الرئيسيةبحث

فتح المجيد/القسم الرابع


باب ما جاء في الرقي والتمائم قوله : (باب ما جاء فى الرقى والتمائم) أي من النهي وما ورد عن السلف في ذلك . قوله : (وفي الصحيح عن أبي بشير الأنصاري أنه كان مع النبي ﷺ في بعض أسفاره فأرسل رسولًا : أن لا يبقين فى رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت) هذا الحديث فى الصحيحين . قوله : (عن أبى بشير) بفتح أوله وكسر المعجمة ، قيل اسمه قيس بن عبيد قاله ابن سعد . وقال ابن عبد البر : لا يوقف له على اسم صحيح ، هو صحابى شهد الخندق ومات بعد الستين . ويقال : إنه جاوز المائة . قوله : (فى بعض أسفاره) قال الحافظ : لم أقف على تعيينه . قوله : (فأرسل رسولًا) هو زيد بن حارثة . روى ذلك الحارث بن أبى أسامة فى مسنده قاله الحافظ . قوله : (أن لا يبقين) بالمثناة التحتية والقاف المفتوحتين وقلادة مرفوع على أنه فاعل و الوتر بفتحتين ، وأحد أوتار القوس . وكان أهل الجاهلية إذا اخلولق الوتر أبدلوه بغيره وقلدوا به الدواب إعتقادًا منهم أنه يدفع عن الدابة العين . قوله : (أو قلادة إلا قطعت) معناه : أن الراوى شك هل قال شيخه : قلادة من وتر أو قال : قلادة وأطلق ولم يقيده ؟ ويؤيد الأول ما روى عن مالك أنه سئل عن القلادة ؟ فقال : ما سمعت بكراهتها إلا فى الوتر . ولأبى داود ولا قلادة بغير شك . قال البغوى فى شرح السنة : تأول مالك أمره عليه الصلاة والسلام بقطع القلائد على أنه من أجل العين وذلك أنهم كانوا يشدون الأوتار والتمائم ويعلقون عليها العوذ ، يظنون أنها تعصمهم من الآفات . فنهاهم النبى ﷺ عنها وأعلمهم أنها لا ترد من أمر الله شيئًا . قال أبو عبيد : كانوا يقلدون الإبل الأوتار ، لئلا تصيبها العين ، فأمرهم النبى ﷺ بإزالتها إعلامًا لهم بأن الأوتار لا ترد شيئًا . وكذا قال إبن الجوزى وغيره . قال الحافظ : ويؤيده حديث عقبة بن عامر ، رفعه من تعلق تميمة فلا أتم الله له رواه أبو داود . وهى ما علق من القلائد خشية العين ونحو ذلك . انتهى .

حديث ابن مسعود : الرقي والتمائم والتولة شرك قال المصنف : "(وعن ابن مسعود : سمعت رسول الله ﷺ يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك رواه أحمد وأبو داود) ". وفيه قصة ، ولفظ أبى داود : عن "زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : إن عبد الله رأى فى عنقى خيطًا فقال : ما هذا ؟ قلت : خيط رقى لى فيه . قالت : فأخذه ثم قطعه ، ثم قال : أنتم آل عبد الله لأغنياء عن الشرك سمعت رسول الله ﷺ يقول : إن الرقى والتمائم والتولة شرك . فقلت : لقد كانت عينى تقذف ، وكنت أختلف إلىفلان اليهودي ، فاذا رقى في سكنت. فقال عبد الله : إنما ذلك عمل الشيطان ، كان ينخسها بيده ، فإذا كف عنها . إنما كان يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله ﷺ يقول : أذهب البأس ، رب البأس ، واشف أنت الشافى ، لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقمًا" ورواه ابن ماجه وابن حبان والحاكم وقال : صحيح ، وأقره الذهبى . قوله : (إن الرقى) قال المصنف : (هى التى تسمى العزائم ، وخص منه الدليل ما خلا من الشرك ، ففد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة) يشير إلى أن الرقى الموصوفة بكونها شركًا هى التى يستعان فيها بغير الله ، وأما إذا لم يذكر فيها إلا بأسماء الله وصفاته وآياته ، والمأثور عن النبى ﷺ ، فهذا حسن جائز أو مستحب . قوله (فقد رخص فيه رسول الله ﷺ من العين والحمة) كما تقدم ذلك فى باب من حقق التوحيد . وكذا رخص فى الرقى من غيرها ، كما فى صحيح مسلم عن "عوف بن مالك : كنا نرقى فى الجاهلية ، فقلنا يا رسول الله كيف ترى فى ذلك ؟ فقال : اعرضوا علي رقاكم . لا بأس بالرقى ما لم تكن شركًا" وفى الباب أحاديث كثيرة . قال الخطابى: وكان عليه السلام قد رقى ورقى ، وأمر بها وأجازها ، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهى مباحة أو مأمور بها ، وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب ، فإنه ربما كان كفرًا أو قولًا يدخله شرك . قلت : من ذلك ما كان على مذاهب الجاهلية التى يتعاطونها ، وأنها تدفع عنهم الآفات ويعتقدون أن ذلك من قبل الجن ومعونتهم . وبنحو هذا ذكر الخطابى . وقال شيخ الإسلام : كل اسم مجهول فليس لأحد أن يرقى به فضلًا أن يدعو به ، ولو عرف معناه : لأنه يكره الدعاء بغير العربية، وإنما يرخص لمن لا يحسن العربية ، فأما جعل الألفاظ الأعجمية شعارًا فليس من دين الإسلام . وقال السيوطى : قد أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاث شروط : أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته ، وباللسان العربى : ما يعرف معناه ، وأن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى . قوله : (والتمائم) قال المصنف : (شئ يعلق على الأولاد من العين) وقال الخلخالى : التمائم جمع تميمة وهى ما يعلق بأعناق الصبيان من خرزات وعظام لدفع العين ، وهذا منهى عنه . لأنه لا دافع إلا الله ، ولا يطلب دفع المؤذيات الا بالله وبأسمائه وصفاته . قال المصنف : (لكن إذا كان المعلق من القرآن فرخص فيه بعض السلف . وبعضهم لم يرخص فيه ويجعله من المنهى عنه . منهم ابن مسعود) . اعلم أن العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم اختلفوا فى جواز تعليق التمائم التى من القرآن أسماء الله وصفاته ، فقالت طائفة يجوز ذلك ، وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ظاهر ما روى عن عائشة . وبه قال أبو جعفر الباقر وأحمد فى رواية . وحملوا الحديث على التمائم التى فيها شرك . وقالت طائفة لا يجوز ذلك . وبه قال ابن مسعود وابن عباس . وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر وابن عكيم ، وبه قال جماعة من التابعين ، منهم أصحاب ابن مسعود وأحمد فى رواية اختارها كثير من أصحابه ، وحزم بها المتأخرون ، واحتجوا بهذا الحديث وما فى معناه . قلت : هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل : الأول : عموم النهى ولا مخصص للعموم . الثانى : سد الذريعة ، فإنه يفضى إلى تعليق ما ليس كذلك . الثالث : أنه إذا علق فلابد أن يمتهنه المتعلق بحمله معه فى حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك .

وتأمل هذه الأحاديث وما كان عليه السلف رضى الله تعالى عنهم يتبين لك بذلك غربة الإسلام ، خصوصًا إن عرفت عظيم ما وقع فيه الكثير بعد القرون المفضلة من تعظيم القبور واتخاذ المساجد عليها والإقبال إليها بالقلب والوجه ، وصرف جل الدعوات والرغبات والرهبات وأنواع العبادات التى هى حق الله تعالى إليها من دونه ، كما قال تعالى '10 : 106 ، 107' " ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين * وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم " ونظائرها فى القرآن أكثر من أن تحصر . قوله : (التولة) ، قال المصنف : (هى شئ يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته وبهذا فسرها ابن مسعود راوي الحديث : كما فى صحيح ابن حبان والحاكم قالوا : يا أبا عبد الرحمن، هذه الرقى والتمائم قد عرفناها فما التولة؟ قال : شئ نصنعه للنساء يتحببن به إلى أزواجهن . قال الحافظ : التولة : بكسر المثناة وفتح الواو واللام مخففًا - شيئًا كانت المرأة تجلب به محبة زوجها ، وهو ضرب من السحر ، والله أعلم . وكان من الشرك لما يراد به من دفع المضار وجلب المنافع من غير الله تعالى .

حديث : من تعلق شيئًا وكل إليه قال المصنف : (وعن عبد الله بن عكيم مرفوعًا من تعلق شيئًا وكل إليه رواه أحمد والترمذي) ورواه ابو داود والحاكم ، وعبد الله بن عكيم هو بضم المهملة مصغرًا ، ويكنى أبا معبد ، الجهني الكوفي . قال البخاري : أدرك زمن النبي ﷺ ولا يعرف له سماع صحيح وكذا قال أبو حاتم . قال الخطيب سكن الكوفة وقدم المدائن في حياة حذيفة وكان ثقة ، وذكر ابن سعد من غيره أنه مات في ولاية الحجاج . قوله : (ومن تعلق شيئًا وكل إليه) التعلق يكون بالقلب ، ويكون بالفعل ، ويكون بهما وكل إليه أي وكله الله إلى ذلك الشئ الذي تعلقه فمن تعلق بالله وأنزل حوائجه إليه والتجأ إليه ، وفوض أمره إليه ، وكفاه وقرب إليه كل بعيد ويسر له كل عسير ، ومن تعلق بغيره أو سكن إلى رأيه وعقله ودوائه وتمائمه ونحو ذلك ، وكله الله إلى ذلك وخذله ، وهذا معروف بالنصوص والتجارب . قال تعالى '65 : 3' "ومن يتوكل على الله فهو حسبه" . قال الإمام أحمد : حدثنا هشام بن القاسم حدثنا أبو سعيد المؤدب حدثنا من سمع عطاء الخرساني قال : لقيت وهب بن منبه وهو يطوف بالبيت فقلت : حدثني حديثًا أحفظه عنك في مقامي هذا وأوجز . قال : نعم ، اوحى الله تبارك وتعالى إلى داود : يا داود، وأما عزتي وعظمتي لا يعتصم بي عبد من عبادي دون خلقي أعرف ذلك من نيته ، فتكيده السموات السبع ومن فيهن والأرضون السبع ومن فيهن إلا جعلت له بينهن مخرجًا وأما عزتي وعصمتي لا يعتصم عبد من عبادي بمخلوق دوني أعرف ذلك من نيته ، إلا قطعت أسباب السماء من يده وأسخت الأرض من تحت قدميه ثم لا أبالى بأي أوديتها هلك.

حديث رويفع من تقلد وترًا فإن محمدًا منه بريء قال المصنف : وروى الإمام أحمد عن رويفع قال : قال رسول الله ﷺ " يا رويفع ، لعل الحياة ستطول بك ، فأخبر الناس أن من عقد لحيته أو تقلد وترًا أو استنجى برجيع دابة أو عظم ، فإن محمدًا بريء منه " . الحديث رواه الإمام أحمد عن يحيى بن إسحاق والحسن بن موسى الأشيب كلاهما عن ابن لهيعة . وفيه قصة اختصرها المصنف . وهذا لفظ حسن : حدثنا ابن لهيعة حدثنا عياش بن عباس عن شييم بن بيتان قال : حدثنا رويفع بن ثابت قال : كان رسول الله ﷺ يأخذ جمل أخيه على أن يعطيه النصف مما غنم وله النصف ، حتى إن أحدنا ليصير له النصل والريش وللآخر القدح . ثم قال لي رسول الله ﷺ ... الحديث . ثم رواه أحمد بن يحيى بن غبلان حدثنى الفضل عياش بن عباس أن شييم بن بيتان أخبره أنه سمع شييان القتباني - الحديث . ابن لهيعة فيه مقال . وفي الإسناد الثاني شيبان القتبانى ، قيل فيه مجهول . وبقية رجالهما ثقات . قوله : (فأخبر الناس) دليل على وجوب إخبار الناس ، وليس هذا مختصًا برويفع ، بل كل من كان عنده علم ليس عند غيره مما يحتاج إليه الناس وجب إعلامهم به ، فإن إشترك هو وغيره في علم ذلك فالتبليغ فرض كفاية . قاله أبو زرعة في شرح سنن أبي داود . قوله : (لعل الحياة ستطول بك) فيه علم من أعلام النبوة ، فإن رويفعًا طالت حيا ته إلى سنة ست وخمسين فمات ببرقة من أعمال مصر أميرًا عليها ، وهو من الأنصار . وقيل مات سنة ثلاث وخمسين . قوله : (إن من عقد لحيته) بكسر اللام لا غير ، والجمع لحى بالكسر والضم قاله الجوهري . قال الخطابي : أما نهيه عن عقد اللحية فيفسر على وجهين . أهدهما : ما كانوا يفعلونه في الحرب ، كانوا يعقدون لحاهم ، وذلك من زى بعض الأعاجم يفتلونها ويعقدونها. قال أبو السعادات: تكبرًا وعجبًا . ثانيهما : أن معناه معالجة الشعر ليتعقد ويتجعد ، وذلك من فعل أهل التأنيث وقال أبو زرعة بن العراقى : والأولى حمله على عقد اللحية في الصلاة ، كما دلت عليه رواية محمد بن الربيع . وفيه أن من عقد لحيته في الصلاة . قوله : أو تقلد وترًا أي جعله قلادة في عنقه أو عنق دابته . وفي رواية محمد بن الربيع أو تقلد وترًا ـ يريد تميمة . فإذا كان هذا فيمن تقلد وترًا فكيف بمن تعلق بالأموات وسألهم قضاء الحاجات ، وتفريج الكربات ، الذي جاء النهى عنه وتغليظه في الآيات المحكمات ؟ قوله : أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا بريء منه قال لنووي: أي بريء من فعله ، وهذا خلاف الظاهر . والنووي كثيرًا ما يتأول الأحاديث بصرفها عن ظاهرها فيغفر الله تعالى له . وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه مرفوعًا : " لا تستنجوا بالروث ولا العظام فإنه زاد إخوانكم من الجن " وعليه لا يجزى الاستنجاء بهما كما هو ظاهر مذهب أحمد ، لما روى ابن خزيمة والدارقطني عن أبي هريرة : " أن النبي ﷺ نهى أن يستنجي بعظم أو روث ، وقال : إنهما لا يطهران " . قوله : (وعن سعيد بن جبير قال : " من قطع تميمة من إنسان كان كعدل رقبة " رواه وكيع) هذا عند أهل العلم له حكم الرفع ، لأن مثل ذلك لا يقال بالرأي ويكون هذا مرسلًا لأن سعيدًا تابعى . وفيه فضل قطع التمائم لأنها شرك . ووكيع هو ابن الجراح ابن وكيع الكوفى ، ثقة إمام ، صاحب تصانيف منها الجامع وغيره . روى عنه الإمام أحمد وطبقته . مات سنة سبع وتسعين ومائة . قوله : وله عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن وإبراهيم هو الإمام بن يزيد النخعى الكوفي ، يكنى أبا عمران ثقة من كبار الفقهاء . قال المزى : دخل على عائشة ، ولم يثبت له سماع منها . مات سنة ست وتسعين ، وله خمسون سنة أو نحوها . قوله : كانوا يكرهون التمائم إلى آخره ، مراده بذلك أصحاب عبد الله بن مسعود ، كعلقمة والأسود وأبي وائل والحارث بن سويد ، وعبيد السلمانى ومسروق والربيع بن خثيم ، وسويد بن غفلة وغيرهم ، وهو من سادات التابعين وهذه الصيغة يستعملها إبراهيم من حكاية أقوالهم كما بين ذلك الحافظ العراقي وغيره .