قلب راقصـــة
قلب راقصـــة المؤلف: إبراهيم ناجي |
أمسيتُ أشكو الضيقَ والأنيا
مشغرقاً في الفكرٍِ والسأمِ
فمضيتُ لا أدري إلى أينا
ومشيت حيث تجرّني قدمي
فرأيتُ فيما أبصَرَتْ عيني
مَلهيً أعِدَّ ليبهجَ الناسا
يجلون فيه فرائدَ الحسنِ
ويباع فيه اللهو أجناسا
بغرائب الألوان مزدهر
وتراه بالأضواء مغموراً
فقصدته عَجِلاً ولي بصرٌ
شبه الفراشة يعشق النورَا!
ودخلتهُ أجتازُ مزدحماً
بالخَلق أفواجاً وأفواجا
وأخوضُ بحراً بات ملتطماً
بالناس أمواجاً وأمواجا
فقدوا حجاهم حينما طربوا
ودووا دويَّ البحرِ صخّابا
فإذا استقرّوا لحظةً صخبوا
لا يملكون النفسَ إعجابا
متوثبين يميلُ صفُهم
متطلعَ الأعناق يتقدُ
ومصفين عَلَتْ أكفُهم
فوّارةً فكأنها الزبدُ!
لِمَ لا أثورُ اليومَ ثورتهم؟
لِمَ لا أضجُّ كما يضجونا؟!
لِمَ لا تذوق كؤوسَهم شفتي؟
إنَّ الحجا سُمّي وتدميري
في ذمةِ الشيطانِ فلسفتي
ورزانتي ووقارِ تفكيري!
يا قلبُ! ضقتَ وها هنا سعةٌ
ومجالٌ مصفودٍ بأغلال
أتقول أعمارٌ مضيعة؟!
ماذا صنعت بعمرك الغالي؟!
أنظر ترَ السيقان عاريةً
وترَ الخصورَ ضوامراً تغري
وتجدْ عيون اللهو جارية
فهنا الحياة! وأنت لا تدري
مَنْ هذه الحسناءُ يا عيني؟
السحرُ كلَّلها وظلَّلها
كالطيرِ من غصنٍ إلى غصنِ
وثّابةَ، وثب الفؤاد لها!
تراه حسناً غيرَ كذابِ
لا ما يزيفه لك الضوء
ويزيد فتنتَها باغرابِ
حزنٌ وراءَ الحسن مخبوءُ!
ثم اختفتْ والجميعُ يرقبها
ويلحُّ: عودي! ليس يرحمها
هي متعةٌ للحسِّ يطلبها
وأنا بروحي بتُّ أفهمُها!
ورأيتُها في آخر الليلِ
في فتيةٍ نصبوا لها شركا
يعلو سناها الحزنُ كالظل
مسكينة تتكلّفُ الضحكا
فمضيتُ توّاً، قلت: سيدتي!
زنتِ المراقص أيّما زين!
هل تأذنين الآن ساحرتي
تأكيدَ إعجابي بكأسين؟
فتمنّعت وأنا ألحّ سديً
بالقول أغريها وأعتذر
فاستدركتْ قالت: أراك غداً
ان شئتَ. إني اليوم أَعتذر
وتحوَّلت عني لرفقتها
ما بين منتظرٍ ومرتقبِ
فتَّانة تغري ببسمتِها
وتحدّدُ الميعادَ في أدبِ
حان اللقاءُ بغادتي وأنا
أخشى سراباً خادعاً منها
متلهفاً أستبطىءُ الزمنا
وأظل أسأل ساعتي عنها
وأجيل عينَ الريب ملتفتاً
متطلعاً للباب حيرانا
وأقول: ما يدريك أي فتى
هي في ذراعيْ حبه الآنا!
مَنْ ذا يُصدّقُ وعدَ فاتنة
لا ترحمُ الأرواحَ إتلافا
أنثى تلاقي كل آونةٍ
رجلاً وترمي الوعدَ آلافا
وهمتُ بعد اليأسِ أن أمضي
فإذا بها تختالُ عن بُعدِ
ميّزتها بشبابها الغضِّ
وبقدِّها، أُفديه من قدِّ!
يا للقلوب لملتقى اثنين
لا يعلمان لأيما سَبَبِ
جمعتهما الدنيا غريبين
فتآلفا في خلوةٍ عَجَبِ
عجباً لقلب كان مطمعه
طَرَباً فجاء الأمرُ بالعكس
وأشدّ ما في الكون أجمعه
بين القلوب أواصرُ البؤس
مَن أنت يا مَن روحُها اقتربت
مني وخاطب دمعُها روحي
صبّته في كأسي! وما سكبتْ
فيه سوى أنَّاث مذبوحِ
عجباً لنا! في لحظة] صرنا
متفاهمين بغير ما أمدِ!
يا مَن لقيتُك أمس! هل كنا
روحين ممتزجين في الأبد؟!
هاتي حديثَ السقمِ والوصبِ
وصِفي حقارةَ هذه الدنيا
اني رأيتُ أساكِ عن كثبِ
ولمستُ كَربَكِ نابضاً حيَّا
لا تكتمي في الصدرِ أسرارا
وتحدثي كيف الأسى شاءَ
أنا لا أرى إثماً ولا عارا
لكن أرى امرأةً وبأساء
تجدين فكرَك جدّ مبتعد
والقومُ كثرٌ لا يُعدّونا!
وتريْن حالك حالَ منفرد
والقومُ كثرٌ لا يُعدّونا!
وترين إنكِ حيثما كنتِ
ترضين خوّانين أنذالا!
يبغونه جسداً فإن بعتِ
بذلوا النضار وأجزلوا المالا!
يا حرَّها من عبرةٍ سالتْ
مِن فاتكِ العينين مكحولِ
وعذابها من وحشة طالتْ
وحنين مجهولٍ لمجهولِ
أفنيتِ عمرَك في تطلبه
ويكادُ يأكلُ روحَكِ المللُ
فإِذا بدا مَنْ تعجبين به
وتقول روحُك: ها هو الأملُ!
أدميتِ قلبَك في تقرّبهِ
والقلبُ إن يخلص يَهُنْ دمُهُ
فإِذا حسبتِ بأن ظفرتِ بهِ
فازت به من ليس تفهمُهُ
سكتت وقد عجبت لخلوتنا
طالتْ كأنَّا جدّ عشاقِ
وأقول: يا طرباً لنشويِنا
صرعى المدامة والجوى الساقى!
أفديكِ باكيةً وجازعةً
قد لفّها في ثوبهِ الغسقُ
ودعتُها شمساً مودّعة
ذهبت وعندي الجرحُ والشفقُ
تمضي، وتجهلُ كيف أكبرها
إذ تختفي في حالك الظلم
روحاً إذا أثمت يطهرها
ناران: نارُ الصبرِ والألَمِ!