ملك غرشاسب تسعة أعوام
« و كان لنوزر ولد تقرّ به عينه اسمه غرشاسب. فجلس على العرش، و لبس تاج الملك، فملأ العالم أبهة و جلالا. و بلغ الترك أن زوّامان و أن عرش إيران شغر. فصاح أفراسياب فرحا، و أقبل بجيوشه حتى بلغ خوار( خار) الرىّ ).
و كان أفراسياب لما ارتحل من خوار الرى و غير جيحون قسم الممالك. و كان أبوه بشنك متغيرا عليه و مغتاظا من جهة إقدامه على قتل أخيه أغريرث. و كان لا يجيب عن كتبه اليه، و لا يمكن رسله من الدخول عليه. و كانت رسله تبقى على بابه سنة كاملة لا يسمع لهم كلاما، و لا يرفع بهم رأسا. و كان يقول على سبيل التعنيف مخاطبا لا بنه فى غيبته: لو كان الجد لك معاضدا و مساعدا لبقى لك أخوك عضدا و ساعدا. أ تفِر عن ربيب طير ثم تنحى على أخيك بكل ضير؟ فمن الآن لا سبيل لك الى الحضور بين يدىّ ، و لا طريق الى أن أنظر اليك أو تنظر الىّ . قال: فمضى على ذلك مدّة من الزمان و تناهى الخبر بموت( كرشاسپ بن) زوّ الى بشنك فأرسل الى ولده أفراسياب يأمره بأن يعبر جيحون، و يعاود ثانيا قصد ممالك إيران، و يهتبل غرة أهلها و فرصة خلو عرصتها.
فجمع عسكرا ترتج به الأرض، و يتضايق دون كثرته البر و البحر. و عبر بهم جيحون. فلما بلغ الايرانية ذلك وقع فيهم الاضطراب و جفلوا إلى زاولستان، و أقبلوا على زال يوبخونه و يعنفونه، و قالوا إنك منذ جلست موضع أبيك سام، و صرت بهلوان الدولة لم يطب عيش الناس يوما واحدا ( حينما مات زوّ خلفه ابنه فقصرت يد الأشرار عن الفساد، و الآن ذهب الملك غرشاسب العظيم فسارت المملكة و الجيش بلا ملك) و الآن قد نجم ناجم الشر فاستعد للأمر. فقال لهم زال: إنى منذ شددت وسطى بمنطقة البأس لم ير الناس مثلى فارسا مطلا على صهوات الخيل. و ما وضعت رجلى فى مستنقع حرب، و معرّس طعن و ضرب إلا و صارت أعنة الفرسان أثفارا، و صدور الشجعان أدبارا. و الآن قد انحنى شطاطى القويم، و استشنّ من ظاهر إهابى الأديم، و نقض الشيب علىّ غباره، و ألبسنى شعاره. و ضعف كالهى عن حمل السلاح، و تقاعدت همتى عن هز الرماح.
و قد أدرك ولدى رستم و أصبح كالنخل الباسق. و سأستنهضه فى هذا الأمر الفادح. فسر الايرانيون بذلك و اشتد أزرهم، و جاء رستم أباه متعرضا لأمره. فقال: إن بين يديك أمرا باهظا و خطبا فادحا يهجر من أجله النوم و القرار. و أنت بعد رطيب العود، جدير بالدعة و القعود. فكيف أريم بك فى أنياب المنون الفاغرة، و أعرضك لمخالب الخطوب الفاقرة. فقال رستم عند ذلك: كيف يليق بهذه الأعضاد الشداد الاقامة تحت ظلال الترف و الدلال؟ و سوف ترانى اذا اشتجرت الرماح، و تصافحت الصفاح و فى يدى قطعة سحاب يتفجر من خلالها الدم، و تسعر صواعقها و تتضرم، أفلق هامات الأبطال، و أهجم بها عليهم هجمة الآجال. و ما أريد الآن إلا حصانا كالبحر المائج و الفيل الهائج و أريد جرزا- كأنه الذى عناه مترجم الكتاب بقوله: و أرعن عن ثغر الغضنفر كاشرا- شتيم المحيا فيه صولة جبار- كصاعقة لو واجهت ركن يذبل - تشظى كرمل فى البطائح منهار
إمساك رستم الفرس المسمى رخشا
قال: فلما سمع زال مقالة رستم هذه تمايل من الطرب بين أفوافه، و تمشت نشوة السرور فى أعطافه، و أمر أن تعرض الخيل عليه. فجعلوا يمرّون بما على رستم. فكان اذا وقع نظره على فرس قوى جره اليه بأعرافه، و غمز ظهره بكفه. فيلصق بالأرض من شدّة قوّته .
فلم يجد فرسا يسلم من ذلك حتى جاءوا بخيل كثيرة من كابل، فمروا بها عليه فرأى فى جملتها حجرة شهباء ضامرة كأنها لبؤة. و خلفها مهر جذع فى قدّ الأم، طامح الطرف، مطهم الخلق، ململم الكفل، ضافى الذنب، صافى اللون، فى أوصاف كثيرة ذكرها.
فرمى بالوهق فى عنقه و استجره اليه، و غمز ظهره بكفه، فثبت و لم يتحرّك . فسر بذلك و أسرجه و أجمله و استرضاه لنفسه مركوبا. و كان يسمى رخشا. و سر زال بذلك أيضا زال يقود الجيش إلى أفراسياب و أمر العساكر بالخروج.
فبرز فى جمع ضاق بهم الأرض و لم يأت عليهم العدّ و الحصر. و فصل من زابلستان فى فصل الربيع. و بلغ خبره أفراسياب فسار فى عساكره و ساقهم حتى وصل الى الرى. فنزل فى مرج كثير الماء و القصب. و وصل عساكر إيران متظاهرين على طريق البرية. فتقارب الفريقان حتى كان بعد ما بينهما مقدار فرسخين. فدعا زال بأركان الدولة و أعيان الأمراء و الموابذة. و قال لهم: إنى قد حشدت هذا الجمع الكثير و الحجم الغفير. و لا بد من ملك يتولى تدبيرهم، و يسوس صغيرهم و كبيرهم.
فإنه لما جلس زوّ على سرير الملك استتبت الأمور و انتظمت. و هكذا الآن لا بد من ملك يشمل الكل أمره و نهيه، و يحوط الجملة رأيه و عقله. فأشار الموبذ عليه بكيقباد. و كان منتسبا إلى شجرة أفريدون.
إحضار رستم كيقباد من جبل ألبرز
فأنفذ زال ابنه رستم الى جبل ألبرز فى جماعة من أعيان الأمراء و فرسان القوّاد . و سار طوى تلك المنازل البعيدة، و المراحل المتقاذفة فى أسبوعين حتى أتى كيقباد و بشره بالملك تشاور رستم مع كيقباد فى انتظام الأحوال و أقبل معه و دخلا المعسكر ليلا. و مكثوا أسبوعا يتشاورون و يمخضون الآراء حتى ترتبت الأمور و انتظمت الأحوال.