ الْجَلِيَّةَ أَوْ الْقَوَاعِدَ الْكُلِّيَّةَ ، فَإِنَّ خَطَأَ ذَلِكَ لَا يَقَعُ إلَّا نَادِرًا ، فَمَنْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ فَيَجِبُ اسْتِدْرَاكُهُ لِنُدْرَتِهِ وَقِلَّتِهِ . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرْعَ يَجْعَلُ الْمَصْلَحَةَ الْمَرْجُوحَةَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُصُولِ إلَى الرَّاجِحَةِ أَوْ عِنْدَ مَشَقَّةِ الْوُصُولِ إلَى الرَّاجِحَةِ ، بَدَلًا مِنْ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ ، كَمَا يُبَدَّلُ الْوُضُوءُ بِالتَّيَمُّمِ ، وَالصِّيَامُ بِالْإِعْتَاقِ ، وَالْإِطْعَامُ بِالصِّيَامِ ، وَالْعِرْفَانُ بِالِاعْتِقَادِ فِي حَقِّ الْعَوَامّ ، وَالْفَاتِحَةُ بِالْأَذْكَارِ ، وَجِهَةُ السَّفَرِ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ بِالْقِبْلَةِ ، وَجِهَةُ الْمُقَاتَلَةِ فِي الْجِهَادِ بِالْقِبْلَةِ . ( فَائِدَةٌ ) الْحِكْمَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ ، قَالَ الشَّاعِرُ : أَبْنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَغْضَبَا أَيْ امْنَعُوهُمْ . وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ تَرْكِ الْمَأْمُورَاتِ أَوْ فِعْلُ الْمَنْهِيَّاتِ ، وَحَاصِلُهُ الْمَنْعُ مِنْ تَرْكِ الْمَصَالِحِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ فِعْلِ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ ، وَالْوَعْظُ وَهُوَ الْأَمْرُ بِجَلْبِ الْمَصَالِحِ ، الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ أَوْ النَّهْيُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَفَاسِدِ الْخَالِصَةِ أَوْ الرَّاجِحَةِ ، وَاَلَّذِي يُسَمِّيهِ الْجَهَلَةُ الْبَطَلَةُ سِيَاسَةً هُوَ فِعْلُ الْمَفَاسِدِ الرَّاجِحَةِ أَوْ تَرْكُ الْمَصَالِحِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَفَاسِدِ . فَفِي تَضْمِينِ الْمُكُوسِ وَالْخُمُورِ وَالْأَبْضَاعِ مَصَالِحُ مَرْجُوحَةٌ مَغْمُورَةٌ بِمَفَاسِدِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ : { وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ } ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَفْتِنُونَ الْأَشْقِيَاءَ أَنْفُسَهُمْ بِإِيثَارِ الْمَفَاسِدِ الرَّاجِحَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ قَضَاءً لِلَذَّاتِ الْأَفْرَاحِ الْعَاجِلَةِ ، وَيَتْرُكُونَ الْمَصَالِحَ الرَّاجِحَةَ لِلَذَّاتٍ خَسِيسَةٍ أَوْ أَفْرَاحٍ دَنِيئَةٍ ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْعَاجِلَةِ أَوْ الْآجِلَةِ . وَذَلِكَ كَشُرْبِ الْخُمُورِ وَالْأَنْبِذَةِ لِلَذَّةِ إطْرَابِهَا ، وَالزِّنَا أَوْ اللِّوَاطِ ، وَأَذِيَّةِ الْأَعْدَاءِ الْمُحَرَّمَةِ ، وَقَتْلِ مَنْ أَغْضَبَهُمْ وَسَبِّ مَنْ غَاضَبَهُمْ ، وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَالتَّكَبُّرِ وَالتَّجَبُّرِ ، وَكَذَلِكَ يَهْرُبُونَ مِنْ الْآلَامِ وَالْغُمُومِ الْعَاجِلَةِ الَّتِي أُمِرْنَا بِتَحَمُّلِهَا لِمَا فِي تَحَمُّلِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَاجِلَةِ ، وَلَا يُبَالُونَ بِمَا يَلْتَزِمُونَ مِنْ تَحَمُّلِ أَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِلَذَّاتِ أَدْنَاهُمَا ، وَكَذَلِكَ يَتْرُكُونَ أَعْظَمَ الْمَصْلَحَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِلَذَّاتِ أَدْنَاهُمَا . أَسْكَرَتْهُمْ اللَّذَّاتُ وَالشَّهَوَاتُ فَنَسُوا الْمَمَاتَ وَمَا بَعْدَهُ مِنْ الْآفَاتِ فَوَيْلٌ لِمَنْ تَرَكَ سِيَاسَةَ الرَّحْمَنِ ، وَاتَّبَعَ سِيَاسَةَ الشَّيْطَانِ ، وَارْتَكَبَ الْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ ، أُولَئِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ وَالضَّلَالِ . وَالْجَهْلُ مَفْسَدَةٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا يَجِبُ إزَالَتُهُ كَالْجَهْلِ بِمَا يَجِبُ تَعَلُّمُهُ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا تَجِبُ إزَالَتُهُ بِبَعْضِ أَحْكَامِ الْفُرُوعِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اُخْتُلِفَ فِي إزَالَتِهِ . وَالْعِرْفَانُ مَصْلَحَةٌ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : أَحَدُهَا مَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ مِنْ عُلُومِ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا لَا يَجِبُ تَحْصِيلُهُ وَلَا حَدَّ لَهُ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ تَحْصِيلِهِ مِنْ الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ .
إذَا اجْتَمَعَتْ الْمَصَالِحُ الْأُخْرَوِيَّةُ الْخَالِصَةُ ، فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَاهَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ تَحْصِيلُهَا حَصَّلْنَا الْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ وَالْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . وَقَوْلُهُ : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ } ، وَقَوْلُهُ : { وَأْمُرْ قَوْمَك يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } ، فَإِذَا اسْتَوَتْ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ تَخَيَّرْنَا ، وَقَدْ يَقْرَعُ ، وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ ، وَلِبَيَانِ الْأَفْضَلِ وَتَقْدِيمِ الْفَاضِلِ عَلَى الْمَفْضُولِ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : تَقْدِيمُ الْعِرْفَانِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ عَلَى الْإِيمَانِ بِتِلْكَ ، وَيَقُومُ الِاعْتِقَادُ فِي حَقِّ الْعَامَّةِ مَقَامَ الْعِرْفَانِ ، وَيَقُومُ الْإِيمَانُ الْمَبْنِيُّ عَلَى الْعِرْفَانِ لِتَعَذُّرِ وُصُولِ الْعَامَّةِ إلَى الْعِرْفَانِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ الْإِيمَانِ ، وَعَلَى ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ الشَّرَائِعِ وَالْأَخْبَارِ وَعَذَابِ الْفُجَّارِ وَثَوَابِ الْأَبْرَارِ ، وَالْعِرْفَانُ مُتَقَدِّمٌ عَلَى ذَلِكَ لِشَرَفِهِ فِي نَفْسِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالدَّيَّانِ ، وَلِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ ، وَهُوَ أَيْضًا مُقَدَّمٌ بِالزَّمَانِ إلَّا عَلَى النَّصِّ الدَّالِّ عَلَيْهِ الْمُفْضِي إلَيْهِ ، وَلَيْسَ يَقْدُمُ النَّظَرُ إلَّا بِالزَّمَانِ ، وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ وَالرُّسُلِ ، إذْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنَ بِالرَّسُولِ وَالرِّسَالَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الْمُرْسِلَ ، فَقَدْ تَأَخَّرَ لِقُصُورِ رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْإِيمَانِ . وَالْعِرْفَانِ لِكَوْنِهِ تَعَلَّقَ بِمَخْلُوقٍ ، وَلِتَعَذُّرِ تَحْصِيلِهِ قَبْلَ تَحْصِيلِ الِاعْتِقَادِ وَالْإِيمَانِ وَالْعِرْفَانِ ، وَلِفَضْلِ الْإِيمَانِ تَأَخَّرَتْ الْوَاجِبَاتُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ تَرْغِيبًا فِيهِ ، فَإِنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الِابْتِدَاءِ لَنَفَرُوا مِنْ الْإِيمَانِ لِثِقَلِ تَكَالِيفِهِ . وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا . أَنَّ اللَّهَ أَخَّرَ إيجَابَ الصَّلَاةِ إلَى لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْجَبَهَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا مِنْ ثِقَلِهَا عَلَيْهِمْ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الصِّيَامُ لَوْ وَجَبَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : تَأْخِيرُ وُجُوبِ الزَّكَاةِ إلَى مَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ فِي الِابْتِدَاءِ لَكَانَ إيجَابُهَا أَشَدَّ تَنْفِيرًا لِغَلَبَةِ الضِّنَّةِ بِالْأَمْوَالِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : الْجِهَادُ لَوْ وَجَبَ فِي الِابْتِدَاءِ لَأَبَادَ الْكَفَرَةُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ ؛ لِقِلَّةِ الْمُؤْمِنِينَ وَكَثْرَةِ الْكَافِرِينَ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : الْقِتَالُ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ لَوْ أُجِّلَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا مِنْهُ لِشِدَّةِ اسْتِعْظَامِهِمْ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْقِتَالُ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : الْقَصْرُ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، لَوْ ثَبَتَ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ لَنَفَرَتْ الْكُفَّارُ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَصْرُ عَلَى ثَلَاثِ طَلَقَاتٍ ؛ فَتَأَخَّرَتْ هَذِهِ الْوَاجِبَاتُ تَأْلِيفًا عَلَى الْإِسْلَامِ الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وَاجِبٍ ، وَمَصْلَحَتُهُ تَرْبُو عَلَى جَمِيعِ الْمَصَالِحِ . وَلِمِثْلِ هَذَا قَرَّ الشَّرْعُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْمَعْقُودَةِ عَلَى خِلَافِ شَرَائِطِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ أَسْقَطَ عَنْ الْمَجَانِينِ مَا يُتْلِفُونَهُ مِنْ أَنْفُسِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ لَوْ أَلْزَمَهُمْ بِذَلِكَ لَنَفَرُوا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ . وَكَذَلِكَ بُنِيَ عَلَى الْإِسْلَامِ غُفْرَانُ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لِأَنَّ عَهْدَهَا لَوْ بَقِيَتْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَنَفَرُوا ، وَكَذَلِكَ قَالَ جَمَاعَةٌ قَدْ زَنَوْا فَأَكْثَرُوا مِنْ الزِّنَا وَمِنْ غَيْرِهِ مِنْ الْكَبَائِرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . إنَّ مَا تَقُولُ وَتَدْعُو إلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : { قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةُ ، وَقَالَ فِي غَيْرِهِمْ : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ } ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُمْ فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ بِإِفْشَاءِ السَّلَامِ . وَإِطْعَامِ الطَّعَامِ ، وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ ، وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مُلَائِمًا لِطِبَاعِهِمْ حَاثًّا عَلَى الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ أَلِفَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَاعَةٌ عَلَى الْإِسْلَامِ بِمَا دَفَعَهُ لَهُمْ مِنْ الْأَمْوَالِ ، وَامْتَنَعَ مِنْ قَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُنَافِقِينَ قَدْ عُرِفَ بِنِفَاقِهِمْ خَوْفًا أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِأَنَّهُ أَخَذَ فِي قَتْلِ أَصْحَابِهِ فَيَنْفِرُوا مِنْ الدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ ، فَهَذِهِ كُلُّهَا مَصَالِحُ أُخِّرَتْ ، لِمَا فِي تَقْدِيمِهَا مِنْ الْمَفَاسِدِ الْمَذْكُورَةِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي مِنْ تَقْدِيمِ الْفَاضِلِ عَلَى الْمَفْضُولِ : تَقْدِيمُ بَعْضِ الْفَرَائِضِ عَلَى بَعْضٍ ، كَتَقْدِيمِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : تَقْدِيمُ كُلِّ فَرِيضَةٍ عَلَى نَوْعِهَا مِنْ النَّوَافِلِ كَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الطَّهَارَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا ، وَفَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا ، وَفَرَائِضِ الصَّدَقَاتِ عَلَى نَوَافِلِهَا ، وَتَقْدِيمِ فَرَائِضِ الصِّيَامِ عَلَى نَوَافِلِهِ ، وَكَتَقْدِيمِ فَرْضِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ عَلَى نَوَافِلِهِمَا ، مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَقَعَانِ إلَّا وَاجِبَيْنِ ، لِأَنَّهُمَا يَجِبَانِ بِالشُّرُوعِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ مَا أَوْجَبَهُ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ فِي رُتْبَةِ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ ، وَيَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الْمَفْرُوضَاتِ عَلَى نَوْعِهَا مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْكِتَابِ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِكَايَةً عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ : { وَلَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْت عَلَيْهِ } .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : تَقْدِيمُ فَرَائِضِ الصَّلَوَاتِ وَنَوَافِلِهَا عَلَى مَفْرُوضَاتِ الْأَعْمَالِ وَنَوَافِلِهَا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } ، هَذَا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِيهِ إشْكَالٌ ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { سُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، قِيلَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : حَجٌّ مَبْرُورٌ } ، وَيَبْعُدُ أَنْ تَكُونَ صَلَاةُ الصُّبْحِ أَفْضَلَ مِنْ حَجَّةٍ مَبْرُورَةٍ ، وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ أَفْضَلَ مِنْ حَجَّةِ التَّطَوُّعِ . وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِهَادَ تِلْوَ الْإِيمَانِ ، وَجَعَلَ الْحَجَّ فِي الرُّتْبَةِ الثَّالِثَةِ ، فَإِنْ قُدِّمَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا كَانَ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْحَدِيثِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْهُمَا لَمْ يَسْتَقِمْ كَوْنُ الصَّلَاةِ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْبَدَنِيَّةِ ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّ الْمَفْرُوضَ أَفْضَلَ مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ وَيَجْعَلَ اسْتِغْرَاقَ الصَّلَاةِ لِأَزْمَانٍ تَتَّسِعُ لِلْحَجِّ أَفْضَلَ مِنْ الْحَجِّ ، لِأَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَى اللَّهِ بِالصَّلَاةِ فِي زَمَنٍ يَتَّسِعُ لِلْحَجِّ أَكْمَلُ وَأَتَمُّ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَيْهِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ وَقَدْ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ } ، { وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ : الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا } ، { وَسُئِلَ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ ؟ فَقَالَ . حَجٌّ مَبْرُورٌ } ، وَهَذَا جَوَابٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِ فَيَخْتَصُّ بِمَا يَلِيقُ بِالسَّائِلِ مِنْ الْأَعْمَالِ ، لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا يَسْأَلُونَ عَنْ الْأَفْضَلِ إلَّا لِيَتَقَرَّبُوا بِهِ إلَى ذِي الْجَلَالِ ، فَكَأَنَّ السَّائِلَ قَالَ : { أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ لِي ؟ فَقَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ } لِمَنْ لَهُ وَالِدَانِ يَشْتَغِلُ بِبِرِّهِمَا ، وَقَالَ لِمَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ لَمَّا سَأَلَهُ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ : { الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، وَقَالَ لِمَنْ يَعْجِزُ عَنْ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ : { الصَّلَاةُ عَلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا } ، وَيَجِبُ التَّنْزِيلُ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِئَلَّا يَتَنَاقَضَ الْكَلَامُ فِي التَّفْضِيلِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : تَقْدِيمُ الْمُبْدَلَاتِ عَلَى أَبِدَالِهَا ؛ كَتَقْدِيمِ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ عَلَى الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ ، وَكَتَقْدِيمِ الطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ عَلَى الطَّهَارَةِ بِالتُّرَابِ ، وَكَتَقْدِيمِ الْعِتْقِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَالظِّهَارِ وَإِفْسَادِ الصِّيَامِ عَلَى صَوْمِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ ؛ فَإِنَّ مَصْلَحَةَ الْبَدَلِ قَاصِرَةٌ عَنْ مَصْلَحَةِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : تَقْدِيمُ مَا شُرِعَ فِيهِ الْجَمَاعَةُ مِنْ الصَّلَوَاتِ عَلَى مَا لَمْ تُشْرَعْ فِيهِ ، إذَا كَانَ مَخْصُوصًا بِأَوْقَاتٍ كَالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ ، لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْفَرَائِضَ فِي وَصْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : شَرْعِيَّةُ الْجَمَاعَاتِ . وَالثَّانِي : تَقْدِيرُ الْأَوْقَاتِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : تَقْدِيمُ بَعْضِ الرَّوَاتِبِ عَلَى بَعْضٍ ؛ كَتَقْدِيمِ الْوَتْرِ وَسُنَّةِ الْفَجْرِ عَلَى سَائِرِ الرَّوَاتِبِ ، وَهَلْ يُقَدَّمُ الْوَتْرُ عَلَى سُنَّةِ الْفَجْرِ أَوْ بِالْعَكْسِ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَالْأَصَحُّ تَقْدِيمُ الْوَتْرِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : تَقْدِيمُ إنْقَاذِ الْغَرْقَى الْمَعْصُومِينَ عَلَى أَدَاءِ الصَّلَوَاتِ ، لِأَنَّ إنْقَاذَ الْغَرْقَى الْمَعْصُومِينَ عِنْدَ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُنْقِذَ الْغَرِيقَ ثُمَّ يَقْضِي الصَّلَاةَ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ مَا فَاتَهُ مِنْ مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَا يُقَارِبُ إنْقَاذَ نَفْسٍ مُسْلِمَةٍ مِنْ الْهَلَاكِ . وَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ غَرِيقًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْقَاذِهِ إلَّا بِالْفِطْرِ ، أَوْ رَأَى مَصُولًا عَلَيْهِ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهُ إلَّا بِالتَّقَوِّي بِالْفِطْرِ ، فَإِنَّهُ يُفْطِرُ وَيُنْقِذُهُ ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَصَالِحِ ، لِأَنَّ فِي النُّفُوسِ حَقًّا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَحَقًّا لِصَاحِبِ النَّفْسِ ، فَقُدِّمَ ذَلِكَ عَلَى فَوَاتِ أَدَاءِ الصَّوْمِ دُونَ أَصْلِهِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ : تَقْدِيمُ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ وَإِنْ خِيفَ فَوَاتُهُمَا لِتَأَكُّدِ تَعْجِيلِهَا ، وَتُقَدَّمُ عَلَى الْجُمُعَةِ إنْ اتَّسَعَ وَقْتُ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ خِفْنَا تَغَيُّرَ الْمَيِّتِ قَدَّمْنَاهُ عَلَى الْجُمُعَةِ وَإِنْ فَاتَتْ الْجُمُعَةُ ، لِأَنَّ حُرْمَتَهُ آكَدُ مِنْ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ وَالرَّبِّ عَلَى مَحْضِ حَقِّ الْعَبْدِ ، مَعَ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُدْفَنَ الْمَيِّتُ ثُمَّ تُقْضَى الصَّلَاةُ . وَلَوْ قَدَّمْنَا الْجُمُعَةَ لَسَقَطَتْ حُرْمَةُ الْمَيِّتِ لَا إلَى بَدَلٍ ، وَإِنْ لَمْ يُخَفْ تَغَيُّرُ الْمَيِّتِ فَقَوْلَانِ ، وَلَوْ اجْتَمَعَتْ الْجُمُعَةُ مَعَ الْكُسُوفِ خَطَبَ لِلْجُمُعَةِ وَذَكَرَ فِيهَا الْكُسُوفَ ، فَإِنْ قَدَّمْنَا الْكُسُوفَ عَلَى الْعِيدِ صَلَّى الْكُسُوفَ وَعَقَّبَهُ بِالْعِيدِ ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ أَهَمُّ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ ، ثُمَّ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ لِلْعِيدِ وَالْكُسُوفِ .
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : إذَا ضَاقَ وَقْتُ الْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ لِغَيْرِهَا ، فَذَكَرَ صَلَاةً نَسِيَهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ الْمُؤَدَّاةِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا فَلْيُؤَدِّ الْأَدَاءَ وَيَقْضِي الْفَائِتَةَ بَعْدَ خُرُوجِ الْوَقْتِ ، لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْمَقْضِيَّةَ عَلَى الْمُؤَدَّاةِ لَفَاتَتْ رُتْبَةُ الْأَدَاءِ فِي الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا فَتَفُوتُ مَصْلَحَةُ الْأَدَاءِ فِي الصَّلَاتَيْنِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحْصِيلَ الْمَصْلَحَةِ فِي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ أَوْلَى مِنْ تَفْوِيتِهَا فِي الصَّلَاتَيْنِ ، وَلَا يَتِمُّ قَوْلُ الْمُخَالِفِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ فَضِيلَةَ تَقْدِيمِ الْمَقْضِيَّةِ تُزَكَّى عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَضِيلَةِ الْأَدَاءِ فِي إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْأَفْضَلِ فَالْأَفْضَلِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ .
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : إذَا ضَاقَ عَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالرَّاتِبَةِ وَالْفَرِيضَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ إلَّا لِلْفَرِيضَةِ ، فَإِنَّا نُقَدِّمُ الْفَرِيضَةَ لِكَمَالِ مَصْلَحَةِ أَدَائِهَا عَلَى مَصْلَحَةِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالسُّنَّةِ الرَّاتِبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الرَّوَاتِبُ وَالْفَرَائِضُ قَابِلَةً لِلْقَضَاءِ ، فَإِنَّ فَضِيلَةَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَتَمُّ مِنْ فَضِيلَةِ أَدَاءِ النَّوَافِلِ ، فَقَدَّمْنَا أَفْضَلَ الْأَدَاءَيْنِ عَلَى الْآخَرِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : إذَا ضَاقَ عَلَى الْمُحْرِمِ وَقْتُ عِشَاءِ الْآخِرَةِ بِحَيْثُ لَا يَتَّسِعُ إلَّا لِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا لَفَاتَهُ إتْيَانُ عَرَفَةَ ، فَقَدْ قِيلَ يَدَعُ الصَّلَاةَ وَيَذْهَبُ إلَى عَرَفَةَ لِأَنَّ أَدَاءَ فَرْضِ الْحَجِّ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ فَرْضِ الصَّلَاةِ إذْ جَعَلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْوَ الْجِهَادِ وَجَعَلَ الْجِهَادَ تِلْوَ الْإِيمَانِ ، وَقِيلَ يَشْتَغِلُ بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنْ أَدَاءِ الْحَجِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ . { وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ } ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ فَيُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إلَى عَرَفَةَ ، فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ ، لِأَنَّ مَشَقَّةَ فَوَاتِ الْحَجِّ عَظِيمَةٌ ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يُصَلِّيَ صَلَاةَ الْخَوْفِ لِأَجْلِ حِفْظِ مَالٍ يَسِيرٍ ، فَجَوَازُهُ لِحِفْظِ أَدَاءِ الْحَجِّ أَوْلَى الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : تَقْدِيمُ الْكَفَّارَاتِ عَلَى التَّطَوُّعَاتِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : النَّفَقَاتُ الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمُفْتَقِرَاتِ إلَى النِّيَّاتِ ، فَيُقَدِّمُ الْمَرْءُ نَفْسَهُ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَزَوْجَاتِهِ ، وَيُقَدِّمُ نَفَقَةَ زَوْجَاتِهِ عَلَى نَفَقَةِ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ ، لِأَنَّهَا مِنْ تَتِمَّةِ حَاجَاتِهِ ، وَتُقَدَّمُ نَفَقَةُ الْقَرِيبِ عَلَى نَفَقَةِ الرَّقِيقِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ ، وَتُقَدَّمُ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ عَلَى الْقَرِيبِ وَذَلِكَ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الرَّقِيقُ مُضْطَرًّا يُخْشَى هَلَاكُهُ وَالْقَرِيبُ مُحْتَاجًا لَا يُخْشَى هَلَاكُهُ ، وَتُقَدَّمُ نَفَقَةُ الرَّقِيقِ عَلَى نَفَقَةِ الْبَهَائِمِ وَالْأَنْعَامِ ، لِأَنَّ حُرْمَتَهُ آكَدُ وَمَصْلَحَتَهُ أَعْظَمُ ، وَلِذَلِكَ جَازَ بَيْعُ الْحَيَوَانِ حِفْظًا لِرُوحِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ مَلَكَ حَيَوَانًا يُؤْكَلُ وَحَيَوَانًا لَا يُؤْكَلُ وَلَمْ يَجِدْ إلَّا نَفَقَةَ أَحَدِهِمَا وَتَعَذَّرَ بَيْعُهُمَا احْتَمَلَ أَنْ يُقَدِّمَ نَفَقَةَ مَا لَا يُؤْكَلُ عَلَى نَفَقَةِ مَا يُؤْكَلُ وَيَذْبَحَ الْمَأْكُولَ ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ الْمَأْكُولُ يُسَاوِي أَلْفًا وَغَيْرُ الْمَأْكُولِ يُسَاوِي دِرْهَمًا ، فَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ .
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : إذَا اجْتَمَعَ مُضْطَرَّانِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَدْفَعُ ضَرُورَتَهُمَا لَزِمَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الضَّرُورَتَيْنِ تَحْصِيلًا لِلْمَصْلَحَتَيْنِ ، وَإِنْ وَجَدَ مَا يَكْفِي ضَرُورَةَ أَحَدِهِمَا ، فَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الضَّرُورَةِ وَالْقَرَابَةِ وَالْجِوَارِ وَالصَّلَاحِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يُقَسِّمَهُ عَلَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى ، مِثْلَ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا أَوْ وَالِدَةً ، أَوْ قَرِيبًا أَوْ زَوْجَةً ، أَوْ وَلِيًّا مِنْ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ إمَامًا مُقْسِطًا أَوْ حَاكِمًا عَدْلًا ، قُدِّمَ الْفَاضِلُ عَلَى الْمَفْضُولِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ وَجَدَ الْمُكَلَّفُ مُضْطَرَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَمَعَهُ رَغِيفٌ لَوْ أَطْعَمَهُ لِأَحَدِهِمَا لَعَاشَ يَوْمًا وَلَوْ أَطْعَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ لَعَاشَ نِصْفَ يَوْمٍ ، فَهَلْ يَجُوزُ أَنْ يُطْعِمَهُ أَحَدَهُمَا أَمْ يَجِبُ فَضُّهُ عَلَيْهَا ، فَالْمُخْتَارُ أَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا ذَكَرْتُهُ مِنْ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ يَكُونُ وَلِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَالْعَدْلُ التَّسْوِيَةُ ، فَدَفْعُهُ إلَيْهِمَا عَدْلٌ وَإِنْصَافٌ وَإِحْسَانٌ مُنْدَرِجٌ فِي قَوْله تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ } . وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ مُحْتَاجَيْنِ فَإِنَّهُ يُنْدَبُ إلَى فَضِّ الرَّغِيفِ عَلَيْهِمَا ، وَأَلَّا يَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِهِ لِمَا ذَكَرْتُهُ ، وَلِأَنَّ تَخْصِيصَ أَحَدِهِمَا مُوغِرٌ لِصَدْرِ الْآخَرِ مُؤْذٍ لَهُ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهُ وَلَدَانِ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى قُوتِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ قِيلَ إذَا كَانَ نِصْفُ الرَّغِيفِ شِبَعًا لِأَحَدِ وَلَدَيْهِ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ الْآخَرِ فَكَيْفَ يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا ؟ قُلْت يَفُضُّهُ عَلَيْهِمَا بِحَيْثُ يَسُدُّ مِنْ جَوْعَةِ أَحَدِهِمَا مَا يَسُدُّ مِنْ جَوْعَةِ الْآخَرِ ، فَإِذَا كَانَ ثُلُثُ الرَّغِيفِ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ أَحَدِهِمَا ، وَثُلُثَاهُ سَادًّا لِنِصْفِ جَوْعَةِ الْآخَرِ فَلْيُوَزِّعْهُ عَلَيْهِمَا كَذَلِكَ ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْإِنْصَافُ ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ الْقُدْرَةِ إشْبَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ اخْتِلَافِ مِقْدَارِ كِلَيْهِمَا ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَعْظَمَ إنَّمَا هُوَ كِفَايَةُ الْبَدَنِ فِي التَّغْذِيَةِ . وَكَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُطْعِمَ الْكَبِيرَ الرَّغِيبَ أَكْثَرَ مِمَّا يُطْعِمُ الصَّغِيرَ الزَّهِيدَ ، وَلِمِثْلِ هَذَا يُعْطَى الرَّاجِلُ سَهْمًا وَاحِدًا مِنْ الْغَنَائِمِ وَيُعْطَى الْفَارِسُ ثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ ، دَفْعًا لِحَاجَتَيْهِمَا ، فَإِنَّ الرَّاجِلَ يَأْخُذُ سَهْمًا لِحَاجَتِهِ ، وَالْفَارِسَ يَأْخُذُ أَقْوَى الْأَسْهُمِ لِحَاجَتِهِ وَالسَّهْمُ الثَّانِي لِفَرَسِهِ وَالسَّهْمُ الثَّالِثُ لِسَائِسِ فَرَسِهِ ، فَيُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ الَّذِي أُخِذَ بِسَبَبِ الْقِتَالِ . فَإِنْ قِيلَ لِمَ قَسَّمَ مَالَ الْمَصَالِحِ عَلَى الْحَاجَاتِ دُونَ الْفَضَائِلِ ؟ قُلْنَا ذَهَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قِسْمَتِهِ عَلَى الْفَضَائِلِ تَرْغِيبًا لِلنَّاسِ فِي الْفَضَائِلِ الدِّينِيَّةِ ، وَخَالَفَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ لَمَّا الْتَمَسَ مِنْهُ تَفْضِيلَ السَّابِقِينَ عَلَى اللَّاحِقِينَ فَقَالَ : إنَّمَا أَسْلَمُوا لِلَّهِ وَأَجْرُهُمْ عَلَى اللَّهِ وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ . وَمَعْنَى هَذَا أَنِّي لَا أُعْطِيهِمْ عَلَى إسْلَامِهِمْ وَفَضَائِلِهِمْ الَّتِي يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إلَى اللَّهِ شَيْئًا مِنْ الدُّنْيَا ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهَا لِلَّهِ ، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ لَهُمْ أَجْرَهَا فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنَّمَا الدُّنْيَا بَلَاغٌ وَدَفْعٌ لِلْحَاجَاتِ ، فَأَضَعُ الدُّنْيَا حَيْثُ وَضَعَهَا اللَّهُ مِنْ دَفْعِ الْحَاجَاتِ وَسَدِّ الْخَلَّاتِ ، وَالْآخِرَةُ مَوْضُوعَةٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْفَضَائِلِ فَأَضَعُهَا حَيْثُ وَضَعَهَا اللَّهُ ، وَلَا أُعْطِي أَحَدًا عَلَى سَعْيِهَا شَيْئًا مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا ، وَبِذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ . فَإِنْ قِيلَ فَهَلَّا قُسِّمَتْ الْغَنَائِمُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ الْفَارِسُ لَا عِيَالَ لَهُ وَالرَّاجِلُ لَهُ عِيَالٌ كَثِيرٌ ؟ قُلْنَا لَمَّا حَصَلَ ذَلِكَ بِكَسْبِ الْغَانِمِينَ وَسَعْيِهِمْ فُضِّلُوا عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِمْ فِيهِ وَلَا شَكَّ أَنَّ عَنَاءَ الْفُرْسَانِ فِي الْقِتَالِ أَكْمَلُ مِنْ عَنَاءِ الرَّجَّالَةِ . فَإِنْ قِيلَ هَلَّا قَدَّرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَفَقَاتِ الزَّوْجَاتِ بِالْحَاجَاتِ كَنَفَقَةِ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ وَالْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَلِمَ قَدَّرَهَا بِالْأَمْدَادِ ؟ قُلْنَا لَمَّا كَانَتْ النَّفَقَةُ عِوَضًا عَنْ الْبِضْعِ قَدَّرَهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَعْوَاضِ التَّقْدِيرُ ، وَلَهُ قَوْلُ إنَّهَا مُقَدَّرَةٌ بِالْمَعْرُوفِ لِنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ ، وَعَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِهِنْدَ : { خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } ، وَلَمْ تَكُنْ هِنْدُ عَارِفَةً بِكَوْنِ الْمَعْرُوفِ مُدَّيْنِ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ وَمُدًّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ وَمُدًّا وَنِصْفًا فِي حَقِّ الْمُتَوَسِّطِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْكِسْوَةَ بِالْمَعْرُوفِ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } . وَكَذَلِكَ السُّكْنَى وَمَاعُونُ الدَّارِ يَرْجِعُ فِيهَا إلَى الْعُرْفِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ ، وَالْغَالِبُ فِي كُلِّ مَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ إلَى الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ ، وَأَنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ إلَى مَا عُرِفَ فِي الشَّرْعِ ، أَوْ إلَى مَا يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي تَقْدِيرِ الْحَبِّ فَإِنَّ مَا يُضَمُّ إلَيْهِ مِنْ مُؤْنَةِ إصْلَاحِهِ مَجْهُولٌ ، وَالْمَجْهُولُ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ صَارَ الْجَمِيعُ مَجْهُولًا ، وَلَمْ يُعْهَدْ فِي السَّلَفِ وَلَا فِي الْخَلَفِ أَنَّ أَحَدًا أَنْفَقَ الْحَبَّ عَلَى زَوْجَتِهِ مَعَ مُؤْنَتِهِ ، بَلْ الْمَعْهُودُ مِنْهُمْ الْإِنْفَاقُ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ . وَاَلَّذِي قَالَهُ الشَّافِعِيُّ مُؤَدٍّ إلَى أَنْ يَمُوتَ كُلُّ وَاحِدٍ وَنَفَقَةُ زَوْجَتِهِ فِي ذِمَّتِهِ ، لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ عَنْ الْحَبِّ الَّذِي أَوْجَبَهُ بِمَا يُطْعِمُهُ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا رِبًا لَا يَصِحُّ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا ، وَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا لَمْ يَبَرَّ مِنْ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَاقَدْ عَلَيْهِ الزَّوْجَانِ ، وَمَا بَلَغَنَا أَنَّ أَحَدًا أَطْعَمَ زَوْجَتَهُ عَلَى الْعَادَةِ ثُمَّ أَوْصَى بِأَنْ تُوَفَّى نَفَقَتَهَا حَبًّا مِنْ مَالِهِ ، وَلَا حَكَمَ بِذَلِكَ حَاكِمٌ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَيْسَتْ النَّفَقَةُ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْبِضْعِ وَإِنَّمَا هِيَ فِي مُقَابَلَةِ التَّمْكِينِ ، وَالْبِضْعُ مُقَابَلٌ بِالصَّدَاقِ فَتَكُونُ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ كَنَفَقَةِ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَى ، فَإِنَّ الثَّمَنَ فِي مُقَابَلَةِ رَقَبَتِهِ ، وَالنَّفَقَةُ جَارِيَةٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْمِلْكِ . فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْعَدْلِ تَقْدِيرُ النَّفَقَاتِ بِالْحَاجَاتِ مَعَ تَفَاوُتِهَا عَدْلٌ وَتَسْوِيَةٌ ، مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ فِي دَفْعِ حَاجَاتِهِمْ لَا فِي مَقَادِيرِ مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّ دَفْعَ الْحَاجَاتِ هُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ فِي النَّفَقَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْعَدْلُ فِي اللُّغَةِ هُوَ التَّسْوِيَةُ ، وَالْقَاضِي لَا يُسَوِّي بَيْنَ الْخُصُومِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ ، بَلْ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي إلَّا بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ وَظَّفَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَهَذَا تَفَاوُتٌ لَا تَسْوِيَةٌ فِيهِ . قُلْنَا مَعْنَى التَّسْوِيَةِ فِي الْحُكْمِ وَجَمِيعِ الْوِلَايَاتِ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْمُدَّعِينَ فِي الْعَمَلِ بِالظَّاهِرِ فِي تَوْظِيفِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمُدَّعِينَ ، وَالْأَيْمَانُ عَلَى الْمُنْكِرِينَ ، وَرَدُّ الْأَيْمَانِ عَلَى الْمُدَّعِينَ عِنْدَ نُكُولِ الْمُنْكِرِينَ . وَكَذَلِكَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ مَنْ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مِنْ الْمُدَّعِينَ فِيمَا وُظِّفَ عَلَيْهِمْ كَالْوَلِيِّ فِي الْقَسَامَةِ ، وَالزَّوْجِ فِي اللِّعَانِ ، وَالْأُمَنَاءِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي التَّلَفِ ، وَالْمُدَّعِينَ فِي قَبُولِ قَوْلِهِمْ فِي الرَّدِّ . وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْأَحْكَامِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْأَسْبَابِ . وَاعْلَمْ أَنَّ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْعَدْلِ وَاجْتِنَابِ إيغَارِ الصُّدُورِ ، يَجِبُ عَلَى الْحُكَّامِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي الْإِعْرَاضِ وَالْإِقْبَالِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مُوجِبٌ لِإِيغَارِ صَدْرِ الْآخَرِ وَحِقْدِهِ ، وَلَا يَجْرِي ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، لِأَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى أَمْرِ نَفْسِهِ بِالْكُفْرِ أَخَّرَتْهُ وَأَوْجَبَتْ بُغْضَهُ وَإِذْلَالَهُ ، كَمَا يَظْهَرُ بِالْغُبَارِ وَإِظْهَارِ الصَّغَارِ ، فَإِنْ قِيلَ لَوْ خَطَبَ إلَى الْوَلِيِّ إحْدَى ابْنَتَيْهِ فَهَلْ يَتَخَيَّرُ فِي تَزْوِيجِ أَيَّتِهِمَا شَاءَ أَوْ يَبْدَأُ بِإِحْدَاهُمَا ؟ قُلْنَا . إنْ تَسَاوَيَا فِي الصَّلَاحِ وَالتَّوَقَانِ إلَى النِّكَاحِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يَقْرَعُ ، وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الصَّلَاحِ - وَاخْتَلَفَا فِي التَّوَقَانِ قَدَّمَ أَتُوقُهُمَا ، وَإِنْ خَفَّ تَوَقَانُ الصَّالِحَةِ وَزَادَ تَوَقَانُ الطَّالِحَةِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ وَاحْتِمَالٌ ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ تَقْدِيمُ الطَّالِحَةِ دَرْءًا لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ فُجُورِهَا . وَأَمَّا الصَّالِحَةُ فَيَزَعُهَا صَلَاحُهَا عَنْ الْفُجُورِ . وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إلَيْهِ مِنْهُ خِيفَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ ، لِأَنَّ تُقَى الْمُتَّقِي يَزَعُهُ عَنْ الْعِصْيَانِ ، وَفُجُورَ الْفَاجِرِ يُوقِعُهُ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ .
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : مِنْ تَقْدِيمِ الْفَاضِلِ عَلَى الْمَفْضُولِ : إذَا كَانَ لَهُ عَبْدَانِ أَحَدُهُمَا بَرٌّ تَقِيٌّ وَالْآخَرُ فَاجِرٌ شَقِيٌّ ، قَدَّمَ إعْتَاقَ الْبَرِّ التَّقِيِّ عَلَى إعْتَاقِ الْفَاجِرِ الشَّقِيِّ ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ إلَى الْأَبْرَارِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْفُجَّارِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ قَرِيبًا وَالْآخَرُ أَجْنَبِيًّا ، قَدَّمَ الْقَرِيبَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِاشْتِمَالِ عِتْقِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْإِعْتَاقِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَجْنَبِيُّ فِي غَايَةِ الصَّلَاحِ فِي تَقْدِيمِ عِتْقِهِ عَلَى عِتْقِ الْقَرِيبِ الْفَاسِقِ نَظَرٌ . وَقَدْ قَالَ الْأَصْحَابُ إذَا اشْتَرَى عَبْدًا لِلْإِعْتَاقِ فَلْيَشْتَرِ الْمَكْدُودَ وَالْمَجْهُودَ ، فَإِنَّ إعْتَاقَهُ أَفْضَلُ مِنْ إعْتَاقِ الْمُرَفَّهِ لِأَنَّ مَا يَدْفَعُهُ عَنْهُ مِنْ ذُلِّ الرِّقِّ وَصُعُوبَةِ الْجَهْدِ وَالْكَدِّ أَفْضَلُ مِمَّا يَدْفَعُهُ مِنْ مُجَرَّدِ ذُلِّ الرِّقِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِلْقِنْيَةِ لِيَدْفَعَ عَنْهُ الْكَدَّ وَالْجَهْدَ لَأُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ رَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنْ الْعَبْدِ . وَكَمْ فِي هَذَا وَأَمْثَالِهِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْ الْخَيْرِ .
الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : إذَا وَجَدَ مَنْ يَصُولُ عَلَى بِضْعٍ مُحَرَّمٍ ، وَمَنْ يَصُولُ عَلَى عُضْوٍ مُحَرَّمٍ أَوْ نَفْسٍ مُحَرَّمَةٍ أَوْ مَالٍ مُحَرَّمٍ ، فَإِنْ أَمْكَنَ الْجَمْعُ بَيْنَ حِفْظِ الْبِضْعِ وَالْعُضْوِ وَالْمَالِ وَالنَّفْسِ ، جَمَعَ بَيْنَ صَوْنِ النَّفْسِ وَالْعُضْوِ وَالْبِضْعِ وَالْمَالِ لِمَصَالِحِهَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا ، قَدَّمَ الدَّفْعَ عَنْ النَّفْسِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْعُضْوِ ، وَقَدَّمَ الدَّفْعَ عَنْ الْعُضْوِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْبِضْعِ وَقَدَّمَ الدَّفْعَ عَنْ الْبِضْعِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمَالِ ، وَقَدَّمَ الدَّفْعَ عَنْ الْمَالِ الْخَطِيرِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْمَالِ الْحَقِيرِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الْخَطِيرِ غَنِيًّا وَصَاحِبُ الْحَقِيرِ فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَفِي هَذَا نَظَرٌ وَتَأَمُّلٌ ، وَتَفَاوُتُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ ظَاهِرٌ ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الدَّفْعَ عَنْ الْعُضْوِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْبِضْعِ لِأَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ سَبَبٌ مُفْضٍ إلَى فَوَاتِ النَّفْسِ ، فَكَانَ صَوْنُ النَّفْسِ مُقَدَّمًا عَلَى صَوْنِ الْبِضْعِ ، لِأَنَّ مَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْأَرْوَاحِ أَعْظَمُ مِمَّا يَفُوتُ بِفَوَاتِ الْأَبْضَاعِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : تَقْدِيمُ الدَّفْعِ عَنْ الْإِنْسَانِ عَلَى الدَّفْعِ عَنْ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ ، وَلَك أَنْ تَجْعَلَ هَذَا كُلَّهُ مِنْ بَابِ تَحَمُّلِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ دَفْعًا لِأَعْظَمِهِمَا . فَنَقُولُ : مَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْأَعْضَاءِ وَالْأَرْوَاحِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ فَوَاتِ الْأَبْضَاعِ وَمَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْأَبْضَاعِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ فَوَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَمَفْسَدَةُ فَوَاتِ الْأَمْوَالِ النَّفِيسَةِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ فَوَاتِ الْأَمْوَالِ الْخَسِيسَةِ ، وَمَفْسَدَةُ هَلَاكِ الْإِنْسَانِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ هَلَاكِ الْحَيَوَانِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : إذَا شَغَرَ الزَّمَانُ عَنْ مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ الْعُظْمَى ، وَحَضَرَ اثْنَانِ يَصْلُحَانِ لِلْوِلَايَةِ ، لَمْ يَجُزْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا ، لِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ الْفَسَادِ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ : فَتَتَعَطَّلُ الْمَصَالِحُ بِسَبَبِ ذَلِكَ ، لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَرَى مَا لَا يَرَى الْآخَرُ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، فَيَخْتَلُّ أَمْرُ الْأُمَّةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ ، وَإِنَّمَا تُنَصَّبُ الْوُلَاةُ فِي كُلِّ وِلَايَةٍ عَامَّةٍ أَوْ خَاصَّةٍ لِلْقِيَامِ بِجَلْبِ مَصَالِحِ الْمُوَلَّى عَلَيْهِمْ ، وَبِدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { اُخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ } . فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَخَيَّرْنَا بَيْنَهُمَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا دَفْعًا لِتَأَذِّي مَنْ يُؤَخَّرُ مِنْهُمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَصْلَحَ تَعَيَّنَتْ وِلَايَةُ الْأَصْلَحِ ؛ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ أَصْلَحِ الْمَصَالِحِ فَأَصْلَحِهَا ، وَأَفْضَلِهَا فَأَفْضَلِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَصْلَحُ بَغِيضًا لِلنَّاسِ أَوْ مُحْتَقَرًا عِنْدَهُمْ ، وَيَكُونَ الصَّالِحُ مُحَبَّبًا إلَيْهِمْ عَظِيمًا فِي أَعْيُنِهِمْ ، فَيُقَدَّمُ الصَّالِحُ عَلَى الْأَصْلَحِ ، لِأَنَّ الْإِقْبَالَ عَلَيْهِ مُوجِبٌ لِلْمُسَارَعَةِ إلَى طَوَاعِيَتِهِ وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، فَيَصِيرُ حِينَئِذٍ أَرْجَحَ مِمَّنْ يَنْفِرُ مِنْهُ لِتَقَاعُدِ أَعْوَانِهِ عَنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، فَيَصِيرُ الصَّالِحُ بِهَذَا السَّبَبِ أَصْلَحَ .
الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : إذَا اجْتَمَعَ اثْنَانِ يَصْلُحَانِ لِوِلَايَةِ الْأَحْكَامِ ، فَإِنْ تَسَاوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَّيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قُطْرًا إنْ شَغَرَتْ الْأَقْطَارُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَشْحُونَةً بِالْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ تَخَيَّرْنَا بَيْنَهُمَا أَوْ وَلَّيْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانِبًا مِنْ جَوَانِبِ الْبَلَدِ ، أَوْ أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمَا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْإِمَامِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْقِيَامِ بِالْأَيْتَامِ ، قَدَّمَ الْحَاكِمُ أَقْوَمَهُمْ بِذَلِكَ وَأَعْرَفَهُمْ بِمَصَالِحِ الْأَيْتَامِ ، وَأَشَدَّهُمْ شَفَقَةً وَمَرْحَمَةً ، فَإِنْ تَسَاوَوْا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ تَخَيَّرَ . وَيَجُوزُ أَنْ يُوَلِّيَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَعْضَ الْوِلَايَةِ مَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَازُعٌ وَاخْتِلَافٌ يُؤَدِّي إلَى تَعْطِيلِ مَصَالِحِهَا ، وَتَعْطِيلِ دَرْءِ مَفَاسِدِهَا ، لِأَنَّ الْوِلَايَةَ كُلَّمَا ضَاقَتْ قَوِيَ الْوَالِي عَلَى الْقِيَامِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهَا وَدَرْءِ مَفَاسِدِهَا ، وَكُلَّمَا اتَّسَعَتْ عَجَزَ الْوَالِي عَنْ الْقِيَامِ بِذَلِكَ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : إذَا اجْتَمَعَ جَمَاعَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْأَذَانِ فَإِنْ تَسَاوَوْا أَقْرَعْنَا بَيْنَهُمْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا فِي النِّدَاءِ وَالصَّفِّ الْأَوَّلِ ثُمَّ لَمْ يَجِدُوا إلَّا أَنْ يَسْتَهِمُوا عَلَيْهِ لَاسْتَهَمُوا عَلَيْهِ } ، فَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ وَالْعِفَّةِ عَنْ النَّظَرِ إلَى حَرَمِ النَّاسِ وَمَعْرِفَةِ الْمَوَاقِيتِ وَحُسْنِ الصَّوْتِ ، قَدَّمْنَا الْأَفْضَلَ فَالْأَفْضَلَ ، لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ أَعْظَمُ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { مَنْ وَلِي مِنْ أَمْرِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يُجْهَدْ لَهُمْ وَلَمْ يَنْصَحْ فَالْجَنَّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ } . وَفِي رِوَايَةٍ { لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ } .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : لَا يُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ الْحَرْبِ إلَّا أَشْجَعُ النَّاسِ وَأَعْرَفُهُمْ بِمَكَائِدِ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ مَعَ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ وَحُسْنِ السِّيرَةِ فِي الِاتِّبَاعِ ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فَإِنْ كَانَتْ الْجِهَةُ وَاحِدَةً تَخَيَّرَ الْإِمَامُ ، وَلَهُ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمْ كَيْ لَا يَجِدَ بَعْضَهُمْ عَلَى الْإِمَامِ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْجِهَاتُ صَرَفَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ . وَالضَّابِطُ فِي الْوِلَايَاتِ كُلِّهَا أَنَّا لَا نُقَدِّمُ فِيهَا إلَّا أَقْوَمَ النَّاسِ بِجَلْبِ مَصَالِحِهَا وَدَرْءِ مَفَاسِدِهَا ، فَيُقَدَّمُ فِي الْأَقْوَمِ بِأَرْكَانِهَا وَشَرَائِطِهَا ، عَلَى الْأَقْوَمِ بِسُنَنِهَا وَآدَابِهَا ، فَيُقَدَّمُ فِي الْإِقَامَةِ الْفَقِيهُ عَلَى الْقَارِئِ ، وَالْأَفْقَهُ عَلَى الْأَقْرَأِ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ أَعْرَفُ بِاخْتِلَالِ الْأَرْكَانِ وَالشَّرَائِطِ ، وَبِمَا يَطْرَأُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ ، وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ الْوَرِعُ عَلَى غَيْرِهِ ، لِأَنَّ وَرَعَهُ يَحُثُّهُ عَلَى إكْمَالِ الشَّرَائِطِ وَالسُّنَنِ وَالْأَرْكَانِ ، وَيَكُونُ أَقْوَمَ إذًا بِمَصْلَحَةِ الصَّلَاةِ . وَقَدَّمَ بَعْضَ الْأَصْحَابِ بِنَظَافَةِ الثِّيَابِ ، لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُتَنَزِّهَ مِنْ الْأَقْذَارِ الَّتِي لَيْسَتْ بِأَنْجَاسٍ أَنَّهُ يَتَنَزَّهُ عَنْ النَّجَاسَاتِ ؛ فَيَكُونُ أَقْوَمَ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ الْبَصِيرُ عَلَى الْأَعْمَى عِنْدَ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ يَرَى مِنْ النَّجَاسَاتِ مَا لَا يَرَاهُ الْأَعْمَى ؛ فَيَكُونُ أَشَدَّ تَحَرُّزًا مِنْ النَّجَاسَاتِ الَّتِي اجْتِنَابُهَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا غَضُّ الْأَعْمَى عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَيْسَ غَضُّهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ ، وَأَمَّا غَسْلُ الْمَوْتَى وَتَكْفِينُهُمْ وَحَمْلُهُمْ وَدَفْنُهُمْ فَيُقَدَّمُ فِيهِ الْأَقَارِبُ لِأَنَّ حُنُوَّهُمْ عَلَى مَيِّتِهِمْ يَحْمِلُهُمْ عَلَى أَكْمَلِ الْقِيَامِ بِمَقَاصِدِ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ الْآبَاءُ عَلَى الْأَوْلَادِ ، لِأَنَّ حُنُوَّ الْآبَاءِ أَكْمَلُ مِنْ حُنُوِّ الْأَوْلَادِ . وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ الْقَرِيبُ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْأَمْوَاتِ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْوِلَايَاتِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الصَّلَاةِ الشَّفَاعَةَ لِلْمَيِّتِ ، وَالْقَرِيبُ لِفَرْطِ شَفَقَتِهِ وَشِدَّةِ حُزْنِهِ عَلَيْهِ يُبَالِغُ فِي الدُّعَاءِ لَهُ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْأَجَانِبُ . وَكَذَلِكَ تُقَدَّمُ الْأُمَّهَاتُ عَلَى الْآبَاءِ فِي الْحَضَانَةِ لِمَعْرِفَتِهِنَّ بِهَا وَفَرْطِ حُنُوِّهِنَّ عَلَى الْأَطْفَالِ ، وَإِذَا اسْتَوَى النِّسَاءُ فِي دَرَجَاتِ الْحَضَانَةِ فَقَدْ يَقْرَعُ بَيْنَهُنَّ وَقَدْ يَتَخَيَّرُ وَالْقُرْعَةُ أَوْلَى . وَيُقَدَّمُ الْآبَاءُ عَلَى الْأُمَّهَاتِ فِي النَّظَرِ فِي مَصَالِحِ أَمْوَالِ الْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ . وَفِي التَّأْدِيبِ وَارْتِيَادِ الْحِرَفِ وَالصِّنَاعَاتِ ، لِأَنَّهُمْ أَقْوَمُ بِذَلِكَ وَأَعْرَفُ بِهِ مِنْ الْأُمَّهَاتِ . وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ الْأَقَارِبُ عَلَى الْمَوَالِي وَالْحُكَّامِ ، وَيُقَدَّمُ مِنْ الْأَقَارِبِ أَرْفَقُهُمْ بِالْمُوَلَّى عَلَيْهِ كَالْآبَاءِ وَالْأَجْدَادِ ، وَإِذَا اجْتَمَعَ أَوْلِيَاءُ النِّكَاحِ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ ، فَالْأَوْلَى لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَأْذَنَ لِأَسَنِّهِمْ وَأَعْلَمِهِمْ وَأَفْضَلِهِمْ ، وَلَا تَعْدِلُ إلَى غَيْرِهِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ كَسْرِ قَلْبِهِ ، وَلِمَا فِي تَوْلِيَتِهِ مِنْ مَصْلَحَتِهَا ، فَإِنْ أَذِنَتْ الْجَمِيعَ جَازَ لِتَسَاوِيهِمْ فِي تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ مِنْ النِّكَاحِ ، فَإِذَا أَذِنَتْ لَهُمْ فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا أَفْضَلَهُمْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، فَإِنْ لَمْ يُقَدِّمُوا أَحَدَهُمْ وَتَنَازَعُوا أَيَّهُمْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ لِتَسَاوِيهِمْ . وَالْإِنْسَانُ يَأْنَفُ مِنْ تَقْدِيمِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَأْنَفُ مِنْ تَقْدِيمِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ عَلَيْهِ . وَكَذَلِكَ قُلْنَا الْأَفْضَلُ أَنْ يُفَوَّضَ الْعَقْدُ إلَى أَفْضَلِهِمْ ، وَيُقَدَّمُ الْجَدُّ عَلَى الْأَوْصِيَاءِ وَالْأَئِمَّةِ وَالْحُكَّامِ ، وَيُقَدَّمُ الْأَوْصِيَاءُ عَلَى الْحُكَّامِ ، وَإِنَّمَا قَدَّمْنَا الْأَقْرَبَ مِنْ ذَوِي الْأَنْسَابِ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ . وَيَجِبُ عَلَى الْأَئِمَّةِ فِي تَفْرِيقِ مَالِ الْمَصَالِحِ أَنْ يَصْرِفُوهُ فِي تَحْصِيلِ أَعْلَاهَا مَصْلَحَةً فَأَعْلَاهَا ، وَفِي دَرْءِ أَعْظَمِهَا مَفْسَدَةً فَأَعْظَمِهَا .
الْعَدَالَةُ شَرْطٌ فِي بَعْضِ الْوِلَايَاتِ ، وَإِنَّمَا شُرِطَتْ لِتَكُونَ وَازِعَةً عَنْ الْخِيَانَةِ وَالتَّقْصِيرِ فِي الْوِلَايَةِ . وَلَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي وِلَايَةِ الْقَرِيبِ عَلَى الْأَمْوَاتِ فِي التَّجْهِيزِ وَالدَّفْنِ وَالتَّكْفِينِ وَالْحَمْلِ وَالتَّقَدُّمِ فِي الصَّلَاةِ ، لِأَنَّ فَرْطَ شَفَقَةِ الْقَرِيبِ وَمَرْحَمَتِهِ تَحُثُّهُ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْغَسْلِ وَالتَّكْفِينِ وَالدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ انْكِسَارُهُ بِالْحُزْنِ عَلَى التَّضَرُّعِ فِي دُعَاءِ الصَّلَاةِ فَتَكُونُ الْعَدَالَةُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ .
وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ النِّكَاحِ لَا تُشْتَرَطُ فِيهَا الْعَدَالَةُ عَلَى قَوْلٍ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ إنَّمَا شُرِطَتْ فِي الْوِلَايَاتِ لِتَزَعَ الْوَلِيَّ عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْخِيَانَةِ ، وَطَبْعُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ يَزَعُهُ عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْخِيَانَةِ فِي حَقِّ وَلِيَّتِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ ذَلِكَ عَارًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ ، وَطَبْعُهُ يَزَعُهُ عَمَّا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَوَلِيَّتِهِ مِنْ الْأَضْرَارِ وَالْعَارِ . وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ مَسْتُورًا صَحَّ النِّكَاحُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ اعْتِمَادًا عَلَى الْعَدَالَةِ الظَّاهِرَةِ مَعَ قُوَّةِ الْوَازِعِ ، وَلَوْ كَانَ شُهُودُ النِّكَاحِ مَسْتُورِينَ صَحَّ النِّكَاحُ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِغَلَبَةِ الْأَنْكِحَةِ فِي الْبَوَادِي وَالْقُرَى حَيْثُ لَا يُوجَدُ الْعُدُولُ لِمَسِيسِ الْحَاجَةِ فِي ذَلِكَ . وَلِلتَّعْلِيلِ بِقُوَّةِ الْوَازِعِ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ وَالْبَرِّ وَالْفَاجِرِ ؛ وَلِأَنَّ طِبَاعَهُمْ تَزَعُهُمْ عَنْ الْكَذِبِ فِي الْإِقْرَارِ الْمُضِرِّ بِهِمْ فِي حُقُوقِهِمْ ، كَالدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ ، وَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إلَّا مِنْ عَدْلٍ ، لِأَنَّ الْفَاسِقَ لَا يَزَعُهُ طَبْعُهُ عَنْ الْكَذِبِ ، فَشُرِطَتْ الْعَدَالَةُ فِي الشَّاهِدِ لِتَكُونَ وَازِعَةً عَنْ الْكَذِبِ فِي الْإِقْرَارِ . وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِمَا يُوجِبُ الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ لِأَنَّ طَبْعَهُ يَزَعُهُ عَنْ الْكَذِبِ عَلَى السَّيِّدِ بِمَا يُوجِبُ قَتْلَهُ أَوْ قَطْعَهُ أَوْ جَلْدَهُ .
وَاخْتُلِفَ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِي وِلَايَةِ الْآبَاءِ عَلَى الْأَطْفَالِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهَا بِوِلَايَةِ النِّكَاحِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الطَّبْعِ الْوَازِعِ عَنْ التَّقْصِيرِ وَالْإِضْرَارِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْإِضْرَارَ فِي وِلَايَةِ النِّكَاحِ يَدْخُلُ عَلَى الْوَلِيِّ وَالْمُوَلَّى عَلَيْهِ وَالطَّبْعُ وَازِعٌ عَنْهَا . وَأَمَّا فِي وِلَايَةِ الْمَالِ فَإِنَّ طَبْعَهُ يَزَعُهُ عَنْ الْإِضْرَارِ بِالطِّفْلِ لِأَجْلِ غَيْرِهِ وَلَا يَزَعُهُ عَنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ طَبْعَهُ يَحُثُّهُ عَلَى تَقْدِيمِ نَفْسِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأَحْفَادِهِ ، فَتُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِيهِ لِتَكُونَ وَازِعَةً عَنْ التَّقْصِيرِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَى غَيْرِهِ ، وَلِذَلِكَ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ اتِّفَاقًا لِقُوَّةِ الدَّاعِي ، وَاخْتُلِفَ فِي شَهَادَتِهِ لِوَالِدَيْهِ وَأَوْلَادِهِ . وَأَمَّا الْوَصِيُّ فَتُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ لِضَعْفِ الْوَازِعِ عَلَى التَّقْصِيرِ وَالْخِيَانَةِ بِخِلَافِ الْأَبِ .
وَأَمَّا الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى فَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا اخْتِلَافٌ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى الْوُلَاةِ ، وَلَوْ شَرَطْنَاهَا لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوَلُّونَهُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالسُّعَاةِ وَأُمَرَاءِ الْغَزَوَاتِ ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ وَبَذْلِ مَا يُعْطُونَهُ . وَقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ الْعَدَالَةُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُوَافِقَةِ لِلْحَقِّ لِمَا فِي اشْتِرَاطِهَا مِنْ الضَّرَرِ الْعَامِّ ، وَفَوَاتُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ أَقْبَحُ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ . وَلَمَّا كَانَ تَصَرُّفُ الْقُضَاةِ أَعَمَّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَوْصِيَاءِ وَأَخَصَّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ اُخْتُلِفَ فِي إلْحَاقِهِمْ بِالْأَئِمَّةِ ، فَمِنْهُمْ مِنْ أَلْحَقَهُمْ بِالْأَئِمَّةِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ أَعَمُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَوْصِيَاءِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْحَقَهُمْ بِالْأَوْصِيَاءِ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ أَخَصُّ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ . وَالْمَشَاقُّ فِي الشَّرْعِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ . أَحَدُهَا : مَشَقَّةٌ عَامَّةٌ مُؤَثِّرَةٌ فِي الرُّخَصِ وَالتَّحْقِيقَاتِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي تَعْطِيلِ تَصَرُّفَاتِ الْوُلَاةِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَشَقَّةٌ خَاصَّةٌ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَصَرُّفَاتِ الْأَوْصِيَاءِ . الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَشَقَّةٌ بَيْنَ الْمَشَقَّتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَصَرُّفِ الْقَضَاءِ .
وَقَدْ يُنَفَّذُ التَّصَرُّفُ الْعَامُّ مِنْ غَيْرِ وِلَايَةٍ كَمَا فِي تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ الْبُغَاةِ فَإِنَّهُ يُنَفَّذُ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا نُفِّذَتْ تَصَرُّفَاتُهُمْ وَتَوْلِيَتُهُمْ لِضَرُورَةِ الرَّعَايَا ، وَإِذَا نُفِّذَ ذَلِكَ مَعَ نُدْرَةِ الْبَغْيِ فَأَوْلَى أَنْ يُنَفَّذَ تَصَرُّفُ الْوُلَاةِ وَالْأَئِمَّةِ مَعَ غَلَبَةِ الْفُجُورِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّهُ لَا انْفِكَاكَ لِلنَّاسِ عَنْهُمْ ، وَأَمَّا أَخْذُهُمْ الزَّكَاةَ ، فَإِنْ صَرَفُوهَا فِي مَصَارِفِهَا أَجْزَأَتْ لِمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَإِنْ صَرَفُوهَا فِي غَيْرِ مَصَارِفِهَا لَمْ يَبْرَأْ الْأَغْنِيَاءُ مِنْهَا عَلَى الْمُخْتَارِ لِمَا فِي إجْزَائِهَا مِنْ تَضَرُّرِ الْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَصَالِحِ الَّتِي لَا مُعَارِضَ لَهَا ، فَإِنَّهَا إنَّمَا نُفِّذَتْ لِتَمَحُّصِهَا . وَأَمَّا هَهُنَا فَالْقَوْلُ بِإِجْزَاءِ أَخْذِهَا نَافِعٌ لِلْأَغْنِيَاءِ مُضِرٌّ لِلْفُقَرَاءِ ، وَدَفْعُ الْمَفْسَدَةِ عَنْ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ دَفْعِ الْمَفْسَدَةِ عَنْ الْأَغْنِيَاءِ ، وَإِنْ شِئْتَ قُلْت لِأَنَّ مَصَالِحَ الْفُقَرَاءِ أَوْلَى مِنْ مَصَالِحِ الْأَغْنِيَاءِ ، لِأَنَّهُمْ يَتَضَرَّرُونَ بِعَدَمِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الزَّكَاةِ مَا لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ تَثْنِيَةِ الزَّكَاةِ ، وَلِمِثْلِ هَذَا يَتَخَيَّرُ السَّاعِي فِي الْأَحَظِّ لِلْفُقَرَاءِ ؛ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ أَرْبَعُ حِقَاقٍ وَخَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ ، وَلَا تُخَيَّرُ الْوُلَاةُ فِيمَا يَصْنَعُونَ إلَّا نَادِرًا وَهُوَ إذَا تَسَاوَى تَحْصِيلُ الْمَصْلَحَتَيْنِ ، أَوْ دَفْعُ الْمَفْسَدَتَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي التَّعْزِيرِ وَجَبَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ وَجَبَ .
إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ عَزْلَ الْحَاكِمِ فَإِنْ أَرَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ عَزَلَهُ لِمَا فِي إبْقَاءِ الْمُرِيبِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَا يَصْلُحُ فِي تَقْرِيرِ الْمُرِيبِ عَلَى وِلَايَةٍ عَامَّةٍ وَلَا خَاصَّةٍ ، لِمَا يُخْشَى مِنْ خِيَانَتِهِ فِيهَا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِيبَةً فَلَهُ أَحْوَالٌ . إحْدَاهُمَا : أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ دُونَهُ ، وَلَا يَجُوزُ عَزْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ جِهَةِ فَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَفْوِيتُ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ . الْحَالُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَيُنَفَّذُ عَزْلُهُ تَقْدِيمًا لِلْأَصْلَحِ عَلَى الصَّالِحِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ . الْحَالُ الثَّالِثَةُ : أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ ؛ فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّخَيُّرِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمَصَالِحِ ، وَكَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ الْعَزْلِ وَعَارِهِ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ . فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِلْمُوَلَّى ؟ قُلْنَا حِفْظُ الْمَوْجُودِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعَادَةِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يُجْهَدْ لَهُمْ وَيَنْصَحْ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ } . وَلَمَّا اُتُّهِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَنَّهُ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِيَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ : وَجَرَّتْ مَنَايَا مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ عَقِيلَتَهُ الْحَسْنَاءَ أَيَّامَ خَالِدِ حَرَّضَ عُمَرُ عَلَى أَنْ يَعْزِلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَزَى عَلَى امْرَأَتِهِ ، فَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي الْقِيَامِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ أَصْوَبُ مِمَّا رَآهُ عُمَرُ لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيبَةَ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً فِي كَوْنِهِ أَقْوَمَ بِالْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِ ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْ حَرْبِ الشَّامِ ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ، فَوَصَلَ كِتَابُ الْعَزْلِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ لِلْقِتَالِ ، فَلَمْ يُخْبِرْ خَالِدًا حَتَّى انْقَشَعَتْ الْحَرْبُ لِعِلْمِهِ بِتَقَدُّمِهِ فِي مَكَانِ الْحَرْبِ ، وَتَرْتِيبِ الْقِتَالِ ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخْبِرْهُ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْكِتَابِ .
فِي تَصَرُّفِ الْآحَادِ فِي الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ عِنْدَ جَوْرِ الْأَئِمَّةِ لَا يَتَصَرَّفُ فِي أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ إلَّا الْأَئِمَّةُ وَنُوَّابُهُمْ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ قِيَامُهُمْ بِذَلِكَ ، وَأَمْكَنَ الْقِيَامُ بِهَا مِمَّنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ مِنْ الْآحَادِ بِأَنْ وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمَصَالِحِ ، فَلْيَصْرِفْ إلَى مُسْتَحِقِّيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ أَنْ يَصْرِفَهُ فِيهِ ، بِأَنْ يُقَدِّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ ، وَالْأَصْلَحَ فَالْأَصْلَحَ ، فَيَصْرِفُ كُلَّ مَالٍ خَاصٍّ فِي جِهَاتِهِ أَهَمِّهَا فَأَهَمِّهَا ، وَيَصْرِفُ مَا وَجَدَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فِي مَصَارِفِهَا أَصْلَحِهَا فَأَصْلَحِهَا ، لِأَنَّا لَوْ مَنَعْنَا ذَلِكَ لَفَاتَتْ مَصَالِحُ صَرْفِ تِلْكَ الْأَمْوَالِ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا ، وَلَأَثِمَ أَئِمَّةُ الْجَوْرِ بِذَلِكَ وَضَمِنُوهُ ، فَكَانَ تَحْصِيلُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَوْلَى مِنْ تَعْطِيلِهَا . وَإِنْ وَجَدَ أَمْوَالًا مَغْصُوبَةً ، فَإِنْ عَرَفَ مَالِكِيهَا فَلْيَرُدَّهَا عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهَا فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُمْ بِحَيْثُ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَتِهِمْ صَرَفَهَا فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَوْلَاهَا فَأَوْلَاهَا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ : { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } ، وَهَذَا بِرٌّ وَتَقْوَى . وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاَللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ } ، فَإِذَا جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيهَا وَوَلَدَهَا بِالْمَعْرُوفِ ، مَعَ كَوْنِ الْمَصْلَحَةِ خَاصَّةً ، فَلَأَنْ يُجَوِّزَ ذَلِكَ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَوْلَى ، وَلَا سِيَّمَا غَلَبَةُ الظَّلَمَةِ لِلْحُقُوقِ . وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقِيَامَ بِهَذِهِ الْمَصَالِحِ أَتَمُّ مِنْ تَرْكِ هَذِهِ الْأَمْوَالِ بِأَيْدِي الظَّلَمَةِ يَأْكُلُونَهَا بِغَيْرِ حَقِّهَا ، وَيَصْرِفُونَهَا إلَى غَيْرِ مُسْتَحِقِّهَا . وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَجِبَ ذَلِكَ عَلَى مَنْ ظَفِرَ بِهِ كَمَنْ وَجَدَ اللُّقْطَةَ فِي مَضْيَعَةٍ ، وَإِذَا جَوَّزَ الشَّرْعُ لِمَنْ جُحِدَ حَقُّهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِ جَاحِدِهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ إنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ ، وَأَنْ يَأْخُذَهُ وَيَبِيعَهُ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، مَعَ أَنَّ هَذِهِ مَصْلَحَةٌ خَاصَّةٌ فَجَوَازُ مَا ذَكَرْنَاهُ مَعَ عُمُومِهِ أَوْلَى . وَقَدْ خَيَّرَ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَاجِدَ ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَحْفَظَهُ إلَى أَنْ يَلِيَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ يَصْرِفُ ذَلِكَ فِي مَصَارِفِهِ ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَتَقَيَّدَ بِمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَصْحَابِ بِوَقْتٍ يُتَوَقَّعُ فِيهِ ظُهُورُ إمَامٍ عَدْلٍ . وَأَمَّا فِي مِثْلِ هَذَا الزَّمَانِ الْمَأْيُوسِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَى وَاجِدِهِ أَنْ يَصْرِفَهُ عَلَى الْفَوْرِ فِي مَصَارِفِهِ ، لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ التَّغْرِيرِ بِهِ وَحِرْمَانِ مُسْتَحِقِّيهِ مِنْ تَعْجِيلِ أَخْذِهِ ، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ مَاسَةً إلَيْهِ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَعْجِيلُهَا .
إنْ قَالَ قَائِلٌ : إذَا دَفَعَ الظَّلَمَةُ مِمَّا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ إلَى إنْسَانٍ شَيْئًا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ مِنْهُمْ أَمْ لَا ؟ قِيلَ لَهُ : إنْ عَلِمَ الْمَبْذُولُ لَهُ أَنَّ مَا يُدْفَعُ لَهُ مَغْصُوبٌ فَلَهُ حَالَانِ : الْأُولَى : أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ وَلَوْ أَخَذَ لَفَسَدَ ظَنُّ النَّاسِ فِيهِ بِحَيْثُ لَا يَقْتَدُونَ بِهِ وَلَا يَقْبَلُونَ فُتْيَاهُ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهُ لِمَا فِي أَخْذِهِ مِنْ فَسَادِ اعْتِقَادِ النَّاسِ فِي صِدْقِهِ وَدِينِهِ ، لَا يَقْبَلُونَ لَهُ فُتْيَا ، فَيَكُونُ قَدْ ضَيَّعَ عَلَى النَّاسِ مَصَالِحَ الْفُتْيَا . وَلَا شَكَّ أَنَّ حِفْظَ تِلْكَ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الدَّائِمَةِ أَوْلَى مِنْ أَخْذِ الْمَغْصُوبِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ . وَكَذَلِكَ الشُّهُودُ وَالْحُكَّامُ مَا لَمْ يُصَرِّحُوا بِأَنَّهُمْ أَخَذُوهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَالِكِهِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَلَّا يَكُونَ الْمَبْذُولُ لَهُ كَذَلِكَ ، فَإِنْ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ جَازَ ذَلِكَ ، وَإِنْ جَهِلَ مَالِكَهُ بَحَثَ عَنْهُ إلَى أَنْ يَعْرِفَهُ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُ صَرَفَهُ فِي الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ أَهَمِّهَا فَأَهَمِّهَا ، وَأَصْلَحِهَا فَأَصْلَحِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ تِلْكَ الْمَصَالِحَ دَفَعَهُ إلَى مَنْ يَعْرِفُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا تَرَبَّصَ بِهَا إلَى أَنْ يَجِدَهُ فَيَتَعَرَّفُهَا مِنْهُ ، أَوْ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ لِيَصْرِفَهَا فِي مَصَالِحِهَا إنْ كَانَ عَدْلًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ الَّذِي يَبْذُلُونَهُ مَأْخُوذًا بِحَقٍّ ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ لِمَصَالِحَ خَاصَّةٍ كَالزَّكَاةِ لِأَرْبَابِهَا وَالْخُمُسِ لِأَرْبَابِهِ ، وَالْفَيْءِ لِلْأَجْنَادِ عَلَى قَوْلٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمَبْذُولُ لَهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَالِ الْخَاصِّ فَإِنْ أُعْطِيَ قَدْرَ حَقِّهِ فَلْيَأْخُذْهُ ، وَإِنْ أُعْطِيَ زَائِدًا عَلَى حَقِّهِ فَلْيَأْخُذْ قَدْرَ حَقِّهِ وَيَكُونُ حُكْمُ الزَّائِدِ عَلَى حَقِّهِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ فَلْيَأْخُذْهُ إنْ لَمْ تَفُتْ بِأَخْذِهِ مَصْلَحَةُ الْفُتْيَا ، وَلْيَصْرِفْهُ فِي الْمَصَارِفِ الْعَامَّةِ أَصْلَحِهَا فَأَصْلَحِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ فَعَلَ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَالِ الْمَغْصُوبِ ، وَإِنْ بُذِلَ لَهُ الْمَالُ مِنْ جِهَةٍ مَجْهُولَةٍ فَإِنْ يَئِسَ مِنْ مَعْرِفَةِ مُسْتَحِقِّهِ فَقَدْ صَارَ بِالْيَأْسِ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ فَلْيَأْخُذْهُ وَيَصْرِفْهُ فِيهَا ، وَإِنْ تَوَقَّعَ مَعْرِفَةَ مُسْتَحِقِّيهِ فَلْيَأْخُذْهُ بِنِيَّةِ الْبَحْثِ عَنْ مُسْتَحِقِّيهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ مَعْرِفَتُهُمْ بَعْدَ الْبَحْثِ التَّامِّ صَارَ كَمَالِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ .
فَإِنْ قِيلَ ، مَا تَقُولُونَ فِي مُعَامَلَةِ مَنْ اعْتَرَفَ بِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِ حَرَامٌ ، هَلْ تَجُوزُ أَمْ لَا ؟ قُلْنَا : إنْ غَلَبَ الْحَرَامُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَنْدُرُ الْخَلَاصُ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ مُعَامَلَتُهُ ، مِثْلَ أَنْ يُقِرَّ إنْسَانٌ أَنَّ فِي يَدِهِ أَلْفَ دِينَارٍ كُلَّهَا حَرَامٌ إلَّا دِينَارًا وَاحِدًا ، فَهَذَا لَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ ، لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَلَالِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ الِاصْطِيَادُ إذَا اخْتَلَطَتْ حَمَامَةٌ بَرِّيَّةٌ بِأَلْفِ حَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ ، وَإِنْ عُومِلَ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّينَارِ أَوْ اصْطِيَادِ أَكْثَرَ مِنْ حَمَامَةٍ فَلَا شَكَّ فِي تَحْرِيمِ ذَلِكَ ، وَإِنْ غَلَبَ الْحَلَالُ بِأَنْ اخْتَلَطَ دِرْهَمٌ حَرَامٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ حَلَالٍ جَازَتْ الْمُعَامَلَةُ كَمَا لَوْ اخْتَلَطَتْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ بِأَلْفِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ ، أَوْ اخْتَلَطَتْ أَلْفُ حَمَامَةٍ بَرِّيَّةٍ بِحَمَامَةٍ بَلَدِيَّةٍ فَإِنَّ الْمُعَامَلَةَ صَحِيحَةٌ جَائِزَةٌ لِنُدْرَةِ الْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ . وَكَذَلِكَ الِاصْطِيَادُ ، وَبَيْنَ هَاتَيْنِ الرُّتْبَتَيْنِ مِنْ قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ مَرَاتِبُ مُحَرَّمَةٌ ، وَمَكْرُوهَةٌ ، وَمُبَاحَةٌ ، وَضَابِطُهَا أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَشْتَدُّ بِكَثْرَةِ الْحَرَامِ وَتَخِفُّ بِكَثْرَةِ الْحَلَالِ ، فَاشْتِبَاهُ أَحَدِ الدِّينَارَيْنِ بِآخَرَ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ ، وَاشْتِبَاهُ دِينَارٍ حَلَالٍ بِأَلْفِ دِينَارٍ حَرَامٍ سَبَبُ تَحْرِيمٍ بَيِّنٍ ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِلَّةِ الْحَرَامِ وَكَثْرَتِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْحَلَالِ فَكُلَّمَا كَثُرَ الْحَرَامُ تَأَكَّدَتْ الشُّبْهَةُ ، وَكُلَّمَا قَلَّ خَفَّتْ الشُّبْهَةُ إلَى أَنْ يُسَاوِيَ الْحَلَالُ الْحَرَامَ فَتَسْتَوِي الشُّبُهَاتُ ، وَسَنَذْكُرُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ مُسْتَقْصًى إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَاعِدَةٌ : إذَا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَةُ فِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ بِحَيْثُ لَا يُوجَدُ عَدْلٌ ، وَلَّيْنَا أَقَلَّهُمْ فُسُوقًا وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : - أَحَدُهَا : إذَا تَعَذَّرَ فِي الْأَئِمَّةِ فَيُقَدَّمُ أَقَلُّهُمْ فُسُوقًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، فَإِذَا كَانَ الْأَقَلُّ فُسُوقًا يُفَرِّطُ فِي عُشْرِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ مَثَلًا وَغَيْرُهُ يُفَرِّطُ فِي خُمُسِهَا لَمْ تَجُزْ تَوْلِيَةُ مَنْ يُفَرِّطُ فِي الْخُمُسِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ تَوْلِيَةُ مَنْ يُفَرِّطُ فِي الْعُشْرِ ، وَإِنَّمَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ حِفْظَ تِسْعَةِ الْأَعْشَارِ بِتَضْيِيعِ الْعُشْرِ أَصْلَحُ لِلْأَيْتَامِ وَلِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِنْ تَضْيِيعِ الْجَمِيعِ ، وَمِنْ تَضْيِيعِ الْخُمُسِ أَيْضًا ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ دَفْعِ أَشَدِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ بِأَخَفِّهِمَا ، وَلَوْ تَوَلَّى الْأَمْوَالَ الْعَامَّةَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِالتَّبْذِيرِ نُفِّذَتْ تَصَرُّفَاتُهُ الْعَامَّةُ إذَا وَافَقَتْ الْحَقَّ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا يُنَفَّذُ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ ، إذْ لَا مُوجِبَ لِإِنْقَاذِهِ مَعَ خُصُوصِ مَصْلَحَتِهِ ، وَلَوْ اُبْتُلِيَ النَّاسُ بِتَوْلِيَةِ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ مُمَيِّزٍ يَرْجِعُ إلَى رَأْيِ الْعُقَلَاءِ فَهَلْ يُنَفَّذُ تَصَرُّفُهُمَا الْعَامُّ فِيمَا يُوَافِقُ الْحَقَّ كَتَجْنِيدِ الْأَجْنَادِ وَتَوْلِيَةِ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ ؟ فَفِي ذَلِكَ وَقْفَةٌ . وَلَوْ اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى إقْلِيمٍ عَظِيمٍ فَوَلَّوْا الْقَضَاءَ لِمَنْ يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةِ ، فَاَلَّذِي يَظْهَرُ إنْفَاذُ ذَلِكَ كُلِّهِ جَلْبًا لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَدَفْعًا لِلْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ ، إذْ يَبْعُدُ عَنْ رَحْمَةِ الشَّرْعِ وَرِعَايَتِهِ لِمَصَالِحِ عِبَادِهِ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ وَتَحَمُّلُ الْمَفَاسِدِ الشَّامِلَةِ ، لِفَوَاتِ الْكَمَالِ فِيمَنْ يَتَعَاطَى تَوْلِيَتَهَا لِمَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا ، وَفِي ذَلِكَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ . الْمِثَالُ الثَّانِي : الْحُكَّامُ إذَا تَفَاوَتُوا فِي الْفُسُوقِ قَدَّمْنَا أَقَلَّهُمْ فُسُوقًا ، لِأَنَّا لَوْ قَدَّمْنَا غَيْرَهُ لَفَاتَ مَعَ الْمَصَالِحِ مَا لَنَا عَنْهُ مَنْدُوحَةٌ ، وَلَا يَجُوزُ تَفْوِيتُ مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْقِيَامِ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يُجَوَّزْ هَذَا وَأَمْثَالُهُ لَضَاعَتْ أَمْوَالُ الْأَيْتَامِ كُلُّهَا ، وَأَمْوَالُ الْمَصَالِحِ بِأَسْرِهَا . وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } . وَلَوْ فَاتَتْ الْعَدَالَةُ فِي شُهُودِ الْحُكَّامِ فَفِي هَذَا وَقْفَةٌ ، مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَصْلَحَةَ الْمُدَّعِي مُعَارَضَةٌ بِمَفْسَدَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالذِّمَمِ وَالْأَبَدَانِ ، وَالظَّاهِرُ مِمَّا فِي الْأَيْدِي لِأَرْبَابِهَا . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا تَعَذَّرَتْ الْعَدَالَةُ فِي وِلَايَةِ الْأَيْتَامِ فَيَخْتَصُّ بِهَا أَقَلُّهُمْ فُسُوقًا فَأَقَلُّهُمْ ، لِأَنَّ حِفْظَ الْبَعْضِ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِ الْكُلِّ ، فَإِذَا كَانَ مَالُ الْيَتِيمِ أَلْفًا وَأَقَلُّ وِلَايَةٍ فُسُوقًا يَخُونُ فِي مِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ وَيَحْفَظُ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْفَعَ إلَى مَنْ يَخُونُ فِي مِائَتَيْنِ فَمَا زَادَ عَلَيْهَا . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : فَوَاتُ الْعَدَالَةِ فِي الْمُؤَذِّنِينَ وَالْأَئِمَّةِ يُقَدَّمُ فِيهَا الْفَاسِقُ عَلَى الْأَفْسَقِ تَحْصِيلًا لِلْمَصَالِحِ عَلَى حَسَبِ الْإِمْكَانِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : إذَا تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْفُسُوقِ فِي حَقِّ الْأَئِمَّةِ قَدَّمْنَا أَقَلَّهُمْ فُسُوقًا ، مِثْلَ إنْ كَانَ فِسْقُ أَحَدِ الْأَئِمَّةِ بِقَتْلِ النُّفُوسِ وَفِسْقُ الْآخَرِ بِانْتِهَاكِ حُرْمَةِ الْأَبْضَاعِ ، وَفِسْقُ الْآخَرِ بِالتَّضَرُّعِ لِلْأَمْوَالِ ، قَدَّمْنَا الْمُتَضَرِّعَ لِلْأَمْوَالِ عَلَى الْمُتَضَرِّعِ لِلدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ تَقْدِيمُهُ قَدَّمْنَا الْمُتَضَرِّعَ لِلْأَبْضَاعِ عَلَى مَنْ يَتَعَرَّضُ لِلدِّمَاءِ ، وَكَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ التَّقْدِيمُ عَلَى الْكَبِيرِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْأَكْبَرِ وَالصَّغِيرِ مِنْهَا وَالْأَصْغَرِ عَلَى اخْتِلَافِ رُتَبِهَا . فَإِنْ قِيلَ : أَيَجُوزُ الْقِتَالُ مَعَ أَحَدِهِمَا لِإِقَامَةِ وِلَايَتِهِ وَإِدَامَةِ تَصَرُّفِهِ مَعَ إعَانَتِهِ عَلَى مَعْصِيَتِهِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ دَفْعًا لِمَا بَيْنَ مَفْسَدَتَيْ الْفُسُوقَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ وَدَرْءًا لِلْأَفْسَدِ فَالْأَفْسَدِ ، وَفِي هَذَا وَقْفَةٌ وَإِشْكَالٌ مِنْ جِهَةِ أَنَّا نُعِينُ الظَّالِمَ عَلَى فَسَادِ الْأَمْوَالِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْأَبْضَاعِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ . وَكَذَلِكَ نُعِينُ الْآخَرَ عَلَى إفْسَادِ الْأَبْضَاعِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الدِّمَاءِ وَهِيَ مَعْصِيَةٌ ، وَلَكِنْ قَدْ يَجُوزُ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ لَا لِكَوْنِهَا مَعْصِيَةً بَلْ لِكَوْنِهَا وَسِيلَةً إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِالْإِعَانَةِ مَصْلَحَةٌ تَرْبُو عَلَى مَصْلَحَةِ تَفْوِيتِ الْمَفْسَدَةِ كَمَا ، تُبْذَلُ الْأَمْوَالُ فِي فِدَى الْأَسْرَى الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِي الْكَفَرَةِ وَالْفَجَرَةِ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَرْأَةُ وَلِيًّا وَلَا حَاكِمًا فَهَلْ لَهَا أَنْ تُحَكِّمَ أَجْنَبِيًّا يُزَوِّجُهَا ؟ أَوْ تُفَوِّضَ إلَيْهِ التَّزْوِيجَ مِنْ غَيْرِ تَحْكِيمٍ ؟ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَمَبْنَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ كُلِّهَا عَلَى الضَّرُورَاتِ وَمَسِيسِ الْحَاجَاتِ ، وَقَدْ يَجُوزُ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ مَا لَا يَجُوزُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ ، كَمَا يَجُوزُ لِمَنْ ظَفِرَ بِمَالِ غَرِيمِهِ الْجَاحِدِ لِدَيْنِهِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَالِهِ مِثْلَ حَقِّهِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَبِيعَهُ . وَكَذَلِكَ مَسْأَلَةُ هُرُوبِ الْجَمَّالِ وَتَرْكِهِ الْجِمَالَ ، كَذَلِكَ الِالْتِقَاطُ وَتَخْيِيرُ الْمُلْتَقِطِ فِي التَّمْلِيكِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ الْمُعْتَبَرِ ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْمُضْطَرِّ الطَّعَامَ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهِ .
قَدْ يَتَقَدَّمُ الْمَفْضُولُ عَلَى الْفَاضِلِ بِالزَّمَانِ عِنْدَ اتِّسَاعِ وَقْتِ الْفَاضِلِ ، كَتَقْدِيمِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالسُّنَنِ الرَّوَاتِبِ عَلَى الْفَرَائِضِ فِي أَوَائِلِ الْأَوْقَاتِ . وَمِثْلُ ذَلِكَ : تَقْدِيمُ الْمَفْضُولِ الَّذِي يُخَافُ فَوْتُهُ عَلَى الْفَاضِلِ الَّذِي لَا يُخْشَى فَوْتُهُ ؛ كَتَقْدِيمِ حَمْدَلَةِ الْعَاطِسِ وَتَشْمِيتِهِ فِي أَثْنَاءِ الْأَذَانِ ، وَفِي أَثْنَاءِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَكَتَقْدِيمِ السَّلَامِ وَرَدِّهِ الْمَسْنُونِ عَلَى تَوَالِي كَلِمَاتِ الْأَذَانِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، فَإِنْ تَعَيَّنَ رَدُّ السَّلَامِ كَانَ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْقِرَاءَةِ مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ الْفَرْضِ عَلَى النَّفْلِ ، وَإِنْ وَقَعَ الْأَذَانُ فِي الصَّلَاةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُصَلِّي فِي الْفَاتِحَةِ لَمْ يُجِبْهُ لِئَلَّا يَنْقَطِعَ وَلَاءُ الْفَاتِحَةِ ، فَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْفَاتِحَةِ فَفِي إجَابَتِهِ قَوْلَانِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْإِجَابَةِ قَدْ عَارَضَتْهَا مَصْلَحَةُ مُوَالَاةِ أَذْكَارِ الصَّلَاةِ وَقِرَاءَتِهَا .
إذَا تَسَاوَتْ الْمَصَالِحُ مَعَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ تَخَيَّرْنَا فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لِلتَّنَازُعِ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا إذَا رَأَيْنَا صَائِلًا يَصُولُ عَلَى نَفْسَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُتَسَاوِيَيْنِ وَعَجَزْنَا عَنْ دَفْعِهِ عَنْهُمَا فَإِنَّا نَتَخَيَّرُ . الْمِثَالُ الثَّانِي : لَوْ رَأَيْنَا مَنْ يَصُولُ عَلَى بِضْعَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ وَعَجَزْنَا عَنْ الدَّفْعِ عَنْهُمَا فَإِنَّا نَتَخَيَّرُ ، وَلَوْ وَجَدْنَا مَنْ يَقْصِدُ غُلَامًا بِاللِّوَاطِ وَامْرَأَةً بِالزِّنَا فَفِي هَذَا نَظَرٌ وَتَأَمُّلٌ . فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ الزَّانِي ، لِأَنَّ مَفَاسِدَ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُهَا فِي اللِّوَاطِ ، وَلِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اتَّفَقُوا عَلَى حَدِّ الزِّنَا وَاخْتَلَفُوا فِي حَدِّ اللَّائِطِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَبْدَأَ بِدَفْعِ اللَّائِطِ لِأَنَّ جِنْسَهُ لَمْ يُحَلَّلْ قَطُّ ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ الذُّكُورِ وَإِبْطَالِ شَهَامَتِهِمْ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَخَيَّرَ فِي ذَلِكَ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : لَوْ رَأَيْنَا مَنْ يَصُولُ عَلَى مَالَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ لِمُسْلِمَيْنِ مَعْصُومَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ تَخَيَّرْنَا . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا حَجَزَ الْحَاكِمُ عَلَى الْمُفْلِسِ وَجَبَتْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الدُّيُونِ بِالْمُحَاصَّةِ فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِائَةً وَمَالُهُ عَشَرَةً سَوَّى بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِإِيصَالِ كُلٍّ مِنْهُمْ إلَى عُشْرِ دَيْنِهِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : إذَا مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لِرَجُلَيْنِ بِحَيْثُ تَضِيقُ عَنْهُ التَّرِكَةُ سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي الْمُحَاصَّةِ ؛ إذْ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : إذَا حَضَرَ فَقِيرَانِ مُتَسَاوِيَانِ تَخَيَّرَ فِي الدَّفْعِ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ وَفِي الْفَضِّ عَلَيْهِمَا . الْمِثَالُ السَّابِعُ : إذَا حَضَرَتْ أُضْحِيَّتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ تَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ تَفَاوَتَتْ بَدَأَ بِأَفْضَلِهِمَا ، وَوَقَعَ فِي الْفَتَاوَى فِيمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مُهْرِيَّةٌ تُسَاوِي أَلْفًا ، وَعَشْرَةُ أَيْنُقٍ تُسَاوِي أَلْفًا ، فَالتَّضْحِيَةُ بِأَيِّهِمَا أَفْضَلُ ؟ فَكَانَ الْجَوَابُ أَنَّ التَّضْحِيَةَ بِالْأَيْنُقِ أَوْلَى لِمَا فِيهَا مِنْ تَعْمِيمِ الْإِقَاتَةِ وَالنَّفْعِ ، وَفَضِيلَةُ الْمُهْرِيَّةِ تَفُوتُ بِذَبْحِهَا بِخِلَافِ عِتْقِ أَنْفُسِ الرَّقَبَتَيْنِ وَأَغْلَاهَا ثَمَنًا عِنْدَ أَهْلِهَا ، لِأَنَّ شَرَفَ الْمُخْرَجِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مُشَرِّفِهِ ؛ فَإِخْرَاجُ أَشْرَافِ الْمَالِ أَحْسَنُ فِي الطَّوَاعِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْهَدَايَا تَعْظِيمُ الْمُهْدَى إلَيْهِ وَأَفْضَلُ الْهَدَايَا أَنْفَسُهَا . وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ حِصَانًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ وَيَذْبَحَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ ، وَأَنْ يَشْتَرِيَ بِالْأَلْفِ أَلْفَ شَاةٍ وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا فَلَا شَكَّ أَنَّ التَّصَدُّقَ بِلُحُومِ الشِّيَاهِ أَفْضَلُ لِكَثْرَةِ مَا يُحَصِّلُهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ وَالْمَنَافِعِ ؛ وَلِأَنَّ فَضِيلَةَ الْحِصَانِ تَفُوتُ بِذَبْحِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهَا شَيْءٌ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ : إذَا مَلَكَ نَفَقَةَ زَوْجِهِ وَلَهُ زَوْجَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ سَوَّى بَيْنَهُمَا . الْمِثَالُ التَّاسِعُ : إذَا كَانَ لَهُ ابْنَانِ مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا فَلْيُوَزِّعْهَا بَيْنَهُمَا . الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ دَيْنَانِ مُتَسَاوِيَانِ وَلَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَالْأَوْلَى أَنْ يَفُضَّهُ عَلَى مَالِكَيْهِمَا وَإِنْ قَدَّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ جَازَ . الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : لَوْ دُعِيَ الشَّاهِدُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ إلَى شَهَادَةٍ بِحَقَّيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ تَخَيَّرَ فِي إجَابَةِ مَنْ شَاءَ مِنْ الدَّاعِينَ ، وَإِذَا اخْتَلَفَ الْحَقَّانِ فَإِنْ خِيفَ فَوَاتُ أَحَدِهِمَا وَأَمِنَ فَوَاتَ الْآخَرِ وَجَبَ الْبِدَارُ إلَى مَا يَخْشَى فَوَاتَهُ وَإِنْ لَمْ يَخَفْ ذَلِكَ تَخَيَّرَ .
وَإِنَّمَا شُرِعَتْ الْقُرْعَةُ عِنْدَ تَسَاوِي الْحُقُوقِ دَفْعًا لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ ، وَلِلرِّضَاءِ بِمَا جَرَتْ بِهِ الْأَقْدَارُ ، وَقَضَاهُ الْمَلِكُ الْجَبَّارُ ، فَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمْ فِي مَقَاصِدِ الْخِلَافَةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمْ فِي مَقَاصِدِ الْإِمَامَةِ ، وَمِنْ ذَلِكَ تَقَارُعُهُمْ عَلَى الْأَذَانِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمُؤَذِّنِينَ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ عِنْدَ تَزَاحُمِ الْمُتَسَابِقِينَ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي تَغْسِيلِ الْأَمْوَاتِ عِنْدَ تَسَاوِي الْأَوْلِيَاءِ فِي الصِّفَاتِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْحَاضِنَاتِ إذَا كُنَّ فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْأَوْلِيَاءِ إذَا أَذِنَتْ لَهُمْ الْمَرْأَةُ وَكُلُّهُمْ فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي السَّفَرِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ ؛ لِمَا فِي تَخَيُّرِ الزَّوْجِ مِنْ إيغَارِ صُدُورِهِنَّ وَإِيحَاشِ قُلُوبِهِنَّ . وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ الْبُدَاءَةَ بِإِحْدَاهُنَّ فِي الْقَسْمِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي زِفَافِهِنَّ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ بَيْنَ الْعَبِيدِ فِي الْإِعْتَاقِ إذَا زَادُوا عَلَى الثُّلُثِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْ قَتْلِ جَمَاعَةٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَا يَتَخَيَّرُ الْحَاكِمُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى إذَا طَلَبُوا الْقِصَاصَ دَفْعًا لِإِيغَارِ صُدُورِهِمْ ، وَإِذَا تَسَاوَتْ السِّهَامُ فِي قِسْمَةِ الدُّورِ وَالْأَرَاضِي لَمْ يَتَخَيَّرْ الْقَاسِمُ بَلْ يُقْرِعُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ لِتَسَاوِي حُقُوقِهِمْ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي التَّقَدُّمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إيغَارِ الصُّدُورِ ، وَلَوْ حَضَرَ الْحَاكِمَ خُصُومٌ لَا مَزِيَّةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ لِئَلَّا يُوغِرَ صُدُورَهُمْ ، وَإِنْ تَرَجَّحَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَالْمَرْأَةِ وَالْمُقِيمِ وَالْمُسَافِرِ قَدَّمَ الْمَرْأَةَ عَلَى الرِّجَالِ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ ، وَقَدَّمَ الْمُسَافِرَ عَلَى الْمُقِيمِ لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِفَوْتِ الرِّفَاقِ ، وَلَا وَجْهَ لِلْإِقْرَاعِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَا عِنْدَ تَعَارُضِ الْخَبَرَيْنِ ، إذْ لَا يُفِيدُ ثِقَةً بِأَحَدِ الْخَبَرَيْنِ وَلَا بِإِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَاعُ فِي الْتِقَاطِ اللُّقَطَاءِ ، وَلَوْ تَسَاوَى اثْنَانِ يَصْلُحَانِ لِلْوِلَايَةِ أَوْ الْإِمَامَةِ أَوْ الْأَحْكَامِ اُحْتُمِلَ أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَتَخَيَّرَ بَيْنَهُمَا مَنْ يُفَوَّضُ إلَيْهِ ذَلِكَ . فَكُلُّ هَذِهِ الْحُقُوقِ مُتَسَاوِيَةُ الْمَصَالِحِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَقْرَعَ لِيُعَيِّنَ بَعْضَهَا دَفْعًا لِلضَّغَائِنِ وَالْأَحْقَادِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى التَّبَاغُضِ وَالتَّحَاسُدِ وَالْعِنَادِ ، فَإِنَّ مَنْ يَتَوَلَّى الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ إذَا قُدِّمَ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ أَدَّى ذَلِكَ إلَى مَقْتِهِ وَبِغْضَتِهِ ، وَإِلَى أَنْ يَحْسُدَ الْمُتَأَخِّرُ الْمُتَقَدِّمَ ؛ فَشُرِعَتْ الْقُرْعَةُ دَفْعًا لِهَذَا الْفَسَادِ وَالْعِنَادِ ، لَا لِأَنَّ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ رُجِّحَتْ عَلَى الْأُخْرَى ، وَلَا يُمْكِنُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، فَإِنَّ الْقُرْعَةَ لَا تُرَجِّحُ الثِّقَةَ بِإِحْدَى الشَّهَادَتَيْنِ إذْ لَا تَزِيدُ بَيَانًا ، وَالتَّرْجِيحُ فِي كُلِّ بَابٍ إنَّمَا يَقَعُ بِالزِّيَادَةِ فِي مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْبَابِ .
أَوْ بِإِفْسَادِ بَعْضِهِ أَوْ بِإِفْسَادِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ إلَّا بِفَسَادِهِ فَكَإِفْسَادِ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ لِأَجْلِ الشِّفَاءِ وَالِاغْتِذَاءِ وَإِبْقَاءِ الْمُكَلَّفِينَ لِعِبَادَةِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَكَإِحْرَاقِ الْأَحْطَابِ وَإِبْلَاءِ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ وَالْفُرُشِ وَآلَاتِ الصَّنَائِعِ بِالِاسْتِعْمَالِ .
وَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ إلَّا بِإِفْسَادِ بَعْضِهِ فَكَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ حِفْظًا لِلرُّوحِ ، إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَطْعُهَا ، وَإِنْ كَانَ إفْسَادًا لَهَا لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ وَهُوَ حِفْظُ الرُّوحِ . وَكَذَلِكَ حِفْظُ بَعْضِ الْأَمْوَالِ بِتَفْوِيتِ بَعْضِهَا ؛ كَتَعْيِيبِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَالْمَجَانِينِ وَالسُّفَهَاءِ ، وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْغَصْبُ ، فَإِنَّ حِفْظَهَا قَدْ صَارَ بِتَعْيِيبِهَا فَأَشْبَهَ مَا يَفُوتُ مِنْ مَالِيَّتِهَا مِنْ أُجُورِ حَارِسِهَا وَحَانُوتِهَا . وَقَدْ فَعَلَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِثْلَ ذَلِكَ لَمَّا خَافَ عَلَى السَّفِينَةِ الْغَصْبَ فَخَرَقَهَا لِيُزَهِّدَ غَاصِبَهَا فِي أَخْذِهَا
وَأَمَّا مَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَتِهِ إلَّا بِإِفْسَادِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ فَكَقَطْعِ الْخُفَّيْنِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ ؛ فَإِنَّ حُرْمَةَ الْإِحْرَامِ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ سَلَامَةِ الْخُفَّيْنِ . وَأَمَّا إتْلَافُ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ بِالتَّحْرِيقِ وَالتَّخْرِيبِ وَقَطْعِ الْأَشْجَارِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِإِخْزَائِهِمْ وَإِرْغَامِهِمْ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ } ، وَمِثْلُهُ قَتْلُ خُيُولِهِمْ وَإِبِلِهِمْ ، إذَا كَانَتْ تَحْتَهُمْ فِي حَالِ الْقِتَالِ . وَكَذَلِكَ قَتْلُ أَطْفَالِهِمْ إذَا تَتَرَّسُوا بِهِمْ ، لِأَنَّهُ أَشَدُّ إخْزَاءً لَهُمْ مِنْ تَحْرِيقِ دِيَارِهِمْ وَقَطْعِ أَشْجَارِهِمْ .
إذَا اجْتَمَعَتْ الْمَفَاسِدُ الْمَحْضَةُ فَإِنْ أَمْكَنَ دَرْؤُهَا دَرَأْنَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ دَرْءُ الْجَمِيعِ دَرَأْنَا الْأَفْسَدَ فَالْأَفْسَدَ وَالْأَرْذَلَ فَالْأَرْذَلَ ، فَإِنْ تَسَاوَتْ فَقَدْ يَتَوَقَّفُ وَقَدْ يَتَخَيَّرُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ فِي التَّسَاوِي وَالتَّفَاوُتِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَفَاسِدِ الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَكْرُوهَاتِ ، وَلِاجْتِمَاعِ الْمَفَاسِدِ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يُكْرَهَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِحَيْثُ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهُ قُتِلَ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَدْرَأَ مَفْسَدَةَ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ عَلَى الْقَتْلِ ، لِأَنَّ صَبْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ إقْدَامِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمَكْرُوهِ بِسَبَبٍ مِنْ الْأَسْبَابِ لَزِمَهُ ذَلِكَ لِقُدْرَتِهِ عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ دَرْءُ الْقَتْلِ بِالصَّبْرِ لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى تَحْرِيمِ الْقَتْلِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي الِاسْتِسْلَامِ لِلْقَتْلِ ، فَوَجَبَ تَقْدِيمُ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ لِلْجَمْعِ عَلَى وُجُوبِ دَرْئِهَا ، عَلَى دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ الْمُخْتَلَفِ فِي وُجُوبِ دَرْئِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ فَإِنَّ الصَّبْرَ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ وَلَا خِلَافَ فِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ . وَكَذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى شَهَادَةِ زُورٍ أَوْ عَلَى حُكْمٍ بِبَاطِلٍ فَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ أَوْ الْحُكْمِ بِهِ قَتْلًا أَوْ قَطْعَ عُضْوٍ وَإِحْلَالَ بِضْعٍ مُحَرَّمٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ وَلَا الْحُكْمُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِسْلَامَ لِلْقَتْلِ أَوْلَى مِنْ التَّسَبُّبِ إلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ ذَنْبٍ ، أَوْ قَطْعِ عُضْوٍ بِغَيْرِ جُرْمٍ ، أَوْ إتْيَانِ بِضْعٍ مُحَرَّمٍ وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ أَوْ الْحُكْمُ بِمَالٍ لَزِمَهُ إتْلَافُهُ بِالشَّهَادَةِ أَوْ بِالْحُكْمِ حِفْظًا لِمُهْجَتِهِ كَمَا يَلْزَمُ حِفْظُهُمَا بِأَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ . وَكَذَلِكَ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ ، أَوْ غُصَّ وَلَمْ يَجِدْ مَا يَسِيغُ بِهِ الْغُصَّةَ سِوَى الْخَمْرِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْحَيَاةِ أَعْظَمُ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ مِنْ رِعَايَةِ الْمُحَرَّمَاتِ الْمَذْكُورَاتِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ أَكَلَهُ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْغَيْرِ أَخَفُّ مِنْ حُرْمَةِ النَّفْسِ ، وَفَوَاتَ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ إتْلَافِ مَالِ الْغَيْرِ بِبَدَلٍ ، وَهَذَا مِنْ قَاعِدَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ وَبَذْلِ الْمَصْلَحَةِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الشَّرْعِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا إذَا وَجَدَ عَادِمُ الْمَاءِ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ أَوْ الْخُبْثِ ، فَإِنَّهُ يُطَهِّرُ بِهِ الْخُبْثَ وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْحَدَثِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا وَجَدَ الْمُحْرِمُ مَا يَكْفِيهِ لِطَهَارَةِ الْحَدَثِ أَوْ لِغَسْلِ الطِّيبِ الْعَالِقِ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَغْسِلُ بِهِ الطِّيبَ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ التَّنَزُّهِ مِنْهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ، وَيَتَيَمَّمُ عَنْ الْحَدَثِ ، تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ بَدَلِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ ، وَلَوْ عَكَسَ لَفَاتَتْ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ بَدَلٍ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا عَتَقَ بَعْضَ عَبْدٍ سَرَى الْعِتْقُ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ ، وَتَجِبُ الْقِيمَةُ تَحْصِيلًا لِبَدَلِ مِلْكِ شَرِيكِهِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : إذَا عَتَقَ الْوَاقِفُ أَوْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْنَا لَا مِلْكَ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ، وَإِنْ مَلَكْنَاهُ فَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ هُوَ الْوَاقِفُ كَانَ إعْتَاقُهُ كَإِعْتَاقِ الرَّاهِنِ . وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ هُوَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ نَفَذَ إعْتَاقُهُ عَلَى الْأَصَحِّ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَكْمِيلِ الْعِتْقِ ، وَيَلْزَمُ قِيمَةُ نَصِيبِ شَرِيكِهِ لِيَشْتَرِيَ بِهَا مَا يُوقَفُ بَدَلُهُ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ بَدَلِ الْوَقْفِ ، فَكَانَ تَحْصِيلُ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعَ بَدَلِ الْأُخْرَى ، أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ وَتَعْطِيلِ بَدَلِ الْأُخْرَى . وَكَذَلِكَ لَوْ اُضْطُرَّ إلَى أَكْلِ النَّجَاسَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ أَكْلُهَا ، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ فَوَاتِ النَّفْسِ وَالْأَعْضَاءِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ أَكْلِ النَّجَاسَاتِ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : إذَا وَجَدَ الْمُضْطَرُّ إنْسَانًا مَيِّتًا أَكَلَ لَحْمَهُ لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي أَكْلِ لَحْمِ مَيِّتِ الْإِنْسَانِ ، أَقَلُّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي فَوْتِ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : لَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ مَنْ يَحِلُّ قَتْلُهُ كَالْحَرْبِيِّ وَالزَّانِي الْمُحْصَنِ وَقَاطِعِ الطَّرِيقِ الَّذِي تَحَتَّمَ قَتْلُهُ وَاللَّائِطِ وَالْمُصِرِّ ، عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، جَازَ لَهُ ذَبْحُهُمْ وَأَكْلُهُمْ إذًا لَا حُرْمَةَ لِحَيَاتِهِمْ لِأَنَّهَا مُسْتَحَقَّةُ الْإِزَالَةِ ، فَكَانَتْ الْمَفْسَدَةُ فِي زَوَالِهَا أَقَلَّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي فَوَاتِ حَيَاةِ الْمَعْصُومِ ، وَلَك أَنْ تَقُولَ فِي هَذَا وَمَا شَابَهَهُ جَازَ ذَلِكَ تَحَصُّلًا لِأَعْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ أَوْ دَفْعًا لِأَعْظَمِ الْمَفْسَدَتَيْنِ . فَتَقُولُ : جَازَ التَّدَاوِي بِالنَّجَاسَاتِ إذَا لَمْ يَجِدْ طَاهِرًا يَقُومُ مَقَامَهَا ، لِأَنَّ مَصْلَحَةَ الْعَافِيَةِ وَالسَّلَامَةِ أَكْمَلُ مِنْ مَصْلَحَةِ اجْتِنَابِ النَّجَاسَةِ ، وَلَا يَجُوزُ التَّدَاوِي بِالْخَمْرِ عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّ الشِّفَاءَ يَحْصُلُ بِهَا ، وَلَمْ يَجِدْ دَوَاءً غَيْرَهَا ، وَمِثْلُهُ قَطْعُ السِّلْعَةِ الَّتِي يَخْشَى عَلَى النَّفْسِ مِنْ بَقَائِهَا . فَإِنْ قِيلَ . قَدْ أَجَزْتُمْ قَلْعَ الضِّرْسِ إذَا اشْتَدَّ أَلَمُهُ وَلَمْ تُجَوِّزُوا قَطْعَ الْعُضْوِ إذَا اشْتَدَّ أَلَمُهُ ؟ قُلْنَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَطْعَ الْعُضْوِ مُفَوِّتٌ لِأَصْلِ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَقَلْعَ الضِّرْسِ مُفَوِّتٌ لِتَكْمِيلِ الِانْتِفَاعِ فَإِنَّ غَيْرَهُ مِنْ الْأَضْرَاسِ وَالْأَسْنَانِ يَقُومُ مَقَامَهُ . وَالثَّانِي : أَنَّ قَلْعَ الضِّرْسِ لَا سِرَايَةَ لَهُ إلَى الرُّوحِ بِخِلَافِ قَطْعِ الْعُضْوِ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ الْتَزَمَ فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ إدْخَالَ الضَّيْمِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَإِعْطَاءَ الدَّنِيَّةِ فِي الدِّينِ ؟ قُلْنَا : الْتَزَمَ ذَلِكَ دَفْعًا لِمَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ وَهِيَ قَتْلُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الَّذِينَ كَانُوا بِمَكَّةَ لَا يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِي قَتْلِهِمْ مَعَرَّةٌ عَظِيمَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ، فَاقْتَضَتْ الْمَصْلَحَةُ إيقَاعَ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ إلَى الْكُفَّارِ مَنْ جَاءَ مِنْهُمْ إلَى الْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ أَهْوَنُ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِينَ الْخَامِلِينَ ، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَ أَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْقِتَالِ مَصْلَحَةً عَظِيمَةً وَهِيَ إسْلَامُ جَمَاعَةٍ مِنْ الْكَافِرِينَ وَكَذَلِكَ قَالَ : { لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ } أَيْ فِي مِلَّتِهِ الَّتِي هِيَ أَفْضَلُ رَحْمَتِهِ وَكَذَلِكَ قَالَ : { لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا } أَيْ لَوْ تَفَرَّقَ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ وَتَمَيَّزَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا . وَلِتَسَاوِي الْمَفَاسِدِ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا إذَا وَقَعَ رَجُلٌ عَلَى طِفْلٍ مِنْ بَيْنِ الْأَطْفَالِ إنْ أَقَامَ عَلَى أَحَدِهِمْ قَتَلَهُ ، وَإِنْ انْفَتَلَ إلَى آخَرَ مِنْ جِيرَانِهِ قَتَلَهُ ، فَقَدْ قِيلَ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ وَهِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى الْأَصْلِ فِي انْتِفَاءِ الشَّرَائِعِ قَبْلَ نُزُولِهَا وَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْمَفْسَدَتَيْنِ ، فَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ مُسْلِمًا وَبَعْضُهُمْ كَافِرًا فَهَلْ يَلْزَمُهُ الِانْفِتَالُ إلَى الْكَافِرِ ، لِأَنَّ قَتْلَهُ أَخَفُّ مَفْسَدَةً مِنْ قَتْلِ الطِّفْلِ الْمَحْكُومِ بِإِسْلَامِهِ ؟ فَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنَّهُ يَلْزَمُهُ لِأَنَّا نُجَوِّزُ قَتْلَ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ عِنْدَ التَّتَرُّسِ بِهِمْ حَيْثُ لَا يَجُوزُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ .
الْمِثَالُ الثَّانِي : إذَا اغْتَلَمَ الْبَحْرُ بِحَيْثُ عَلِمَ رُكْبَانُ السَّفِينَةِ أَنَّهُمْ لَا يَخْلُصُونَ إلَّا بِتَغْرِيقِ شَطْرِ الرُّكْبَانِ لِتَخِفَّ بِهِمْ السَّفِينَةُ ، فَلَا يَجُوزُ إلْقَاءُ أَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْبَحْرِ بِقُرْعَةٍ وَلَا بِغَيْرِ قُرْعَةٍ ، لِأَنَّهُمْ مُسْتَوُونَ فِي الْعِصْمَةِ ، وَقَتْلُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مُحَرَّمٌ ، وَلَوْ كَانَ فِي السَّفِينَةِ مَالٌ أَوْ حَيَوَانٌ مُحْتَرَمٌ لَوَجَبَ إلْقَاءُ الْمَالِ ثُمَّ الْحَيَوَانِ الْمُحْتَرَمِ . لِأَنَّ الْمَفْسَدَةَ فِي فَوَاتِ الْأَمْوَالِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْمُحْتَرَمَةِ أَخَفُّ مِنْ الْمَفْسَدَةِ فِي فَوَاتِ أَرْوَاحِ النَّاسِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : إذَا أُكْرِهَ إنْسَانٌ عَلَى إفْسَادِ دِرْهَمٍ مِنْ دِرْهَمَيْنِ لِرَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ تَخَيَّرَ فِي إفْسَادِ أَيِّهِمَا شَاءَ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : لَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى إتْلَافِ حَيَوَانٍ مُحْتَرَمٍ مِنْ حَيَوَانَيْنِ يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : لَوْ أُكْرِهَ عَلَى شُرْبِ قَدَحِ خَمْرٍ مِنْ قَدَحَيْنِ تَخَيَّرَ أَيْضًا .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : لَوْ وَجَدَ حَرْبِيِّينَ فِي الْمَخْمَصَةِ فَإِنْ تَسَاوَيَا تَخَيَّرَ فِي أَكْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَإِنْ ، تَفَاوَتَا بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَجْنَبِيًّا وَالْآخَرُ أَبًا أَوْ ابْنًا أَوْ أُمًّا أَوْ جَدَّهُ كُرِهَ أَنْ يَأْكُلَ قَرِيبَهُ وَيَدَعَ الْأَجْنَبِيَّ ، كَمَا يُكْرَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ فِي الْجِهَادِ ، وَلَوْ وَجَدَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا مَعَ بَالِغٍ كَافِرٍ أَكَلَ الْكَافِرَ بَعْدَ ذَبْحِهِ وَكَفَّ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِمَا فِي أَكْلِهِمَا مِنْ إضَاعَةِ مَالِيَّتِهِمَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّ الْكَافِرَ الْحَقِيقِيَّ أَقْبَحُ مِنْ الْكَافِرِ الْحُكْمِيِّ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : لَوْ وَجَدَ كَافِرَيْنِ قَوِيَّيْنِ أَيِّدَيْنِ فِي حَالِ الْمُبَارِزَةِ تَخَيَّرَ فِي قَتْلِ أَيِّهِمَا شَاءَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَعْرَفَ بِمَكَايِدِ الْقِتَالِ وَالْحُرُوبِ ، وَأَضَرَّ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِ الْآخَرِ لِعِظَمِ مَفْسَدَةِ بَقَائِهِ ، بَلْ لَوْ كَانَ ضَعِيفًا وَهُوَ أَعْرَفُ بِمَكَايِدِ الْحُرُوبِ وَالْقِتَالِ ، قَدَّمَ قَتْلَهُ عَلَى قَتْلِ الْقَوِيِّ ، لِمَا فِي إبْقَائِهِ مِنْ عُمُومِ الْمَفْسَدَةِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : لَوْ قَصَدَ الْمُسْلِمِينَ عَدُوَّانِ ، أَحَدُهُمَا مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْآخَرُ مِنْ الْمَغْرِبِ ، فَتَعَذَّرَ دَفْعُهُمَا جَمِيعًا ، دَفَعْنَا أَضَرَّهُمَا أَوْ أَكْثَرَهُمَا عَدَدًا وَنَجْدَةً وَنِكَايَةً فِي أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الضَّعِيفَةُ أَقْرَبَ إلَيْنَا مِنْ الْقَوِيَّةِ وَنَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِهِمَا قَبْلَ أَنْ تَغْشَانَا الْفِئَةُ الْقَوِيَّةُ فَنَبْدَأُ بِهَا ، وَلَوْ تَكَافَأَ الْعَدُوَّانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ مِنْ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ وَغَيْرِهِمَا تَخَيَّرْنَا فِي ذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْجَمْعِ .
إذَا اجْتَمَعَتْ مَصَالِحُ وَمَفَاسِدُ فَإِنْ أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَدَرْءُ الْمَفَاسِدِ فَعَلْنَا ذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمَا لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الدَّرْءُ وَالتَّحْصِيلُ فَإِنْ كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ دَرَأْنَا الْمَفْسَدَةَ وَلَا نُبَالِي بِفَوَاتِ الْمَصْلَحَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } . حَرَّمَهُمَا لِأَنَّ مَفْسَدَتَهُمَا أَكْبَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهِمَا . أَمَّا مَنْفَعَةُ الْخَمْرِ فَبِالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا ، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْمَيْسِرِ فَبِمَا يَأْخُذُهُ الْقَامِرُ مِنْ الْمَقْمُورِ . وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْخَمْرِ فَبِإِزَالَتِهَا الْعُقُولَ ، وَمَا تُحْدِثُهُ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا مَفْسَدَةُ الْقِمَارِ فَبِإِيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَهَذِهِ مَفَاسِدُ عَظِيمَةٌ لَا نِسْبَةَ إلَى الْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ إلَيْهَا . وَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ أَعْظَمَ مِنْ الْمَفْسَدَةِ حَصَّلْنَا الْمَصْلَحَةَ مَعَ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ ، وَإِنْ اسْتَوَتْ الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ فَقَدْ يُتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ يُتَوَقَّفُ فِيهِمَا ، وَقَدْ يَقَعُ الِاخْتِلَافُ فِي تَفَاوُتِ الْمَفَاسِدِ .
فَنَبْدَأُ بِأَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مِنْ رُجْحَانِ مَصَالِحِهِمَا عَلَى مَفَاسِدِهِمَا وَهَذِهِ الْمَصَالِحُ أَقْسَامٌ : أَحَدُهُمَا مَا يُبَاحُ . وَالثَّانِي : مَا يَجِبُ لِعَظْمِ مَصْلَحَتِهِ ، وَالثَّالِثُ مَا يُسْتَحَبُّ لِزِيَادَةِ مَصْلَحَتِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْمُبَاحِ ، وَالرَّابِعُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . الْمِثَالُ الْأَوَّلُ : التَّلَفُّظُ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْحِكَايَةِ وَالْإِكْرَاهِ ، إذَا كَانَ قَلْبُ الْمُكْرَهِ مُطْمَئِنًّا بِالْإِيمَانِ ، لِأَنَّ حِفْظَ الْمُهَجِ وَالْأَرْوَاحِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً مِنْ مَفْسَدَةِ التَّلَفُّظِ بِكَلِمَةٍ لَا يَعْتَقِدُهَا الْجَنَانُ ، وَلَوْ صَبَرَ عَلَيْهَا لَكَانَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِزَازِ الدِّينِ وَإِجْلَالِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَالتَّغْرِيرُ بِالْأَرْوَاحِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ جَائِزٌ ، وَأَبْعَدَ مَنْ أَوْجَبَ التَّلَفُّظَ بِهَا .
الْمِثَالُ الثَّانِي : مَا يَكْفُرُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ الْمُنَاقِضَةِ لِلتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ إذَا فَعَلَهُ بِالْإِكْرَاهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجَنَانِ ، وَلَا عَلَى جَحْدِ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ؛ إذْ لَا اطِّلَاعَ لِلْمُكْرَهِ عَلَى مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْجَنَانُ مِنْ كُفْرٍ وَإِيمَانٍ وَجَحْدٍ وَعِرْفَانٍ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ : اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ مَفْسَدَةٌ مَكْرُوهَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ وَجَبَ اسْتِعْمَالُهُ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَصْلَحَةِ الْوَاجِبِ ، أَوْلَى مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْمَكْرُوهِ ، لِأَنَّ تَحَمُّلَ مَشَقَّةِ الْمَكْرُوهِ ، أَوْلَى مِنْ تَحَمُّلِ مَفْسَدَةِ تَفْوِيتِ الْوَاجِبِ . فَإِنْ قِيلَ هَلَّا حَرَّمْتُمْ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ الْمُشَمَّسِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَضْرَارِ بِإِفْسَادِ الْأَجْسَادِ ، وَالرَّبُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَلَا أَهْلَ الْفَسَادِ ؟ قُلْنَا أَسْبَابُ الضَّرَرِ أَقْسَامٌ : - أَحَدُهَا مَا لَا يَخْتَلِفُ مُسَبِّبُهُ عَنْهُ ، إلَّا أَنْ يَقَعَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ أَوْ كَرَامَةً لِوَلِيٍّ ؛ كَالْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَشُرْبِ السُّمُومِ الْمُذَفَّفَةِ ، وَالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ ، فَهَذَا مَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ فِي حَالِ اخْتِيَارٍ وَلَا فِي حَالِ إكْرَاهٍ ؛ إذْ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ قَتْلُ نَفْسِهِ بِالْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ أَصَابَهُ مَرَضٌ لَا يُطِيقُهُ لِفَرْطِ أَلَمِهِ لَمْ يَجُزْ قَتْلُ نَفْسِهِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى الزِّنَا وَاللِّوَاطِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْإِكْرَاهِ ، وَلَوْ وَقَعَ بِرُكْبَانِ السَّفِينَةِ نَارٌ لَا يُرْجَى الْخَلَاصُ مِنْهَا فَعَجَزُوا عَنْ الصَّبْرِ عَلَى تَحَمُّلِهَا مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْ آلَامِهَا إلَّا بِالْإِلْقَاءِ فِي الْمَاءِ الْمُغْرِقِ ؛ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ الصَّبْرُ عَلَى ذَلِكَ ، إذْ اسْتَوَتْ مُدَّتَا الْحَيَاةِ فِي الْإِحْرَاقِ وَالْإِغْرَاقِ ، لِأَنَّ إقَامَتَهُمْ فِي النَّارِ سَبَبٌ مُهْلِكٌ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ . وَكَذَلِكَ إغْرَاقُ أَنْفُسِهِمْ فِي الْمَاءِ لَا انْفِكَاكَ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الصَّبْرُ عَلَى شِدَّةِ الْآلَامِ إذَا تَضَمَّنَ الصَّبْرُ عَلَى شِدَّتِهَا بَقَاءَ الْحَيَاةِ ، وَهَهُنَا لَا يُفِيدُ الصَّبْرُ عَلَى أَلَمِ النَّارِ شَيْئًا مِنْ الْحَيَاةِ فَتَبْقَى مَفْسَدَةً لَا فَائِدَةَ لَهَا .
الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا يَغْلِبُ تَرَتُّبُ مُسَبِّبِهِ عَلَيْهِ وَقَدْ يَنْفَكُّ عَنْهُ نَادِرًا فَهَذَا أَيْضًا لَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَقَامَ الظَّنَّ مَقَامَ الْعِلْمِ فِي أَكْبَرِ الْأَحْوَالِ .
الْقِسْمُ الثَّالِثُ : مَا لَا يَتَرَتَّبُ مُسَبِّبُهُ إلَّا نَادِرًا ، فَهَذَا لَا يُحَرَّمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ مِنْ أَذِيَّتِهِ وَهَذَا كَالْمَاءِ الْمُشَمَّسِ فِي الْأَوَانِي الْمَعْدِنِيَّةِ فِي الْبِلَادِ الْحَارَّةِ ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِعْمَالُهُ مَعَ وِجْدَانِ غَيْرِهِ ، خَوْفًا مِنْ وُقُوعِ نَادِرِ ضَرَرِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهُ تَعَيَّنَ اسْتِعْمَالُهُ لِغَلَبَةِ السَّلَامَةِ مِنْ شَرِّهِ ؛ إذْ لَا يَجُوزُ تَعْطِيلُ الْمَصَالِحِ الْغَالِبَةِ لِوُقُوعِ الْمَفَاسِدِ النَّادِرَةِ ، وَمَنْ وَقَفَ الْكَرَاهَةَ عَلَى اسْتِعْمَالٍ فِيهِ عَلَى قَصْدِ اسْتِعْمَالِهِ فَقَدْ غَلِطَ ، لِأَنَّ مَا يُؤَثِّرُ بِطَبْعِهِ الَّذِي جَبَلَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ لَا يَقِفُ تَأْثِيرُهُ عَلَى قَصْدِ الْقَاصِدِينَ ؛ فَإِنَّ الْخُبْزَ يُشْبِعُ ، وَالْمَاءَ يَرْوِي ، والسقمونيا تُسْهِلُ ، وَالسُّمُّ يَقْتُلُ ، وَالْفَرْوَةُ تُدْفِئُ ، وَلَا يَقِفُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ الْقَاصِدِينَ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ : مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا الصَّلَاةُ مَعَ الْأَحْدَاثِ الثَّلَاثَةِ ، مَفْسَدَةٌ يَجِبُ اتِّقَاؤُهَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اتِّقَاؤُهَا فَلِلْمُكَلَّفِ حَالَانِ : إحْدَاهُمَا : أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ إبْدَالِهَا بِالتَّيَمُّمِ فَيَجِبُ جَبْرًا لِمَا فَاتَ مِنْ مَصَالِحِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِهَا . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : أَنْ يَعْجَزَ عَنْ بَدَلِهَا فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُصَلِّي عَلَى حَسَبِ حَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الْحَاصِلَةَ مِنْ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ ، أَكْمَلُ مِنْ الْمَفْسَدَةِ الْحَاصِلَةِ مِنْ اسْتِصْحَابِ الْأَحْدَاثِ فِي الصَّلَاةِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ : الصَّلَاةُ مَعَ الْأَنْجَاسِ مَفْسَدَةٌ يَجِبُ اتِّقَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ جَلِيسُ الرَّبِّ مُنَاجٍ لَهُ ، فَمِنْ إجْلَالِ الرَّبِّ أَلَّا يُنَاجَى إلَّا عَلَى أَشْرَفِ الْأَحْوَالِ ، فَإِنْ شَقَّ الِاجْتِنَابُ بِعُذَرٍ غَالِبٍ كَفَضْلَةِ الِاسْتِجْمَارِ وَدَمِ الْبَرَاغِيثِ وَطِينِ الشَّوَارِعِ وَدَمِ الْقُرُوحِ وَالْبَثَرَاتِ جَازَتْ صَلَاتُهُ رِفْقًا بِالْعِبَادِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الِاجْتِنَابُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ الطَّهَارَةُ صَحَّتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ ، لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ الْعُظْمَى أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ الطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ بِمَثَابَةِ التَّتِمَّاتِ وَالتَّكْمِلَاتِ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ : الصَّلَاةُ مَعَ تَجَدُّدِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَتْ الطَّهَارَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَشَقَّتْ مِنْ الْآخَرِ كَصَلَاةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَمَنْ بِهِ سَلَسُ الْبَوْلِ وَالْمَذْيُ وَالْوَدْيُ وَذَرَبُ الْمَعِدَةِ ، جَازَتْ الصَّلَاةُ مَعَهَا ؛ لِأَنَّ رِعَايَةَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الطَّهَارَتَيْنِ ، أَوْ مِنْ دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْحَدَثِ وَالْخُبْثِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ : الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِصَلْبٍ أَوْ عَجْزٍ أَوْ إكْرَاهٍ ، وَجَبَ الصَّلَاةُ عَلَى الْأَصَحِّ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي حُوِّلَ وَجْهُهُ إلَيْهَا لِئَلَّا تَفُوتَ مَقَاصِدُ الصَّلَاةِ وَسَائِرُ شَرَائِطِهَا بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شَرَائِطِهَا لَا نِسْبَةَ لِمَصْلَحَتِهِ إلَى شَيْءٍ مِنْ مَصَالِحِ مَقَاصِدِهَا ، وَإِنْ اشْتَدَّ الْخَوْفُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ الْغَازِي مِنْ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَقَطَ اسْتِقْبَالُهَا وَصَارَ اسْتِقْبَالُ جِهَةِ الْمُقَاتِلِ بَدَلًا مِنْ الْقِبْلَةِ ، وَهَذَا جَمْعٌ بَيْنَ مَصْلَحَتَيْ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ . وَكَذَلِكَ السَّفَرُ الْمُبَاحُ يَصِيرُ صَوْبَهُ بَدَلًا مِنْ جِهَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّ الْمُتَنَفِّلِ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَحْصِيلَ مَقَاصِدِ الصَّلَاةِ أَوْلَى مِنْ رِعَايَةِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهَا ، وَلَوْ مَنَعْنَا التَّنَفُّلَ فِي الْأَسْفَارِ لَامْتَنَعَ أَكْثَرُ النَّاسِ مِنْ التَّنَفُّلِ فِي السَّفَرِ وَلَامْتَنَعَ الْأَبْرَارُ مِنْ الْأَسْفَارِ حِرْصًا عَلَى إقَامَةِ النَّافِلَةِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ : صَلَاةُ الْعُرْيَانِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ قُبْحِ الْهَيْئَةِ لَا لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مُسْتَتِرٌ مِنْ رَبِّهِ ، فَمِنْ عَدَمِ السُّتْرَةَ صَلَّى عُرْيَانًا عَلَى الْأَصَحِّ ؛ لِئَلَّا تَفُوتَ مَقَاصِدُ الصَّلَاةِ حِفْظًا لِلسُّتْرَةِ الَّتِي اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي اشْتِرَاطِهَا فِي الصَّلَاةِ ، وَهِيَ مِنْ التَّوَابِعِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ : نَبْشُ الْأَمْوَاتِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ انْتِهَاكِ حُرْمَتِهِمْ ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ إذَا دُفِنُوا بِغَيْرِ غُسْلٍ أَوْ وُجِّهُوا إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ؛ لِأَنَّ مَصْلَحَةَ غُسْلِهِمْ وَتَوْجِيهِهِمْ إلَى الْقِبْلَةِ أَعْظَمُ مِنْ تَوْقِيرِهِمْ بِتَرْكِ نَبْشِهِمْ ، فَإِنْ جَيَّفُوا وَسَالَ صَدِيدُهُمْ لَمْ يُنْبَشُوا لِإِفْرَاطِ قُبْحِ نَبْشِهِمْ ، وَلَوْ ابْتَلَعُوا جَوَاهِرَ مَغْصُوبَةً شُقَّتْ أَجْوَافُهُمْ ، فَإِنْ كَانَتْ الْجَوَاهِرُ لِمُسْتَقِلٍّ فَالْأَوْلَى أَلَّا يَسْتَخْرِجَهَا إلَى أَنْ تَتَجَرَّدَ عِظَامُهُمْ عَنْ لُحُومِهِمْ حِفْظًا لِحُرْمَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِ مُسْتَقِلٍّ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَأَمْوَالِ الْمَصَالِحِ وَالْأَوْقَافِ الْعَامَّةِ اسْتَخْرَجَهَا حِفْظًا عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَصَرْفًا لَهَا فِي جِهَاتِ اسْتِحْقَاقِهَا ، وَإِنْ دُفِنُوا فِي أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ جَازَ نَقْلُهُمْ ، لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْحَيِّ آكَدُ مِنْ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ ، وَالْأَوْلَى بِمَالِكِ الْأَرْضِ أَلَّا يَنْقُلَهُمْ ، فَإِنْ أَبَى فَالْأَوْلَى أَنْ يَتْرُكَهُمْ إلَى أَنْ تَتَجَرَّدَ عِظَامُهُمْ عَنْ لُحُومِهِمْ وَتَتَفَرَّقَ أَوْصَالُهُمْ . وَكَذَلِكَ شَقُّ جَوْفِ الْمَرْأَةِ عَلَى الْجَنِينِ الْمَرْجُوِّ حَيَاتُهُ ، لِأَنَّ حِفْظَ حَيَاتِهِ أَعْظَمُ مَصْلَحَةً مِنْ مَفْسَدَةِ انْتِهَاكِ حُرْمَةِ أُمِّهِ ، وَإِذَا اخْتَلَطَ قَتْلَى الْكَافِرِينَ بِقَتْلَى الْمُسْلِمِينَ وَجَبَ تَغْسِيلُ الْجَمِيعِ وَتَكْفِينُهُمْ وَحَمْلُهُمْ ، نَظَرًا لِإِقَامَةِ مَصْلَحَةِ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْجَمِيعِ ، بَلْ يُنْوَى الصَّلَاةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً ، فَتَجْهِيزُ الْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَتَجْهِيزُ الْكَافِرِينَ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلْمُسْلِمِينَ .
الْمِثَالُ الْعَاشِرُ : ذَبْحُ الْحَيَوَانِ الْمَأْكُولِ لِلتَّغَذِّيَةِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ الْحَيَوَانِ لَكِنَّهُ جَازَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْإِنْسَانِ عَلَى مَصْلَحَةِ بَقَاءِ الْحَيَوَانِ . وَكَذَلِكَ ذَبْحُ مَنْ يُبَاحُ دَمُهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ كَالزَّانِي الْمُحْصَنِ ، وَمَنْ تَحَتَّمَ قَتْلُهُ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَالْمُصِرِّ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ ، جَائِزٌ فِي حَالِ الِاضْطِرَارِ ، حِفْظًا لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ الْمَعْصُومِ الْوَاجِبَةِ الْحِفْظِ ، وَالْإِبْقَاءُ بِإِزَالَةِ حَيَاةٍ وَاجِبَةِ الْإِزَالَةِ وَالْإِفْنَاءِ .
الْمِثَالُ الْحَادِيَ عَشَرَ : قَتْلُ الصَّيْدِ الْوَحْشِيِّ الْمَأْكُولِ بِغَيْرِ الذَّبْحِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهُ جَازَ بِالْحَرَجِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ لِمَصْلَحَةِ تَغْذِيَةِ الْأَجْسَادِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي عَشَرَ : ذَبْحُ صَيْدِ الْحَرَمِ ، أَوْ الصَّيْدُ فِي الْإِحْرَامِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ، تَقْدِيمًا لِحُرْمَةِ الْإِنْسَانِ عَلَى حُرْمَةِ الْحَيَوَانِ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَقْدِيمِ حَقِّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ . وَكَذَلِكَ أَكْلُ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْهُمْ مَفْسَدَةٌ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ وَمَسِيسِ الْحَاجَاتِ . وَكَذَلِكَ جَوَازُ أَكْلِ النَّجَاسَاتِ وَالْمَيْتَاتِ مِنْ النَّاسِ وَالْخَنَازِيرِ وَالضِّبَاعِ وَالسِّبَاعِ لِلضَّرُورَةِ ، وَهَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْوَاجِبَاتِ ، لِأَنَّ حِفْظَ الْأَرْوَاحِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً مِنْ اجْتِنَابِ النَّجَاسَاتِ ، وَلَوْ وَجَدَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْرِمُ صَيْدًا وَمَيْتَةً وَطَعَامَ أَجْنَبِيٍّ ، فَهَلْ يَتَخَيَّرُ ، أَوْ يَتَعَيَّنُ أَكْلُ الْمَيْتَةِ أَوْ الصَّيْدِ أَوْ مَالُ الْغَيْرِ ، فِيهِ اخْتِلَافٌ ، مَأْخَذُهُ أَيُّ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ أَخَفُّ وَأَيُّهَا أَعْظَمُ .
الْمِثَالُ الثَّالِثَ عَشَرَ : تَرْكُ الصَّلَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَتَأْخِيرُ الزَّكَاةِ وَحُقُوقِ النَّاسِ الْوَاجِبَاتِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ شَرْعِيٍّ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِكْرَاهِ ؛ فَإِنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ أَوْلَى مِمَّا يُتْرَكُ بِالْإِكْرَاهِ ، مَعَ أَنَّ تَدَارُكَهُ مُمْكِنٌ ، فَيَكُونُ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْحُقُوقِ وَبَيْنَ حِفْظِ الْأَرْوَاحِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعَ عَشَرَ : الْخَمْرُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ بِالْإِكْرَاهِ لِأَنَّ حِفْظَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ أَوْلَى مِنْ حِفْظِ الْعُقُولِ فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ ، وَلِأَنَّ فَوَاتَ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ دَائِمٌ ، وَزَوَالَ الْعُقُولِ يَرْتَفِعُ عَنْ قَرِيبٍ بِالصَّحْوِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسَ عَشَرَ : شَهَادَةُ الزُّورِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ فَإِنْ أُكْرِهَ عَلَيْهَا بِالْقَتْلِ أَوْ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْقَتْلِ كَقَطْعِ عُضْوٍ ، فَإِنْ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ يَتَضَمَّنُ قَتْلَ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ لِوَاطًا لَمْ يَجُزْ ، لِقُبْحِ الْكَذِبِ وَقُبْحِ التَّسَبُّبِ إلَى الْقَتْلِ وَالزِّنَا وَاللِّوَاطِ ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بِغَيْرِ ذَلِكَ جَازَتْ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِ الشَّاهِدِ أَعْظَمُ مِنْ حُرْمَةِ مَا أُكْرِهَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِهِ ، وَالْإِكْرَاهُ عَلَى الْحُكْمِ كَالْإِكْرَاهِ عَلَى شَهَادَةِ الزُّورِ .
الْمِثَالُ السَّادِسَ عَشَرَ : هِجْرَةُ الْمُسْلِمِ مُحَرَّمَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ الْمَفْسَدَةِ ، لَكِنَّهَا جَازَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ دَفْعًا لِلْمَشَقَّةِ عَنْ الْمُحْرَجِ الْغَضْبَانِ .
الْمِثَالُ السَّابِعَ عَشَرَ : الْحَجْرُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْتَقِلِّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَنَافِعِ نَفْسِهِ مَفْسَدَةٌ ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ عَلَى النِّسَاءِ فِي النِّكَاحِ دَفْعًا لِمَشَقَّةِ مُبَاشَرَتِهِ عَنْهُنَّ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَسْتَحِي وَيَشْتَدُّ خَجَلُهَا مِنْ الْعَقْدِ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ غَيْرِهَا وَلَا سِيَّمَا الْمُسْتَحِيَاتُ الْخَضِرَاتِ . وَكَذَلِكَ إجْبَارُ النِّسَاءِ عَلَى النِّكَاحِ مَفْسَدَةٌ ، لِأَنَّهُ أَحَدُ الرِّقَّيْنِ ، لَكِنَّهُ جَازَ فِي حَقِّ الْأَبْكَارِ الْأَصَاغِرِ ، لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُبَادَرَةِ إلَى تَحْصِيلِ الْأَكْفَاءِ ، إذْ لَا يَتَّفِقُ حُصُولُ الْأَكْفَاءِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنَ عَشَرَ : الْحَجْرُ عَلَى الْمَرْضَى فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، لَكِنَّهُ ثَبَتَ ، نَظَرًا لِمَصْلَحَةِ الْوَرَثَةِ فِي سَلَامَةِ الثُّلُثَيْنِ لَهُمْ ، كَمَا ثَبَتَ تَقْدِيمُ حَقِّهِ فِي الثُّلُثِ عَلَى حُقُوقِهِمْ .
الْمِثَالُ التَّاسِعَ عَشَرَ : الْحَجْرُ عَلَى الْمُفْلِسِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ لَكِنَّهُ ثَبَتَ تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ الْغُرَمَاءِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْحَجْرِ ، وَإِنْ شِئْت قُلْت تَقْدِيمًا لِمَصْلَحَةِ غُرَمَائِهِ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْإِطْلَاقِ ، بِخِلَافِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِهِ إلَى يَوْمِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّ مَصْلَحَتَهُ بِالْكِسْوَةِ وَالْإِنْفَاقِ وَمَصْلَحَةَ مَنْ يَلْزَمُهُ مَصْلَحَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى مَصَالِحِ غُرَمَائِهِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَكُونُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةً فِي حَقِّهِ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إبْرَاءِ ذِمَّتِهِ الَّذِي هُوَ مُهِمٌّ فِي الشَّرْعِ وَالطَّبْعِ ؟ قُلْنَا : الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ تَوْفِيرُ الْحُقُوقِ لِلْغُرَمَاءِ وَبَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ تَبَعًا لِذَلِكَ ، وَأَمَّا حَجْرُ التَّبْذِيرِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ لِرُجْحَانِ مَصْلَحَةِ الْحَجْرِ عَلَى مَفْسَدَةِ الْإِطْلَاقِ ، وَالْحَجْرُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ مَصْلَحَةٌ مَحْضَةٌ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ ، إذْ لَا يَأْتِي مِنْهُمْ التَّصَرُّفُ . وَفِي الْحَجْرِ عَلَى الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ . وَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ ثَابِتٌ لِمَصْلَحَتِهِ ، لِأَنَّ إطْلَاقَهُ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ ، لَكِنَّهُ تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ لِأَنَّهَا مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّهِ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ . وَكَذَلِكَ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ ، فَإِنَّهَا مَصْلَحَةٌ لَهُ فِي أُخْرَاهُ لَا تُعَارِضُهَا مَفْسَدَةٌ فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي أُخْرَاهُ .
الْمِثَالُ الْعِشْرُونَ : الْحَجْرُ عَلَى الْعَبِيدِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّ السَّادَةِ ، لِشَرَفِ الْحُرِّيَّةِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونَ : بَيْعُ الْعَبْدِ فِي جِنَايَتِهِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ السَّيِّدِ مَصْلَحَةٌ فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَقَدْ خَالَفَ فِيهَا بَعْضُ أَهْلِ الظَّاهِرِ ، وَخِلَافُهُمْ ظَاهِرٌ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونَ : وَضْعُ الْيَدِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ مَفْسَدَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ ، إلَّا فِي حَقِّ الْحُكَّامِ وَنُوَّابِ الْحُكَّامِ ، إذَا غَلِطُوا بِذَلِكَ فِي مَعْرِضِ التَّصَرُّفِ بِالْأَحْكَامِ ، أَوْ النِّيَابَةِ عَنْ الْحُكَّامِ . لِأَنَّ التَّغْرِيمَ يَكْثُرُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيُزَهِّدُهُمْ فِي وِلَايَةِ الْأَمْوَالِ ، وَيَجُوزُ الْتِقَاطُ الْأَمْوَالِ لِمَصَالِحِ أَرْبَابِهَا . وَكَذَلِكَ أَخْذُ الْحُكَّامِ إيَّاهَا لِحِفْظِهَا ، وَهَذَا وَاجِبٌ عَلَى الْحُكَّامِ . وَكَذَلِكَ الْأَمَانَةُ الشَّرْعِيَّةُ ، مِثْلَ مَنْ طَيَّرَتْ إلَيْهِ الرِّيحُ ثَوْبًا . وَالِالْتِقَاطُ مَحْبُوبٌ أَوْ وَاجِبٌ فِيهِ اخْتِلَافٌ ، وَالِالْتِقَاطُ لِلتَّعْرِيفِ وَالتَّمَلُّكِ جَائِزٌ لِمَصْلَحَةِ الْمَالِكِ وَالْمُلْتَقِطِ ، وَظَفَرُ الْمُسْتَحَقِّ بِجِنْسِ حَقِّهِ وَبِغَيْرِ جِنْسِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ أَخْذِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ جَائِزٌ ، وَهَذَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْمُبَاحَةِ إلَّا فِي حَقِّ الْمَجَانِينِ وَالْأَيْتَامِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونَ : إتْلَافُ مَالِ الْغَيْرِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ مَضْمُونٌ بِبَذْلِهِ ، إلَّا فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَالصِّوَالِ وَالْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِالْقِتَالِ
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ مَعَ الْجَهْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَحَقَّ مَفْسَدَةٍ مُوجِبَةٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْقَاتِلِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَلَّادًا ، لِمَا فِي تَغْرِيمِهِ مِنْ تَكَرُّرِ الْغُرْمِ الدَّاعِي إلَى تَرْكِ الْقِيَامِ بِمَصْلَحَةِ إقَامَةِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْعِشْرُونَ : قَتْلُ الْمُسْلِمِ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ بِالزِّنَا بِغَيْرِ الْإِحْصَانِ ، وَبِقَطْعِ الطَّرِيقِ وَالْبَغْيِ وَالصِّيَالِ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونَ : تَقْدِيمُ عَاقِلَةِ الْحَاكِمِ الدِّيَةَ فِيمَا يُخْطِئُ بِهِ الْحَاكِمُ فِي مَعْرِضِ الْأَحْكَامِ ، وَمَصَالِحُ الْإِسْلَامِ مَضَرَّةٌ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَتَجِبُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ دُونَ الْعَاقِلَةِ عَلَى قَوْلٍ ، لِمَا فِي تَغْرِيمِ عَاقِلَتِهِ مِنْ تَكْرِيرِ تَحْمِيلِ الْعَقْلِ وَكَذَلِكَ مَا يُفْسِدُهُ الْإِمَامُ وَيُفَوِّتُهُ مِنْ الْأَمْوَالِ بِسَبَبِ تَصَرُّفَاتِهِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، هَلْ يَغْرَمُهُ أَوْ يَجِبُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونَ : تَصْحِيحُ وِلَايَةِ الْفَاسِقِ مَفْسَدَةٌ ، لِمَا يَغْلِبُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِيَانَةِ فِي الْوِلَايَةِ ، لَكِنَّهَا صَحَّحْنَاهَا فِي حَقِّ الْإِمَامِ الْفَاسِقِ وَالْحَاكِمِ الْفَاسِقِ ؛ لِمَا فِي إبْطَالِ وِلَايَتِهِمَا مِنْ تَفْوِيتِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ ، وَنَحْنُ لَا نُنَفِّذُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِمْ إلَّا مَا يُنَفَّذُ مِنْ تَصَرُّفِ الْأَئِمَّةِ الْمُقْسِطِينَ وَالْحُكَّامِ الْعَادِلِينَ ، فَلَا نُبْطِلُ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَصَالِحِ لِأَجْلِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَفَاسِدِ ، إذْ لَا يُتْرَكُ الْحَقُّ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْبَاطِلِ ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ فِي ذَلِكَ أَنَّا نُصَحِّحُ تَصَرُّفَهُمْ الْمُوَافِقَ لِلْحَقِّ مَعَ عَدَمِ وِلَايَتِهِمْ لِضَرُورَةِ الرَّعِيَّةِ ، كَمَا نُصَحِّحُ تَصَرُّفَاتِ إمَامِ الْبُغَاةِ مَعَ عَدَمِ أَمَانَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا ، وَالضَّرُورَةُ فِي خُصُوصِ تَصَرُّفَاتِهِ ، فَلَا نَحْكُمُ بِصِحَّةِ الْوِلَايَةِ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ قَائِمَةٌ فِي كُلِّ مَا هُوَ مُفَوَّضٌ إلَى الْأَئِمَّةِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونَ : تَوَلِّي الْآحَادِ لِمَا يَخْتَصُّ بِالْأَئِمَّةِ مَفْسَدَةٌ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ إذَا كَانَ الْإِمَامُ جَائِرًا يَضَعُ الْحَقَّ فِي غَيْرِ مُسْتَحَقِّهِ ، فَيَجُوزُ لِمَنْ ظَفِرَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ الْحَقِّ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى مُسْتَحَقِّيهِ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ ذَلِكَ الْحَقِّ الَّذِي لَوْ دُفِعَ إلَى الْإِمَامِ الْجَائِرِ لَضَاعَ ، وَلَكَانَ دَفْعُهُ إلَيْهِ إعَانَةً عَلَى الْعِصْيَانِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونَ : نِكَاحُ الْأَحْرَارِ الْإِمَاءَ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ الْأَوْلَادِ لِلْإِرْقَاقِ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَ خَوْفِ الْعَنَتِ وَفَقْدِ الطَّوْلِ ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ وُقُوعِ التَّائِقِ فِي الزِّنَا الْمُوجِبِ فِي الدُّنْيَا لِلْعَارِ وَفِي الْآخِرَةِ لِعَذَابِ النَّارِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُحَرَّمُ تَحْصِيلُ مَصْلَحَةٍ نَاجِزَةٍ مُحَقِّقَةٍ لِتَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ مُمْهَلَةٍ ؟ قُلْنَا لَمَّا غَلَبَ وُقُوعُ هَذِهِ الْمَفْسَدَةِ جَعَلَ الشَّرْعُ الْمُتَوَقَّعَ كَالْوَاقِعِ ، فَإِنَّ الْعُلُوقَ غَالِبُ كَثِيرٍ ، وَالشَّرْعُ قَدْ يَحْتَاطُ لِمَا يَكْثُرُ وُقُوعُهُ احْتِيَاطُهُ لِمَا تَحَقَّقَ وُقُوعُهُ . أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَثْبَتَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَصْرُ الْوَرَثَةِ فِيهِ ، وَإِنْ أَثْبَتَ نَفْيَ الزَّوْجَاتِ وَالْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ لَمْ يَنْفَعْهُ الْإِثْبَاتُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلُ عَدَمَ مَنْ سِوَى الْأُصُولِ وَالزَّوْجَاتِ ، وَذَلِكَ احْتِيَاطٌ لِمَا يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ مِنْ الْوَرَثَةِ . فَإِنْ قِيلَ لَوْ طَلَبَ هَذَا الْأَمِينُ مِنْ التَّرِكَةِ دِرْهَمًا وَاحِدًا وَهِيَ عَشْرَةُ آلَافٍ ، فَهَلْ يُدْفَعُ إلَيْهِ شَيْءٌ قَبْلَ الْحَصْرِ أَمْ لَا ؟ قُلْنَا نَعَمْ يُدْفَعُ إلَيْهِ مَا يُقْطَعُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ إذَا كَانَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ لَا يَنْتَهِي إلَى مِثْلِ عَدَدِ التَّرِكَةِ فِي الْعَادَةِ ، كَمَا يُدْفَعُ إلَى ذَوِي الْفُرُوضِ فُرُوضَهُمْ عَائِلَةً ، إذْ مِنْ الْمُحَالِ فِي الْعَادَةِ أَنْ يَنْتَهِيَ عَدَدُ الْوَرَثَةِ إلَى أَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ فَمَا النَّظَرُ بِعَشْرَةِ الْآلَافِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا تَزَوَّجَ الْأَمَةَ حُرٌّ مَجْبُوبُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَلْيَجُزْ ذَلِكَ مَعَ أَمْنِ الْعَنَتِ وَوِجْدَانِ الطَّوْلِ إذْ لَا يُتَوَقَّعُ لَهُ وَلَدٌ فَيَرِقُّ ؟ قُلْت : إنْ أَلْحَقْنَا بِهِ النَّسَبَ جَازَ كَغَيْرِ الْمَجْبُوبِ وَإِنْ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ النَّسَبُ فَاَلَّذِي أَرَاهُ جَوَازُ ذَلِكَ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ .
الْمِثَالُ الثَّلَاثُونَ : تَزَوَّجَ الضَّرَّاتِ بِعَقْدٍ أَوْ عُقُودٍ مَفْسَدَةٌ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالزَّوْجَاتِ ، لَكِنَّهُ جَازَ أَنْ تَضُرَّ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِثَلَاثٍ نَظَرًا لِمَصَالِحِ الرِّجَالِ وَتَحْصِيلًا لِمَقَاصِدِ النِّكَاحِ ، فَإِنْ خِيفَ مِنْ الْجَوْرِ عَلَيْهِنَّ اُسْتُحِبَّ الِاقْتِصَارُ عَلَى وَاحِدَةٍ أَوْ سُرِّيَّةٍ ، دَفْعًا لِمَا يُتَوَقَّعُ مِنْ مَفْسَدَةِ الْجَوْرِ ، وَحُرِّمَتْ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَدَفْعًا لِمَظَانِّ جَوْرِ الرِّجَالِ عَلَى الْأَزْوَاجِ ، كَمَا جَازَ كَسْرُ الْمَرْأَةِ بِثَلَاثِ طَلْقَاتٍ وَلَمْ تَجُزْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا نَظَرًا لِمَصَالِحِ النِّسَاءِ وَزَجْرًا لِلرِّجَالِ عَنْ تَكْثِيرِ مَفْسَدَةِ الطَّلَاقِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ : التَّقْرِيرُ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ مَفْسَدَةٌ إلَّا فِي تَقْرِيرِ الْكُفَّارِ عَلَى الْأَنْكِحَةِ الْفَاسِدَةِ إذَا أَسْلَمُوا ، فَإِنَّهُ وَاجِبٌ ، لِأَنَّا لَوْ أَفْسَدْنَاهَا لَزَهِدَ الْكُفَّارُ فِي الْإِسْلَامِ خَوْفًا مِنْ بُطْلَانِ أَنْكِحَتِهِمْ فَتَقَاعَدُوا عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَالتَّرْغِيبُ فِي الْإِسْلَامِ بِتَقْرِيرِهِمْ عَلَى أَنْكِحَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ التَّنْفِيرِ مِنْ الْإِسْلَامِ بِإِفْسَادِ أَنْكِحَتِهِمْ ، إذْ لَا مَفْسَدَةَ أَقْبَحُ مِنْ تَفْوِيتِ الْإِسْلَامِ وَالسَّعْيِ فِي تَفْوِيتِهِ . وَكَذَلِكَ لَا يُقْتَصُّ مِنْهُمْ بِمَنْ قَتَلُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يَغْرَمُونَ مَا أَتْلَفُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ ذَلِكَ لَتَقَاعَدُوا عَنْ الْإِسْلَامِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ : التَّقْرِيرُ عَلَى الْكُفْرِ مَفْسَدَةٌ عَظِيمَةٌ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ الْمَفَاسِدِ وَفِي تَقْرِيرِ الْمُرْتَدِّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا : لَا يُقَرَّرُ لِوُجُوبِ إزَالَةِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْفَوْرِ وَالْكُفْرُ مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ . وَالثَّانِي : يُقَرَّرُ نَظَرًا لَهُ كَمَا تَجُوزُ مُصَالَحَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى التَّقْرِيرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَقْرِيرِ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَأَنْكَرِ الْمُنْكَرَاتِ . فَإِنْ خِيفَ عَلَى أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَازَ التَّقْرِيرُ بِالصُّلْحِ عَشْرَ سِنِينَ رِعَايَةً لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ ، وَتَوَقُّعًا فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ لِإِسْلَامِ بَعْضِ الْكَافِرِينَ . وَقَدْ صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ مَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ فَدَخَلَ مِنْهُمْ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْكُفْرَ أَنْكَرُ الْمُنْكَرَاتِ ، فَلَا يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ . وَكَذَلِكَ لَا تُخَلَّى كُلُّ سَنَةٍ مِنْ غَزْوَةٍ ، وَوَاجِبُ الْإِمَامِ الْقِتَالُ عَلَى الدَّوَامِ ، وَالِاسْتِمْرَارُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ إزَالَةَ الْمَفَاسِدِ وَاجِبَةٌ عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، فَمَا الظَّنُّ بِإِزَالَةِ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهُوَ الْكُفْرُ بِالْمَلِكِ الدَّيَّانِ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ قَرَرْتُمْ الْكَوَافِرَ عَلَى كُفْرِهِنَّ عَلَى الدَّوَامِ ؟ قُلْنَا لِأَنَّهُنَّ قَدْ صِرْنَ مَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ قُرْبِ رُجُوعِهِنَّ إلَى الْإِسْلَامِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونَ : وُجُوبُ إجَارَةِ مُسْتَجِيرِ الْكُفَّارِ إلَى أَنْ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ، لَعَلَّهُ إذَا سَمِعَهُ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهِ وَيَمِيلَ إلَيْهِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : وُجُوبُ إجَارَةِ رُسُلِ الْكُفَّارِ مَعَ كُفْرِهِمْ ، لِمَصْلَحَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرِّسَالَةِ مِنْ الْمَصَالِحِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالثَّلَاثُونَ : التَّقْرِيرُ بِالْجِزْيَةِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ لِإِيمَانِهِمْ بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي يُوَافِقُ أَعْظَمُ أَحْكَامِهَا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فَخَفَّ كُفْرُهُمْ لِإِيمَانِهِمْ بِتِلْكَ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ مَنْ جَحَدَهَا فَإِنَّهُ كَذَّبَ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي مُعْظَمِ أَحْكَامِهِ وَكَلَامِهِ ، فَكَانَ كُفْرُهُ أَغْلَظَ ، بِخِلَافِ مَنْ آمَنَ بِالْأَكْثَرِ وَكَفَرَ بِالْأَقَلِّ ، وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ عِوَضًا عَنْ تَقْرِيرِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ ، إذْ لَيْسَ مِنْ إجْلَالِ الرَّبِّ أَنْ تُؤْخَذَ الْأَعْوَاضُ عَلَى التَّقْرِيرِ عَلَى سَبِّهِ وَشَتْمِهِ وَنِسْبَتِهِ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِعَظَمَتِهِ ، وَمَنْ ذَهَبَ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَبْعَدَ ، وَإِنَّمَا الْجِزْيَةُ مَأْخُوذَةٌ عِوَضًا عَنْ حَقْنِ دِمَائِهِمْ وَصِيَانَةِ أَمْوَالِهِمْ وَحَرَمِهِمْ وَأَطْفَالِهِمْ ، مَعَ الذَّبِّ عَنْهُمْ إنْ كَانُوا فِي دِيَارِنَا ، وَلَيْسَتْ مَأْخُوذَةً عَنْ سُكْنَى دَارِ الْإِسْلَامِ إذْ يَجُوزُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ تَقْرِيرِهِمْ فِي دِيَارِهِمْ . ( فَائِدَةٌ ) إنْ قِيلَ الْجِزْيَةُ لِلْأَجْنَادِ عَلَى قَوْلٍ وَلِلْمَصَالِحِ عَلَى قَوْلٍ ، وَقَدْ رَأَيْنَا جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ لَا يَتَوَرَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ الْخِلَافِ مِنْهَا مَعَ ظُهُورِهِ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْجُنْدَ قَدْ أَكَلُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا أَهْلُ الْعِلْمِ وَالْوَرَعِ وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ يَجِبُ تَقْدِيمُهُ أَكْثَرَهَا ، فَيُؤْخَذُ مِنْ الْجِزْيَةِ مَا يَكُونُ قِصَاصًا بِبَعْضِ مَا أَخَذُوهُ فَأَكَلُوهُ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونَ : التَّقْرِيرُ عَلَى الْمَعَاصِي كُلِّهَا مَفْسَدَةٌ لَكِنْ يَجُوزُ التَّقْرِيرُ عَلَيْهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إنْكَارِهَا بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ ، وَمَنْ قَدَرَ عَلَى إنْكَارِهَا مَعَ الْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ إنْكَارُهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَمَحْثُوثًا عَلَيْهِ ، لِأَنَّ الْمُخَاطَرَةَ بِالنُّفُوسِ فِي إعْزَازِ الدِّينِ مَأْمُورٌ بِهَا كَمَا يُعْذَرُ بِهَا فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ، وَقِتَالِ الْبُغَاةِ الْمُتَأَوِّلِينَ ، وَقِتَالِ مَانِعِي الْحُقُوقِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ تَخْلِيصُهَا مِنْهُمْ إلَّا بِالْقِتَالِ وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ } . جَعَلَهَا أَفْضَلَ الْجِهَادِ لِأَنَّ قَائِلَهَا قَدْ جَادَ بِنَفْسِهِ كُلَّ الْجُودِ ، بِخِلَافِ مَنْ يُلَاقِي قِرْنَهُ مِنْ الْقِتَالِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقْهَرَهُ وَيَقْتُلَهُ فَلَا يَكُونُ بَذْلُهُ نَفْسَهُ مَعَ تَجْوِيزِ سَلَامَتِهَا ، كَبَذْلِ الْمُنْكِرِ نَفْسَهُ مَعَ يَأْسِهِ مِنْ السَّلَامَةِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونَ : انْهِزَامُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْكَافِرِينَ مَفْسَدَةٌ ، لَكِنَّهُ جَائِزٌ إذَا زَادَ الْكَافِرُونَ عَلَى ضِعْفِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ التَّقَارُبِ فِي الصِّفَاتِ تَخْفِيفًا عَنْهُمْ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ ، وَدَفْعًا لِمَفْسَدَةِ غَلَبَةِ الْكَافِرِينَ لِفَرْطِ كَثْرَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ التَّحَرُّفُ لِلْقِتَالِ ، وَالتَّحَيُّزُ إلَى فِئَةٍ مُقَاتِلَةٍ بِنِيَّةِ أَنْ يُقَاتِلَ الْمُتَحَيِّزُ مَعَهُمْ ، لِأَنَّهُمَا وَإِنْ كَانَا إدْبَارًا إلَّا أَنَّهُمَا نَوْعٌ مِنْ الْإِقْبَالِ عَلَى الْقِتَالِ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونَ : قَتْلُ الْكُفَّارِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْمَجَانِينِ وَالْأَطْفَالِ مَفْسَدَةٌ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ إذَا تَتَرَّسَ بِهِمْ الْكُفَّارُ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونَ : قَتْلُ مَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مَفْسَدَةٌ إلَّا إذَا تَتَرَّسَ بِهِمْ الْكُفَّارُ وَخِيفَ مِنْ ذَلِكَ اصْطِلَامُ الْمُسْلِمِينَ ، فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ خِلَافٌ ، لِأَنَّ قَتْلَ عَشَرَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَقَلُّ مَفْسَدَةً مِنْ قَتْلِ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ .
الْمِثَالُ الْأَرْبَعُونَ : التَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ لَكِنَّهُ وَاجِبٌ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْكُفَّارِ ، لِأَنَّ التَّغْرِيرَ بِالنُّفُوسِ إنَّمَا جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصْلَحَةِ إعْزَازِ الدِّينِ بِالنِّكَايَةِ فِي الْمُشْرِكِينَ ، فَإِذَا لَمْ تَحْصُلْ النِّكَايَةُ وَجَبَ الِانْهِزَامُ لِمَا فِي الثُّبُوتِ مِنْ فَوَاتِ النُّفُوسِ مَعَ شِفَاءِ صُدُورِ الْكُفَّارِ وَإِرْغَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَقَدْ صَارَ الثُّبُوتُ هَهُنَا مَفْسَدَةً مَحْضَةً لَيْسَ فِي طَيِّهَا مَصْلَحَةٌ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ : الْإِرْقَاقُ مَفْسَدَةٌ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَثَبَتَ فِي نِسَاءِ الْكُفَّارِ وَأَطْفَالِهِمْ وَمَجَانِينِهِمْ ، زَجْرًا عَنْ الْكُفْرِ وَتَقْدِيمًا لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ . وَكَذَلِكَ إذْ اخْتَارَ الْإِمَامُ إرْقَاقَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الرِّجَالِ أَمَّا إرْقَاقُ الرِّجَالِ فَمِنْ آثَارِ الْكُفْرِ . وَأَمَّا إرْقَاقُ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَلَيْسَ عُقُوبَةً لَهُمْ بِذَنْبِ غَيْرِهِمْ وَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ ، وَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مُصِيبَةٌ مِنْ مَصَائِبِ الدُّنْيَا ، كَمَا يُصَابُونَ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ مِنْ غَيْرِ إجْرَامٍ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ : قَتْلُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ أَدَاءِ الْحُقُوقِ بِغَيْرِ عُذْرٍ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا بِالْقِتَالِ ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْمَعْصِيَةِ ، وَتَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ الْحُقُوقِ الَّتِي امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهَا .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْأَرْبَعُونَ : قَتْلُ الْمُرْتَدِّ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِ ، لَكِنَّهُ جَازَ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْكُفْرِ .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : الْكَذِبُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ جَلْبُ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءُ مَفْسَدَةٍ ، فَيَجُوزُ تَارَةً وَيَجِبُ أُخْرَى وَلَهُ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكْذِبَ لِزَوْجَتِهِ لِإِصْلَاحِهَا وَحُسْنِ عِشْرَتِهَا فَيَجُوزُ لِأَنَّ قُبْحَ الْكَذِبِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ يَسِيرُ ، فَإِذَا تَضَمَّنَ مَصْلَحَةً تَرْبُو عَلَى قُبْحِهِ أُبِيحَ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ تَحْصِيلًا لِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ . وَكَذَلِكَ الْكَذِبُ لِلْإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ وَهُوَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ لِعُمُومِ مَصْلَحَتِهِ . الثَّانِي : أَنْ يَخْتَبِئَ عِنْدَهُ مَعْصُومٌ مِنْ ظَالِمٍ يُرِيدُ قَطْعَ يَدِهِ فَيَسْأَلُهُ عَنْهُ فَيَقُولُ مَا رَأَيْته فَهَذَا الْكَذِبُ أَفْضَلُ مِنْ الصِّدْقِ ، لِوُجُوبِهِ مِنْ جِهَةِ أَنَّ مَصْلَحَةَ حِفْظِ الْعُضْوِ أَعْظَمُ مِنْ مَصْلَحَةِ الصِّدْقِ الَّذِي لَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ ، فَمَا الظَّنُّ بِالصِّدْقِ الضَّارِّ ؟ وَأَوْلَى مِنْ ذَلِكَ إذَا اخْتَبَأَ عِنْدَهُ مَعْصُومٌ مِمَّنْ يُرِيدُ قَتْلَهُ . الثَّالِثُ : أَنْ يَسْأَلَ الظَّالِمُ الْقَاصِدُ لِأَخْذِ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَوْدَعَ عَنْ الْوَدِيعَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهَا ، لِأَنَّ حِفْظَ الْوَدَائِعِ وَاجِبٌ وَإِنْكَارَهَا هَهُنَا حِفْظٌ لَهَا ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِهَا لَضَمِنَهَا وَإِنْكَارُهَا إحْسَانٌ . الرَّابِعُ : أَنْ تَخْتَبِئَ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ أَوْ غُلَامٌ يُقْصَدَانِ بِالْفَاحِشَةِ ، فَيَسْأَلُهُ الْقَاصِدُ عَنْهُمَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُنْكِرَهُمَا الْخَامِسُ : أَنْ يُكْرَهَ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَقْبَحُ الْكَذِبِ أَوْ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ حِفْظًا لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ مَفْسَدَةَ لَفْظِ الشِّرْكِ مِنْ غَيْرِ اعْتِقَادٍ ، دُونَ مَفْسَدَةِ فَوَاتِ الْأَرْوَاحِ ، وَالتَّحْقِيقُ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ وَأَمْثَالِهَا أَنَّ الْكَذِبَ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ وَيُثَابُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عَلَى قَدْرِ رُتْبَةِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ مِنْ الْوُجُوبِ فِي حِفْظِ الْأَمْوَالِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَرْوَاحِ ، وَلَوْ صَدَقَ فِي هَذِهِ الْمَوَاطِنِ لَأَثِمَ إثْمَ الْمُتَسَبِّبِ إلَى تَحْقِيقِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ ، وَتَتَفَاوَتُ الرُّتَبُ لَهُ ، ثُمَّ التَّسَبُّبُ إلَى الْمَفَاسِدِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : مِنْ تَرْجِيحِ الْمَصَالِحِ عَلَى الْمَفَاسِدِ : الْغِيبَةُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ إذَا تَضَمَّنَتْ مَصْلَحَةً وَاجِبَةَ التَّحْصِيلِ ، أَوْ جَائِزَةَ التَّحْصِيلِ ، وَلَهَا أَحْوَالٌ : أَحَدُهَا : أَنْ يُشَاوَرَ فِي مُصَاهَرَةِ إنْسَانٍ فَذَكَرَهُ بِمَا يَكْرَهُ كَمَا قَالَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ لَمَّا خَطَبَهَا أَبُو جَهْمٍ وَمُعَاوِيَةُ : إنْ أَبَا جَهْمٍ ضَرَّابٌ لِلنِّسَاءِ ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ صُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ } فَذَكَرَهُمَا بِمَا يَكْرَهَانِهِ نُصْحًا لَهَا وَدَفْعًا لِضِيقِ عَيْشِهَا مَعَ مُعَاوِيَةَ وَتَعْرِيضًا لِضَرْبِ أَبِي الْجَهْمِ . فَهَذَا جَائِزٌ ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ وَاجِبٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : الْقَدْحُ فِي الرُّوَاةِ وَاجِبٌ ، لِمَا فِيهِ مِنْ دَفْعِ إثْبَاتِ الشَّرْعِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الشَّرْعِ بِهِ ، لِمَا عَلَى النَّاسِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّحْرِيمِ وَالتَّحْلِيلِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَحْكَامِ . وَكَذَلِكَ كُلُّ خَبَرٍ يُجَوِّزُ الشَّرْعُ الِاعْتِمَادَ عَلَيْهِ وَالرُّجُوعَ إلَيْهِ . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : جَرْحُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْحُكَّامِ فِيهِ مَفْسَدَةُ هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ ، لَكِنَّهُ وَاجِبٌ لِأَنَّ الْمَصْلَحَةَ فِي حِفْظِ الْحُقُوقِ مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَنْسَابِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ أَعَمُّ وَأَعْظَمُ ، فَإِنْ عُلِمَ مِنْهُ ذَنْبَيْنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَجْرَحَهُ بِالْأَكْبَرِ لِأَنَّهُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ، وَإِنْ اسْتَوَيَا تَخَيَّرَ وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْأَرْبَعُونَ : النَّمِيمَةُ مَفْسَدَةٌ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنَّهَا جَائِزَةٌ أَوْ مَأْمُورٌ بِهَا إذَا اشْتَمَلَتْ عَلَى مَصْلَحَةٍ لِلْمَنْمُومِ إلَيْهِ ، مِثَالُهُ : إذَا نَقَلَ إلَى مُسْلِمٍ أَنَّ فُلَانًا عَزَمَ عَلَى قَتْلِهِ فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ عَلَى أَخْذِ مَالِهِ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا ، أَوْ عَلَى التَّعَرُّضِ لِأَهْلِهِ فِي وَقْتِ كَذَا وَكَذَا ، فَهَذَا جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِأَنَّهُ تَوَسُّلٌ إلَى دَفْعِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ عَنْ الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ شِئْت قُلْت لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَى تَحْصِيلِ مَصَالِحِ أَضْدَادِ هَذِهِ الْمَفَاسِدِ . وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِك لِيَقْتُلُوك } الْآيَةُ . وَكَذَلِكَ مَا نَقَلَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُنَافِقِينَ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : هَتْكُ الْأَعْرَاضِ مَفْسَدَةٌ كَبِيرَةٌ ، لَكِنَّهُ يَجُوزُ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الزَّانِي بِالزِّنَا لِإِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى الْقَاتِلِ بِالْقَتْلِ لِإِقَامَةِ الْقِصَاصِ ، وَعَلَى الْقَاذِفِ بِالْقَذْفِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ لِلْمَقْذُوفِ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ بِالْغَصْبِ لِتَغْرِيمِ الْأَمْوَالِ وَالْمَنَافِعِ . وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى السُّرَّاقِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِمَا صَنَعُوهُ مِنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ ، لِإِقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ ؛ فَهَذَا كُلُّهُ صِدْقٌ مُضِرٌّ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ هَاتِكٌ لِسِتْرِهِ ، لَكِنَّهُ جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَصَالِحِ إقَامَةِ حُقُوقِ اللَّهِ وَحُقُوقِ عِبَادِهِ . وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ بِالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَعَاصِي الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ ، كُلُّ ذَلِكَ صِدْقٌ مُضِرٌّ بِالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نَافِعٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ . وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ بِمَا يَضُرُّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ وَيَنْفَعُ الْمَحْكُومَ لَهُ . وَكَذَلِكَ إقَامَةُ الْحُكَّامِ عَلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ ، وَكَذَلِكَ تَوْلِيَةُ الْوُلَاةِ الَّذِينَ يَضُرُّونَ قَوْمًا وَيَنْفَعُونَ آخَرِينَ . وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ : { وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَك حَتَّى يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيَضُرَّ بِك آخَرِينَ } .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْأَرْبَعُونَ : كَشْفُ الْعَوْرَاتِ وَالنَّظَرُ إلَيْهَا مَفْسَدَتَانِ مُحَرَّمَتَانِ عَلَى النَّاظِرِ وَالْمَنْظُورِ إلَيْهِ ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ هَتْكِ الْأَسْتَارِ ، وَيَجُوزَانِ لِمَا يَتَضَمَّنَانِهِ مِنْ مَصْلَحَةِ الْخِتَانِ أَوْ الْمُدَاوَاةِ أَوْ الشَّهَادَاتِ عَلَى الْعُيُوبِ أَوْ النَّظَرِ إلَى فَرْجِ الزَّانِيَيْنِ ، لِإِقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ ، إنْ كَانَ النَّاظِرُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ بِالزِّنَا وَكَمُلَ الْعَدَدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ لَا يُبْنَى عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْأَرْبَعُونَ : الرَّمْيُ بِالزِّنَا مَفْسَدَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ، الْإِيلَامِ بِتَحَمُّلِ الْعَارِ ، لَكِنَّهُ يُبَاحُ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ وَيَجِبُ فِي بَعْضِهَا ، لِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَلَهُ أَمْثِلَةٌ . أَحَدُهَا : قَذْفُ الرَّجُلِ زَوْجَتَهُ إذَا تَحَقَّقَ زِنَاهَا شِفَاءً لِصَدْرِهِ لِمَا أَدْخَلَتْهُ عَلَيْهِ مِنْ ضَرَرِ إفْسَادِ فِرَاشِهِ وَإِرْغَامِ غَيْرَتِهِ . الثَّانِي : وُجُوبُ قَذْفِهَا إذَا أَتَتْ بِوَلَدٍ يَلْحَقُهُ فِي ظَاهِرِ الْحُكْمِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ ، فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَقْذِفَهَا لِنَفْيِهِ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ نَفْيَهُ لَخَالَطَ بَنَاتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَجَمِيعَ مَحَارِمِهِ ، وَوَرِثَهُ وَلَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ وَلَتَوَلَّى أَنْكِحَةَ بَنَاتِهِ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالنَّسَبِ ، فَيَلْزَمُهُ نَفْيُهُ دَرْءًا لِهَذِهِ الْمَفَاسِدِ وَتَحْصِيلًا لِأَضْدَادِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَلَوْ أَتَتْ بِهِ خُفْيَةً بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُ بِهِ فِي الْحُكْمِ لَمْ يَجِبْ نَفْيُهُ ، وَالْأَوْلَى بِهِ السِّتْرُ وَالْكَفُّ عَنْ الْقَذْفِ . الثَّالِثُ : جَرْحُ الشَّاهِدِ وَالرَّاوِي بِالزِّنَا ، وَهُوَ وَاجِبٌ دَفْعًا عَنْ الْمَشْهُودِ عَنْهُ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا .
( فَائِدَةٌ ) إذَا قَذَفَ امْرَأَةً عِنْدَ الْحَاكِمِ ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَبْعَثُ إلَيْهَا لِيُعْلِمَهَا بِقَذْفِهِ ، نُصْحًا لَهَا حَتَّى تَعْفُوَ أَوْ تَسْتَوْفِيَ حَقَّهَا ، وَهَذَا ضَارٌّ بِالْقَاذِفِ نَافِعٌ لِلْمَقْذُوفِ ، وَفِي وُجُوبِهِ اخْتِلَافٌ ، وَالْمُخْتَارُ وُجُوبُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } لَمْ يَكُنْ هَذَا حِرْصًا مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجْمِهَا وَإِنَّمَا كَانَ إعْلَامًا بِمَا يُمْكِنُ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّهَا بِسَبَبِ هَتْكِ عِرْضِهَا .
الْمِثَالُ الْخَمْسُونَ : مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا ، قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ إفْسَادٌ لَهَا ، لَكِنَّهُ زَاجِرٌ حَافِظٌ لِجَمِيعِ الْأَمْوَالِ ، فَقُدِّمَتْ مَصْلَحَةُ حِفْظِ الْأَمْوَالِ عَلَى مَفْسَدَةِ قَطْعِ يَدِ السَّارِقِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالْخَمْسُونَ : قَطْعُ أَعْضَاءِ الْجَانِي حِفْظًا لِأَعْضَاءِ النَّاسِ .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالْخَمْسُونَ : جَرْحُ الْجَانِي حِفْظًا لِلسَّلَامَةِ مِنْ الْجِرَاحِ
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ : قَتْلُ الْجَانِي مَفْسَدَةٌ بِتَفْوِيتِ حَيَاتِهِ لَكِنَّهُ جَازَ لِمَا فِيهِ مِنْ حِفْظِ حَيَاةِ النَّاسِ عَلَى الْعُمُومِ وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } .
الْمِثَالُ الرَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : التَّمْثِيلُ بِالْجُنَاةِ إذَا مَثَّلُوا بِالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، لَكِنَّهُ مَصْلَحَةٌ زَاجِرَةٌ عَنْ التَّمْثِيلِ فِي الْجِنَايَةِ .
الْمِثَالُ الْخَامِسُ وَالْخَمْسُونَ : حَدُّ الْقَاذِفِ صِيَانَةٌ لِلْأَعْرَاضِ .
الْمِثَالُ السَّادِسُ وَالْخَمْسُونَ : جَلْدُ الزَّانِي وَنَفْيُهُ حِفْظًا لِلْفُرُوجِ وَالْأَنْسَابِ وَدَفْعًا لِلْعَارِ .
الْمِثَالُ السَّابِعُ وَالْخَمْسُونَ : الرَّجْمُ فِي حَقِّ الزَّانِي الثَّيِّبِ مُبَالَغَةٌ فِي حِفْظِ مَا ذَكَرْنَاهُ .
الْمِثَالُ الثَّامِنُ وَالْخَمْسُونَ : حَدُّ الشُّرْبِ حِفْظًا لِلْعُقُولِ عَنْ الطَّيْشِ وَالِاخْتِلَالِ .
الْمِثَالُ التَّاسِعُ وَالْخَمْسُونَ : حُدُودُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ حِفْظًا لِلنُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ .
الْمِثَالُ السِّتُّونَ : دَفْعُ الصَّوْلِ - وَلَوْ بِالْقَتْلِ - عَنْ النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ وَالْأَمْوَالِ .
الْمِثَالُ الْحَادِي وَالسِّتُّونَ : التَّعْزِيرَاتُ دَفْعًا لِمَفَاسِدِ الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ وَهِيَ إمَّا حِفْظًا لِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، أَوْ لِحُقُوقِ عِبَادِهِ ، أَوْ لِلْحَقَّيْنِ جَمِيعًا .
الْمِثَالُ الثَّانِي وَالسِّتُّونَ : الْحَبْسُ وَهُوَ مَفْسَدَةٌ فِي حَقِّ الْمَحْبُوسِ ، لَكِنَّهُ جَازَ لِمَصَالِحَ تُرَجَّحُ عَلَى مَفْسَدَتِهِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا حَبْسُ الْجَانِي عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُسْتَحِقِّ حِفْظًا لِمَحَلِّ الْقِصَاصِ ، وَمِنْهَا حَبْسُ الْمُمْتَنِعِ مِنْ دَفْعِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ إلْجَاءً إلَيْهِ وَحَمْلًا عَلَيْهِ ، وَمِنْهَا حَبْسُ التَّعْزِيرِ رَدْعًا عَنْ الْمَعَاصِي ، وَمِنْهَا حَبْسُ كُلِّ مُمْتَنِعٍ مِنْ تَصَرُّفٍ وَاجِبٍ لَا تَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ : كَحَبْسِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أُخْتَيْنِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِ إحْدَاهُمَا ، وَالْمُقِرُّ بِأَحَدِ عَيْنَيْنِ وَامْتَنَعَ مِنْ تَعْيِينِهَا دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْمُبْطِلِ بِالْحَقِّ ، وَمِنْهَا حَبْسُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ الَّتِي لَا تَدْخُلُهَا النِّيَابَةُ كَالْمُمْتَنِعِ مِنْ صِيَامِ رَمَضَانَ فَإِنْ قِيلَ : إذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ وَمَعَ عَجْزِكُمْ عَنْ دَفْعِهِ إلَى خَصْمِهِ ، فَإِنَّكُمْ تُخَلِّدُونَ عَلَيْهِ الْحَبْسَ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ . وَالتَّخْلِيدُ هُنَا فِي الْحَبْسِ عَذَابٌ كَبِيرٌ عَلَى جُرْمٍ صَغِيرٍ ؟ قُلْنَا الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا عَاقَبْنَا بِعَذَابٍ صَغِيرٍ عَلَى جُرْمٍ صَغِيرٍ ، فَإِنَّهُ عَاصٍ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بِامْتِنَاعِهِ مِنْ أَدَاءِ الْحَقِّ ، فَتُقَابَلُ كُلُّ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ امْتِنَاعِهِ بِسَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ حَبْسِهِ ، وَلِلْحَاكِمِ زَجْرُهُ وَتَعْزِيرُهُ إذَا لَمْ يَنْجَعْ الْحَبْسُ فِيهِ ، وَيَفْعَلُ ذَلِكَ مَرَّاتٍ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ . فَإِنْ قِيلَ ؛ وَإِذَا شَهِدَ مَسْتُورَانِ ظَاهِرُهُمَا الْعَدَالَةُ فَلِمَ تَحْبِسُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُزَكِّيَا ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَتُهُ مِمَّا ادَّعَى عَلَيْهِ ؟ وَكَذَلِكَ لِمَ يَحُولُونَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ ؟ قُلْنَا لِأَنَّ الظَّنَّ الْمُسْتَفَادَ مِنْ شَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ أَقْوَى مِنْ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَصْلِ بَرَاءَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ . فَإِنْ قِيلَ : لِمَ تَحْبِسُونَ مُدَّعِي الْإِعْسَارِ بِالْحَقِّ مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغِنَى ؟ قُلْنَا لَهُ أَحْوَالٌ : أَحَدُهَا أَنْ نَعْرِفَ لَهُ مَالًا بِمِقْدَارِ الْحَقِّ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ ، فَنَحْبِسُهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ ذَلِكَ ، وَقَدْ انْتَسَخَ فِكْرَةَ الْقَدِيمِ بِالْغِنَى الَّذِي عَهِدْنَا . فَإِنْ قِيلَ : إذَا طَالَتْ الْمُدَّةُ وَكَانَ ضَعِيفًا عَنْ الْكَسْبِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُنْفِقُ مِمَّا عَهِدْنَاهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةٌ تَسْتَوْعِبُ نَفَقَتَهَا الْغِنَى الَّذِي عَهِدْنَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُحْبَسَ لِمُضَارَعَةِ هَذَا الظَّاهِرِ لِاسْتِمْرَارِ غِنَاهُ ؟ قُلْنَا جَوَابُ هَذَا السُّؤَالِ مُشْكِلٌ جِدًّا وَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُيَسِّرَ حَلَّهُ ، فَإِنَّ مَا ذَكَرُوهُ ظَاهِرٌ فِيمَنْ قَرُبَ عَهْدُهُ بِالْغِنَى دُونَ مَنْ مَضَتْ عَلَيْهِ مُدَّةٌ تَسْتَوْعِبُ نَفَقَتُهَا أَضْعَافَ غِنَاهُ ، مَعَ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ اكْتِسَابِ غَيْرِ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَيْسَ تَقْدِيرُ الْإِنْفَاقِ مِنْ كَسْبِهِ بِأَوْلَى مِنْ تَقْدِيرِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ . الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ : لَا يُعْرَفُ لَهُ غِنًى وَلَا فَقْرٌ وَفِيهِ مَذَاهِبُ : أَحَدُهَا : لَا يُحْبَسُ لِأَنَّ الْأَصْلَ فَقْرُهُ فَإِنَّ اللَّهَ خَلَقَ عِبَادَهُ فُقَرَاءَ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا . وَالثَّانِي : نَحْبِسُهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مَا فَوْقَ كِفَايَتِهِمْ ، وَالْفُقَرَاءُ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ إلَى هَؤُلَاءِ قَلِيلٌ ، وَهَذَا مُشْكِلٌ جِدًّا إذَا كَانَ الْحَقُّ كَثِيرًا عَزِيزًا كَالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ، إذْ لَيْسَتْ الْغَلَبَةُ مُتَحَقِّقَةً فِي الْغِنَى الْمُتَّسَعِ فَكَيْفَ نَحْبِسُ الْغَرِيمَ عَلَى عَشْرَةِ آلَافٍ وَلَيْسَ الْغَالِبُ فِي النَّاسِ مَنْ يَمْلِكُ عَشْرَةَ آلَافٍ وَلَا ضَابِطَ لِمِقْدَارِ الْغَالِبِ مِنْ ذَلِكَ ، فَكَيْفَ يُخَلَّدُ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ فِي الْحَبْسِ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ قَدْرُهُ وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْفِصَالُ مِنْهُ ؟ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إذَا أَدَّى قَدْرًا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْغَلَبَةِ وَجَبَ إطْلَاقُهُ ، وَهَذَا قَرِيبُ الْمَذْهَبِ . الثَّالِثُ : إنْ لَزِمَهُ الدَّيْنُ بِاخْتِيَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَنَّهُمْ لَا يَلْتَزِمُونَ مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ وَهَذَا بَعِيدٌ ، فَإِنَّ الْفُقَرَاءَ يَلْتَزِمُونَ الْأُجُورَ وَالْمُهُورَ وَالْأَثْمَانَ مَعَ عَجْزِهِمْ عَنْهَا . الْحَالَةُ الثَّالِثَةُ : مِنْ أَحْوَالِ مُدَّعِي الْإِعْسَارَ أَنْ يُعْهَدَ لَهُ مَالٌ نَاقِصٌ عَنْ مِقْدَارِ الْحَقِّ الَّذِي لَزِمَهُ فَيُحْبَسُ عَلَيْهِ وَفِي حَبْسِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ فِي الْحَالِ الثَّانِيَةِ إنْ كَانَ الْمُدَّعِي بِهِ نَزْرًا يَسِيرًا ، وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَفِيهِ قَوْلَانِ : أَحَدُهُمَا : يُطْلَقُ الْأَصْلُ . وَالثَّانِي : يُفَرَّقُ بَيْنَ مَا الْتَزَمَهُ وَبَيْنَ مَا لَزِمَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَلَا يَجِيءُ الْمَذْهَبُ الثَّالِثُ إذْ لَا غَلَبَةَ . الْحَالُ الرَّابِعَةُ : إنْ ثَبَتَ عُسْرُهُ فَلَا يَجُوزُ حَبْسُهُ حَتَّى يَثْبُتَ يَسَارُهُ ، لِأَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ عُسْرَتِهِ ، وَأَنَّهُ إنْ اكْتَسَبَ شَيْئًا صَرَفَهُ فِي نَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ مَنْ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ . فَإِنْ قِيلَ : تُخَلِّدُونَ مَجْهُولَ الْحَالِ فِي الْحَبْسِ إلَى أَنْ يَمُوتَ ؟ قُلْنَا الْمُخْتَارُ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ عَدْلَيْنِ يَسْأَلَانِ عَنْ أَمْرِهِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ ، فَإِذَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِمَا فَقْرُهُ شَهِدَا بِذَلِكَ وَوَجَبَ إطْلَاقُهُ ؛ إذْ لَا يَلِيقُ بِالشَّرِيعَةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ أَنْ يُخَلَّدَ الْمُسْلِمُ فِي الْحَبْسِ بِظَنٍّ ضَعِيفٍ ، وَإِنَّمَا يُخَلَّدُ فِي الْحَبْسِ مَنْ ظَهَرَ عِنَادُهُ وَإِصْرَارُهُ عَلَى الْبَاطِلِ إلَى أَنْ يَفِيءَ إلَى الْحَقِّ . وَأَمَّا الْمَحْبُوسُ عَلَى الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يُخَلَّدُ فِي الْحَبْسِ إلَى أَنْ يَمُوتَ ؛ حِفْظًا لِحَقِّ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصَ إلَى أَنْ يَقْدُمَ الْغَائِبُ أَوْ يَبْلُغَ الصَّبِيُّ ، إذْ لَا مَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا بِحَبْسِهِ الَّذِي هُوَ أَخَفُّ عَلَيْهِ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِ يَدِهِ .
الْمِثَالُ الثَّالِثُ وَالسِّتُّونَ : مِنْ أَمْثِلَةِ الْأَفْعَالِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مَعَ رُجْحَانِ مَصَالِحِهَا عَلَى مَفَاسِدِهَا : قِتَالُ الْبُغَاةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْبَغْيِ وَالْمُخَالَفَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي دَرْءِ الْمَفَاسِدِ أَنْ يَكُونَ مُلَابِسُهَا أَوْ الْمُتَسَبِّبُ إلَيْهَا عَاصِيًا . وَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ وَالْمَنْهِيُّ عَاصِيَيْنِ ، بَلْ يُشْتَرَطُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُلَابِسًا لِمَفْسَدَةٍ وَاجِبَةِ الدَّفْعِ ، وَالْآخَرُ تَارِكًا لِمَصْلَحَةٍ وَاجِبَةِ التَّحْصِيلِ . وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ : أَحَدُهَا أَمْرُ الْجَاهِلِ بِمَعْرُوفٍ لَا يَعْرِفُ إيجَابَهُ . الْمِثَالُ الثَّانِي : نَهْيُهُ عَنْ مُنْكَرٍ لَا يَعْرِفُ تَحْرِيمَهُ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : قِتَالُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِمْ فِي بَغْيِهِمْ لِتَأْوِيلِهِمْ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : ضَرْبُ الصِّبْيَانِ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الصَّبِيُّ لَا يُصْلِحُهُ إلَّا الضَّرْبُ الْمُبَرِّحُ فَهَلْ يَجُوزُ ضَرْبُهُ تَحْصِيلًا لِمَصْلَحَةِ تَأْدِيبِهِ ؟ قُلْنَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَضْرِبَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ الَّذِي لَا يُبَرِّحُ مَفْسَدَةٌ ، وَإِنَّمَا جَازَ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصْلَحَةِ التَّأْدِيبِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ التَّأْدِيبُ سَقَطَ الضَّرْبُ الْخَفِيفُ ، كَمَا يَسْقُطُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ ؛ لِأَنَّ الْوَسَائِلَ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ . فَإِنْ قِيلَ : إذَا كَانَ الْمُعَزَّرُ الْبَالِغُ لَا يَرْتَدِعُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلَّا بِتَعْزِيرٍ مُبَرِّحٍ فَهَلْ يَلْحَقُ بِالصَّبِيِّ ؟ قُلْنَا : لَا يَلْحَقُ بِهِ بَلْ نُعَزِّرُهُ تَعْزِيرًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَنَحْبِسُهُ مُدَّةً يُرْجَى فِيهَا صَلَاحُهُ . وَكَذَلِكَ إذَا مَنَعْنَا مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى عَشْرَةِ أَسْوَاطٍ فِي التَّعْزِيرِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَرْدَعُ الْمُعَزَّرَ فَانْضَمَّ إلَيْهِ الْحَبْسُ مُدَّةً يُرْجَى فِي مِثْلِهَا حُصُولُ الِارْتِدَاعِ . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : قَتْلُ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ إذَا صَالُوا عَلَى الدِّمَاءِ وَالْأَبْضَاعِ ، وَلَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُمْ إلَّا بِقَتْلِهِمْ . الْمِثَالُ السَّادِسُ : حُدَّ الْحَنَفِيُّ عَلَى شُرْبِ النَّبِيذِ ، مَعَ الْجَزْمِ بِعَدَالَتِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاصٍ ، دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ شُرْبِ الْمُسْكِرِ . فَإِنْ قِيلَ : هَلَّا حَدَدْتُمْ بِالْوَطْءِ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِي صِحَّتِهِ ، كَمَا حَدَدْتُمْ الْحَنَفِيَّ بِشُرْبِ النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِي حِلِّ شُرْبِهِ ؟ قُلْنَا : الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَفْسَدَةَ الزِّنَا لَا تَتَحَقَّقُ فِي النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ ، وَيُلْحِقُ النَّسَبَ ، وَيُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ، بِخِلَافِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْأَنْسَابَ ، وَلَا يُوجِبُ مَهْرًا وَلَا عِدَّةً ، وَالْمَفْسَدَةُ فِي شُرْبِ النَّبِيذِ مِثْلُهَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ . الْمِثَالُ السَّابِعُ : إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي الْقِصَاصِ ، ثُمَّ عَفَا وَلَمْ يَعْلَمْ الْوَكِيلُ ، أَوْ أَخْبَرَهُ فَاسِقٌ بِالْعَفْوِ فَلَمْ يُصَدِّقْهُ ، وَأَرَادَ الِاقْتِصَاصَ ، فَلِلْفَاسِقِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْقَتْلِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ دَفْعُهُ إلَّا بِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْقَتْلِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ . الْمِثَالُ الثَّامِنُ : إذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ جَارِيَتِهِ فَبَاعَهَا ، فَأَرَادَ الْمُوَكِّلُ وَطْأَهَا ظَنًّا أَنَّ الْوَكِيلَ لَمْ يَبِعْهَا ، فَأَخْبَرَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا ، فَلَمْ يُصَدِّقْهُ ، فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَهُ عَنْهَا وَلَوْ بِالْقَتْلِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الْوَطْءِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنْ وَطِئَهَا فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ زَانِيًا وَلَا آثِمًا . الْمِثَالُ التَّاسِعُ : ضَرْبُ الْبَهَائِمِ فِي التَّعْلِيمِ وَالرِّيَاضَةِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ الشِّرَاسِ وَالْجِمَاحِ وَكَذَلِكَ ضَرْبُهَا حَمْلًا عَلَى الْإِسْرَاعِ لِمَسِّ الْحَاجَةِ إلَيْهِ عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَالْقِتَالِ .
وَأَمَّا مَا رَجَحَتْ مَفْسَدَتُهُ عَلَى مَصْلَحَتِهِ فَكَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ حِفْظًا لِلرُّوحِ إذَا كَانَ الْغَالِبُ السَّلَامَةَ بِقَطْعِهَا . وَأَمَّا مَا تَكَافَأَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ وَالْمَفْسَدَةُ ، فَقَدْ يُتَخَيَّرُ فِيهِ وَقَدْ يُمْتَنَعُ كَمَا ذَكَرْنَاهُ ، وَهَذَا كَقَطْعِ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْخَوْفِ فِي قَطْعِهَا وَإِبْقَائِهَا ، وَكُلُّ شَيْءٍ يُمَثَّلُ بِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ ، فَمِنْهُ مَا هُوَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْأَكْثَرُ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ . ( فَائِدَةٌ فِي تَنْوِيعِ الْعُقُوبَاتِ الشَّرْعِيَّةِ ) حُدُودُ الشَّرْعِ : قَتْلٌ ، وَجَلْدٌ ، وَتَغْرِيبٌ وَرَجْمٌ ، وَقَطْعُ أَعْضَاءٍ ، وَأَيْدٍ وَأَرْجُلٍ ، وَجَرْحٌ ، وَصَلْبٌ وَتَعْزِيرٌ بِضَرْبٍ أَوْ حَبْسٍ أَوْ تَوْبِيخٍ ، أَوْ جَمْعٍ بَيْنَ بَعْضِ ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ الصَّلَاحِ .
فَصْلٌ فِي بَيَانِ الْوَسَائِلِ إلَى الْمَصَالِحِ يَخْتَلِفُ أَجْرُ وَسَائِلِ الطَّاعَاتِ بِاخْتِلَافِ فَضَائِلِ الْمَقَاصِدِ وَمَصَالِحِهَا ، فَالْوَسِيلَةُ إلَى الْمَقَاصِدِ أَفْضَلُ مِنْ سَائِرِ الْوَسَائِلِ ، فَالتَّوَسُّلُ إلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ ، وَالتَّوَسُّلُ إلَى مَعْرِفَةِ أَحْكَامِهِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ إلَى مَعْرِفَةِ آيَاتِهِ ، وَالتَّوَسُّلُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَاتِ ، وَالتَّوَسُّلُ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَاتِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالسَّعْيِ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ ، وَالتَّوَسُّلُ بِالسَّعْيِ إلَى الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ بِالسَّعْيِ إلَى الْمَنْدُوبَاتِ الَّتِي شُرِعَتْ فِيهَا الْجَمَاعَاتُ كَالْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفَيْنِ ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْوَسِيلَةُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْمَصْلَحَةِ ، كَانَ أَجْرُهَا أَعْظَمَ مِنْ أَجْرِ مَا نَقَصَ عَنْهَا ، فَتَبْلِيغُ رِسَالَاتِ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ الْوَسَائِلِ ، لِأَدَائِهِ إلَى جَلْبِ كُلِّ صَلَاحٍ دَعَتْ إلَيْهِ الرُّسُلُ ، وَإِلَى دَرْءِ كُلِّ فَاسِدٍ زَجَرَتْ عَنْهُ الرُّسُلُ ، وَالْإِنْذَارُ وَسِيلَةٌ إلَى دَرْءِ مَفَاسِدِ الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ ، وَالتَّبْشِيرُ وَسِيلَةٌ إلَى جَلْبِ مَصَالِحِ الطَّاعَةِ وَالْإِيمَانِ . وَكَذَلِكَ الْمَدْحُ وَالذَّمُّ ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، رُتْبَتُهُ فِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رُتْبَةِ مَصْلَحَةِ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي بَابِ الْمَصَالِحِ ، فَالْأَمْرُ بِالْإِيمَانِ أَفْضَلُ أَنْوَاعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ . وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْفَرَائِضِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَمْرِ بِالنَّوَافِلِ ، وَالْأَمْرُ بِإِمَاطَةِ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ مِنْ أَدْنَى مَرَاتِبِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، وَأَدْنَاهَا إمَاطَةُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ } ؛ فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِمَعْرُوفَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، لَزِمَهُ ذَلِكَ ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَصْلَحَتَيْنِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَمَرَ بِأَفْضَلِهِمَا ؛ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَقْدِيمِ أَعْلَى الْمَصْلَحَتَيْنِ عَلَى أَدْنَاهُمَا ، مِثَالُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِمَعْرُوفَيْنِ فَمَا زَادَ ، أَنْ يَرَى جَمَاعَةً قَدْ تَرَكُوا الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ حَتَّى ضَاقَ وَقْتُهَا بِغَيْرِ عُذْرٍ فَيَقُولُ لَهُمْ بِكَلِمَةِ صَلُّوا أَوْ قُومُوا إلَى الصَّلَاةِ ، فَإِنَّ أَمْرَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَاجِبٌ عَلَى الْفَوْرِ . وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ مَا يَجِبُ تَعْلِيمُهُ ، وَتَفْهِيمُ مَا يَجِبُ تَفْهِيمُهُ ، يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِهِ وَهَذَانِ قِسْمَانِ : أَحَدُهُمَا : وَسِيلَةٌ إلَى مَا هُوَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ ، كَتَعْرِيفِ التَّوْحِيدِ وَصِفَاتِ الْإِلَهِ ؛ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ وَالتَّوَسُّلُ إلَيْهِ مِنْ أَفْضَلِ الْوَسَائِلِ . الْقِسْمُ الثَّانِي : مَا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى وَسِيلَةٍ كَتَعْلِيمِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّهُ وَسِيلَةٌ إلَى الْعِلْمِ بِالْأَحْكَامِ الَّتِي هِيَ وَسِيلَةٌ إلَى إقَامِهِ الطَّاعَاتِ ، الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ إلَى الْمَثُوبَةِ وَالرِّضْوَانِ ، وَكِلَاهُمَا مِنْ أَفْضَلِ الْمَقَاصِدِ . وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجِهَادِ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ ، وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ } . وَإِنَّمَا أُثِيبُوا عَلَى الظَّمَأِ وَالنَّصَبِ وَلَيْسَا مِنْ فِعْلِهِمْ ، لِأَنَّهُمْ تَسَبَّبُوا إلَيْهِمَا بِسَفَرِهِمْ وَسَعْيِهِمْ . وَعَلَى الْحَقِيقَةِ فَالتَّأَهُّبُ لِلْجِهَادِ بِالسَّفَرِ إلَيْهِ ، وَإِعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ ، وَسِيلَةٌ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَقَاصِدِ الْجِهَادِ ، فَالْمَقْصُودُ مَا شُرِعَ الْجِهَادُ لِأَجْلِهِ ، وَالْجِهَادُ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ ، وَأَسْبَابُ الْجِهَادِ كُلُّهَا وَسَائِلُ إلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى مَقَاصِدِهِ ، فَالِاسْتِعْدَادُ لَهُ مِنْ بَابِ وَسَائِلِ الْوَسَائِلِ . وَيَدُلُّ عَلَى فَضْلِ التَّوَسُّلِ إلَى الْجُمُعَاتِ وَالْجَمَاعَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ تَطَهَّرَ فِي بَيْتِهِ ، ثُمَّ رَاحَ إلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ لِيَقْضِيَ فَرِيضَةً مِنْ فُرُوضِ اللَّهِ ، كَانَتْ خُطُوَاتُهُ إحْدَاهُمَا تَحُطُّ خَطِيئَةً وَالْأُخْرَى تَرْفَعُ دَرَجَةً } . وَتَتَفَاوَتُ الْحَسَنَاتُ الْمَكْتُوبَةُ وَالسَّيِّئَاتُ الْمَحْطُوطَةُ ، بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الصَّلَاةِ الَّتِي يَمْشِي إلَيْهَا ، وَقَدْ جَاءَ فِي التَّنْزِيلِ : { مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } . وَتَتَفَاوَتُ رُتَبُ تِلْكَ الْأَعْشَارِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِ الْحَسَنَاتِ فِي أَنْفُسِهَا ، فَمَنْ تَصَدَّقَ بِتَمْرَةٍ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِبُدْرَةٍ فَلَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، لَا نِسْبَةَ لِشَرَفِ حَسَنَاتِ التَّمْرَةِ إلَيْهَا . وَكَذَلِكَ الْوِلَايَاتُ تَخْتَلِفُ رُتَبُهَا بِاخْتِلَافِ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَتَدْرَؤُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ ، فَالْوِلَايَةُ الْعُظْمَى أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ وِلَايَةٍ ، لِعُمُومِ جَلْبِهَا الْمَنَافِعَ ، وَدَرْئِهَا الْمَفَاسِدَ ، وَتَلِيهَا وِلَايَةُ الْقَضَاءِ لِأَنَّهَا أَعَمُّ مِنْ سَائِرِ الْوِلَايَاتِ ، وَالْوِلَايَةُ عَلَى الْجِهَادِ أَفْضَلُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الْحَجِّ ، لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْجِهَادِ أَكْمَلُ مِنْ فَضِيلَةِ الْحَجِّ ، وَتَخْتَلِفُ رُتَبُ الْوِلَايَاتِ بِخُصُوصِ مَنَافِعِهَا وَعُمُومِهَا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، وَلَا شَكَّ بِأَنَّ الْوَسَائِلَ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ فَمَنْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَاتُ وَالْجَمَاعَاتُ أَوْ الْغَزَوَاتُ سَقَطَ عَنْهُ السَّعْيُ إلَيْهَا ، لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ الْوُجُوبَ مِنْ وُجُوبِهِنَّ . وَكَذَلِكَ تَسْقُطُ وَسَائِلُ الْمَنْدُوبَاتِ بِسُقُوطِهِنَّ لِأَنَّهَا اسْتَفَادَتْ النَّدْبَ مِنْهُنَّ ، فَمَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاتَيْنِ مَكْتُوبَتَيْنِ لَزِمَهُ قَضَاؤُهُمَا ، فَيَقْضِي إحْدَاهُمَا : لِأَنَّهَا الْمَفْرُوضَةُ ، وَيَقْضِي . الثَّانِيَةَ : فَإِنَّهَا وَسِيلَةٌ إلَى تَحْصِيلِ مَصْلَحَةِ الْمَفْرُوضَةِ ، فَإِنْ ذَكَرَ فِي الثَّانِيَةِ أَنَّ الْأُولَى هِيَ الْمَفْرُوضَةُ سَقَطَ وُجُوبُهَا بِسُقُوطِ الْمُتَوَسَّلِ إلَيْهِ ، وَهَلْ تَبْطُلُ أَوْ تَبْقَى نَفْلًا ؟ فِيهِ خِلَافٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَنْ نَوَى صَلَاةً مَخْصُوصَةً فَلَمْ تَحْصُلْ لَهُ فَهَلْ تَبْطُلُ أَوْ تَبْقَى نَفْلًا ؟ فِيهِ قَوْلَانِ ، وَإِنْ ذَكَرَ فِي الْأُولَى أَنَّهَا فَرْضُهُ اسْتَمَرَّ عَلَيْهَا وَسَقَطَتْ الثَّانِيَةُ ، وَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ فَرْضَهُ الثَّانِيَةُ سَقَطَ وُجُوبُ الْأُولَى وَفِي بَقَائِهَا نَفْلًا خِلَافٌ . فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ صَحَّتْ النِّيَّةُ مَعَ التَّرَدُّدِ فِي وُجُوبِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ ؟ قُلْنَا : صَحَّتْ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّتِهِ فَصَحَّتْ لِذَلِكَ نِيَّتُهُ ، لِظَنِّهِ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَأَشْبَهَ مَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ مُعَيَّنَةٌ فَشَكَّ فِي أَدَائِهَا ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ مَعَ شَكِّهِ ، لِاسْتِنَادِ نِيَّتِهِ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاؤُهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَقَدْ اسْتَثْنَى فِي سُقُوطِ الْوَسَائِلِ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ ، أَنَّ النَّاسِكَ الَّذِي لَا شَعْرَ عَلَى رَأْسِهِ مَأْمُورٌ بِإِمْرَارِ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ ، مَعَ أَنَّ إمْرَارَ الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ وَسِيلَةٌ إلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ فِيمَا ظَهَرَ لَنَا ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمْرَارَ مَقْصُودٌ فِي نَفْسِهِ لَا لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً ، كَانَ هَذَا مِنْ قَاعِدَةِ مَنْ أُمِرَ بِأَمْرَيْنِ فَقَدَرَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَعَجَزَ عَنْ الْآخَرِ .
يَخْتَلِفُ وَزْنُ وَسَائِلِ الْمُخَالَفَاتِ بِاخْتِلَافِ رَذَائِلِ الْمَقَاصِدِ وَمَفَاسِدِهَا ، فَالْوَسِيلَةُ إلَى أَرْذَلِ الْمَقَاصِدِ أَرْذَلُ مِنْ سَائِرِ الْوَسَائِلِ ، فَالتَّوَسُّلُ إلَى الْجَهْلِ بِذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ ، أَرْذَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ إلَى الْجَهْلِ بِأَحْكَامِهِ ، وَالتَّوَسُّلُ إلَى الْقَتْلِ أَرْذَلُ مِنْ التَّوَسُّلِ إلَى الزِّنَا ، وَالتَّوَسُّلُ إلَى الزِّنَا أَقْبَحُ مِنْ التَّوَسُّلِ إلَى أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْقَتْلِ بِالْإِمْسَاكِ أَقْبَحُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ مُنَاوَلَةُ آلَةِ الْقَتْلِ أَقْبَحُ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَيْهِ ، وَالنَّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ مُحَرَّمٌ لِكَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى الزِّنَا ، وَالْخَلْوَةُ بِهَا أَقْبَحُ مِنْ النَّظَرِ إلَيْهَا ، وَعِنَاقُهَا فِي الْخَلْوَةِ أَقْبَحُ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا بِغَيْرِ حَائِلٍ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، لِقُوَّةِ أَدَائِهِ إلَى الْمَفْسَدَةِ الْمَقْصُودَةِ بِالتَّحْرِيمِ . وَهَكَذَا تَخْتَلِفُ رُتَبُ الْوَسَائِلِ بِاخْتِلَافِ قُوَّةِ أَدَائِهَا إلَى الْمَفَاسِدِ ، فَإِنَّ الشَّهْوَةَ تَشْتَدُّ بِالْعِنَاقِ بِحَيْثُ لَا تُطَاقُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ النَّظَرُ ، وَالتَّفْسِيرُ أَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لِقُوَّةِ أَدَائِهِ إلَى الزِّنَا ، وَكُلَّمَا قَوِيَتْ الْوَسِيلَةُ فِي الْأَدَاءِ إلَى الْمَفْسَدَةِ كَانَ إثْمُهَا أَعْظَمَ مِنْ إثْمِ مَا نَقَصَ عَنْهَا ، وَالْبَيْعُ الشَّاغِلُ عَنْ الْجُمُعَةِ حَرَامٌ لَا لِأَنَّهُ بَيْعٌ ، بَلْ لِكَوْنِهِ شَاغِلًا عَنْ الْجُمُعَةِ ، فَإِنْ رُتِّبَتْ مَصْلَحَةُ التَّصَرُّفِ وَالطَّاعَاتِ عَلَى مَصْلَحَةِ الْجُمُعَةِ ، قُدِّمَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ عَلَى الْجُمُعَةِ . لِفَضْلِ مَصْلَحَتِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، فَيُقَدَّمُ إنْقَاذُ الْغَرِيقِ ، وَإِطْفَاءُ الْحَرِيقِ ، عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ . وَكَذَلِكَ يُقَدَّمُ الدَّفْعُ عَنْ النُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ عَلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ بَيْنَ هَذِهِ الْوَاجِبَاتِ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ، بِخِلَافِ الْأَعْذَارِ الْخَفِيفَةِ الْمُسْقِطَةِ لِوُجُوبِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهَا تَخْيِيرٌ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْجُمُعَةِ . وَلَوْ تَصَرَّفَ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ وَهُوَ ذَاهِبٌ إلَى الْجُمُعَةِ تَصَرُّفًا لَا يَشْغَلُهُ عَنْ الْجُمُعَةِ لَمْ يُحَرَّمْ ذَلِكَ ، لِخُرُوجِهِ عَنْ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى تَرْكِ الْجُمُعَةِ ، وَكَذَا النَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَسِيلَةٌ إلَى دَفْعِ مَفْسَدَةِ ذَلِكَ الْمُنْكَرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَرُتْبَتُهُ فِي الْفَضْلِ وَالثَّوَابِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى رُتْبَةِ دَرْءِ مَفْسَدَةِ الْفِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فِي بَابِ الْمَفَاسِدِ ، ثُمَّ تَتَرَتَّبُ رُتَبُهُ عَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ إلَى أَصْغَرِ الصَّغَائِرِ ، فَالنَّهْيُ عَنْ الْكُفْرِ بِاَللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ نَهْيٍ فِي بَابِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ . فَمَنْ قَدَرَ عَلَى الْجَمْعِ بَيْنَ دَرْءِ أَعْظَمِ الْفِعْلَيْنِ مَفْسَدَةٌ وَدَرْءُ أَدْنَاهُمَا مَفْسَدَةُ جَمْعٍ بَيْنَهُمَا لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْجَمْعِ بَيْنَ رِدْءِ الْمَفَاسِدِ ، مِثْلَ أَنْ يَنْهَى عَنْ مُنْكَرَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ أَوْ مُتَسَاوِيَيْنِ فَمَا زَادَ ، بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ . مِثَالُ الْمُتَفَاوِتَيْنِ أَنْ يَرَى إنْسَانًا يَقْتُلُ رَجُلًا وَآخَرَ يَسْلُبُ مَالَ إنْسَانٍ ، فَيَقُولُ لَهُمَا كُفَّا عَمَّا تَصْنَعَانِ . وَمِثَالُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَنْ يَرَى اثْنَيْنِ قَدْ اجْتَمَعَا عَلَى قَتْلِ إنْسَانٍ أَوْ سَلْبِ مَالِهِ فَيَقُولُ لَهُمَا كُفَّا عَنْ قَتْلِهِ أَوْ سَلْبِهِ . وَكَذَلِكَ يَقُولُ لِلْجَمَاعَةِ كُفُّوا عَمَّا تَصْنَعُونَ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ الْمُنْكَرَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ أَحَدِهِمَا دَفَعَ الْأَفْسَدَ فَالْأَفْسَدَ ، وَالْأَرْذَلَ فَالْأَرْذَلَ سَوَاءٌ قَدَرَ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ بِيَدِهِ أَوْ بِلِسَانِهِ ، مِثْلَ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْغَازِي مِنْ قَتْلِ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِسَهْمٍ وَمِنْ قَتْلِ عَشْرَةٍ بِرَمْيَةٍ وَاحِدَةٍ تَنْفُذُ فِي جَمِيعِهِمْ ، فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ رَمْيَ الْعَشَرَةِ عَلَى رَمْيِ الْوَاحِدِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاحِدُ بَطَلًا عَظِيمَ النِّكَايَةِ فِي الْإِسْلَامِ ، حَسَنَ التَّدْبِيرِ فِي الْحُرُوبِ : فَيَبْدَأُ بِرَمْيِهِ دَفْعًا لِمَفْسَدَةِ بَقَائِهِ ، لِأَنَّهَا أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَةِ بَقَاءِ الْعَشَرَةِ . وَكَذَلِكَ لَوْ قَدَرَ عَلَى أَنْ يَفْتَحَ فُوَّهَةَ نَهْرٍ عَلَى أَلْفٍ مِنْ الْكُفَّارِ لَا نَجَاةَ لَهُمْ مِنْهَا وَقَدَرَ عَلَى قَتْلِ مِائَةٍ بِشَيْءٍ مِنْ آلَاتِ الْقِتَالِ لَكَانَ فَتْحُ فُوَّهَةِ النَّهْرِ أَوْلَى مِنْ قَتْلِ الْمِائَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ عِظَمِ الْمَصْلَحَةِ ، وَإِنْ كَانَ فَتْحُ الْفُوَّهَةِ أَخَفَّ مِنْ قَتْلِ الْمِائَةِ بِالسِّلَاحِ . وَكَذَلِكَ تَتَفَاوَتُ كَرَاهَةُ الْمُنْكَرِ بِالْقُلُوبِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ إنْكَارِهِ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ بِتَفَاوُتِ رُتَبِهِ ، فَتَكُونُ كَرَاهَةُ الْأَقْبَحِ أَعْظَمَ مِنْ كَرَاهَةِ مَا دُونَهُ . فَإِنْ عَلِمَ الْآمِرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهِي عَنْ الْمُنْكَرِ أَنَّ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ لَا يُجْدِيَانِ وَلَا يُفِيدَانِ شَيْئًا ، أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ ، سَقَطَ الْوُجُوبُ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ وَيَبْقَى الِاسْتِحْبَابُ ، وَالْوَسَائِلُ تَسْقُطُ بِسُقُوطِ الْمَقَاصِدِ ، وَقَدْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْخُلُ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِيهِ الْأَنْصَابُ وَالْأَوْثَانُ وَلَمْ يَكُنْ يُنْكِرُ ذَلِكَ كُلَّمَا رَآهُ . وَكَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُلَّمَا رَأَى الْمُشْرِكِينَ يُنْكِرُ عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ كَانَ السَّلَفُ لَا يُنْكِرُونَ عَلَى الْفَسَقَةِ وَالظَّلَمَةِ فُسُوقَهُمْ وَظُلْمَهُمْ وَفُجُورَهُمْ ، كُلَّمَا رَأَوْهُمْ ، مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يُجْدِي إنْكَارُهُمْ . وَقَدْ يَكُونُ مِنْ الْفَسَقَةِ مَنْ إذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَيَزْدَادُ فُسُوقًا إلَى فُسُوقِهِ ، وَفُجُورًا إلَى فُجُورِهِ ، فَمَنْ أَتَى شَيْئًا مُخْتَلِفًا فِي تَحْرِيمِهِ مُعْتَقِدًا تَحْرِيمَهُ وَجَبَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ لِانْتِهَاكِ الْحُرْمَةِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ اللَّعِبِ بِالشِّطْرَنْجِ ، وَإِنْ اعْتَقَدَ تَحْلِيلَهُ لَمْ يَجُزْ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخَذُ الْمُحَلِّلِ ضَعِيفًا تُنْقَضُ الْأَحْكَامُ بِمِثْلِهِ لِبُطْلَانِهِ فِي الشَّرْعِ ، إذْ لَا يُنْقَضُ إلَّا لِكَوْنِهِ بَاطِلًا ، وَذَلِكَ كَمَنْ يَطَأُ جَارِيَةً بِالْإِبَاحَةِ مُعْتَقِدًا لِمَذْهَبِ عَطَاءٍ فَيَجِبُ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَقِدْ تَحْرِيمًا وَلَا تَحْلِيلًا أُرْشِدَ إلَى اجْتِنَابِهِ مِنْ غَيْرِ تَوْبِيخٍ وَلَا إنْكَارٍ ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ وَسَائِلَ الْمَكْرُوهِ مَكْرُوهَةٌ ، وَالْمَنْدُوبِ مَنْدُوبَةٌ ، وَالْمُبَاحِ مُبَاحَةٌ . وَكَذَلِكَ وِلَايَةُ الْمَظَالِمِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِهَا فِي الْمَفَاسِدِ فَالْوِلَايَةُ عَلَى الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ وَالصَّلْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ أَقْبَحُ مِنْ الْوِلَايَةِ عَلَى الضَّرْبِ بِغَيْرِ حَقٍّ . وَكَذَلِكَ الْوِلَايَةُ عَلَى الْمُكُوسِ وَغَصْبِ الْأَمْوَالِ ، وَتَضْمِينِ الْخُمُورِ وَالْأَبْضَاعِ ، وَكَذَلِكَ الْإِعَانَةُ عَلَى إثْمٍ وَعُدْوَانٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ ، وَقَدْ تَجُوزُ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ مَعْصِيَةً ، بَلْ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى مَصْلَحَةٍ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ مِنْهَا مَا يُبْذَلُ فِي افْتِكَاكِ الْأَسَارَى فَإِنَّهُ حَرَامٌ عَلَى آخِذِيهِ مُبَاحٌ لِبَاذِلِيهِ وَمِنْهَا أَنْ يُرِيدَ الظَّالِمُ قَتْلَ إنْسَانٍ مُصَادَرَةً عَلَى مَالِهِ وَيَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ إنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالَهُ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُ مَالِهِ فِكَاكًا لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهَا أَنْ يُكْرِهَ امْرَأَةً عَلَى الزِّنَا وَلَا يَتْرُكُهَا إلَّا بِافْتِدَاءٍ بِمَالِهَا أَوْ بِمَالِ غَيْرِهَا فَيَلْزَمُهَا ذَلِكَ عِنْدَ إمْكَانِهِ . وَلَيْسَ هَذَا عَلَى التَّحْقِيقِ مُعَاوَنَةً عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَإِنَّمَا هُوَ إعَانَةٌ عَلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ فَكَانَتْ الْمُعَاوَنَةُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فِيهَا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا .
يَخْتَلِفُ إثْمُ الْمَفَاسِدِ بِاخْتِلَافِهَا فِي الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَبِاخْتِلَافِ مَا تُفَوِّتُهُ مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ ، فَيَخْتَلِفُ الْإِثْمُ فِي قَطْعِ الْأَعْضَاءِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَإِزَالَةِ مَنَافِعِ الْأَعْضَاءِ بِاخْتِلَافِ الْمَنَافِعِ ، فَلَيْسَ إثْمُ مَنْ قَطَعَ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرُ مِنْ الرِّجْلِ كَإِثْمِ مَنْ قَطَعَ الْخِنْصَرَ وَالْبِنْصِرَ مِنْ الْيَدِ ، لِمَا فَوَّتَهُ مِنْ مَنَافِعِهَا الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ ، وَسَوَاءٌ قَطَعَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ الْإِثْمُ فِي قَطْعِ الْأُذُنِ كَالْإِثْمِ فِي قَطْعِ اللِّسَانِ ، لِمَا سَنَذْكُرُهُ مِنْ مَنَافِعِ اللِّسَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَيْسَ مَنْ قَتَلَ فَاسِقًا ظَالِمًا مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ بِمَثَابَةِ مَنْ قَتَلَ إمَامًا عَدْلًا ، أَوْ حَاكِمًا مُقْسِطًا ، أَوْ وَلِيًّا مُنْصِفًا ، لِمَا فَوَّتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ . وَعَلَى هَذَا حَمَلَ بَعْضُهُمْ قَوْله تَعَالَى : { مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } لَمَّا عَمَّتْ الْمَفْسَدَةُ فِي قَتْلِ نَفْسٍ جَعَلَ إثْمَهَا كَإِثْمِ مَنْ قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا لِمَا فَوَّتَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ مَصَالِحَ وَلَمَّا عَمَّتْ الْمَفْسَدَةُ فِي إنْقَاذِ وُلَاةِ الْعَدْلِ وَالْإِقْسَاطِ وَالْإِنْصَافِ مِنْ الْمَهَالِكِ ، جَعَلَ أَجْرَ مُنْقِذِهَا كَأَجْرِ مُنْقِذِ النَّاسِ مِنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ جَمِيعًا لِعُمُومِ مَا سَعَى فِيهِ مِنْ الْمَصَالِحِ ، وَكَذَلِكَ جِنَايَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى أَعْضَاءِ نَفْسِهِ يَتَفَاوَتُ إثْمُهَا بِتَفَاوُتِ مَنَافِعِ مَا جَنَى عَلَيْهِ ، وَبِتَفَاوُتِ مَا فَوَّتَهُ عَلَى النَّاسِ مِنْ عَدْلِهِ وَإِقْسَاطِهِ وَبِرِّهِ وَإِنْصَافِهِ وَنُصْرَتِهِ لِلدِّينِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُتْلِفَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ ، لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَلَيْسَ قَطْعُ الْعَالِمِ أَوْ الْحَاكِمِ أَوْ الْمُفْتِي أَوْ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ لِسَانَ نَفْسِهِ كَقَطْعِ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِلِسَانِهِ . وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْبَطَلِ الشَّدِيدِ النِّكَايَةِ فِي الْجِهَادِ يَدَ نَفْسِهِ أَوْ رِجْلَ نَفْسِهِ أَعْظَمُ مِنْ قَطْعِ الضَّعِيفِ الَّذِي لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْجِهَادِ يَدَ نَفْسِهِ أَوْ رِجْلَ نَفْسِهِ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَسَاوِي الْأَعْضَاءِ فِي الْأَبْدَالِ تَسَاوِي تَفْوِيتِهَا فِي الْآثَامِ . وَكَذَلِكَ فَقْءُ الْعَيْنَيْنِ أَشَدُّ إثْمًا مِنْ صَلْمِ الْأُذُنَيْنِ ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الرِّجْلَيْنِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَطْعِ أَصَابِعِهِمَا ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ مِنْ إحْدَى الْيَدَيْنِ أَعْظَمُ وِزْرًا مِنْ قَطْعِ الْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ مِنْهُمَا . وَالْمَدَارُ فِي هَذَا كُلِّهِ عَلَى رُتَبِ تَفْوِيتِ الْمَصَالِحِ وَتَحْقِيقِ الْمَفَاسِدِ . فَكُلُّ عُضْوٍ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ أَتَمَّ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ أَعْظَمَ وِزْرًا ، فَلَيْسَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَقْلِ وَاللِّسَانِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الْخَنَاصِرِ وَالْآذَانِ .
فَصْلٌ فِيمَا يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ فِعْلِهِ وَتَخْتَلِفُ الْأُجُورُ بِاخْتِلَافِ رُتَبِ الْمَصَالِحِ ؛ فَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْأَسْبَابُ وَالشَّرَائِطُ وَالْأَرْكَانُ فِي الْبَاطِنِ ، فَإِنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُوَافِقُ الْبَاطِنَ مِنْ تَحَقُّقِ الْأَسْبَابِ وَالشَّرَائِطِ وَالْأَرْكَانِ ، فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ الشَّرْعِ ظَاهِرًا أَوْ بَاطِنًا مِنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ ، وَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَذَبَ الظَّنُّ بِأَنْ ثَبَتَ فِي الظَّاهِرِ مَا يُخَالِفُ الْبَاطِنَ ، أُثِيبَ الْمُكَلَّفُ عَلَى قَصْدِ الْعَمَلِ بِالْحَقِّ ، وَلَا يُثَابُ عَلَى عَمَلِهِ لِأَنَّهُ خَطَأٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْخَطَأِ ، لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَى الْمَفَاسِدِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ أَحَدُهَا مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ وَالْمَلَابِسِ وَالْمَنَاكِحِ وَالْمَسَاكِنِ الْمَرَاكِبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِحِلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فَغَلَبَ حَصَلَتْ الْمَصْلَحَةُ الْمَقْصُودَةُ مِنْ إبَاحَةِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَذَبَ ظَنُّهُ ، لَزِمَهُ ضَمَانُ مَا انْتَفَعَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ تَلِفَ عِنْدَهُ . الْمِثَالُ الثَّانِي : مَا يُنْفِقُهُ الْمُكَلَّفُ مِنْ الْأَمْوَالِ فِي الْقُرُبَاتِ : كَالزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَالْأَوْقَافِ وَالصَّدَقَاتِ وَعِمَارَةِ الرُّبُطِ وَالْمَدَارِسِ وَالْمَسَاجِدِ وَالضَّحَايَا وَالْهَدَايَا وَالْوَصَايَا وَجَمِيعِ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ مِنْ الْأَمْوَالِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ بِحِلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ وَافَقَ ظَاهِرُهُ بَاطِنَهُ أُثِيبَ مُتَعَاطِيهِ عَلَى قَصْدِهِ وَفِعْلِهِ ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا ، فَكُتِبَ لَهُ بِذَلِكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ بِسَبَبِ مَا حَصَّلَهُ مِنْ مَصَالِحِ تِلْكَ الْقُرُبَاتِ . وَإِنْ اخْتَلَفَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي شَيْءٍ مِنْهُ ، أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ دُونَ فِعْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ خَطَأٌ مَعْفُوٌّ عَنْهُ ، لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ وَلَا يَلْحَقُ بِهِ عِقَابٌ إذْ لَا يَتَقَرَّبُ إلَى الرَّبِّ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ . وَكَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَنَائِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْك ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إلَيْك } : أَيْ وَالشَّرُّ لَيْسَ قُرْبَةً وَلَا وَسِيلَةً إلَيْك ؛ إذْ لَا يُتَقَرَّبُ إلَى اللَّهِ إلَّا بِأَنْوَاعِ الْمَصَالِحِ وَالْخُيُورِ ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَفَاسِدِ وَالشُّرُورِ ، بِخِلَافِ ظَلَمَةِ الْمُلُوكِ الَّذِينَ يُتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ بِالشُّرُورِ ، كَغَصْبِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ ، وَظُلْمِهِمْ الْعِبَادَ ، وَإِفْشَاءِ الْفَسَادِ وَإِظْهَارِ الْعِنَادِ ، وَتَخْرِيبِ الْبِلَادِ ، وَلَا يُتَقَرَّبُ إلَى رَبِّ الْأَرْبَابِ إلَّا بِالْحَقِّ وَالرَّشَادِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْجِهَادُ إفْسَادٌ ، وَتَفْوِيتُ النُّفُوسِ وَالْأَطْرَافِ وَالْأَمْوَالِ ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إلَى اللَّهِ ؟ قُلْنَا : لَا يُتَقَرَّبُ بِهِ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا ، وَإِنَّمَا يُتَقَرَّبُ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ وَسِيلَةً إلَى دَرْءِ الْمَفَاسِدِ وَجَلْبِ الصَّلَاحِ ، كَمَا أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ الْمُتَآكِلَةِ وَسِيلَةٌ إلَى حِفْظِ الْأَرْوَاحِ ، وَلَيْسَ مَقْصُودًا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ إفْسَادًا لِلْيَدِ . وَكَذَلِكَ الْفَصْدُ وَالْحِجَامَةُ وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْمُرَّةِ الْبَشِعَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَتَحَمَّلُهُ النَّاسُ مِنْ الْمَشَاقِّ الَّتِي هِيَ وَسَائِلُ الْمَصَالِحِ . الْمِثَالُ الثَّالِثُ : أَنْ يَقْضِيَ الْمُكَلَّفُ دَيْنَهُ بِمَالٍ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، أَوْ يُنْفِقُهُ عَلَى مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ زَوْجِهِ وَأَقَارِبِهِ وَرَقِيقِهِ وَدَوَابِّهِ ، وَذَلِكَ الْمَالُ فِي الْبَاطِنِ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ ، فَيُثَابُ عَلَى قَصْدِهِ وَنِيَّتِهِ ، وَلَا يُثَابُ عَلَى إنْفَاقِهِ ، لِأَنَّهُ مَفْسَدَةٌ وَلَا يُثَابُ عَلَى الْمَفَاسِدِ . الْمِثَالُ الرَّابِعُ : إذَا اعْتَكَفَ الْمُكَلَّفُ فِي مَكَانِ يَظُنُّهُ مَسْجِدًا ، فَإِنْ كَانَ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ وَاعْتِكَافِهِ ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَةٍ وَعَمِلَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا فِي الْبَاطِنِ أُثِيبَ عَلَى قَصْدِهِ دُونَ اعْتِكَافِهِ ، لِأَنَّ اعْتِكَافَهُ إفْسَادٌ لِمَنَافِعَ لَا يَسْتَحِقُّهَا وَتَلْزَمُهُ أُجْرَتُهَا . الْمِثَالُ الْخَامِسُ : أَنْ يَقْتُلَ الْحَاكِمُ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ فِي ظَاهِرِ الشَّرْعِ ، أَوْ يَرْجُمَهُ أَوْ يَحُدَّهُ ، أَوْ يُسَلِّمَ الْمَرْأَةَ إلَى مَنْ ثَبَتَ أَنَّهُ زَوْجُهَا ، فَإِنْ كَذَبَ الظَّنُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى قَصْدِهِ ، وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى فِعْلِهِ ، لِأَنَّهُ مُعَاوَنَةٌ عَلَى مَفَاسِدَ عَظِيمَةٍ مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ مَعْصُومَةٍ ، وَحَدِّ نَفْسٍ بَرِيئَةٍ مَظْلُومَةٍ أَوْ رَجْمِهَا ، وَتَسْلِيمِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ إلَى مَنْ يَزْنِي بِهَا ، وَالْإِعَانَةِ عَلَى الْمَفَاسِدِ أَقْصَى غَايَاتِهَا أَنْ يُعْفَى عَنْهَا ، أَمَّا أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِلثَّوَابِ فَلَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَاعَدَهُ وَعَاوَنَهُ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ . وَإِنْ صَدَقَ ظَنُّهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى إقَامَةِ الْحَقِّ ، فَيُثَابُ عَلَى نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ ، لِأَنَّهُ هَمَّ بِحَسَنَاتٍ وَعَمِلَهَا . وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ سَاعَدَهُ وَعَاوَنَهُ مِنْ أَتْبَاعِهِ وَأَنْصَارِهِ عَلَى تَنْفِيذِ أَحْكَامِهِ . وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَنُهِينَا عَنْ الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ . وَلَوْ عَلِمَ الشَّاهِدُ وَالْحَاكِمُ وَمُبَاشِرُ الْقَتْلِ وَالرَّجْمِ أَنَّ الْقَتِيلَ مَظْلُومٌ ، وَأَنَّ الْمَرْأَةَ أَجْنَبِيَّةٌ ، كَانَ إثْمُ الْمُبَاشِرِ أَعْظَمَ مِنْ إثْمِ الْحَاكِمِ إذَا لَمْ يُخْبِرْ الْحَاكِمَ ، وَإِثْمُ الْحَاكِمِ أَعْظَمُ مِنْ إثْمِ الشَّاهِدِ ، لِأَنَّ الْمُبَاشِرَ قَدْ حَقَّقَ الْمَفَاسِدَ ، وَالْحَاكِمُ سَبَبٌ لِمُبَاشَرَتِهِ ، وَالشَّاهِدُ سَبَبٌ لِحُكْمِ الْحَاكِمِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ صَلَّى الْمُكَلَّفُ صَلَاةً مُعْتَقِدًا لِاجْتِمَاعِ أَرْكَانِهَا وَشَرَائِطهَا ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ صَلَّى مُحْدِثًا ، أَوْ صَلَّى قَبْلَ الْوَقْتِ ، أَوْ أَنَّ إمَامَهُ كَانَ كَافِرًا أَوْ امْرَأَةً ، أَوْ صَلَّى عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فَهَلْ يَبْطُلُ جَمِيعُ مَا بَاشَرَهُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَأَقْوَالِهَا وَخُضُوعِهَا وَخُشُوعِهَا أَمْ لَا ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ صِحَّةُ الطَّهَارَةِ وَلَا الْوَقْتِ ، كَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّشَهُّدِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَالصَّلَاةِ وَالتَّسْلِيمِ عَلَى سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ ، وَالدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ، وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ ، وَمُلَاحَظَةِ مَعَانِي الْأَذْكَارِ وَالْقِرَاءَةِ ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، وَالْمَهَابَةِ وَالْإِجْلَالِ ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ صَحِيحٌ يُثَابُ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ . وَأَمَّا مَا يَقِفُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَعَلَى دُخُولِ الْوَقْتِ ، فَلَا يُثَابُ عَلَيْهِ ، لِأَنَّهُ خَطَأٌ مُحَرَّمٌ لَوْ شَعَرَ بِهِ . وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ الْجُنُبِ فَفِي الثَّوَابِ عَلَيْهَا نَظَرٌ مَأْخَذُهُ النَّظَرُ فِي تَعَذُّرِ الْجِهَةِ ، كَمَا فِي الصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ . فَإِنْ قِيلَ : قَدْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إذَا اجْتَهَدَ الْحَاكِمُ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ } ، فَهَذِهِ كَانَ بِمَثَابَتِهِ ؟ قُلْنَا : لَا يُثَابُ الْمُجْتَهِدُ عَلَى خَطَئِهِ وَإِنَّمَا ثَوَابُهُ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَقَصْدِهِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا ، وَإِذْ أَصَابَ الْمُجْتَهِدُ فَلَهُ أَجْرٌ عَلَى قَصْدِهِ وَأَجْرٌ عَلَى إصَابَتِهِ ، كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا إذَا وَافَقَ الظَّاهِرُ الْبَاطِنَ فِي جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ . فَإِنْ قِيلَ : لَوْ فَعَلَ الْمُكَلَّفُ مَا هُوَ مَفْسَدَةٌ فِي ظَنِّهِ وَاعْتِقَادِهِ ، وَلَيْسَ بِمَفْسَدَةٍ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ ، فَهَلْ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ عِقَابَ مَنْ عَصَى اللَّهَ بِتَحْقِيقِ الْمَفْسَدَةِ ؟ فَالْجَوَابُ أَلَّا يُعَاقَبَ إلَّا عَلَى جُرْأَتِهِ وَمُخَالَفَتِهِ دُونَ تَحْقِيقِهِ الْمَفْسَدَةَ ، لِأَنَّ الْأَوْزَارَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِغَرِ الْمَفَاسِدِ وَكِبَرِهَا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ الْمَفَاسِدَ لَا يُثَابُ عَلَيْهَا ، إذْ لَا تَعْظِيمَ فِيهَا لِلرَّبِّ وَلَا مَصْلَحَةَ فِيهَا لِعِبَادِهِ ، بَلْ هِيَ ضَارَّةٌ لِلْعِبَادِ كَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي رَجْمِ مَنْ لَا يَجُوزُ رَجْمُهُ ، وَقَتْلِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَأَخْذِ مَا لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ ، وَتَسْلِيمِ مَنْ لَا يَجُوزُ تَسْلِيمُهُ ؛ كَتَسْلِيمِ الْجَارِيَةِ وَالزَّوْجَةِ بِمَا بُعِثَ فِي الظَّاهِرِ مِنْ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ عَلَى خِلَافِ الْبَاطِنِ .
فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ مِنْ الْأَفْعَالِ لَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُعَاقَبُ إلَّا عَلَى كَسْبِهِ وَإِكْسَابِهِ . وَلَا يَكُونُ إلَّا بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ بِسَبَبٍ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ : قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وَقَالَ : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } ، أَيْ لَيْسَ لَهُ إلَّا جَزَاءُ سَعْيِهِ ، وَقَالَ : { وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلَّا عَلَيْهَا } ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ بِالتَّكَالِيفِ تَعْظِيمُ الْإِلَهِ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ ، وَذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِفَاعِلِيهِ ، إذْ لَا يَكُونُ مُعْظَمُ الْمُحَرَّمَاتِ مُنْتَهِكًا لَهَا بِانْتِهَاكِ غَيْرِهِ ، وَلَا مُنْتَهِكُ الْمُحَرَّمَاتِ مُعَظِّمًا لَهَا بِتَعْظِيمِ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الِاسْتِنَابَةُ فِي الْمَعَاصِي وَالْمُخَالَفَاتِ ، وَلَا فِي الطَّاعَاتِ الْبَدَنِيَّاتِ ، إلَّا مَا اسْتَثْنَى مِنْ الطَّاعَاتِ كَالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالصَّوْمِ وَالصَّدَقَاتِ رَحْمَةً لِلْعَاجِزِينَ بِتَحْصِيلِ ثَوَابِ هَذِهِ الْقُرُبَاتِ ، وَلِلنَّائِبِينَ عَنْهُمْ بِالتَّسَبُّبِ إلَى إنَالَةِ ثَوَابِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ ؛ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ ، أَوْ عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ ، أَوْ وَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ } ، وَمَعْنَاهُ انْقَطَعَ أَجْرُ عَمَلِهِ أَوْ ثَوَابُ عَمَلِهِ فَهَذَا عَلَى وَفْقِ الْقَاعِدَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ كَسْبِهِ ، فَإِنَّ الْعِلْمَ الْمُنْتَفَعَ بِهِ مِنْ كَسْبِهِ فَجُعِلَ لَهُ ثَوَابُ التَّسَبُّبِ إلَى تَعْلِيمِ هَذَا الْعِلْمِ . وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْجَارِيَةُ تُحْمَلُ عَلَى الْوَقْفِ وَعَلَى الْوَصِيَّةِ بِمَنَافِعِ دَارِهِ وَثِمَارِ بُسْتَانِهِ عَلَى الدَّوَامِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ كَسْبِهِ ، لِتَسَبُّبِهِ إلَيْهِ ، فَكَانَ لَهُ أَجْرُ التَّسَبُّبِ ، وَلَيْسَ الدُّعَاءُ مَخْصُوصًا بِالْوَلَدِ ، بَلْ الدُّعَاءُ شَفَاعَةٌ جَائِزَةٌ مِنْ الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ ، وَلَيْسَتْ مُسْتَثْنَاةً مِنْ هَذِهِ ، لِأَنَّ ثَوَابَ الدُّعَاءِ لِلدَّاعِي وَالْمَدْعُوُّ بِهِ حَاصِلٌ لِلْمَدْعُوِّ لَهُ ، فَإِنْ طَلَبَ لَهُ الْمَغْفِرَةَ وَالرَّحْمَةَ كَانَتْ الْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ مَخْصُوصَيْنِ بِالْمَدْعُوِّ لَهُ ، وَثَوَابُ الدُّعَاءِ لِلدَّاعِي ، كَمَا لَوْ شَفَعَ إنْسَانٌ لِفَقِيرٍ فِي كِسْوَةٍ أَوْ فِي الْعَفْوِ عَنْ زَلَّةٍ ، كَانَتْ لِلشَّافِعِ ثَوَابُ الشَّفَاعَةِ فِي الْعَفْوِ وَالْكِسْوَةِ ، وَكَانَتْ مَصْلَحَةُ الْعَفْوِ وَالْكِسْوَةِ لِلْفَقِيرِ . وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ الْجَهَلَةِ أَنَّ الْمُصَابَ مَأْجُورٌ عَلَى مُصِيبَتِهِ ، وَهَذَا خَطَأٌ صَرِيحٌ فَإِنَّ الْمَصَائِبَ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ بِمُبَاشَرَةٍ وَلَا تَسَبُّبٍ ، فَمَنْ قُتِلَ وَلَدُهُ أَوْ غُصِبَ مَالُهُ أَوْ أُصِيبَ بِبَلَاءٍ فِي جَسَدِهِ ، فَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمَصَائِبُ مِنْ كَسْبِهِ وَلَا تَسَبُّبِهِ حَتَّى يُؤْجَرَ عَلَيْهَا ، بَلْ إنْ صَبَرَ عَلَيْهَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الصَّابِرِينَ وَإِنْ رَضِيَ بِهَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الرَّاضِينَ وَلَا يُؤْجَرُ عَلَى نَفْسِ الْمُصِيبَةِ ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ عَمَلِهِ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى : { إنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، كَيْفَ وَالْمَصَائِبُ الدُّنْيَوِيَّةُ عُقُوبَاتٌ عَلَى الذُّنُوبِ ، وَالْعُقُوبَةُ لَيْسَتْ ثَوَابًا ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ . { مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُشَاكُ شَوْكَةً فَمَا دُونَهَا إلَّا قُصَّ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ } ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنُ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ حَتَّى الْهَمِّ يَهُمُّهُ وَالشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ } . فَيُحْمَلُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ } ، عَلَى تَقْدِيرِ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ صَبْرِهِ . لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } . هَذَا فِي الْمَصَائِبِ الَّتِي لَا تَسَبُّبَ لَهُ إلَيْهَا . وَأَمَّا مَا تَسَبَّبَ إلَيْهِ فَإِنْ كَانَ مِنْ السَّيِّئَاتِ كُتِبَ عَلَيْهِ وَأُخِذَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، فَإِنَّ مَنْ جَرَحَ إنْسَانًا فَسَرَى الْجِرَاحُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ وِزْرُ الْقَتْلِ وَقِصَاصُهُ وَدِيَتُهُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَلْقَى عَلَى إنْسَانٍ حَجَرًا ثُمَّ مَاتَ الْمُلْقِي قَبْلَ وُصُولِ الْحَجَرِ عَلَى الْمُلْقَى عَلَيْهِ فَهَلَكَ بِذَلِكَ الْحَجَرِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُلْقِي ، فَإِنَّهُ يَأْثَمُ إثْمَ الْقَاتِلِينَ الْعَامِدِينَ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ ، مَعَ كَوْنِ الْقَتْلِ وَقَعَ بَعْدَ خُرُوجِهِ عَنْ التَّكْلِيفِ ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْقَتْلُ مُسَبَّبًا عَنْ إلْقَائِهِ ، قُدِّرَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ إلْقَائِهِ وَإِنْ كَانَ مَا يَتَسَبَّبُ إلَيْهِ مِنْ الْحَسَنَاتِ أُجِرَ عَلَيْهِ وَمِثَالُهُ : التَّسَبُّبُ لِلْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْجِرَاحِ أَوْ الرَّمْيِ كَمَا لَوْ رَمَى سَهْمًا فِي كَافِرٍ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ بَعْدَ مَوْتِ الرَّامِي فَقَتَلَهُ كَانَ لَهُ سَلْبُهُ وَأَجْرُ قَتْلِهِ . وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنْ الْمُنْكَرِ فَقُتِلَ بِسَبَبِ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ فَهَذَا مُتَسَبِّبٌ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ مَنْ قَتَلَ الْكَفَرَةَ أَوْ الْفَجَرَةَ ، وَلَا يُثَابُ عَلَى الْقَتْلِ ، لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّمَا يُثَابُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ إلَيْهِ بِأَمْرِهِ وَنَهْيِهِ . وَكَذَلِكَ تَسَبُّبُ الْغَازِي إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ لِحُضُورِهِ الْمَعْرَكَةَ . فَإِنْ قِيلَ : الْقَتْلُ مَعْصِيَةٌ مِنْ الْقَاتِلِ الْكَافِرِ ، فَكَيْفَ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ الشَّهَادَةَ مَعَ أَنَّ تَسَبُّبَهَا مَعْصِيَةٌ ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مَا يَتَمَنَّى الْقَتْلَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَتْلٌ وَإِنَّمَا تَمَنَّى أَنْ يَثْبُتَ فِي الْقِتَالِ ، فَإِنْ أَتَى الْقَتْلُ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ ثَوَابُهُ عَلَى تَعَرُّضِهِ لِلْقَتْلِ لَا عَلَى نَفْسِ الْقَتْلِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ ، وَعَلَى هَذَا يُجْعَلُ قَوْله تَعَالَى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ } ، أَيْ تَمَنَّوْنَ الْقَتْلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْا أَسْبَابَهُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَمَنَّى الْإِنْسَانُ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِنِيلِ مَنَازِلِ الشُّهَدَاءِ ، لَا مِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ قَتْلًا وَمَعْصِيَةً ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك الشَّهَادَةَ فِي سَبِيلِك ، وَمَوْتًا فِي بَلَدِ رَسُولِك . وَأَمَّا قَتْلُ أَهْلِ الْبَغْيِ فَإِنَّهُ خَطَأٌ مِنْ الْبُغَاةِ ، وَلَا يُثَابُ الْمَقْطُوعُ عَلَى خَطَأِ غَيْرِهِ ، وَكَذَا الثَّوَابُ عَلَى دَفْعِ مَفْسَدَةِ الْبَغْيِ بِالْقِتَالِ .
فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الصِّفَاتِ وَمَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ كُلُّ صِفَةٍ جِبِلِّيَّةٍ لَا كَسْبَ لِلْمَرْءِ فِيهَا ، كَحُسْنِ الصُّوَرِ ، وَاعْتِدَالِ الْقَامَاتِ وَحُسْنِ الْأَخْلَاقِ ، وَالشَّجَاعَةِ وَالْجُودِ ، وَالْحَيَاءِ وَالْغَيْرَةِ ، وَالنَّخْوَةِ وَشِدَّةِ الْبَطْشِ ، وَنُفُوذِ الْحَوَاسِّ ، وَوُفُورِ الْعُقُولِ ، فَهَذَا لَا ثَوَابَ عَلَيْهِ مَعَ فَضْلِهِ وَشَرَفِهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَسْبٍ لِمَنْ اتَّصَفَ بِهِ ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى ثَمَرَاتِهِ الْمُكْتَسَبَةِ ، فَمَنْ أَجَابَ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى مَا دَعَتْ إلَيْهِ الشَّرِيعَةُ كَانَ مُثَابًا عَلَى إجَابَتِهِ جَامِعًا لِصِفَتَيْنِ حَسْنَاوَيْنِ إحْدَاهُمَا : جِبِلِّيَّةٌ ، وَالْأُخْرَى كَسْبِيَّةٌ ، وَمَنْ لَمْ يُجِبْ إلَى ذَلِكَ كَانَ وَصْفُهُ حَسَنًا وَفِعْلُهُ قَبِيحًا ، وَأَمَّا مَا يَصْدُرُ عَنْ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنْ آثَارِهَا الْمُكْتَسَبَةِ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ فَلَا ثَوَابَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا الرِّيَاءَ وَالتَّسْمِيعَ أَثِمَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى أُجِرَ وَفَازَ بِخَيْرِ الدَّارَيْنِ وَمَدْحِهِمَا .
فَصْلٌ فِيمَا يُعَاقَبُ مِنْ قُبْحِ الصِّفَاتِ وَمَا لَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ كُلُّ صِفَةٍ قَبِيحَةٍ جِبِلِّيَّةٍ لَا كَسْبَ لِلْإِنْسَانِ فِيهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهَا وَلَا وِزْرَ ، كَقُبْحِ الصُّورَةِ ، وَدَمَامَةِ الْخَلْقِ ، وَشَنَاعَةِ الْأَعْضَاءِ ، وَنَقْصِ الْعُقُولِ وَالْحَوَاسِّ ، وَسُوءِ الْأَخْلَاقِ كَالْقِحَةِ وَالْجُبْنِ وَالشُّحِّ وَالْبُخْلِ ، وَالْمَيْلِ إلَى كُلِّ رَذِيلَةٍ ، وَالنُّفُورِ عَنْ كُلِّ فَضِيلَةٍ ، وَالْقَسْوَةِ وَالْعَجَلَةِ فِيمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ غَيَّهُ مِنْ رُشْدِهِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الصِّفَاتِ الْقِبَاحِ . فَمَنْ أَجَابَ هَذِهِ الصِّفَاتِ إلَى مَا تَقْتَضِيهِ مِمَّا يُخَالِفُ الشَّرْعَ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَى قُبْحِ إجَابَتِهِ ، لَا عَلَى قُبْحِ أَوْصَافِهِ ، وَمَنْ خَالَفَهَا وَوَافَقَ الشَّرْعَ فِي قَهْرِهَا وَالْعَمَلِ بِخِلَافِ مُقْتَضَاهَا كَانَ مُثَابًا عَلَى مُخَالَفَتِهِ غَيْرَ مُعَاقَبٍ عَلَى قُبْحِ صِفَاتِهِ ، هَذَا إنْ قَصَدَ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُؤْجَرُ عَلَى عَمَلِهِ وَعَلَى مُجَاهَدَةِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرِّيَاءَ أَوْ التَّسْمِيعَ أَثِمَ ، وَإِنْ قَصَدَ بِهِ التَّجَمُّلَ بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ ، فَلَا أَجْرَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ وَجْهَ اللَّهِ ، وَلَا وِزْرَ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْصِ ، وَقَدْ جَوَّزَ الشَّرْعُ التَّجَمُّلَ وَالتَّزَيُّنَ بِقَوْلِهِ : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ } وَقَوْلُهُ : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } . وَلَا أَعْرِفُ فِي الْوُجُودِ شَيْئًا أَكْثَرَ تَقَلُّبًا فِي الْأَوْصَافِ وَالْأَحْوَالِ مِنْ الْقُلُوبِ ، لِكَثْرَةِ مَا يَرِدُ عَلَيْهَا مِنْ الْخَوَاطِرِ وَالْقُصُورِ ، وَالْكَرَاهَةِ وَالْمَحَبَّةِ ، وَالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ ، وَالْخُضُوعِ وَالْخُشُوعِ ، وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ ، وَالْأَفْرَاحِ وَالْأَحْزَانِ ، وَالِانْقِبَاضِ وَالِانْبِسَاطِ ، وَالِارْتِفَاعِ وَالِانْحِطَاطِ ، وَالظُّنُونِ وَالْأَوْهَامِ ، وَالشُّكُوكِ وَالْعِرْفَانِ ، وَالنُّفُورِ وَالْإِقْبَالِ ، وَالْمَسْأَلَةِ وَالْمَلَالِ ، وَالْخُسْرَانِ وَالنَّدَمِ ، وَاسْتِقْبَاحِ الْحَسَنِ وَاسْتِحْسَانِ الْقَبِيحِ ، وَلِكَثْرَةِ تَقَلُّبِهَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ : { يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك } ، وَكَانَتْ يَمِينُهُ { لَا ، وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ } ، وَسُمِّيَ الْقَلْبُ قَلْبًا لِتَقَلُّبِهِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ ، وَلَا عِقَابَ عَلَى الْخَوَاطِرِ ، وَلَا عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ لِغَلَبَتِهَا عَلَى النَّاسِ ، وَلَا عَلَى مَيْلِ الطَّبْعِ إلَى الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ، إذْ لَا تَكْلِيفَ بِمَا يَشُقُّ اجْتِنَابُهُ مَشَقَّةً فَادِحَةً ، وَلَا بِمَا يُطَاقُ فِعْلُهُ وَلَا تَرْكُهُ . وَمَبْدَأُ التَّكْلِيفِ الْعُزُومُ وَالْقُصُودُ ، فَالْعَزْمُ عَلَى الْحَسَنَاتِ حَسَنٌ ، وَعَلَى السَّيِّئَاتِ قَبِيحٌ ، وَعَلَى الْمُبَاحِ مَأْذُونٌ .
فَصْلٌ فِيمَا يُثَابُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ كُلُّ الْعُلُومِ شَرِيفَةٌ ، وَتَخْتَلِفُ رُتَبُ شَرَفِهَا بِاخْتِلَافِ رُتَبِ مُتَعَلِّقَاتِهَا ، فَمَا تَعَلَّقَ بِالْإِلَهِ وَأَوْصَافِهِ كَانَ أَشْرَفَ الْعُلُومِ ؛ لِأَنَّ مُتَعَلَّقَهُ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ شَرِيفٍ . وَالْعُلُومُ أَقْسَامٌ : أَحَدُهَا : الضَّرُورِيَّاتُ وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهَا ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِ الْعَالِمِ بِهَا . الثَّانِي : النَّظَرِيَّاتُ ، وَيُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهَا لِقُدْرَتِهِ عَلَى تَحْصِيلِهَا بِالتَّسَبُّبِ إلَيْهَا . الثَّالِثُ : عُلُومٌ يُمْنَحُهَا الْأَنْبِيَاءُ وَالْأَوْلِيَاءُ بِأَنْ يَخْلُقَهَا اللَّهُ فِيهِمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا نَظَرٍ وَهِيَ ضَرْبَانِ : أَحَدُهُمَا : أَشْرَفُ مِنْ الْآخَرِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَلَهُ شَرَفٌ عَظِيمٌ وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ ، وَلَا عَلَى الْأَحْوَالِ النَّاشِئَةِ عَنْهُ ، فَإِنْ حَدَثَ عَنْهَا أَمْرٌ مُكْتَسَبٌ كَانَ الثَّوَابُ عَلَيْهِ دُونَهَا وَكَفَى بِهِ شَرَفًا فِي نَفْسِهِ وَهِيَ كَالْمَحَامِدِ الَّتِي يَلْتَمِسُهَا الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَيْنَ يَدَيْ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ ، فَكَمْ مِنْ شَرَفٍ عَظِيمٍ لَا ثَوَابَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ الثَّوَابِ فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى اللَّهِ أَشْرَفُ مِنْ كُلِّ شَرِيفٍ وَأَفْضَلُ مِنْ كُلِّ نَعِيمٍ رُوحَانِيٍّ أَوْ جُثْمَانِيٍّ ، وَقَدْ جُعِلَ زِيَادَةً عَلَى الْأُجُورِ ، لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُقَابَل بِهِ عَمَلٌ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ حَالٌ مِنْ الْأَحْوَالِ ، وَكَذَلِكَ رِضْوَانُ اللَّهِ مِنْ أَفْضَلِ مَا أُعْطِيَتْهُ وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهِ . الضَّرْبُ الثَّانِي : عُلُومٌ إلْهَامِيَّةٌ ، يَكْشِفُ بِهَا عَمَّا فِي الْقُلُوبِ ، فَيَرَى أَحَدُهُمْ بِعَيْنَيْهِ مِنْ الْغَائِبَاتِ مَا لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِسَمَاعِ مِثْلِهِ . وَكَذَلِكَ شَمُّهُ وَمَسُّهُ وَلَمْسُهُ وَكَذَلِكَ يُدْرِكُ بِقَلْبِهِ عُلُومًا مُتَعَلِّقَةً بِالْأَكْوَانِ ، وَقَدْ رَأَى إبْرَاهِيمُ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى الْمَلَائِكَةَ وَالشَّيَاطِينَ وَالْبِلَادَ النَّائِيَةَ ، بَلْ يَنْظُرُ إلَى مَا تَحْتَ الثَّرَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى السَّمَوَاتِ وَأَفْلَاكَهَا وَكَوَاكِبَهَا وَشَمْسَهَا وَقَمَرَهَا عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ وَيَقْرَأُ مَا فِيهِ . وَكَذَلِكَ يَسْمَعُ أَحَدُهُمْ صَرِيرَ الْأَقْلَامِ وَأَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَالْجَانِّ ، وَيَفْهَمُ أَحَدُهُمْ مَنْطِقَ الطَّيْرِ ، فَسُبْحَانَ مَنْ أَعَزَّهُمْ وَأَدْنَاهُمْ ، وَأَذَلَّ آخَرِينَ وَأَقْصَاهُمْ ، وَمَنْ يُهِنْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ ، إنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ .