الرئيسيةبحث

عيون الأنباء في طبقات الأطباء/الباب الخامس/جالينوس/صفة جالينوس وأخلاقه

صفة جالينوس وأخلاقه

وقال المبشر بن فاتك إن جالينوس كان أسمر اللون، حسن التخاطيط، عريض الأكتاف، واسع الراحتين، طويل الأصابع، حسن الشعر، محبًا للأغاني والألحان وقراءة الكتب، معتدل المشية، ضاحك السن، كثير الهذر، قليل الصمت، كثير الوقوع في أصحابه، وكثير الأسفار، طيب الرائحة، نقي الثياب، وكان يحب الركوب والتنزه، مداخلًا للملوك والرؤساء من غير أن يتقيد في خدمة أحد من الملوك، بل أنهم كانوا يكرمونه، وإذا احتاجوا إليه في مداواة شيء من الأمراض الصعبة دفعوا له العطايا الكثيرة من الذهب وغيره في برئها، وذكر ذلك في كثير من كتبه، وإنه كان إذا تطلّبه أحد من الملوك أن يستمر في خدمته سافر من تلك المدينة إلى غيرها لئلا يشتغل بخدمة الملك عما هو بسبيله. وذكروا أن الأصل كان في اسم جالينوس غالينوس، ومعناه الساكن أو الهادي، وقيل أن ترجمة اسم جالينوس معناه بالعربي الفاضل. وقال أبو بكر محمد بن زكريا الرازي في كتاب الحاوي أنه ينطلق في اللغة اليونانية أن ينطق بالجيم غينًا وكافاً، فيقال مثلًا جالينوس غالينوس وكالينوس، وكل ذلك جائز، وقد تجعل الألف واللام لامًا مشددة فيكون ذلك أصح في اليونانية. أقول وهذه فائدة تتعلق بهذا المعني وهي حدثني القاضي نجم الدين عمر بن محمد بن الكريدي قال حدثني ابنا غاثون المطران بشوبك وإنه أعلم أهل زمانه بمعرفة لغة الروم القديمة وهي اليونانية إن في لغة اليونان كل ما كان من الأسماء الموضوعة من أسماء الناس وغيرهم، فآخرها سين مثل جالينوس وديسقوريدس وإنكساغورس وأرسطوطاليس ديوجانيس وأريباسيوس، وغير ذلك، وكذلك مثل قولهم قاطيغورياس وباريمينياس، ومثل أسطوخودس، وأناغالس، فإن السين التي في آخر كل كلمة حكمها في لغة اليونانيين مثل التنوين في لغة العرب الذي هو في آخر الكلمة، مثل قولك زيدٌ وعمرٌ وخالدٌ وبكرٌ وكتابٌ وشجرٌ، فتكون النون التي تتبين في آخر التنوين مثل السين في لغة أولئك. أقول ويقع لي أن من الألفاظ التي في لغة اليونانيين، وهي قلائل؛ ما لا يكون في آخره سين مثل سقراط وإفلاطن وأغاثاذيمون وأغلوقن وتامور وياغات، وكذلك من غير أسماء الناس مثل أنالوطيقيا ونيقوماخيا والريطورية، ومثل جند بيرستر وترياق، فإن هذه الأسماء تكون في لغة اليونانيين لا يجوز عندهم تنوينها فتكون بلا سين، وذلك مثل ما عندنا في لغة العرب أن من الأسماء ما لا ينون، وهي الأسماء التي لا تنصرف مثل إسماعيل وإبراهيم وأحمد ومساجد ودنانير، فتكون هذه كتلك، واللَّه أعلم. وقد مدح أبو العلاء بن سليمان المعري في كتاب الاستغفار كتب جالينوس ومدوني الطب فقال:

سقيا ورعيا لجالينوس من رجل ورهط بقراط غاضوا بعد أو زادوا
فكل ما أصّلوه غير منتقض به استغاث أُول سقمٍ وعُوّاد
كتُب لطاف عليهم خفَّ محملها لكنها في شفاء الداء أطوادَ

ومن ألفاظ جالينوس وآدابه ونوادره الحكمية، مما ذكره حنين ابن إسحاق في كتاب نوادر الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء، قال جالينوس الهم فناء القلب والغم مرض القلب، ثم بين ذلك قال الغم بما كان والهم بما يكون، وفي موضع آخر الغم بما فات والهم بما هو آت، فإياك والغم فإن الغم ذهاب الحياة، ألا ترى إن الحي إذا غُمَّ وجبةً تلاشى من الغم. قال في صورة القلب إن في القلب تجويفين أيمن وأيسر، وفي التجويف الأيمن من الدم أكثر من الأيسر، وفيهما عرقان يأخذان إلى الدماغ، فإذا عرض للقلب ما لا يوافق مزاجه انقبض، فانقبض لانقباضه العرقان، فتشنج لذلك الوجه وألِمَ له الجسد، وإذا عرض له ما يوافق مزاجه انبسط، وانبسط العرقان لانبساطه، قال وفي القلب عُرَيق صغير كالإنبوبة مطل على شغاف القلب وسويدائه، فإذا عرض للقلب غم انقبض ذلك العُريق فقطر منه دم على سويداء القلب وشغافه، فيعصر عنه ذلك من العرقين دم يتغشاه، فيكون ذلك عصرًا على القلب، حتى يحس ذلك في القلب والروح والنفس والجسم، كما يتغشى بخار الشراب الدماغ فيكون منه السكر. وقيل إن جالينوس أراد امتحان ذلك، فأخذ حيوانًا ذا حس فغمه أياماً، ولما ذبحه وجد قلبه ذابلًا نحيفًا قد تلاشى أكثره، فاستدل بذلك على أن القلب إذا توالت عليه الغموم، وضاقت به الهموم، ذبل ونحل، فحذر حينئذ من عواقب الغم والهم. وقال لتلاميذه من نصح الخدمة نصحت له المجازات، وقال لهم لا ينفع علمٌ مَن لا يعقله، ولا عقلٌ مَن لا يستعمله. وقال في كتاب أخلاق النفس كما أنه يعرض للبدن المرض والقبح، فالمرض مثل الصرع والشوصة، والقبح مثل الحب وتسقط الرأس وقرعه، كذلك يعرض للنفس مرض وقبح، فمرضها كالغضب، وقبحها كالجهل. وقال العلل تجيء على الإنسان من أربعة أشياء من علة العلل، ومن سوء السياسة في الغذاء، ومن الخطايا، ومن العدو أبليس وقال الموت من أربعة أشياء موت طبيعي، وهو موت الهرم؛ وموت مرض وشهوة، مثل من يقتل نفسه أو يقاد منه؛ وموت الفجأة، وهو بغتة، وقال وقد ذكر عنده القلم القلم طبيب المنطق. ومن كلامه في العشق، قال العشق استحسان ينضاف إليه طمع، وقال العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد، وفي الدماغ ثلاث قوى التخيل، وهو في مقدم الرأس والفكر، وهو في وسطه؛ والفكر، وهو في مؤخره، وليس يكمل أحد اسم عاشق حتى يكون إذا فارق من يعشقه لم يَخل من تخيله وفكره وذكره، وقلبه وكبده، فيمنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخييل، والذكر له والفكر فيه، فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به، فمتى لم تشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً، فإذا لقيه خلت هذه المساكن. قال حنين بن إسحاق وكان منقوشًا على فص خاتم جالينوس من كتم داءه أعياه شفاؤه. ومن كلام جالينوس، مما ذكره أبو الوفاء المبشر بن فاتك، في كتاب مختار الحكم ومحاسن الكلم قال جالينوس لِنْ تنل، واحلم تنبل، ولا تكن معجبًا فتُمتهن، وقال العليل الذي يشتهي، أرجى من الصحيح الذي لا يشتهي، وقال لا يمنعك من فعل الخير ميل النفس إلى الشر، وقال رأيت كثيرًا من الملوك يزيدون في ثمن الغلام المتأدب باللوم والصناعات، وفي ثمن الدواب الفاضلة في أجناسها، ويُغفلون أمر أنفسهم في التأدب، حتى لو عُرض على أحدهم غلام مثله ما اشتراه ولا قبله، فكان من أقبح الأشياء عندي أن يكون المملوك يساوي الجملة من المال، والمالك لا يجد من يقبله مجاناً، وقال كان الأطباء يقيمون أنفسهم مقام الأمراء، والمرضى مقام المأمورين الذين لا يتعدون ما حُدَّ لهم، فكان الطب في أيامهم أنجع، فلما حال الأمر في زماننا فصار العليل بمنزلة الأمير، والطبيب بمنزلة المأمور، وخدم الأطباء رضا الإعلاء، وتركوا خدمة أبدانهم، فقل الانتفاع بهم، وقال أيضًا: كان الناس قديمًا يجتمعون على الشراب والغناء، فيتفاضلون في ذكر ما تعمله الأشربة في الأمزجة، والألحان في قوة الغضب، وما يرد كل واحد منها من أنواعه؛ وهم اليوم إذا اجتمعوا فإنما يتفاضلون بعظم الأقداح التي يشربونها، وقال من عود من صباه القصد في التدبير كانت حركات شهواته معتدلة؛ فأما من اعتاد أن لا يمنع شهواته منذ صباه ولا يمنع نفسه شيئًا مما تدعوه إليه، فذلك يبقى شرهاً، وذلك إن كل شيء يكثر الرياضة في الأعمال التي تخصه يقوى؛ وكل شيء يستعمل السكون يضعف، وقال من كان من الصبيان شرهًا شديد القحة، فلا ينبغي أن يطمع في صلاحه البتَّة؛ ومن كان منهم شرهًا ولم يكن وقحًا فلا ينبغي أن يؤيس من صلاحه، ويقدِّر أنه إن تأدب يكون إنسانًا عفيفاً، وقال الحياء خوف المستحي من نقص يقع به عند من هو أفضل منه، وقال يتهيأ للإنسان أن يصلح أخلاقه إذا عرف نفسه، فإن معرفة الإنسان نفسه هي الحكمة العظمى، وذلك أن الإنسان لإفراط محبته لنفسه، بالطبع، يظن بها من الجميل ما ليست عليه، حتى أن قومًا يظنون بأنفسهم أنهم شجعاء وكرماء وليسوا كذلك، فأما العقل فيكاد أن يكون الناس كلهم يظنون بأنفسهم التقدم فيه، وأقرب الناس إلى أن يظن ذلك بنفسه أقلهم عقلاً، وقال العادل من قدر على أن يجور فلم يفعل، والاقل من عرف كل واحد من الأشياء التي في طبيعة الإنسان معرفتها على الحقيقة، وقال العجب ظن الإنسان بنفسه أنه على الحال التي تحب نفسه أن يكون عليها من غير أن يكون عليها، وقال كما أن من ساءت حال بدنه من مرض به وهو ابن خمسين سنة ليس يستسلم ويترك بدنه حتى يفسد ضياعاً، بل يلتمس أن يصح بدنه، وإن لم يفد صحة تامة؛ كذلك ينبغي لنا أن لا نمتنع من أن نزيد أنفسنا صحة على صحتها، وفضيلة على فضيلتها، وإن كنا لا نقدر أن نلحقها بفضيلة نفس الحكيم. وقال يتهيأ للإنسان أن يسلم من أن يظن بنفسه أنه أعقل الناس، إذا قلد غيره، امتحان كل ما يفعله في كل يوم، وتعريفه صواب فعله من خطئه، ليستعمل الجميل ويطرح القبيح، ورأى رجلا تعظمه الملوك لشدة جسمه، فسأل عن أعظم ما فعله، فقالوا إنه حمل ثورًا من وسط الهيكل حتى أخرجه إلى خارج، فقال لهم فقد كانت نفس الثور تحمله ولم تكن لها في حمله فضيلة، ونقلت من كلام جالينوس أيضًا من مواضع أخر، قال جالينوس إن العليل يتروح بنسيم أرضه، كما تروح الأرض الجدية ببل القطر، وسئل عن الشهوة فقال بلية تعير لا بقاء لها، وقيل له لِمَ تحضرُ مجالس الطرب والملاهي؟ قال لأعرف القوى والطبائع في كل حال من منظر ومسمع. وقيل له متى ينبغي للإنسان أن يموت؟ قال إذا جهل ما يضره مما ينفعه، ومن كلامه أنه سئل عن الأخلاط فقيل له ما قولك في الدم؟ قال عبد ملوك وربما قتل العبد مولاه قيل له فما قولك في الصفراء؟ فقال كلب عقور في حديقة، قيل له فما قولك في البلغم؟ قال ذلك الملك الرئيس، كلما أغلقت عليه بابًا فتح لنفسه بابا، قيل له فما قولك في السوداء؟ قال هيهات، تلك الأرض إذا تحركت تحرك ما عليها، ومن ذلك أيضًا قال أنا ممثل لك مثالًا في الأخلاط الأربعة فأقول؛ إذا مثل الصفراء، وهي المرَّة الحمراء، كمثل امرأة سليطة صالحة تقية، فهي تؤذي بطول لسانها وسرعة غضبها، إلا أنها ترجع سريعًا بلاغائلة، ومَثَلُ الدم كمثل الكلب الكلب فإذا دخل دارك فعاجله أما بإخراجه أو قتله، ومَثَل البلغم إذا تحرك في البدن، مثل مَلك دخل بيتك وأنت تخاف ظلمه وجوره، وليس يمكن أن تخرق به وتؤذيه بل يجب أن ترْفق به وتخرجه، ومثل السوداء في الجسد، مثل الإنسان الحقود الذي لا يُتوهم فيه بما في نفسه، ثم يثب وثبة فلا يبقى مكروهًا إلا ويفعله، ولا يرجع إلا بعد الجهد الصعب، ومن تمثيلاته الطريفة أيضًا قال الطبيعة كالمُدَّعي، والعلة كالخصم، والعلامات كالشهود، والقارورة والنبض كالبيِّنة، ويوم البُحران كيوم القضاء والفصل؛ والريض كالمتوكِّل، والطبيب كالقاضي وقال في تفسيره لكتاب إيمان أبقراط وعهده كما أنه لا يصلح اتخاذ التمثال من كل حجر، ولا ينتفع بكل باب في محاربة السباع، وكذلك، أيضاً، لا نجد كل إنسان يصلح لقبول صناعة الطب، لكنه ينبغي أن يكون البدن والنفس منه ملائمين لقبولها.