فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال المؤلف: ابن رشد |
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلى الله على محمد، وعلى آله وسلم
☰ جدول المحتويات
- مقدمة
- الفلسفة والمنطق والشريعة
- الفلسفة ومعرفة الله تعالى
- موافقة الشريعة لمناهج الفلسفة
- التوافق بين المعقول والمنقول
- استحالة الإجماع العام
- تكفير الغزالي لفلاسفة الإسلام
- هل يعلم الله تعالى الجزئيات؟
- تقسيم الموجودات ورأي الفلاسفة فيها
- اختلاف المتكلمين في القدم والحدوث
- تأويل بعض الآيات
- خطأ الحاكم وخطأ العالم، أي خطأ معذور
- الأصول الثلاثة للشرع والإيمان بها
- تأويل ظاهر الآيات والأحاديث
- اختلاف العلماء في أحوال المعاد
- أحكام التأويل في الشريعة للعارفين
- أقسام العلوم الدنيوية والأخروية
- تقسيم المنطق والبرهان
- لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه
- ما أخطأ فيه الأشعريون
- عصمة الصدر الأول عن التأويل
- كيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة
- المسألة التي ذكرها الشيخ أبو الوليد في فصل المقال رضي الله عنه
مقدمة
قال الفيلسوف العلامة، أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد، رحمه الله تعالى.
أما بعد حمد الله بجميع محامده، والصلاة على محمد عبده المطهر، المصطفى ورسوله:
الفلسفة والمنطق والشريعة
هل أوجب الشرع الفلسفة؟
فإن الغرض من هذا القول أن نفحص، على جهة النظر الشرعي، هل النظر في الفلسفة وعلوم المنطق مباح بالشرع، أم محظور، أم مأمور به، إما على جهة الندب، وإما على جهة الوجوب؟ فنقول: إن كان فعل الفلسفة ليس شيئاً أكثر من النظر في الموجودات، واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع، أعني من جهة ما هي مصنوعات، فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها. وأنه كلما كانت المعرفة بصنعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم، وكأن الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك. فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب بالشرع، وإما مندوب اليه. فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به، فذلك بيّن في غير ما آية من كتاب الله، تبارك وتعالى، مثل قوله تعالى: ((فاعتبروا يا أو لي الأبصار)) وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي، أو العقلي والشرعي معاً. ومثل قوله تعالى ((أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء))؟ وهذا نص بالحث على النظر في جميع الموجودات.
واعلم أن ممن خصه الله تعالى بهذا العلم وشرفه به، إبراهيم عليه السلام. فقال تعالى: ((وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض)) الآية. وقال تعالى: ((أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت))؟ وقال: ((ويتفكرون في خلق السموات والأرض)) إلى غير ذلك من الآيات التي لا تحصى كثيرة.
المنطق
وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئاً أكثر من استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه، وهذا هو القياس أو بالقياس؛ فواجب أن نجعل نظرنا في الموجودات بالقياس العقلي. وبين أن هذا النحو من النظر الذي دعا إليه الشرع وحث عليه، هو أتم أنواع /مثبتون/ القياس العقلي، إلا طائفة من الحشوية قليلة، وهم محجوجون بالنصوص. وإذا تقرر أنه يحب بالشرع النظر في القياس العقلي وأنواعه، كان يجب النظر في القياس الفقهي، فبين أنه إن كان لم يتقدم أحد ممن قبلنا بفحص عن القياس العقلي وأنواعه، أنه يجب علينا أن نبتدئ بالفحص عنه، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، حتى تكمل المعرفة به. فإنه عسير أو غير ممكن أن يقف واحد من الناس من تلقائه وابتداء على جميع، ما يحتاج إليه كل من ذلك، كما أنه عسير أن يستنبط واحد جميع ما يحتاج إليه من معرفة أنواع القياس الفقهي، بل معرفة القياس العقلي أحرى بذلك، وإن كان غيرنا قد فحص عن ذلك. فبين أنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك، وسواء كان ذلك الغير مشاركاً لنا أو غير مشارك في الملة. إن الآلة التي تصح بها التذكية ليس يعتبر في صحة التذكية بها كونها آلة لمشارك لنا في الملة أو غير مشارك إذا كانت فيها شروط الصحة. وأعني بغير المشارك مَن نظر في هذه الأشياء من القدماء قبل ملة الإسلام.
وإذا كان الأمر هكذا، وكان كل ما يحتاج إليه من النظر في أمر المقاييس العقلية قد فحص عنه، القدماء أتم فحص، فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم، فننظر فيما قالوه من ذلك؛ فإن كان كله صواباً قبلناه منهم، وإن كان فيه ما ليس بصواب، نبهنا عليه. فإذا فرغنا من هذا الجنس من النظر وحصلت عندنا الآلات التي بها نقدر على الاعتبار في الموجودات ودلالة الصنعة فيها، فإن من لا يعرف الصنعة لا يعرف المصنوع، ومن لا يعرف المصنوع لا يعرف الصانع، قد يجب أن نشرع في الفحص عن الموجودات على الترتيب والنحو الذي استفدناه من صناعة المعرفة بالمقاييس البرهانية.
لا يمكن لفرد واحد إدراك كل العلوم
وبين أيضاً أن هذا ا الغرض إنما يتم لنا في الموجودات بتداول الفحص عنها واحداً بعد واحد، وأن يستعين في ذلك المتأخر بالمتقدم، على مثال ما عرض في علوم التعاليم. فإنه لو فرضنا صناعة الهندسة في وقتنا هذا معدومة، وكذلك صناعة علم الهيئة، ورام إنسأن واحد من تلقاء نفسه أن يدرك مقادير الأجرام السماوية وأشكالها وأبعاد بعضها عن بعض، لما أمكنه ذلك. مثل أن يعرف قدر الشمس من الأرض، وغير ذلك من مقادير الكواكب، ولو كان أذكى الناس، طبعاً إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي. بل لو قيل له أن الشمس أعظم من الأرض بنحو، مائة وخمسين ضعفاً، أو ستين، لعد هذا القول جنوناً من قائله. وهذا شيء قد قام عليه البرهان في علم الهيئة قياماً لا يشك فيه من هو من أصحاب ذلك العلم. وأما الذي أحوج في هذا إلى التمثيل بصناعة التعاليم، فهذه صناعة أصول الفقه. والفقه نفسه لم يكمل النظر فيما إلا في زمن طويل. ولو رام أنسأن اليوم من تلقاء نفسه أن يقف على جميع الحجج التي استنبطها النظار من أهل المذاهب في مسائل الخلاف التي وقعت المناظرة فيها بينهم في معظم بلاد الإسلام ما عدا المغرب - فكان أهلاً أن يضحك منه، لكون ذلك ممتنعاً في حقه مع وجود ذلك مفروغاً منه. وهذا أمر بين بنفسه، ليس في الصنائع العلمية فقط، بل وفي العملية. فإنه ليس منها صناعة بقدر أن ينشئها واحد بعينه، فكيف بصناعة الصنائع، وهي الحكمة؟ وإذا كان هذا هكذا، فقد يجب علينا إن ألفينا لمن تقدمنا من المقام السالفة نظراً في الموجودات واعتبار لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كأن منها موافقاً للحق قبلناه منهم وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان منها غبر موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم.
الفلسفة ومعرفة الله تعالى
فقد تبين من هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع، إذا كان مغزاهم كتبهم ومقصدهم هو المقصد الذي حثنا الشرع عليه، وأن من نهى عن النظر فيها من كان أهلاً للنظر فيها، وهو الذي جمع أمرين أحدهما ذكاء الفطرة، والثاني العدالة الشرعية والفضيلة الخلقية؛ فقد صد الناس عن الباب الذي دعا الشرع منه الناس إلى معرفة الله. وباب النظر المؤدي إلى معرفته حق المعرفة. وذلك غاية الجهل والبعد عن الله تعالى.
موافقة الشريعة لمناهج الفلسفة
وليس يلزم من أنه إن غوى غاو بالنظر فيها، وزل زال، إما من قبل نقص فطرته، وإما من قبل سوء ترتيب نظره فيها، أو من قبل غلبة شهواته عليه، أو أنه لم يجد معلماً يرشده إلى فهم ما فيها، أو من قبل اجتماع هذه الأسباب فيه، أو أكثر من واحد منها، أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها. فإن هذا النحو من الضرر الداخل من قبلها هو شيء لحقها بالعرض لا بالذات. وليس يجب فيما كان نافعاً بطباعه بذاته أن يترك، لمكان مضرة موجودة فيه بالعرض. ولذلك قال عليه السلام للذي أمره بسقي العسل أخاه لإسهال كأن به، فتزايد الإسهال به لمّا سقاه العسل، وشكا ذلك إليه: ((صدق الله وكذب بطن أخيك))، بل نقول إن مثل من منع النظر في كتب الحكمة من هو أهل لها، من أجل أن قوماً من أراذل الناس قد يظن بهم أنهم ضلوا من قبل نظرهم فيها، مثل من منع العطشان شرب الماء البارد العذب حتى مات من العطش، لأن قوماً غرقوا به فماتوا. فإن الموت عن الماء بالغرق أمر عارض، وعن العطش أمر ذاتي وضروري. وهذا الذي عرض لهذه الصنعة هو شيء عارض لسائر الصنائع. فكم من فقيه كان الفقه سبباً لقلة تورعه وخوضه في الدنيا، بل أكثر الفقهاء كذلك نجدهم وصناعهم إنما تقتضي بالذات الفضيلة العملية. فإذاً لا يبعد أن يعرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العلمية ما عرض في الصناعة التي تقتضي الفضيلة العملية.
وإذا تقرر هذا كله، وكنا نعتقد معشر المسلمين أن شريعتنا هذه الإلهية حق، وأنها التي نبهت على هذه السعادة، ودعت إليها، التي هي المعرفة بالله عز وجل وبمخلوقاته، فإن ذلك متقرر عند كل مسلم من الطريق الذي اقتضته جبلته وطبيعته من التصديق. وذلك أن طباع الناس متفاضلة في التصديق: فمنهم من يصدق (بالبرهان)، ومنهم من يصدق، (بالأقاويل الجدلية) تصديق صاحب البرهان بالبرهان، إذ ليس في طباعه أكثر من ذلك، ومنهم يصدق (بالأقاويل الخطابية)، كتصديق صاحب البرهان بالأقاويل البرهانية.
وذلك أنه لما كانت شريعتنا هذه الإلهية قد دعت الناس من هذه الطرق الثلاث، عم التصديق بها كل إنسان، إلا من جحدها كناداً بلسانه، أو لم تتقرر عنده طرق الدعاء فيها إلى الله تعالى لإغفاله ذلك من نفسه. ولذلك خص عليه السلام بالبعث إلى الأحمر والأسود، أعني لتضمن شريعته طرق الدعاء إلى الله تعالى. وذلك صريح في قوله تعالى: ((ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن)).
وإذا كانت هذه الشريعة، حقاً وداعية إلى النظر المؤدي إلى معرفة الحق فإنّا، معشر المسلمين، نعلم على القطع أنه لا يؤدي النظر البرهاني إلى مخالفة ما ورد به الشرع. فإن الحق لا يضاد الحق، بل يوافقه ويشهد له. وإذا كان هذا هكذا، فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه في الشرع أو عرف به. فإن كان مما قد سكت عنه فلا تعارض هنالك، هو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام، فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي. وإن كانت الشريعة نطقت به، فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقاً لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفاً. فإن كان موافقاً، فلا قول هنالك. وإن كان مخالفاً، طلب هنالك تأويله. ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازة من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه أو غير ذلك من الأشياء التي عددت، في تعريف أصناف الكلام المجازي.
التوافق بين المعقول والمنقول
وإذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية، فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب علم البرهان. فإن الفقيه إنما عنده قياس ظني، والعارف عنده قياس يقيني. ونحن نقطع قطعاً كل ما أدى إليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي. وهذه القضية لا يشك فيها مسلم، ولا يرتاب بها مؤمن. وما أعظم ازدياد اليقين بها عند من زاول هذا المعنى وجربه، وقصد هذا المقصد من الجمع بين المعقول والمنقول. بل نقول أنه ما من منطوق به في الشرع مخالف بظاهره لما أدى إليه البرهان، إلا إذا اعتُبر الشرع وتُصفحت سائر أجزائه وُجد في ألفاظ الشرع ما يشهد بظاهره لذلك التأويل أو يقارب أن يشهد. ولهذا المعنى أجمع المسلمون على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل. واختلفوا في المؤول منها من غير المؤول فالأشعريون مثلاً يتأولون آية الاستواء وحديث النزول والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره. والسبب في ورود الشرع فيه الظاهر والباطن، هو اختلاف فطر الناس، وتباين قرائحهم في التصديق. والسبب في ورود الظواهر المتعارضة فيه هو تنبيه الراسخين في العلم على التأويل الجامع بينها. وإلى هذا المعنى وردت الإشارة بقوله تعالى: ((هو الذي أنزل عليك الكتاب، منه آيات محكمات)) إلى قوله: ((والراسخون في العلم)).
استحالة الإجماع العام
فإن قال قائل أن في الشرع أشياء قد أجمع المسلمون على حملها على ظواهرها، وأشياء على تأويلها، وأشياء اختلفوا فيها، فهل يجوز أن يؤدي البرهان إلى تأويل ما أجمعوا على ظاهره، أو ظاهر ما أجمعوا على تأويله؟ قلنا: أما لو ثبت الإجماع بطريق يقيني فلم يصح، وأما إن كان الإجماع فيها ظنياً فقد يصح. ولذلك أبو حامد وأبو المعالي وغيرهما من أئمة النظر أنه لا يُقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل في أمثال هذه الأشياء. وقد يدلك على أن الإجماع لا يتقرر في النظريات بطريق يقيني كما يمكن أن يتقرر في العمليات؛ أنه ليس يمكن أن يتقرر الإجماع في مسألة ما في عصر ما إلا بأن يكون ذلك العصر عندنا محصوراً، وأن يكون جميع العلماء الموجودين في ذلك العصر معلومين عندنا، أعني معلوماً أشخاصهم ومبلغ عددهم، وأن ينقل إلينا في المسألة مذهب كل واحد منهم نقل تواتر، ويكون مع هذا كله قد صح عندنا أن العلماء الموجودين في ذلك الزمان متفقون على أنه ليس في الشرع ظاهر أو باطن، وأن العلم بكل مسألة يجب أن لا يكتم عن أحد، وأن الناس طريقهم واحد في علم الشريعة. وأما كثير من الصدر الأول فقد نقل عنهم أنهم كانوا يرون أن للشرع ظاهراً وباطناً، وأنه ليس يجب أن يعلم بالباطن من ليس من أهل العلم به ولا يقدر على فهمه - مثل ما روى البخاري عن علي رضي الله عنه أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله!). ومثل ما روي من ذلك عن جماعة من السلف، فكيف يمكن أن يتصور إجماع منقول إلينا عن مسألة من المسائل النظرية، ونحن نعلم قطعاً أنه لا يخلو عصر من الأعصر من علماء يرون أن في الشرع أشياء لا ينبغي أن يعلم بحقيقتها جميع الناس؟ وذلك بخلاف ما عرض في العمليات: فإن الناس كلهم يرون إفشاءها لجميع الناس على السواء، ونكتفي في حصول الإجماع فيها بأن تنتشر المسألة، فلا ينقل إلينا فيها خلاف. فإن هذا كاف في حصول الإجماع في العمليات بخلاف الأمر في العلميات.
تكفير الغزالي لفلاسفة الإسلام
فإن قلت: فإذا لم يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع، فما تقول في الفلاسفة من أهل الإسلام، كأبي نصر وابن سينا؟ فإن أبا حامد قد قطع بتكفيرهما في كتابه المعروف التهافت في ثلاث مسائل: في القول بقدم العالم، وبأنه تعالى لا يعلم الجزئيات - تعالى عن ذلك - وفي تأويل ما جاء في حشر الأجساد وأحوال المعاد.
قلنا: الظاهر من قوله في ذلك أنه ليس تكفيره إياهما في ذلك قطعاً، إذ قد صرح في كتاب التفرقة أن التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال. وقد تبين من قولنا أنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل، لما روي عن كثير من السلف الأول، فضلاً عن غيرهم، أن هاهنا تأويلات يجب أن لا يفصح بها إلا لمن هو من أهل التأويل وهم الراسخون في العلم. لأن الاختيار عندنا هو الوقوف على قوله تعالى: ((والراسخون في العلم))، لأنه إذا لم يكن أهل العلم يعلمون التأويل لم تكن عندهم مزية تصديق توجب لهم من الإيمان به لا يوجد عند غير أهل العلم. وقد وصفهم الله بأنهم المؤمنون به، وهذا إنما يحمل على الإيمان الذي يكون من قبل البرهان، وهذا لا يكون إلا مع العلم بالتأويل.
فإن غير أهل العلم من المؤمنين هم أهل الإيمان به لا من قبل البرهان. فإن وكان هذا الإيمان الذي وصف الله به العلماء خاصاً بهم فيجب أن يكون بالبرهان. إن كان بالبرهان فلا يكون إلا مع العلم بالتأويل، لأن الله تعالى قد أخبر أن لها تأويلاً هو الحقيقة، والبرهان لا يكون إلا على الحقيقة. وإذا كان ذلك كذلك، فلا يمكن أن يتقرر في التأويلات التي خص الله العلماء بها إجماع مستفيض. وهذا بين بنفسه عند من أنصف.
هل يعلم الله تعالى الجزئيات؟
وإلى........... هذا كله فقد نرى أن أبا حامد قد غلط على الحكماء المشائين بما نسب إليهم من أنهم يقولون أنه تقدس وتعالى لا يعلم الجزئيات أصلاً. بل يرون أنه تعالى يعلمها بعلم غير مجانس لعلمنا بها وذلك أن علمنا بها معلول للمعلوم به فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره. وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا، فإنه علة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحداً، وذلك غاية الجهل. فاسم العلم إذا قيل على العلم المحدث والقديم فهو مقول باشتراك الاسم المحض، كما يقال كثير من الأسماء على المتقابلات، مثل الجلل المقول على العظيم والصغير، والصريم المقول على الضوء والظلمة، ولهذا ليس هاهنا حد يشتمل العلمين جميعاً كما توهمه المتكلمون من أهل زماننا. وقد أفردنا في هذه المسألة قولاً حركنا إليه بعض أصحابنا.
كيف يتوهم على المشائين أنهم يقولون أنه سبحانه لا يعلم بالعلم القديم الجزئيات؟ وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبر للكل والمستولي عليه؟ وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات، فإن الكليات المعلومة عندنا معلولة، أيضاً عن طبيعة الوجود، والأمر في ذلك العلم بالعكس. ولذلك ما قد أدى إليه البرهان أن ذلك العلم منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة، أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم.
تقسيم الموجودات ورأي الفلاسفة فيها
وأما مسألة قدم العالم أو حدوثه، فإن الاختلاف فيها عندي بين المتكلمين من الأشعرية والحكماء المتقدمين يكاد أن يكون راجعاً للاختلاف في التسمية، وبخاصة عند بعض القدماء. وذلك أنهم اتفقوا على أن هاهنا ثلاثة أصناف من الموجودات طرفان وواسطة ببن الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة. فأما الطرف الواحد، فهو موجود وجد من شيء، أعني عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم عليه، أعني على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يدرك تكونها بالحس، مثل تكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. وهذا الصنف من الموجودات اتفق الجميع من القدماء والأشعريين على تسميتها محدثة. وأما الطرف المقابل لهذا، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء ولا تقدمه زمان. وهذا أيضاً اتفق الجميع من الفرقتين على تسميته قديماً، وهذا الموجود مدرك بالبرهان، وهو الله تبارك وتعالى. هو فاعل الكل وموجده والحافظ له سبحانه وتعالى قدره.
وأما الصنف من الموجود الذي بين هذين الطرفين، فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه زمان، ولكنه موجود عن شيء، أعني عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره.
اختلاف المتكلمين في القدم والحدوث
والكل منهم متفق على وجود هذه الصفات الثلاث للعالم. فإن المتكلمين يسلمون أن الزمان غير متقدم عليه، أو يلزمهم ذلك، أن الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام . وهم أيضاً متفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناه، وكذلك الوجود المستقبل. وإنما يختلفون في الزمان الماضي، والوجود الماضي: فالمتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته. وأرسطو وفرقته يرون أنه غير متناه كالحال في المستقبل. فهذا الوجود الآخر الأمر فيه بين أنه قد أخذ شبهاً من الوجود الكائن الحقيقي ومن الوجود القديم. فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث و سماه قديماً ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث، سماه محدثاً وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً، ولا قديماً حقيقياً. فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، القديم الحقيقي ليس له علة. ومنهم من سماه محدثاً أزلياً، وهو أفلاطون وشيعته، لكون الزمان متناهياً عندهم من الماضي. فالمذاهب في العالم ليست تتباعد، كل التباعد حتى يكفر بعضها ولا يكفر. فإن الآراء التي شأنها هذا يجب أن تكون في الغاية من، التباعد، أعني أن تكون متقابلة، كما ظن المتكلمون في هذه المسألة، أعني أن اسم القدم والحدوث في العالم بأسره هو من المتقابلة. وقد تبين من قولنا أن الأمر ليس كذلك.
تأويل بعض الآيات
ويدل ظاهرها على وجود قبل وجود العالم
وهذا كله مع أن هذه الآراء في العالم ليست على ظاهر الشرع. فإن ظاهر الشرع إذا تصفح ظهر من الآيات الواردة في الأنباء عن إيجاد العالم أن صورته محدثة بالحقيقة، وأن نفس الوجود والزمان مستمر من الطرفين، أعني غير منقطع. وذلك أن قوله تعالى: ((وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء)) يقتضي بظاهره أن وجوداً قبل هذا الوجود، وهو العرش والماء، وزماناً قبل هذا الزمان، أعنى المقترن بصورة هذا الوجود، الذي هو عدد حركة الفلك. - وقوله تعالى: ((يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات)) يقتضي أيضا بظاهره أن وجوداً ثانياً، بعد هذا الوجود. وقوله تعالى: ((ثم استوى إلى السماء وهي دخان)) يقتضي بظاهره أن السموات خلقت من شيء.
فالمتكلمون ليسوا في قولهم أيضاً في العالم على ظاهر الشرع، بل متأولون. فإنه ليس في الشرع أن الله كان موجوداً مع العدم المحض، ولا يوجد هذا فيه نصاً أبداً. فكيف بتصور في تأويل المتكلمين في هذه الآيات أن الإجماع انعقد عليه. والظاهر الذي قلناه من الشرع في وجود العالم قد قال به فرقة من الحكماء.
خطأ الحاكم وخطأ العالم، أي خطأ معذور
ويشبه أن يكون المختلفون في تأويل هذه المسائل العويصة إما مصيبين مأجورين، وإما مخطئين معذورين. فإن التصديق بالشيء من قبل الدليل القائم في النفس، هو شيء اضطراري لا اختياري، أعني أنه ليس لنا أن لا نصدق أو نصدق، كما لنا أن نقوم أو لا نقوم. وإذا كان من شرط التكليف الاختيار، فالمصدق بالخطأ من قبل شبهة عرضت له إذا كان من أهل العلم معذور. ولذلك قال عليه السلام: (إذ ا أجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر). وأي حاكم أعظم من الذي يحكم على الوجود بأنه، كذا أو ليس بكذا. وهؤلاء الحكام هم العلماء الذين خصهم الله بالتأويل. وهذا الخطأ المصفوح عنه في الشرع، إنما هو الخطأ الذي يقع، من العلماء إذا نظروا في الأشياء العويصة التي كلفهم الشرع النظر فيها.
وأما، الخطأ الذي يقع من غير هذا الصنف من الناس فهو إثم محض، وسواء كأن الخطأ في الأمور النظرية أو العملية. فكما أن الحاكم الجاهل بالسنة إذا أخطأ في الحكم لم يكن معذوراً، كذلك الحاكم في الموجودات إذا لم توجد فيه شروط الحاكم فليس بمعذور، بل هو إما آثم وإما كافر. وإذا كان يشترط في الحاكم في الحلال والحرام أن تجتمع، له أسباب الاجتهاد- وهو معرفة الأصول ومعرفة الاستنباط من تلك الأصول بالقياس- فكم والحري أن يشترط ذلك في الحاكم على الموجودات، أعني أن يعرف الأوائل العقلية ووجه الاستنباط منها. وبالجملة فالخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو من أهل النظر في ذلك الشيء الذي وقع فيه الخطأ- كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب، والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم. ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن. وأما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس، بل إن وقع في مبادىء الشريعة فهو كفر وإن وقع فيما بعد المبادئ فهو بدعة.
الأصول الثلاثة للشرع والإيمان بها
وهذا الخطأ هو الخطأ الذي يكون في الأشياء التي تفضي جميع أصناف طرق الدلائل إلى معرفتها، فتكون معرفة ذلك الشيء بهذه الجهة ممكنة للجميع. وهذا هو مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى، وبالنبوات، وبالسعادة، الأخروية، والشقاء الأخروي.
وذلك أن هذه الأصول الثلاثة تؤدي إليها أصناف الدلائل، الثلاثة التي لا يعرى أحد من الناس عن وقوع التصديق له من قبلها بالذي كلف معرفته، أعني الدلائل الخطابية والجدلية والبرهانية. فالجاحد لأمثال هذه الأشياء إذا كانت أصلاً من أصول الشرع كافر معاند بلسانه دون قلبه أو بغفلته عن التعرض إلى معرفة دليلها. لأنه إن كان من أهل البرهان فقد جعل له سبيل إلى التصديق بها بالبرهان، وأن كان من أهل الجدل فبالجدل، وأن كأن من أهل الموعظة فبالموعظة. ولذلك قال عليه السلام: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويؤمنوا بى)- يريد بأي طريق أتفق لهم من طرق الإيمان الثلاث.
تأويل ظاهر الآيات والأحاديث
أهل البرهان وأهل القياس
وأما الأشياء التي لخفائها لا تعلم إلا بالبرهان فقد تلطف الله فيها لعباده، الذين لا سبيل لهم إلى البرهان، أما من قبل فطرهم، وأما من قبل عادتهم، وأما من قبل عدمهم أسباب التعلم، بأن ضرب لهم أمثالها وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال، إذا كانت تلك الأمثال يمكن أن يقع التصديق بها بالأدلة المشتركة للجميع، أعني الجدلية والخطابية. وهذا هو السبب في أن انقسم الشرع إلى ظاهر وباطن. فإن الظاهر هو تلك الأمثال المضروبة لتلك المعاني، والباطن هو تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان. وهذه هي أصناف تلك الموجودات الأربعة أو الخمسة التي ذكرها أبو حامد في كتاب التفرقة.
وإذا اتفق كما قلنا أن نعلم الشيء بنفسه بالطرق الثلاث، لم نحتج أن نضرب له أمثالاً، وكان على ظاهره لا يتطرق إليه تأويل. وهذا النحو من الظاهر إن كان في الأصول فالمتأول له كافر، مثل من يعتقد أنه لا سعادة أخروية ولا شقاء، وأنه إنما قصد بهذا القول أن يسلم الناس بعضهم من بعض في أبدانهم وحواسهم، وأنها حيلة، وأنه لا غاية للإنسان إلا وجوده المحسوس فقط. وإذا تقرر هذا، فقد ظهر لك من قولنا أن ههنا ظاهراً من الشرع لا يجوز تأويله. فإنا كان تأويله في المبادئ فهو كفر، وإن كان فيما بعد المبادئ فهو بدعة. وههنا أيضاً ظاهره يجب على أهل البرهان تأويله، علهم إياه على ظاهره كفر. وتأويل غير أهل البرهان له وإخراجه عن ظاهره كفر في حقهم أو بدعة. ومن هذا الصنف آية الاستواء وحديث النزول. ولذلك قال عليه السلام في السوداء إذ أخبرته أن الله في السماء (اعتقها فإنها مؤمنة) إذ كانت ليست من أهل البرهان. والسبب في ذلك أن الصنف من الناس الذين لا يقع لهم التصديق إلا من قبل التخيل - أعني أنهم لا يصدقون بالشيء إلا من جهة ما يتخيلونه - يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوباً إلى شيء متخيل. ويدخل أيضاً على من لا يفهم من هذه النسبة إلا المكان، وهم الذين شدوا على رتبة الصنف الأول قليلاً في النظر بإنكار اعتقاد الجسمية. ولذلك كان الجواب لهؤلاء في أمثال هذه أنها من المتشابهات، وأن الوقف في قوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله)).
وأهل البرهان مع أنهم مجمعون في هذا الصنف أنه من المؤول فقد يختلفون في تأويله، وذلك بحسب مرتبة كل واحد من معرفة البرهان. وههنا صنف ثالث من الشرع متردد بين هذين الصنفين يقع فيه شك، فيلحقه قوم ممن يتعاطى النظر بالظاهر الذي لا يجوز تأويله، ويلحقه آخرون بالباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر للعلماء، وذلك لعواصة هذا الصنف واشتباهه. والمخطئ. في هذا معذور - أعني من العلماء.
اختلاف العلماء في أحوال المعاد
فإن قيل فإذا تبين أن الشرع في هذا على ثلاث مراتب، فمن أي هذه المراتب الثلاث هو عندكم ما جاء في صفات المعاد وأحواله؟ فنقول: إن هذه المسألة الأمر فيها بين أنها من الصنف المختلف فيه. وذلك أنا نرى قوماً ينسبون أنفسهم إلى البرهان يقولون أن الواجب حملها على ظاهرها، إذ كأن ليس ههنا برهان يؤدي إلى استحالة الظاهر فيها. وهذه طريقة الأشعريّة، وقوم آخرون أيضاً ممن يتعاطى البرهان، يتأولونها. وهؤلاء يختلفون في تأويلها اختلافاً كثيراً. وفي هذا الصنف أبو حامد معدود وكثير من المتصوفة. ومنهم من يجمع فيها التأويلين، كما يفعل ذلك أبو حامد في بعض كتبه.
ويشبه أن يكون المخطىء في هذه المسألة من العلماء معذوراً والمصيب مشكوراً أو مأجوراً، وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيها نحواً من أنحاء التأويل، أعنى في صفة المعاد لا في وجوده، إذا كان التأويل لا يؤدي إلى نفي الوجود. وإنما كان جحد الوجود في هذه كفراً لأنه في أصل من أصول الشريعة، وهو مما يقع التصديق به بالطرق الثلاث المشتركة للأحمر والأسود، وأما من كان من غير أهل العلم، فالواجب عليه حملها على ظاهرها وتأويلها في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر. ولذلك ما نرى أن من كان من الناس فرضه الإيمان بالظاهر فالتأويل في حقه كفر، لأنه يؤدي إلى الكفر. فمن أفشاه له من أهل التأويل فقد دعاه إلى الكفر، والداعي إلى الكفر كافر.
ولهذا بجب أن لا تثبت التأويلات إلا في كتب البراهين لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان. وأما إذا أثبتت في غير كتب البرهان واستعمل فيها الطرق الشعرية والخطابية أو الجدلية، كما يصنعه أبو حامد، فخطأ على الشرع وعلى الحكمة، وإن كان الرجل إنما قصد خيراً، وذلك أنه رام أن يكثر أهل العلم بذلك، ولكن كثر بذلك أهل الفساد بدون كثرة أهل العلم. وتطرق بذلك قوم إلى ثلب الحكمة، وقوم إلى ثلب الشريعة، وقوم إلى الجمع بينهما. ويشبه أن يكون هذا أحد مقاصده بكتبه. والدليل على أنه رام بذلك تنبيه الفطر، أنه لم يلزم مذهباً في كتبه، بل هو مع الأشعرية، أشعري، ومع الصوفية، صوفي، ومع الفلاسفة فيلسوف، حتى أنه كما قيل:
يوماً يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدنـان
أحكام التأويل في الشريعة للعارفين
الذي يجب على أئمة المسلمين أن ينهوا عن كتبه التي تتضمن العلم، إلا من كان من أهل العلم، كما يجب عليهم، أن ينهوا عن كتب البرهان من ليس أهلاً لها. وإن كان الضرر الداخل على الناس من كتب البرهان أخف، لأنه لا يقف على كتب البرهان في الأكثر، إلا أهل الفطر /الفاثقة/، وإنما يؤتى هذا الصنف من عدم الفضيلة /العملبتة/ والقراءة على غير ترتيب وأخذها من غير معلم. ولكن منعها بالجملة صاد لما دعا إليه الشرع، لأنه ظلم لأفضل أصناف الناس ولأفضل أصناف الموجودات، إذ كان العدل في أفضل أصناف الموجودات أن يعرفها على كنهها من كان معداً لمعرفتها على كنهها، وهم أفضل أصناف الناس. فإنه على قدر عظم الجور في حقه للذي هو الجهل به. ولذلك قال تعالى: ((إن الشرك لظلم عظيم)).
هذا ما رأينا أن نثبته في هذا الجنس من النظر، أعني التكلم بين الشريعة والحكمة، وأحكام التأويل في الشريعة. ولولا شهرة ذلك عند الناس، وشهرة هذه المسائل التي ذكرناها، لما استجزنا أن نكتب في ذلك حرفاً، ولا أن نعتذر في ذلك لأهل التأويل بعذر، لأن شأن هذه المسائل أن تذكر في كتب البرهان. والله الهادي الموفق للصواب.
أقسام العلوم الدنيوية والأخروية
وينبغي أن تعلم أن مقصود الشرع إنما هو تعليم العلم الحق والعمل الحق. والعلم الحق هو معرفة الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات على ما هي عليه، وبخاصة الشريفة منها، ومعرفة السعادة الأخروية والشقاء الأخروي. والعمل الحق هو امتثال الأفعال التي تفيد السعادة، وتجنب الأفعال التي تفيد الشقاء. والمعرفة بهذه الأفعال هي التي تسمى العلم العملي. وهذه تنقسم قسمين: أحدهما أفعال ظاهرة بدنية، والعلم بهذه هو الذي يسمى الفقه، والقسم الثاني أفعال نفسانية، مثل الشكر والصبر، وغير ذلك من الأخلاق التي دعا إليها الشرع أو نهى عنها. والعلم بهذه هو الذي يسمى الزهد وعلوم الآخرة. وإلى هذا نحا أبو حامد في كتابه. ولما كان الناس قد أضربوا عن هذا الجنس وخاضوا في الجنس الثاني، وكان هذا الجنس أملك بالتقوى التي هي سبب السعادة، سمى كتابه (إحياء علوم الدين). وقد خرجنا عما كنا بسبيله، فنرجع. فنقول:
لما كان مقصود الشرع تعليم العلم الحق والعمل الحق، وكان التعليم صنفين: تصوراً وتصديقاً، كما بين ذلك أهل العلم بالكلام، وكانت طرق التصديق، الموجودة للناس ثلاثاً: البرهانية، والجدلية، والخطابية، وطرق التصور اثنين: إما الشيء نفسه وإما مثاله، وكان الناس كلهم ليس في طباعهم أن يقبلوا البراهين ولا الأقاويل الجدلية، فضلاً عن البرهانية، مع ما في تعلم الأقاويل البرهانية من العسر والحاجة في ذلك إلى طول الزمان لمن هو أهل لتعلمه وكان الشرع إنما مقصوده تعليم الجميع، وجب أن يكون الشرع يشتمل على جميع أنحاء طرق التصديق وأنحاء طرق التصور.
تقسيم المنطق والبرهان
ولما كانت طرق التصديق منها ما هي عامة لأكثر الناس، أعني وقوع التصديق من قبلها وهي الخطابية. والخطابية، أعم من الجدلية. ومنها ما هي خاصة لأقل الناس وهي البرهانية، وكان الشرع كل مقصوده الأول العناية بالأكثر من غير إغفال تنبيه الخواص، كانت أكثر الطرق المصرح بها في الشريعة هي الطرق المشتركة للأكثر في وقوع التصور والتصديق. هذه الطرق هي في الشريعة على أربعة أصناف:
أحدها أن تكون مع أنها مشتركة خاصة في الأمرين جميعاً، أعني أن تكون في التصور والتصديق يقينية، مع أنها خطابية أو جدلية. وهذه المقاييس هي المقاييس التي عرض لمقدماتها، مع كونها مشهورة أو مظنونة، أن تكون يقينية، وعرض لنتائجها إن أخذت أنفسها دون مثالاتها. وهذا، هو الصنف من الأقاويل الشرعية ليس له تأويل والجاحد له أو المتأول كافر. والصف الثاني أن تكون المقدمات، مع كونها مشهورة أو مظنونة، يقينية، وتكون النتائج مثالات للأمور التي قصد إنتاجها. وهذا يتطرق إليه التأويل، أعني لنتائجه. والثالث عكس كل هذا، وهو أن تكون النتائج هي الأمور التي قصد إنتاجها نفسها، وتكون المقدمات مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية. وهذا أيضاً لا يتطرق إليه تأويل، أعني لنتائجه، وقد يتطرق لمقدماته. والرابع أن تكون مقدماته مشهورة أو مظنونة من غير أن يعرض لها أن تكون يقينية، وتكون نتائجه مثالات لما قصد إنتاجه. هذه فرض الخواص فيها التأويل، وفرض الجمهور إقرارها على ظاهرها.
وبالجملة، فكل ما يتطرق له من هذه تأويل لا يدرك إلا بالبرهان، ففرض الخواص فيه هو ذلك التأويل، وفرض الجمهور هو حملها على ظاهرها في الوجهين جميعاً، أعني في التصور والتصديق، إذ كان ليس في طباعهم أكثر من ذلك. وقد يعرض للنظار في الشريعة تأويلات من قبل تفاضل الطرق المشتركة بعضها على بعض في التصديق، أعني إذا كان دليل التأويل أتم إقناعاً من دليل الظاهر. وأمثال هذه التأويلات هي جمهورية. ويمكن أن يكون فرض من بلغت قواهم النظرية إلى القوة الجدلية، وفي هذا الجنس يدخل بعض تأويلات الأشعرية والمعتزلة، وإن كانت المعتزلة في الأكثر أوثق أقوالاً. وأما الجمهور الذين لا يقدرون على أكثر من الأقاويل الخطابية، ففرضهم إمرارها على ظاهرها، ولا يجوز أن يعلموا ذلك التأويل أصلاً.
لا يجوز أن يكتب للعامة ما لا يدركونه
من أباح التأويل للجمهور فقد أفسده
فإذاً الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف: صنف، ليس هو من أهل التأويل أصلاً، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور الغالب. وذلك أنه ليس يوجد أحد سليم العقل يعرى من هذا النوع من التصديق. وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط، أو بالطبع والعادة. وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة. وهذا التأويل ليس ينبغي أن يصرح به لأهل الجدل فضلاً عن الجمهور. ومتى صرح بشيء من هذه التأويلات، لمن هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية لبعدها عن المعارف المشتركة، أفضى ذلك بالمصرح له والمصرح إلى الكفر. والسبب في ذلك أن مقصوده إبطال الظاهر وإثبات المؤول، فإذا بطل الظاهر عند من هو من أهل الظاهر، ولم يثبت المؤول عنده، أداه ذلك إلى الكفر، إن كان في أصول الشريعة.
فالتأويلات ليس ينبغي أن يصرح بها للجمهور ولا أن تثبت في الكتب الخطابية أو الجدلية - أعني الكتب التي الأقاويل الموضوعة فيها من هذين الصنفين، كما صنع ذلك أبو حامد. ولهذا، يجب أن يصرح ويقال في الظاهر الذي الإشكال في كونه ظاهراً بنفسه للجميع وكون معرفة تأويله غير ممكن فيهم، انه متشابه لا يعلمه إلا الله، وأن الوقف يجب ههنا في قوله تعالى: ((وما يعلم تأويله إلا الله)). وبمثل هذا يأتي الجواب أيضاً في السؤال عن الأمور الغامضة التي لا سبيل للجمهور، إلى فهمها، مثل قوله تعالى: ((ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً)).
وأما المصرح بهذه التأويلات لغير أهلها فكافر لمكان دعائه الناس إلى الكفر. وهو ضد دعوى الشارع وبخاصة متى كانت تأويلات فاسدة في أصول الشريعة، كما عرض ذلك لقوم من أهل زماننا. فإنا قد شهدنا منهم أقواماً ظنوا أنهم قد تفلسفوا وأنهم قد أدركوا بحكمتهم /العجيبة/ أشياء مخالفة للشرع من جميع الوجوه، أعني لا تقبل تأويلاً، وأن الواجب هو التصريح بهذه الأشياء للجمهور. فصاروا بتصريحهم للجمهور بتلك الاعتقادات الفاسدة سبباً لهلاك الجمهور وهلاكهم في الدنيا والآخرة.
ومثال مقصد هؤلاء مع مقصد الشارع مثال من قصد إلى طبيب ماهر قصد إلى حفظ صحة جميع الناس وإزالة الأمراض عنهم بأن وضع لهم أقاويل مشتركة التصديق في وجوب استعمال الأشياء التي تحفظ صحتهم وتزيل أمراضهم وتجنب أضدادها، إذ لم يمكنه فيهم أن يصير جميعهم أطباء، لأن الذي يعلم الأشياء الحافظة للصحة والمزيلة للمرض بالطرق البرهانية هو الطبيب. فتصدى هذا إلى الناس وقال لهم: أن هذه الطرق التي وضعها لكم هذا الطبيب ليست بحق، وشرع في إبطالها حتى بطلت عندهم. أو قال: أن لها تأويلات، فلم يفهموها ولا وقع لهم من قبلها تصديق في العمل. أفترى الناس الذين حالهم هذه الحال يفعلون شيئاً من الأشياء النافعة في حفظ الصحة وإزالة المرض؟ أو يقدر هو لا على استعمالها معهم ولا هم يستعملونها، فيشملهم الهلاك. هذا إن صرح لهم بتأويلات صحيحة في تلك الأشياء لكونهم لا يفهمون ذلك التأويل، فضلاً أن صرح لهم بتأويلات فاسدة. لأنه لا يؤول بهم الأمر إلى أن لا يروا أن ههنا صحة يجب أن تحفظ ولا مرضاً يجب أن يزال، فضلاً عن أن يروا أن ههنا أشياء تحفظ الصحة وتزيل المرض. وهذه هي حال من يصرح بالتأويل للجمهور ولمن ليس هو بأهل له مع الشرع. ولذلك هو مفسد له وصاد عنه. والصاد عن الشرع كافر.
الشرع يصلح النفوس والطب يصلح الأبدان وإنما كان هذا التمثيل يقينياً وليس بشعري، كما للقائل، أن يقول، لأنه صحيح التناسب. وذلك أن نسبة الطبيب إلى صحة الأبدان نسبة الشارع إلى صحة الأنفس: أعني أن الطبيب هو الذي يطلب أن يحفظ صحة الأبدان إذا وجدت، ويستردها إذا عدمت، والشارع هو الذي يبتغي هذا في صحة الأنفس. وهذه الصحة هي المسماة تقوى. وقد صرح الكتاب العزيز بطلبها بالأفعال الشرعية في غير ما آية. فقال تعالى: ((كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون)). وقال تعالى: ((لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم)). وقال: ((إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)) إلى غير ذلك من الآيات التي تضمنها الكتاب العزيز من هذا المعنى.
فالشارع إنما يطلب بالعلم الشرعي هذه الصحة. وهذه الصحة هي التي تترتب عليها السعادة الأخروية وعلى ضدها الشقاء الأخروي. فقد تبين لك من هذا أنه ليس يجب أن تثبت التأويلات الصحيحة في الكتب الجمهورية فضلاً عن الفاسدة. والتأويل الصحيح هي الأمانة التي حمالها الإنسان فأبى أن يحملها وأشفق منها جميع الموجودات، أعني المذكورة في قوله تعالى: ((إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال)) الآية. ومن قبل التأويلات والظن بأنها مما يجب أن يصرح بها في الشرع للجميع، نشأت فرق الإسلام حتى كفر بعضهم بعضاً، وبخاصةً الفاسدة منها. فأوّلت المعتزلة آيات كثيرة وأحاديث كثيرة وصرحوا بتأويلهم للجمهور، وكذلك فعلت الأشعرية، وإن كانت أقل تأويلاً. فأوقعوا الناس من قبل ذلك في شنآن وتباغض وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل التفريق.
ما أخطأ فيه الأشعريون
وزائداً إلى هذا كله أن طرقهم التي سلكوها في إثبات تأويلاتهم ليسوا فيها لا مع الجمهور ولا مع الخواص، أما مع الجمهور فلكونها أغمض من الطرق المشتركة للأكثر، وأما مع الخواص فلكنوها إذا تؤملت وجدت ناقصة عن شرائط البرهان، وذلك يقف عليه بأدنى تأمل من عرف شرائط البرهان. بل كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيراً من الضروريات، مثل ثبوت الأعراض وتأثير الأشياء بعضها في بعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات والصور الجوهرية والوسائط. ولقد بلغ تعدي نظارهم في هذا المعنى على المسلمين أن فرقة من الأشعرية كفرت من ليس يعرف وجود البارئ سبحانه بالطرق التي وضعوها لمعرفته في كتبهم، وهم الكافرون والضالون بالحقيقة. ومن هنا اختلفوا: فقال قوم أول الواجبات النظر، وقال قوم الإيمان، أعني من قبل أنهم لم يعرفوا أي الطرق هي الطرق المشتركة للجميع التي دعا الشرع من أبوابها جميع الناس، وظنوا أن ذلك طريق واحد. فأخطأوا، مقصد الشارع، وضلوا وأضلوا.
عصمة الصدر الأول عن التأويل
فإن قيل: فإذا لم تكن هذه الطرق التي سلكتها الأشعرية ولا غيرهم من أهل النظر هي الطرق المشتركة التي قصد الشارع تعليم الجمهور بها وهي التي لا يمكن تعليمهم بغيرها، فأي الطرق هي هذه الطرق في شريعتنا هذه؟ قلنا: هي الطرق التي ثبتت في الكتاب العزيز فقط، فإن الكتاب العزيز إذا تؤمل وجدت فيه الطرق الثلاث الموجودة لجميع الناس، وهذه هي الطرق المشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة. وإذا تؤمل الأمر ظهر انه ليس يُلقى طرق مشتركة لتعليم الجمهور أفضل من الطرق المذكورة فيه. فمن حرفها بتأويل لا يكون ظاهراً بنفسه، أو أظهر منها للجميع وذلك شيء غير موجود فقد أبطل حكمتها وأبطل فعلها المقصود في إفادة السعادة الإنسانية. وذلك ظاهر جداً من حال الصدر الأول، و حال من أتى بعدهم فأن الصدر الأول إنما صار إلى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه الأقاويل دون تأويلات فيها ومن كان منهم وقف على تأويل لم ير أن يصرح به. وأما من أتى بعدهم فإنهم لما استعملوا التأويل قل تقواهم وكثر اختلافهم وارتفعت محبتهم وتفرقوا فرقاً.
كيفية التوفيق بين الحكمة والشريعة
فيجب على من أراد أن يرفع هذه البدعة عن الشريعة أن يعمد إلى الكتاب العزيز فيلتقط منه الاستدلالات الموجودة في شيء مما كلفنا اعتقاده، واجتهد في نظره ظاهراً ما أمكنه من غير أن يتأول من ذلك شيئاً إلا إذا كان التأويل ظاهراً بنفسه أعني ظهوراً مشتركاً للجميع. فان الأقاويل الموضوعة في الشرع لتعليم الناس إذا تؤملت، يشبه أن يبلغ من نصرتها إلى حد لا يخرج عن ظاهرها ما هو منها ليس على ظاهره، إلا من كان من أهل البرهان. وهذه الخاصة ليست توجد لغيرها من الأقاويل.
فإن الأقاويل الشرعية المصرح بها في الكتاب العزيز للجميع لها ثلاث خواص دلت على الإعجاز: أحداها أنه لا يوجد أتم إقناعاً وتصديقاً للجميع منها، والثانية أنها تقبل النصرة بطبعها إلى أن تنتهي إلى حد لا يقف على التأويل فيها - أن كانت مما فيها تأويل - إلا أهل البرهان، والثالثة أنها تتضمن التنبيه لأهل الحق على التأويل الحق. وهذا ليس يوجد لا في مذاهب الأشعرية ولا في مذاهب المعتزلة: أعني أن تأويلهم لا يقبل النصرة، ولا يتضمن التنبيه على الحق، ولا هو حق، ولذلك كثرت البدع. وبودنا لو تفرغنا لهذا المقصد وقدرنا عليه، وأن أنسأ الله في العمر فسنثبت فيه قدر ما تيسر لنا منه، فعسى أن يكون ذلك مبدأ لمن يأتي بعد.
فإن النفس مما تخلل هذه الشريعة من الأهواء الفاسدة والاعتقادات /المرفة/ في غاية الحزن والتألم، وبخاصة ما عرض لها من ذلك من قبل من ينسب نفسه إلى الحكمة. فان الإذاية من الصديق هي أشد من الإذاية من العدو، أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة، فالإذاية ممن ينسب إليها أشد الإذاية مع ما يقع بينهما من العداوة والبغضاء والمشاجرة، وهما المصطحبتان بالطبع المتحابان بالجوهر والغريزة. وقد آذاها أيضاً كثير من الأصدقاء الجهال ممن ينسبون أنفسهم إليها، وهي الفرق الموجودة فيها. والله يسدد الكل، ويوفق الجميع لمحبته، ويجمع قلوبهم على تقواه، ويرفع عنهم البغض والشنآن بفضله وبرحمته. وقد رفع الله كثيراً من هذه الشرور والجهالات والمسالك المضلات بهذا الأمر الغالب. وطرق به إلى كثير من الخيرات وبخاصة على الصنف الذين سلكوا مسلك النظر ورغبوا في معرفة الحق. وذلك إنه دعا الجمهور من معرفة الله سبحانه إلى طريق وسط، ارتفع عن حضيض المقلدين وانحط عن تشغيب المتلكمين، ونبه الخواص على وجوب النظر التام في أصل الشريعة. والله الموفق والهادي بفضله.
المسألة التي ذكرها الشيخ أبو الوليد في فصل المقال رضي الله عنه
أدام الله عزتكم، وأبقى بركتكم، وحجب عيون النوائب عنكم.
لما فقتم بجودة ذهنكم وكريم طبعكم كثيراً ممن يتعاطى هذه العلوم، وانتهى نظركم السديد إلى أن وقفتم على الشك العارض في علم القديم سبحانه، مع كونه متعلقاً بالأشياء المحدثة عنه، وجب علينا لمكان الحق ولمكان إزالة هذه الشبهة عنكم أن نحل هذا الشك بعد أن نقول في تقريره. فان من لم يعرف الربط لم يقدر على الحل.
والشك يلزم هكذا: إن كانت هذه كلها في علم الله سبحانه قبل أن تكون، فهل هي في حال كونها في علمه كما كانت فيه قبل كونها؟ أم هي في علمه في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد؟ فإن قلنا أنها في علم الله في حال وجودها على غير ما كانت عليه في علمه قبل أن توجد، لزم أن يكون العلم القديم متغيرا، وأن يكون إذا خرجت من العدم إلى الوجود قد حدث هنالك علم زائد. وذلك مستحيل على العلم القديم. وإن قلنا في العلم بها واحد في الحالتين، قيل فهل هي في نفسها - أعني الموجودات الحادثة - قبل أن توجد كما هي حين ما وجدت؟ فسيجب أن يقال ليست في نفسها قبل أن توجد كما هي حين ما وجدت، وإلا كان الموجود والمعدوم واحداً.
فإذا سلم الخصم هذا، قيل له: أفليس العلم الحقيقي هو معرفة الوجود على ما هو عليه؟ فإذا قال: نعم، قيل: فيجب على هذا إذا اختلف الشيء في نفسه أن يكون العلم به ويختلف، وإلا فقد علم على غير ما هو عليه. فإذاً يجب أحد أمرين: أما أن يختلف العلم القديم في نفسه، أو تكون الحادثات غير معلومة له، وكلا الأمرين مستحيل عليه سبحانه.
ويؤكد هذا الشك ما يظهر من حال الإنسان، أعني من تعلق علمه بالأشياء المعدومة على تقدير الوجود وتعلق علمه بها إذا وجدت. فانه من البين بنفسه أن العلمين متغايران، وإلا كان جاهلاً بوجودها في الوقت الذي وجدت فيه.
وليس ينجي من هذا ما جرت به عادة المتكلمين في الجواب عن هذا، بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها على ما تكون عليه في حين كونها من زمان ومكان وغير ذلك من الصفات المختصة بموجود موجود. فإنه يقال لهم: فإذا وجدت، فهل حدث هنالك تغير أو لم يحدث؟ وهو خروج الشيء من العدم إلى الوجود. فإن قالوا: لم يحدث فقد كابروا. وإن قالوا: حدث هناك تغير، قيل لهم: فهل حدوث هذا التغير معلوم للعلم القديم أم لا؟ فيلزم الشك المتقدم. وبالجملة فيعسر أن يتصور أن العلم بالشيء قبل أن يوجد والعلم به بعد أن وجد علم واحد بعينه. فهذا هو تقرير هذا الشك على أبلغ ما يمكن أن يقرر به، على ما فاوضناكم فيه.
وحل هذا الشك يستدعي كلاماً طويلاً، إلا أنا ههنا نقصد للنكتة التي بها ينحل.
وقد رام أبو حامد حل هذا الشك في كتابه الموسوم التهافت بشيء ليس فيه مقنع، وذلك أنه قال قولاً معناه هذا: وهو أنه زعم أن العلم والمعلوم من المضاف، وكما أنه قد يتغير أحد المضافين ولا يتغير المضاف الآخر في نفسه، كذلك يشبه أن يعرض للأشياء في علم الله سبحانه، أعني أن تتغير في أنفسها ولا يتغير علمه سبحانه بها. ومثال ذلك في المضاف أنه قد تكون الاسطوانة الواحدة يمنة زيد ثم تعود يسرته وزيد بعد لم يتغير في نفسه. وليس بصادق. فإن الإضافة قد تغيرت في نفسها، وذلك أن الإضافة التي كانت يمنة قد عادت يسرة، وإنما الذي لن يتغير هو موضوع الإضافة، أعني الحامل لها الذي هو زيد. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العلم هو نفس الإضافة، فقد يجب أن يتغير عند تغير المعلوم، كما تتغير الاسطوانة إلى زيد عند تغيرها، وذلك إذا عادت يسرة بعد أن كانت يمنة.
والذي ينحل به هذا الشك عندنا هو أن يعرف أن الحال في العلم القديم مع الموجود خلاف الحال في العلم المحدث مع الموجود، وذلك أن وجود الموجود هو علة وسبب لعلمنا، والعلم القديم هو علة وسبب للموجود. فلو كان، إذا وجد الموجود بعد أن لم يوجد، حدث في العلم القديم علم زائد كما يحدث ذلك في العلم المحدث، للزم أن يكون العلم القديم معلولاً للموجود لا علة له. فإذاً واجب أن لا يحدث هنالك تغير كما يحدث في العلم المحدث. وإنما أتى هذا الغلط من قياس العلم القديم على العلم المحدث، وهو قياس الغائب على الشاهد. وقد عرف فساد هذا القياس. وكما أنه لا يحدث في الفاعل تغير عند وجود مفعوله، أعني تغيراً لم يكن قبل ذلك، كذلك لا يحدث في العلم القديم سبحانه تغير عند حدوث معلومه، عنه.
فإذاً قد انحل الشك، ولم يلزمنا أنه إذا لم يحدث هنالك تغير، أعني في العلم القديم، فليس يعلم الموجود في حين حدوثه على ما هو عليه، وإنما لزم /ألا يعلمه بعلم محدث إلا بعلم قديم/، لأن حدوث التغير في العلم عند تغير الموجود إنما هو شرط في العلم المعلول عن الموجود، وهو العلم المحدث.
فإذاً العلم القديم إنما يتعلق بالموجودات على صفة غير الصفة التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلاً كما حكي عن الفلاسفة أنهم يقولون لموضع هذا الشك أنه سبحانه لا يعلم الجزئيات. وليس الأمر كما توهم عليهم، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذ كان علة لها لا معلولاً عنها كالحال في العلم المحدث. وهذا هو غاية التنزيه الذي يجب أن يعترف به.
فإنه قد اضطر البرهان إلى أنه عالم بالأشياء لأن صدورها عنه إنما هو من جهه أنه عالم، لا من جهة أنه موجود فقط أو موجود بصفة كذا، بل من جهة أنه عالم، كما قال تعالى: ((ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)) وقد اضطر البرهان إلى أنه غير عالم بها بعلم هو على صفة العلم المحدث. فواجب أن يكون هنالك للموجودات علم آخر لا يكيف، وهو العلم القديم سبحانه. وكيف يمكن أن يتصور أن المشائين من الحكماء يرون أن العلم القديم لا يحيط بالجزئيات، وهم يرون أنه سبب الإنذار في المنامات والوحي وغير ذلك من أنواع الإلهامات؟ فهذا ما ظهر لنا في وجه حل هذا الشك، وهو أمر لا مرية فيه ولا شك. والله الموفق للصواب والمرشد للحق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته