خطبة الكتاب للمؤلف
الْحمد لله الذى نصب الكائنات على ربوبيته ووحدانيته حججاً، وحجب العقول والأَبصار أن تجد إلى تكييفه منهجاً وأَوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجاً، وجعل لمن لاذ به واتقاه من كل ضائقة مخرجاً، وأَعقب من ضيق الشدائد وضنك الأَوابد لمن توكل عليه فرجاً، وجعل قلوب أَوليائه متنقلة من منازل عبوديته من الصبر والتوكل والإِنابة والتفويض والمحبة والخوف والرجا فسبحان من أَفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضمن الكتاب الذى كتبه، أَن رحمته تغلب غضبه. أسبغ على عباده نعمه الفرادى والتوءام، وسخر لهم البر والبحر والشمس والقمر والليل والنهار والعيون والأَنهار والضياءَ والظلام، وأَرسل إليهم رسله وأَنزل عليهم كتبه يدعوهم إلى جواره فى دار السلام، {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً}* [الأنعام: 125]، فسبحان من {أَنْزَلَ عَلَىَ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لّهُ عِوَجَا}* [الكهف: 1]، ورفع لمن ائتمَّ به فأَحلَّ حلالَهُ وحرَّمَ حرامَهُ وعمل بمحكمه وآمن بمتشابهه فى مراقى السعادة درجاً، ووضع قهره على من أَعرض عنه ولم يرفع به رأسه ونبذه وراءَ ظهره وابتغى الهدى من غيره، فجعله فى دركات الجحيم متولجاً، فإِنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم والنبأُ العظيم وحبل الله المتين المديد بينه وبين خلقه، وعهده الذى من استمسك به فاز ونجا.
وأَشهد أن لا إِله إِلا الله وحده لا شريك له ولا سمى له ولا كفو له ولا صاحبة له ولا ولد ولا شبيه له ولا يحصى أَحد ثناءً عليه بل هو كما أَثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأَسمائه وصفاته مبتهجاً، ولم يدع إلى شبه الجاحدين المعطلين معرجاً.
وأَشهد أَن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وأَمينه على وحيه وسفيره بينه وبين عباده، أَرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين ومحجة للسالكين وحجة على العباد أجمعين. أَرسله على حين فترة من الرسل، فهدى به إلى أَقوم الطرق وأَوضح السبل وافترض على العباد طاعته ومحبته وتعزيره وتوقيره والقيام بحقوقه، وسدَّ إلى جنته جميع الطرق فلم يفتح لأَحد إلا من طريقه، فشرح له صدره، ورفع له ذكره، ووضع عنه وزره وجعل الذلة و [الصغار] على من خالف أَمره. فهدى به من الضلالة وعلَّم به من الجهالة. وكثَّر به بعد القلَّة، وَأعزَّ به بعد الذلَّة وأَغنى به بعد العَيْلَة، وبصَّر به من العمى، وأَرشد به من الغى وفتح برسالته أَعيناً [عمياً] وآذاناً صماً وقلوباً غلفا، فَبَلَّغ الرسالة وأَدَّى الأَمانة ونصح الأُمة وجاهد فى الله حق جهاده وعَبَدَ الله حتى أَتاه اليقين فلم يدع خيراً إلا دل أمته عليه ولا شراً إِلا حذر منه ونهى عن سلوك الطريق الموصلة إليه. ففتح القلوب بالإِيمان والقرآن، وجاهد أَعداءَ الله باليد والقلب واللسان. فدعا إلى الله على بصيرة، وسار فى الأُمة- بالعدل والإِحسان وخلقه العظيم- أَحسن سيرة، إلى أَن أَشرقت برسالته الأَرض بعد ظلماتها، وتأَلفت به القلوب بعد شتاتها. وسارت دعوته سير الشمس فى الأَقطار وبلغ دينه القيم ما بلغ الليل والنهار. واستجابت لدعوته الحق القلوب طوعاً وإذعاناً، وامتلأَت بعد خوفها وكفرها أَمناً وإِيماناً، فجزاه الله عن أُمته أَفضل الجزاءِ، وصلى عليه صلاة تملأُ أَقطار الأَرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً.
أَما بعد..
فإِن الله سبحانه غرس شجرة محبته ومعرفته وتوحيده فى قلوب من اختارهم لربوبيته، واختصهم بنعمته، وفضلهم على سائر خليقته، فهى {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السّمَآءِ * تُؤْتِيَ أُكُلَهَا كُلّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا}* [إبراهيم: 24-25]، فَكَذَلِكَ شَجَرَةُ الإِيمان أَصلها ثابت فى القلب وفروعها الكلم الطيب والعمل الصالح فى السماءِ، فلا تزال هذه الشجرة تخرج ثمرها كل وقت بإِذن ربها من طيب القول وصالح العمل ما تقرُّ به عيون صاحب الأَصل وعيون حفظته وعيون أَهله وأَصحابه ومن قرب منه، فإِن من قرت عينه بالله سبحانه قرت به كل عين وأَنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث وفرح به كل حزين وأَمن به كل خائف وشهد به كل غائب، وذكرت رؤيته بالله، فإِذا رؤى ذكر الله فاطمأَن قلبه إلى الله وسكنت نفسه إلى الله وخلصت محبته لله وقصر خوفه على الله وجعل رجاءَه كله لله، فإِن سمع سمع بالله وإِن أَبْصر أَبصر بالله وإن بطش بطش بالله وإِن مشى مشى بالله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يبطش وبه يمشى، فإِذا أَحب فللَّه وإِذا أَبغض [أبغض] لله وإِذَا أَعطى فللَّه وإِذَا منع فللَّه، قد اتخذ الله وحده معبوده ومرجوه ومخوفه وغاية قصده ومنتهى طلبه، واتخذ رسوله وحده دليله وإِمامه وقائده وسائقه، فوحد الله بعبادته ومحبته وخوفه ورجائِهِ وإفراد رسوله بمتابعته والاقتداءِ به والتخلق بأَخلاقه والتأَدب بآدابه
فله فى كل وقت هجرتان: هجرة إلى الله بالطلب والمحبة والعبودية والتوكل والإِنابة والتسليم والتفويض والخوف والرجاءِ والإِقبال عليه وصدق اللجإِ والافتقار فى كل نفس إِليه، وهجرة إِلى رسوله فى حركاته وسكناته الظاهرة والباطنة، بحيث تكون موافقة لشرعه الذى هو تفصيل محابّ الله ومرضاته، ولا يقبل الله من أَحد ديناً سواه، وكل عمل سواه فعيش النفس وحظها لا زاد المعاد، وقال شيخ الطريقة وإِمام الطائفة الجنيد بن محمد قدّس الله روحه: الطرق كلها مسدودة إلا طريق من اقتفى آثار النبى ﷺ، فإِن الله عَزَّ وجَلَّ يقول: ((وَعِزَّتِى وَجَلالِى لَوْ أَتُونِى مِنْ كُلِّ طَرِيقٍ، وَاسْتَفْتَحُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ، لَمَا فَتَحتُ لَهُمْ حَتَّى يَدخُلُوا خَلْفَكَ)). وقال بعض العارفين: كل عمل بلا متابعة فهو عيش النفس.
ولما كانت السعادة دائرة- نفياً وإِثباتاً- مع ما جاءَ به كان جديراً بمن نصح نفسه أَن يجعل لحظات عمره وقفاً على معرفته وإِرادته مقصورة على محابه، وهذا أَعلى همة شمر إليها السابقون وتنافس فيها المتنافسون، فلا جرم ضمنَّا هذا الكتاب قواعد من سلوك الهجرة المحمدية، وسميناه طريق الهجرتين، وباب السعادتين، وابتدأناه بباب الفقر والعبودية ؛ إذ هو باب السعادة [الأعظم] وطريقها الأَقوم الذى لا سبيل إلى دخولها إِلا منه، وختمناه بذكر طبقات المكلَّفين من الجن والإِنس فى [الدنيا و] الآخرة ومراتبهم فى دار السعادة والشقاوة. فجاءَ الكتاب غريباً فى معناه، عجيباً فى مغزاه لكل قوم منه نصيب، ولكل وارد منه مشرب [وما كان فيه من حق وصواب فمن الله هو المانّ به فإنما التوفيق بيده] وما كان فيه من [خطأ و] زلل فمنى ومن الشيطان، والله ورسوله منه براءٌ.
فيا أَيها القاريء له والناظر فيه، هذه بضاعة صاحبها المزجاة مسوقة إليك، وهذا فهمه وعقله معروض عليك، لك غنمه وعلى مؤلفه غرمه. ولك ثمرته، وعليه عائدته. فإن عدم منك حمداً وشكراً، فلا يعدم منك [مغفرة و] عذراً، وإِن أبيت إلا الملام فبابه مفتوح، وقد:
استأْثر الله بالثناءِ وبالْحمد وولى الملامة الرجلا.
والله المسئول أَن يجعله لوجهه خالصاً، وينفع به مؤلفه وقارئه وكاتبه فى الدنيا والآخرة، إِنه سميع الدعاءِ، وأَهل الرجاءِ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
فصل
فى أن الله هو الغنى المطلق والخلق فقراء محتاجون إليه
قال الله سبحانه: {يَأَيّهَا النّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللّهِ وَاللّهُ هُوَ الْغَنِيّ الْحَمِيدُ}* [فاطر: 15]، بيَّن سبحانه فى هذه الآية أَن فقر العباد إِليه أَمر ذاتى لهم لا ينفك عنهم، كما أَن كونه غنياً حميداً [أمر] ذاتى له، فغناه وحمده ثابت له لذاته لا لأمر أَوجبه، وفقر من سواه إليه ثابت لذاته لا لأَمر أَوجبه، فلا يعلل هذا الفقر بحدوث ولا إِمكان، بل هو ذاتى للفقير: فحاجة العبد إِلى ربه لذاته لا لعلة أَوجبت تلك الْحاجة، كما أَن غنى الرب سبحانه لذاته لا لأَمر أَوجب غناه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والفقر لى وصفُ ذاتٍ لازم أبداً كما الغنى أبداً وصفٌ له ذاتي
فالخلق فقير محتاج إلى ربه بالذات لا بعلة، وكل ما يذكر ويقرر من أَسباب الفقر والحاجة فهى أدلة على الفقر والحاجة لا علل لذلك، إذ ما بالذات لا يعلل، فالفقير بذاته محتاج إلى الغنى بذاته، فما يذكر من إِمكان وحدوث واحتياج فهى أَدلة على الفقر لا أَسباب له، ولهذا كان الصواب فى مسأَلة علة احتياج العالم إلى الرب سبحانه غير القولين اللذين يذكرهما الفلاسفة والمتكلمون، فإن الفلاسفة قالوا: علة الحاجة الإمكان، والمتكلمون قالوا: علة الحاجة الحدوث، والصواب أن الإمكان والحدوث متلازمان، وكلاهما دليل الحاجة والافتقار، وفقر العالم إلى الله [عز وجل] أَمر ذاتى لا يعلل، فهو فقير بذاته إلى ربه الغنى بذاته، ثم يستدل بإِمكانه وحدوثه وغير ذلك من الأَدلة على هذا الفقر. والمقصود أنه سبحانه أَخبر عن حقيقة العباد وذواتهم بأَنها فقيرة إِليه [عز وجل]، كما أَخبر عن ذاته المقدسة وحقيقته أَنه غنى حميد، فالفقر المطلق من كل وجه ثابت لذواتهم وحقائقهم من حيث هى، والغنى المطلق من كل وجه ثابت لذاته تعالى وحقيقته من حيث هى، فيستحيل أن يكون العبد إِلا فقيراً، ويستحيل أَن يكون الرب سبحانه إِلا غنياً، كما أَنه يستحيل أَن يكون العبد إلا عبداً والرب إِلا رباً.
إِذا عرف هذا فالفقر فقران: فقر اضطرارى، وهو فقر عام لا خروج لبرّ ولا فاجر عنه، وهذا لا يقتضى مدحاً ولا ذماً ولا ثواباً ولا عقاباً، بل هو بمنزلة كون المخلوق مخلوقاً ومصنوعاً. والفقر الثانى فقر اختيارى هو نتيجة علمين شريفين: أَحدهما معرفة العبد بربه، والثانى معرفته بنفسه. فمتى حصلت له هاتان المعرفتان أَنتجتا [له] فقراً هو عين غناه وعنوان فلاحه وسعادته، وتفاوت الناس فى هذا الفقر بحسب تفاوتهم فى هاتين المعرفتين، فمن عرف ربه بالغنى المطلق عرف نفسه بالفقر المطلق، ومن عرف ربه بالقدرة التامة عرف نفسه بالعجز التام، ومن عرف ربه بالعز التام عرف نفسه بالمسكنة التامة، ومن عرف ربه بالعلم التامّ والحكمة عرف نفسه بالجهل، فالله سبحانه أَخرج العبد من بطن أمه لا يعلم شيئاً ولا يقدر على شيء، ولا يملك شيئاً ولا يقدر على عطاءٍ ولا منع ولا ضر ولا نفع ولا شيء البتة، فكان فقره فى تلك الحال إلى ما به كما له أَمراً مشهوداً محسوساً لكل أَحد، ومعلوم أَن هذا له من لوازم ذاته، وما بالذات دائم بدوامها. وهو لم ينتقل من هذه الرتبة إِلى رتبة الربوبية والغنى، بل لم يزل عبداً فقيراً بذاته إِلى بارئه وفاطره. فلما أَسبغ عليه نعمته، وأَفاض عليه رحمته وساق إِليه أَسباب كمال وجوده ظاهراً وباطناً، وخلع عليه ملابس إِنعامه، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وعلمه وأَقدره وصرفه وحركه، ومكنه من استخدام بنى جنسه، وسخر له الخيل والإِبل، وسلطه على دواب الماءِ، واستنزال الطير من الهواء وقهر الوحش العادية، حفر الأَنهار، وغرس الأَشجار، وشق الأَرض، وتعلية البناءِ، والتحيل على مصالحه، والتحرز والتحفظ لما يؤذيه، ظن المسكين أَن له نصيباً من الملك، وادعى لنفسه ملكاً مع الله سبحانه، ورأى نفسه بغير تلك العين الأُولى، ونسى ما كان فيه من حالة الإِعدام والفقر والحاجة، حتى كأَنه لم يكن هو ذلك الفقير المحتاج، بل كأَن ذلك شخصاً آخرغيره كما روى الإِمام أَحمد فى مسنده من حديث بسر بن جحاش القرشى أَن رسول الله ﷺ بصق يوماً فى كفه فوضع عليها إِصبعه ثم قال: ((قال اللهُ تعالى: يَا ابن آدمَ أَنَّى تُعْجِزُنِى وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مثْلِ هَذِهِ حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنَ وَللأَرْضِ مِنْكَ وَئِيد، فَجَمَعْتَ وَمَنْعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغْتَ التَّراقى، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ))، ومن هاهنا خذل من خذل ووفق من وفق، فحجب المخذول عن حقيقته ونسى نفسه فنسى فقره وحاجته وضرورته إلى ربه، فطغى [وبغا] وعتا فحقت عليه الشقوة، قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَن رّآهُ اسْتَغْنَىَ}* [العلق: 6-7]، وقال: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ * وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ}* [الليل: 5-10]، فأَكمل الخلق أكملهم عبودية وأَعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إِلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين، ولهذا كان من دعائه ﷺ: ((أَصلح لى شأنى كله، ولا تكلنى إِلى نفسى طرفة عين ولا إِلى أَحد من خلقك))، وكان يدعو: ((يا مقلِّب القُلُوبِ ثَبِّتْ قلبِى عَلَى دينك)). يعلم ﷺ أَن قلبه بيد الرحمن عَزَّ وجَلَّ لا يملك منه شيئاً، وأَن الله سبحانه يصرفه كما يشاءُ كيف وهو يتلو قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً}* [الإسراء: 74]، فضرورته ﷺ إِلى ربه وفاقته إِليه بحسب معرفته به، وحسب قربه منه ومنزلته عنده. وهذا أَمر إِنما بدا منه لمن بعده ما يرشح من ظاهر الوعاءِ، ولهذا كان أَقرَبَ الخلق إِلى الله وسيلة وأَعظمهم عنده جاهاً وأَرفعهم عنده منزلة، لتكميله مقام العبودية والفقر إِلى ربه [عز وجل]، وكان يقول لهم: ((أَيهَا النَّاسُ، مَا أُحبُّ أَنْ تَرْفَعُونِى فَوْقَ مَنْزِلَتِى إِنَّمَا أنا عَبْدُ))، وكان يقول: ((لا تُطْرونِى كَمَا أَطْرَتِ النصارى المسيح ابن مريم وإِنما أَنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله)).
وذكره الله سبحانه بسمة العبودية فى أَشرف مقاماته، مقام الإِسراءِ ومقام الدعوة ومقام التحدى، فقال: {سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً}* [الإسراء:1]، وقال: {وَأَنّهُ لّمَا قَامَ عَبْدُ اللّهِ يَدْعُوهُ}* [الجن: 19]، وقال: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مّمّا نَزّلْنَا عَلَىَ عَبْدِنَا}* [البقرة: 23]، وفى حديث الشفاعة: ((إِنَّ الْمَسِيحَ يَقُولُ لَهُمْ [يوم القيامة]: اذْهَبُوا إِلَى مُحَمَّدٍ عَبْدٍ غَفَرَ اللهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ))، فنال ذلك المقام بكمال عبوديته لله وبكمال مغفرة الله له، فتأَمل قوله تعالى فى الآية: {أَنْتُمُ الفُقَرَآءُ إِلَى اللهِ}* [فاطر: 15]، [فعلق الفقر إليه باسمه] دون اسم الربوبية ليؤذن بنوعى الفقر، فإِنه كما تقدم نوعان:
فقر إِلى ربوبيته وهو فقر المخلوقات بأَسرها، وفقر إِلى أُلوهيته وهو فقر أَنبيائه ورسله وعباده الصالحين، وهذا هو الفقر النافع والذى يشير إِليه القوم ويتكلمون عليه ويشيرون إِليه هو الفقر الخاص لا العام، وقد اختلفت عباراتهم عنه ووصفهم له، وكل أَخبر عنه بقدر ذوقه وقدرته على التعبير، قال شيخ الإِسلام الأَنصارى: ((الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة، وهو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى فقر الزهاد وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أَو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذى تكلموا فى شرفه. الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل، وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال، ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات. والدرجة الثالثة: صحة الاضطرار والوقوع فى يد التقطع الوحدانى والاحتباس فى بيداءِ قيد التجريد وهذا فقر الصوفية)).
فقوله: ((الفقر اسم للبراءَة من رؤية الملكة)) يعنى أَن الفقير هو الذى يجرد رؤية الملك لمالكه الحق، فيرى نفسه مملوكة للَّه لا يرى نفسه مالكاً بوجه من الوجوه، ويرى أَعماله مستحقة عليه بمقتضى كونه مملوكاً عبداً مستعملاً فيما أَمره به سيده، فنفسه مملوكة، وأَعماله مستحقة بموجب العبودية، فليس مالكاً لنفسه ولا لشيء من ذراته ولا لشيء من أَعماله. بل كل ذلك مملوك عليه مستحق عليه، كرجل اشترى عبداً بخالص ماله ثم علّمه بعض الصنائع، فلما تعلمها قال له: اعمل وَأَدّ إِلى فليس لك فى نفسك ولا فى كسبك شيء، فلو حصل بيد هذا العبد من الأَموال والأَسباب ما حصل لم ير له فيها شيئاً، بل يراه كالوديعة فى يده، وأَنها أَموال أُستاذه وخزائنه ونعمه بيد عبده، مستودعاً متصرفاً فيها لسيده لا لنفسه، كما قال عبد الله ورسوله وخيرته من خلقه: ((والله إِنى لا أَعطى أحداً ولا أَمنع أَحداً، وإِنما أَنا قاسم أَضع حيث أُمرت))، فهو متصرف فى تلك الخزائن الأَمر المحض تصرف العبد المحض الذى وظيفته تنفيذ أَوامر سيده، فالله هو المالك الحق، وكل ما بيد خلقه هو من أَمواله وأَملاكه وخزائنه أَفاضها عليهم ليمتحنهم فى البذل والإِمساك، وهل يكون ذلك منهم على شاهد العبودية لله عَزَّ وجلَّ، فيبذل أَحدهم الشيء رغبة فى ثواب الله ورهبة من عقابه وتقرباً إِليه وطلباً لمرضاته؟ أَم يكون البذل والإِمساك منهم صادراً عن مراد النفس وغلبة الهوى وموجب الطبع فيعطى لهواه ويمنع لهواه؟ فيكون متصرفاً تصرف المالك لا المملوك، فيكون مصدر تصرفه الهوى ومراد النفس، وغايته الرغبة فيما عند الخلق من جاه أَو رفعة أو منزلة أَو مدح أَو حظ من الحظوظ، أَو الرهبة من فوت شيء من هذه الأَشياء، وإِذا كان مصدر تصرفه وغايته هو هذه الرغبة والرهبة رأَى نفسه لا محالة مالكاً، فادعى الملك وخرج عن حد العبودية ونسى فقره، ولو عرف نفسه حق المعرفة لعلم أَنما هو مملوك ممتحن فى صورة ملك متصرف كما قال تعالى: {ثُمّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}* [يونس: 14]، وحقيق بهذا الممتحن أَن يوكل إِلى ما ادعته نفسه من الحالات والمَلَكات مع المالك الحق سبحانه، فإِن من ادعى لنفسه حالة مع الله سبحانه وكل إِليها، ومن وكل إِلى شيء غير الله فقد فتح له باب الهلاك والعطب، وأَغلق عنه باب الفوز والسعادة، فإِن كل شيء ما سوى الله باطل، ومن وكل إِلى الباطل بطل عمله وضل سعيه ولم يحصل إِلا على الحرمان، فكل من تعلق [بشيء غير] الله انقطع به أَحوج ما كان إِليه، كما قال تعالى: {إِذْ تَبَرّأَ الّذِينَ اتّبِعُواْ مِنَ الّذِينَ اتّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ}* [البقرة: 166]،
فالأَسباب التى تقطعت بهم هى العلائق التى بغير الله ولغير الله، تقطعت بهم أَحوج ما كانوا إليها، وذلك لأَن تلك الغايات لما اضمحلت وبطلت اضمحلت أَسبابها وبطلت، فإِن الأَسباب تبطل ببطلان غاياتها وتضمحل باضمحلالها، وكل شيء هالك إِلا وجهه سبحانه، وكل عمل باطل إِلا ما أُريد به وجهه. وكل سعى لغيره باطل ومضمحل، وهذا كما يشاهده الناس فى الدنيا من اضمحلال السعى والعمل والكد والخدمة التى يفعلها العبد لمتولٍ أَو أَمير أَو صاحب منصب أَو مال، فإِذا زال ذلك الذى عمل له عدم ذلك العمل وبطل ذلك السعى ولم يبق فى يده سوى الحرمان، ولهذا يقول الله تعالى يوم القيامة: ((أليس عدلاً منى أَنى أُولى كل رجل منكم ما كان يتولى فى الدنيا))، فيتولى عباد الأصنام والأَوثان أَصنامهم وأَوثانهم فتتساقط بهم فى النار، ويتولى عابدو الشمس والقمر آلهتهم، فإِذا كوِّرت الشمس وانتثرت النجوم اضمحلت تلك العبادة وبطلت وصارت حسرة عليهم: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النّارِ}* [البقرة: 167]، ولهذا كان المشرك من أَخسر الناس صفقة وأغبنهم يوم معاده، فإِنه يحال على مفلس كل الإِفلاس بل على عدم، والموحد حوالته على المليء الكريم، فيا بُعدَ ما بين الحوالتين.
وقوله: ((البراءَة من رؤية الملكة)) ولم يقل من الملكة لأن الإِنسان قد يكون فقيراً لا ملكة له فى الظاهر وهو عرى عن التحقق بنعت الفقر الممدوح أَهله الذين لا يرون ملكة إلا لمالكها الحق ذى الملك والملكوت، وقد يكون العبد قد فوض إِليه من ذلك شيء وجعل كالخازن فيه، كما كان سليمان بن داود أُوتى ملكاً لا ينبغى لأَحد من بعده، وكذلك الخليل وشعيب والأَغنياءُ من الأَنبياءِ، [عليهم الصلاة والسلام] وكذلك أَغنياءُ الصحابة، فهؤلاء لم يكونوا بريئين من الملكة فى الظاهر وهم بريئون من رؤية الملكة لنفوسهم فلا يرون لها ملكاً حقيقياً، بل يرون ما فى أَيديهم لله عارية ووديعة فى أَيديهم ابتلاهم به لينظر هل يتصرفون فيه تصرف العبيد أَو تصرف الملاك الذين يعطون لهواهم ويمنعون لهواهم، فوجود المال فى يد الفقير ليس يقدح فى فقره، إِنما يقدح فى فقره رؤيته لملكته، فمن عوفى من رؤية الملكة لم يتلوث باطنه بأَوساخ المال وتعبه وتدبيره واختياره، وكان كالخازن لسيده الذى ينفذ أَوامره فى ماله، فهذا لو كان بيده من المال [مثال] جبال الدنيا لم يضره ومن لم يعاف من ذلك ادعت نفسه الملكة وتعلقت به النفس تعلقها بالشيء المحبوب المعشوق، فهو أَكبر همه ومبلغ علمه، إِن أعطى رضى، وإِن منع سخط، فهو عبد الدينار والدرهم، يصبح مهموماً ويمسى كذلك [فيبيت] مضاجعاً له، تفرح نفسه إذا ازداد وتحزن وتأَسف إِذا فات منه شيء، بل يكاد يتلف إِذا توهمت نفسه الفقر وقد يؤثر الموت على الفقر، والأَول مستغن بمولاه المالك الحق الذى بيده خزائن السموات والأَرض، وإِذا أَصاب المال الذى فى يده نائبة رَأَى أَن المالك الحق هو الذى أَصاب مال نفسه فما للعبد وما للجزع والهلع، وإِنما تصرف مالك المال فى ملكه الذى هو وديعة فى يد مملوكه، فله الحكم فى ماله: إِن شاءَ أَبقاه، وإِن شاءَ ذهب به وأَفناه، فلا يتهم مولاه فى تصرفه فى ملكه ويرى تدبيره هو موجب الحكمة فليس لقلبه بالمال تعلق ولا له به اكتراث، لصعوده عنه وارتفاع همته إِلى المالك الحق، فهو غنى به وبحبه ومعرفته وقربه منه عن كل ما سواه، وهو فقير إِليه دون ما سواه، فهذا هو البريء عن رؤية الملكة الموجبة للطغيان، كما قال تعالى: {كَلاّ إِنّ الإِنسَانَ لَيَطْغَىَ * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى}* [العلق: 6-7]، ولم يقل: إن استغنى، بل جعل الطغيان ناشئاً عن رؤية غنى نفسه، ولم يذكر هذه الرؤية فى سورة الليل بل قال: {وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ}* [الليل: 8-10]، وهذا- والله أَعلم لأَنه ذكر موجب طغيانه وهو رؤية غنى نفسه، وذكر فى سورة الليل موجب هلاكه وعدم تيسيره لليسرى، وهو استغناؤه عن ربه بترك طاعته وعبوديته، فإِنه لو افتقر إِليه لتقرب إِليه بما أَمره من طاعته، فعل المملوك الذى لا غنى له عن مولاه طرفة عين ولا يجد بداً من امتثال أَوامره، ولذلك ذكر معه بخله وهو تركه إِعطاء ما وجب عليه من الأَقوال والأَعمال وأداءِ المال، وجمع إِلى ذلك تكذيبه بالحسنى وهى التى وعد بها أَهل الإِحسان بقوله: {لّلّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ}* [يونس: 26]، ومن فسرها بشهادة أَن لا إِله إِلا الله فلأَنها أَصل الإِحسان، وبها تنال الحسنى. ومن فسرها بالخلف فى الإِنفاق فقد هضم المعنى حقه وهو أَكبر من ذلك. وإِن كان الخلف جزءاً من أَجزاءِ الْحسنى، والمقصود أَن الاستغناءَ عن الله سبب هلاك العبد وتيسيره لكل عسرى، ورؤيته غنى نفسه سبب طغيانه، وكلاهما مناف للفقر والعبودية.
قوله: ((الدرجة الأُولى فقر الزهاد، وهو نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها ذماً أو مدحاً، والسلامة منها طلباً أَو تركاً، وهذا هو الفقر الذى تكلموا فى شرفه)). فحاصل هذه الدرجة فراغ اليد والقلب من الدنيا والذهول عن الفقر منها والزهد فيها، وعلامة فراغ [اليد نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أو طلباً فهو لا يضبط يده] مع وجودها شحاً وضناً بها، ولا يطلبها مع فقدها سؤالاً وإِلحافاً وحرصاً. فهذا الإعراض والنفض دال على سقوط منزلتها من القلب، إِذ لو كان لها فى القلب منزلة لكان الأَمر بضد ذلك، وكان يكون حاله الضبط مع الوجود لغناه بها، ولكان يطلبها مع فقدها لفقره إِليها. وأَيضاً من أَقسام الفراغ إِسكات اللسان عنها ذماً ومدحاً لأَن من اهتم بأَمر وكان له فى قلبه موقع اشتغل اللسان بما فاض على القلب من أَمره مدحاً أَو ذماً، فإنه إن حصلت له مدحها، وإِن فاتته ذمها. ومدحها وذمها علامة موضعها من القلب وخطرها فحيث اشتغل اللسان بذمها كان بذلك لخطرها فى القلب، لأَن الشيء إِنما يذم على قدر الاهتمام به، والاعتناءُ شفاءُ الغيظ منه بالذم. وكذلك تعظيم الزهد فيها إِنما هو على قدر خطرها فى القلب، إِذ لولا خطرها وقدرها لما صار للزهد فيها خطر، وكذلك مدحها دليل على خطرها وموقعها من قلبه، فإِن من أَحب شيئاً أَكثر من ذكره، وصاحب هذه الدرجة لا يضبطها مع وجودها ولا يطلبها مع عدمها ولا يفيض من قلبه على لسانه مدح لها يدل على محبتها، ولا يفيض من القلب على اللسان ذم يدل على موقعها وخطرها، فإِن الشيء إِذا صغر أَعرض القلب عنه مدحاً أَو ذماً، وكذلك صاحب هذه الدرجة سالم عن النظر إلى تركها وهو الذى تقدم من ذكر خطر الزهد فيها، لأَن نظر العبد إِلى كونه تاركاً لها زاهداً فيها تتشرف نفسه بالترك [وتتلذذ به دليل على شغله بها ولو على وجه الترك]، وذلك من خطرها وقدرها. ولو صغرت فى القلب لصغر تركها والزهد فيها لو اهتم القلب بمهم من المهمات المطلوبة التى هى مذاقات أَهل القلوب والأَرواح لذهل عن النظر إِلى نفسه والترك بالزهد. فصاحب هذه الدرجة معافى من هذه الأَمراض كلها: من مرض الضبط، والطلب، والذم، والمدح، والترك. فهى بأَسرها، وإِن كان بعضها ممدوحاً فى العلم مقصوداً يستحق المتحقق به الثواب والمدح، لكنها آثار وأَشكال مشعرة بأَن صاحبها لم يذق حال الخلو والتجريد الباطن، فضلاً عن أَن يتحقق من الحقائق المتوقعة المتنافس فيها، فصاحب هذه الدرجة متوسط بين درجتى الداخل بكليته فى الدنيا قد ركن إِليها واطمأَن إِليها واتخذها وطناً وجعلها له سكناً، وبين من نفضها بالكلية من قلبه ولسانه، وتخلص من قيودها ورعونتها وآثارها، وارتقى إِلى ما يسر القلب ويحييه ويفرحه ويبهجه من جذبات العزة فهو فى البرزخ كالحامل المقرب ينتظر ولادة الروح والقلب صباحاً ومساءً، فإِن من لم تولد روحه وقلبه ويخرج من مشيمة نفسه ويتخلص من ظلمات طبعه وهواه وإِرادته فهو كالجنين فى بطن أُمه الذى لم ير الدنيا وما فيها. فهكذا هذا الذى بعد فى مشيمة النفس، والظلمات الثلاث هى: ظلمة النفس، وظلمة الطبع، وظلمة الهوى. فلا بد من الولادة مرتين كما قال المسيح للحواريين: إِنكم لن تجلوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين. ولذلك كان النبى ﷺ أَباً للمؤمنين كما فى قراءَة أُبِى: ((النبى أَولى بالمؤمنين من أَنفسهم وهو أَب لهم))، ولهذا تفرع على هذه الأبوة أَن جعلت أَزواجه أُمهاتهم، فإن أَرواحهم وقلوبهم ولدت به ولادة أُخرى غير ولادة الأُمهات، فإِنه أَخرج أَرواحهم وقلوبهم من ظلمات الجهل والضلال والغى إِلى نور العلم والإِيمان وفضاءِ المعرفة والتوحيد، فشاهدت حقائق أُخر وأُموراً لم يكن لها بها شعور قبله، قال تعالى: {الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظّلُمَاتِ إِلَى النّورِ بِإِذْنِ رَبّهِمْ}* [إبراهيم: 1]، وقال: {هُوَ الّذِي بَعَثَ فِي الاُمّيّينَ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}* [الجمعة: 2] وقال: {لَقَدْ مَنّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكّيهِمْ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مّبِينٍ}* [آل عمران: 164]،
والمقصود أَن القلوب فى هذه الولادة ثلاثة: قلب لم يولد ولم يأْن له بل هو جنين فى بطن الشهوات والغى والجهل والضلال وقلب قد ولد وخرج إِلى فضاءِ التوحيد والمعرفة وتخلص من مشيمة الطباع وظلمات النفس والهوى، فقرت عينه بالله وقرت عيون به وقلوب، وأَنست بقربه الأَرواح، وذكرت رؤيته بالله، فاطمأَن بالله، وسكن إِليه، وعكف بهمته عليه، وسافرت هممه وعزائمه إِلى الرفيق الأَعلى، لا يقر بشيء غير الله، ولا يسكن إِلى شيء سواه، ولا يطمئن بغيره، يجد من كل شيء سوى الله عوضاً ومحبته وقوته، لا يجد من الله عوضاً أبداً، فذكره حياة قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جدب قلبه ورضاه غاية مطلبه، ومحبته قوته، ومعرفته أَنيسه، عدوه من جذب قلبه عن الله: ((وإِن كان القريب المصافيا)). ووليه من رده إِلى الله وجمع قلبه عليه ((وإن كان البعيد المناويا))، فهذان قلبان متباينان غاية التباين. وقلب ثالث فى البرزخ ينتظر الولادة صباحاً ومساءً، قد أَصبح على فضاءِ التجريد، وآنس من خلال الديار أَشعة التوحيد، تأْبى غلبات الحب والشوق إِلا تقرباً إِلى من السعادة كلها بقربه، والحظ كل الحظ فى طاعته وحبه، وتأْبى غلبات الطباع إِلا جذبه وإيقافه وتعويقه فهو بين الدّاعين تارة وتارة قد قطع عقبات وآفات، وبقى عليه مفاوز وفلوات. والمقصود أَن صاحب هذا المقام إِذا تحقق به ظاهراً وباطناً، وسلم عن نظر نفسه إِلى مقامه واشتغاله به ووقوفه عنده، فهو فقير حقيقى، ليس فيه قادح من القوادح التى تحطه عن درجة الفقر.
واعلم أَنه يحسن إِعمال اللسان فى ذم الدنيا فى موضعين: أَحدهما موضع التزهيد فيها للراغب، والثانى عندما يرجع به داعى الطبع والنفس إِلى طلبها ولا يأْمن من إِجابة الداعى، فيستحضر فى نفسه قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها، فإنه إن تم عقله وحضر رشده زهد فيها ولا بد.
وقوله: ((الدرجة الثانية: الرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل وهو يورث الخلاص من رؤية الأَعمال، ويقطع شهود الأَحوال ويمحص من أَدناس مطالعة المقامات))، فهذه الدرجة أَرفع من الأولى وأَعلى، والأُولى كالوسيلة إِليها، لأَن فى الدرجة الأولى يتخلى بفقره عن أَن يتأَله غير مولاه الحق، وأَن يضيع أَنفاسه فى غير مرضاته، وأَن يفرق همومه فى غير محابه، وأَن يؤثر عليه فى حال من الأَحوال. فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله وخلوص [الوداد والمحبة]، فيصبح ويمسى ولا هم له غير ربه، قد قطع همه بربه عنه جميع الهموم وعطلت إرادته جميع الإِرادات ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه، كما قيل:
كان يسبى القلب فى كل ليلـه ثمانون بـل تسعون نفسـاً وأَرجـــح
يهيم بهـذا ثـم يأْلــف غيــره ويسلوهـم من فوره حين يصبـح
وقــد كان قلبى ضائعاً قبل حبكم فكــان بحب الخلـق يلهو ويمرح
فلمــا دعا قلبـى هواك أَجابــه فلست أَراه عـن خـبائك يبرح
حرمت الأَمانى منك إِن كنت كاذباً وإِن كنت فـى الدنيا بغيرك أَفرح
وإِن كان شيء فى الوجود سواكـم يقرَّ به القلب الجريـح ويفــرح
إِذا لعبـت أَيـدى الهوى بمحبكـم فليس له عن بابكـم متـزحزح
فـإِن أَدركته غربـة عن دياركـم فحبكـم بيـن الحشا ليس يبـرح
وكم مشتر فى الخلق قد سام قلبــه فلـم يـره إِلا لحبـــك يصلح
هـوى غيركم نار تلظى ومحبـس وحبكـم الفردوس أَو هو أَفسـح
فيا ضيـم قلـب قـد تعلق غيركم ويا رحمة ممـا يجــول ويكـدح
والله سبحانه لم يجعل لرجل من قلبين فى جوفه، فبقدر ما يدخل القلب من هم وإِرادة وحب يخرج منه هم وإِرادة وحب يقابله، فهو إِناءٌ واحد والأَشربة متعددة، فأَى شراب ملأَه لم يبق فيه موضع لغيره، وإِنما يمتليء الإناءُ بأَعلى الأَشربة إِذا صادفه خالياً، فأَما إِذا صادفه ممتلئاً من غيره لم يساكنه حتى يخرج ما فيه ثم يسكن موضعه، كما قال بعضهم:
أَتانى هواها قبل أَن أَعرف الهوى فصـادف قلبـاً خاليــاً فتمكنـا
ففقر صاحب هذه الدرجة تفريغه إِنائه من كل شراب غير شراب المحبة والمعرفة، لأَن كل شراب فمسكر ولا بد، و((ما أَسكر كثيره فقليله حرام))، وأَين سكر الهوى والدنيا من سكر الخمر، وكيف يوضع شراب التسليم-الذى هو أَعلى أَشربة المحبين-فى إِناءٍ ملآن بخمر الدنيا والهوى ولا يفيق من سكره ولا يستفيق، ولو فارق هذا السكر القلب لطار بأَجنحة الشوق إِلى الله والدار الآخرة، ولكن رضى المسكين بالدون، وباع حظه من قرب الله ومعرفته وكرامته بأَخس الثمن صفقة خاسر مغبون، فسيعلم أى حظ أَضاع إِذا فاز المحبون، وخسر المبطلون.
وإِذا كان التلوث بالأَعراض قيداً يقيد القلوب عن سفرها إِلى بلد حياتها ونعيمها الذى لا سكن لها غيره، ولا راحة لها إِلا فيه، ولا سرور لها إِلا فى منازله، ولا أَمن لها إِلا بين أَهله، فكذلك الذى باشر قلبه روح التألة، وذاق طعم المحبة، وآنس نار المعرفة، له أَعراض دقيقة حالية تقيد قلبه عن مكافحة صريح الحق، وصحة الاضطرار إِليه والفناءِ التام به، والبقاءِ الدائم بنوره الذى هو المطلوب من السير والسلوك، وهو الغاية التى شمر إِليها السالكون، والعلم الذى أَمَّه العابدون ودندن حوله العارفون، فجميع ما يحجب عنه أَو يقيد القلب نظره وهمه يكون حجاباً يحجب الواصل ويوقف السالك وينكس الطالب، فالزهد فيه على أَصحاب الهمم العلية متعين تعين الواجب الذى لا بد منه، وهو كزهد السالك إِلى الحج فى الظلال والمياه التى يمر بها فى المنازل، فالأَول مقيد عن الحقائق برؤية الأعراض، والثانى مقيد عن النهايات برؤية الأَحوال، فتقيد كل منهما عن الغاية المطلوبة، وترتب على هذا القيد عدم النفوذ، وذلك مؤخر مخلف.
و إذا عرف العبد هذا وانكشف له [علمه] تعين عليه الزهد فى الأَحوال والفقر منها، كما تعين عليه الزهد فى المال والشرف وخلو قلبه منهما. ولما كان موجب الدرجة الأولى من الفقر الرجوع إِلى الآخرة، فأَوجب الاستغراق فى هم الآخرة نفض اليدين من الدنيا ضبطاً أَو طلباً، وإِسكات اللسان عنها مدحاً أَو ذماً. وكذلك كان موجب هذه الدرجة الثانية الرجوع إِلى فضل الله [عز وجل] ومطالعة سبقه الأَسباب والوسائط، فبفضل الله ورحمته وجدت منه الأَقوال الشريفة، والمقامات العلية، وبفضله ورحمته وصلوا إِلى رضاه ورحمته، وقربه وكرامته وموالاته
وكان سبحانه هو الأَول فى ذلك كله كما أَنه الأَول فى كل شيء، وكان هو الآخر فى ذلك كما هو الآخر فى كل شيء، فمن عبده باسمه الأَول والآخر حصلت له حقيقة هذا الفقر، فإن انضاف إِلى ذلك عبوديته باسمه الظاهر والباطن فهذا هو العارف الجامع لمتفرقات التعبد ظاهراً وباطناً فعبوديته باسمه الأَول تقتضى التجرد من مطالعة الأسباب والوقوف عليها والالتفات إِليها، وتجريد النظر إِلى مجرد سبق فضله ورحمته، وأَنه هو المبتديء بالإِحسان من غير وسيلة من العبد، إِذ لا وسيلة له فى العدم قبل وجوده، وأَى وسيلة كانت هناك، وإِنما هو عدم محض، وقد أَتى عليه [حين] من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، فمنه سبحانه الإِعداد ومنه الإِمداد وفضله سابق على الوسائل، والوسائل من مجرد فضله وجوده لم تكن بوسائل أُخرى. فمن نزَّل اسمه الأَول على هذا المعنى أَوجب له فقراً خاصاً وعبودية خاصة، وعبوديته باسمه الآخر تقتضى أيضاً [عدم ركونه ووثوقه بالأسباب والوقوف معها فإنها تعدم لا محالة وتنقضى] بالآخرية، ويبقى الدائم الباقى بعدها، فالتعلق بها تعلق بما يعدم وينقضى، والتعلق بالآخر عز وجل تعلق بالحى الذى لا يموت ولا يزول فالمتعلق به حقيق أَن لا يزول ولا ينقطع، بخلاف التعلق بغيره مما له آخر يفنى به، كذا نظر العارف إِليه بسبق الأَولية حيث كان قبل الأَسباب كلها، فكذلك نظره إِليه ببقاء الآخرية حيث يبقى بعد الأسباب كلها، فكان الله ولم يكن شيء غيره، وكل شيء هالك إلا وجهه. فتأمل عبودية هذين الاسمين وما يوجبانه من صحة الاضطرار إِلى الله وحده ودوام الفقر إِليه دون كل شيءٍ سواه، وأَن الأَمر ابتدأَ منه وإِليه يرفع، فهو المبتديء بالفضل حيث لا سبب ولا وسيلة، وإِليه ينتهى الأمر حيث تنتهى الأَسباب والوسائل فهو أَول كل شيء وآخره، وكما أَنه رب كل شيء وفاعله وخالقه وبارئه، فهو إلهه وغايته التى لا صلاح له ولا فلاح ولا كمال إِلا بأَن يكون هو غايته كما أنه لا وجود له إلا بكونه وحده هو ربه وخالقه وكذلك لا كمال له ولا صلاح إلا بكونه تعالى وحده هو غايته وحده ونهايته ومقصوده، فهو الأَول الذى ابتدأَت منه المخلوقات، والآخر الذى انتهت إِليه عبوديتها وإِرادتها ومحبتها، فليس وراءَ الله شيء يقصد ويعبد ويتأَله كما أَنه ليس قبله شيء يخلق ويبرأَ، فكما كان واحداً فى إِيجادك فاجعله واحداً فى تأَلهك وعبوديتك، وكما ابتدأ وجودك وخلقك منه فاجعله نهاية حبك وإِرادتك وتأَلهك إِليه لتصح لك عبوديته باسمه الأَول والآخر، وأَكثر الخلق تعبدوا له باسمه الأَول، وإِنما الشأْن فى التعبد له باسمه الآخر فهذه عبودية الرسل وأَتباعهم، فهو رب العالمين وإِله المرسلين سبحانه وبحمده. وأَما عبوديته باسمه الظاهر فكما فسره النبى ﷺ بقوله: ((وأَنتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيءٌ، وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيء)).
فإِذا تحقق العبد علوه المطلق على كل شيء بذاته، وأَنه ليس فوقه شيء البتة، وأَنه قاهر فوق عباده يدبر الأَمر من السماءِ إِلى الأَرض ثم يعرج إِليه {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطّيّبُ وَالْعَمَلُ الصّالِحُ يَرْفَعُهُ}* [فاطر: 10]، صار لقلبه [أَملاً] يقصده، ورباً يعبده، وإِلهاً يتوجه إِليه. بخلاف من لا يدرى أَين ربه فإِنه ضائع مشتت القلب ليس لقلبه قبلة يتوجه نحوها ولا معبود يتوجه إِليه قصده. وصاحب هذه الحال إِذا سلك وتأله وتعبد طلب قلبه إِلهاً يسكن إِليه ويتوجه إِليه، وقد اعتقد أَنه ليس فوق العرش شيء إِلا العدم، وأَنه ليس فوق العالم إِله يعبد ويصلى له ويسجد، وأَنه ليس على العرش من يصعد إِليه الكلم الطيب ولا يرفع إِليه العمل الصالح، جال قلبه فى الوجود جميعهُ فوقع فى الاتحاد ولا بد، وتعلق قلبه بالوجود المطلق السارى فى المعينات، فاتخذ إِلهه من دون الإِله الحق وظن أَنه قد وصل إِلى عين الحقيقة، وإِنما تأَله وتعبد لمخلوق مثله، أو لخيال نحته بفكره واتخذه إِلهاً من دون الله سبحانه، وإِله الرسل وراءَ ذلك كله: {إِنّ رَبّكُمُ اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ يُدَبّرُ الأمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ}* [يونس: 3- 4] وقال تعالى: {اللّهُ الّذِي خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتّةِ أَيّامٍ ثُمّ اسْتَوَىَ عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكّرُونَ * يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرّحِيمُ * الّذِيَ أَحْسَنَ كُلّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مّن مّآءٍ مّهِينٍ * ثُمّ سَوّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ قَلِيلاً مّا تَشْكُرُونَ}* [السجدة: 4- 9].
فقد تعرف سبحانه إِلى عباده بكلامه معرفة لا يجحدها إِلا من أَنكره سبحانه، وإِن زعم أَنه مقربه. والمقصود أَن التعبد باسمه الظاهر يجمع القلب على المعبود، ويجعل له رباً يقصده وصمداً يصمد إِليه فى حوائجه وملجأً يلجأُ إِليه فإِذا استقر ذلك فى قلبه وعرف ربه باسمه الظاهر استقامت له عبوديته وصار له معقل وموئل يلجأُ إِليه ويهرب إِليه ويفر كل وقت إِليه. وأَما تعبده باسمه الباطن فأَمر يضيق نطاق التعبير عن حقيقته، ويكلّ اللسان عن وصفه، وتصطلم الإِشارة إِليه وتجفو العبارة عنه، فإِنه يستلزم معرفة بريئة من شوائب التعطيل مخلصة من فرث التشبيه، منزهة عن رجس الحلول والاتحاد وعبارة مؤدية للمعنى كاشفة عنه، وذوقاً صحيحاً سليماً من أَذواق أهل الانحراف. فمن رزق هذا فهم معنى اسمه الباطن وصح له التعبد به. وسبحان الله كم زلت فى هذا المقام أَقدام وضلت فيه أَفهام، ونظم فيه الزنديق بلسان الصديق، فاشتبه فيه إِخوان النصارى بالحنفاء المخلصين، لنبو الأَفهام عنه وعزة تخلص الحق من الباطل فيه، والتباس ما فى الذهن بما فى الخارج إِلا على من رزقه الله بصيرة فى الحق، ونوراً يميز به بين الهدى والضلال، وفرقاناً يفرق به بين الحق والباطل، ورزق مع ذلك اطلاعاً على أَسباب الخطأْ وتفرق الطرق ومثار الغلط، فكان له بصيرة فى الحق والباطل، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إِحاطة الرب [تبارك وتعالى] بالعالم وعظمته، وأَن العوالم كلها فى قبضته، وأَن السموات السبع والأَرضين السبع فى يده كخردلة فى يد العبد، قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنّ رَبّكَ أَحَاطَ بِالنّاسِ}* [الإسراء: 60]، وقال: {واللهُ مِنْ وَرَآئِهِمْ مُحِيطُ}* [البروج: 20]، ولهذا يقرن سبحانه بينَ هذين الاسمين الدالين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أَنه الظاهر وأَنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإِحاطة وأَنه لا شيء دونه، كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْعَظِيمُ}* [البقرة: 255] [الشورى: 4]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِىُّ الْكَبِيرُ}* [سبأ: 23]، وقال: {وَللّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلّواْ فَثَمّ وَجْهُ اللّهِ إِنّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}* [البقرة: 115]، هو تبارك وتعالى كما أَنه العالى على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أَقرب إِلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه وكل شيء فى قبضته وليس شيء فى قبضة نفسه، فهذا أَقرب لإِحاطة العامة.
وأما القرب المذكور فى القرآن والسُّـنَّة فقرب خاص من عابديه وسائليه وداعيه، وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدّاعِ إِذَا دَعَانِ}* [البقرة: 186]، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنّ رَحْمَةَ اللّهِ قَرِيبٌ مّنَ الْمُحْسِنِينَ}* [الأعراف: 56]، فوجد الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهى مؤنثة [إيذاناً] بقربه تعالى من المحسنين، فكأنه قال: إِن الله برحمته قريب من المحسنين. وفى الصحيح عن النبى ﷺ قال: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ))، و((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الرَّبُّ مِنْ عَبْدِهِ فِى جَوْفِ اللَّيْلِ))، فهذا قرب خاص غير قرب الإِحاطة وقرب البطون. وفى الصحيح من حديث أَبى موسى أَنهم كانوا مع النبى ﷺ فى سفر، فارتفعت أصواتهم بالتكبير فقال: ((أَيُّهَا النَّاسُ ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ [فإنكم] لا تَدْعُونَ أَصمَّ وَلا غاَئِباً، إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، أَقْرَبُ إِلَى أَحدِكُمْ مِنْ عُنُقِ رَاحِلَتِهِ))، فهذا قربه من داعيه وذاكره، يعنى فأى حاجة بكم إِلى رفع الأَصوات وهو لقربه يسمعها وإِن خفضت، كما يسمعها إِذا رفعت، فإِنه سميع قريب. وهذا القرب هو من لوازم المحبة فكلما كان الحب أَعظم كان القرب أَكثر، وقد استولت محبة المحبوب على قلب محبه بحيث يفنى بها عن غيرها، ويغلب محبوبه على قلبه حتى [كأنه يراه ويشاهده]. إن لم يكن عنده معرفه صحيحة بالله وما يجب له و يستحيل عليه وإِلا طرق باب الحلول إن لم يلجه، وسببه ضعف تمييزه وقوة سلطان المحبة، واستيلاءُ المحبوب على قلبه بحيث يغيب عن ملاحظة سواه، وفى مثل هذه الحال يقول: سبحانى، أَو: ما فى الجبة إِلا الله. ونحو هذا من الشطحات التى نهايتها أَن يغفر له ويعذر لسكره وعدم تمييزه فى تلك الحال. فالتعبد بهذا الاسم هو التعبد بخالص المحبة وصفو الوداد، وأَن يكون الإله أَقرب إِليه من كل شيء وأَقرب إِليه من نفسه، مع كونه ظاهراً ليس فوقه شيء، ومن كيف ذهنه وغلظ طبعه عن فهم هذا فليضرب عنه صفحاً إلى ما هو أَولى به، فقد قيل:
إِذا لَمْ تَسْتَطعْ شَيئاً فَدَعْه وجاوزه إِلى ما تستطيـع
فمن لم يكن له ذوق من قرب المحبة، ومعرفة بقرب المحبوب من محبة غاية القرب، وإِن كان بينهما غاية المسافة- ولا سيما إِذا كانت المحبة من الطرفين، وهى محبة بريئة من العلل والشوائب والأَعراض القادحة فيها- فإِن المحب كثيراً ما يستولى محبوبه على قلبه وذكره ويفنى عن غيره ويرق قلبه وتتجرد نفسه، فيشاهد محبوبه كالحاضر معه القريب إِليه وبينهما من البعد ما بينهما، وفى هذه الحال يكون فى قلبه وجوده العلمى، وفى لسانه وجوده اللفظى، فيستولى هذا الشهود عليه ويغيب به، فيظن أَن فى عينه وجوده الخارجى للغلبة حكم القلب والروح، كما قيل:
خيالك فى عينى وذكرك فى فمى ومثواك فى قلبـى فأَين تغيب
هذا ويكون ذلك المحبوب بعينه بينه وبين عدوه من البعد وما بينهما وإِن قربت الأَبدان وتلاصقت الديار. والمقصود أَن المثال العلمى غير الحقيقة الخارجية وإِن كان مطابقاً لها لكن المثال العلمى محله القلب والحقيقة الخارجية محلها الخارج فمعرفة هذه الأَسماءِ الأَربعة وهى: الأَول، والآخر، والظاهر، والباطن هى أَركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أَن يبلغ فى معرفتها إِلى حيث ينتهى به قواه وفهمه.
واعلم أَن لك أَنت أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، بل كل شيء فله أَول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفس وأَدنى من ذلك وأكثر. فأَولية الله عَزَّ وجَلَّ سابقة على أَولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه فأَوليته سبقه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء، وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضى العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه وأحاط بباطنه. وبطونه سبحانه إِحاطته بكل شيء [بحيث يكون أقرب إليه من نفسه وهذا قرب غير قرب المحب] من حبيبه، هذا لون وهذا لون. فمدار هذه الأَسماءِ الأَربعة [على الإحاطة وهى إحاطتان زمانيه ومكانيه فأحاطت] أَوليته وآخريته بالقبل والبعد، فكل سابق انتهى إِلى أَوليته وكل آخر انتهى إِلى آخريته فأَحاطت أَوليته وآخريته بالأَوائل والأَواخر، وأَحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن، فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إِلا والله [دونه] [وما من أول إلا والله قبله وما من آخر إلا والله بعده] فالأَول قدمه، والآخر دوامه وبقاؤه والظاهر علوه وعظمته، والباطن قربه ودنوه. فسبق كل شيء بأَوليته وبقى بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه [فلا توارى منه سماء سماء ولا أرض أرضا]، ولا يحجب عنه ظاهر باطن بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية، فهذه الأَسماءُ الأَربعة تشتمل على أَركان التوحيد، فهو الأَول فى آخريته والآخر فى أَوليته، والظاهر فى بطونه والباطن فى ظهوره، لم يزل أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً.
والتعبد بهذه الأَسماءِ رتبتان: الرتبة الأولى أَن تشهد الأَولية منه تعالى فى كل شيء والآخرية بعد كل شيء والعلو والفوقية فوق كل شيء والقرب والدنو دون كل شيء، فالمخلوق يحجبه مثله عما هو دونه فيصير الحاجب بينه وبين المحجوب، والرب جل جلاله ليس دونه شيء أَقرب إِلى الخلق منه والمرتبة الثانية من التعبد أَن يعامل كل اسم بمقتضاه، فيعامل سبقه تعالى بأَوليته لكل شيء [وسبقه] بفضله وإِحسانه الأَسباب كلها بما يقتضيه ذلك من إِفراده وعدم الإِلتفات إِلى غيره والوثوق بسواه والتوكل على غيره، فمن ذا الذى شفع لك فى الأَزل حيث لم تكن شيئاً مذكوراً حتى سماك باسم الإسلام، ووسمك بسمة الإِيمان، وجعلك من أَهل قبضة اليمين، وأَقطعك فى ذلك الغيب عمالات المؤمنين، فعصمك عن العبادة للعبيد، وأَعتقك من التزام الرق لمن له شكل ونديد، ثم وجه وجهة قلبك إِليه [تبارك وتعالى] دون ما سواه، فاضرع إِلى الذى عصمك من السجود للصنم، وقضى لك بقدم الصدق فى القدم، أَن يتم عليك نعمة هو ابتدأَها وكانت أَوليتها منه بلا سبب منك، واسمُ بهمتك عن ملاحظة الاختيار ولا تركنن إِلى الرسوم والآثار، ولا تقنع بالخسيس الدون، وعليك بالمطالب العالية والمراتب السامية التى لا تنال إِلا [بطاعة الله. فإن الله عز وجل قضى أن لا ينال ما عنده إلا] بطاعته، ومن كان لله كما يريد كان الله له فوق ما يريد، فمن أَقبل إِليه تلقاه من بعيد ومن تصرف [بحوله] وقوته أَلان له الحديد، ومن ترك لأَجله أَعطاه فوق المزيد، ومن أَراد مراده الدينى أَراد ما يريد. ثم اسم بسرك إِلى المطلب، واقصر حبك وتقربك على من سبق فضله وإِحسانه إِليك كل سبب منك، بل هو الذى جاد عليك بالأسباب، وهيأَ لك وصرف عنك موانعها وأَوصلك بها إلى غايتك المحمودة. فتوكل عليه وحده وعامله وحده [وآثر رضاه وحده. وأجعل حبه ومرضاته هو كعبة قلبك التى لا تزال طائفاً بها . مستلماً لأركانها]، واقفاً بملتزمها، فيا فوزك ويا سعادتك إِن اطلع سبحانه على ذلك من قلبك، ماذا يفيض عليك من ملابس نعمه وخلع أفضاله: ((اللَّهُمَّ لا مانع لما أَعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد سبحانك وبحمدك))، ثم تعبد له باسمه الآخر بأَن تجعله وحده غايتك التى لا غاية لك سواه، ولا مطلوب لك وراءَه فكما انتهت إِليه الأَواخر، وكان بعد كل آخر فكذلك اجعل نهايتك إِليه، فإِن إِلى ربك المنتهى، إِليه انتهت الأسباب والغايات فليس وراءَه مرمى ينتهى إِليه. وقد تقدم التنبيه على ذلك وعلى التعبد باسمه الظاهر. وأَما التعبد باسمه الباطن، فإِذا شهدت إِحاطته بالعوالم وقرب العبيد منه وظهور البواطن له وبدوِّ السرائر له وأَنه لا شيء بينه وبينها فعامله بمقتضى هذا الشهود، وطهر له سريرتك فإِنها عنده علانية وأَصلح له غيبك فإِنه عنده شهادة وزكِّ له باطنك فإِنه عنده ظاهر.
فانظر كيف كانت هذه الأَسماءُ الأَربعة جماع المعرفة بالله، وجماع العبودية له. فهنا وقفت شهادة العبد مع فضل خالقه ومنته فلا يرى لغيره شيئاً إِلا به وبحوله وقوته، وغاب بفضل مولاه الحق عن جميع ما منه هو مما كان يستند إِليه أَو يتحلى به أَو يتخذه عقدة أَو يراه ليوم فاقته أَو يعتمد عليه فى [مهم] من مهماته، فكل ذلك من قصور نظره وانعكاسه عن الحقائق والأَصول إِلى الأَسباب والفروع كما هو شأَن الطبيعة والهوى وموجب الظلم والجهل، والإِنسان ظلوم جهول فمن جلى الله سبحانه صدأَ بصيرته وكمَّل فطرته وأوقفه على مبادئ الأُمور وغاياتها ومناطها ومصادرها ومواردها أَصبح كمفلس حقاً من علومه وأَعماله وأَحواله وأَذواقه يقول: أَستغفر الله من علمى ومن عملى، أَى من انتسابى إِليهما وغيبتى بهما عن فضل من ذكرنى بهما وابتدأَنى بإعطائهما من غير تقدم سبب منى يوجب ذلك. فهو لا يشهد غير فضل مولاه وسبق منته ودوامه، فيثيبه مولاه على هذه الشهادة العالية بحقيقة الفقر الأَوسط بين الفقرين الأَدنى والأَعلى ثوابين: أَحدهما الخلاص من رؤية الأَعمال حيث كان يراها ويمتدح بها ويستكثرها فيستغرق بمطالعة الفضل غائباً عنها ذاهباً عنها فانياً عن رؤيتها، الثواب الثانى أَن يقطعه عن شهود الأَحوال- أى عن شهود نفسه فيها متكثرة بها- فإِن الحال محله الصدر والصدر بيت القلب والنفس، فإِذا نزل العطاءُ فى الصدر للقلب وثبتت النفس لتأْخذ نصيبها من العطاءِ فتتمدح به وتدل به وتزهو وتستطيل وتقرر إِنيتها لأَنها جاهلة ظالمة وهذا مقتضى الجهل [والظلم]. فإِذا وصل إِلى القلب نور صفة المنة، وشهد معنى اسمه المنان، وتجلى سبحانه على قلب عبده بهذا الاسم مع اسمه الأَول، ذهل القلب والنفس به وصار العبد فقيراً إِلى مولاه بمطالعة سبق فضله الأَول، فصار مقطوعاً عن شهود أَمر أَو حال ينسبه إِلى نفسه بحيث يكون بشهادته لحاله مفصوماً مقطوعاً عن رؤية عزة مولاه وفاطره وملاحظة صفاته. فصاحب شهود الأَحوال منقطع عن رؤية منة خالقه وفضله ومشاهدة سبق الأَولية للأَسباب كلها، وغائب بمشاهدة عزة نفسه عن عزة مولاه، فينعكس هذا الأمر فى حق هذا العبد الفقير وتشغله رؤية عزة مولاه ومنته ومشاهدة سبقه بالأَولية عن حال يعتز بها العبد أَو يشرف بها. وكذلك الرجوع إلى السبق بمطالعة الفضل يمحص من أَدناس مطالعات المقامات، فالمقام ما كان راسخاً فيه، والحال ما كان عارضاً لا يدوم. فمطالعات المقامات [وشرفه] بها وكونه يرى نفسه صاحب مقام قد حققه وكمله فاستحق أَن ينسب إِليه ويوصف به مثل أَن يقال زاهد صابر خائف راج محب راض، فكونه يرى نفسه مستحقاً بأَن تضاف المقامات إِليه وبأَن يوصف بها- على وجه الاستحقاق لها- خروج عن الفقر إِلى الغنى، وتعد لطور العبودية، وجهل بحق الربوبية فالرجوع إِلى السبق بمطالعة الفضل يستغرق همة العبد ويمحصه ويطهره من مثل هذه الأَدناس، فيصير مصفَّى بنور الله [عز وجل] عن رذائل هذه الأَرجاس.
[الدرجة الثالثة من درجات الفقر]
قوله: ((والدرجة الثالثة صحة الاضطرار، والوقوع فى يد التقطع الوحدانى، والاحتباس فى بدء قيد التجريد، وهذا فقر الصوفية)). وهذه الدرجة فوق الدرجتين السابقتين عند أَرباب السلوك، وهى الغاية التى شمروا إِليها وحاموا حولها، فإِن الفقر الأَول فقر عن الأَعراض الدنيوية، والفقر الثانى فقر عن رؤية المقامات والأَقوال، وهذا الفقر الثالث فقر عن ملاحظة الموجود الساتر للعبد عن مشاهدة الوجود، فيبقى الوجود الحارث فى قبضة الحق عز وجل الهباء المنثور فى الهواءِ، يتقلب بتقليبه إِياه، ويسير فى شاهد العبد كما هو فى الخارج، فتمحو رؤية التوحيد عن العبد شواهد استبداده واستقلاله بأَمر من الأُمور، ولو فى النفس واللمحة والطرفة والهمة والخاطر والوسوسة، إِلا بإِرادة المريد الحق سبحانه وتدبيره وتقديره ومشيئته، فيبقى العبد كالكرة الملقاة بين صولجانات القضاءِ والقدر، تقلبها كيف شاءَت بصحة شهادة قيومية من له الخلق والأَمر وتفرده بذلك دون ما سواه. وهذا الأَمر لا يدرك بمجرد العلم، ولا يعرفه إِلا من تحقق به أَولاح له منه بارق، وربما ذهل صاحب هذا المشهد عن الشعور بوجوده لغلبة شهود وجود القيوم عليه، فهناك يصح من مثل هذا العبد الاضطرار إِلى الحى القيوم، وشهد فى كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فقراً تاماً إِليه من جهة كونه رباً ومن جهة كونه إلهاً معبوداً لا غنى له عنه كما لا وجود له بغيره. فهذا هو الفقر الأَعلى الذى دارت عليه رحى القوم، بل هو قطب تلك الرحى.
وإِنما يصح له هذا بمعرفتين لا بد منهما: معرفة حقيقة الربوبية والإلَهية، ومعرفة حقيقة النفس والعبودية، فهنالك تتم له معرفة هذا الفقر، فإِن أعطى هاتين المعرفتين حقهما من العبودية اتصف بهذا الفقر حالاً، فما أَغناه حينئذ من فقير، وما أَعزه من ذليل، وما أَقواه من ضعيف، وما آنسه من وحيد. فهو الغنى بلا مال القوى بلا سلطان، العزيز بلا عشيرة، المكفى بلا عتاد. قد قرت عينه بالله [فقرت به كل عين، واستغنى بالله] فافتقر إِليه الأَغنياءُ والملوك. ولا يتم له ذلك إِلا بالبراءَة من فرث الجبر ودمه فإِنه إِن طرق باب الجبر انحل عنه نظام العبودية، وخلع ربقة الإِسلام من عنقه وشهد أَفعاله كلها طاعات للحكم القدرى الكونى وأَنشد:
أَصبحت منفعلاً لما يختاره منى، ففعلى كله طاعات
وإِذ قيل له: اتق الله ولا تعصه، يقول: إِن كنت عاصياً لأَمره، فأَنا مطيع لحكمه وإِرادته َ، فهذا منسلخ من الشرائع، بريء من دعوة الرسل، شقيق لعدو الله إِبليس بل وظيفة الفقير فى هذا [الموضع]، وفى هذه الضرورة مشاهدة الأَمر والشرع، ورؤية قيامه بالأَفعال وصدورها منه كسباً واختياراً، وتعلق الأَمر والنهى بها طلباً وتركاً، وترتب الذم والمدح عليها شرعاً وعقلاً، وتعلق الثواب والعقاب بها آجلاً وعاجلاً، فمتى اجتمع له هذا الشهود الصحيح إِلى [شهود] الاضطرار فى حركاته وسكناته، والفاقة التامة إِلى مقلب القلوب ومن بيده أَزمة الاختيار ومن إِذَا شاءَ شيئاً وجب وجوده، وإِذا لم يشأْ امتنع وجوده، وأَنه لا هادى لمن أضله ولا مضل لمن هداه وأنه هو الذى يحرك [القلوب بالإرادات والجوارح بالأعمال وأنها مدبرة تحت] تسخيره مذللة تحت قهره، وأنها أعجز وأضعف من أَن تتحرك بدون [مشيئته، وأن] مشيئته نافذة فيها كما هى نافذة فى حركات الأفلاك والمياه والأَشجار وأَنه حرك كلا منها بسبب اقتضى تحريكه وهو خالق السبب المقتضى وخالق السبب خالق للمسبب، فخالق الإِرادة الحازمة التى هى سبب الحركة والفعل الاختيارى خالق لهما، وحدوث الإِرادة بلا خالق محدث محال، وحدوثها بالعبد بلا إِرادة منه محال، وإِن كان [بإرادته] فإِرادته للإِرادة كذلك ويستحيل بها التسلسل، فلا بد من فاعل أوجد تلك الإرادة التى هى سبب الفعل، فهنا يتحقق الفقر والفاقة والضرورة التامة إِلى مالك الإِرادات ورب القلوب ومصرفها كيف شاءَ، فما شاءَ أَن يزيغه منها أَزاغه، وما شاءَ أَن يقيمه منها أَقامه: {رَبّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لّدُنْكَ رَحْمَةً إِنّكَ أَنْتَ الْوَهّابُ}* [آل عمران: 8]، فهذا هو الفقر الصحيح المطابق للعقل والفطرة والشرع، ومن خرج عنه وانحرف إِلى أَحد الطرفين زاغ قلبه عن الهدى، وعطل مالك الملك الحق وانفراده بالتصرف والربوبية عن أَوامره وشرعه وثوابه وعقابه. وحكم هذا الفقير المضطر إِلى خالقه فى كل طرفة عين وكل نَفَس أَنه إِن حرك بطاعة أَو نعمة شكرها وقال: هذا من فضل الله ومنَّه وجوده فله الحمد. وإِن حرك بمباديء معصيته صرخ ولجأَ واستغاث وقال: ((أَعوذ بك منك، يا مقلب القلوب ثبت قلبى على دينك يا مصرف القلوب صرف قلبى على طاعتك))، فإن تم تحريكه بالمعصية التجأَ التجاءَ أَسير قد أسره عدوه وهو يعلم أَنه لا خلاص له من أَسره إِلا بأَن يفكُّه سيده من الأَسر، ففكاكه فى يد سيده ليس فى يده منه شيء البتة، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فهو فى أَسر العدو ناظر إِلى سيده وهو قادر [على تخليصه]، قد اشتدت ضرورته إِليه، وصار اعتماده كله عليه. قال سهل: إِنما يكون الالتجاءُ، على معرفة الابتلاء، يعنى وعلى قدر الابتلاءِ تكون المعرفة بالمبتلى ومن عرف قوله ﷺ: ((وأَعُوذ بك منك))، وقام بهذه المعرفة شهوداً وذوقاً، وأَعطاها حقها من العبودية، فهو الفقير حقاً، ومدار الفقر الصحيح على هذه الكلمة، فمن [زرق] فهم سر هذا [فهم سر] الفقر المحمدى، فهو سبحانه الذى ينجى من قضائه بقضائه، وهو الذى يعيذ بنفسه من نفسه، وهو الذى يدفع ما منه بمامنه، فالخلق كله له، والأَمر كله له والحكم كله له، وما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وما شاءَ لم يستطع أَن يصرفه إِلا مشيئته، وما لم يشأْ لم يمكن أَن يجلبه إِلا مشيئته، فلا يأتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو، ولا يهدى لأَحسن الأَعمال والأَخلاق إِلا هو، ولا يصرف سيئها إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ}* [يونس: 107]، والتحقق بمعرفة هذا يوجب صحة الاضطرار وكمال الفقر والفاقة، ويحول بين العبد وبين رؤية أَعماله وأَحواله والاستغناءِ بها والخروج عن رفقة العبودية إِلى دعوى ما ليس له. وكيف يدعى مع الله حالاً أَو ملكة أَو مقاماً من قلبه وإِرادته وحركاته الظاهرة والباطنة بيد ربه ومليكة لا يملك هو منها شيئاً، وإِنما هى بيد مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ فالإِيمان بهذا والتحقق به نظام التوحيد، ومتى من القلب انحل نظام التوحيد، فسبحان من لا يوصل إِليه إِلا به. ولا يطاع إِلا بمشيئته، ولا ينال ما عنده من الكرامة إِلا بطاعته ولا سبيل إِلى طاعته إِلا بتوفيقه ومعونته فعاد الأَمر كله إِليه كما ابتدأَ الأَمر كله منه، فهو الأَول والآخر وأن إِلى ربك المنتهى.
ومن وصل إِلى هذا الحال وقع فى يد التقطع والتجريد، وأَشرف على مقام التوحيد الخاص، فإِن التوحيد نوعان: عام وخاص، كما أَن الصلاة نوعان، والذكر نوعان، وسائر القرب كذلك خاصية وعامية، فالخاصية ما بذل فيها العامل نصحه وقصده بحيث يوقعها على أَحسن الوجوه وأكملها، والعامية ما لم يكن كذلك. فالمسلمون كلهم مشتركون فى إِتيانهم بشهادة أن لا إِله إِلا الله، وتفاوتهم فى معرفتهم بمضمون هذه الشهادة وقيامهم باطناً وظاهراً أَمر لا يحصيه إِلا الله عَزَّ وجَلَّ، وقد ظن كثير من الصوفية أَن التوحيد الخاص أَن يشهد العبد المحرك له ويغيب عن المتحرك وعن الحركة فيغيب بشهوده عن حركته، ويشهد نفسه شبحاً فانياً يجرى على تصاريف المشيئة، كمن غرق فى البحر فأَمواجه ترفعه طوراً وتخفضه طوراً، فهو غائب بها عن ملاحظة حركته فى نفسه، بل قد اندرجت حركته فى ضمن حركة الموج وكأَنه لا حركة له بالحقيقة، وهذا وإِن ظنه كثير من القوم غاية، وظنه بعضهم لازماً من لوازم التوحيد فالصواب أَن من ورائه ما هو أَجل منه، وغاية هذا الفناءِ فى توحيد الربوبية، وهو أَن لا يشهد رباً وخالقاً ومدبراً إِلا الله، وهذا هو الحق، ولكن توحيد الربوبية وحده لا يكفى فى النجاة فضلاً عن أَن يكون شهوده والفناءُ فيه هو غاية الموحدين ونهاية مطلبهم، فالغاية التى لا غاية وراءَها ولا نهاية بعدها الفناءُ فى توحيد الإلهية وهو أَن يفنى بمحبة ربه عن محبة كل ما سواه، وبتأَلهه عن تأَله ما سواه، وبالشوق إِليه وإِلى لقائه عن الشوق إِلى ما سواه، وبالذل [والفقر] له والفقر إِليه من جهة كونه معبوده وإِلهه ومحبوبه عن الذل إِلى كل ما سواه، وكذلك يفنى بخوفه ورجائه عن خوف ما سواه ورجائه، فيرى أَنه ليس فى الوجود ما يصلح له ذلك إِلا الله، ثم يتصف بذلك حاله وينصبغ به قلبه صبغة ثم يفنى بذلك عما سواه، فهذا هو التوحيد الخاص الذى شمر إِليه العارفون، والورد الصافى الذى حام حوله المحبون، ومتى وصل إليه العبد صار فى يد التقطع والتجريد، واشتمل بلباس الفقر الحقيقى، وفرق حب الله من قلبه كل محبة وخوفه كل خوف ورجاؤه كل رجاءٍ، فصار حبه وخوفه ورجاؤه وذله وإِيثاره وإِرادته ومعاملته كل ذلك واحد لواحد، فلم ينقسم طلبه ولا مطلوبه، فتعددُ المطلوب وانقسامه قادح فى التوحيد والإِخلاص، وانقسام الطلب قادح فى الصدق والإِرادة، فلا بد من توحيد الطلب والإِرادة وتوحيد المطلوب المراد، فإِذا غاب بمحبوبه عن حب غيره وبمذكوره عن ذكر غيره وبمأَلوهه عن تأَله غيره صار من أَهل التوحيد الخاص، وصاحبه مجرد عن ملاحظة سوى محبوبه أَو إِيثاره أَو معاملته أَو خوفه أَو رجائه. وصاحب توحيد [الربوبية] فى قيد التجريد عن ملاحظة فاعل غير الله وهو مجرد عن ملاحظة وجوده، وهو كما كان صاحب الدرجة الأُولى مجرداً عن أَمواله وصاحب الثانية مجرداً عن أَعماله وأَحواله، فصاحب الفناء فى توحيد الإِلهية مجرد عن سوه [مراضى محبوبه وأوامره قد فنى بحبه وابتغاء مرضاته عن] حب غيره وابتغاءِ مرضاته. وهذا هو التجريد الذى سمت إِليه همم السالكين، فمن تجرد عن ماله وحاله وكسبه وعمله ثم تجرد عن شهود تجريده فهو المجرد عندهم حقاً، وهذا تجريد القوم الذى عليه يحومون، وإِياه يقصدون، ونهايته عندهم التجريد بفناءِ وجوده، وبقاؤه بموجوده، بحيث يفنى من لم يكن ويبقى من لم يزل، ولا غاية عندهم وراء هذا. ولعمر الله إِن وراءَه [تجريداً] أَكمل منه، ونسبته إِليه كفتلة فى بحر وشعرة فى [ظهر] بعير، وهو تجريد الحب والإِرادة عن الشوائب والعلل والحظوظ، فيتوحد حبه كما توحد محبوبه، ويتجرد عن مراده من محبوبه [بمراد محبوبه] منه، بل يبقى مراد محبوبه هو من نفس مراده، وهنا يعقل الاتحاد الصحيح وهو اتحاد المراد، فيكون عين مراد المحبوب هو عين مراد المحب، وهذا هو غاية الموافقة وكمال العبودية، ولا تتجرد المحبة عن العلل والحظوظ التى تفسدها إِلا بهذا. فالفرق بين محبة حظك ومرادك من المحبوب وأَنك إِنما تحبه لذلك وبين محبة مراد المحبوب منك ومحبتك له لذاته أَنه أَهل أَن يحب. وأَما الاتحاد فى الإِرادة فمحال كما أَن الاتحاد فى المريد محال، فالإِرادتان متباينتان. وأَما مراد المحب والمحبوب إِذا خلصت المحبة من العلل والحظوظ فواحد.
فالفقر والتجريد والفناء من واد واحد. وقد جعله صاحب ((منازل السائرين)) من قسم النهايات، وحدَّه بأَنه الانخلاع [من] شهود الشواهد، وجعله على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى تجريد الكشف عن كسب اليقين، والثانية تجريد عين الجمع عن درك العلم، والثالثة تجريد الخلاص من شهود التصريح.
(يتبع...)
@ فقوله فى الأُولى: ((تجريد الكشف عن كسب اليقين)) يريد كشف الإِيمان ومكافحته للقلب، وهذا وإِن حصل باكتساب اليقين من أَدلته وبراهينه، فالتجريد أَن يشهد سبق الله تعالى بمنته لكل سبب ينال به اليقين أَو الإِيمان، فيجرد كشفه لذلك عن ملاحظة سبب أَو وسيلة، بل يقطع الأَسباب والوسائل وينتهى نظره إِلى المسبب، وهذه إِن أُريد تجريدها عن كونها أسباباً فتجريد باطل، وصاحبه ضال وإن أريد تجريدها عن الوقوف عندها ورؤية انتسابها إِليه وصيرورتها عنوان اليقين إِنما كان به وحده، فهذا تجريد صحيح ولكن على صاحبه إِثبات الأَسباب، فإِن نفاها عن كونها أسباباً فسد تجريده.
وقوله فى الدرجة الثانية: ((تجريد عين الجمع عن درك العلم)) لما كانت الدرجة الأُولى تجريداً عن الكسب وانتهاءً إِلى عين الجمع الذى هو الغيبة بتفرد الرب بالحكم عن إِثبات وسيلة أَو سبب، اقتضت تجريداً آخر أَكمل من الأَول وهو تجريد هذا الجمع عن علم العبد به. فالأُولى تجريد عن رؤية السبب والفعل، والثانية تجريد عن العلم والإِدراك وهذا يقتضى أيضاً تجريداً ثالثاً أكمل من الثانى وهو تجريد التخلص من شهود التجريد، وصاحب هذا التجريد الثالث فى عين الجمع قد اجتمعت همته على الحق، وشغل به عن ملاحظة جمعه وذكره وعلمه به، قد استغرق ذلك قلبه، فلا سعة فيه لشهود علمه بتجريده ولا شعوره به، فلا التفات له إِلى تجريده، ولو بقى له التفات إِليه لم يكمل تجريده. ووراءُ هذا كله تجريد نسبة هذا التجريد إِليه كشعرة من ظهر بعير إِلى جملته، وهو تجريد الحب والإِرادة عن تعلقه بالسوى، وتجريده عن العلل والشوائب والحظوظ التى هى مراد النفس، فيتجرد الطلب والحب عن كل تعلق يخالف مراد المحبوب، فهذا تجريد الحنيفية. والله المستعان وعليه التكلان ولا حول ولا قوة إِلا به.
فصل
فى تقسيم الغنى إِلى عال وسافل
ولما كان الفقر إِلى الله عز وجل هو عين الغنى به- فأَفقر الناس إِلى الله أَغناهم به، وأَذلهم له أَعزهم، وأَضعفهم بين يديه أَقواهم، وأَجهلهم عند نفسه أَعلمهم بالله وأَمقتهم لنفسه أَقربهم إِلى مرضاة الله- كأن ذكر الغنى بالله مع الفقر إِليه متلازمين متناسبين، فنذكر فصلاً نافعاً فى الغنى العالى. واعلم أَن الغنى على الحقيقة لا يكون إِلا لله الغنى بذاته عن كل ما سواه، وكل ما سواه فموسوم بسمة الفقر كما هو موسوم بسمة الخلق والصنع، وكما أَن كونه مخلوقاً أَمر ذاتى له، فكونه فقيراً أَمر ذاتى له كما تقدم بيانه، وغناه أَمر نسبى إِضافى عارض له، فإِنه إِنما استغنى بأَمر خارج عن ذاته فهو غنى به فقير إِليه، ولا يوصف بالغنى على الإِطلاق إِلا من غناه من لوازم ذاته، فهو الغنى بذاته عما سواه، وهو الأَحد الصمد الغنى الْحميد.
والغنى قسمان: غنى سافل، وغنى عال. فالغنى السافل الغنى بالعوارى المستردة من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأَنعام والحرث وهذا أَضعف الغنى، فإِنه غنى بظل زائل، وعارية ترجع عن قريب إِلى أَربابها، فإِذا الفقر بأَجمعه بعد ذهابها، وكَأن الغنى بها كان حلماً فانقضى، ولا همة أَضعف من همة من رضى بهذا الغنى الذى هو ظل زائل. وهذا غنى أَرباب الدنيا الذى فيه يتنافسون، وإِياه يطلبون، وحوله يحومون، ولا أَحب إِلى الشيطان وأَبعد عن الرحمن من قلب ملآن بحب هذا الغنى والخوف من فقده. قال بعض السَلَف: إِذا اجتمع إبليس وجنوده لم يفرحوا بشيء كفرحهم بثلاثة أَشياءَ: مؤمن قتل مؤمناً، ورجل يموت على الكفر، وقلب فيه خوف الفقر. وهذا الغنى محفوف بفقرين: فقر قبله، وفقر بعده، وهو كالغفوة بينهما. فحقيق بمن نصح نفسه أن لا يغتر به ولا يجعله نهاية مطلبه، بل إذا حصل له جعله سبباً لغناه الأَكبر وسيلة إِليه، ويجعله خادماً من خدمه لا مخدوماً له، وتكون نفسه أَعز عليه من أَن يعبِّدها لغير مولاه الحق، أَو يجعلها خادمة لغيره.
فصل
فى الغني العالي
أَما الغنى العالى فقال شيخ الإِسلام: ((هو على ثلاث درجات: الدرجة الأُولى: غنى القلب، وهو سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة، والدرجة الثانية غنى النفس، وهو استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ، وبراءَتها من المراءَاة. والدرجة الثالثة: الغنى الحق وهو ثلاث مراتب: الأُولى شهود ذكره إِياك، والثانية: دوام مطالعة أَوليته، والثالثة: الفوز بوجوده)). قلت: ثبت عن النبى ﷺ أَنه قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس))، ومتى استغنت النفس استغنى القلب، ولكن الشيخ قسم الغنى إِلى هذه الدرجات بحسب متعلقة فقال: ((غنى القلب سلامته من السبب، ومسالمته للحكم، وخلاصه من الخصومة ومعلوم أَن هذا شرط فى الغنى، لا أَنه نفس الغنى، بل وجود المنازعة والمخاصمة وعدم المسالمة مانع من الغنى، فهذه السلامة والمسالمة دليل على غنى القلب، لا أَن غناه بها نفسها، وإِنما غنى القلب بالدرجة الثالثة فقط كما سيأتى بيانه إِن شاءَ الله، فالغنى إِنما يصير غنياً بحصول ما يسد فاقته ويدفع حاجته. وفى القلب فاقة عظيمة وضرورة تامة وحاجة شديدة لا يسدها إِلا فوزه بحصول الغنى الحميد الذى إِن حصل للعبد حصل له كل شيء، وإِن فاته فاته كل شيء. فكما أَنه سبحانه الغنى على الحقيقة ولا غنى سواه، فالغنى به هو الغنى فى الحقيقة ولا غنى بغيره أَلبتة، فمن لم يستغن به عما سواه تقطعت نفسه على السوى حسرات، ومن استغنى به زالت عنه كل حسرة وحضره كل سرور وفرح، والله المستعان.
وإِنما قدم شيخ الإسلام الكلام على غنى القلب على الكلام على غنى النفس لأَن كمال صلاح النفس غناها بالاستقامة من جميع الوجوه، وبلوغها إِلى درجة الطمأْنينة لا يكون إِلا بعد صلاح القلب، وصلاح النفس متقدم على صلاح القلب هكذا قيل، وفيه ما فيه، لأن صلاح كل واحد منهما مقارن لصلاح الآخر. ولكن لما كان القلب هو الملك وكان صلاحه صلاح جميع رعيته كان أَولى بالتقديم، وقد قال النبى ﷺ: ((إِنَّ فِى الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ لَهَا سَائِرُ الْجَسَدِ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ لَهَا سِائِرُ الْجَسَدِ، أَلا وَهِى القلب))، والقلب إِذا استغنى بما فاض عليه من مواهب ربه وعطاياه السنية خلع على الأُمراءِ والرعية خلعاً تناسبها، فخلع على النفس خلع الطمأْنينة والسكينة والرضا والإِخبات، فأَدت الحقوق سماحة لا كظماً بانشراح ورضا ومبادرة، وذلك لأَنها جانست القلب حينئذ ووافقته فى أَكثر أُموره، واتحد مرادهما غالباً فصارت له وزير صدق، بعد أَن كانت عدواً مبارزاً بالعداوة، فلا تسأَل عما أَحدثت هذه المؤازرة والموافقة من طمأْنينة ولذة عيش ونعيم هو دقيقة من نعيم أَهل الجنة. هذا ولم تضع الحرب أَوزارها فيما بينهما بل عدتها وسلاحها كامن متوار، لولا قوة سلطان القلب وقهره لحاربت بكل سلاح، فالمرابطة على ثغرى الظاهر والباطن فرض متعين مدة أَنفاس الحياة.
وتنقضى الحرب محموداً عواقبها للصابرين، وحظ الهارب الندم
وخلع على الجوارح خلع الخشوع والوقار، وعلى الوجه خلعة المهابة والنور والبهاءِ، وعلى اللسان خلعة الصدق والقول السديد الثابت والحكمة النافعة، وعلى العين خلعة الاعتبار فى النظر والغض عن المحارم، وعلى الأُذن خلعة استماع النصيحة واستماع القول النافع استماعُه للعبد فى معاشه ومعاده، وعلى اليدين والرجلين خلعة البطش فى الطاعات أَين كانت بقوة وأَيد، وعلى الفرج خلعة العفة والحفظ. فغدا العبد وراح يرفل فى هذه الخلع ويجر لها فى الناس أَذيالاً وأَردانا. فغنى النفس مشتق من غنى القلب وفرع عليه، فإِذا استغنى سرى الغنى منه إِلى النفس. وغنى القلب ما يناسبه من تحقيقه بالعبودية المحضة التى هى أَعظم خلعة تخلع عليه، فيستغنى حينئذ بما توجبه هذه العبودية له من المعرفة الخاصة والمحبة الناصحة الخالصة، وبما يحصل له من آثار الصفات المقدسة وما تقتضيه من الأَحكام والعبوديات المتعلقة بكل صفة على الانفراد ومجموعها قائمة بالذات، وهذا أَمر تضيق عن شرحه عدة أَسفار بل حظ العبد منه علماً وإِرادة كما يدخل إِصبعه فى اليم، بل الأَمر أَعظم من ذلك. والله عز وجل: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}* [الرعد: 17]، فإذا استغنى القلب بهذا الغنى الذى هو غاية فقره استغنت النفس غنى يناسبها، وذهبت عنها البرودة التى ثقلها وكسلها وإخلادها إلى الأرض وصارت لها حرارة توجب حركتها وخفتها فى الأوامر وطلبها الرفيق الأعلى، وصارت برودتها فى شهواتها وحظوظها ورعوناتها وذهبت أيضاً عنها اليبوسة المضادة للينها وسرعة انفعالها وقبولها، فإِنها إِذا كانت يابسة قاسية كانت بطيئة الانفعال بعيدة القبول لا تكاد تنقاد، فإِذا صارت برودتها حرارة، وبوبستها رطوبة وسقيت بماءِ الحياة الذى أَنزله الله عَزَّ وجَلَّ [من السماء] على قلوب أنبيائه وجعلها قراراً ومعيناً له ففاض منها على قلوب أَتباعهم فأَنبتت من كل زوج كريم، فحينئذ انقادت بزمام المحبة إِلى مولاها الحق مؤدية لحقوقه قائمة بأَوامره راضية عنه مرضية له بكمال طمأْنينتها: {يَأَيّتُهَا النّفْسُ الْمُطْمَئِنّةُ * ارْجِعِي إِلَىَ رَبّكِ رَاضِيَةً مّرْضِيّةً}* [الفجر: 27- 28]، فلنرجع إِلى كلامه.
فقوله فى الدرجة الأُولى وهى غنى القلب: ((إِنَّهُ سلامته من السبب)) أَى من الفقر إِلى السبب وشهوده والاعتماد عليه والركون إِليه والثقة به، فمن كان معتمداً على سبب [غناه] واثقاً به لم يطلق عليه اسم الغنى، لأَنه فقير إِلى الوسائط، بل لا يسمى صاحبه غنياً إِلا إِذا سلم من علة السبب استغناءً بالمسبب، بعد الوقوف على رحمته وحكمته وتصرفه وحسن تدبيره، فلذلك يصير صاحبه غنياً بتدبير الله عز وجل. فمن كملت له السلامة من علة الأَسباب، ومن علة المنازعة للحكم بالاستسلام له والمسالمة- أَى بالانقياد لحكمه- حصل الغنى [فحمى] للقلب بوقوفه على حسن تدبيره ورحمته وحكمته، فإِذا وقف العبد على حسن تدبيره واستغنى القلب به لم يتم له الاستغناءُ بمجرد هذا الوقوف، ان لم ينضم إِليه المسالمة للحكم وهو الانقياد له، فإِن المنازعة للحكم إِلى حكم آخر دليل على وجود رعونة الاختيار، وذلك دال على فقر صاحب الاختيار إِلى ذلك الشئ المختار، ومن كان فقيراً إِلى شيء لم يرده الله [عز وجل] لم يطلق عليه اسم الغنى بتدبير الله عز وجل، فلا يتم الغنى بتدبير الرب عز وجل لعبده إِلا بالمسالمة لحكمه بعد الوقوف على حسن تدبيره، ثم يبقى عليه الخلاص من معنى آخر وهو مخاصمة الخلق بعد الخلاص من مخاصمة الرب سبحانه. فإِن منازعة الخلق دليل على فقره إِلى الأَمر الذى وقعت فيه الخصومة من الحظوظ العاجلة، ومن كان فقيراً إِلى حظ من الحظوظ- يسخط لفوته ويخاصم الخلق عليه- لا يطلق عليه اسم الغنى حتى يسلم الخلق من خصومته بكمال تفويضه إِلى وليه وقيومه ومتولى تدبيره، فمتى سلم العبد من علة فقره إلى السبب، ومن علة منازعته لأَحكام الله [عز وجل] ومن علة مخاصمته للخلق على حظوظ، استحق أَن يكون غنياً بتدبير مولاه مفوضاً إِليه لا يفتقر قلبه إِلى غيره ولا يسخط شيئاً من أَحكامه ولا يخاصم عباده إِلا فى حقوق ربه فتكون مخاصمته لله وبالله، ومحاكمته إِلى الله، كما كان النبى ﷺ يقول فى استفتاح صلاة الليل: ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنبت، وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ))، فتكون مخاصمة هذا العبد لله لا لهواه وحظه ومحاكمته خصمه إِلى أَمر الله وشرعه لا إِلى شيء سواه، فمن خاصم لنفسه فهو ممن اتبع هواه وانتصر لنفسه، وقد قالت عائشة: ((ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه قط))، وهذا لتكميل عبوديته. ومن حاكم خصمه إِلى غير الله ورسوله فقد حاكم إِلى الطاغوت، وقد أمر أن يكفر به، ولا يكفر العبد بالطاغوت حتى يجعل الحكم لله وحده كما هو كذلك فى نفس الأَمر.
والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه والحكم نوعان: حكم كونى قدرى، وحكم أمرى دينى، فهذا الذى ذكره الشيخ فى منازل السائرين وشرحه عليه الشارحون، إنما مراده به الحكم الكونى القدرى، وحينئذ فلا بد من تفصيل ما أَجملوه من مسالمة الحكم والاستسلام له وترك المنازعة له، فإِن هذا الإِطلاق غير مأْمور به ولا ممكن للعبد فى نفسه
بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى.بل الأَحكام ثلاثة: حكم شرعى دينى، فهذا حقه أَن يتلقى بالمسالمة والتسليم وترك المنازعة، بل بالانقياد المحض، وهذا تسليم العبودية المحضة فلا يعارض بذوق ولا وجد ولا سياسة ولا قياس ولا تقليد، ولا يرى إِلى خلافه سبيلاً البتة، وإِنما هو الانقياد المحض والتسليم [والإذغان والقبول فإذا تلقى بهذا التسليم والمسألة إقراراً] وتصديقاً بقى هناك انقياد آخر وتسليم آخر له إِرادة وتنفيذاً وعملاً، فلا تكون له شهوة تنازع مراد الله من تنفيذ حكمه، كما لم تكن له شبهة تعارض وإِقراره، إِيمانه وهذا حقيقة القلب السليم الذى سلم من شبهة تعارض الحق وشهوة تعارض الأَمر، فلا استمتع بخلاقه كما استمتع به الذين يتبعون الشهوات، ولا خاض فى الباطن خوض الذين يتبعون الشبهات، بل اندرج خلاقه تحت الأَمر، واضمحل خوضه فى معرفته بالحق فاطمأن إِلى الله معرفة به ومحبة له وعلماً بأَمره وإِرادته لمرضاته، فهذا حق الحكم الدينى.
الحكم الثانى: الحكم الكونى القدرى الذى للعبد فيه كسب واختيار وإِرادة، والذى إِذا حكم به يسخطه ويبغضه ويذم عليه، فهذا حقه أَن ينازع ويدافع بكل ممكن ولا يسالم البتة، بل ينازع بالحكم الكونى أَيضاً، فينازع حكم الحق بالحق للحق ويدافع به، وله كما قال شيخ العارفين فى وقته عبد القادر الجيلانى: ((الناس إِذا دخلوا إِلى القضاءِ والقدر أَمسكوا، وأَنا انفتحت لى روزنة فنازعت أَقدار الحق بالحق للحق، والعارف من يكون منازعاً للقدر لا واقفاً مع القدر)) ا هـ، فإِن ضاق ذرعك عن هذا الكلام وفهمه فتأمل قول عمر ابن الخطاب- وقد عوتب على فراره من الطاعون فقيل له-: ((أتفر من قدر الله؟ فقال: نفر من قدر الله إِلى قدره))، ثم كيف ينكر هذا الكلام من لا بقاءَ له فى هذا العالم إِلا به، ولا تتم له مصلحة إِلا بموجبه، فإِنه إذا جاءَه قدر من الجوع والعطش أَو البرد نازعه وترك الانقياد له ومسالمته، ودفع بقدر آخر من الأَكل والشرب واللباس، فقد دفع قدر الله بقدره، وهكذا إِذا وقع الحريق فى داره فهو بقدر الله، فما باله لا يستسلم له ويسالمه ويتلقاه بالإِذعان؟ بل ينازعه ويدافعه بالماءِ والتراب وغيره حتى يطفيء قدر الله بقدر الله وما خرج فى ذلك عن قدر الله، وهكذا إِذا أصابه مرض بقدر الله دافع هذا القدر ونازعه بقدر آخر يستعمل فيه الأَدوية الدافعة للمرض فحق هذا الحكم الكونى أَن يحرص العبد على مدافعته ومنازعته بكل ما يمكنه، فإِن غلبه وقهره، حرص على دفع آثاره وموجباته بالأَسباب التى نصبها الله لذلك، فيكون قد دفع القدر بالقدر ونازع الحكم بالحكم، وبهذا أُمر، بل هذا حقيقة الشرع والقدر، ومن لم يستبصر فى هذه المسأَلة ويعطها حقها لزمه التعطيل للقدر أَو الشرع شاءَ أَو أَبى، فما للعبد ينازع أَقدار الرب [تعالى] بأَقداره فى حظوظه وأَسباب معاشه ومصالحه الدنيوية ولا ينازع أَقداره فى حق مولاه وأَوامره ودينه؟ وهل هذا إِلا خروج عن العبودية ونقص فى العلم بالله وصفاته وأَحكامه؟ ولو أَن عدواً للإِسلام قصده لكان هذا بقدر الله، ويجب على كل مسلم دفع هذا القدر بقدر يحبه الله وهو الجهاد باليد أو المال أو القلب دفعا لقدر الله بقدره فما للاستلام والمسالمة هنا مدخل فى العبودية، اللهم إلا إذا بذل العبد جهده فى المدافعة والمنازلة وخرج الأمر عن يده.
فصل فى تفسير غنى النفس
قوله فى غنى النفس أنه: ((استقامتها على المرغوب، وسلامتها من الحظوظ وبراءتها من المراءاة))، يريد استقامتها على الأمر الدينى الذى يحبه الله ويرضاه، وتجنيها لمناهيه التى يسخطها ويبغضها، وأن تكون هذه الاستقامة على الفعل والترك تعظيما لله ستحانه وأمره، وإيمانا يه، واحتسابا لثوابه، وخشية من عقابه، لا طلبا لتعظيم المخلوقين له ومدحهم، وهربا من ذمهم وازدرائهم، وطلبا للجاه والمنزلة عندهم، فإن هذا دليل على غاية الفقر من الله، والبعد عنه وأنه أفقر شئ إلى المخلوق. فسلامة النفس من ذلك واتصافها بضده دليل غناها، لأنها إذا أذعنت منقادة لأمر الله طوعا واختيارا ومحبة وإيمانا واحتسابا، بحيث تصير لذاتها وراحتها ونعيمها وسرورها فى القيام بعبوديته كما كان النبى ﷺ يقول: ((يا بلال أرحنا بالصلاة))، وقال ﷺ: ((حبِّبَ إِلىَّ منْ دُنياَكُم النسَاءُ والطِّيبُ وجُعِلتْ قُرَّة عَينى فِى الصلاة))، فقرة العين فوق المحبة، فجعل النساء والطيب مما يحب، وأخبر أن قرة العين التى يطمئن القلب بالوصول إليها ومحض لذته وفرحه وسروره وبهجته إنما هو فى الصلاة التى هى صلة بالله وحضور بين يديه ومناجاة له واقتراب منه، فكيف لا تكون قرة العين، وكيف تقر عين المحب بسواها. فإذا حصل للنفس هذا الحظ الجليل فأي فقر يخشى معه، وأي غنى فاتها حتى تلتفت إليه؟ ولا يحصل لها هذا حتى ينقلب طبعها ويصير مجانسا لطبيعة القلب، فتصير بذلك مطمئنة بعد أن كانت لوامة، وإنما تصير مطمئنة بعد تبادل صفاتها وانقلاب طبعها، لاستغناء القلب بما وصل إليه من نور الحق جل جلاله، فجرى أثر ذلك النور في سمعه وبصره وشعره وبشره وعظمه ولحمه ودمه وسائر مفاصله، وأحاط بحهاته من فوقه وتحته ويمينه ويساره وخلفه وأمامه، وصارت ذاته نورا وصار عمله نورا، وقوله نورا، ومدخله نورا ومخرجه نورا وكان في مبعثه ممن انبهر له نوره فقطع به الجسر.
وإذا وصلت النفس إلى هذه الحال استغنت بها عن التطاول إلى الشهوات التي توجب اقتحام الحدود المسخوطة، والتقاعد عن الأمور المطلوبة المرغوبة، فإن فقرها إلى الشهوات هو الموجب لها التقاعد عن المرغوب المطلوب، وأيضا فتقاعدها عن المطلوب بينهما موجب لفقرها إلى الشهوات، فكل منهما موجب للآخر، وترك الأوامر أقوى لها من افتقرها إلى الشهوات، فإنه بحسب قيام العبد بالأمر تدفع عنه جيوش الشهوة، كما قال تعالى: {إنَّ الصَّلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت: 45]، وقال تعالى: {إنَّ الله يدافع عن الذِينَ آمنُوا} [الحج: 38]، وفي القراءة الأخرى (يدفَعُ)، فكمال الدفع والمدافعة بحسب قوة الإيمان وضعفه، فإذا صارت النفس حرة طيبة مطمئنة غنية بما أغناها به مالكها وفاطرها من النور الذي وقع في القلب ففاض منه إليها استقامت بذلك الغنى على الأمر الموهوب، وسلمت به عن الأمر المسخوط وبرئت من المراءاة، ومدار ذلك كله على الاستقامة باطنا وظاهرا، ولهذا كان الدين كله في قوله تعالى: {فاستقم كما أمرت} [هود: 112]، وقال سبحانه: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون} [الأحقاف: 13].
فصل
فيما يغنى القلب ويسدُ الفاقة
وهذه الاستقامة ترقيها إِلى الدرجة الثالثة من الغنى، وهو الغنى بالحق تبارك وتعالى عن كل ما سواه، وهى أَعلى درجات الغنى. فأَول هذه الدرجة أَن تشهد ذكر الله عَزَّ وجَلَّ إِياك قبل ذكرك له، وأَنه تعالى ذكرك فيمن ذكره من مخلوقاته ابتداءً قبل وجودك وطاعتك وذكرك، فقدر خلقك ورزقك وعملك وإِحسانه إِليك ونعمه عليك حيث لم تكن شيئاً البتة، وذكرك سبحانه بالإٍِسلام فوفقك له واختارك له دون من خذله، قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ}* [الحج: 78]
فجعلك أهلاً لما لم تكن أهلاً له قط، وإِنما هو الذى أَهلك بسابق ذكره، فلولا ذكره لك بكل جميل أَولاكه لم يكن لك إِليه سبيل، ومن الذى ذكرك سواه باليقظة حتى استيقظت وغيرك فى رقدة الغفلة مع النوام؟ ومن الذى ذكرك سواه بالتوبة حتى وفقك لها، وأَوقعها فى قلبك، وبعث دواعيك عليها، وأَحيى عزماتك الصادقة عليها، حتى تُبْتَ إِليه وأَقبلت عليه، فذقت حلاوة التوبة وبردها ولذاتها؟ ومن الذى ذكرك سواه بمحبته حتى هاجت من قلبك لواعجها وتوجهت نحوه سبحانه ركائبها، وعمر قلبك بمحبته بعد طول الخراب، وآنسك بقربه بعد طول الوحشة والاغتراب ومن تقرب إِليك أَولاً حتى تقربت إِليه، ثم أَثابك على هذا التقرب تقرباً آخر فصار التقرب منك محفوفاً بتقربين منه تعالى: تقرب بعده وتقرب قبله، والحب منك محفوفاً بحبين منه: حب قبله وحب بعده، والذكر منك محفوفاً بذكرين: ذكر قبله وذكر بعده، فلولا سابق ذكره إِياك لم يكن من ذلك كله شيء، ولا وصل إِلى قلبك ذرة مما وصل إِليه من معرفته وتوحيده ومحبته وخوفه ورجائه والتوكل عليه والإِنابة إِليه والتقرب إِليه، فهذه كلها آثار ذكره لك،
ثم إِنه سبحانه ذكرك بنعمه المترادفة المتواصلة بعدد الأَنفاس، فله عليك فى كل طرفة عين ونفس نعم عديدة ذكرك بها قبل وجودك، وتعرف بها إِليك وتحبب بها إِليك مع غناه التام عنك وعن كل شيء، وإِنما ذلك مجرد إِحسانه وفضله وجوده، إِذ هو الجواد المفضل المحسن لذاته لا لمعاوضة ولا لطلب جزاءٍ منك ولا لحاجة دعته إِلى ذلك كيف وهو الغنى الحميد، فإِذا وصل إِليك أَدنى نعمة منه فاعلم أنه ذكرك بها، فلتعظم عندك لذكره لك بها، فإِنه ما حقرك من ذكرك بإِحسانه وابتدأَك بمعروفه وتحبب إِليك بنعمته، هذا كله مع غناه عنك.
فإذا شهد العبد ذكر ربه تعالى له، ووصل شاهده إِلى قلبه شغله ذلك عما سواه، وحصل لقلبه به غنى عال لا يشبهه شيء، وهذا كما يحصل للمملوك الذى لا يزال أُستاذه وسيده يذكره ولا ينساه، فهو يحصل له- بشعوره بذكر أُستاذه له- غنى زائد على إِنعام سيده عليه وعطاياه السنية له، فهذا هو غنى ذكر الله للعبد. وقد قال ﷺ، فيما يروى عن ربه تبارك وتعالى: ((مَنْ ذَكرَنِى فى نفسه ذَكَرْتُهُ فِى نَفْسِى، وَمَنْ ذَكَرَنِى فِى مَلأٍ ذَكرْتُهُ فِى مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُ))
فهذا ذكر ثان بعد ذكر العبد لربه غير الذكر الأَول الذى ذكره به حتى جعله ذاكراً، وشعور العبد بكلا الذكرين يوجب له غنى زائداً على إِنعام ربه عليه وعطاياه له، وقد ذكرنا فى كتاب- الكلم الطيب والعمل الصالح- من فوائد الذكر استجلاب ذكر الله سبحانه لعبده، وذكرنا قريباً من مائة فائدة تتعلق بالذكر كل فائدة منها لا نظير لها، وهو كتاب عظيم النفع جداً والمقصود أَن شعور العبد وشهوده لذكر الله له يغنى قلبه ويسد فاقته، وهذا بخلاف من نسوا الله فنسيهم، فإن الفقر من كل خير حاصل لهم، وما يظنون أَنه حاصل لهم من الغنى فهو من أَكبر أَسباب فقرهم.
فصل
فى بيان الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ
الدرجة الثانية من درجات الغنى بالله عَزَّ وجَلَّ دوام شهود أَوَّليته تعالى، وهذا الشهود عند أَرباب السلوك أَعلى مما قبله، والغنى به أَتم من الغنى المذكور، لأَنه من مباديء الغنى بالحقيقة، لأَن العبد إِذا فتح الله لقلبه شهود أَوليته سبحانه حيث كان ولا شيء غيره، وهو الإِلَه الحق الكامل فى أَسمائه وصفاته، الغنى عما سواه، الحميد المجيدُ بذاته قبل أَن يخلق من يحمده ويعبده ويمجده، فهو معبود محمود حى قيوم له الملك وله الحمد فى الأَزل والأَبد، لم يزل ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، وكل شيء سواه فإِنما كان به، وهو تعالى بنفسه ليس بغيره فهو القيوم الذى قيام كل شيء به، ولا حاجة به فى قيوميته إِلى غيره بوجه من الوجوه.
فإِذا شهد العبد سبقه تعالى بالأولية ودوام وجوده الحق وغاب بهذا عما سواه من المحدثات فنى فى وجوده من لم يكن [كأنه لم يكن] وبقى من لم يزل، واضمحلت الممكنات فى وجوده الأَزلى الدائم بحيث صارت كالظلال التى يبسطها ويمدها ويقبضها، فيستغنى العبد بهذا المشهد العظيم ويتغذى [بها] عن فاقاته وحاجاته. وإِنما كان هذا عندهم أَفضل مما قبله لأَن الشهود الذى قبله فيه شائبة مشيرة إِلى وجود العبد، وهذا الشهود الثانى سائر الموجودات كلها سوى الأَول تعالى قد اضمحلت وفنيت فيه، وصارت كأوليتها وهو العدم، فأَفنتها أَولية الحق [تبارك وتعالى]، فبقى العبد محواً صرفاً وعدماً محضاً، وإِن كانت انيته مشخصة مشاراً إِليها لكنها لما نسبت إِلى أَولية الحق عَزَّ وجَلَّ اضمحلت وفنيت وبقى الواحد الحق الذى لم يزل باقياً، فاضمحل ما دون الحق تعالى فى شهود العبد كما هو مضمحل فى نفسه، وشهد العبد حينئذ أَن كل شيء ما سواى [الله] باطل، وأَن الحق المبين هو الله وحده، ولا ريب أَن الغنى بهذا الشهود [دائم] من الغنى بالذى قبله، وليس هذا مختصاً بشهود أَوليته تعالى فقط بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب [جل جلاله] يستغنى العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها.
فمن شهد مشهد علو الله على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أَخبر به أَعرف الخلق وأَعلمهم به الصادق المصدوق وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج القلب إِليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدى الملك العزيز. فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إِليه معروض عليه مع أَوفى خاصته وأَوليائه، فيستحى أَن يصعد إِليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأَمر والمراسيم الإِلهية إِلى أَقطار العوالم كل وقت بأَنواع التدبير والمصرف- من الإِماتة والإِحياءِ والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاءِ والمنع وكشف البلاءِ وإِرساله وتقلب الدول ومداولة الأَيام بين الناس- إِلى غير ذلك من [التصرف] فى المملكة التى لا يتصرف فيها سواه، فمراسمه نافذة كما يشاءُ {يُدَبّرُ الأمْرَ مِنَ السّمَآءِ إِلَى الأرْضِ ثُمّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ}* [السجدة: 5] فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به. وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذى لا يعزب عنه مثقال ذرة فى الأَرض ولا فى السموات ولا فى قرار البحار ولا تحت أَطباق الجبال بل أَحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإِرادته وجميع أَحواله وعزماته وجوارحه علم أَن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإِرادته وجميع أَحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية لا يخفى عليه منها شيء. وكذلك إِذا أشعر قلبه صفة سمعه تبارك وتعالى لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها [وسواء] عنده من أسرّ القول ومن جهر به لا يشغله جهرُ من جهرَ عن سمعه لصوت من أَسرّ ولا يشغله.. سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها بل هى عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة
وكذلك.. إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذى يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء فى حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها ويرى مد البعوضة جناحها فى ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاتها وسكناتها وتيقن أنها بمرأى منه [تبارك وتعالى] ومشاهدة لا يغيب عنه منها شئ
وكذلك إِذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال وأنه قائم على كل شيء، وقائم على كل نفس [بما كسبت]، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء [المحسن إليه وجزاء المسيء إليه وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغى له أن] ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم ولا يضل ولا ينسى. وهذا المشهد من أرفع مشاهد العارفين، وهو مشهد الربوبية.
وأعلى منه مشهد الإلهية الذى هو مشهد الرسل وأتباعهم الحنفاء، وهو شهادة أن لا إله إلا هو وأن إلهية ما سواه باطل ومحال، كما أن ربوبية ما سواه كذلك فلا أحد سواه يستحق أن يؤله ويعبد، ويصلى له ويسجد، ويستحق نهاية الحب مع نهاية الذل لكمال أسمائه وصفاته وأفعاله، فهو المطاع وحده على [الحقيقة]، والمألوه وحده، وله الحكم وحده، فكل عبودية لغيره باطلة وعناء وضلال، وكل محبة لغيره عذاب لصاحبها، وكل غنى لغيره فقر [وفاقة]، وكل عز بغيره ذل وصغار، وكل تكثر بغيره قلة وذلة، فكما استحال أن يكون للخلق رب غيره فكذلك استحال أن يكون لهم إله غيره، فهو الذى انتهت إليه الرغبات وتوجهت نحوه الطلبات، ويستحيل أن يكون معه إله آخر، فإن الإله على [الحقيقة] هو الغنى الصمد [الكامل فى أسمائه وصفاته الذى حاجة كل أحدٍ إليه] ولا حاجة به إلى أحد، وقيام كل شيء به وليس قيامه بغيره، ومن المحال أن يحصل فى الوجود اثنان كذلك، ولو كان فى الوجود إلهان لفسد نظامه أعظم فساد واختل أعظم اختلال، كما [أنه] يستحيل أن يكون له فاعلان متساويان كل منهما مستقل بالفعل، فإن استقلالهما ينافى استقلالهما واستقلال أحدهما يمنع ربوبية الآخر
فتوحيد الربوبية أعظم دليل على توحيد الإلهية، [وذلك] وقع الاحتجاج به فى القرآن أكثر مما وقع بغيره، لصحة دلالته وظهورها وقبول العقول والفطر لها، ولاعتراف أهل الأرض بتوحيد الربوبية، وكذلك كان عباد الأصنام يقرون به وينكرون توحيد الإلهية ويقولون: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً}* [ص: 5]، مع اعترافهم بأن الله وحده هو الخالق لهم وللسموات والأرض وما بينهما، وأنه المنفرد بملك ذلك كله، فأرسل الله تعالى الرسل يذكر بما فى فطرهم الإقرار به من [توحيده] وحده لا شريك له وأنهم لو رجعوا إِلى فطرهم وعقولهم لدلتهم على امتناع إله آخر معه واستحالته وبطلانه، فمشهد الأُلوهية هو مشهد الحنفاء، وهو مشهد جامع للأَسماء والصفات، ولذلك كان الاسم الدال على هذا المعنى هو اسم الله جل جلاله، فإِن هذا الاسم هو الجامع، ولهذا تضاف الأَسماءُ الحسنى كلها إليه فيقال: الرحمن الرحيم العزيز الغفار القهار من أَسماء الله، ولا يقال: الله من أَسماءِ الرحمن، قال الله تعالى: {وَللهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}* [الأعراف: 180]
فهذا المشهد تجتمع فيه المشاهد كلها وكل مشهد سواه، فإنما هو مشهد لصفة من صفاته، فمن اتسع قلبه لمشهد الإِلهية وقام بحقه من التعبد الذى هو كمال الحب بكمال الذل والتعظيم والقيام بوظائف العبودية، فقد تم له غناه بالإِله الحق، وصار من أَغنى العباد، ولسان حال مثل هذا يقول:
غنيت بلا مال عن الناس كلهم وإِن الغنى العالى عن الشيء لا به
فياله من غنى ما أَعظم خطره وأَجل قدره، تضاءَلت دونه الممالك فما دونها، وصارت بالنسبة إِليه كالظل من الحامل له، والطيف الموافى فى المنام الذى يأتى به حديث النفس ويطرده الانتباه من النوم.
فصل
فى بيان الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب
الدرجة الثالثة من درجات الغنى بالرب [جل جلاله] الفوز بوجوده، هذا الغنى [بالغ] أعلى درجات الغنى، لأَن الغنى الأَول والثانى كانا من آثار ذكر الله والتوجه [إليه]، ففاض على القلب من صدق التوجه أَنوار الصفات المقدسة، واستغنى القلب بذلك وحصل أَيضاً أَنوار الشعور بكفالته وكفايته لعبده وحسن وكالته وقيوميته بتدبيره وحسن تدبيره فاستغنت النفس بذلك أَيضاً. وأَما هذا الغنى الثالث- الذى هو الغنى بالحق- فهو من آثار وجود الحقيقة، وهو إِنما يكون بعد ترقيه من آثار الصفات إِلى آثار وجود الذات، وإِنما يكون هذا الوجود بعد مكاشفة عين اليقين عندما يطلع فجر التوحيد، فهذا أَوله وكماله عند طلوع شمسه فينقطع ضباب الوجود الفانى وتشرق شمس الوجود الباقى فينقطع لها كل ضباب، وهذا عبارة عن نور يقذف فى القلب يكشف له بذلك النور عن عظمة الذات كما كشف له بالنور الذى قبله عن عظمة الصفات، فإِذا كان أَثر من آثار صفات الذات أَو صفات الأَفعال يغنى القلب والنفس فما ظنك بما تكاشف به الأَرواح من أَنوار قدس الذات المتصفة بالجلال والإكرام فهذا غنى لا يناله الوصف ولا يدخل تحت الشرح فيستغنى العبد الفقير بوجود سيده العزيز الرحيم، فيا لك من فقر ينقضى ومن غنى يدوم ومن عيش أَلذ من المنى، فلا تستعجز نفسك عن البلوغ إِلى هذا المقام فبينك وبينه صدق الطلب، وإِنما هى عزمة صادقة ونهضة حر ممن لنفسه عنده قدر وقيمة يغار عليها أَن يبيعها بالدون، وقد جاءَ فى أثر إلهى يقول الله عَزَّ وجَلَّ: ((ابْنَ آدَمَ خَلَقْتُكَ لِنَفْسِى [فلا تلعب وتكفلت برزقك فلا تتعب ابن آدم أطلبنى تجدنى] فَإِن وجدتَنِى وَجَدْتَ كُلَّ شَيءٍ، وَإِنْ فُتَّكَ فَاتَكَ كُل شَيءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)) ، فمن طلب الله بصدق وجده، ومن [وجده] أغناه وجوده عن كل شيء، فأَصبح حراً فى غنى ومهابة على وجهه أَنواره وضياؤه، وإِن فاته مولاه جل جلاله تباعد ما يرجو وطال عناؤه، ومن وصل إِلى هذا الغنى قرت به كل عين لأنه قد قرت عينه بالله والفوز بوجوده، ومن لم يصل إِليه تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، وقد قال ﷺ: ((مَنْ أَصْبَحَ وَالدُّنْيَا أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَشَتَّتَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلا مَا قُدِّرَ لَهُ، ومَنْ أَصْبَحَ وَالآخِرَةُ أَكْبَرُ هَمِّهِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِى قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِى رَاغِمَةٌ، وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ خَيْرٍ إِليهِ أَسْرَعُ))، فهذا هو الفقر الحقيقى والغنى الحقيقى، وإِذا كان هذا غنى من كانت الآخرة أَكبر همه فكيف من كان الله [عز وجل] أكبر همه، فهذا من باب التنبيه والأَولى.
فصل
فى ذكر كلمات عن أرباب الطريق فى الفقر والغني
قال يحيى بن معاذ: الفقر أن لا تستغنى بشيء غير الله ورسمه عدم الأَسباب كلها. قلت: يريد عدمها فى الاعتماد عليها والطمأْنينة بها، بل تصير عدماً بالنسبة إِلى سبق مسببها بالأوَلية، وتفرده بالأَزلية. وسئل محمد بن عبد الله الفرغانى عن الافتقار إِلى الله [تعالى] والاستغناء به فقال: إِذا صح الافتقار إِلى الله تعالى صح الاستغناءُ به، وإذا صح الاستغناءُ به صح الافتقار إِليه، فلا يقال أَيهما أَكمل لأَنه لا يتم أَحدهما إِلا بالآخر. قلت: الاستغناءُ بالله هو عين الفقر إِليه، وهما عبارتان عن معنى واحد، لأَن كمال الغنى به هو كمال عبوديته، وحقيقة العبودية كمال الافتقار إِليه من كل وجه، وهذا الافتقار هو عين الغنى به، فليس هنا شيئان يطلب تفضيل أَحدهما على الآخر، وإِنما يتوهم كونهما شيئين بحسب المستغنى عنه والمفتقر إِليه، فهى حقيقة واحدة ومقام واحد يسمى ((غنى)) بالنسبة إِلى فراغه عن الموجودات الفانية، و((فقراً)) بالنسبة إِلى قصر همته وجمعها على الله [عز وجل]، فهى همة سافرت عن شيء واتصلت بغيره، فسفرها عن الغير غنى، وسفرها إِلى الله فقر، فإِذا وصلت إِليه استغنت به بكمال فقرها إِليه، إذ يصير لها بعد الوصول فقر آخر غير فقرها الأول، وإِنما يكمل فقرها بهذا الوصول. وسئل رويم عن الفقر فقال: إِرسال النفس فى أَحكام الله تعالى. قلت: إِن أَراد الحكم الدينى فصحيح، [أو] إِن أَراد الحكم الكونى القدرى فلا يصح هذا الإِطلاق بل لا بد فيه من التفصيل كما تقدم بيانه. وإِرسال النفس فى أَحكامه التى يسخطها ويبغضها، وإِرسالها فى أَحكامه التى يجب منازعتها ومدافعتها بأَحكامه خروج عن العبودية.
وقيل: نعت الفقير ثلاثة أَشياءَ: حفظ سره، وَأَداءُ فرضه وصيانة فقره.. قلت: حفظ السر كتمانه صيانة له من الأَغيار، وغيرة عليه أَن ينكشف لمن لا يعرفه ولا يؤمن عليه. وَأَداءُ الفرض قيام بحق العبودية وصيانة الفقر حفظه عن لوث مساكنة الأَغيار، وحفظه عن كل سبب يفسده وكتمانه ما استطاع. وقال إبراهيم بن أَدهم: طلبنا الفقر فاستقبلنا الغنى، وطلب الناس الغنى فاستقبلهم الفقر. وسئل يحيى بن معاذ عن الغنى فقال: هو الأَمن بالله عَزَّ وجَلَّ. وسئل أَبو حفص: بماذا ينبغى أَن يقدم الفقير على ربه؟ فقال: ما ينبغى للفقير أن يقدم على ربه بشيء سوى فقره. وقال بعضهم: إِن الفقير الصادق ليخشى من الغنى حذراً أَن يدخله فيفسد عليه فقره، كما يخشى الغنى الحريص من الفقر أَن يدخله فيفسد عليه غناه. وقال بشر بن الحارث: أَفضل المقامات اعتقاد الصبر على الفقر إلى القبر. قلت: ومن هاهنا قال القائل:
قالوا: غدا العيد ماذا أَنت لابسه؟ فقلت: خلعة ساق رحبه جرعـا
فقر وصـبر هما ثوبان تحتهمـا قلب يرى أُلفة الأَعياد والجمعـا
الدهر لى مأْتم إِن غبت يـا أَملى والعيد ما دمت لى مرَأى ومستمعا
وسئل ابن الجلاءِ: متى يستحق الفقير اسم الفقر؟ فقال: إِذا لم يبق عليه بقية منه. فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: إِذا كان له فليس له، وإِذا لم يكن له فهو له. قلت: معنى هذا أَنه لا يبقى عليه بقية من نفسه، فإِذا كان لنفسه فليس لها بل قد أَضاع حقها وضيع سعادتها وكمالها. وإِذا لم يكن لنفسه بل كان كله لربه فقد أحرز كل حظ له وحصل لنفسه سعادتها فإنه إذا كان لله كان الله له، وإذا لم يكن لله لم يكن الله له فكيف تكون نفسه له؟ فهذا من الذين خسروا أَنفسهم.
وقيل: حقيقة الفقر أن لا يستغنى الفقير فى فقره بشيء إلا بمن إليه فقره. وقال أَبو حفص: ((أحسن ما توسل به العبد إِلى مولاه دوام الفقر إِليه على جميع الأَحوال، وملازمة السنة فى جميع الأَفعال، وطلب القوت من وجه حلال)). وقال بعضهم: ((ينبغى للفقير أَن لا تسبق همته خطوته)). قلت: يشير إلى تعلق همته بواجب وقته، وأَنه لا تتخطى همته واجب الوقت قبل إكماله. وأَيضاً يشير إلى قصر أَمله، وأَن همته غير متعلقة بوقت لا يحدّث نفسه ببلوغه وأَيضاً يشير إلى جمع الهمة على حفظ الوقت، وأن لا يضعفها بتقسيمها على الأَوقات.
وقيل: أَقل ما يلزم الفقير فى فقره أَربعة أَشياءَ: علم يسوسه، وورع يحجزه، ويقين يحمله، وذكر يؤنسه. وقال أبو سهل الخشاب لمنصور المغربى: إنما هو فقر وذل. فقال منصور: بل فقر وعز. فقال أَبو سهل: فقر وثرى، فقال منصور: بل فقر وعرش. قلت: أَشار أَبو سهل إِلى البداية ومنصور إِلى الغاية. وقال الجنيد: إِذا لقيت الفقير فالقه بالرفق ولا تلقه بالعلم، فإن الرفق يؤنسه والعلم يوحشه. فقلت: يا أَبا القاسم، كيف يكون فقير يوحشه العلم؟ فقال: نعم، الفقير إِذا كان صادقاً فى فقره، فطرحت عليه العلم ذاب كما يذوب الرصاص فى النار. وقال أبو المظفر القرميسينى: الفقير هو الذى لا يكون له إِلى الله حاجة. قال أَبو القاسم القشيرى: وهذا اللفظ فيه أَدنى غموض على من سمعه على وصف الغفلة عن مرمى القوم، وإِنما أَشار قائله إِلى سقوط المطالبات، وانتفاءِ الاختيار، والرضى بما يجريه الحق سبحانه بتارك وتعالى. قلت: وبعد فهو كلام مستدرك خطأٌ فإِن حاجات هذا العبد إِلى الله بعدد الأَنفاس إِذ حاجته ليست كحاجات غيره من أَصحاب الحظوظ والأَقسام، بل حاجات هؤلاءِ فى حاجة هذا العبد كتفلة فى بحر، فإِن حاجته إِلى الله فى كل طرفة عين أَن يحفظ عليه حاله ويثبت قلبه ويرقيه فى مقامات العبودية ويصرف عنه ما يفسدها عليه ويعرفه منازل الطريق ومكامنها وأَوقاتها ويعرفه مواقع رضاه ليفعلها ويعزم عليها ومواقع سخطه ليعزم على تركها ويجتنبها، فأَى حاجات أَكثر وأَعظم من هذه؟ فالصواب أَن يقال: الفقير هو الذى حاجاته إِلى الله بعدد أَنفاسه أَو أَكثر، فالعبد له فى كل نفس ولحظة وطرفة عين عدة حوائج إِلى الله لا يشعر بكثير منها، فأَفقر الناس إِلى الله من شعر بهذه الحاجات وطلبها من معدنها بطريقها، وإِن كان لا بد من إِطلاق تلك العبارة على أَن منها كل بد فيقال: هو الذى لا حاجة له إِلى الله تخالف مرضاته وتحطه عن مقام العبودية إِلى منزلة الاستغناء، وأَما أَن يقال لا حاجة له إِلى الله فشطح قبيح. وأَما حمل أَبِى القاسم لكلامه على إِسقاط المطالبات وانتفاءِ الاختيار والرضى بمجارى الأَقدار [فإنما يحسن فى بعض الحالات، وهو فى القدر الذى يجرى عليه]، بغير اختياره ولا يكون مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر آخر كما تقدم. وأَما إِذا كان مأْموراً بدفعه ومنازعته بقدر هو أَحب إِلى الله منه- وهو مأْمور به أَمر إِيجاب أَو استحباب- فإِسقاط المطالبات وانتفاءُ الاختيار فيه والسعى عين العجز، والله تعالى يلوم على العجز. وقال أبو خفيف: الفقر [عدم الأملاك، والخروج عن أحكام الصفات، قلت: يريد عدم إضافة شيء] إِليه إِضافة ملك، وأَن يخرج عن أَحكام صفات نفسه ويبدلها بأَحكام صفات مالكه وسيده مثاله أَن يخرج عن حكم صفة قدرته واختياره التى توجب له دعوى الملك والتصرف والإِضافات ويبقى بأَحكام صفة القدرة الأَزلية التى توجب له العجز والفقر والفاقة، كما فى دعاءِ الاستخارة: ((اللَّهم إِنى أَستخيرك بعلمك، وأَستقدرك بقدرتك وأَسأَلك من فضلك العظيم، فإِنك تقدر ولا أَقدر، وتعلم ولا أَعلم وأَنت علام الغيوب))، فهذا اتصاف بأَحكام الصفات العلى فى العبد، وخروج عن أَحكام صفات النفس.
وقال أبو حفص: لا يصح لأَحد الفقر حتى يكون العطاءُ أَحب إِليه من الأَخذ وليس السخاءُ أَن يعطى الواجدُ المعدمَ، وإِنما السخاءُ أَن يعطى المعدمُ الواجدَ. وقال بعضهم: الفقير الذى لا يرى لنفسه حاجة إِلى شيء من الأَشياء سوى ربه تبارك وتعالى. وسئل سهل بن عبد الله: متى يستريح الفقير؟ فقال: إِذا لم ير لنفسه غير الوقت الذى هو فيه. وقال أبو بكر ابن طاهر: من حكم الفقير أَن لا يكون له رغبة، وإِن كان لا بد فلا تجاوز رغبته كفايته وسئل بعضهم عن الفقير الصادق فقال: الذى لا يَملك ولا يُملك وقال ذو النون: دوام الفقر إِلى الله مع التخليط أحب إلى من دوام الصفاء مع العجب والله أعلم.
فصل
فى تحقيق نعت الفقير
فجملة نعت الفقير حقاً أَنه المتخلِّى من الدنيا تطرفاً والمتجافى عنها تعففاً. لا يستغنى بها تكثراً، ولا يستكثر منها تملكاً، وإِن كان مالكاً لها بهذا الشرط لم تضره، بل هو فقير غناه فى فقره، وغنى فقره فى غناه.. ومن نعته أَيضاً أَن يكون فقيراً من حاله وهو خروجه عن الحال تبرياً، وترك الالتفات إِليه تسلياً، وترك مساكنة الأَحوال والرجوع عن موافقتها فلا يستغنى بها اعتماداً عليها ولا يفتقر إِليها مساكنة لها. ومن نعته أَنه يعمل على موافقة الله [و] الصبر والرضى والتوكل والإِنابة، فهو عامل على مراد الله منه لا على موافقة هواه وهو تحصيل مراده من الله، فالفقير خالص بكليته لله عز وجل، ليس لنفسه ولا لهواه فى أَحواله حظ ولا نصيب، بل عمله بقيام شاهد الحق وفناءِ شاهد نفسه، قد غيبه شاهد الحق عن شاهد نفسه فهو يريد الله بمراد الله، فمعَّوله على الله، وهمته لا تقف دون شيء سواه، قد فنى بحبه عن حب ما سواه وبأَمره عن هواه وبحسن اختياره له عن اختياره لنفسه، فهو فى واد والناس فى واد خاضع متواضع سليم القلب، سلس القيادة للحق، سريع القلب إِلى ذكر الله، بريء من الدعاوى لا يدعى بلسانه ولا بقلبه ولا بحاله، زاهد فى كل ما سوى الله، راغب فى كل ما يقرب إِلى الله، قريب من الناس أَبعد شيء منهم، يأْنس بما يستوحشون منه ويستوحش مما يأْنسون به، متفرد فى طريق طلبه لا تقيّده الرسوم ولا تملكه العوائد ولا يفرح بموجود لا يأْسف على مفقود، من جالسه قرت عينه به ومن رآّه ذكرته رؤيته بالله سبحانه، قد حمل كله ومؤنته عن الناس، واحتمل أذاهم وكف أذاه عنهم، وبذل لهم نصيحته وسبل لهم عرضه ونفسه لا لمعاوضة ولا لذلة وعجز، لا يدخل فيما لا يعنيه ولا يبخل بما لا ينقصه، وصفه الصدق والعفة والإِيثار والتواضع والحلم والوقار والاحتمال، لا يتوقع لما يبذله للناس منهم عوضاً ولا مدحة، لا يعاتب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يرى له على أَحد حقاً ولا يرى له على أَحد فضلاً، مقبل على شأْنه مكرم لإِخوانه بخيل بزمانه حافظ للسانه، مسافر فى ليله ونهاره ويقظته ومنامه لا يضع عصا السير عن عاتقه حتى يصل إِلى مطلبه، قد رفع له علم الحب فشمر إِليه، وناداه داعى الإشتياق فأَقبل بكليته عليه، أَجاب منادى المحبة إِذ دعاه حى على الفلاح، ووصل السرى فى بيداءِ الطلب، فحمد عند الوصول سراه، وإِنما يحمد القوم السرى عند الصباح:
فحى على جنـات عـدن فإِنـهـا منازلك الأُولى وفيها المخيــــم
ولكننا سبى العـدو، فـهل تـري نعود إِلى أَوطاننـا ونسلــــم
وحى على روضاتهـا وخيامهـــا وحى على عيش بها ليس يســأم
وحى على يوم المزيد وموعـد الــ محبين، طـوبى للذى هو منهــم
وحــى على واد بهـا هـو أَفيح وتربته من أذفر المسك أعظـــم
ومـن حولها كـثبان مسك مقاعـد لمن دونهم هذا الفخار المعظـــم
يرون به الرحمـن جــل جلالــه كرؤية بدر التـم لا يتوهــــم
أَو الشمس صحواً ليس من دون أُفقها ضباب ولا غيم هناك يغيــــم
(يتبع...)
@وبينـا فى عيشهم وسرورهـــم وأَرزاقهم تجرى عليهم وتقســـم
إِذا هـم بنور ساطح قد بدا لهـــم فقيل ارفعوا أبصاركم، فإِذا هــم
بربهم مـن فوقهـم وهـو قائـل: سلام عليكم طبتم وسلمتــــم
فيـا عجبـا، ما عذر من هو مؤمن بهذا ولا يسعى له ويقـــــدم
فبادر إِذا مـا دام فى العمـر فسحة وعدلك مقبول وصرفك قيـــم
فما فرحت بالوصل نفس مهـــينة ولا فاز قلب بالبطالة ينعــــم
فجدَّ وسارع واغتنم ساعة السـري ففى زمن الإِمكان [تسعى وتغنـم]
وسر مسرعاً فالسير خلفك مــسرع وهيهات ما منه مفر ومهــــزم
فهــن المنــأيا أى واد نزلتــه عليها [قدوم] أو عليك ستقــدم
وإن تك قد عاقتك سعدى فقلبك الـ معنى رهين فى يـديها مسلـــم
وقد ساعدت بالوصل غيرك فالهوي لها منك [والواشـى] بها يتنعــم
فدعها وسلّ النفس عنهــا بجنـة من الفقر فى روضاتها الدر [يبسـم]
ومن تحتها الأنهار تخفـق دائـــماً وطير الأَمانى فوقهــا يتـــرنم
وقد ذللت منها القطوف فمن يــرد جناها ينله كيف شاءَ وينعـــم
وقد فتحـت أبوابها وتزينــــت لخطابها فالحسن فيها [مقســم]
[أقام علي] أبوابهـا داعـى الهـدي هلموا إِلى دار السعادة تغنمـــوا
وقد طاب منها نزلها ومقيلهــــا فطوبى لمن حلوا بها وتنعــــموا
وقد غرس الرحمن فيها غراســــه من الناس، والرحمن بالغرس أعلـم
فمن كان من غرس الإِله فإنــــه سعيد وإلا فالشقا متحتـــــم
فيا مسرعين السير بالله ربكــــم قفوا بى على تلك الربوع وسلمـوا
وقولوا: محب قاده الشوق نحوكــم قضى نحبه فيكم [تعيشوا وتسلموا]
قضى الله رب العالمــين قـضيـة بأَن الهوى يعمى القلوب ويبكــم
وحبكم أَصل الْهـدى ومـــداره وعليه وفوز للمحب ومغنــــم
وتفنى عظام الصــب بعـد ممـاته وأَشواقه وقف عليه محـــــرم
فيا أَيها القلب الذى ملك الهـــوي أَعنتــه، حتام هذا التلــــوُّم
وحتام لا تصحو وقد قرب المــدي ودقت كئوس السير والناس نــوم
بلى سوف تصحو حين ينكشف الغطا ويبدو لك الأَمر الذى كنت تكتـم
ويا موقداً ناراً لغيرك ضؤوهــــا وحر لظاها بين جنبيك يضـــرم
أهذا جنى العلم الذى قد غرستــه وهذا الذى قد كنت ترجوه تطعـم
وهذا هو الحظ الذى قد رضيتـــه لنفسك فى الدارين لو كنت تفهـم
وهذا هو الربح الذى قد كسبتــه لعمرك لا ربح ولا الأَصل يســلم
بخلت بشيء لا يضـرك بذلـــه وجدت بشيءٍ مثله لا يقـــتوَّم
وبعت نعيماً لا انقضاءَ لـــه ولا نظبر ببخس عن قليل سيـــعدم
فهلا عكست الأَمر إن كنت حازمـاً ولكن أَضعت الحزم إن كنت تعلم
وتهدم ما تبنى بكفك جاهــــداً فأنت مدى الأَيام تبنـى وتهــدم
وعند مراد الحق تفــنى كــميت وعنـد مراد النفس تسدى وتلـحم
وعنـد خلاف الأَمــر تحتج بالقضا ظهيراً على الرحمن للجبر تزعــم
تنزه تلك النفس عن سوء فــعلهـا وتغتاب أَقدار الإله وتظلَــــم
وتزعم مع هذا بأنك عــــارف كذبت يقيناً فى الذى أنت تزعــم
وما أنت إلا جاهل ثم ظــــالم وإِنك بين الجاهلين مقـــــدم
إذا كان هذا نصح عبد لنفســـه فمن ذا الذى منه الهدى يتعلـــم
وفى مثل هذا كان قد قال من مضـي وأحسن فيما قالـه المتكلـــم:
فإن كنت لا تدرى فتلك مصيبـــة وإن كنت تدرى فالمصيبة أَعظــم
ولو تبصر الدنيا وراءَ ستورهــــا رأَيت خيالاً فى مـنام سيصــرم
كحلم بطيف زار فى النوم وانقضى الـ منام وراح الطيف والصب معــرم
وظل أَرته الشمس عند طلوعهـــا سيقلص فى وقت الزوال ويفصــم
ومزنة صيف طاب منها مقيلـــها فولت سريعاً والحرور تضـــرّم
فجزها ممراً لا مقراً، وكن بهــــا غريباً تعش فيها حميداً وتسلـــم
أو ابن سبيل قال فى ظل دوحـــة وراح وخلى ظلها يتقســـــم
أخـا سفر لا يستقر قــــراره إلى أَن يرى أَوطانه يسلـــــم
فيا عجباً كم مصرح عطـــبوا به بنوها ولكن عن مصارعهـا عمـوا
سقتهم بكأْس الحب حتى إذا انثنـوا سقتهم كئوس السم والقوم قد ظموا
وأعجب ما فى العبد رؤية هذه الــ ـعظائم منها وهو فيـها متيــم
وأَعجـب من ذا أَن أَحبابهــا الأْلي تهين وللأعداء تراعـى وتكــرم
وذلك برهان على أَن قــــدرها جناح بــــعوض أَو أَدق وأَلأَم
وحسبك ما قال الرسول ممثـــلاً لها ولدار الخلد والحق يفهــــم:
كما يدخل الإنسان فى اليم إصبعــا وينزعها منه فما ذاك يغنــــم
أَلا ليت شعرى هل أَبيتن ليـــلة ِ على حذر منها وأَمرى محكـــم
وهل أَردن ماءَ الحياة وأَرتـــوي علـى ظمأ من حوضه وهو مفعـم
وهل تبدون أَعلامهم بعد ما سفــت عليهــا السوافى تستبين وتعلــم
وهـل أفرشن خدى ثرى عتباتهــم خضوعاً لهم كيما يرقوا ويرحمــوا
وهـل أَرين نفسى طريحاً ببـــابهم وطير أَمانى الحب فوقى تحـــوّم
فوا أَسفى تفنى الحياة وتنقــــضي وعتبكم باق، بقيتم وعشتـــم
فما منكم بد ولا عنكم غــــني وما لى من صبر فأَسلوَ عنكـــم
فمن شاءَ فليغضب سواكـم فلا أَذي إِذا كنتم عن عبدكم قد رضيتــم
وعقبـى اصطبارى فى رضاكم هوي لكم حميد ولكنه عقاب ومغــرم
ومـا أَنا بالشاكى لما ترتضونـــه ولكننى أَرضى به وأُسلـــــم
وحسبى انتسابى من بعيد إِليكـــم وذلك حظ مثله يتيمــــــم
إِذا قيـل هذا عبــدهم ومحبهــم تهلل بشــراً ضاحكاً يتبســـم
وهـا هو قد أَبدى الضــراعة قائلاً لكم بلسان الحال والحال يعلــم:
أَحبتنا عطفاً علينـا فـإِنـنــــا بنا ظمأُ، والمورد العذب أَنتـــم
فيا ساهياً فى غمرة الجهل والهــوي صريـع الأَمانى عن قليل ستنــدم
أَفق قد دنا الوقـت الـذى ليس بعده سوى جنة أَو حر نار تضـــرم
وبالسنة الغــراءِ كن متمســكـاً هى العروة الوثقى التى ليس تفصـم
تمسك بها مسك البخيل بمــــاله وعض عليها بالنواجذ تسلــــم
وإِياك مما أَحدث الناس بعــــدها فمرتع هاتيك الحوادث أَوخـــم
وهيء جواباً عندما تسمع الـــندا من الله يوم العرض: ماذا أجبتــم
به رسلـى لمـا أَتوكم، فمن يجـب سواهم سيخزى عند ذاك وينــدم
وخذ من تقى الرحمن أَسبغ جنـــة ليوم به تبدو عيانـاً جهنــــم
وينصباك الجسر من فوق متـــنها فهاوٍ ومخدوش وناج مسلــــم
ويأْتى إله العالمـــــين لوعـده فيفصــل ما بين العباد ويحكــم
ويأْخذ للمظلوم إِذ ذاك حقــــه فيا ويح من قد كان للخلق يظلـم
وينشر ديــوان الحساب وتوضع الـ ـموازين بالقسط الذى ليس يظلم
فـلا مجرم يخشى هناك ظلامـــة ولا محسن من أجره الذر يهضــم
وتشهد أَعضاءُ المسـيء بمـا جـني لذاك على فيــه المهيمن يختــم
ويا ليت شعرى كيف حالك عندمـا تطاير كتب العالمين وتقســــم
أتأْخذ باليمنى كتابك أَم تــــري بيسراك خلف الظهر منك يسلــم
وتقرأُ فيـه كل شيء عــــملته فيشرق منك الوجه أَو هو يظلــم
تقول كتـابى هـــاؤمُ اقرؤُوه لي تبشر بالجنات حقاً وتعلـــــم
وإِن تكن الأُخرى فإِنك قائــــل ألا ليتنى لم أَوته فهــو مغــرم
فلا والذى شق القلـوب وأَودع الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصـــرم
وحملهـا قلب المحـــــب وإِنه ليضعف عن حمل القميــص ويأْلم
وذللها حتى استكانت لصــولة الـ ـمحبة لا تلوى ولا تتلعثــــم
وذلــل فــيها أَنفسـاً دون ذلها حياض المنايا فوقها هى حـــوم
@لقد فـاز أَقوام وحازوا مـــرابحا بتركهم الدنيا والإقبال منهـــم
على ربهم طول الحياة وحبهــــم على نهج مــا قد سنه فهم هـم
قاعدة شريفة عظيم القدر
حاجة العبد إِليها أَعظم من حاجته إِلى الطعام والشراب والنفس بل وإِلى الروح التى بين جنبيه.
اعلم أَن كل حى سوى الله فهو فقير إِلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره، والمنفعة للحى من جنس النعيم، واللذة والمضرة من جنس الأَلم والعذاب. فلابد من أَمرين:
أحدهما: هو المطلوب المقصود المحبوب الذى ينتفع به ويتلذذ به، والثانى: هو المعين الموصل المحصل لذلك المقصود والمانع لحصول المكروه والدافع له بعد وقوعه. فها هنا أَربعة أَشياءَ: أَمر محبوب مطلوب الوجود، والثانى أمر مكروه مطلوب العدم، والثالث الوسيلة إِلى حصول المحبوب، والرابع الوسيلة إلى دفع المكروه. فهذه الأُمور الأَربعة ضرورية للعبد بل ولكل حى سوى الله، لا يقوم صلاحه إِلا بها إِذا عرف هذا فالله سبحانه وتعالى هو المطلوب المعبود المحبوب وحده لا شريك له وهو وحده المعين للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبود سواه ولا معين على المطلوب غيره، وما سواه هو المكروه المطلوب بعده وهو المعين على دفعه، فهو سبحانه الجامع للأُمور الأَربعة دون ما سواه، وهذا معنى قول العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}* [الفاتحة: 5]، فإن هذه العبادة تتضمن المقصود المطلوب على أكمل الوجوه، والمستعان هو الذى يستعان به على حصول المطلوب ودفع المكروه. فالأَول من مقتضى أُلوهيته، والثانى من مقتضى ربوبيته، لأَن الإِله هو الذى يؤله فيعبد محبة وإِنابة وإِجلالاً وإِكراماً، والرب هو الذى يرب عبده فيعطيه خلقه ثم يهديه إِلى جميع أَحواله ومصالحه التى بها كماله، ويهديه إِلى اجتناب المفاسد التى بها فساده وهلاكه. وفى القرآن سبعة مواضع تنتظم هذين الأَصلين: أحدها قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِيْنُ}* [الفاتحة: 5]، الثانى قوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}* [هود: 88] [الشورى: 10]، الثالث قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}* [هود: 123]، الرابع قوله تعالى: {عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا}* [الممتحنة: 4]، الخامس قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَى الَّذِى لا يُمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}* [الفرقان: 58]، السادس قوله: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَاب}* [الرعد: 30]، السابع قوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً * رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً}* [المزمل: 8- 9]، ومما يقرر هذا أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه ومحبته والإخلاص له، فبذكره تطمئن قلوبهم وبرؤيته فى الآخرة تقر عيونهم، ولا شيء يعطيهم فى الآخرة أحب إِليهم من النظر إِليه، ولا شيء يعطيهم فى الدنيا أَحب إِليهم من الإيمان به ومحبتهم له ومعرفتهم به، وحاجتهم إِليه فى عبادتهم له وتأَلههم له كحاجتهم إِليه بل أَعظم فى خلقه وربوبيته لهم ورزقه لهم، فإِن ذلك هو الغاية المقصودة التى بها سعادتهم وفوزهم، وبها ولأَجلها يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح ولا نعيم ولا لذة ولا سرور بدون ذلك بحال، فمن أَعرض عن ذكر ربه فإِن له معيشة ضنكاً، ويحشره يوم القيامة أَعمى، ولهذا لا يغفر الله لمن يشرك به شيئاً ويغفر ما دون ذلك لمن يشاءُ، ولهذا كانت: ((لا إِله إِلا الله)) أفضل الحسنات. وكان توحيد الإِلهية الذى كلمته لا إله إلا الله رأْس الأَمر، فأَما توحيد الربوبية الذى أَقر به كل المخلوقات فلا يكفى وحده، وإِن كان لا بد منه، وهو حجة على من أَنكر توحيد الأُلوهية.
((فحق الله على العباد أَن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً وحقهم عليه إِذا فعلوا ذلك أَن لا يعذبهم))، وأَن يكرمهم إِذا قدموا عليه، وهذا كما أَنه غاية محبوب العبد ومطلوبه وبه سروره ولذته ونعيمه فهو أَيضاً محبوب الرب من عبده ومطلوبه الذى يرضى به، ويفرح بتوبة عبده إذا رجع إليه وإلى عبوديته وطاعته أعظم من فرح من وجد راحلته التى عليها طعامه وشرابه فى أرض مهلكة بعد أن فقدها وأيس منها، وهذا أعظم فرح يكون، وكذلك العبد فلا فرح له أعظم من فرحه بوجود ربه وأُنسه به وطاعته له وإِقباله عليه وطمأنينته بذكره وعمارة قلبه بمعرفته والشوق إِلى لقائه، فليس فى الكائنات ما يسكن العبد إِليه ويطمئن به ويتنعم بالتوجه إِليه إِلا الله سبحانه، ومن عبد غيره وأَحبه- وإِن حصل له نوع من اللَّذة والمودَّة والسكون إِليه والفرح والسرور بوجوده- ففساده به ومضرته وعطبه أَعظم من فساد أكل الطعام المسموم اللذيذ الشهى الذى هو عذب فى مبدئه عذاب فى نهايته كما قال القائل:
مآرب كانت فى الشباب لأهلها [عذاباً] فصارت فى المشيب عَذَاباً
{لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاّ اللّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللّهِ رَبّ الْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ}* [الأنبياء: 22]، فإن قوام السموات والأرض والخليقة بأن تأله الإله الحق، فلو كان فيهما إله آخر غير الله لم يكن إلهاً حقاً، إذ الإله الحق لا شريك له ولا سمى له ولا مثل له، فلو تأَلهت غيره لفسدت كل الفساد بانتفاء ما به صلاحها، إذ صلاحها بتأَله الإله الحق كما أَنها لا توجد إلا باستنادها إلى الرب الواحد القهار ويستحيل أَن تستند فى وجودها إِلى ربين متكافئين، فكذلك يستحيل أَن تستند فى بقائها وصلاحها إِلى إِلهين متساويين.
إِذا عرف هذا فاعلم أَن حاجة العبد إِلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً فى محبته ولا فى خوفه ولا فى رجائه ولا فى التوكل عليه ولا فى العمل له ولا فى الحلف به ولا فى النذر له ولا فى الخضوع له ولا فى التذلل والتعظيم والسجود والتقرب أَعظم من حاجة الجسد إِلى روحه والعين إِلى نورها. بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به، فإِن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إِلا بإلهها الذى لا إِله إِلا هو، فلا تطمئن فى الدنيا إِلا بذكره وهى كادحة إِليه كدحاً فملاقيته، ولا بد لها من لقائه، ولا صلاح لها إِلا بمحبتها وعبوديتها له ورضاه وإِكرامه لها ولو حصل للعبد من اللذات والسرور بغير الله ما حصل لم يدم له ذلك. بل ينتقل من نوع إِلى نوع ومن شخص إِلى شخص ويتنعم بهذا فى وقت ثم يتعذب به ولا بد فى وقت آخر، وكثيراً ما يكون ذلك الذى يتنعم به ويلتذ به غير منعم له ولا ملذ، بل قد يؤذيه اتصاله به ووجوده عنده ويضره ذلك، وإنما يحصل له بملابسته من جنس ما يحصل للجرب من لذة الأَظفار التى تحكه، فهى تدمى الجلد وتخرقه وتزيد فى ضرره، وهو يؤثر ذلك لما له فى حكها من اللذة، وهكذا ما يتعذب به القلب من محبة غير الله هو عذاب عليه ومضرة وأَلم فى الحقيقة لا تزيد لذته على لذة حك الجرب، والعاقل يوازن بين الأَمرين ويؤثر أَرجحهما وأَنفعهما، والله الموفق المعين، وله الحُجَّة البالغة كما له النعمة السابغة. والمقصود أَن إِله العبد الذى لا بد له منه فى كل حالة وكل دقيقة وكل طرفة عين فهو الإِله الحق الذى كل ما سواه باطل، والذى أَينما كان فهو معه، وضرورته إليه وحاجته إِليه لا تشبهها ضرورة ولا حاجة بل هى فوق كل ضرورة وأَعظم من كل حاجة، ولهذا قال إِمام الحنفاء: {لآ أُحِبّ الاَفِلِينَ}* [الأنعام:76] والله أعلم.
فصل
فى بيان أصلين عظيمين مبنى عليهما ما تقدم
وهذا مبنى على أصلين:
أحدهما: أن نفس الإِيمان بالله وعبادته ومحبته وإخلاص العمل له وإفراده بالتوكل عليه هو غذاءُ الإِنسان وقوته وصلاحه وقوامه، كما عليه أَهل الإيمان، وكما دل عليه القرآن، لا كما يقوله من يقول: إن عبادته تكليف ومشقة على خلاف مقصود القلب ولذته بل لمجرد الامتحان والابتلاء كما يقوله منكرو الحكمة والتعليل، أو لأجل التعويض بالأجر لما فى إيصاله إليه بدون معاوضة منه تكدره، أو لأجل تهذيب النفس ورياضتها واستعدادها لقبول العقليات كما يقوله من يتقرب إلى النبوات من الفلاسفة بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجل، بل أوامر المحبوب قرة العيون وسرور القلوب ونعيم الأرواح ولذات النفوس وبها كمال النعيم، فقرة عين المحب فى الصلاة والحج، وفرح قلبه وسرره ونعيمه فى ذَلِكَ وفى الصيام والذكر والتلاوة، وأَما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، والدعوة إِلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه، فاللذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه، وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأَمل إِقدام القوم على قتل آبائهم وأَبنائهم وأَحبابهم ومفارقة أَوطانهم وبذل نحورهم لأَعدائهم ومحبتهم للقتل وإيثارهم على البقاءِ وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أَمر يذوقه من حلاوته ولذته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد بذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللَّذة والسرور والنعيم أَعظم مما يقوم بقلب العاشق الذى يتحمل ما يتحمله فى موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقة به:
فيا منكراً هذا تأَخر فإِنه حرام على الخفاش أَن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله، وحياته فى معرفته ومحبته فى التوجه إِليه وذكره، وطمأْنينته به وسكونه إِليه وحده عرف هذا وأَقر به.
الأصل الثانى: كمال النعيم فى الدار الآخرة أَيضاً به سبحانه وتعالى: برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه لا كما يزعم من يزعم أَنه لا لذة فى الآخرة إِلا بالمخلوق من المأْكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللّذة والنعيم التام فى حظهم من الخالق تعالى أعظم وأعظم ما يخطر بالبال أَو يدور فى الخيال، وفى دعاءِ النبى ﷺ الذى رواه الإِمام أَحمد فى مسنده وابن حبان والحاكم فى صحيحيهما: ((أَسْأَلُكَ لَذَّةَ الْنَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، فِى غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ)) ولهذا قال تعالى فى حق الكفار: {كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ }* [المطففين: 15- 16]، فعذاب الحجاب من أَعظم أَنواع العذاب الذى يعذب به أَعداءَه، ولذة النظر إِلى وجه الله الكريم أَعظم أَنواع اللذات التى ينعم بها أَولياؤه، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه.
وهذان الأَصلان ثابتان بالكتاب والسُّـنَّة، وعليهما أَهل العلم والإِيمان، ويتكلم فيهما مشايخ الطريق العارفون وعليهما أَهل السُّـنَّة والجماعة، وهما منفطرة الله التى فطر الناس عليها، ويحتجون على من ينكرهما بالنصوص والآثار تارة وبالذوق والوجد وبالفطرة تارة وبالقياس والأَمثال تارة. وقد ذكرنا مجموع هذه الطرق فى كتابنا الكبير فى المحبة الذى سميناه ((المورد الصافى، والظل الضافى)) فى المحبة وأَقسامها وأَنواعها وأَحكامها وبيان تعلقها بالإله الحق دون ما سواه، وذكرنا من ذلك ما يزيد على مائة وجه. ومما يوضح ذلك ويزيده تقريراً أَن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا بضر ولا عطاء ولا منع بل ربه سبحانه الذى خلقه ورزقه وبصره وهداه وأَسبغ عليه نعمة وتحبب إليه بها مع غناه عنه ومع تبغض العبد إِليه بالمعاصى مع فقره إِليه، فإِذا مسه الله بضر فلا كاشف له إِلا هو، وإِذا أَصابه بنعمه فلا رادَّ لها ولا مانع كما قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرّحِيمُ}* [يونس: 107]، و {مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}* [فاطر: 2]، فالعبد لا ينفع ولا يضر ولا يعطى ولا يمنع إِلا بإِذن الله، فالأَمر كله لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، هو مقلب القلوب ومصرفها كيف يشاءُ، المتفرد بالضر والنفع والعطاءِ والمنع والخفض والرفع، ما من دابة إِلا هو آخذ بناصيتها، أَلا له الخلق والأَمر تبارك الله رب العالمين، وهذا الوجه أَعظم لعموم الناس من الوجه الأَول، ولهذا خوطبوا به فى القرآن أَكثر من الأَول، لكن من تدبر طريقة القرآن تبين له أَن الله سبحانه يدعو عباده بهذا الوجه إِلى لأول، فهذا الوجه يقتضى التوكل على الله والاستعانة به والدعاءَ له ومسألته دون ما سواه، ويقتضى أيضاً محبته وعبادته لإِحسانه إِلى عبده وإِسباغ نعمه عليه، فإِذا عبده وأَحبه وتوكل عليه من هذا الوجه دخل فى الوجه الأَول. وهكذا كمن نزل به بلاءٌ عظيم وفاقة شديدة أَو خوف مقلق فجعل يدعو الله ويتضرع إِليه حتى فتح له من لذيذ مناجاته له باب الإِيمان به والإِنابة إِليه وما هو أَحب إِليه من تلك الحاجة التى قصدها أولا لكنه لم يكن يعرف ذلك أَولا حتى يطلبه ويشتاق إِليه فعرفه إِياه بما أَقامه له من الأَسباب التى أَوصلته إِليه. والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إِلى الله دون ما سواه ومن ذكر نعمائه عليهم، ومن ذكر ما وعدهم به فى الآخرة من صنوف النعيم واللذات، وليس عند المخلوق شيء من هذا. فهذا الوجه يحقق التوكل على الله والشكر له ومحبته على إِحسانه.
ومما يوضح ذلك ويقويه أَن فى تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه إِذا أَخذ منه القدر الزائد على حاجته المعينة له على عبودية الله ومحبته وتفريغ قلبه له، فإِنه إِن نال من الطعام الشراب فوق حاجاته ضره أَو أَهلكه، وكذلك من النكاح واللباس، وإِن أَحب شيئاً بحيث يُخالِلُهُ فلا بد أَن يسأَمه أَو يفارقه، فالضرر حاصل له إِن وجد أَو فقد، فإِن فقد تعذب بالفراق وتَأَلم، وإِن وجد فإِنه يحصل له من الأَلم أَكثر مما يحصل له من اللذة. وهذا أَمر معلوم بالاعتبار والاستقراء أَن كل من أَحب شيئاً دون الله لغير الله فإِن مضرته أَكثر من منفعته وعذابه أَعظم من نعيمه، ويزيد ذلك إيضاحاً أَن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب له الضرر من جهته، فإِنه يخذل من تلك الجهة. وهذا أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء فأَنه ما علق العبد رجاءَه وتوكله بغير الله إِلا خاب من تلك الجهة، ولا استنصر بغيره إِلا خذل، قال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}* [مريم: 81- 82]، وقال تعالى: {وَاتّخَذُواْ مِن دُونِ اللّهِ آلِهَةً لّعَلّهُمْ يُنصَرُونَ * لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مّحْضَرُونَ}* [يس: 74-75].
وقال تعالى عن إِمام الحنفاء أَنه قال للمشركين: {إِنّمَا اتّخَذْتُمْ مّن دُونِ اللّهِ أَوْثَاناً مّوَدّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا ثُمّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً}* [العنكبوت: 25]، ولما كان غاية صلاح العبد فى عبادة الله وحده واستعانته وحده كان فى عبادة غيره والاستعانة بغيره غاية مضرته. ومما يوضح الأَمر فى ذلك ويبينه أَن الله سبحانه غنى حميد كريم رحيم، فهو محسن إِلى عبده مع غناه عنه يريد به الخير ويكشف عنه الضر، لا لجلب منفعة إِليه سبحانه ولا لدفع مضرة، بل رحمة وإِحساناً وجوداً محضاً فإنه رحيم لذاته محسن لذاته جواد لذاته كريم لذاته كما أَنه غنى لذاته قادر لذاته حى لذاته، فإِحسانه وجوده وبره ورحمته من لوازم ذاته لا يكون إِلا كذلك، كما أَن قيامه قدرته وغناه من لوازم ذاته فلا يكون إِلا كذلك، وأَما العباد فلا يتصور أَن يحسنوا إِلا لحظوظهم، فأَكثر ما عندهم للعبد أَن يحبوه ويعظموه ليجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة، وذلك من تيسير الله وإِذنه لهم به، فهو فى الحقيقة ولى هذه النعمة ومسديها ومجريها على أَيديهم، ومع هذا فإِنهم يفعلون ذلك إِلا لحظوظهم من العبد، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواءٌ أَحبوه لجماله الباطن أَو الظاهر فإِذا أَحبوا الأَنبياءَ والأَولياءَ فطلبوا لقاءَهم فهم يحبون التمتع برؤيتهم وسماع كلامهم ونحو ذلك، وكذلك من أَحب إِنساناً لشجاعته أَو رياسته أَو جماله أَو كرمه فهو يحب أَن ينال حظه من تلك المحبة ولولا التذاذه بها لما أَحب ذلك، وإِن جلبوا له منفعة أَو دفعوا عنه مضرة- كمرض وعدو- ولو بالدعاءِ فهم يطلبون العوض إِذا لم يكن العمل لله، فأَجناد الملوك وعبيد المماليك وأَجراءُ المستأْجر وأَعوان الرئيس كلهم إِنما يسعون فى نيل أَغراضهم به، لا يعرج أَكثرهم على قصد منفعة المخدوم إِلا أَن يكون قد علم وهذب من جهة أُخرى فيدخل ذلك فى الجهة الدينية، أَو يكون فيه طبع عدل وإِحسان من باب المكافأَة والرحمة، وإِلا فالمقصود بالقصد الأَول هو منفعة نفسه، وهذا من حكمة الله التى أقام بها مصالح خلقه إِذ قسم بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.
فصل
فى بيان منفعة الحق، ومنفعة الخلق، وما بينهما من التباين
إِذا تبين هذا ظهر أَن أَحداً من المخلوقين لا يقصد منفعتك بالمقصد الأَول، بل إِنما يقصد منفعته بك، وقد يكون عليك فى ذلك ضرر إِذا لم يراع المحب العدل، فإِذا دعوته فقد دعوت من ضرُّه أَقرب من نفعه. وأَما الرب تبارك وتعالى فهو يريدك لك ولمنفعتك لا لينتفع بك، وذلك منفعة لك محضة لا ضرر فيها، فتدبر هذا حق التدبر وراعه حق المراعاة، فملاحظة تمنعك أَن ترجو المخلوق أَو تطلب منه منفعته لك فإِنه لا يريد ذلك البتة بالقصد الأَول، بل إِنما يريد انتفاعه بك عاجلاً أَو آجلاً، فهو يريد نفسه لا يريدك، ويريد نفع نفسه بك لا نفعك بنفسه، فتأَمل ذلك فإن فيه منفعة عظيمة وراحة ويأْساً من المخلوقين، سداً لباب عبوديتهم وفتحاً لباب عبودية الله وحده، فما أَعظم حظ من عرف هذه المسأَلة ورعاها حق رعايتها. ولا يحملنك هذا على جفوة الناس وترك الإِحسان إِليهم واحتمال أَذاهم، بل أَحسن إِليهم لله لا لرجائهم، فكما لا تخافهم فلا ترجوهم، ومما يبين ذلك أَن غالب الخلق يطلبون إِدراك حاجتهم بك وإِن كان ذلك ضرراً عليك، فإِن صاحب الحاجة أعمى لا يرى إلا قضاءَها، فهم لا يبالون بمضرتك إِذا أَدركوا منك حاجتهم، بل لو كان فيها هلاك دنياك وآخرتك لم يبالوا بذلك. وهذا إِذا تدبره العاقل علم أَنه عداوة فى صورة صداقة، وأَنه لا أَعدى للعاقل اللبيب من هذه العداوة، فهم يريدون أن يصيروك كالكير ينفخ بطنك ويعصر أَضلاعك فى نفعهم ومصالحهم، بل لو أَبيح لهم أَكلك لجزروك كما يجزرون الشاة، وكم يذبحونك كل وقت بغير سكين [لمصالحهم]، وكم اتخذوك جسراً ومعبراً لهم إِلى أَوطارهم وأَنت لا تشعر، وكم بعت آخرتك بدنياهم وأَنت لا تعلم، وربما علمت. وكم بعت حظك من الله بحظوظهم منك ورحت صفر اليدين،وكم فَوَّتُوا عليك من مصالح الدارين وقطعوك عنها وحالوا بينك وبينها، وقطعوا طريق سفرك إِلى منازلك الأُولى ودارك التى دعيت إِليها وقالوا: نحن أَحبابك وخدمك، وشيعتك وأَعوانك، والساعون فى مصالحك. وكذبوا والله إِنهم لأَعداءٌ فى صورة أَولياءَ وحرب فى صورة مسالمين، وقطاع طريق فى صورة أَعوان. فواغوثاه ثم واغوثاه بالله الذى يغيث ولا يغاث {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}* [التغابن: 14]، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}* [المنافقون: 9]. فالسعيد الرابح من عامل الله فيهم ولم يعاملهم فى الله، وخاف الله فيهم ولم يخفهم فى الله وأَرضى الله بسخطهم ولم يرضهم بسخط الله، وراقب الله فيهم ولم يراقبهم فى الله، وآثر الله عليهم ولم يؤثرهم فى الله، وأَمات خوفهم ورجاءَهم وحبهم من قلبه وأَحى حب الله وخوفه ورجاءَه فيه، فهذا هو الذى يكتب عليهم، وتكون معاملته لهم كلها ربحاً، بشرط أَن يصبر على أَذاهم ويتخذه مغنماً لا مغرماً وربحاً لا خسراناً.
ومما يوضح الأَمر أَن الخلق لا يقدر أَحد منهم أَن يدفع عنك مضرة البتة إِلا بإِذن الله ومشيئته وقضائه وقدره فهو فى الحقيقة الذى لا يأْتى بالحسنات إِلا هو، ولا يذهب بالسيئات إِلا هو: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدّ لِفَضْلِهِ}* [يونس: 107]، قال النبى ﷺ لعبد الله بن عباس: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الْخَليقَةَ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يضروك لم يضروكَ إِلا بِشَيءٍ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ))، وإِذا كانت هذه حال الخلقة فتعليق الخوف والرجاء بهم ضار غير نافع. والله أعلم.
فصل
فى بيان أن المنفعة والمضرة لا تكون إلا من الله وحده
وجماع هذا أَنك إِذا كنت غير عالم بمصلحتك ولا قادر عليها ولا مريد لها كما ينبغى فغيرك أَولى أَن لا يكون عالماً بمصلحتك ولا قادراً عليها ولا مريداً لها، والله سبحانه هو يعلم ولا تعلم ويقدر ولا تقدر، ويعطيك من فضله لا لمعوضة ولا لمنفعة يرجوها منك، ولا لتكثر بك ولا لتعززَّ بك ولا يخاف الفقر ولا تنقص خزائنه على سعة الإِنفاق، ولا يحبس فضله عنك لحاجة منه إِليك واستغناه بحيث إِذا أَخرجه أَثر ذلك فى غناه، وهو يحب الجود والبذل والعطاءَ والإِحسان أَعظم مما تحب أَنت الأَخذ والانتفاع بما سأَلته، فإِذا حبسه عنك فاعلم أَن هناك أمرين لا ثالث لهما: أَحدهما أن تكون أنت الواقف فى طريق مصالحك وأنت المعوِّق لوصول فضله إِليك وأَنت حجر فى طريق نفسك، وهذا هو الأَغلب على الخليقة، فإِن الله سبحانه فيما قضى قضى به أَن ما عنده لا ينال إِلا بطاعته، وأَنه ما استجلبت نعم الله بغير طاعته، ولا استديمت بغير شكره، ولا عوقت وامتنعت بغير معصيته، وكذلك إِذا أَنعم عليك ثم سلبك النعمة فإِنه لم يسلبها لبخل منه ولا استئثار بها عليك وإِنما أَنت المسبب فى سلبها عنك، فإِن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأَنفسهم: {ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىَ قَوْمٍ حَتّىَ يُغَيّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}* [الأنفال: 53]، فما أُزيلت نعم الله بغير معصيته:
إِذا كُنْتَ فِى نِعْمَةٍ فَارْعَهَا فَإِنَّ المعاصِى تُزِيلُ النِّعَــم
فآقتك من نفسك، وبلاؤك من نفسك، وأَنت فى الحقيقة الذى بالغت فى عداوتك، وبلغت من معاداة نفسك ما لا يبلغ العدو منك، كما قيل:
مَا يَبْلُغُ الأَعْدَاءُ مِنْ جَاهِلٍ مَا يَبْلُغُ الْجَاهِلُ مِنْ نَفْســِهِ
ومن العجب أَن هذا شأْنك مع نفسك وأَنت تشكو المحسن البريء عن الشكاية، وتتهم أَقداره وتعانيها وتلومها، فقد ضيعت فرصتك وفرطت فى حظك، وعجز رأَيك عن معرفة أَسباب سعادتك وإِرادتها، ثم قعدت تعاتب القدر بلسان الحال والقال، فأَنت المعنى بقول القائل:
وعاجز الرأَى مضياع لفرصته حتى إِذا فات أَمر عاتب القدرا
ولو شعرت برأْيك، وعلمت من أَين دهيت ومن أَين أُصبت، لأَمكنك تدارك ذلك، ولكن قد فسدت الفطرة وانتكس القلب وأَطفأ الهوى مصابيح العلم والإِيمان منه فأَعرضت عمن هو أَصل بلائك ومصيبتك منه وأقبلت تشكو من كل إِحسان دقيق أَو جليل وصل إِليك فمنه فإِذا شكوته إِلى خلقه كنت كما قال بعض العارفين- وقد رأَى رجلاً يشكو إِلى آخر ما أَصابه ونزل به- فقال: يا هذا تشكو من يرحمك، إِلى من لا يرحمك.
وإِذا أَتَتْكَ مصيبة فاصبر لـها صــبر الكريم فإِنه بك أَرحـم
وإِذا شكوت إِلى ابن آدم إِنما تشكو الرحيم إِلى الذى لا يرحم
وإِذا علم العبد حقيقة الأَمر، وعرف من أَين أُتى ومن أَى الطرق أُغير على سرحه ومن أَى ثغرة سرق متاعه وسلب استحى من نفسه- إِن لم يستح من الله- أَن يشكو أَحداً من خلقه أَو يتظلمهم أَو يرى مصيبته وآفته من غيره، قال تعالى {وَمَآ أَصَابَكُمْ مّن مّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ}* [الشورى:30]، وقال: {أَوَ لَمّا أَصَابَتْكُمْ مّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنّىَ هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ}* [آل عمران: 165]، وقال: {مّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيّئَةٍ فَمِن نّفْسِكَ}* [النساء: 79].
فإِن أَصررت على اتهام القدر وقلت: فالسبب الذى أُصبتُ منه وأُتيت منه ودهيت منه قد سبق به القدر والحكم وكان فى الكتاب مسطوراً، فلا بد منه على الرغم منى، وكيف لى أَن أَنفك منه وقد أُودع الكتاب الأَول قبل بدءِ الخليقة والكتاب الثانى قبل خروجى إِلى هذا العلم وأنا فى ظلمات الأحشاء حين أمر الملك بكتب الرزق والأَجل والسعادة والشقاوة فلو [جريت] إِلى سعادتى ما جريت حتى بقى بينى وبينها شبر لغلب على الكتاب فأَدركتنى الشقاوة، فما حيلة من قلبه بيد غيره يقلبه كيف يشاءُ ويصرفه كيف أَراد، إِن شاء أَن يقيمه أقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه، وهو الذى يحول بين عوارى المرءِ وقلبه، وهو الذى يثبت قلب العبد إِذا شاءَ ويزلزله إِذا شاءَ، فالقلب مربوب مقهور تحت سلطانه لا يتحرك إِلا بإِذنه ومشيئته، قال أَعلم الخلق بربه صلوات وسلامه عليه: ((ما من قلب إِلا وهو بين إِصبعين من أَصابع الرحمن، إِن شاءَ أَن يقيمه أَقامه، وإِن شاءَ أَن يزيغه أَزاغه))، ثم قال: ((اللَّهم مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك))، وكان أَكثر يمينه: ((لا ومقلب القلوب)) وقال بعض السَلَف: ((مثل القلب مثل الريشة فى أَرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن))، فما حيلة قلب هو بيد مقلبه ومصرفه، [وقل] له مشيئة بدون مشيئته، كما قال تعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ}* [التكوير: 29]، وروى عن عبد العزيز ابن أبى حازم عن أَبيه عن سهل بن سعد قال: تلا رسول الله ﷺ قوله عَزَّ وجَلَّ: {أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىَ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ}* [محمد: 24]، وغلام جالس عند رسول الله ﷺ فقال: بلى والله يا رسول الله، إِن عليها لأَقفالها، ولا يفتحها إِلا الذى أَقفلها. فلما ولَى عمر بن الخطاب طلبه ليستعمله وقال: ((لم يقل ذلك إِلا من عقل))، قال طاوس: أدركت ثلاثمائة من أصحاب رسول الله ﷺ يقولون: كل شيء بقدر. وقال أَيوب السختيانى: أَدركت الناس وما كلامهم إِلا: إِن قضى، إِن قدر. وقال عطاءُ عن ابن عباس فى قوله تعالى:
{إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُون}* [الجاثية: 29]، قال: كتب الله أَعمال بنى آدم وما هم عاملون إِلى يوم القيامة. قال: والملائكة تستنسخ ما يعمل بنو آدم يوماً بيوم فذلك قوله: {إِنّ كُنّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}* [الجاثية 29] وفى الآية قول آخر: إِن استنساخ الملائكة هو كتابتهم لما يعمل بنو آدم بعد أَن يعملوه وقد يقال وهو الأَظهر: إِن الآية تعم الأَمرين، فيأْمر الله ملائكته فتستنسخ من أُم الكتاب أَعمال بنى آدم ثم يكتبونها عليهم إِذا عملوها فلا تزيد على ما نسخوه من أُم الكتاب ذرة ولا تنقصها، وقال على بن أَبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}* [القمر: 49]، خلق الله الخلق كلهم بقدر، وخلق الخير والشر، فخير الخير السعادة وشر الشر الشقاوة.
وفى صحيح مسلم عن أَبى الأسود الدؤلى قال: قال لى عمران بن حصين: أَرأَيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون، أَشيء قضى عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أَو فيما يستقبلون ممن أَتاهم به نبيهم وثبتت به الحجة؟ قال: قلت: لا، بل فيما قضى عليهم ومضى قال: أَفيكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت فزعاً شديداً، وقلت: إِنه ليس شيء إِلا خلقه وملكه: {وَلا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَهُمْ يُسْأَلُونَ}* [الأنبياء: 23]، فقال: سددك الله إِنما سَألتك لأُحرز عقلك. إن رجلاً من مزينة- أَو جهينة- أَتى النبى ﷺ فقال: يا رسول الله، أَرأَيت ما يعمل الناس ويتكادحون فيه، أشيء قضى عليهم ومضى، أو فيما يستقبلون مما أَتاهم به نبيهم؟ قال: فيما قضى عليهم ومضى. فقال الرجل: ففيم العمل؟ قال رسول الله ﷺ: ((من كان خلقه الله لإِحدى المنزلتين فسيستعمله لها))، وتصديق ذلك فى كتاب الله عَزَّ وجَلَّ: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَألْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}* [الشمس: 7- 8]، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {إِنَنِّى أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون}* [البقرة: 30]، قال: علم إِبليس المعصية وخلقه لها. وقال تعالى: {فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ}* [الأعراف: 30]، قال ابن عباس: إِن الله سبحانه بدأَ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً ثم قال: {هُوَ الَّذِى خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِن}* [التغابن: 2]، ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأَ خلقهم مؤمن وكافر. وقال سعيد بن جبير: عن ابن عباس فى قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}* [الأنفال: 24]، قال: يحول بين المؤمن والكفر ومعاصى الله، ويجول بين الكافر والإِيمان وطاعة الله. وقال ابن عباس ومالك وجماعة من السَلَف فى قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}* [هود: 118- 119]، قالوا: خلق أَهل الرحمة للرحمة، وأَهل الاختلاف للاختلاف. وقال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا}* [البقرة: 253 {وَلَوْ شِئْنَا لاَتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا}* [السجدة:13]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}* [يونس: 99]، {وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَي}* [الأنعام: 35]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ}* [الأنعام: 112]، وقال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمّنِ افْتَرَىَ عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الْكِتَابِ}* [الأعراف: 37] أَى نصيبهم مما كتب لهم. وقال: {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِى قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}* [الشعراء: 200]، قال الحسن وغيره: الشرك والتكذيب. وقال تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِى سِجّين}* [المطففين: 7]، قال محمد بن كعب القرظى: رقم الله سبحانه كتاب الفجار فى أَسفل الأَرض، فهم عاملون بما قدر رقم عليهم فى ذلكَ الكتاب ورقم كتاب الأَبرار فجعله فى عليين، فهم يؤتى بهم حتى يعملوا ما قدر رقم عليهم فى ذلك الكتاب. وقال ابن عباس: {تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ}* [المسد: 1]، بما جرى من القلم فى اللوح المحفوظ، وقال مجاهد فى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنَ أَيْدِيَهِمْ سَدَّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدَّاً}* [يس: 9]، قال: عن الحق. وفى قوله: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة}* [الإسراء: 46]، قال: فالجعبة فيها السهام، وقال ابن عباس فى قوله تعالى: {وأَضَلَّهُ اللهُ عَلَى عِلْم}* [الجاثية: 23]، قال: أَضله فى سابق علمه، وقال فى قوله تعالى حكاية عن عدوه إِبليس: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِى}* [الأعراف: 16]، قال: أَضللتنى، وقال فى قوله: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ}* [الصافات: 162- 163]، قال: من قضيت له أَنه صال الجحيم. وقال عمر بن عبد العزيز: لو أَراد الله أن لا يعصى لم يخلق إِبليس، وقد فصل لكم وبين لكم ما أَنتم عليه بفاتنين إِلا من قدَّر أَن يصلى الجحيم. وقال وهيب بن خالد: أَنبأنا خالد قال: قلت للحسن: أَلهذه خلق آدم- يعنى السماءَ- أَم للأَرض؟ فقال:لا بل للأَرض.
قال: قلت أَرأَيت لو اعتصم من الخطيئة فلم يعملها، أَكان ترك فى الجنة؟ قال: سبحانه الله أَكَان له بد من أَن يعملها؟ وقال تعالى: {وَجَعَلَنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}* [الأنبياء:73]، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}* [القصص: 41]، وقال: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً}* [الفرقان: 74]، أَى أَئمة يهتدى بنا، ولا تجعلنا أَئمة ضالين يدعون إِلى النار، وقال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}* [الأنعام: 28]، وقال: {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ}* [الأنعام: 110]، وقال: {وَلَوْ أَنّنَا نَزّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلّمَهُمُ الْمَوْتَىَ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلّ شَيْءٍ قُبُلاً مّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوَاْ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ}* [الأنعام: 111]، وقال زيد بن أسلم: والله ما قالت القدرية كما قال الله ولا كما قال رسله ولا كمال قال أَهل الجنة ولا كما قال أَهل النار ولا كما قال أَخوهم إِبليس، قال الله عز وجل: {وَمَا تَشَاءُون إِلا أَن يَشَاءَ الله}* [الإنسان: 30] [التكوير: 29]، وقالت الملائكة: {لا عِلمَ لَنَا إِلا مَا عَلَّمْتَنَا}* [البقرة: 32]، وقال شعيب: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ}* [الأعراف: 89]، وقال أَهل الجنة: {الْحَمْدُ للّهِ الّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلآ أَنْ هَدَانَا اللّهُ}* [الأعراف: 43]، وقال أَهل النار: {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}* [المؤمنون: 106]، وقال أَخوهم إِبليس: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي}* [الحجر: 39]،
وقال مجاهد فى قوله: {وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ}* [الإسراء: 13]، قال: مكتوب فى عنقه شقى أَو سعيد. وقال ابن عباس فى قوله: {وَمَن يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً}* [المائدة: 41] يقول: ومن يرد الله ضلالته لم تغن عنه شيئاً. وذكر الطبرى وغيره من حديث سويد بن سعدٍ عن سوار بن مصعب عن أبى حمزة عن مقسم عن ابن عباس: صعد النبى ﷺ المنبر، فحمد الله وأَثنى عليه، ثم بسط يده اليمنى فقال: ((بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب من الله الرحمن الرحيم لأَهل الجنة بأَسمائهم، وأَسماءِ آبائهم وقبائلهم وعشائرهم، فجمل أولهم على آخرهم، لا ينقص منهم ولا يزاد فيهم، فرغ ربكم وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاءِ حتى يقال [لا ينقض منهم ولا يزاد فيهم. فرغ ربكم. وقد يسلك بأهل السعادة طريق الشقاء حتى يقال] كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم فيردهم ما سبق لهم من الله من السعادة، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها قبل موته بفواق ناقة، وقد يسلك بأَهل الشقاءِ طريق السعادة حتى يقال كأَنهم هم بل هم هم، ما أَشبههم بهم بل هم هم، فيردهم ما سبق لهم من الله، فيعمل بعمل أَهل النار فيدخلها ولو قبل موته بفواق ناقة، فصاحب الجنة مختوم له بعمل أَهل الجنة وإِن عمل عمل أَهل النار، وصاحب النار مختوم له بعمل أَهل النار وإِن عمل بعمل أَهل الجنة، ثم قال رسول الله: ((الأَعمال بخواتيمها))، وقال على بن أبى طلحة عن ابن عباس فى قوله تعالى: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}* [البقرة: 6]، وفى قوله: {وَلَوْ شَآءَ اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَىَ}* [الأنعام:35]، وفى قوله {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً}* [الأَنعام: 125]، وفى قوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَن يَشَآءَ الله}* [الأنعام: 111]، وفى قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلّ نَفْسٍ هُدَاهَا}* [السجدة: 13]، وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِى الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً}* [يونس: 99]، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِى أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً}* [يس: 8]، وقوله: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا}* [الكهف: 28]، ونحو هذا من القرآن، إِن رسول الله كان يحرص أَن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى، فأَخبره الله أَنه لا يؤمن إِلا من سبق له من الله السعادة فى الذكر الأَول، ثم قال لنبيه: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}* [الشعراء: 3]، ويقول: {إِن نّشَأْ نُنَزّلْ عَلَيْهِمْ مّنَ السّمَآءِ آيَةً فَظَلّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}* [الشعراء: 4]، ثم قال: {مّا يَفْتَحِ اللّهُ لِلنّاسِ مِن رّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}* [فاطر: 2]، ويقول: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ}* [آل عمران: 128]، وفى صحيح مسلم عن طاووس: أَدركت ناساً من أَصحاب رسول الله يقولون: كل شيء بقدر. وسمعت عبد الله بن عمر يقول: قال رسول الله ﷺ: ((كل شيء بقدر، حتى العجز والكيس))، وفى صحيح مسلم [أيضاً] عن عبد الله بن [عمر] قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((كتب الله مقادير الخلق قبل أَن يخلق السماوات والأَرض بخمسين أَلف سنة وعرشه على الماءِ))، وفى صحيحه أَيضاً عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((المؤمن القوى خير وأَحب إِلى الله من المؤمن الضعيف، وفى كل خير. فاحرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز، وإِن أصابك شيء فلا تقل: لو أَنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاءَ الله فعل. فإِن لو تفتح عمل الشيطان))، وفى صحيحه أَيضاً عن أَبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((إِنَّ النّذْرَ لا يُقَدِّرُ لابن آدمَ شَيئاً لَمْ يَكُنِ اللهُ قَدَّرَهُ وَلَكِنِ النَّذْرُ يُوافِقُ الْقَدَرَ فَيُخْرِجُ ذَلِكَ مِنَ الْبَخِيلِ مَا لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَهُ))
حديث جبرائيل وسؤاله النبى ﷺ عن الإِيمان قال: ((الإِيمانُ أَنْ تُؤمنَ باللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ))، وفى الصحيحين حديث ابن مسعود فى التخليق وفيه: ((فوالذى لا إِله غيره إِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أَهل النار فيدخل النار، وإِن أَحدكم ليعمل بعمل أَهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إِلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أَهل الجنة فيدخلها))، وذكر الطبرى الحسن بن على الطوسى أَنبأَنا محمد بن يزيد الأَسفاطى البصرى محدِّث البصرة قال: رأَيت رسول الله ﷺ فى النوم فقلت: يا رسول الله، حديث عبد الله بن مسعود حدثنى الصادق المصدوق- أَعنى حديث القدر- فقال: إى والله الذى لا إِله إِلا هو حدثت به، رحم الله عبد الله بن مسعود حيث حدث به، ورحم الله حيث حدث به، ورحم الله الأَعمش حيث حدث به، ورحم الله من حدث به قبل الأَعمش، ورحم الله من يحدث به بعد الأَعمش.
وفى صحيح مسلم عن ابن مسعود: ((الشقى من شقى فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره))، وقد روى حديث تقدير السعادة والشقاوة فى بطن الأُم من حديث عبد الله بن مسعود، وأَنس بن مالك، وعبد الله بن عمر، وعائشة أُم المؤمنين، وحذيفة بن أُسيد، وأَبى هريرة. وقال أَبو الحسن بن عبيد الحافظ: سمعت أَبا عبد الله بن أَبى خيثمة يقول: سمعت عمرو بن على الفلاس يقول: انحدرت من سرَّ من رأَى إِلى بغداد فى حاجة لى فبينما أَنا أَمشى فى بعض الطريق إِذا بجمجة قد نحرت فأَخذتها، فإِذا على الجبهة مكتوب ((شقى)) والياءُ مكسورة إِلى خلف. وهؤلاءِ كلهم أَئمة حفاظ، ذكره الطبرى فى السنة. وفى الصحيحين حديث [على عن] النبى ﷺ: ((ما منكم من أحد إِلا كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة))، فقالوا: يا رسول الله، أَفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فقال: ((اعملوا، فكل ميسر لما خلق له: أَما من كان من أَهل السعادة فييسر لعمل أَهل السعادة، وأَما من كان من أَهل الشقاوة فييسر لعمل أَهل الشقاوة))، ثم قرأ: {فأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَي}* [الليل: 5- 10]
وفى الصحيحين عن عمران بن حصين أَن النبى ﷺ سئل: أَعلم أَهل الجنة من أَهل النار؟ قال: ((نعم))، قيل [له]: ففيم يعمل [العالمون]؟ قال: ((نعم، كل ميسر لما خلق له)). وفى صحيح مسلم عن عائشة قالت: ((دعى رسول الله [ﷺ] إِلى جنازة غلام من الأَنصار، فقلت: يا رسول الله، طوبى لهذا، عصفور من عصافير الجنة، لم يدرك السوءَ ولم يعمله، قال: ((أَو غير ذلك، إن الله تعالى خلق للجنة أَهلا، خلقهم لها وهم فى أصلاب آبائهم وخلق للنار أَهلا خلقهم لها وهم فى أَصلاب آبائهم))، وفى الصحيحين عن ابن عباس عن أُبى بن كعب عن النبى ﷺ قال: ((الغلام الذى قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً، ولو عاش لأَرهق أَبويه طغياناً وكفراً)) وفى مسند الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ فِى [ظُلْمَةٍ ثم ألقى عليهم من نوره وفى لفظ فجعلهم فى] وَاحِدَةٍ، فَأَخَذَ مِنْ نُورِهِ فَأَلْقَاهُ عَلَى تِلْكَ الظُّلْمَةِ، فَمَنْ أَصَابَهُ النُّورُ اهْتَدَى، ومَنْ أَخْطَأَهُ ضَلَّ، فَلِذَلِكَ أَقُولُ:جَفَّ القَلَمُ عَلَى عِلْم الله))، وذكر راشد بن سعد عن أبى عبد الرحمن السلمى أن أَبا قتادة سمع النبى ﷺ يقول: ((خَلَقَ اللهُ آدَمَ وَأَخْرَجَ الْخَلْقَ مِنْ ظهْرِهِ فَقَالَ: هَؤُلاءِ فِى الْجَنَّةِ وَلا أُبَالِى، وَهَؤُلاءِ فِى النَّارِ وَلا أُبَالِى))، قال: قيل: على ما نعمل؟ قال: ((عَلَى مَوَاقعِ الْقَدَرِ))، وذكر أبو داود فى كتاب القدر عن عبد الله بن مسعود أَنه مر على رجل فقالوا: هذا هذا.. ونالوا منه، فقال عبد الله: أَرأَيتم لو قطعتم يده، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له يداً؟ قالوا: لا [قال فلو قطع رجله أكنتم تستطيعون أن تخلقوا له رجلاً؟ قالوا لا]. قال: فلو قطع رأْسه، كنتم تستطيعون أن تخلقوا له رأَساً؟ قالوا: لا، قال: فكما لا تستطيعون أن تغيروا خلقه لا تستطيعون أَن تغيروا خُلقه، إِن النطفة إذا وقعت فى الرحم بعث الله ملكاً فكتب أَجله وعمله ورزقه وشقى أَو سعيد. وذكر فيه عن ابن مسعود مرفوعاً: ((إِنَّمَا هُمَا اثْنَتَان: الْهَدْى وَالْكَلام فَأَحْسَنُ الْكَلامِ كَلامُ اللهِ، وَأَحْسَنُ الْهَدْى هَدْى مُحَمَّد، وَشَرُّ الأُمُورِ مُحَدَثَاتُهَا، وَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، وَإِنَّ كُلَّ مَا هُوَ آتِ قَرِيب وَإِنَّ الشَّقِى مَنْ شَقِى فِى بَطْن أُمِّهِ وَالسَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ))، وقال ابن وهب: أخبرنى يونس عن ابن شهاب أن عبد الرحمن ابن هنيدة حدثه أَن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله ﷺ: ((إِذَا أَرَاد اللهُ أَنْ يَخْلُقَ النَّسَمَة قَالَ مَلَكُ الأَرْحَام تَعْرُّفاً: يَا رَبّ، أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِى اللهُ أَمْرَهُ [ثم يقول: يا رب أشقى أم سعيد؟ فيقضى الله أمره]، ثُمَّ يَكْتُبُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَا هُوَ لاقٍ حَتَّى النَّكْبَةُ يُنْكَبُهَا))
وقال الليث عن عقيل عن ابن شهاب: أخبرنى أَبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أَن رسول الله ﷺ قال: فذكره سواء. قال الزهرى: وحدثنى عبد الرحمن بن أُذينة عن ابن عمر.. مثل ذلك. وذكر أَبو داود أيضاً عن عائشة يرفعه: ((إِن الله حين يريد أَن يخلق الْخلق يبعث ملكاً فيدخل على الرحم فيقول: أَى رب ماذا؟ فيقول: غلام، أَو جارية، أَو ما شاءَ الله أَن يخلق فى الرحم. فيقول: أَى رب، أَشقى أم سعيد؟ فيقول: شقى أو سعيد. فيقول: أى رب، ما أضله، فيقول كذا وكذا. فتقول أى رب، ما خلقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فيقول: يا رب، ما خلائقه؟ فيقول: كذا وكذا، قال: فمَا من شيء إِلا وهو يخلق معه فى الرحم)) وذكر ابن وهب عن ابن لهيعة عن بكر بن سوادة عن أَبى تميم الجيشانى عن أبى ذر أن المنى إِذا مكث فى الرحم أربعين ليلة أَتاه ملك النفوس فعرج به إِلى الرب [تعالى] فى راحته فيقول: يا رب عبدك ذكر أم أُنثى؟ فيقضى الله ما هو قاض. أَشقى أَم سعيد؟ فيكتب ما هو لاق بين عينية. قال أَبو تميم: وقرأ أَبو ذر من فاتحة سورة التغابن خمس آيات. وقال ابن وهب: أَخبرنى ابن لهيعة عن كعب بن علقمة عن عيسى بن هلال عن عبد الله ابن عمرو بن العاص أَنه قال: إِذا مكثت النطفة فى رحم المرأَة أَربعين يوماً جاءَها ملك فاختلجها، ثم عرج بها إلى الرحمن عز وجل فقال: اخلق يا أَحسن الخالقين. فيقضى الله فيها بما يشاءُ من أَمره، ثم يدفع إِلى الملك، فيسأَل الملك عن ذلك فيقول: يا رب، سقط أَم تم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب واحد أَو توأَم؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب ذكر أَم أُنثى؟ فيبين له، فيقول: يا رب، أناقص الأجل أم تام الأجل؟ فيبين له ذلك، ثم يقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيبين له، ثم يقول: يا رب، اقطع رزقه مع [خلقه]، فيهبط بهما جميعاً. فوالذى نفسى بيده ما ينال من الدنيا إِلا ما قسم له، فإِذا أَكل رزقه قبض)).
وفى صحيح مسلم: عن حذيفة بن أُسيد يبلغ به النبى ﷺ قال: ((يدخُلُ الْمَلَكُ على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب، أشقى أَم سعيد؟ فيكتبان، فيقول: يا رب أَذكر أَم أُنثى؟ فيكتبان، ويكتب عمله وأَثره ورزقه، ثم تطوى الصحف ولا يزاد فيها ولا ينقص)). وفى الصحيحين عن أَنس بن مالك- ورفع الحديث- قال: ((إِنَّ اللهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكاً فَيَقُولُ: أَى رَبِ نُطْفَة، أَى رَب عَلَقَة، أَى رَب مُضْغَة، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَقْضِى خَلْقاً قَالَ الْمَلَكُ: أَى رب ذكر أَو أُنثى؟ شقى أَو سعيد، فما الرزق، فما الأَجل؟ فيكتب ذلك فى بطن أُمِّه)). وفى الصحيحين من حديث ابن مسعود عن النبى ﷺ: ((إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِى بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْماً ثُم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم ينفخ فيه الروح، ويبعث إِليه الملك فيؤمر بأَربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أَو سعيد)). وفى حديث ابن مسعود أَن هذا التقدير وهذه الكتابة فى الطور الرابع من أَطوار التخليق عند نفخ الروح فيه، وفى الأَحاديث التى ذكرت أَيضاً آنفاً أَن ذلك فى الأَربعين الأُولى قبل كونه علقة ومضغة، وفى رواية صحيحة: ((إِذا مر بالنطفة ثنتان وأَربعون ليلة بعث الله إِليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها وجلدها)) وفى رواية: ((إِن ذلك يكون فى بضع وأَربعين ليلة)) والله أعلم.
فصل
فى الجمع بين الروايات المتقدمة
الجمع بين هذه الروايات أَن للملك ملازمة ومراعاة بحال النطفة، وأنه يقول: يا رب هذه نطفة، هذه علقة، هذه مضغة فى أوقاتها. فكل وقت يقول فيه ما صارت إليه بأمر الله [تعالى]، وهو أعلم بها وبكلام الملك، فتصرفه فى أوقات: أحدها حين يخلقها الله نطفة ثم ينقلها علقة، وهو أول أوقات علم الملك بأنه ولد، لأنه ليس كل نطفة تصير ولداً، وذلك بعد الأربعين الأُولى فى أول الطور الثانى. ولهذا- والله أعلم- وقعت الإشارة إليه فى أول سورة أنزلها على رسوله: {إقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذى خَلَقَ * خلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ}* [العلق: 1- 2] إذ خلقه من علقة هو أول مبدء الإِنسانية، وحينئذ يكتب رزقه وأجله وعمله وشقاوته وسعادته ثم للملك فيه تصرُّف آخر [فى وقت آخر] وهو تصويره وتخليق سمعه وبصره وجلده وعظمه ولحمه وذكوريته وأُنوثيته وهذا إنما يكون فى الأربعين الثالثة قبل نفخ الروح فيها فإن نفخ الروح لا يكون إلا بعد تمام تصويره. فها هنا تقديران وكتابان: التقدير الأول عند ابتدا ء تعليق التخليق فى النطفة وهو إذا مضى عليها أربعون ودخلت فى طور العلقة. ولهذا فى إحدى الروايات: ((إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة)). والتقدير الثانى الكتابة [الثانية] إذا كمل تصويره وتخليقه وتقدير أعضائه وكونه ذكراً أو أنثى. فالتقدير الأول تقدير لما يكون للنطفة بعد الأربعين، والتقدير الثانى تقدير لما يكون للجنين بعد تصويره، ثم إذا ولد قدر مع ولادته كل سنة ما يلقاه فى تلك السنة، وهو ما يقدر ليلة القدر من العام إلى العام فهذا التقدير أخص من التقدير الثانى، والثانى أخص من الأول ونظير هذا أيضاً أن الله [سبحانه] قدر مقادير الخلائق قبل أَن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم قدر مقادير هذا الخلق حين خلقهم وأوجدهم ثم يقدر كل سنة فى ليلة القدر ما يكون فى ذلك العام. وهكذا تقدير أمر النطفة وشأنها يقع بعد تعلقها بالرحم، وبعد كمال تصوير الجنين، وقد تقدم ذكر تقدير شأْنها قبل خلق السموات والأرض فَهو تقدير بعد تقدير. ونظير هذا أيضاً رفع الأعمال وعرضها على الله فإن عمل العام يرفع فى شعبان كما أخبر به الصادق المصدوق أنه شهر ترفع فيه الأعمال، قال: ((فَأُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ عَمَلِى وَأَنَا صَائِمٌ))، ويعرض عمل الأُسبوع يوم الاثنين والخميس كما ثبت ذلك عن النبى ﷺ، ويعرض عمل اليوم فى آخره والليلة فى آخرها كما فى حديث أبى موسى الذى رواه البخارى عن النبى ﷺ: ((أن الله لا ينام ولا ينبغى له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل))، فهذا الرفع والعرض اليومى أخص من العرض يوم الاثنين والخميس، والعرض فيها أخص من العرض فى شعبان، ثم إذا انقضى الأجل رفع العمل كله وعرض على الله وطويت الصحف، وهذا عرض آخر. وهذه المسائل العظيمة القدر من أَهم فإن قيل: ما تقولون فى قوله: ((إِذَا مَرّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَة بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكاً فَصَوَّرَهَا وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَب أَذكر أَم أُنثى؟ فيقضى ربك ما شاءَ ويكتب الملك. ثم يقول: يا رب أَجله؟ فيقول ربك ما شاءَ ويكتب الملك))، وهذه بعض أَلفاظ مسلم فى الحديث، وهذا يوافق الرواية الأُخرى: ((يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر فى الرحم بأَربعين أَو خمس وأَربعين ليلة فيقول: يا رب أشقى [أم] سعيد؟))
ويوافق مسائل الإيمان بالقدر، فصلوات الله وسلامه على كاشف الغمة وهادى الأُمة محمد ﷺ.
الرواية الأُخرى: ((إن النطفة تقع فى الرحم أربعين ليلة ثم يتسور عليها الملك، وهذا يدل على أن تصويرها عقيب الأربعين الأُولى. قيل: لا ريب أن التصوير المحسوس وخلق الجلد والعظم واللحم إنما يقع فى الأَربعين الثالثة، لا يقع عقيب الأُولى، هذا أمر معلوم بالضرورة، فأما أن يكون المراد بالأَربعين فى هذه الألفاظ الأربعين الثالثة وسمى المضغة فيها نطفة اعتباراً بأول أحوالها وما كانت عليه، أو يكون المراد بها الأربعين الأولى وسمى كتابة [تصويرها وتخليقها] وتقديره اعتباراً بما يئول، فيكون قوله: ((صورها وخلق سمعها وبصرها)) أى قدر ذلك وكتبه وأعلم به، ثم يفعله به بعد الأربعين الثالثة أو يكون المراد به- أى الأربعين- الأربعين الأولى وحقيقة التصوير فيها، فيتعين حمله على تصوير خفى لا يدركه إحساس البشر، فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين انتقلت علقة، وحينذ يكون أول مبدإٍ التخليق فيكون مع هذا المبدإ مبدأُ التصوير الخفى الذى لا يناله الحس ثم إذا مضت الأربعون الثالثة صورت التصوير المحسوس المشاهد فأحد التقديرات الثلاثة يتعين ولا بد، ولا يجوز غير هذا البتة، إذ العلقة لا سمع فيها ولا بصر ولا جلد ولا عظم، وهذا التقدير الثالث أليق بألفاظ الحديث وأشبه وأدل على القدر، والله أعلم بمراد رسوله، غير أنا لا نشك أن التخليق المشاهد والتقسيم إلى الجلد والعظم واللحم إنما يكون بعد الأربعين الثالثة والمقصود أن كتابة الشقاوة والسعادة وما هو لاق، [كان] عند أول تخليقه. ويحتمل وجهاً رابعاً وهو أن النطفة فى الأربعين الأولى لا يتعرض إليها ولا يعتنى بشأْنها، فإذا جاوزتها وقعت فى أطوار التخليق طوراً بعد طور، ووقع حينئذ التقدير والكتابة. فحديث ابن مسعود صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة بن أُسيد وغيره من الأحاديث المذكورة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها، وقد قيدها ووقتها فى حديث ابن مسعود، والمطلق فى مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب، فأخبر بما تكون النطفة بعد الطور الأول من تفاصيل شأنها وتخليقها وما يقدر لها وعليها، وذلك يقع فى أوقات متعددة، وكله بعد الأربعين الأُولى، وبعضه متقدم على بعض، كما أن كونها علقة يتقدم على كونها مضغة وكونها مضغة متقدم على تصويرها والتصوير متقدم على نفخ الروح مع ذلك، فيصح أن يقال: إن النطفة بعد الأَربعين تكون علقة ومضغة، ويصور خلقها، وتركب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح ويكتب شقاوتها وسعادتها. وهذا لا يقتضى وقوع ذلك كله عقيب الأربعين الأولى من غير فصل. وهذا وجه حسن جداً.
والمقصود أن تقدير الشقاوة والسعادة والخلق والرزق سبق خروج العبد إلى دار الدنيا، فأسكنه الجنة أو النار وهو فى بطن أمه. وفى الصحيحين عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لا مَحَالَةَ)) الحديث. وفى صحيح البخارى عن أبى سعيد عن النبى ﷺ قال: ((مَا بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِى وَلا اسْتَخْلَفَ مَنْ خَلِيفة إِلا كَانَ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْخَيْرِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ وَالْمَعْصُوم مَنْ عَصَمَهُ اللهُ))
وفى سنن ابن ماجه عن عدى بن حاتم أنه قال: أَتيت النبى ﷺ فقال: ((يَا عدِى أَسْلِمْ تَسْلَم)) قلت: وما الإسلام؟ قال: ((تَشْهَدُ أَنَّ لا إلَهَ إِلا اللهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللهِ، وَتُؤْمِنُ بِالأَقْدَارِ كُلِّهَا خَيْرِها وَشَرِّهَا وَحُلْوَهَا وَمُرِّهَا)) وفى صحيح البخارى من حديث الحسن عن عمرو بن تغلب قال: أتى النبى ﷺ مال، فأعطى قوماً ومنع آخرين فبلغه أنهم عتبوا، فقال: ((إِنِى أَعْطِى الرَّجُل وَأَدَعُ الرَّجُلَ، وَالَّذِى أَدَعُ أَحَبُّ إِلَى مِنَ الَّذِى أَعْطِى، أَعْطِى أَقْوَاماً لِمَا فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالهَلَع، وَأَكِلُ أَقْوَاماً إِلَى مَا جَعَلَ اللهُ فِى قُلُوبِهِمْ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالْخَيْرِ الحديث.
وفى الصحيحين من حديث عمران بن حصين عن النبى ﷺ: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيءِ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ وَخَلقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَكَتَبَ فِى الذَكْرِ كُلَّ شَيءٍ)).
وفى الصحيح عن ابن عباس أن النبى ﷺ قال لأشجّ عبد القيس: ((إِنَّ فِيك لَخُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ)) قال: يا رسول الله خلقين تخلقت بهما، أم جبلت عليهما؟ قال: ((بَلْ جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا)) قال: الْحمد لله الَّذى جبلنى على خلقين يحبهما اللهُ. وقال أبو هريرة: قال النبى ﷺ: ((جَفَّ الْقَلَمُ بِمَا أَنْتَ لاقٍ)) رواه البخارى تعليقاً.
وذكر البخارى أيضاً عن ابن عباس فى قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}* [المؤمنون: 61] قال: سبقت لهم السعادة.
وفى سنن أبى داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأُبَى بن كعب، وزيد بن ثابت: ((أَن الله لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً فى سبيل الله ما قبله الله منك حتى تؤمن بالقْدَر، وتعلم أَن ما أَصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأَك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلتَ النار))
وقاله زيد بن ثابت عن النبى ﷺ.
وفى سنن أبى داود عن أبى حفص الشامى قال: قال عبادة بن الصامت: يا بنى، إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((إنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمَ فَقَالَ لَهُ: اكتب، قال: يا رَبِّ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُل شَيءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) يا بنى، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْر هَذَا فَلَيْسَ مِنِّى)).
وفىالصحيحين عن على رضى الله عنه قال: كنا فى جنازة فيها رسول الله ﷺ ببقيع الغرقد، فجاء رسول الله ﷺ فجلس ومعه مخصرة، فجعل ينكت بالمخصرة فى الأرض، ثم رفع رأْسه فقال: ((مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا قَدْ كُتِبَ مَكَانُهَا من النَّارِ أَوْ الْجَنَّةِ، إِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةٌ أَوْ سَعِيدَةٌ)). قال: فقال رجل من القوم: يا نبى الله أو لا نتكل على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة ليكونن إلى السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة ليكونن إلى الشقاوة؟ قال: ((اعْمَلُوا، فَكُل مُيَسَّر، أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَة فَيُيَسَّرُونَ لِلسَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِلشَّقَاوَةِ))، ثم قرأ نبى الله: {فَأَمّا مَنْ أَعْطَىَ وَاتّقَىَ * وَصَدّقَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْيُسْرَىَ * وَأَمّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىَ * وَكَذّبَ بِالْحُسْنَىَ * فَسَنُيَسّرُهُ لِلْعُسْرَىَ}* [الليل:5-10]. وفى السنن الأربعة عن مسلم بن يسار الجهنى أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبّكَ مِن بَنِيَ آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرّيّتَهُمْ}* [الأعراف: 172]، فقال: سمعت رسول الله ﷺ قد سئل عنها، فقال رسول الله ﷺ: ((خَلَقَ الله آدَم ثُمَّ مَسَحَ ظهْرَهُ بِيَمِينِهِ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلْجَنَّةِ، وَبِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظَهرَهُ فَاستخْرَجَ مِنْهُ ذُرِّيَّةً فَقَالَ: خَلَقْتُ هَؤُلاءِ لِلنَّار، وَبِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ)) قال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل؟ فقال رسول الله ﷺ: إِنَّ الله تَعَالَى إِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلْجَنَّةِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَملِ أَهْلِ الجَنَّةِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِنْ أَعمَالِ أَهْلِ الجَنَّةِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ الجَنَّةِ، وَإِذَا خَلَقَ العَبْدَ لِلنَّارِ اسْتَعْمَلَهُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى يَمُوتَ عَلَى عَمَلٍ مِن أَعْمَالِ أَهْلِ النَّارِ فَيُدْخِلَهُ بِهِ النَّارَ))
وفى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى قال: قال رسول الله ﷺ: ((إِنَّ الله خَلَقَ آدَمَ مِن قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الأرضِ، فجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الأَرْضِ، جَاءَ مِنْهُم الأَحْمَرُ وَالأَبْيَض وَالأسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالسَّهْل والْحزْن وَالْخَبِيث وَالطَّيِّب)). قال الترمذى: حديث حسن صحيح.
وذكر الطبرى من حديث مالك بن عبد أن رسول الله ﷺ قال لابن مسعود: ((لا [تكثر] هَمُّكَ، ما يُقَدَّرْ يَكُنْ، وَمَا تُرْزَق يَأْتِكَ))
وذكر عن طارق بن شهاب عن عمر قال: قال رسول الله ﷺ: ((بُعِثْتُ دَاعِياً وَمُبَلِّغاً، وَلَيْسَ إِلَى مِنْ الْهُدَى شَيءٌ. وَخُلِقَ إِبْلِيس مُزَيَّناً، وَلَيْسَ إِلَيْهِ مِنَ الضَلالةِ شَيءٌ))،
وقال ابن وهب: [أخبرنا] عبد الرحمن بن سليمان عن عقيل عن عكرمة عن ابن عباس قال: خرج النبى ﷺ فسمع ناساً من أصحابه يذكرون القدر فقال: إِنَّكُمْ قَدْ أخَذْتُمْ فِى شُعْبَتَيْنِ بَعِيدَتِى الغَوْرِ، فِيهمَا هَلَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ قَبْلِكُمْ))، ولقد أخرج يوماً كتاباً فقال: ((هَذَا كِتَابٌ مِن الله الرَّحمن الرَّحيم فيه تَسْمِيَةُ أَهْل الجَنَّةِ بِأَسْمَائِهِمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِهِمْ وقَبَائِلهِمْ وَعَشائِرِهِمْ فَحَمَلَ عَلَى آخِرِهِمْ لا يَنْقُصُ مِنْهُمْ أَحَدٌ: فَرِيقٌ فِى الجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِى السَّعِيرِ)).
وفى الترمذى عن ابن عباس قال: ردفت رسول الله ﷺ يوماً فقال: ((يا غُلامُ، أَلا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللهُ بِهِنَّ؟ احْفَظ الله يَحْفَظْكَ، احْفَظ الله تَجِدهُ أَمامَكَ، تَعَرَّف إِلَى الله فِى الرَّخاءِ يَعْرِفَكَ فِى الشِّدَّةِ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأل الله، وَإذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِالله، رُفِعَت الأَقْلامُ وَجَفَّت الصُحُف، لَوْ جَهِدت الأُمَّة عَلَى أَنْ يَنفَعُوكَ بِشَيءٍ لَمْ يَنْفعُوكَ إِلا بِشَيءٍ قَدْ كَتَبَهُ الله لك ولو جهدت الأمة على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عَلَيْكَ، وَاعْلَم أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ وَأَنَّ الْفَرَج مَعَ الكَرْبِ وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً)). وفى بعض روايات الحديث فى غير الترمذى: ((فَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَعْطُوكَ شَيئاً لَمْ يُعْطِهِ اللهِ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيئاً قَدَّرَهُ اللهُ لَكَ مَا اسْتَطاعُوا، فَاعْبُدِ اللهَ مَعَ الصَّبْر عَلَى الْيَقِينِ))
وقال على بن الجعد: أَنبأَنا عبد الواحد بن سليم البصرى عن عطاء بن أبى رباح قال: سألت [الوليد بن] عبادة بن الصامت: كيف كانت وصية أبيك حين حضره الموت؟ قال: جعل يقول: يَا بنى اتق الله، واعلم أنك لن تتقى الله ولن تبلغ العلم حتى تعبد الله وحده وتؤمن بالقدر خيره وشره. قلت: يا أبت كيف لى أن أُؤمن بالقدر خيره وشره؟ قال: تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وأن ما [أخطأك] لم يكن ليصيبك، فإن مت على غير هذا دخلت النار، سمعت رسول الله ﷺ يقول: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَم [فَقَالَ] لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: مَا أَكْتُبُ؟ فَجَرَى تِلْكَ السَّاعَة بِمَا كَانَ وَما هُوَ كَائِنٌ إِلَى الأَبَدِ))
(يتبع...)
@
وذكر الطبرى من حديث بقية أَنبأَنا أبو بكر العنسى عن يزيد بن أبى حبيب ومحمد بن يزيد قالا: حدثنا نافع عن ابن عمر قال: قالت أُم سلمة: يا رسول الله، لا تزال نفسك فى كل عام وجعة من تلك الشاة الْمسمومة التى أَكلتها؟، قال: ((ما أَصابَنِى [من] شَيْء مِنْهَا إِلا وَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَى وَآدَمُ فِى طِينَتِهِ)).
وفى صحيح مسلم من حديث ابن عباس فى خطبة النبى ﷺ: ((الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضَلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِى لهُ، وَأَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ)).
وفى صحيحه أيضاً عن زيد بن أرقم: كان النبى ﷺ يقول: ((اللَّهُمَ آت نَفْسِى تَقْوَاهَا، وَزَكِّها أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاهَا)). وفى صحيحه أيضاً عن على [رضى الله عنه] عن النبى ﷺ فى دعاءِ الاستفتاح:
((اللهم اهْدِنِى لأحْسَنِ الأَخلاق، لا يَهْدِى لأَحْسَنِهَا إِلا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّى سَيِّئَ الأَخْلاقِ، لا يَصْرِفُ عَنِّى سَيِّئهَا إِلا أَنْتَ))، وفى الترمذى والمسند من حديث عمران بن حصين أن النبى ﷺ علم أباه هذا الدعاء: ((اللُّهُمَّ أَلْهِمْنِى رُشْدِى، وَقِنِى شرّ نَفْسِى)).
وروى سفيان الثورى عن خالد الحذاء عن عبد الله بن الحارث قال: قام عمر بن الخطاب [بالجابية] خطيباً فقال فى خطبته: ((مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لهُ وَمَن يُضْلِلْ فَلا هَادِى لَهُ)) وعنده الجاثليق يسمع ما يقول، قال: فنفض ثوبه كهيئة المنكر، فقال عمر: ما تقولون؟ قالوا: يا أمير المؤمنين يزعم أنَّ الله لا يضل أحداً، قال: كذبت يا عدو الله، بل الله خلقك وهو أضلك، وهو يدخلك النار إن شاء الله، أما والله لولا عهد لك لضربت عنقك، إن الله خلق الخلق فخلق أهل الجنة وما هم عاملون، وخلق أهل النار وما هم عاملون قال: هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه. وذكر الطبرى عن أبى بكر الصديق قال: خلق الله الخلق فكانوا فى قبضته، فقال لمن فى يمينه: ادخلوا الجنة بسلام، وقال لمن فى يده الأُخرى: ادخلوا النار ولا أُبالى، فذهبت إلى يوم القيامة، وقال ابن عمر: جاءَ رجل إلى أبى بكر فقال: أرأيت الزنا بقدر الله؟ فقال: نعم. قال: فإن الله قدره على ثم يعذبنى؟ قال: نعم يا ابن اللخناءِ، أما والله لو كان عندى إنسان أمرت أَن يجأَ أَنفك. وذكر عن على رضى الله عنه أَنه ذكر عنده القدر يوماً فأَدخل إصبعيه السبابة والوسطى فى فيه فرقم بهما باطن يده فقال: [أشهد] أن هاتين الرقمتين كانتا فى أُم الكتاب. وذكر عنه أيضاً أَنه قال: إن أحدكم لن يخلص الإيمان إلى قلبه حتى يستيقن يقيناً غير ظن أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أَخطأَه لم يكن ليصيبه ويقر بالقدر كله.
وذكر البخارى عن ابن مسعود أنه قال فى خطبته: الشقى من شقى فى بطن أُمه، والسعيد من وعظ بغيره. وقال ابن مسعود: لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد فى يدى أحب إلى من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن. وقال: لا يطعم رجل طعم الإيمان حتى يؤمن بالقدر ويعلم أنه ميت، وأنه مبعوث من بعد الموت، وقال الأعمش عن [خثمة عن] ابن مسعود: إنَّ العبد ليهمّ بالأمر من التجارة والإمارة حتى يتيسر له، نظر الله إليه من فوق سبع سمواتٍ فيقول للملائكة: اصرفوه عنه، فإنى إن يسرته له أدخلته النار. قال: فيصرفه الله عنه، قال: فيقول: من أين دهيت؟ أو نحو هذا وما هو إلا فضل الله [عز وجل].
وذكر الزهرى عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف أن عبد الرحمن بن عوف مرض مرضاً شديداً، واغمى عليه وأفاق فقال : أغمى على؟ قالوا نعم قال أنه أتانى رجلان غليظان فأخذا بيدى فقالا : أنطلق نحاكمك إلى العزيز الأمين فنطلقا بى فتلقهما رجل فقال : أين تريدان به؟ قالا : نحاكمه إلى العزيز الأمين فقال : دعاه فإن هذا ممن سبقت له السعاده وهو فى بطن أمه
وقال ابن جريج عن أنبأنا طاوس عن ابيه قال : أشهد [أنى]سمعت ابن عباس يقول : العجز والكيس بقدر
وقال مجاهد : قيل لابن عباس: إن ناساً يقولون فى القدر: قال: يكذبون بالكتاب إن أحدث أحدهم شعراً لاتصونه إن الله عزوجل كان على عرشه قبل أن يخلق شيئاً، فخلق القلم، فكتب ماهو كائن إلى يوم القيامة، فإنه يجرى الناس على أمر قد فرغ منه وقال ابن عباس أيضاً : القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضاً للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كانت العروة الوثقى لاانفصام لها
وقال عطاء بن رباح : كنت عند ابن عباس، فجاءه رجل فقال : ياابن عباس، أرأيت من صدنى عن الهدى وأوردنى دار الضلالة وارداً ، إلا تراه قد ظلمنى؟ فقال : إن كان الهدى شئ كان لك عنده فمنعكه فقد ظلمك ، وإن كان الهدى هو له يؤتيه من يشاء فلا يظلمك . قم ولا تجالسنى.
قال عكرمة عن ابن عباس : كان الهدهد يدل سليمان على الماء فقلت له : فكيف ذاك؟ الهدهدد ينصب له الفخ عليه التراب فقال أعضك الله بهن أبيك ن إذا جاء القضاء ذهب البصر
وقال الإمام أحمد : أنبأنا إسماعيل ، أنبأنا أبا هارون الغنوى ، أنبأنا [ابو] سليمان الذدى عن أبى يحيى "مولى بنى عفراء" قال اتيت ابن عباس ، ومعى رجلان من الذين يذكرون القدر- أو ينكرونه- فقلت يا ابن عباس ما تقول فى القدر؟ فإن هؤلاء يسألونك عن القدر ، إن زنى وإن سرق وإن شرب فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه وقال : يا يحيى لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبوون به ، والله لو أعلم أنك منهم وهذين معك لجاهدتكم ، إن زنى بقدر ، وإن سرق بقدر وإن شرب الخمر فبقدر
وصح عن ابن عمر أن يحيى ابن يعمر قال له : إن ناساً يقولون : لا قدر ، وأن الأمر أنف فقال : إذا لقيت هؤلاء فأخبرهم أن ابن عمر برئ منهم وأنهم براء منه ، وقد تقدم قول أبي ابن كعب ، وحذيفة وابن مسعود ، وزيد ابن ثابت : لو أنفقت مثل جبل أحداً ذهباً فى سبيل الله ما قبل منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وإن مت على غير ذلك دخلت النار وتقدم قول عبادة ابن الصامت : لن تؤمن حتى تؤمن بالقددر خيره وشره، وتؤمن أنه ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك
وقال قتادة عن أبى السوار عن الحسن بن على قال : قضى القضاء وجف القلم ، وأمور بقظاء قد خلا
وقال عمرو بن العاص : انتهى عجبى إلى ثلاث : المرء يفر من القدر وهو لقيه ، ويرى فى عين أخيه الفذة ويكون فى عينه مثل الجذع فلا يعيبها ، ويكون فى دابته الطفر قيقومه جهده ويكون فى نفسه الطفر فلا يقومها
قال أبو الدرداء : ذروة الإيمان أربع الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ، والإخلاص للتوكل ، والاستسلام للرب
وقال الحجاج الأزدى : سألنا سلمان ما الإيمان بالقدر؟ فقال : أن تعلم إن ما أصابك لم يكن ليخطأك وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وقال سلمان أيضاً : إن الله لم خلق أدم مسح ظهره فأخرج منها زرارى إلى يوم القيامة، وكتب الأجال والأعمال والأرزاق والشقاوة والسعادة فمن علم السعادة فعل الخير ومجالس الخير ومن علم الشقاوة فعل الشر ومجالس الشر، وقال جابر ابن عبد الله : لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وقال هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عائشة : إن العبد ليعمل الزمان بعمل أهل الجنة وإنه عند الله مكتوب من أهل النار ، والأثار فى ذلك أكثر من أن تذكر ، وإنما أشرنا إلى بعضها أشارة
فصل
فى بعض أقوال القدريه ومذاهبهم
فالجواب : أن هاهنا مقامين : مقام إيمان وهدى ونجاة ، ومقام ضلال وردى وهلاك زلت فيه أقدام فهوت بصاحبها إلى دار الشقاء
فأما مقام الإيمان والهدى والنجاة فمقام إثبات القدر والإيمان به ، وإسناد جميع الكائنات إلى مشيئة ربها وبارئها وفاطرها ، وأن ماشاء كان وإن لم يشأ الناس ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاء الناس، وهذه الأثاركلها تحقق هذا المقام وتبين أن من لم يؤمن بالقدر فقد أنسلخ من التوحيد ولبس جلباب الشرك ، بل لم يؤمن بالله ولم يعرفه ، وهذا فى كل كتاب انزله الله على رسله
وأما المقام الثانى : وهو مقام الهدى وهو مقام الضلال والردى والهلاك فهو الاحتجاج به على ذنبه على الله وحمل العبد ذنبه على ربه وتنزيه النفس الجاهلة الظالمة الأمارة بالسوء وجعل أرحم الراحمين وأعدل العادلين وأحكم الحاكمين وأغنى الأغنياء أضر على العباد من أبليس ، كما صرح به بعضهم واحتج عليه بما خصمه فيه من لا تدحض حجته
ولا تطاق مغالبته حتى يقول قائل هؤلاءِ :
ما حيلة العبد والأقدار جارية عليه فى كل حال أيها الرائي
ألقاه فى اليم مكتوفاً وقال له إياك إياك أن تبتل بالمــاء
ويقول قائلهم:
دعانى وسد الباب دونى فهل إلى دخولى سبيل؟ بينوا لى قصتي
ويقول الآخر:
وضعوا اللحم للبزاة على ذروتى عــدن
ثم لامـوا البزاة إذ خلعوا عنهم الرسـن
لو أرادوا صيانـتى سَتروا وَجْهَك الحسن
وقال بعضهم- وقد ذكر له ما يخاف من إفساده- فقال: لى خمس بنات لا أخاف على إفسادهن غيره وصعد رجل يوماً على سطح دار له، فأشرف على غلام له يفجر بجاريته فنزل وأخذهما ليعاقبهما، فقال الغلام: إن القضاء والقدر لم يدعانا حتى فعلنا ذلك. فقال: لعلمك بالقضاء والقدر أحب إلى من كل شيء، أنت حر لوجه الله. ورأى آخر رجلاً يفجر بامرأته، فبادر ليأخذه فهرب، فأقبل يضرب المرأة وهى تقول: القضاءُ والقدر. فقال: يا عدوة الله أتزنين وتعتذرين بمثل هذا؟ فقالت: أو تركت السنة وأخذت بمذهب ابن عباس، فتنبه ورمى بالسوط من يده واعتذر إليها وقال: لولاك لضللت، ورأى آخر رجلاً آخر يفجر بامرأته فقال: ما هذا؟ فقالت: هذا قضاءُ الله وقدره. فقال: الخيرة فيما قضى الله، فلقب بالخيرة فيما قضى الله، وكان إذا دعى به غضب، وقيل لبعض هؤلاء: أليس [الله عز وجل] يقول: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}* [الزمر: 7] فقال: دعنا من هذا، رضيه وأحبه وأراده، وما أفسدنا غيره، ولقد بالغ بعضهم فى ذلك حتى قال: القدر عذر لجميع العصاة، وإنما مثلنا فى ذلك كما قيل:
إذا مرضنا أَتيناكم نعودكم وتذنبون فنأْتيـكم فنعتــذر
وبلغ بعض هؤلاء أن علياً مر بقتلى النهروان فقال: بؤساً لكم، لقد ضركم من غركم. فقيل: من غرّهم؟ فقال: الشيطان، والنفس الأمارة بالسوءِ، والأمانى، فقال هذا القائل: كان على قدرياً، وإلا فالله غرهم وفعل بهم ما فعل وأوردهم تلك الموارد. واجتمع جماعة من هؤلاء يوماً فتذاكروا القدر، فجرى ذكر الهدهد وقوله:{وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}* [النمل: 24] فقال: كان الهدهد قدرياً أضاف العمل إليهم والتزيين إلى الشيطان، وجميع ذلك فعل الله. وسئل بعض هؤلاء عن قوله تعالى لإبليس: {مَا مَنْعَك أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدِى}* [سورة ص: 75]: أيمنعه، ثم يسأله ما منعه؟ قال: نعم، قضى عليه فى السر ما منعه فى العلانية ولعنه عليه، قال له: فما معنى قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِم لَوْ آمَنُوا بِالله}* [النساء: 39] إذا كان هو الذى منعهم؟ قال: استهزاءً بهم. قال: فما معنى قوله: {مَا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وآمنتم}* [النساء: 147] قال: قد فعل ذلك بهم من غير ذنب جنوه، بل ابتدأهم بالكفر ثم عذبهم عليه، وليس للآية معنى، وقال بعض هؤلاء- وقد عوتب على ارتكابه معاصى الله فقال: إن كنت عاصياً لأمره فأنا مطيع لإرادته. وجرى عند بعض هؤلاء ذكر إبليس وإبائه وامتناعه من السجود لآدم، فأخذ الجماعة يلعنونه ويذمونه، فقال: إلى متى هذا اللوم؟ ولو خلى لسجد، ولكن منع. وأخذ يقيم عذره فقال بعض الحاضرين: تباً لك سائر اليوم، أتذب عن الشيطان وتلوم الرحمن؟ وجاء جماعة إلى منزل رجل من هؤلاء فلم يجدوه، فلما رجع قال: كنت أصلح بين قوم فقيل له: وأصلحت بينهم؟ قال: أصلحت، إن لم يفسد الله. فقيل له: بؤساً لك، أتحسن الثناء على نفسك وتسيء الثناء على ربك؟ ومُرَّ بلصّ مقطوع اليد على بعض هؤلاء فقال: مسكين، مظلوم، أجبره على السرقة ثم قطع يده عليها، وقيل لبعضهم: أترى الله كلف عباده ما لا يطيقون ثم يعذبهم عليه؟ قال: والله قد فعل ذلك، ولكن لا نجسر أن نتكلم. وأراد رجل من هؤلاء السفر، فودع أهله وبكى. فقيل: استودعهم الله واستحفظهم إياه. فقال: ما أخاف عليهم غيره، وقال بعض هؤلاء: ذنبة أذنبها أحب إلى من عبادة الملائكة. قيل: ولم؟ قال: لعلمى بأن الله قضاها على وقدرها، ولم يقضها إلا والخيرة لى فيها وقال بعض هؤلاء: العارف لا ينكر منكراً، لاستبصاره بسر الله فى القدر. ولقد دخل شيخ من هؤلاء بلداً، فأول ما بدأ به من الزيارات زيارة المواخير المشتملة على البغايا والخمور، فجعل يقول: كيف أنتم فى قدر الله.
وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: عاتبت بعض شيوخ هؤلاء فقال لى: المحبة نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب والكون كله مراده، فأى شيء أبغض منه؟ قال: فقلت له إذا كان المحبوب قد أبغض بعض من فى الكون وعاداهم ولعنهم، فأحببتهم أنت وواليتهم، أكنت ولياً للمحبوب أو عدواً له؟ قال: فكأنما ألقم حجراً. وقرأ قاريء بحضرة بعض هؤلاء: {قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ}* [ص: 75]، فقال: هو والله منعه، ولو قال إبليس ذلك لَكَانَ صادقاً، وقد أخطأ إبليس الحجة، ولو كنت حاضراً لقلت له: أنت منعته، وسمع بعض هؤلاء قارئاً يقرأ: {وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبّواْ الْعَمَىَ عَلَى الْهُدَىَ}* [فصلت: 17] فقال: ليس من هذا شئ، بل أضلهم وأعماهم. قالوا: فما معنى الآية؟ قال: مخرقة يمخرق بها.
فيقال: الله أكبر على هؤلاء الملاحدة أعداء الله حقاً الذين ما قدروا الله حق قدره، ولا عرفوه حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، ولا نزهوه عما لا يليق به، وبغضوه إلى عباده وبغضوهم إليه سبحانه، وأساؤوا الثناء عليه جهدهم وطاقتهم، وهؤلاء خصماءُ الله حقاً الذين جاء فيهم الحديث: ((يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ: أَيْنَ خُصَمَاءُ الله؟ فَيُؤمَرُ بِهِمْ إِلَى النَّارِ)). قال شيخ الإسلام ابن تيمية فى تائيته:
ويدعى خصوم الله يوم معاده إلى النار طراً فرقة القدرية
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به للشريعة
وسمعته يقول: القدرية المذمومون فى السنة وعلى لسان السلف هم هؤلاء الفرق الثلاث: نفاته، وهم القدرية المجوسية، والمعارضون به للشريعة الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا}* [الأنعام: 148]، وهم القدرية الشركية والمخاصمون به للرب سبحانه وهم أعداءُ الله وخصومه وهم القدرية الإبليسية. وشيخهم إبليس، وهو أول من احتج على الله بالقدر فقال: {بِمَا أَغْوَيْتَنِى}* [الحجر: 39]، ولم يعترف بالذنب يَبُوءُ به كما اعترف به آدم، فمن أقر بالذنب وباءَ به ونزّّه ربه فقد أشبه أباه آدم، ومن أشبه أباه فما ظلم. ومن برأ نفسه واحتج على ربه بالقدر فقد أشبه إبليس. ولا ريب أن هؤلاء القدرية الإبليسية والشركية شر من القدرية النفاة، لأن النفاة إنما نفوه تنزيهاً للرب [تعالي] وتعظيماً له أن يقدر الذنب ثم يلوم عليه ويعاقب، ونزهوه أن يعاقب العبد على ما لا صنع للعبد فيه البتة بل هو بمنزلة طوله وقصره وسواده وبياضه [وحوله] ونحو ذلك، كما يحكى عن بعض الجبرية أنه حضر مجلس بعض الولاة فأتى بطرّار أحول فقال له الوالى: ما ترى فيه؟ فقال: اضربه خمسة عشر- يعنى سوطاً- فقال له بعض الحاضرين ممن ينفى الجبر: بل ينبغى أن يضرب ثلاثين سوطاً [خمسة عشر] لطره، [ومثلها] لحوله. فقال الجبرى: كيف يضرب على الحول ولا صنع له فيه؟ فقال: كما يضرب على الطر ولا صنع له فيه عندك، فبهت الجبرى. وأما القدرية الإبليسية والشركية فكثير منهم منسلخ عن الشرع، عدو لله ورسله، لا يقر بأمر ولا نهى، وتلك وراثة عن شيوخهم الذين قال الله فيهم: {سَيَقُولُ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذّبَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتّىَ ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ الظّنّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاّ تَخْرُصُونَ}* [الأنعام: 148]، وقال تعالى: {وَقَالَ الّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نّحْنُ وَلآ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرّسُلِ إِلاّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ}* [النحل:35]، وقال تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُونَ}* [الزخرف: 20]، وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمّا رِزَقَكُمُ الله قَالَ الّذِينَ كَفَرُواْ لِلّذِينَ آمَنُوَاْ أَنُطْعِمُ مَن لّوْ يَشَآءُ اللّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاّ فِي ضَلاَلٍ مّبِينٍ}* [يس: 47]، فهذه أربعة مواضع فى القرآن بين سبحانه فيها أن الاحتجاج بالقدر من فعل المشركين المكذبين للرسل.
وقد افترق الناس فى الكلام على هذه [الآيات] أربعة فرق:
الفرقة الأولى: جعلت هذه الآيات حجة صحيحة، وأن للمحتج بها الحجة على الله. ثم افترق هؤلاء فرقتين: فرقة كذبت بالأمر والوعد والوعيد، وزعمت أن الأمر والنهى والوعد والوعيد بعد هذا يكون ظلماً، والله لا يظلم من خلقه أحداً وفرقة صدقت بالأمر والنهى والوعد والوعيد وقالت: ليس ذلك بظلم، والله يتصرف فى ملكه [كما] يشاءُ، ويعذب العبد على ما لا صنع له فيه، بل يعذبه على فعله هو سبحانه لا على فعل عبده، إذ العبد لا فعل له، والملك ملكه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فإن هؤلاء الكفار إنما قالوا هذه المقالة التى حكاها الله عنهم استهزاءً منهم، ولو قالوها اعتقاداً للقضاء والقدر وإسناداً لجميع الكائنات إلى مشيئته وقدرته لم ينكر [ذلك] عليهم، ومضمون قول هذه الفرقة أن هذه حجة صحيحة إذا قالوها على وجه الاعتقاد لا على جهة الاستهزاء فيكون للمشركين على الله الحجة، وكفى بهذا القول فساداً وبطلاناً.
الفرقة الثانية: جعلت هذه الآيات حجة لها فى إبطال القضاء والقدر والمشيئة العامة إذ لو صحت المشيئة العامة وكان الله عز وجل قد شاء منهم الشرك والكفر وعبادة الأوثان لكانوا قد قالوا الحق وكان الله [عز وجل] يصدقهم عليه ولم ينكر عليهم، فحيث وصفهم بالخرص الذى هو الكذب، ونفى عنهم العلم، دل على أن هذا الذى قالوه ليس بصحيح، وأنهم كاذبون فيه إذ لو كان علماً لكانوا صادقين فى الإخبار به ولم يقل لهم: {هَلْ عِندَكُمْ مِنْ عِلْمٍ}* [الأنعام: 148]، وجعلت هذه الفرقة هذه الآيات حجة لها على التكذيب بالقضاء والقدر، وزعمت بها أن يكون فى ملكه ما لا يشاءُ، ويشاء ما لا يكون، وأنه لا قدرة له على أفعال عباده من الإنس والجن والملائكة ولا على أفعال الحيوانات، وأنه لا يقدر أن يضل أحداً ولا يهديه ولا يوفقه أكثر مما فعل به، ولا يعصمه من الذنوب والكفر ولا يلهمه رشده، ولا يجعل فى قلبه الإيمان، ولا هو الذى جعل المصلى مصلياً والبر براً والفاجر فاجراً والمؤمن مؤمناً والكافر كافراً، بل هم الذين جعلوا أنفسهم كذلك. فهذه الفرقة شاركت الفرقة التى قبلها فى إِلقاء الحرب والعداوة بين الشرع والقدر: فالأولى تحيزت إلى القدر وحاربت الشرع، والثانية تحيزت إلى الشرع وكذبت القدر.
والطائفتان ضالتان، وإحداهما أضل من الأخرى.
والفرقة الثالثة: آمنت بالقضاء والقدر، وأقرت بالأمر والنهى، ونزلوا كل واحد منزلته. فالقضاءُ والقدر يؤمن به ولا يحتج به، والأمر والنهى يمتثل ويطاع. فالإيمان بالقضاء والقدر عندهم من تمام التوحيد وشهادة أن لا إلَه إلا الله، والقيام بالأمر والنهى موجب شهادة أن محمداً رسول الله. وقالوا: من لم يقر بالقضاء والقدر ويقوم بالأمر والنهى فقد كذب بالشهادتين وإن نطق بهما بلسانه. ثم افترقوا فى وجه هذه الآيات فرقتين: فرقة قالت: إنما أنكر عليهم استدلالهم بالمشيئة العامة والقضاء والقدر على رضاه ومحبته لذلك، فجعلوا مشيئته له وتقديره له دليلاً على رضاه به ومحبته له، إذ لو كرهه وأبغضه لحال بينهم وبينه، فإن الحكيم إذا كان قادراً على دفع ما يكرهه ويبغضه دفعه ومنع من وقوعه وإذا لم يمنع من وقوعه لزم إما عدم قدرته وإما عدم حكمته، وكلاهما ممتنع فى حق الله، فعلم محبته لما نحن عليه من عبادة غيره ومن الشرك به، وقد وافق هؤلاء من قال: إن الله يحب الكفر والفسوق والعصيان ويرضى بها، ولكن خالفهم فى أنه نهى عنها وأمر بأضدادها ويعاقب عليها، فوافقهم فى نصف قولهم وخالفهم فى الشطر الآخر، وهذه الآيات من أكبر الحجج على بطلان قول الطائفتين، وأن مشيئة الله تعالى العامة وقضاءَه وقدره لا يستلزم محبته ورضاه لكل ما شاءَه وقدَّره. وهؤلاء المشركون لما استدلوا بمشيئته على محبته ورضاه كذبهم وأنكر عليهم وأخبر أنه لا علم لهم بذلك وأنهم خارصون مفترون فإن محبة الله [تعالى] للشيء ورضاه به إنما يعلم بأمره به على لسان رسوله لا بمجرد خلقه له، فإنه خلق إبليس وجنوده وهم أعداؤه وهو تعالى يبغضهم ويلعنهم وهم خلقه، فهكذا فى الأفعال خلق خيرها وشرها، وهو يحب خيرها ويأمر به ويثيب عليه ويبغض شرها وينهى عنه ويعاقب عليه وكلاهما خلقه ولله تعالى الحكمة البالغة التامة فى خلقه ما يبغضه ويكرهه من الذوات والصفات والأفعال، كل صادر عن حكمته وعلمه كما هو صادر عن قدرته ومشيئته. وقالت الفرقة الثانية: إنما أنكر عليهم معارضة الشرع بالقدر ودفع الأمر بالمشيئة، فلما قامت عليهم حجة الله ولزمهم أمره ونهيه دفعوه بقضائه وقدره، فجعلوا القضاءَ والقدر إبطالاً لدعوة الرسل ودفعاً لما جاؤوا به، وشاركهم فى ذلك إخوانهم وذريتهم الذين يحتجون بالقضاء والقدر على المعاصى والذنوب فى نصف أقوالهم وخالفوهم فى النصف الآخر وهو إقرارهم بالأمر والنهى.
فانظر كيف انقسمت هذه المواريث على هذه السهام وورث كل قوم أئمتهم وأسلافهم، إما فى جميع تركتهم وإما فى كثير منها. وإما فى جزء منها. وهدى الله بفضله ورثة أنبيائه ورسله لميراث نبيهم وأصحابه فلم يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، بل آمنوا بقضاء الله وقدره ومشيئته العامة النافذة، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه مقلب القلوب ومصرفها كيف أراد، وأنه هو الذى جعل المؤمن مؤمناً والمصلى مصلياً والمتقى متقياً، وجعل أئمة الهدى يهدون بأمره وأئمة الضلالة يدعون إلى النار، وأنه ألهم كل نفس فجورها وتقواها ؛ وأنه يهدى من يشاءُ بفضله ورحمته ويضل من يشاءُ بعدله وحكمته، وأنه هو الذى وفق أهل الطاعة لطاعته فأطاعوه ولو شاء لخذلهم فعصوه وأنه حال بين الكفار وقلوبهم فإنه يحول بين المرء وقلبه فكفروا به ولو شاء لوفقهم فآمنوا به وأطاعوه، وأنه من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له، وأنه لو شاء لآمن من فى الأرض كلهم جميعاً إيماناً يثابون عليه ويقبل منهم ويرضى به عنهم، وأنه لو شاء ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد: {ولَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}* [الأنعام: 112].
والقضاءُ والقدر عندهم أربع مراتب جاءَ بها نبيهم وأخبر بها عن ربه تعالى: الأولى: علمه السابق بما هم عاملوه قبل إيجادهم. الثانية كتابة ذلك فى الذكر عنده قبل خلق السموات والأرض. الثالثة مشيئته المتناولة لكل موجود، فلا خروج لكائن عن مشيئته كما لا خروج له عن علمه. الرابعة خلقه له وإيجاده وتكوينه، فإنه لا خالق إلا الله، والله خالق كل شيء. فالخالق عندهم واحد وما سواه فمخلوق ولا واسطة عندهم بين الخالق والمخلوق، ويؤمنون مع ذلك بحكمته، وأنه حكيم فى كل ما فعله وخلقه، وأن مصدر ذلك جميعه عن حكمة تامة هى التى اقتضت صدور ذلك وخلقه، وإن حكمته حكمة حق عائدة إليه قائمة به كسائر صفاته، وليست عبارة عن مطابقة علمه لمعلومه وقدرته لمقدوره كما يقوله نفاة الحكمة الذين يقرون بلفظها دون حقيقتها، بل هى أمر وراء ذلك، وهى الغاية المحبوبة له المطلوبة التى هى متعلق محبته وحمده، ولأجلها خلق فسوَّى وقَدَّر فهدى، وأمات وأحيا وأسعد وأشقى، وأضل وهدى ومنع وأعطى، وهذه الحكمة هى الغاية، والفعل وسيلة إليها، فإثبات الفعل مع نفيها إثبات للوسائل ونفى للغايات وهو محال، إذ نفى الغاية مستلزم لنفى الوسيلة، فنفى الوسيلة وهى الفعل لازم لنفى الغاية وهى الحكمة، ونفى قيام الفعل والحكمة به نفى لهما فى الحقيقة، إذ فعل لا يقوم بفاعله وحكمة لا تقوم بالحكيم شيء لا يعقل، وذلك يستلزم إنكار ربوبيته وإلهيته، وهذا لازم لمن نفى ذلك، ولا محيد له عنه وإن أبى التزامه، وأما من أثبت حكمته وأفعاله على الوجه المطابق للعقل والفطرة وما جاءت به الرسل لم يلزم من قوله محذور البتة، بل قوله حق، ولازم الحق حق كائناً ما كان
والمقصود أن ورثة الرسل وخلفاءَهم- لكمال ميراثهم لنبيهم- آمنوا بالقضاء والقدر والحكم والغايات المحمودة فى أفعال الرب وأوامره، وقاموا مع ذلك بالأمر والنهى، وصدقوا بالوعد والوعيد، فآمنوا بالخلق الذى من تمام الإيمان به إثبات القدر والحكمة، وبالأمر الذى من تمام الإيمان به الإيمان بالوعد والوعيد وحشر الأجساد والثواب والعقاب، فصدقوا بالخلق والأمر، ولم ينفوهما بنفى لوازمهما كما فعلت القدرية المجوسية والقدرية المعارضة للأمر بالقدر، وكانوا أسعد الناس بالخلق وأقربهم عصبة فى هذا الميراث النبوى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
واعلم أن الإيمان بحقيقة القدر والشرع والحكمة لا يجتمع إلا فى قلوب خواص الخلق ولب العالم، وليس الشأن فى الإيمان بألفاظ هذه المسميات وجحد حقائقها كما يفعل كثير من طوائف الضلال، فإن القدرية تؤمن بلفظ القدر، ومنهم من يرده إلى العلم، ومنهم من يرده إلى الأمر الدينى ويجعل قضاءه وقدره هو نفس أمره ونهيه ونفس مشيئة الله لأفعال عباده بأمره لهم بها وهذا حقيقة إنكار القضاءِ والقدر. وكذلك الحكمة، فإن الجبرية تؤمن بلفظها ويجحدون حقيقتها، فإنهم يجعلونها مطابقة علمه تعالى لمعلومه تعالى، وإرادته لمراده تعالى، فهى عندهم وقوع الكائنات على وفق علمه وإرادته. والقدرية النفاة لا يرضون بهذا، بل يرتفعون عنه طبقة ويثبتون حكمة زائدة على ذلك، لكنهم ينفون قيامها بالفاعل الحكيم ويجعلونها مخلوقاً من مخلوقاته كما قالوا فى كلامه وإرادته فهؤلاء كلهم أقروا بلفظ الحكمة وجحدوا معناها وحقيقتها. وكذلك الأمر والشرع، فإن من أنكر كلام الله وقال: إن الله لم يتكلم ولا يتكلم، ولا قال ولا يقول، ولا يحب شيئاً ولا يبغض شيئاً، وجميع الكائنات محبوبة له وما لم يكن فهو مكروه له، ولا يحب ولا يرضى ولا يغضب، ولا فرق فى نفس الأمر بين الصدق والكذب [والبر] والفجور، والسجود للأصنام والشمس والقمر والسجود له، ولم يكلف أحداً ما يقدر عليه بل كل تكليفه [تكليف] ما لا يطاق ولا قدرة للمكلف عليه البتة، ويجوز أن يعذب رجالاً إذ لم يكونوا نساءً ويعذب نساءً إذ لم يكونوا رجالاً وسوداً حيث لم يكونوا بيضاً وبيضاً حيث لم يكونوا سوداً، ويجوز أن يظهر المعجزة على أيدى الكذابين ويرسل رسولاً يدعو إلى الباطل وعبادة الأوثان، ويأمر بقتل النفوس وأنواع الفجور. ولا ريب أن هذا يرفع الشرائع والأمر والنهى بالكلية، ولولا تناقض القائلين به لكانوا منسلخين من دين الرسل [صلوات الله وسلامه عليه] ولكن مشى الحال بعض المشى بتناقضهم وهو خير لهم من طرد أصولهم والقول بموجبها.
والمقصود أنه لم يؤمن بالقضاء والقدر والحكمة والأمر والنهى والوعد والوعيد حقيقة [الإيمان] إلا أتباع الرسل وورثتهم، والقضاءُ والقدر منشؤُه عن علم الرب وقدرته، ولهذا قال الإمام أحمد: القدر قدرة الله، واستحسن ابن عقيل هذا الكلام من أحمد غاية الاستحسان وقال: إنه شفى بهذه الكلمة وأفصح بها عن حقيقة القدر
المنكرون للقدر فرقتين: فرقة كذبت بالعلم السابق ونفته، وهم غلاتهم الذين كفرهم السلف والأئمة وتبرأ منهم الصحابة. وفرقة جحدت كمال القدرة وأنكرت أن تكون أفعال العباد مقدورة لله تعالى وصرحت بأن الله لا يقدر عليها، فأنكر هؤلاء كمال قدرة الرب، وأنكرت الأخرى كمال علمه، وقابلتهم الجبرية فجاءت على إثبات [القدرة] والعلم وأنكرت الحكمة والرحمة، ولهذا كان مصدر الخلق والأمر والقضاءِ والشرع عن علم الرب وعزته وحكمته، ولهذا يقرن تعالى بين الاسمين [والصفتين] من هذه الثلاثة كثيراً كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنَ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}* [النمل:6]، وقال: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِن الله الْعَزِيز}* [الحكيم] [الزمر: 1]، وقال: {حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ الله الْعَزِيزِ العَلٍيمِ}* [غافر: 1-2] وقال: فى حم فصلت بعد ذكر تخليق العالم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}* [فصلت: 12]
وذكر نظير هذا [فى الأنعام] فقال: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الْلّيْلَ سَكَناً وَالشّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}* [الأنعام: 96].
فارتباط الخلق بقدرته التامة يقتضى أن لا يخرج موجود عن قدرته، وارتباطه بعلمه التام يقتضى إحاطته به وتقدمه عليه، وارتباطه بحكمته يقتضى وقوعه على أكمل الوجوه وأحسنها واشتماله على الغاية المحمودة المطلوبة للرب [تعالى]. وكذلك [ارتباط] أمره بعلمه وحكمته وعزته، فهو عليم بخلقه وأمره حكيم فى خلقه عزيز فى خلقه وأمره. ولهذا كان الحكيم من أسمائه الحسنى والحكمة من صفاته العلى، والشريعة الصادرة عن أمره مبناها على الحكمة، والرسول المبعوث بها مبعوث بالكتاب والحكمة، والحكمة هى سنة الرسول ﷺ وهى تتضمن العلم بالحق [والعمل] به [والخبر] عنه والأمر به، فكل هذا يسمى حكمة وفى الأثر ((الحكمة ضالة المؤمن))، وفى الحديث: ((إن من الشعر حكمة))، فكما لا يخرج مقدور عن علمه وقدرته ومشيئته فهكذا لا يخرج عن حكمته وحمده وهو محمود على جميع ما فى الكون من خير وشر حمداً استحقه لذاته وصدر عنه خلقه وأمره، فمصدر ذلك كله عن الحكمة، فإنكار الحكمة إنكار لحمده فى الحقيقة والله أعلم
فصل
فى تفصيل ما أجمل فيما مر وتوضيحه
وإنما يتبين هذا ببيان وجود الحكمة فى كل ما خلقه الله وأمر به
، وبيان أنه كله خير من جهة إضافته إليه سبحانه، وأنه من تلك الإضافة خير وحكمة، وأن جهة الشر منه من جهة إضافته إلى العبد، كما قال [النبى] ﷺ فى دعاءِ الاستفتاح: ((لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِى يديك، والشر ليس إليك))، فهذا النفى يقتضى امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه، فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله، فإن ذاته تعالى منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك إذ كلها صفات كمال ونعوت جلال لا نقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه، وتحقيق ذلك أن الشر ليس هو إلا الذنوب وعقوباتها كما فى خطبته ﷺ: ((الحمد لله نستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا))، فتضمن ذلك الاستعاذة من شرور النفوس ومن سيئات الأعمال وهى عقوباتها. وعلى هذا فالإضافة على معنى ((اللام)) من باب إضافة المتغايرين، أو يقال: المراد السيئات من الأعمال، فعلى هذا الإضافة بمعنى ((من)) وهى من باب إضافة النوع إلى جنسه، ويدل على الأول قوله تعالى: {وَقِهِمُ السّيّئَاتِ وَمَن تَقِ السّيّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ}* [غافر: 9] قال شيخنا: وهذا أشبه [أنه] إذا أريد السيئات من الأعمال، فإن أريد ما وقع منها فالاستعاذة إنما تكون من عقوباتها، إذ الواقع [لا يمكن دفعه وإن استعاذه منها قبل وقوعها لئلا تقع فهذا هو الاستعاذة] من شر النفس. وأيضاً فلا يقال فى هذه التى لم توجد بعد سيئات أعمالنا فإنها لم تكن بعد أعمالاً فضلاً عن أن تكون سيئات، وإضافة الأعمال إلينا تقتضى وجودها إذ لم يوجد بعد ليس هو من أعمالنا إلا أن يقال: من سيئات الأعمال التى إذا [عملناها] كانت سيئات. ولمن رجح التقدير الثانى أن يقول: العقوبات ليست لجميع الأعمال، بل للمحرمات منها، والأعمال أعم وحملها على المحرمات خاصة خلاف ظاهر اللفظ، بخلاف ما إذا كانت الإضافة على معنى ((من)) فتكون الأعمال على عمومها والسيئات بعضها، فتكون السيئات على عمومها. ويترجح أيضاً أن الاستعاذة تكون قد اشتملت على أصول الشر كله، وهو شر النفس الكامن فيها الذى لم يخرج إلى العمل، وشر العمل الخارج الذى سولته النفس فالأول شر الطبيعة والصفة التى فى النفس والثانى شر العمل المتعلق بالكسب والإرادة، ويلزم من المعافاة من هذين الشرين المعافاة من موجبهما وهو العقوبة، فتكون الاستعاذة قد شملت جميع أنواع الشر بالمطابقة واللزوم، وهذا هو اللائق بمن أوتى جوامع الكلم، فإن هذا من جوامع [كلمة] البديعة العظيمة الشأن التى لا يعرف قدرها إلا أهل العلم والإيمان.
وإذا عرف هذا وأنه ليس فى الوجود شر إلا الذنوب وموجباتها، وكونها ذنوباً تأتى من نفس العبد، فإن سبب الذنب الظلم والجهل وهما من نفس العبد، كما أن سبب الخير الحمد والعلم والحكمة والغنى وهى أمور ذاتية للرب [تعالى] وذات الرب [تعالى] مستلزمة للحكمة والخير والجود، وذات العبد مستلزمة للجهل والظلم، وما فيه من العلم والعدل فإنما حصل له بفضل الله عليه وهو أمر خارج عن نفسه، فمن أراد الله به خيراً أعطاه هذا الفضل فصدر منه بوحيه من الإحسان والبر والطاعة، ومن أراد به شراً أمسكه عنه وخلاه ودواعى نفسه وطبعه وموجبها فصدر منه موجب الجهل والظلم من كل شر وقبيح، وليس منعه لذلك ظلماً منه [تعالى]، فإنه فضله، وليس من منع فضله ظالماً، لا سيما إذا منعه عن محل لا يستحقه ولا يليق به. وأيضا فإن هذا الفضل هو توفيقه وإرادته من نفسه أن يلطف بعبده ويوفقه ويعينه ولا يخلى بينه وبين نفسه، وهذا محض فعله وفضله، وهو سبحانه أعلم بالمحل الذى يصلح لهذا الفضل ويليق به ويثمر [فيه] ويزكو به. وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى بقوله {وَكَذَلِكَ فَتَنّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لّيَقُولوَاْ أَهَؤُلآءِ مَنّ اللّهُ عَلَيْهِم مّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشّاكِرِينَ}* [الأنعام: 53]، فأخبر سبحانه أنه أعلم بمن يعرف قدر هذه النعمة ويشكره عليها.
عليها فإن أصل الشكر هو الاعتراف بإنعام المنعم على وجه الخضوع له والذل والمحبة، فمن لم يعرف النعمة، بل كان جاهلاً بها لم يشكرها، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها، ومن عرف النعمة والمنعم وأقر بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ويحبه ويرض به وعنه لم يشكرها أيضاً، ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقربها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضى به وعنه واستعملها فى محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها. فلا بد فى الشكر من علم القلب، وعمل يتبع العلم- وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له- كما فى صحيح البخارى عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله ﷺ: ((سَيِّدُ الاسْتِغْفَار أَنْ يَقُولَ العَبْدُ: اللَّهُم أَنْتَ رَبِّى لا إلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا إِذَا أَصْبَحَ مُوقِناً بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ومن قالها إذا أمسى موقناً بها فمات من ليلته دخل الجنة، فقوله: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى)) يتضمن الإقرار والإنابة إلى الله بعبوديته، فإن المباءَة هى التى يبوءُ إليها الشخص- أى يرجع إليها رجوع استقرار- والمباءَة هى المستقر، ومنه قوله [ﷺ]: ((مَنْ كَذِبَ علَى مُتَعَمِداً فَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ))، أى ليتخذ مقعده من النار مباءَة يلزمه ويستقر فيه، لا كالمنزل الذى ينزله ثم يرحل عنه. فالعبد يبوءُ إلى الله [عز وجل] بنعمته عليه، ويبوءُ بذنبه، ويرجع إليه بالاعتراف بهذا وبهذا رجوع مطمئن إلى ربه منيب إليه، ليس رجوع من أقبل عليه ثم أعرض عنه، بل رجوع من لا يعرض عن ربه بل لا يزال مقبلاً عليه إذا كان لا بد له منه، فهو معبوده وهو مستغاثه، لا صلاح له إلا بعبادته، فإن لم يكن معبوده هلك وفسد، ولا يمكن أن يعبده إلا بإعانته. وفى الحديث: ((مثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ الْفَرَسِ فِى آخِيَتِهِ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى آخِيَتِهِ، كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ يَجُولُ ثُمَّ يَرْجَعُ إِلَى الإِيْمَانِ)).
فقوله: ((أبوءُ)) يتضمن أنى وإن جلت كما يجول الفرس- إما بالذنب وإما بالتقصير فى الشكر- فإنى راجع منيب أوّاب إليك، رجوع من لا غنى له عنك. وذكر النعمة والذنب لأن العبد دائماً يتقلب بينهما، فهو بين نعمة من ربه وذنب منه هو، كما فى الأثر الإلهى: ((ابنَ آدم خيرى إليك نازل، وشرك إلى صاعد، كم أتحبب إليك بالنعم وأنا غنى عنك، وكم تتبغض إلى بالمعاصى وأنت فقير إلى ولا يزال الملك الكريم يعرج إلى منك بعمل قبيح))
وكان فى زمن الحسن البصرى شاب لا يرى إلا وحده، فسأله الحسن عن ذلك فقال: إنى أجدنى بين نعمة من الله وذنب منى فأريد أن أُحدث للنعمة شكراً وللذنب استغفاراً، فذلك الذى شغلنى عن الناس أو كما قال. فقال له: أنت أفقه [عندى] من الحسن.
فالخير كله من الله كما قال تعالى: {وَمَا بِكُم مِّنْ نِعمَةٍ فَمِنَ الله}* [النحل: 53]، وقال تعالى {وَاعْلَمُوَاْ أَنّ فِيكُمْ رَسُولَ اللّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مّنَ الأمْرِ لَعَنِتّمْ وَلَكِنّ اللّهَ حَبّبَ إِلَيْكُمُ الأِيمَانَ وَزَيّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرّاشِدُونَ * فَضْلاً مِّنَ الله وَنعْمَةً}* [الحجرات: 7- 8]، وقال: {يَمُنّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاّ تَمُنّواْ عَلَيّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللّهُ يَمُنّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنُ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}* [الحجرات: 17]، وقال تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}* [الفاتحة: 6- 7]، وهؤلاء المنعم عليهم هم المذكورون فى قوله: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرّسُولَ فَأُوْلئِكَ مَعَ الّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مّنَ النّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشّهَدَآءِ وَالصّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً}* [النساء:69] فالنعم كلها [من نعم الدين والدنيا وهو أن الأعمال فى الدنيا والآخرة] من نعم الله ومنه وفضله على عبده وهو سبحانه- وإن كان أجود الأجودين وأرحم الراحمين وأكرم الأكرمين- فإنه أحكم الحاكمين وأعدل العادلين، لا يضع الأشياء إلا فى مواضعها اللائقة بها ولا يناقض جوده ورحمته وفضله حكمته وعدله. ولو رأى العقلاءُ واحداً منهم قد وضع المسك فى الحشوس والأخلية ووضع النجاسات والقاذورات فى مواضع الطيب والنظافة لاشتد نكيرهم عليه والقدح فى عقله ونسبوه إلى السفه وخلاف الحكمة، وكذلك لو وضع العقوبة موضع الإحسان والإحسان موضع العقوبة لسفهوه وقدحوا فى عقله، كما قال القائل:
ووضع الندى موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف فى موضع الندي
وكذلك لو وضع الدواء موضع الغذاء والغذاء موضع الدواء، والاستفراغ حيث يكون اللائق به عدمه والإمساك حيث يليق الاستفراغ وكذلك وضع الماءَ موضع الطعام والطعام موضع الماءِ، وأَمثال ذلك مما يخل بالحكمة، بل لو أقبل على الحيوان البهيم يريد تعليمه ما لم يخلق له من العلوم والصنائع، فمن بهرت حكمته العقول والألباب كيف ينبغى له أن يضع الأشياء فى غير مواضعها اللائقة بها؟ ومن المعلوم أن أَجلَّ نعمة على عبده نعمة الإيمان به ومعرفته ومحبته وطاعته والرضا به والإنابة إليه والتوكل عليه والتزام عبوديته. ومن المعلوم أيضاً أن الأرواح منها الخبيث الذى لا أخبث منه، ومنها الطيب، وبين ذلك، وكذلك القلوب منها القلب الشريف الزكى، والقلب الخسيس الخبيث، وهو سبحانه خلق الأضداد كما خلق الليل والنهار والبرد والحر والداء والدواء والعلو والسفل وهو أعلم بالقلوب الزاكية والأرواح الطيبة التى تصلح لاستقرار هذه النعم فيها، وإيداعها عندها، ويزكو [بذروها] فيها، فيكون تخصيصه لها بهذه النعم كتخصيص الأرض الطيبة القابلة [للبذر] بالبذر، فليس من الحكمة أن يبذر البذر فى الصخور والرمال والسباخ، وفاعل ذلك غير حكيم فما الظن ببذر الإيمان والقرآن والحكمة ونور المعرفة والبصيرة فى المحال التى هى أخبث المحال.
فالله [عز وجل] أعلم حيث يجعل رسالاته أصلاً وميراثاً فهو أعلم بمن يصلح لتحمل رسالته فيؤديها إلى عباده بالأمانة والنصيحة وتعظيم المرسل والقيام بحقه والصبر على أوامره والشكر لنعمه والتقرب إليه، ومن لا يصلح لذلك. وكذلك هو سبحانه أعلم بمن يصلح من الأُمم لوراثة رسله والقيام بخلافتهم وحمل ما بلغوه عن ربهم
قال عبد الله بن مسعود: إن الله نظر فى قلوب العباد فرأى قلب محمد ﷺ خير قلوب أهل الأرض فاختصه برسالته، ثم نظر فى قلوب العباد فرأى قلوب أصحابه خير قلوب العباد فاختارهم لصحبته.
وفى أثر بنى إسرائيل أن الله تعالى قال لموسى: أتدرى لم اخترتك لكلامى؟ قال: لا يا رب. قال: إنى نظرت فى قلوب العباد فلم أر فيها أخضع من قلبك لى. أو نحو هذا.
فالرب سبحانه إذا علم من محل أهلية لفضله ومحبته ومعرفته وتوحيده حبب إليك ذلك ووضعه فيه وكتبه فى قلبه ووفقه له وأعانه عليه ويسر له طرقه وأغلق دونه الأبواب التى تحول بينه وبين ذلك، ثم تولاه بلطفه وتدبيره وتيسيره وتربيته أعظم من تربية الوالد الشفيق الرحيم المحسن لولده الذى هو أحب شئ إليه، فلا يزال يعامله بلطفه ويختصه بفضله ويؤثره برحمته ويمده بمعونته ويؤيده بتوفيقه ويريه مواقع إحسانه إليه وبره به، فيزداد العبد به معرفة وله محبته وإليه إنابة وعليه توكلاً، ولا يتولى معه غيره ولا يعبد معه سواه، وهذا هو الذى عرف قدر النعمة وعرف المنعم وأقر بنعمته وصرفها فى مرضاته. واقتضت حكمة الرب [تعالى] وجودُه وكرمه وإحسانه أن بذر فى هذا القلب بذر الإيمان والمعرفة. وسقاه ماء العلم النافع والعمل الصالح، وأطلع عليه من نوره شمس الهداية، وصرف عنه الآفات المانعة من حصول الثمرة، فأنبتت أرضه الزاكية من كل زوج كريم، كما فى الصحيح من حديث أبى موسى عن النبى ﷺ قال: ((مَثَلُ مَا بَعَثَنِى اللهُ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً، فَكَانَ منها طَائِفَة طَيَّبَة قَبِلَت الْمَاء فَأنْبَتَتْ الْكلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ، وَكَانَ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَجَادِبُ أَمْسَكَت الماءِ فَسُقِى النَّاسُ وَزَرَعُوا، وَأَصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى إِنَّمَا هِى قِيعَانٌ لا تَمْسِكَ مَاءً وَلا تُنْبِتُ كَلأَ، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِى دِينِ الله وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِى اللهُ بِهِ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسَاً وَلَمْ يَقْبَل هُدَى اللهُ الَّذِى أُرْسِلْتُ بِهِ))
فمثّل القلوب بالأرض التى هى محل النبات والثمار ومثل الوحى الذى وصل إليها من بارئها وفاطرها بالماءِ الذى ينزله على الأرض، فمن الأَرض أرض طيبة قابلة للماءِ والنبات، فلما أصابها الماءُ أنبتت ما انتفع به الآدميون والبهائم وأَقوات المكلفين وغيرهم، وهذه بمنزلة القلب القابل لهدى الله ووحيه المستعد لزكائه فيه وثمرته ونمائه، وهذا خير قلوب العالمين. ومن الأرض أرض صلبة منخفضة غير مرتفعة ولا رابية، قابلة لحفظ الماءِ واستقراره فيها، ففيها قوة الحفظ وليس فيها قوة النبات فلما حصل فيها الماءُ أَمسكته وحفظته فورده الناس لشربهم وشرب مواشيهم وسقوا منه زروعهم، وهذا بمنزلة القلب الذى حفظ الوحى وضبطه وأَداه إلى من هو أفهم له منه وأَفقه منه وأَعرف بمراده، وهذا فى الدرجة الثانية. ومن الأرض أرض قيعان- وهى المستوية التى لا تنبت إما لكونها سبخة أو [رمالاً]، ولا يستقر فيها الماء- فإذا وقع عليها الماءُ ذهب ضائعاً لم تمسكه لشرب الناس ولم تنبت به كلأَ لأنها غير قابلة لحفظ الماءِ ولا لنبات الكلإِ والعشب وهذا حال أَكثر الخلق وهم الأَشقياءُ الذين لم يقبلوا هدى الله ولم يرفعوا به رأْساً، ومن كان بهذه المثابة فليس من المسلمين، بل لا بد لكل مسلم أن يزكو الوحى فى قلبه فينبت من العمل الصالح والكلم الطيب ونفع نفسه وغيره بحسب قدرته، فمن لم ينبت قلبه شيئاً من الخير البتة فهذا من أشقى الأشقياءِ. فصلوات الله وسلامه على من الهدى والبيان والشفاءُ والعصمة فى كلامه وفى أمثاله.
والمقصود أن الله سبحانه أَعلم بمواقع فضله ورحمته وتوفيقه، ومن يصلح لها ومن لا يصلح، وأَن حكمته تأْبى أَن يضع ذلك عند غير أَهله، كما تأْبى أن يمنعه من يصلح له. وهو سبحانه الذى جعل المحل صالحاً وجعله أَهلاً وقابلاً، فمنه الإعداد والإمداد، ومنه السبب والمسبب. ومن اعترض بقوله: فهلا جعل المحالّ كلها كذلك، وجعل القلوب على قلب واحد، فهو من أَجهل الناس وأضَلهم وأسفههم، وهو بمنزلة من يقول: لم خلق الأَضداد، وهلا جعلها كلها شيئاً واحداً، فلم خلق الليل والنهار والفوق والتحت والحر والبرد والدواءَ والداءَ والشياطين والملائكة والروائح الطيبة والكريهة والحلو والمر والحسن والقبيح؟ وهل يسمح خاطر من له أَدنى مسكة من عقل بمثل هذا السؤال الدَّالَّ على حمق سائله وفساد عقله؟ وهل ذلك إلا موجب ربوبيته وإلاهيته وملكه وقدرته ومشيئته وحكمته، ويستحيل أن يتخلف موجب صفات كماله عنها؟ وهل حقيقة الملك إلا بإكرام الأولياءِ وإهانة الأَعداءِ؟ وهل تمام الحكمة وكمال القدرة إِلا بخلق المتضادات والمختلفات وترتيب آثارها عليها وإِيصال ما يليق بكل منها إِليه؟ وهل ظهور آثار أَسمائه وصفاته فى العالم إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فهل يكون رزّاقاً وغفاراً وعفوّاً ورحيماً وحليماً ولم يوجد من يرزقه، ولا من يغفر له ويعفو عنه ويحلم عنه ويرحمه؟ وهل انتقامه إلا من لوازم ربوبيته وملكه؟ فممن ينتقم إن لم يكن له أعداء ينتقم منهم، ويرى أولياءه كمال نعمته عليهم واختصاصه إياهم دون غيرهم بكرامته وثوابه؟ وهل فى الحكمة الإلهية تعطيل الخير الكثير لأجل شر جزئى يكون من لوازمه؟ فهذا الغيث الذى يحيى به الله البلاد والعباد والشجر والدواب. كم يحبس من مسافر، ويمنع من قصاد، ويهدم من بناءٍ، ويعوق [عن] مصلحة؟ ولكن أين هذا مما يحصل به من المصالح؟ وهل هذه المفاسد فى جنب مصالحه إلا كتفلة فى بحر؟ وهل تعطيله لئلا تحصل به هذه المفاسد إلا موجباً لأعظم المفاسد والهلاك؟ وهذه الشمس التى سخرها الله لمنافع عباده وإنضاج ثمارهم وأقواتهم وتربية أبدانهم وأبدان الحيوانات والطير، وفيها من المنافع والمصالح ما فيها كم تؤذى مسافراً وغيره بحرّها، وكم تجفف رطوبة وكم تعطش حيواناً، وكم تحبس عن مصلحة، وكم [تشف] من مورد وتحرق من زرع؟ ولكن أين يقع هذا فى جنب ما فيها من المنافع والمصالح الضرورية المكملة؟ فتعطيل الخير الكثير لأجل الشر اليسير شر كثير، وهو خلاف موجب الحكمة الذى تنزه الله سبحانه عنه.
قلت لشيخ الإسلام: فقد كان من الممكن خلق هذه الأمور مجردة عن المفاسد مشتملة على المصلحة الخالصة فقال: خلق هذه الطبيعة بدون لوازمها ممتنع، فإن وجود الملزوم بدون لازمه محال، ولو خلقت على غير هذا الوجه لكانت غير هذه، ولكان عالماً آخر غير هذا. قال: ومن الأشياء ما تكون ذاته مستلزمة لنوع من الأمور لا ينفك عنه- كالحركة مثلاً المستلزمة لكونها لا تبقى- فإذا قيل: لما لم تخلق الحركة المعينة باقية؟ قيل: لأن ذات الحركة تتضمن النقلة من مكان إلى مكان والتحول من حال إلى حال، فإذا قدر ما ليس كذلك لم يكن حركة. ونفس الإنسان هى فى ذاتها جاهلة عاجزة فقيرة كما قال تعالى: {وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِن بُطُونِ أُمَّهَاتِكِمْ لا تَعْلَمُونَ شَيئاً}* [النحل: 78]، وإنما [يأتيها] العلم والقدرة والغنى من الله بفضله ورحمته، فما حصل لها من كمال وخير فمن الله، وما حصل لها من عجز وفقر وجهل يوجب الظلم والشر فهو منها ومن حقيقتها. وهذه أمور عدمية، وليس لها من نفسها وجود ولا كمال والأمور العدمية من لوازم وجودها، ولو جعلت على غير ذلك لم تكن هى هذه النفس الإنسانية بل مخلوقاً آخر.
(يتبع...)
@ فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشر الذى يحصل لها نوعان: عدم، ووجود. فالأول كعدم العلم والإيمان والصبر وإرادة الخيرات وعدم العمل بها، وهذا العدم ليس له فاعل إذ العدم المحض لا يكون له فاعل، لأن تأثير الفاعل إنما هو فى أمر وجودى، وكذلك عدم استعدادها للخيرات والكمالات هو عدم محض ليس له فاعل، فإن العدم ليس بشئ أصلاً، وما ليس بشيء لا يقال إنه مفعول لفاعل، فلا يقال إنه من الله، إنما يحتاج إلى الفاعل الأمور الوجودية، ولهذا من قول المسلمين كلهم: ((ما شاءَ الله كان، وما لم يشأ لم يكن)) فكل كائن فبمشيئته كان وما لم يكن فلعدم مشيئته. والعدم يعلل بعدم السبب أو الشرط تارة، وبوجود المانع أخرى. وقد يقال علة العدم عدم العلة. وبعض الناس يقول: الممكن لا يترجح أحد طرفيه إلا بمرجح، فلا يوجد إلا بسبب، ولا يعدم إلا بسبب قال: والتحقيق فى هذا أن العدم ليس له فاعل ولا علة فاعلة أصلاً [بل]، إذا أضيف إلى عدم السبب أو عدم الشرط فمعناه الملازمة، أى عدم العلة استلزم عدم المعلول وعدم الشرط استلزم عدم المشروط. فإذا قيل: عدم لعدم [عليه أى عدم عليه] مستلزمة لعدمه، والنفس تطلب سبب العدم، فتقول: لما لم يوجد كذا؟ فيقال: لعدم كذا، فيضاف عدم المعلوم إلى عدم علته، لا إضافة تأثير ولكن إضافة استلزام وتعريف، وأما التعليل بالمانع فلا يكون إلا مع قيام السبب إذا جعل المانع مقتضياً للعدم، وأما إذا أريد قياس الدلالة فوجود المانع يستلزم عدم الحكم سواءٌ كان المقتضى موجوداً أو لم يكن.
والمقصود أن ما عدمته النفس من كمالها فمنها فإنها لا تقتضى إلا [العدم]، أى عدم استعداد نفسها وقوتها هو السبب فى عدم هذا الكمال، فإنه كما يكون أحد الوجودين سبباً للآخر فكذلك أَحد العدمين يكون سبباً لعدم الآخر، والموجود الحادث يضاف إلى السبب المقتضى لإيجاده وأما المعدوم فلا يحتاج استمراره على العدم إلى فاعل يحدث العدم، بل يكفى فى استمراره عدم مشيئة الفاعل المختار له، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لانتفاءٍ مشيئته، فانتقاء مشيئة كونه سبب عدمه، وهذا معنى قولهم: عدم علة الوجود علة العدم، وبهذا الاعتبار الممكن القابل للوجود والعدم لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح، فمرجح عدمه عدم مرجحه، ومعنى الترجيح والسببية [هاهنا] الاستلزام لا التأثير كما تقدم، فظهر استحالة إضافة هذا الشر إلى الله عز وجل.
وأما الشر الثانى، وهو الشر الوجودى- كالعقائد الباطلة والإرادات الفاسدة- فهو من لوازم ذلك العدم، فإنه متى عدم ذلك العلم النافع والعمل الصالح من النفس لزم أن يخلفه الشر والجهل وموجبهما ولا بد، لأن النفس لا بد لها من أحد الضدين، فإذا لم تشتغل بالضد النافع الصالح اشتغلت بالضد الضار الفاسد، وهذا الشر الوجودى هو من خلقه تعالى إذ لا خالق سواه، وهو خالق كل شيء، لكن كل ما خلقه الله فلا بد أن يكون له فى خلقه حكمة لأجلها خلقه، لو لم يخلقه فاتت تلك الحكمة، وليس فى الحكمة تفويت هذه الحكمة التى هى أحب إليه سبحانه من الخير الحاصل بعدمها، فإن فى وجودها من الحكمة والغايات التى يحمد عليها سبحانه أضعاف ما فى عدمها من ذلك، ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع، وليس فى الحكمة تفويت هذه الحكمة العظيمة لأجل ما يحصل للنفس من الشر مع ما حصل من الخيرات التى لم تكن تحصل بدون هذا الشر، ووجود الشيء لا يكون إلا مع وجود لوازمه وانتفاء أضداده، فانتفاء لوازمه يكون ممتنعاً لغيره، وحينئذ فقد يكون هدى هذه النفوس الفاجرة [وسعادتها] مشروطاً بلوازم لم تحصل، أو بانتفاء أضداد لم تنتف.
فإن قيل: فهلا حصلت تلك اللوازم وانتفت تلك الأضداد، فهذا هو السؤال الأول، وقد بينا أن لوازم هذا الخلق وهذه النشأة وهذا العالم لا بد منها، فلو قدر عدمها لم يكن هذا العالم بل عالماً آخر ونشأة أخرى وخلقاً آخر، وبينا أن هذا السؤال بمنزلة أن يقال: هلا تجرد الغيث والأنهار عما يحصل به من تغريق [وتعويق] وتخريب وأذى؟ وهلا تجردت الشمس عما يحصل منها من حر وسموم وأذى؟ وهلا تجردت طبيعة الحيوان عما يحصل له من ألم وموت وغير ذلك؟ وهلا تجردت الولادة عن مشقة الحمل والطلق وألم الوضع، هلا تجرد بدن الإنسان عن قبوله للآلام والأوجاع واختلاف الطبائع الموجبة لتغير أحواله؟ وهلا تجردت فصول العام عما [يحدث] فيها من البرد الشديد القاتل والحر الشديد المؤذى؟ فهل يقبل عاقل هذا السؤال أو يورده؟ وهل هذا إلا بمنزلة أن يقال: لم كان المخلوق فقيراً محتاجاً والفقر والحاجة صفة نقص، فهلا تجرد منها وخلعت عليه خلعة الغنى المطلق والكمال المطلق؟ فهل يكون مخلوقاً إذا كان غنياً غنى مطلقاً؟ ومعلوم أن لوازم الخلق لا بد منها فيها، ولا بد للعلو من سفل، والسفل من مركز ولوازم العلو من السعة والإضاءة والبهجة والخيرات وما هناك من الأرواح العلوية النيرة المناسبة لمحلها وما يليق بها ويناسبها من الابتهاج والسرور والفرح والقوة والتجرد من علائق المواد العلية لا بد منها، ولوازم السفل والمركز من الضيق والحصر ولوازم ذلك من [الظلمة والغلط] والشر وما هنالك من الأرواح السفلية المظلمة الشريرة وأعمالها وآثارها لا بد منها، فهما عالمان علوى وسفلى ومحلان وساكنان تناسبهما مساكنهما وأعمالهما وطبائعهما، وقد خلق كلا من المحلين معموراً بأهليه وساكنيه حكمة بالغة وقدرة قاهرة، وكل من هذه الأرواح لا يليق بها غير ما خلقت له مما يناسبها ويشاكلها قال تعالى: {قُلْ كُلٌ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ}* [الإسراء: 84] أى على ما يشاكله ويناسبه ويليق به، كما يقول الناس: ((كل إناءٍ بالذى فيه ينضح))، فمن أرادت من الأرواح الخبيثة السفلية أن تكون مجاورة للأرواح الطيبة العلوية فى مقام الصدق بين الملأ الأعلى فقد أراد ما تأباه حكمة أحكم الحاكمين، ولو أن ملكاً من ملوك الدنيا جعل خاصته وحاشيته سفلة الناس وسقطهم وغرتهم الذين تتناسب أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم فى القبح والرداءة والدناءة لقدح الناس فى ملكه وقالوا: لا يصلح للملك، فما الظن بمجاورى الملك الأعظم مالك الملوك فى داره وتمتعهم برؤية وجهه وسماع كلامه ومرافقتهم للملأ الأعلى الذين هم أطيب خلقه وأزكاهم وأشرفهم، أفيليق بذلك الرفيق الأعلى والمحل الأسنى والدرجات العلى روح سفلية أرضية قد أخلدت إلى الأرض وعكفت على ما تقتضيه طبائعها مما [تشاركها] فيه بل قد تزيد على الحيوان البهيم وقصرت همتها عليه وأقبلت بكليتها عليه لا ترى نعيماً ولا لذة ولا سروراً إلا ما وافق طباعها من كل مأكل ومشرب ومنكح من أين كان وكيف اتفق، فالفرق بينها وبين الحمير والكلاب والبقر بانتصاب القامة ونطق اللسان والأكل باليد، وإلا فالقلب والطبع على [شاكله] قلوب هذه الحيوانات وطباعها، وربما كانت طباع الحيوانات خيراً من طباع هؤلاء وأسلم وأقبل للخير ولهذا جعلهم الله سبحانه شر الدواب فقال تعالى: {إِنّ شَرّ الدّوَابّ عِندَ اللّهِ الصّمّ الْبُكْمُ الّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلّواْ وّهُمْ مّعْرِضُونَ}* [الأنفال: 22- 23]، فهل يليق بحكمة العزيز الحكيم أن يجمع بين خير البرية وأزكى الخلق وبين شر البرية وشر الدواب فى دار واحدة يكونون فيها على حال واحدة من النعيم أو العذاب؟ قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}* [القلم: 35- 36]، فأَنكر عليهم الحكم بهذا وأخرجه مخرج الإنكار لا مخرج الإخبار لينبه العقول على هذا مما تحيله الفطر وتأْباه العقول السليمة، وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِيَ أَصْحَابُ النّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنّةِ أَصْحَابُ الْجَنّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ}* [الحشر: 20]، وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتّقِينَ كَالْفُجّارِ}* [ص:28]، وقال تعالى: {قَلْ هَلْ يَسْتَوَى الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ}* [الزمر: 9] بل الواحد من الخلق لا تستوى أعاليه وأسافله، فلا يستوى عقبه وعينه، ولا رأسه ورجلاه، ولا يصلح أحدهما لما يصلح له الآخر فالله عز وجل قد خلق الخبيث والطيب والسهل والحزن والضار والنافع، وهذه أجزاء الأرض: منها ما يصلح جلاءً للعين ومنها ما يصلح للأتون والنار.
وبهذا ونحوه يعرف كمال القدرة وكمال الحكمة: فكمال القدرة بخلق الأضداد. وكمال الحكمة تنزيلها منازلها ووضع كل منها فى موضعه والعالم من لا يلقى الحرب بين قدرة الله وحكمته- فإن آمن بالقدرة قدح فى الحكمة وعطلها وإن آمن بالحكمة قدح فى القدرة ونقصها- بل يربط القدرة بالحكمة، ويعلم شمولها لجميع ما خلقه الله ويخلقه، فكما أنه لا يكون إلا بقدرته ومشيئته فكذلك لا يكون إلا بحكمته. وإذا كان لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة بهذا تفصيلاً، فيكفيها الإيمان بما تعلم وتشاهد منه، ثم تستدل على الغائب بالشاهد وتعتبر ما علمت بما لم تعلم. وقد ضرب الله الأمثال لعباده فى كتابه وبَيَّن لهم ما فى لوازم ما خلقه لهم وأنزله عليهم من الغيث الذى به حياتهم وأقواتهم وحياة الأرض والدواب وما خلقه لهم من المعادن التى بها صلاح أبدانهم وأقواتهم وصنائعهم من الشر والخير وبين المغمور بالإضافة إلى الخير الحاصل بذلك فقال تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السّيْلُ زَبَداً رّابِياً وَمِمّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النّارِ ابْتِغَآءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقّ وَالْبَاطِلَ فَأَمّا الزّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمّا مَا يَنفَعُ النّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأمْثَالَ}* [الرعد: 17] فأخبر سبحانه أن الماء [سبب] بمخالطته الأرض إذا سال فلا بد من أن يحمل السيل من الغثاءِ والوسخ وغيره زبداً عالياً على وجه السيل، فالذى لا يعرف ما تحت الزبد يقصر نظره عليه ولا يرى إلا غثاءً ووسخاً ونحو ذلك ولا يرى ما تحته من مادة الحياة، وكذلك ما يستخرج من المعادن من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها إذا أوقد عليها فى النار ليتهيأ الانتفاع بها خرج منها خبث ليس من جوهرها ولا ينتفع به، وهذا لا بد منه فى هذا وهذا يجاوزه بصره.
وقد ذم تعالى من ضعفت بصيرته من المنافقين، وعمى عما فى القرآن مما به ينال كل سعادة وعلم وهدى وصلاح وخير فى الدنيا والآخرة لمن لم يجاوز بصره وسمعه وعود وعيده وبروقها وصواعقها وما أعد الله لأعدائه من عذابه ونكاله وخزيه وعقابه [الذى هو - بالإضافة إلى ما فيه من حياة القلوب] والأرواح ومن المعارف الإلهية يبين طريق العبودية التى هى غاية كمال العبد، وهو مقصود لتكميل ذلك وتمامه. قال تعالى {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاّ يُبْصِرُونَ * صُمّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيّبٍ مّنَ السّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِيَ آذَانِهِم مّنَ الصّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ}* [البقرة: 17-20]، فهكذا حال كل من قصر نظره فى بعض مخلوقات الرب سبحانه على ما لا بد منه من شر جزئى جداً بالإضافة إلى الخير الكثير، ولو لم تكن فى هذه النشأة الإنسانية إلا خاصته وأولياؤه من رسله وأنبيائه وأتباعهم لكفى بها خيراً ومصلحة، ومن عاداهم- وإن كانوا أضعاف أضعاف أضعافهم- فهم كالقش والزبالة وغثاءِ السيل، لا يعبأُ بكثرتهم ولا يقدح فى الحكمة الإلهية، بل وجود الواحد الكامل من هذا النوع يغتفر معه [آلاف] مؤلفة من النوع الآخر فإنه إذا وجد واحد يوازن البرية ويرجح عليها كان الخير الحاصل بوجوده والحكمة والمصلحة أضعاف الشر الحاصل من وجود أضداده، وأثبت وأنفع وأحب إلى الله من فواته بتفويت ذلك الشر المقابل له، وهذا كالشمس: فإن الخير الحاصل بها أنفع للخلق وأكثر وأثبت وأصلح من تفويته بتفويت الشر المقابل له بها، وأين نفع الشمس وصلاح النبات والحيوان بها من نفع الرسل وصلاح [القلوب] الوجود بهم؟ بل أين ذلك من نفع سيد ولد آدم وصلاح الأبدان والدين والدنيا والآخرة به؟
وقد ضرب للنفس الإِنسانية وما فيها من الخير والشر مثل بدولاب أَو طاحون شديد الدوران، أَى شيء خطفه أَلقاه تحته وأَفسده، وعنده قيِّمة الذى يديره وقد أَحكم أَمره لينتفع به ولا يضر أَحداً، فربما جاءَ الغر الذى لا يعرف فيتقرب منه فيخرق ثوبه [أوبدنه] أَو يؤذيه، فإذا قيل لصاحبه: لم لم تجعله ساكناً لا يؤذى من اقترب منه؟ قال: هذه الصفة اللازمة التى كان بها دولاباً وطاحوناً، ولو [جعل] على غير هذه الصفة لم تحصل به الحكمة المطلوبة منه. وكذلك إذا أوقدنا نار الأَتون التى تحرق ما وقع فيها وعندها وقاد حاذق يحشوها، فإذا غفل عنها أَفسدت وإذا أَراد أحد أَن يقرب منها نهاه وحذره، فإذا استغفله من قرب منها حتى أَحرقته لم يقل لصاحب النار: هلا قللت حرها لئلا تفسد من يقرب منها وتحرقه؟ فإنه يقول: هذه صفتها التى لا يحصل المقصود منها إلا بها، ولو جعلتها دون ذلك لم تحرق أَحجار الكلس، ولم تطبخ الآجر، ولم تنضج الأَطعمة الغليظة ونحو ذلك، فما يحصل من الدولاب والطاحون ومن النار من نفعها هو من فضل الله ورحمته، وما يحصل بها من شر هو من طبيعتها التى خلقت عليها والتى لا تكون ناراً إلا بها، فلو خرجت عن تلك الطبيعة لم تكن ناراً، وكذلك النفس: فما يحصل لها من شر فهو منها ومن طبيعتها ولوازم نقصها وعدمها وما يحصل لها من خير فهو من فضل الله ورحمته، والله خالقها وخالق كل شيء قام بها من قدرة وإرادة وعلم وعمل وغير ذلك، فأَما الأُمور العدمية فهى باقية على ما [كانت] عليه من العدم، والإِنسان جاهل ظالم بالضرورة كما قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}* [الأحزاب: 72]، فإِن الله أَخرجه من بطن أُمه لا يعلم شيئاً [والظلم هو النقص، كما قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مّنْهُ شَيْئاً}* [الكهف: 33] أى ما نقص منه شيئاً]، وهى ظالمة نفسها فهى الظالمة والمظلومة، إِذ كانت منقوصة من كمالها بعدم الكمالات أَو أَكثرها بها، وتلك أُخرى فصار عدمها مستلزماً لعدم تلك الكمالات [فعظم النقص والتعب كسبه وفقدت من لذاتها وسرورها ونعيمها وبهجتها وروحها بحسب ما فعلت من تلك الكمالات] التى لا سعادة لها بدونها، فإِن أَحد الموجودين قد يكون مشروطاً بالآخر فيستحيل وجوده بدونه، لأَن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط، فإذا عدمت النفس هذا الكمال المستلزم لكمال آخر مثله أَو أَعلى منه وهى- موصوفة بالنقص الذى هو الظلم والجهل ولوازمها من أَصل الخلقة- صارت متسلزمة للشر، وقوة شرها وضعفه بحسب قوتها وضعفها فى ذاتها. وتأَمل أَول نقص دخل على أَبى البشر وسرى إِلَى أَولاده كيف كان من عدم العلم والعزم. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً}* [طه: 115] والنسيان سواءٌ كان عدم العلم أَو عدم الصبر كما فسر بهما [هاهنا] فهو أَمر عدمى، ولهذا قال آدم لما رأَى ما دخل عليه من ذلك: {رَبّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}* [الأعراف: 23]، فإِنه إذا اعترف خص نفسه- بما حصل لها من عدم العلم والصبر- بالنسيان الذى أَوجب فوات حظه من الجنة، ثم قال: {وَإِن لّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]، فإِنه سبحانه لم يغفر السيئات الوجودية فيمنع أَثرها وعقابها [ونقى] العبد من ذلك وإلا ضرته آثارها ولا بد، [كآثار] الطعام المسموم إِن لم يتداركه المداوى بشرب الترياق ونحوه وإلا ضره ولا بد، وإِن لم يرحمه سبحانه بإِيجاد ما به يصلح النفس وتصير عالمة [بالحق عاملة به] وإِلا خسر.
، والمغفرة تمنع الشر، والرحمة توجب الخير، والرب سبحانه إن لم يغفر للإِنسان فيقيه السيئات ويرحمه فيؤتيه الحسنات وإِلا هلك ولا بد، إذ كان ظالماً لنفسه ظلوماً بنفسه، فإِن نفسه ليس عندها خير يحصل لها منها، وهى متحركة بالذات فإِن لم تتحرك إلى الخير تحركت إلى الشر فضرت صاحبها، وكونها متحركة بالذات من لوازم كونها نفساً لأَن ما ليس حساساً متحركاً بالإِرادة فليس نفساً، [فى] الصحيح عن النبى ﷺ ((أَصْدَقُ الأَسْمَاءِ حَارِثٌ وَهَمَّام))، فالحارث الكاسب العامل، والهمام الكثير الهم والهم مبدأُ [الإرادة فالنفس لا تكون إلا مريدة عاملة، فإن لم توفق] [للإرادة] الصالحة وإلا وقعت فى الإِرادة الفاسدة والعمل الضار، وقد قال تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلا الْمُصَلِّينَ }* [المعارج: 19- 22]، فأَخبر [تعالى] أَن الإنسان خلق على هذه الصفة، وإن من كان على غيرها فلأَجل ما زكاه الله به من فضله وإِحسانه. وقال تعالى: {وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفاً}* [النساء: 28]،
قال طاووس ومقاتل وغيرهما: لا يصبر عن النساءِ. وقال الحسن: هو خلقه من ماءٍ مهينٍ.
وقال الزجاج: ضعف عزمه عن قهر الهوى.
والصواب أَن ضعفه يعم هذا كله، وضعفه أَعظم من هذا وأَكثر: فَإنه ضعيف البنية، ضعيف القوة، ضعيف الإرادة، ضعيف العلم ضعيف الصبر، والآفات إليه [مع] هذا الضعف أَسرع من السيل فى صيب الحدود. فبالإِضطرار لا بد له من حافظ معين يقويه ويعينه وينصره ويساعده، فإن تخلى عنه هذا المساعد المعين فالهلاك أَقرب إليه من نفسه. وخلقه على هذه الصفة هو من الأُمور التى يحمد عليها الرب [جل جلاله] ويثنى عليه بها. وهو موجب حكمته وعزته، فكل ما يحدث من هذه الخلقة ويلزم عنها فهو بالنسبة إلى الخالق [عز وجل] خير وعدل وحكمة، إِذ مصدر هذه الخلقة عن صفات كماله من غناه وعلمه وعزته وحكمته ورحمته، وبالنسبة إِلى العبد تنقسم إِلى خير وشر وحسن وقبيح، كما تكون بالنسبة إليه طاعة ومعصية وبراً وفجوراً، بل أَخص من ذلك، مثل كونها صلاة وصياماً وحجاً [وزكاة] وسرقة وأْكلاً وشرباً، إِذ [ذلك] موجب حاجته وظلمه وجهله وفقره وضعفه، وموجب أَمر الله له ونهيه، ولله سبحانه الحكمة البالغة والنعمة السابغة والحمد المطلق على تجميع ما خلقه وأَمر به، وعلى ما لم يخلقه مما لو شاءه لخلقه، وعلى توفيقه الموجب لطاعته وعلى خذلانه الموقع فى معصيته، وهو سبقت رحمته غضبه وكتب على نفسه الرحمة، وأحسن كل شيء خلقه وأتقن كل ما صنع وما يحصل للنفوس البشرية من الضرر والأذى فله فى ذلك سبحانه أعظم حكمة مطلوبة وتلك الحكمة إِنما تحصل على الوجه الواقع المقدر بما خلق لها من الأَسباب التى لا تنال غاياتها إِلا بها، فوجود هذه الأَسباب بالنسبة إلى الخالق الحكيم سبحانه هو من الحكمة، ولهذا يقرن سبحانه فى كتابه بين اسمه الحكيم واسمه العليم تارة وبين اسمه العزيز تارة كقوله: {وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ}* [النساء: 26] [الأنفال: 71]، {وَالله عَزِيز حَكِيمٌ}* [البقرة: 240] [المائدة: 38]، وقوله: {وَكَانَ اللهُ عزِيزاً حَكِيماً}* [النساء: 158، 165] [الفتح: 7، 19]، {وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً}* [النساء: 170] [الفتح: 4]، {وَإِنّكَ لَتُلَقّى الْقُرْآنَ مِن لّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ}* [النمل: 6]
فإن العزة تتضمن القوة، ولله القوة جميعاً، يقال: عز يعز- بفتح العين- إذا اشتد وقوى، ومنه الأرض العزاز: الصلبة الشديدة، وعز يعز بكسر العين إذا امتنع ممن يرومه وعز يعز بضم العين إذا غلب وقهر، فأعطوا أقوى الحركات وهى الضمة- لأقوى المعانى وهو الغلبة والقهر للغير وأضعفها وهى الفتحة لأَضعف هذه المعانى وهو كون الشئ فى نفسه صلباً، ولا يلزم من ذلك أَن يمتنع عمن يرومه والحركة المتوسطة وهى الكسرة للمعنى المتوسط وهو القوى الممتنع عن غيره، ولا يلزم منه أن يقهر غيره ويغلبه، فأعطوا الأقوى للأقوى والأضعف للأضعف والمتوسط للمتوسط. ولا ريب أن قهر [المريد] عما يريده من أقوى أوصاف القادر، فإِن قهره عن إرادته وجعله مريداً كان أَقوى أنواع القهر، والعز ضد الذل، والذل أصله الضعف والعجز فالعز يقتضى كمال القدرة [والعزة]، ولهذا يوصف به المؤمن ولا يكون ذماً له بخلاف الكبر. قال رجل للحسن البصرى: إنك متكبر. فقال: لست متكبراً، ولكنى [عزز]. وقال تعالى: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينِ}* [المنافقون: 8]، وقال ابن مسعود: ما زلنا أعزة الإسلام [منذ أسلم عمر. وقال النبى ﷺ ((اللهم أعز] بأحد هذيْنِ الرَّجُلَيْنِ: عُمَرَ بْنَ الْخَطَّاب، أَو أَبِى جَهْل بْن هِشَام))، وفى بعض الآثار: إِن الناس بطلبون العزة فى أبواب الملوك، ولا يجدونها إِلا فى طاعة الله عز وجل. وفى الحديث: ((اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلا تُذِلَّنَا بِمعْصِيتكَ)) وقال بعضهم: من أَراد عزاً بلا سلطان، وكثرة بلا عشيرة، وغنى بلا مال، فلينتقل من ذل المعصية إلى عز الطاعة. فالعزة من جنس القدرة والقوة وقد ثبت فى الصحيح عن النبى ﷺ أَنه قال: ((الْمُؤْمِنُ الْقَوِى خَيْر وَأَحَبُّ إِلَى اللهُ مَنَ الْمُؤْمِنِ الضعيف، وفى كل خير)). فالقدرة إن لم يكن معها حكمة بل كان القادر يفعل ما يريده بلا نظر فى العاقبة، ولا حكمة محمودة يطلبها بإرادته ويقصدها بفعله، كان [فعلة] فساداً كصاحب شهوات الغى والظلم، الذى [يفعله] بقوته ما يريده من شهوات الغى فى بطنه وفرجه ومن ظلم الناس، فإِن هذا وإن كان له قوة وعزة لكن لما لم يقترن بها حكمة كان ذلك معونة على شره وفساده. وكذلك العلم كماله أن [نقترن به الحكمة وإلا فالعالم الذى لا يريد ما] تقتضيه الحكمة وتوجبه، بل يريد ما يهواه، سيفه غاوٍ، [وعلمه عون له على الشر والفساد هذا إذا كان عالماً قادراً] مريداً له إِرادة من غير حكمة، وإِن قدر أنه لا إرادة له فهذا أولاً ممتنع من الحى، فإن وجود الشعور بدون حب ولا بغض ولا إِرادة ممتنع كوجود إرادة بدون الشعور، وأما القدرة والقوة إذا قدر وجودها بدون إرادة فهى كقوة الجماد، فإن القوة الطبيعية التى هى مبدأُ الفعل والحركة [لا إِرادة لها] وقد قال بعض الناس: إِن [للجماد] شعوراً يليق به واحتج بقوله تعالى: {وَإِنّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجّرُ مِنْهُ الأنْهَارُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَشّقّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَآءُ وَإِنّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ}* [البقرة: 74]، وبقوله تعالى: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ}* [الكهف: 77] وهذه المسألة كبيرة تحتاج إلى كلام يليق بهذا الموضع. والمقصود أَن العلم والقدرة المجردين عن الحكمة لا يحصل بهما الكمال والصلاح وإِنما [يحصل] ذلك بالحكمة معها، واسمه سبحانه ((الحكيم)) يتضمن حكمته فى خلقه وأَمره فى إِرادته الدينية الكونية وهو حكيم فى كل ما خلقه وأَمر به.
والناس فى هذا المقام أَربع طوائف: الطائفة الأُولى الجاحدة لقدرته وحكمته فلا يثبتون له [تعالى] قدرة ولا حكمة، كما يقوله من ينفى كونه تعالى فاعلاً مختاراً وأَن صدور العالم عنه بالإِيجاب الذاتى لا بالقدرة والاختيار وهؤلاء يثبتون حكمة يسمونها عناية إلهية، وهم من أشد الناس تناقضاً، إِذ لا يعقل حكيم لا قدرة له ولا اختيار، وإِنما يسمون ما فى العالم من المصالح والمنافع عناية إلهية من غير أَن يرجع منها إِلى الرب [تعالى] إِرادة ولا حكمة وهؤلاءِ كما أَنهم مكذبون لجميع الرسل فإِنهم مخالفون لصريح العقل والفطرة، قد نسبوا الرب [تعالى] إِلى أَعظم النقص، وجعلوا كل قادر مريد مختار أَكمل منه وإِن كان من كان، بل سلبهم القدرة والاختيار والفعل عن رب العالمين شر من شرك عباد الأَصنام به بكثير، وشر من قول النصارى أَنه- تعالى عن قولهم- ثالث ثلاثة وأَن له صاحبة وولداً، فإِن هؤلاءِ أَثبتوا له قدرة وإِرادة واختياراً وحكمة، ووصفوه مع ذلك بما لا يليق به. وَأَما أُولئك فنفوا ربوبيته وقدرته بالكلية وأَثبتوا له أَسماءَ لا حقائق لها ولا معنى.
والطائفة الثانية أقرت بقدرته وعموم مشيئته للكائنات وجحدت حكمته وما له فى خلقه من الغايات المحمودة المطلوبة له سبحانه التى يفعل لأَجلها ويأْمر لأَجلها، فحافظت على القدر وجحدت الحكمة، وهؤلاءِ هم النفاة للتعليل والأَسباب والقوى والطبائع فى المخلوقات، فعندهم لا يفعل لشيء ولا لأجل شيء، وليس فى القرآن عندهم لام تعليل ولا باءُ تسبب، وكل لام توهم التعليل فهى عندهم لام العاقبة وكل باءٍ تشعر بالتسبب فهى عندهم باءُ المصاحبة وهؤلاء سلطوا نفاة القدر عليهم [بما نفوه من الحكمه والتعليل والأسباب فاستطالوا عليهم بذلك]، ووجدوا مقالاً واسعاً بالشناعة فقالوا وشنعوا، ولعمر والله إنهم لمحقون فى أَكثر ما شنعوا عليهم به، إِذ نفى الحكمة والتعليل والأَسباب له لوازم فى غاية الشناعة، والتزامها بمكابرة ظاهرة لعامة [عند عامة] العقلاءِ.
والطائفة الثالثة أقرت بحكمته أثبتت الأَسباب والعلل والغايات فى أَفعاله وأَحكامه، وجحدت كمال قدرته، فنفت قدرته على شطر العالم وهو أَشرف ما فيه من أَفعال الملائكة والجن والإِنس وطاعاتهم، بل عندهم [هذه] كلها لا تدخل تحت مقدوره [تعالى]، ولا يوصف بالقدرة عليها ولا هى داخلة تحت مشيئته ولا ملكه، وليس فى مقدوره عندهم أَن يجعل المؤمن مؤمناً والمصلى مصلياً والموفق موفقاً، بل هو الذى [جعل] نفسه كذلك. وعندهم أَن أَفعال العباد من الملائكة والجن والإِنس كانت بغير مشيئته واختياره فتعالى الله عن [قولهم]، وهؤلاءِ سلطوا عليهم نفاة الحكمة والتعليل والأَسباب فمزقوهم كل ممزق ووجدوا طريقاً وسيعاً إلى الشناعة عليهم، وأَبدوا تناقضهم فقالوا وشنعوا، ورموهم بكل داهية. أو نفى قدرة الرب [تعالى] على شطر المملكة له لوازم فى غاية الشناعة والقبح والفساد، والتزامها مكابرة ظاهرة عند عامة العقلاءِ، ونفى التزامها تناقض بين، فصاروا بذلك بين التناقض- وهو أحسن حالهم- وبين التزام تلك العظائم التى تخرج عن الإِيمان، كما كان نفاة الحكمة والأَسباب والغايات كذلك.
فهدى الله الطائفة الرابعة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدى من يشاءُ إلى صراط مستقيم، فآمنوا بالكتاب كله، وأقروا بالحق جميعه، ووافقوا كل واحدة من الطائفتين على ما معها من الحق، وخالفوهم فيما قالوه من الباطل، [فآمنوا] بخلق الله وأَمره بقدرته وشرعه وأَنه سبحانه المحمود على خلقه وأَمره، وأَنه له الحكمة البالغة والنعمة السابغة، وأَنه على كل شيء قدير: فلا يخرج عن مقدوره شيء من الموجودات أَعيانها وأَفعالها وصفاتها، كما لا يخرج عن علمه، فكل ما تعلق به علمه من العالم تعلقت به قدرته ومشيئته. وآمنوا مع ذلك بأَن له الحجة على خلقه، [وأنه لا حجة لأحد عليه بل لله الحجة البالغة] وأَنه لو عذب أَهل سماواته وأَهل أَرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، بل كان تعذيبهم منه عدلاً منه وحكمة لا بمحض المشيئة المجردة عن السبب والحكمة كما يقوله الجبرية، ولا يجعلون القدر حجة لأَنفسهم ولا لغيرهم، بل يؤمنون به ولا يحتجون به ويعلمون أَن الله سبحانه أَنعم عليهم بالطاعات وأَنها من نعمته عليهم وفضله وإِحسانه، وأَن المعاصى من نفوسهم الظالمة الجاهلة، وأَنهم هم جناتها وهم الذين اجترحوها، ولا يحملونها على القضاء والقدر مع علمهم بشمول قضائه وقدره لما فى العالم من خير وشر وطاعة وعصيان وكفر وإِيمان، وأَن مشيئة الله سبحانه محيطة بذلك كإحاطة علمه به، وأَنه لو شاءَ أَلا يعصى لما عصى وأَنه [سبحانه] أَعز وأَجل من أَن يعصى قسراً، والعباد أَقل من ذلك وأَهون، وأَنه ما شاءَ الله كان وكل كائن فهو بمشيئته، وما لم يشأْ لم يكن، وما لم يكن فلعدم مشيئته، فله الخلق والأَمر وله الملك والحمد وله القدرة التامة والحكمة الشاملة البالغة. فهذه الطائفة هم أَهل البصر التام، والأولى لهم العمى المطلق، والثانية والثالثة كل طائفة منهما [لهم] عين عمياءُ، ومع هذا فسرى العمى من العين العمياءِ إلى العين الصحيحة فأَعماها ولا يستكثر تكرار هذا الكلمات من يعلم شدة الحاجة إليها وضرورة النفوس إِليها، فلو تكررت فالحاجة إليها فى محل الضرورة. والله المستعان.
فـصـل
فى إِثبات الحمد كله لله عَزَّ وجَلَّ
ويجمع هذين الأَصلين العظيمين أَصل ثالث هو عقد نظامهما وجامع شملهما، وبتحقيقه وإِثباته على وجهه يتم بناءُ هذين الأَصلين وهو إِثبات الحمد كله لله رب العالمين فإِنه المحمود على ما خلقه وأَمر به ونهى عنه، فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإِيمانهم وكفرهم، وهو المحمود على خلق الأَبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأَعدائهم، وهو المحمود على عدله فى أَعدائه كما هو المحمود على فضله وإِنعامه على أَوليائه، فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده، ولهذا سبح بحمده السموات السبع والأَرض ومن فيهن: {وَإِن مِن شَيءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ}* [الإسراء: 44]، وكان فى قول النبى ﷺ عند الاعتدال من الركوع: ((رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْد، مِلْءَ ـ السَّمَاءِ وَمِلْءَ الأَرْضِ، وَمِلءَ مَا بَيْنَهُمَا وَمِلءَ مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بَعْد))، فله سبحانه الحمد حمداً يملأْ المخلوقات والفضاء الذى بين السماوات والأرض، ويملأُ ما يقدر بعد ذلك مما يشاءُ أَن يملأَ بحمده. وذاك يحتمل أَمرين: أحدهما أَن يملأَ ما يخلقه الله بعد السموات والأرض، والمعنى أَن الحمد ملءُ ما خلقته وملءُ ما تخلقه بعد ذلك. الثانى أَن يكون المعنى ملءُ ما شئت من شيء [بعد] يملأه حمدك، أَى يقدَّر مملوءاً بحمدك وإِن لم يكن موجوداً. ولكن [قد] يقال: المعنى الأَول أَقوى لأَن قوله: ((مَا شِئْتَ مِنْ شَيء بعد)) يقتضى أَنه شيء يشاؤه، وما شاءَ كان، والمشيئة متعلقة بعينه لا بمجرد ملء الحمد له. فتأَمله لكنه إذَا شاَءَ كونه فله الحمد ملأه، فالمشيئة راجعة إِلى المملوءِ بالحمد، فلا بد أَن يكون شيئاً موجوداً يملأه حمده وأَيضاً فإِن قوله: ((من شيء بعد)) يقتضى أَنه [شيء يشاؤه سبحانه بعد هذه المخلوقات كما يخلقه] بعد ذلك من مخلوقاته ومن القيامة وما بعدها. ولو أُريد تقدير خلقه لقيل: وملء ما شئت من شيء مع ذلك لأن المقدر يكون مع المحقق. وأَيضاً فإِنه لم يقل: ملء ما شئت أن يملأه الحمد، بل قال: ما شئت. والعبد قد حمد حمداً أَخبر به، وإِن ثناءَه ووصفه بأَنه يملأُ ما خلقه الرب سبحانه وما يشاءُ بعد ذلك، وأَيضاً قوله ((وملءُ ما شئت من شيء بعد)) يقتضى إِثبات مشيئة تتعلق بشيء بعد ذلك، وعلى الوجه الثانى قد تتعلق المشيئة بملء المقدر، وقد لا تتعلق وأَيضاً فإِذا قيل: ((ما شئت من شيء بعد ذلك)) كان الحمد مالئاً لما هو موجود يشاؤه الرب دائماً، ولا ريب أَن له الحمد دائماً فى الأُولى والآخرة، وأَما إِذا قدر ما يملأه الحمد وهو غير موجود فالمقدرات لا حد لها، وما من شيء منها إِلا يمكن تقدير شيء بعده وتقدير ما لا نهاية له كتقدير الأَعداد، ولو أُريد هذا المعنى لم يحتج إلى تعليقه بالمشيئة، بل قيل: ((ملء ما لا يتناهى)) فأَما ما يشاؤه الرب [تعالى] فلا يكون إِلا موجوداً مقدراً، وإِن كان لا آخر لنوع الحوادث أَو بقاءِ ما يبقى منها فهذا كله مما يشاؤه بعد وأَيضاً فالحمد هو الإِخبار بمحاسن المحمود على وجه الحب له ومحاسن المحمود تعالى إما قائمة بذاته وإما ظاهرة فى مخلوقاته، فأَما المعدوم المحض الذى لم يخلق ولا خلق قط فذاك ليس فيه محاسن ولا غيرها، فلا محامد فيه البتة فالحمد لله [الذى] يملأُ المخلوقات ما وجد منها ويوجد هو حمد يتضمن الثناءَ عليه بكماله القائم بذاته والمحاسن الظاهرة فى مخلوقاته، وأما ما لا وجود له فلا محامد منه ولا مذام، فجعل الحمد مالئاً له لما لا حقيقة له.
وقد اختلف الناس فى معنى كون حمده يملأُ السموات والأَرض وما بينهما، فقالت طائفة على جهة التمثيل: أَى لو كان أَجساماً لملأَ السموات والأَرض وما بينهما قالوا: فإِن الحمد من قبيل المعانى والأَعراض التى لا تملأُ بها الأجسام، ولا تملأُ الأجسام [إلا بالأجسام] والصواب أَنه لا يحتاج إِلى [هذا التكلف البارد فإن من كل شيء يكون بحسب] الماليء والمملوءِ، فإِذا قيل امتلأَ الإِناءُ ماءً وامتلأَت الجفنة طعاماً فهذا الامتلاءُ نوع، وإِذا قيل: امتلأَت الدار رجالاً وامتلأَت المدينة خيلاً ورجالاً فهذا نوع آخر. وإِذا قيل: امتلأَ الكتاب سطوراً فهذا نوع آخر، وإِذا قيل: امتلأَت مسامع الناسِ حمداً أَو ذماً لفلان فهذا نوع آخر فى أثر معروف: أهل الجنة من امتلأت مسامعه من ثناءِ الناس عليه، وأَهل النار من امتلأَت مسامعه من ذم الناس له)) . وقال عمر بن الخطاب فى عبد الله بن مسعود كنيف مليء علماً، ويقال: فلان علمه قد ملأَ الدنيا. وكان يقال: ملأ ابن أبى الدنيا الدنيا علماً. ويقال: صيت فلان قد ملأ الدنيا وضيق الآفاق وحبه قد ملأَ القلوب، وبغض فلان قد ملأَ القلوب، وامتلأَ قلبه رعباً، وهذا أَكثر من أَن تستوعب شواهده، وهو حقيقة فى بابه وجعل الملء والامتلاءِ حقيقة للأَجسام خاصة تحكم باطل ودعوى لا دليل عليها البتة، والأَصل الحقيقة الواحدة، والاشتراك المعنوى هو الغالب على اللغة والأَفهام والاستعمال، فالمصير إِليه أَولى من المجاز والاشتراك [اللفظى] وليس هذا موضع تقرير [هذه المسأَلة].
فإذا قيل: ((الحمد كله لله)) فهذا له معنيان: أحدهما أَنه محمود على كل شيء [وبكل ما يحمد به المحمود التام وإن كان بعض خلقه يحمد أيضاً كما] يحمد رسله وأنبياؤه وأَتباعهم- فذلك من حمده تبارك وتعالى بل هو المحمود بالقصد الأَول [وبالذت وما نالوه من الحمد فإنما نالوه بحمده] فهو المحمود أَولاً وآخراً وظاهراً وباطناً، وهذا كما أَنه بكل شيء عليم، وقد علم غيره من علمه ما لم يكن يعلمه بدون تعليمه، وفى الدعاء المأْثور: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُهُ، ولَكَ الْمُلْكُ كُلُّهُ، وَبِيَدِكِ الْخَيْرُ كُلُّهُ، وَإِلَيْكَ يَرْجِعُ الأَمْرُ كُلُّهُ، أَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كله وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّرِّ كُلِّهِ))، وهو سبحانه له الملك وقد آتى من الملك بعض خلقه، وله الحمد وقد آتى غيره من الحمد ما شاءَ. وكما أن ملك المخلوق داخل فى ملكه، فحمده أَيضاً داخل فى حمده، فما من محمود يحمد على شيء مما دق أَو جل إِلا والله المحمود عليه بالذات [والأَولوية] أَيضاً، وإِذا قال [الحامد]: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْد))، فالمراد به أَنت المستحق لكل حمد، ليس المراد به الحمد الخارجى فقط.
المعنى الثانى أَن يقال: ((لَكَ الْحَمْد كلُّه)) أى الحمد التام الكامل فهذا مختص بالله عز وجل ليس لغيره فيه شركة. والتحقيق أَن له الحمد بالمعنيين جميعاً، فله عموم الحمد وكماله، وهذا من خصائصه سبحانه، فهو المحمود على كل حال وعلى كل شيء أكمل حمد وأَعظمه، كما أَن له الملك التام العام فلا يملك كل شيء إِلا هو وليس الملك التام الكامل إِلا له وأَتباع الرسل [صلوات الله وسلامه عليهم] يثبتون له كمال الملك وكمال الحمد فإِنهم يقولون: إِنه خالق كل شيء وربه ومليكه، لا يخرج عن خلقه وقدرته ومشيئته شيء البتة فله الملك كله. والقدرية المجوسية يخرجون من ملكه أَفعال العباد، فيخرجون [طاعات الأنبياء والمرسلين والملائكة والمتقين من ملكه كما يخرجون] سائر حركات الملائكة والجن والإِنس عن ملكه. وأَتباع الرسل يجعلون ذلك كله داخلاً [تحت] ملكه وقدرته، ويثبتون كمال الحمد أَيضاً، وأَنه المحمود على جميع ذلك وعلى كل ما خلقه ويخلقه، لما له فيه من الحكم والغايات المحمودة المقصودة بالفعل. وأَما نفاة الحكمة والأَسباب من مثبتى القدر فهم فى الحقيقة لا يثبتون له حمداً كما لا يثبتون له الحكمة فإن الحمد من لوازم الحكمة والحكمة إِنما تكون فى حق من يفعل شيئاً لشيء فيريد بما يفعله الحكمة الناشئة من فعله فأما من لا يفعل شيئاً لشيء البتة فلا يتصور فى حقه الحكمة. وهؤلاءِ يقولون: ليس فى أَفعاله وأَحكامه لام التعليل، وما اقترن بالمفعولات من قوى وطبائع ومصالح فإِنما اقترنت بها اقتراناً عادياً، لا أَن هذا كان لأَجل هذا، ولا نشأَ السبب لأَجل المسبب، بل لا سبب عندهم ولا مسبب البتة، إِن هو إِلا محض المشيئة وصرف الإِرادة التى ترجح مثلاً على مثل، بل لا مرجح أَصلاً، وليس عندهم فى الأَجسام وطبائع وقوى تكون أَسباباً لحركاتها، ولا فى العين قوة امتازت بها على الرِّجل يبصر بها، ولا فى القلب قوة يعقل بها امتاز بها [على] الظهر، بل خص سبحانه أَحد الجسمين بالرؤية والعقل والذوق تخصيصاً لمثل على مثل بلا سبب أَصلاً ولا حكمة، فهؤلاءِ لم يثبتوا له كمال الحمد، كما لم يثبت له أُولئك كمال الملك، وكلا القولين منكر عند السلف وجمهور الأُمة.
ولهذا كان منكرو الأَسباب والقوى والطبائع يقولون: العقل نوع من العلوم الضرورية كما قال القاضيان أبو بكر بن الطيب وأبو يعلى بن الفراءِ وأَتباعهما. وقد نص أَحمد على أَنه غريزة، وكذلك الحارث المحاسبى وغيرهما، فأولئك لا يثبتون غريزة ولا قوة ولا طبيعة ولا سبباً، وأبطلوا مسميات هذه الأَسماءِ جملة وقالوا: إِن ما فى الشريعة من المصالح والحكم لم يشرع الرب سبحانه ما شرع من الأَحكام لأَجلها بل اتفق اقترانها بها أَمراً اتفاقياً، كما قالوا نظير ذلك فى المخلوقات سواء، والعلل عندهم أَمارات محضة لمجرد الاقتران الاتفاقى.
. وهم فريقان: أَحدهما لا يعرجون على المناسبات ولا يثبتون العلل بها البتة، وإِنما يعتمدون على تأْثير العلة بنص أَو إِجماع، فإِن فقدوا فزعوا إِلى الأَقيسة الشبهية.
والفريق الثانى أَصلحوا المذهب بعض الإِصلاح وقربوه بعض الشيء وأَزالوا تلك النفرة عنه، فأثبتوا الأَحكام بالعلل والعلل بالمناسبات والمصالح، ولم يمكنهم الكلام فى الفقه إلا بذلك، ولكم جعلوا اقتران أَحكام تلك العلل والمناسبات بها اقتراناً عادياً غير مقصود فى نفسه العلل والمناسبات أَمارات ذلك الاقتران، وهؤلاءِ يستدلون على إثبت علم الرب تعالى بما فى مخلوقاته من الأحكام والإِتقان والمصالح، وهذا تناقض بين منهم، فإِن ذلك إِنما يدل إِذا كان الفاعل يقصد أَن يفعل الفعل على وجه مخصوص لأَجل الحكمة المطلوبة منه، وأَما من لم يفعل لأَجل ذلك الإحكام والإِتقان وإِنما اتفق اقترانه بمفعولاته عادة فإِن ذلك الفعل لا يدل على العلم، ففى أَفعال الحيوانات من الإِحكام والإِتقان والحكم ما هو معروف لمن تأمله، ولكن لما لم تكن تلك الحكم والمصالح مقصودة لها لم تدل على علمها. والمقصود أَن هؤلاءِ إِذا قالوا: إِنه تعالى لا يفعل لحكمة امتنع عندهم أَن يكون الإِحكام دليلاً على العلم وأَيضاً فعلى قولهم يمتنع أَن يحمد على ما فعله لأَمر ما حصل للعباد من نفع، فهو سبحانه لم يقصد بما خلقه نفعهم ولا خلقه لنفعهم ومصالحهم، بل إنما أَراد مجرد وجوده لا لأَجل كذا ولا لنفع أَحد ولا لضره، فكيف يتصور فى حق من يكون فعله ذلك حمد؟ فلا يحمد على فعل عدل، ولا على ترك ظلم، لأَن الظلم- عندهم- والممتنع الذى لا يدخل فى المقدور، وذلك لا يمدح أَحد على تركه وكل ما أَمكن وجوده فهو عندهم عدل فالظلم مستحيل عندهم إِذ هو عبارة عن الممتنع المستحيل لذاته الذى لا يدخل تحت المقدور ولا يتصور فيه ترك اختيارى فلا يتعلق به حمد، وإخباره تعالى عن نفسه بقيامه بالقسط حقيقة عندهم مجرد كونه فاعلاً لا أَن هناك شيئاً هو قسط فى نفسه يمكن وجود ضده، وكذلك قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ}* [فصلت: 46] نفى عندهم لما هو مستحيل فى نفسه لا حقيقة له، كجعل الجسم فى مكانين فى آن واحد، وجعله موجوداً معدوماً فى آن واحد، فهذا ونحوه عندهم هو الظلم الذى تنزه عنه، وكذلك قوله: ((يَا عِبَادِى، إِنِّى حَرَّمْتُ الْظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى، وَجَعَلْتُهُ مُحَرَّماً بَيْنَكُمْ، فَلا تَظَالَمُوا))، فالذى حرمه على نفسه هو المستحيل الممتنع لذاته كالجمع بين النقيضين وليس هناك ممكن يكون ظلماً فى نفسه وقد حرمه على نفسه، ومعلوم أَنه لا يمدح الممدوح بترك ما لو أَراده لم يقدر عليه. وأَيضاً فإِنه قال: ((وَجَعَلْتُهُ مُحُرَّماً بَيْنَكُمْ)) فالذى حرمه على نفسه هو الذى جعله محرماً بين عباده وهو الظلم المقدور الذى يستحق تاركه الحمد والثناءَ. والذى أوجب لهم هذا مناقضة القدرية المجوسية ورد أُصولهم وهدم قواعدهم، ولكن ردوا باطلاً بباطل وقابلوا بدعة ببدعة وسلطوا عليهم خصومهم بما التزموه من الباطل فصارت الغلبة بينهم وبين خصومهم سجالاً مرة يغلبون ومرة يغلبون لم يستقر لهم نصرة، وإِنما النصرة الثابتة لأَهل السنة المحضة الذين لم يتحيزوا إِلى فئة غير رسول الله ﷺ، ولم يلتزموا غير ما جاءَ به، ولم يؤصلوا أَصلاً ببدعة يسلطون عليهم به خصومهم، بل أصلهم ما دل عليه كتاب الله وكلام رسوله وشهدت به الفطر والعقول.
فصل
فى بيان أن حمده تعالى شامل لكل ما يحدثه
والمقصود بيان شمول حمده تعالى وحكمته لكل ما يحدثه من إحسان ونعمة وامتحان وبلية، وما يقضيه من طاعة ومعصية، أنه سبحانه محمود على ذلك مشكور حمد المدح وحمد الشكر، أَما حمد المدح فإنه محمود على كل ما خلق إِذ هو رب العالمين والحمد لله رب العالمين وأَما حمد الشكر فلأن ذلك كله نعمة فى حق المؤمن إِذا اقترن بواجبه من الإحسان، والنعمة إِذا [اقترنت بالشكر صارت] نعمة والامتحان والبلية إذا اقترنا بالصبر كانا نعمه، والطاعة من أَجلّ نعمه، وأَما المعصية فإِذا اقترنت بواجبها من التوبة والاستغفار والإِنابة والذل والخضوع فقد ترتب عليها من الآثار المحمودة والغايات المطلوبة ما هو نعمة أيضاً وإِن كان سببها مسخوطاً مبغوضاً للرب تعالى، ولكنه يحب ما يترتب عليها من التوبة والاستغفار، وهو سبحانه أَفرح بتوبة عبده من الرجل إِذا أضل راحلته بأَرض دوِّية مهلكة عليها طعامه وشرابه فأَيس منها ومن الحياة فنام ثم استيقظ فإِذا بها قد تعلق خطامها فى أَصل شجرة فجاءَ حتى أخذها، فالله أَفرح بتوبة العبد حين يتوب إِليه من هذا براحلته، فهذا الفرح العظيم الذى لا يشبهه شيء أَحب إِليه سبحانه من عدمه، وله أَسباب ولوازم لابد منها، وما يحصل بتقدير عدمه من الطاعات وإِن كان محبوباً له فهذا الفرح أَحب إليه بكثير ووجوده بدون لازمه ممتنع، فله من الحكمة فى تقدير أَسبابه وموجباته حكمة بالغة ونعمة سابغة. هذا بالإضافة إلى الرب جل جلاله، وأَما بالإِضافة إلى العبد فإِنه قد يكون كمال عبوديته وخضوعه موقوفاً على أَسباب لا تحصل بدونها، فتقدير الذنب عليه إِذا اتصل به التوبة والإنابة والخضوع والذل والانكسار ودوام الافتقار كان من النعم باعتبار غايته وما يعقبه وإِن كان من الابتلاء والامتحان باعتبار صورته ونفسه والرب تعالى محمود على الأَمرين، فإِن اتصل بالذنب الآثار المحبوبة للرب سبحانه من والتوبة والذل والإِنابة والانكسار فهو عين مصلحة العبد، والاعتبار بكمال النهاية لا بنقص البداية، وإِن لم يتصل به ذلك، فهذا لا يكون إِلا من خبث نفسه وشره وعدم استعداده لمجاورة ربه بين الأرواح الذكية الطاهرة فى الملأ الأعلى ومعلوم وأن هذه النفس فيها من الشر والخبث ما فيها، فلا بد من خروج ذلك منها من القوة إلى الفعل ليترتب على ذلك الآثار المناسبة لها ومساكنة من تليق مساكنته ومجاورة الأَرواح الخبيثة فى المحل الأَسفل، فإن هذه النفوس إِذا كانت مهيأَة لذلك فمن الحكمة أَن تستخرج منها الأسباب التى توصلها إلى ما هى مهيأَة له ولا يليق به سواه والرب تعالى محمود على إنعامه وإحسانه على أهل الإحسان والأنعام القابلين له فما كل أحد قابلاً لنعمته تعالى فحمده وحكمته تقتضى أن لا يودع وإِحسانه وكنوزه فى محل غير قابل لها.
ولا يبقى إِلا أَن يقال: فما الحكمة فى خلق هذه الأرواح التى هى غير قابلة لنعمته؟ فقد تقدم من الجواب عن ذلك ما فيه كفاية. وأَن خلق الأضداد والمقابلات وترتيب آثارها عليها موجب ربوبيته وحكمته وعلمه وعزته، وأَن تقدير عدم ذلك هضم من جانب الربوبية. وأَيضاً فإن هذه الحوادث نعمة فى حق المؤمن، فإِنها إِذا وقعت فهو مأمور أن نكرها بقلبه ويده ولسانه فقط أَو بقلبه فقط، ومأمور أَن يجاهد أَربابها بحسب الإِمكان، فيترتب له على الإنكار والجهاد من مصالح قلبه ونفسه وبدنه ومصالح دنياه، وآخرته ما لم يكن ينال بدون ذلك، والمقصود بالقصد الأول إِتمام نعمته تعالى على أَوليائه ورسله وخاصته فاستعمال أعدائه فيما تكمل به النعمة على أُوليائه غاية الحكمة، وكان فى تمكين أَهل الكفر والفسق والعصيان من ذلك إِيصال إِلى الكمال الذى يحصل لهم بمعاداة هؤلاء وجهادهم والإِنكار عليهم والموالاة فيه والمعاداة فيه وبذل نفوسهم وأَموالهم وقواهم له، فإِن تمام العبودية لا يحصل إِلا بالمحبة الصادقة، وإِنما تكون المحبة صادقة إِذا بذل فيها المحب ما يملكه من مال ورياسة وقوة فى مرضاة محبوبة والتقرب إِليه، فإِن بذل له روحه كان هذا أعلى درجات المحبة، ومن المعلوم أَن من لوازم ذلك التى لا يحصل إِلا بها أَو يخلق ذواتاً وأَسباباً وأَعمالاً وأَخلاقاً وطبائع تقتضى [معاداة من يحبه ويؤثر مرضاته لها وعند ذلك تتحق] المحبة الصادقة من غيرها فكل أَحد يحب الإِحسان والراحة والدعة واللذة، ويجب من يوصل إِليه ذلك ويحصله له، ولكن الشأْن فى أَمر وراءَ هذا وهو محبته سبحانه ومحبة ما يحبه مما هو أَكره شيء إِلى النفوس وأَشق شيء عليها مما لا يلائمها، فعند حصول أَسباب ذلك يتبين من يحب الله لذاته ويحب ما يجب ممن يحبه لأَجل مخلوقاته فقط من المأْكل والمشرب والمنكح والرياسة، فإِن أُعطى منها رضى وإِن منعها سخط وعتب على ربه وربما شكاه وربما ترك عبادته، فلولا خلق الأضداد وتسليط أَعدائه وامتحان أَوليائه بهم لم يستخرج خالص العبودية من عبيده الذين هم عبيده، ولم يحصل لهم عبودية الموالاة فيه والمعاداة [فيه والحب فيه والبغض فيه والعطاء له والمنع له، ولا عبودية بذل الأرواح] فى جهاد أَعدائه ونصرته وعبودية مفارقة الأمر عنده أحوج ما يكون إليهم عبده فى مرضاته ما يتحسر إليهم وهو الذى عاب نفسه وملاذ بها بأيديهم قد جنى بمفارقتهم ومشايعتهم وأما من موالاة الحق عليهم، فلولا الأَضداد والأَسباب التى توجب ذلك لم تحصل هذه الآثار.
وأَيضاً فلولا تسليط الشهوة والغضب ودواعيهما على العبد لم تحصل له فضيلة الصبر وجهاد النفس ومنعها من حظوظها وشهواتها محبة لله وإِيثاراً لمرضاته وطلباً للزلفى لديه والقرب منه. وأَيضاً فلولا ذلك لم تكن هذه النشأَة الإِنسانية إِنسانية، بل كانت ملكية، فإِن آلله سبحانه خلق خلقه أَطواراً: فخلق الملائكة عقولاً لا شهوات لها ولا طبيعة تتقاضى منها خلاف ما يراد من مادة نورية لا تقتضى شيئاً من الآثار والطبائع المذمومة، وخلق الحيوانات ذوات شهوات لا عقول لها، وخلق الثقلين- الجن والإنس وركب فيهم العقول والشهوات والطبائع المختلفة لآثار مختلفة بحسب موادها وصورها وتركيبها. وهؤلاءِ هم أَهل الامتحان والابتلاءِ، وهم المعرضون للثواب والعقاب ولو شاءَ سبحانه لجعل خلقه على طبيعة واحدة وخلق واحد ولم يفاوت بينهم، لكن ما فعله سبحانه هو محض الحكمة وموجب الربوبية ومقتضى الإلهية، ولو كان الخلق كله طبيعة واحدة ونمطاً واحداً لوجد الملحد مقالاً وقال: هذا مقتضى الطبيعة، ولو كان فاعلاً بالاختيار لتنوعت أَفعاله ومفعولاته ولفعل الشيء وضده والشيء وخلافه. وكذلك لولا شهود هذه الحوادث المشهودة لوجد الملحد أَيضاً مقالاً وقال: لو كان لهذا العالم خالقاً مختاراً لوجدت فيه الحوادث على حسب إرادته واختياره، كما روى الحسن أَو غيره قال: كان أَصحاب محمد ﷺ يقولون: جلَّ ربنا القديم، لم يتغير هذا الخلق لقال الشاك فى الله إنه لو كان لهذا العالم خالق لحادثه بينا هو ليل إِذ جاءَ نهار وبينا هو نهار إِذ جاءَ ليل، بينا هو صحو إِذ جاءَ غيم وبينا هو غيم إِذ جاءَ صحو، ونحو هذا من الكلام، ولهذا يستدل سبحانه فى كتابه بالحوادث تارة وباختلافها تارة، إِذ هذا وهذا يستلزم ربوبيته وقدرته واختياره ووقوع الكائنات على وفق مشيئته، فتنوع أَفعاله ومفعولاته من أَعظم الأَدلة على ربوبيته وحكمته وعلمه. ولهذا سبحانه خلق النوع الإِنسانى أَربعة أَقسام: أَحدها لا من ذكر ولا أُنثى وهو خلق أَبيهم وأَصلهم آدم، الثانى خلقه من ذكر بلا أُنثى كخلق أَمهم حواءَ من ضلع من أَضلاع آدم من غير أَن تحمل بها أُنثى أَو يشتمل عليها بطن، الثالث خلقه من أُنثى بلا ذكر كخلق المسيح عيسى ابن مريم ﷺ الرابع خلق سائر النوع الإِنسانى من ذكر وأُنثى، وكل هذا ليدل عباده على كمال قدرته ونفوذ مشيئته وكمال حكمته، وأَن الأَمر ليس كما يظنه أَعداؤه الجاحدون له الكافرون به من أَن ذلك أَمر طبيعى لم يزل هكذا ولا يزال، وأَنه ليس للنوع أَب ولا أم وأَنه ليس إِلا أَرحام تدفع وأَرض تبلغ وطبيعة تفعل ما يرى ويشاهد، ولم يعلم هؤلاءِ الجهال الضلال أَن الطبيعة قوة وصفة فقيرة إلى محلها محتاجة إِلى حامل لها، وأَنها من أَدل الدلائل على وجود أَمره فى طبعها وخلقها، وأَودعها الأجسام وجعل فيها هذه الأَسرار العجيبة، فالطبيعة مخلوق من مخلوقاته ومملوك من مماليكه وعبيدة مسخرة لأَمره تعالى منقادة لمشيئته، ودلائل الصنعة وإِمارات الخلق والحدوث وشواهد الفقر والحاجة شاهدة عليها بأَنها مخلوقة مصنوعة، لا تخلق ولا تفعل ولا تتصرف فى ذاتها ونفسها، فضلاً عن إِسناد الكائنات إِليها.
والمقصود أن تنويع المخلوقات واختلافها من لوازم الحكمة والربوبية والملك، وهو أيضاً من موجبات الحمد فله الحمد على ذلك كله أَكمل حمد وأَتمه أَيضاً، فإِن مخلوقاته هى موجبَات أَسمائه وصفاته، فلكل اسم وصفة أَثر لا بد من ظهوره فيه واقتضائه له، فيمتنع تعطيل آثار أَسمائه وصفاته كما يمتنع تعطيل ذاته عنها، وهذه الآثار لها متعلقات ولوازم يمتنع أَن لا توجد كما تقدم التنبيه عليه. وأَيضاً فإِن تنويع أَسباب الحمد أَمر مطلوب للرب تعالى محبوب له، فكما تنوعت أَسباب الحمد تنوَّع الحمد بتنوُّعها وكثر بكثرتها ومعلوم أَنه سبحانه محمود على انتقامه من أَهل الإِجرام والإِساءة، كما هو محمود على إِكرامه لأَهل العدل والإِحسان، فهو محمول على هذا وعلى هذا، مع ما يتبع ذلك من حمده على حلمه وعفوه ومغفرته وترك حقوقه ومسامحة خلقه بها والعفو عن كثير من جنايات العبيد فنبههم باليسير من عقابه وانتقامه على الكثير الذى عفا عنه، وأَنه لو عاجلهم بعقوبته وأَخذهم بحقه لقضى إِليهم أَجلهم ولما ترك على ظهرها من دابة، ولكنه سبقت رحمته غضبه وعفوه انتقامه ومغفرته عقابه، فله الحمد على عفوه وانتقامه، وعلى عدله وإِحسانه، ولا سبيل إِلى تعطيل أَسباب حمده ولا بعضها. فليتدبر اللبيب هذا الموضع حق التدبر، وليعطه حقه يطلعه على أَبواب عظيمة من أَسرار القدر، ويهبط به على رياض منه معشبة وحدائق مونقة. والله الموفق الهادى للصواب.
وأَيضاً فإِن الله سبحانه نوَّع الأَدلة الدالة عليه والتى تعرّف عباده به غاية التنوع، وصرّف الآيات وضرب الأَمثال، ليقيم عليهم حجته البالغة ويتم عليهم بذلك نعمته السابغة، ولا يكون لأحد بعد ذلك حجة عليهم سبحانه، بل الحجة كلها له والنعم كلها له والقدرة كلها له فأَقام عليهم حجته، ولو شاءَ لسوَّى بينهم فى الهداية كما قال تعالى: {فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}* [الأنعام: 149]: فأَخبر أَن له الحجة البالغة، وهى التى بلغت إِلى صميم القلب وخالطت العقل واتحدت به فلا يمكن العقل دفعها ولا جحدها، ثم أَخبر أَنه سبحانه قادر على هداية خلقه كلهم، ولو شاءَ ذلك لفعله لكمال قدرته ونفوذ مشيئته، ولكن حكمته تأْبى ذلك وعدله يأْبى تعذيب أَحد وأَخذه بلا حجة، فأَقام الحجة وصرّفَ الآيات وضرب الأمثال وَنوَّع الأدلة، ولو كان الخلق كلهم على طريقة واحدة من الهداية لما حصلت هذه الأُمور ولا تنوعت هذه الأَدلة والأَمثال، ولا ظهرت عزته سبحانه فى انتقامه من أَعدائه ونصر أَوليائه عليهم، ولا حججه التى أَقامها على صدق أَنبيائه ورسله ولا كان للناس آية فى فئتين التقتا فئة تقاتل فى سبيل الله، وأُخرى كافرة يرونهم مثليهم رأْى العين، ولا كان للخلق آية باقية ما بقيت الدنيا فى شأْن موسى وقومه وفرعون وقومه وفلق البحر لهم ودخولهم جميعاً فيه ثم إِنجاءَ موسى وقومه ولم يغرق أَحد منهم وأَغرق فرعون وقومه لم ينج منهم أَحد، فهذا التعرف إِلى عباده وهذه الآيات وهذه العزة والحكمة لا سبيل إِلى تعطيلها البتة ولا توجد بدون لوازمها.
وأَيضاً فإِن حقيقة الملك إِنما تتم بالعطاءِ والمنع والإِكرام والإِهانة والإِثابة والعقوبة والغضب والرضا والتولية والعزل وإِعزاز من يليق به العز وإِذلال من يليق به الذل، قال تعالى: {قُلِ اللّهُمّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمّنْ تَشَآءُ وَتُعِزّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنّكَ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللّيْلَ فِي الْنّهَارِ وَتُولِجُ النّهَارَ فِي الْلّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيّ مِنَ الْمَيّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيّتَ مِنَ الْحَيّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}* [آل عمران: 26- 27]، وقال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ}* [الرحمن: 29]، يغفر ذنباً ويفرّج كَرْباً ويكشف غماً وينصر مظلوماً ويأْخذ ظالماً ويفك عانياً ويغنى فقيراً ويجبر كسيراً ويشفى مريضاً ويقبل عثرة ويستر عورة ويعز ذليلاً ويذل عزيزاً ويعطى سائلاً ويذهب بدولة ويأْتى بأُخرى ويداول الأَيام بين الناس ويرفع أَقواماً ويضع آخرين يسوق المقادير التى قدرها قبل خلق السموات والأَرض بخمسين أَلف عام إلى مواقيتها فلا يتقدم شيء منها عن وقته ولا يتأَخر، بل كل منها قد أَحصاه كما أَحصاه كتابه وجرى به قلمه ونفذ فيه حكمه وسبق به علمه، فهو المتصرف فى الممالك كلها وحده تصرف ملك قادر قاهر عادل رحيم تام الملك لا ينازعه فى ملكه منازع ولا يعارضه فيه معارض، فتصرفه فى المملكة دائر بين العدل والإِحسان والحكمة والمصلحة والرحمة فلا يخرج تصرفه عن ذلك. وفى تفسير الحافظ أَبى بكر أَحمد بن موسى بن مردويه من حديث الحمانى: حدثنا إِسحق بن سليمان عن معاوية بن يحيى عن يونس ابن ميسرة عن أَبى إدريس عن أَبى الدرداء أَنه سئل عن قوله تعالى: {كُلَّ يَوْمِ هُوَ فِى شَأْن}* [الرحمن: 29]، فقال: سئل عنها رسول الله ﷺ فقال: ((مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَغْفِرَ ذَنْباً وَيُفَرِّجَ كَرْباً وَيَرْفَعَ قَوْماً وَيَضَعَ آخَرِينَ ، وفيه أيضاً من حديث حماد بن سلمة حدثنا الزبير أَبو عبد السلام عن أَيوب بن عبد الله بن مكرز عن أَبيه قال: قال عبد الله بن مسعود: إن ربكم عز وجل ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات والأرض من نور وجهه. أَيامكم عنده ثنتا عشرة ساعة: تعرض عليه أَعمالكم بالأَمس ثلاث ساعات من أَول النهار، فيطلع منها على ما يكره فيغضب فيكون أَول من يعلم بغضبه حملة العرش، فتسبح حملة العرش وسراداقات العرش والملائكة المقربون وسائر الملائكة، وينفخ جبريل فى القرن فلا يبقى خلق لله فى السموات ولا فى الأرض إلا سمعه إلا الثقلين، ويسبحون [ثلاث ساعات] حتى يمتليء الرحمن رحمة، فتلك ست ساعات ثم يدعو بالأَرحام فينظر فيها ثلاث ساعات: {يُصَوّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}* [آل عمران: 6]، {يَهَبُ لِمَنْ يشَاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ}* [الشورى: 49]، فتلك تسع ساعات. ثم يدعو بالأرزاق فينظر فيها ثلاث ساعات: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}* [الإسراء: 30] [الروم: 37] [سبأ: 36] [الزمر: 52] [الشورى: 12] فتلك اثنتا عشرة ساعة. ثم قرأَ عبد الله: {كُلَّ يومٍ هُوَ فِى شَأْن}* [الرحمن: 29] ثم قال: هذا شأْنكم وشأْن ربكم عز وجل. وذكره الطبرانى فى المعجم الكبير من وجه آخر. وهذا من تمام تصرفه فى ملكه سبحانه، فلو قصر تصرفه على وجه واحد ونمط واحد لم يكن تصرفاً تاماً.
والمقصود أَن الملك والحمد فى حقه متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمل حمده، فهو محمود فى ملكه وله الملك والقدرة مع حمده، فكما يستحيل خروج شيء من الموجودات عن ملكه وقدرته يستحيل خروجها عن حمده وحكمته، ولهذا يحمد سبحانه نفسه عند خلقه وأَمره، لينبه عباده على أَن مصدر خلقه وأَمره عن حمده، فهو محمود على كل ما خلقة وأَمر به حمد شكر وعبودية، وحمد ثناءٍ ومدح، ويجمعهما التبارك، فتبارك الله يشمل ذلك كله، ولهذا ذكر هذه الكلمة عقيب قوله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ، تَبَاركَ اللهُ رَبُّ العالَمِينَ}* [الأعراف: 54]
فالحمد أَوسع الصفات وأَعم المدائح والطرق إِلى العلم به فى غاية الكثرة، والسبيل إِلى اعتباره فى ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأَمر والنهى واسعة جداً، لأَن جميع أَسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأَفعاله حمد، وأَحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أَعدائه حمد، وفضله فى إحسانه إلى أَوليائه حمد والخلق والأَمر إِنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هى حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده فى الموجودات وظهور آثاره فيه أَمر مشهود بالأَبصار والبصائر: فمن الطرق الدالة على شمول معنى الْحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أَسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأَن للعالم إِلهاً حياً جامعاً لكل صفة كمال واسم حسن وثناءٍ جميل وفعل كريم وأَنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذى وسع الأَصوات والبصر الذى أَحاط بجميع المبصرات والرحمة التى وسعت جميع المخلوقات والملك الأَعلى الذى لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغنى التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهود آثارها فى الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التى لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات، واحد لا شريك له فى ربوبيته ولا فى إلهيته، ولا شبيه له فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أَفعاله، وليس له من يشركه فى ذرة من ذرات ملكه، أَو يخلفه فى تدبير خلقه، أَو يحجبه عن داعيه أَو مؤمليه أو سائليه، أَو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أَو فرية أَو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأَسره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا}* [الأنبياء: 22]
فلو كان معه آلهة أُخرى كما يقول أَعداؤه المبطلون لوقع من النقص فى التدبير وفساد الأَمر كله ما لا يثبت معه حالٍ، ولا يصلح عليه وجود. ومن أَعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له أَن يجعلنا عبيداً له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاءَ متشاكسين، ولم يجعلنا عبيداً لإِله نحتته الأَفكار، لا يسمع أَصواتنا ولا يبصر أَفعالنا ولا يعلم أَحوالنا ولا يملك لعابديه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، ولا تكلم قط ولا يتكلم ولا يأْمر ولا ينهى، ولا ترفع إِليه الأَيدى ولا تعرج الملائكة والروح إِليه، ولا يصعد إِليه الكلم الطيب، ولا يرفع إِليه العمل الصالح، وأَنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا فوقه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا خلفه ولا أَمامه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه ولا محاذياً له ولا مبايناً، ولا هو مستو على عرشه ولا هو فوق عباده، وحظ العرش منه حظ الحشوش والأَخلية ولا تنزل الملائكة من عنده بل لا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إِليه شيء ولا يقرب منه شيء، ولا يحِب ولا يحَب، ولا [يلتذ] المؤمنون بالنظر إِلى وجهه الكريم فى دار الثواب، بل ليس له وجه يرى ولا له يد يقبض بها السموات وأُخرى يقبض بها الأَرض، ولا [له] فعل يقوم به ولا حكمة تقوم به، ولا كلم موسى تكليماً، ولا تجلى للجبل فجعله دكاً هشيماً، ولا يجيء يوم القيامة لفصل القضاءِ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماءِ الدنيا فيقول [لا] أَسأَل عن عبادى غيرى، ولا يفرح بتوبة عبده إِذا تاب إِليه ويجوز فى حكمته تعذيب أَنبيائه ورسله وملائكته وأَهل طاعته أَجمعين من أَهل السموات والأرضين، وتنعيم أَعدائه من الكفار به والمحاربين والمكذبين له ولرسله، والكل بالنسبة إِليه سواءٌ ولا فرق البتة إِلا أَنه أَخبر أَنه لا يفعل ذلك، فامتنع للخبر بأَنه لا يفعله، لا لأَنه فى نفسه مناف لحكمته، ومع ذلك فرضاه عين غضبه وغضبه عين رضاه ومحبته كراهته وكراهته محبته، إِن هى إِلا إِرادة محضة ومشيئة صرفة يشاءُ بها لا لحكمة ولا لغاية ولا لأَجل مصلحة، ومع ذلك يعذب عباده على ما لم يعملوه ولا قدرة لهم عليه، بل يعذبهم على نفس فعله الذى فعله هو ونسبه إِليهم، ويعذبهم إِذا لم يفعلوا فعله ويلومهم عليه، يجوز فى حكمته أن يعذب رجالاً إِذا لم يكونوا نساءَ ونساءً حيث لم يكونوا رجالاً وطوالاً حيث لم يكونوا قصاراً وبالعكس وسوداً إِذا لم يكونوا بيضاً وبالعكس، بل تعذيبه لهم على مخالفته هو من هذا الجنس إذ لا قدرة لهم البتة على فعل ما أُمروا به ولا ترك ما نهوا عنه. فله الحمد والمنة والثناءُ الحسن الجميل إِذ لم يجعلنا عبيداً لمن هذا شأْنه فنكون مضيعين، ليس لنا رب نقصده، ولا صمد نتوجه إِليه ونعبده، ولا إِله نعوّل عليه، ولا رب نرجع إليه بل قلوبنا تنادى فى طرق الحيرة: من دلنا وجمع علينا رباً ضائعاً لا هو داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين له ولا محاذ له، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا نزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء، ولا كلَّم أَحداً ولا يكلمه أَحد، ولا ينبغى [لأحد أن يذكر صفاته ولايعرفه بها بل يذكرها بلسانه فلا يتكلم بها وبقلبه فلا يعقلها وينبغى] له أَن يعاقب بالقتل أَو بالضرب والحبس من ذكرها أَو أَخبر عنه بها أَو أَثبتها له. أَو نسبها إلِيه أَوْ عرفه بها، بل التوحيد الصرف جحدها وتعطيله عنها ونفى قيامها به واتصافه وما لم تدركه عقولنا من ذلك فالواجب نفيه وجحده [وتكفير] من أثبته واستحلال دمه وماله أو تبديعه وتضليله وتفسيقه، وكلما كان النفى أَبلغ كان التوحيد أتم، فليس كذا وليس كذا أَبلغُ فى التوحيد من قولنا هو كذا وهو كذا.
فللَّه العظيم أَعظم حمد وأَتمه وأَكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته [العلى] وأَسمائه الحسنى، وإِقرار قلوبنا بأَنه الله الذى لا إِله إِلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السموات والأرضين إِله الأَولين والآخرين، ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، منزهاً عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال. فهو الحى القيوم الذى لكمال حياته وقيوميته لا تأْخذه سنة ولا نوم، مالك السموات والأرض الذى لكمال ملكه لا يشفع عنده أَحد إِلا بإِذنه، العالم بكل شيء الذى لكمال علمه يعلم ما بين أَيدى الخلائق وما خلفهم فلا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه يعلم دبيب الخواطر فى القلوب حيث لا يطلع عليها الملك ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب، البصير الذى لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماءِ فى الليلة الظلماءِ، ويرى ما تحت الأرضين [السبع] كما يرى ما فوق السموات السبع. السميع الذى قد استوى فى سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأَصوات فلا تختلف عليه أَصوات الخلق ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين، قالت عائشة: الحمد لله الذى وسع سمعه الأَصوات، لقد جاءَت المجادلة تشكو إِلى رسول الله ﷺ [وأنه] ليخفى على بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِع اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسمَعَ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}* [المجادلة: 1]، القدير الذى لكمال قدرته يهدى من يشاءُ ويضل من يشاءُ ويجعل المؤمن مؤمناً والكافر كافراً والبر براً والفاجر فاجراً، وهو الذى جعل إِبراهيم وآله أَئمة يدعون إِليه ويهدون بأَمره، وجعل فرعون قومه أَئمة يدعون إِلى النار. ولكمال قدرته لا يحيط أَحد بشيء من علمه إِلا بما شاءَ سبحانه أَن يعلمه إِياه. ولكمال قدرته خلق السموات والأَرض وما بينهما فى ستة أَيام وما مسه من لغوب ولا يعجزه أحد من خلقه، ولا يفوته، بل هو فى قبضته أَين كان، فإن فر منه فإِنما يطوى المراحل فى يديه كما قيل:
وكيف يفر المرءُ عنك بذنبه إِذا كان يطوى فى يديك المراحلا
ولكمال غناه استحال إضافة الولد والصاحبة والشريك والشفيع بدون إِذنه إِليه، ولكمال عظمته وعلوه وسع كرسيه السموات والأَرض، ولم تسعه أَرضه ولا سماواته ولم تحط به مخلوقاته، بل هو العالى على كل شيء وهو بكل شيء محيط، ولا تنفد كلماته ولا تبدل، ولو أَن البحر يمده من بعده سبعة [أبحر] مداداً وأَشجار الأَرض أَقلاماً، فكتب بذلك المداد وبتلك الأَقلام، لنفد المداد وفنيت الأَقلام، ولم تنفد كلماته إِذ هى غير مخلوقة، ويستحيل أَن يفنى غير المخلوق بالمخلوق. ولو كان كلامه مخلوقاً- كما قاله من لم يقدره حق قدره، ولا أَثنى عليه بما هو أَهله- لكان أَحق بالفناءِ من هذا المداد وهذه الأَقلام، لأَنه إِذا كان مخلوقاً فهو نوع من أَنواع مخلوقاته، ولا يحتمل المخلوق إفناءَ هذا المداد وهذه الأَقلام وهو باق غير فان. وهو سبحانه يحب رسله وعباده المؤمنين ويحبونه، بل لا شيء أَحب إِليهم منه ولا أشوق إليهم من لقائه ولا أَقر لعيونهم من رؤيته ولا أحظى عندهم من قربه، وأَنه سبحانه له الحكمة البالغة فى خلقه وأمره وله النعمة السابغة على خلقه، وكل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل، وأنه أرحم بعباده من الوالدة بولدها وأنه أفرح بتوبة عبده من واجد راحلته التى عليها طعامه وشرابه فى الأَرض المهلكة بعد فقدها واليأْس منها، وأَنه سبحانه لم يكلف عباده إِلا وسعهم وهو دون طاقتهم، فقد يطيقون الشيء ويضيق عليهم، بخلاف وسعهم فإِنه ما يسعونه ويسهل عليهم ويفضل قدرهم عنه كما هو الواقع، وأَنه سبحانه لا يعاقب أَحداً بغير فعله ولا يعاقبه على فعل غيره، ولا يعاقبه بترك ما لا يقدر على فعله ولا على فعل ما لا قدرة له على تركه، وأنه [سبحانه] حكيم كريم جواد ما جد محسن ودود وصبور شكور يطاع فيشكر ويعصى فيغفر، لا أَحد أصبر على أَذى سمعه منه، ولا أَحب إِليه المدح منه ولا أحب إليه العذر منه، ولا أحد أحب إليه الإحسان منه، فهو محسن يحب المحسنين، شكور يحب الشاكرين جميل يحب الجمال، طيب يحب كل طيب، نظيف يحب النظافة، عليم يحب العلماءَ من عباده، كريم يحب الكرماءَ، قوى والمؤمن القوى أَحب إِليه من المؤمن الضعيف، بر يحب الأَبرار، عدل يحب أَهل العدل حى ستير يحب أهل الحياءِ والستر عفو غفور يحب [من] يعفو من عباده ويغفر لهم، صادق يحب الصادقين، رفيق يحب الرفق، جواد يحب [الجود] وأهله، رحيم يحب الرحماءَ، وتر يحب الوتر، ويحب أَسماءه وصفات ويحب المتعبدين له بها ويحب من يسأَله ويدعوه بها ويحب من يعرفها ويعقلها [ويثنى] عليه بها ويحمده ويمدحه بها
كما فى الصحيح عن النبى ﷺ: ((لا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ، ولا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ))، وفى حديث آخر صحيح: ((لا أَحَدَ أَصْبَرُ عَلَى أَذَى سَمْعِهِ مِنَ اللهِ، يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَداً وَهُوَ يَرْزفقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ))، ولمحبته لأَسمائه وصفاته أمر عباده بموجبها ومقتضاها، فأمرهم بالعدل والإِحسان والبر والعفو والجود والصبر والمغفرة والرحمة والصدق والعلم والشكر والحلم والأَناة والتثبت ولما كان سبحانه يحب أَسماءَه وصفاته كان أَحب الخلق إِليه من اتصف بالصفات التى يحبها، وأَبغضهم إِليه من اتصف بالصفات التى يكرهها، فإِنما أبغض من اتصف بالكبر والعظمة والجبروت لأَن اتصافه بها ظلم، إِذ لا تليق به هذه الصفات ولا تحسن منه، لمنافاتها لصفات العبيد، وخروج من اتصف بها من ربقة العبودية ومفارقته لمنصبه ومرتبته، وتعديه طوره وحدَّه، وهذا خلاف ما تقدم من الصفات كالعلم والعدل والرحمة والإِحسان والصبر والشكر فإِنها لا تنافى العبودية، بل اتصاف العبد بها من كمال عبوديته، إِذ المتصف بها من العبيد لم يتعد طوره ولم يخرج بها من دائرة العبودية والمقصود أَنه سبحانه لكمال أَسمائه وصفاته موصوف بكل صفة كمال، منزه عن كل نقص، له كل ثناءٍ حسن ولا يصدر عنه إِلا كل فعلٍ جميل، ولا يسمى إِلا [بأَحسن] الأَسماءِ ولا يثنى [عليه] إِلا بأَكمل الثناءِ وهو المحمود [المحبوب] المعظم ذو الجلال والإِكرام على كل ما قدره وخلقه، وعلى [كل] ما أَمر به وشرعه.
ومن كان له نصيب من معرفة أَسمائه الحسنى واستقر آثارها فى الخلق والأَمر، رأَى الخلق والأَمر منتظمين بها أَكمل انتظام، ورأَى سريان آثارها فيهما وعلم- بحسب معرفته بها ما يليق بكماله وجلاله أَن يفعله وما لا يليق، فاستدل بأَسمائه على ما يفعله وما لا يفعله فإِنه لا يفعل خلاف موجب [حمده] وحكمته، وكذلك يعلم ما يلبق به أَن يأْمر به ويشرعه مما لا يليق به، فيعلم أَنه لا يأْمر بخلاف موجب حمده وحكمته. فإِذا رأَى بعض الأَحكام جوراً وظلماً أَو سفهاً وعبثاً ومفسدة أَو ما لا يوجب حمداً وثناءً [فليعلم] أَنه ليس من أَحكامه ولا دينه، وأَنه بريء منه ورسوله، فإِنه إِنما أَمر بالعدل لا بالظلم وبالمصلحة لا بالمفسدة وبالحكمة لا بالعبث والسفه، وإِنما بعث رسوله بالحنيفية السمحة لا بالغلظة والشدة، وبعثه بالرحمة لا بالقسوة، فإِنه أَرحم الراحمين، ورسوله رحمة مهداة إِلى العالمين، ودينه كله رحمة، وهو نبى الرحمة وأُمته الأُمة المرحومة وذلك كله موجب أَسمائه الحسنى وصفاته العليا وأًَفعاله الحميدة، فلا يخبر عنه إِلا بحمده ولا يثنى عليه إِلا بأَحسن الثناءِ كما لا يسمى إِلا بأحسن الأسماءِ.
وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأَمره بأن حمد نفسه فى أَول الخلق وآخره وعند الأَمر والشرع وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على [تفرده] بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أَحد من خلقه لحاجته إِليه، وحمد نفسه على علوه وكبريائه، وحمد نفسه فى الأُولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده فى العالم العلوى والسفلى، ونبه على هذا كله فى كتابه وحمد نفسه عليه، فتنوع حمده وأسباب حمده، وجمعها تارة وفرقها أُخرى ليتعرف إِلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. قال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}* [الفاتحة: 2- 4]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ}* [الأنعام: 1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لهُ عِوَجاً * قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِين}* [الكهف: 1-2]، وقال: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى لَهُ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَمَا فِى الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِى الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرِ}* [سبأ: 1]، وقال تعالى: {الْحَمْدُ للهِ فَاطِرِ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِى أَجْنَحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِى الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}* [فاطر: 1]، وقال: {وَهُوَ اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِى الأُولَى وَالآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}* [القصص: 70]، وقال: {هُوَ الْحَى لا إلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}* [غافر: 65]، وقال: {فَسُبْحَانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِى السّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ}* [الروم: 17- 18].
أخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته {وَقُضِى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}* [الزمر: 75].
وأخبر عن حمد أهل الجنة له [وأنهم] لم يدخلوها إلا بحمده، كما أن أهل النار لم يدخلوها ًإلا بحمده، فقال أهل الجنة: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِى لَوْلا أَنْ هَدَانَا الله}* [الأعراف: 43]، و{دَعْواهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلامٌ، وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَن الْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِينَ}* [يونس: 10]، وقال عن أهل النار: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ * وَنَزَعْنَا مِن كُلّ أُمّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوَاْ أَنّ الْحَقّ لِلّهِ وَضَلّ عَنْهُمْ مّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ}* [القصص: 74- 75]، وقال: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السَّعِيرِ}* [الملك: 11].
وشهدوا على أنفسهم بالكفر والظلم وعلموا أنهم كانوا كاذبين فى الدنيا مكذبين بآيات ربهم مشركين به جاحدين لإلهيته مفترين عليه، وهذا اعتراف منهم بعدله فيهم وأخذهم ببعض حقه عليهم وأنه غير ظالم لهم وأنهم إنما دخلوا النار بعدله وحمده وإنما عوقبوا بأفعالهم وبما كانوا قادرين على فعله وتركه، لا كما تقول الجبرية. وتفصيل هذه الحكمة مما لا سبيل للعقول البشرية إلى الإحاطة به ولا إلى التعبير عنه، ولكن بالجملة فكل صفة عليا واسم حسن وثناءٍ جميل وكل حمد ومدح وتسبيح وتنزيه وتقديس وجلال وإكرام فهو لله عز وجل على أكمل الوجوه وأتمها وأدومها، وجميع ما يوصف به ويذكر به ويخبر عنه فهو محامد له وثناءٌ وتسبيح وتقديس، فسبحانه وبحمده لا يحصى أحد من خلقه ثناءً عليه بل هو كما أثنى على نفسه وفوق ما يثنى عليه خلقه، فله الحمد أولاً وآخراً حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغى لكرم وجهه وعز جلاله ورفيع مجده وعلو جده.
فهذا تنبيه على أحد نوعى حمده، وهو حمد الصفات والأسماء. والنوع الثانى حمد النعم والآلاءِ، وهذا [مشهود] [للخليقة] برها وفاجرها مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكريم أياديه وجميل صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رحمته لهم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين وكشف كربات المكروبين وإغاثة الملهوفين ورحمته للعالمين وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها.
ولطفه تعالى فى ذلك بإيصاله إلى من [أراده] بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عتهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم [الإيمان] وزينه فى قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتب فى قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع [غناه] [عنهم] وتبغضهم إليه بالمعاصى وفقرهم إليه، ومع هذا كله فاتخذ لهم داراً وأعد لهم فيها من كل ما تشتيهه الأنفس وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور [والبهجة] ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التى توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضى منهم باليسير فى هذه المدة القصيرة جداً بالإضافة إلى بقاءِ دار النعيم، وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلاً منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال.
(يتبع...)
@(تابع... 1): فحقيقة نفس الإنسان جاهلة ظالمة فقيرة محتاجة، والشر الذى... ...
وصرف لهم الآيات وضرب لهم الأمثال ووسع لهم طرق العلم به ومعرفته وفتح لهم أبواب الهداية وعرفهم الأسباب التى تدنيهم من رضاه وتبعدهم عن غضبه، ويخاطبهم بألطف الخطاب ويسميهم بأحسن أسمائهم كقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}، {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}* [النور: 31]، {يَا عِبَادِى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر: 53]، {قَل لِعِبَادِى}* [ابراهيم: 31]، {وإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى}* [البقرة: 186]، فيخاطبهم بخطاب الوداد والمحبة والتلطف كقوله: {يَأيّهَا النّاسُ اعْبُدُواْ رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ وَالّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلّكُمْ تَتّقُونَ * الّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشاً وَالسّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثّمَرَاتِ رِزْقاً لّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}* [البقرة: 21- 22]، {يَأَيّهَا النّاسُ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللّهِ يَرْزُقُكُمْ مّنَ السّمَآءِ وَالأرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّىَ تُؤْفَكُونَ}* [فاطر: 3]، {يَأَيّهَا النّاسُ إِنّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ فَلاَ تَغُرّنّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنْيَا وَلاَ يَغُرّنّكُمْ بِاللّهِ الْغَرُورُ}* [فاطر: 5]، {يَأَيهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيم * الَّذِى خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعدَلَكَ}* [الانفطار: 6- 7]، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اتّقُواْ اللّهَ حَقّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنّ إِلاّ وَأَنْتُمْ مّسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ}* [آل عمران: 102- 103]، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ بِطَانَةً مّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدّواْ مَا عَنِتّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيّنّا لَكُمُ الاَيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}* [آل عمران: 118] {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتّخِذُواْ عَدُوّي وَعَدُوّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مّنَ الْحَقّ يُخْرِجُونَ الرّسُولَ وَإِيّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِاللّهِ رَبّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ}* [الممتحنة:1]، {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتّقُواْ فِتْنَةً لاّ تُصِيبَنّ الّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصّةً وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * وَاذْكُرُوَاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطّفَكُمُ النّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مّنَ الطّيّبَاتِ لَعَلّكُمْ تَشْكُرُونَ}* [الأنفال: 24- 26]، {يَأَيّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ إِنّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُواْ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذّبَابُ شَيْئاً لاّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ إِنّ اللّهَ لَقَوِيّ عَزِيزٌ}* [الحج: 73- 74]، {وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً}* [الكهف: 50] فتحت هذا الخطاب: إنى عاديت إبليس وطردته من [سمائى] وباعدته من قربى إذ لم يسجد لأبيكم آدم، ثم أنتم يا بنيه توالونه وذريته من دونى وهم أعداءٌ لكم.
فليتأمل اللبيب مواقع هذا الخطاب وشدة لصوقه بالقلوب والتباسه بالأرواح وأكثر القرآن جاء على هذا النمط من خطابه لعباده بالتودد والتحنن واللطف والنصيحة البالغة، وأعلم [سبحانه] عباده أنه لا يرضى لهم إلا أكرم الوسائل وأفضل المنازل وأجل العلوم والمعارف.
قال تعالى: {إِن تَكْفُرُواْ فَإِنّ اللّهَ غَنِيّ عَنكُمْ وَلاَ يَرْضَىَ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ}* [الزمر: 7]، وقال [تعالى]: {الْيَومَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِيْنَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}* [المائدة: 3]، وقال: {يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}* [البقرة: 185]، وقال: {يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الّذِينَ يَتّبِعُونَ الشّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}* [النساء: 26-28].
ويتنصل سبحانه إلى عباده من مواضع الظنة والتهمة التى نسبها إليه من يعرفه حق معرفته ولا قدره حق قدره: من تكليف عباده ما لا يقدرون عليه ولا طاقة لهم بفعله البتة، وتعذيبهم إن شكروه وآمنوا به، وخلق السموات والأرض وما بينهما لا لحكمة ولا لغاية، وأنه لم يخلق خلقه لحاجة منه إليهم، ولا ليتكثر بهم من قلة ولا ليتعزز بهم كما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ}* [الذاريات: 56- 57]، فأخبر أنه لم يخلق الجن والإنس لحاجة منه إليهم، ولا ليربح عليهم، لكن خلقهم جوداً وإحساناً ليعبدوه فيربحوا هم عليه كل الأرباح كقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ}* [الإسراء: 7]، {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}* [الروم: 44]، ولما أمرهم بالوضوءِ وبالغسل من الجنابة الذى يحط عنهم أَوزارهم ويدخلون به عليه ويرفع به درجاتهم، قال تعالى: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}* [المائدة: 6]، وقال فى الأضاحى والهدايا: {لَنْ يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ}* [الحج: 37]، وقال عقيب أمرهم بالصدقة ونهيهم عن إخراج الرديء من المال: {وَلاَ تَيَمّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ وَاعْلَمُوَاْ أَنّ اللّهَ غَنِيّ حَمِيدٌ}* [البقرة: 267].
يقول سبحانه: إنى غنى عما تنفقون أن ينالنى منه شيء، [حميد] مستحق المحامد كلها، فإنفاكم لا يسد منه حاجة ولا يوجب له حمداً، بل هو الغنى بنفسه الحميد بنفسه وأسمائه وصفاته [وإنفاقكم] إنما نفعه لكم وعائدته عليكم. ومن [المتعين] على من لم يباشر قلبه حلاوة هذا الخطاب وجلالته ولطف موقعه، وجذبه للقلوب والأرواح ومخالطته لها أن يعالج قلبه بالتقوى، وأن يستفرغ منه المواد الفاسدة التى حالت بينه وبين حظه من ذلك، ويتعرض إلى الأسباب التى يناله بها، من صدق الرغبة واللجإِ إلى الله أن يحيى قلبه ويزكيه ويجعل فيه الإيمان والحكمة، فالقلب الميت لا يذوق طعم الإيمان ولا يجد حلاوته ولا يتمتع بالحياة الطيبة لا فى الدنيا ولا فى الآخرة ومن أَراد مطالعة أُصول النعم فليسم سرح الذكر فى رياض القرآن، وليتأمل ما عدد الله فيه من نعمه وتعرف بها إلى عباده من أول القرآن إلى آخره حين خلق أهل النار وابتلاهم بإبليس وحزبه وتسليط أعدائهم عليهم وامتحانهم بالشهوات والإرادات والهوى لتعظم النعمة عليهم بمخالفتها ومحاربتها، [أعداء الله] على أوليائه وعباده أتم نعمة وأكملها فى كل ما خلقه من محبوب ومكروه، ونعمة ومحنة وفى كل ما أحدثه فى الأرض من وقائعه بأعدائه وإكرامه لأوليائه، وفى كل ما قضاه وقدره، وتفصيل ذلك لا تفى به أقلام الدنيا وأوراقها ولا قوى العباد، وإنما هو التنبيه والإشارة.
ومن استقرئ الأسماء الحسنى وجدها مدائح وثناءً تقصر بلاغات الواصفين عن بلوغ كنهها، وتعجز الأوهام عن الإحاطة بالواحد منها ومع ذلك فالله سبحانه محامد ومدائح وأنواع من الثناء لم تتحرك بها الخواطر ولا هجست فى الضمائر ولا لاحت لمتوسم ولا سنحت فى فكر.
ففى دعاء أعرف الخلق بربه تعالى وأعلمهم بأسمائه وصفاته ومحامده: ((أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِى كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ أوْ اسْتأْثَرْتَ بِهِ فِى عِلْمِ الغَيْبِ عِنْدَكَ أَن تَجْعَلَ الْقُرْآن رَبِيع قَلْبِى وَنُورَ صَدْرِى وَجَلاءَ حُزْنِى وَذَهَابَ هَمِّى وَغَمِّى)).
وفى الصحيح عنه ﷺ فى حديث الشفاعة لما يسجد بين يدى ربه قال: ((فَيَفْتَحُ قَلبِى مَنْ مَحَامِدهِ بِشَيْءٍ لا أُحْسِنُهُ الآن))، وكان يقول فى سجوده: [أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك] ((أَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لا أُحْصِى ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِكِ))، فلا يحصى أَحد من خلقه ثناءً عليه البتة، وله أسماءٌ وأوصاف وحمد وثناءٌ لا يعلمه ملك مقرب ولا نبى مرسل، ونسبة ما يعلم العباد من ذلك إلى ما لا يعلمونه كنقرة عصفور فى بحر.
فإن قيل: فكيف تصنعون بما يشاهد من أَنواع الابتلاءِ والامتحان والآلام للأَطفال والحيوانات ومن هو خارج عن التكليف ومن لا ثواب ولا عقاب عليه؟ وما تقولون فى الأَسماءِ الدالة على ذلك من المنتقم والقابض والخافض ونحوها؟ قيل: قد تقدم من الكلام فى ذلك ما يكفى بعضه لذى الفطرة السليمة والعقل المستقيم وأَما من فسدت فطرته وانتكس قلبه وضعفت بصيرة عقله فلو ضرب له من الأَمثال ما ضرب فإِنه لا يزيده إِلا عمى وتحيراً ونحن نزيد ما تقدم إيضاحاً وبياناً إِذ بسط هذا المقام أَولى من اختصاره فنقول: قد علمت أن جميع أسماء الرب سبحانه حسنى وصفاته كمال وأفعاله حكمة ومصلحة، وله كل ثناءٍ وكل حمد ومدحه وكل خير فمنه وله وبيده، والشر ليس إليه بوجه من الوجوه. لا فى ذاته ولا فى صفاته ولا فى أفعاله ولا فى أسمائه، وإن كان فى مفعولاته فهو خير بإضافته إليه وشر بإضافته إلى من صدر عنه ووقع به. فتمسك بهذا الأصل ولا تفارقه فى كل دقيق وجليل، وحكمه على كل ما يرد عليك، وحاكم إليه واجعله آخرتك التى ترجع إليها وتعتمد عليها.
واعلم أن لله خصائص فى خلقه ورحمة وفضلاً يختص به من يشاءُ، وذلك موجب ربوبيته وإلهيته وحمده وحكمته، فإياك ثم إياك أَن تصغى إلى وسوسة شياطين الإنس والجن والنفس الجاهلة الظالمة إِنه هلا سوَّى بين عباده فى تلك الخصائص وقسمها بينهم على السواءِ، فإن هذا عين الجهل والسفه من المعترض به، وقد بينا فيما تقدم أن حكمته تأْبى ذلك وتمنع منه. ولكن اعلم أن الأمر قسمة بين فضله وعدله، فيختص برحمته من يشاء ُ ويقصد بعذابه من يشاءُ وهو المحمود على هذا، فالطيبون من خلقه مخصوصون بفضله ورحمته، والخبيثون مقصودون بعذابه، ولكل واحد قسطه من الحكمة والابتلاءِ والامتحان، وكل مستعمل فيما هو له مهيأَ وله مخلوق، وكل ذلك خير ونفع ورحمة للمؤمنين فإنه تعالى خلقهم للخيرات فهم لها عاملين، واستعملهم فيها فلم يدركوا ذلك إلا به ولا استحقوه إلا بما سبق لهم من مشيئته وقسمته، فكذلك لا تضرهم الأدواءُ ولا السموم، بل متى وسوس لهم العدو واغتالهم بشيء من كيده أو مسهم بشيء من طيفة تذكروا فإذا هم مبصرون، وإخوانهم يمدونهم فى الغى ثم لا يقصرون وإذا واقعوا فى معصية صغيرة أو كبيرة عاد ذلك عليهم رحمة وانقلب فى حقهم دواء وبدل حسنة بالتوبة النصوح والحسنات الماحية، لأنه سبحانه عرفهم بنفسه وبفضله وبأن قلوبهم بيده وعصمتهم إليه حيث نقض عزماتهم وقد عزموا أن لا يعصوه، وأراهم عزته فى قضائه، وبره وإحسانه فى عفوه ومغفرته، وأشهدهم نفوسهم وما فيها من النقص والظلم والجهل، وأشدهم حاجتهم إليه وافتقارهم وذلهم، وأنه إن لم يعف عنهم ويغفر لهم فليس لهم سبيل إلى النجاة أبداً، فإِنهم لما أعطوا من أنفسهم العزم أن لا يعصون وعقدوا عليه قلوبهم ثم عصوه بمشيئته وقدرته، عرفوا بذلك عظيم اقتداره وجميل ستره إياهم وكريم حلمه عنهم وسعة مغفرته لهم برد عفوه وحنانه وعطفه ورأْفته، وأنه حليم ذو أناة لا يعجل ورحيم سبقت رحمته غضبه، وأنهم متى رجعوا إليه بالتوبة وجدوه غفوراً رحيماً، حليماً كريماً، يغفر لهم السيئات ويقيلهم العثرات ويودهم بعد التوبة ويحبهم.
فتضرعوا إليه حينئذ بالدعاء وتوسلوا إليه بذل العبيد وعزا الربوبية فتعرف سبحانه إليهم بحسن إجابته وجميل عطفه وحسن امتنانه فى أن ألهمهم دعاءه ويسرهم للتوبة والإنابة وأقبلوا بقلوبهم إليه بعد إعراضها عنه، ولم تمنعه معاصيهم وجناياتهم من عطفه عليهم وبره لهم وإحسانه إليهم فتاب عليهم قبل أن يتوبوا إليه، وأعطاهم قبل أن يسألوه فلما تابوا إليه واستغفروه وأنابوا إليه تعرف إليهم تعرفاً آخر: فعرفهم رحمته وحسن عائدته وسعة مغفرته وكريم عفوه وجميل صفحه وبره وامتنانه وكرمه وشرعه، ومبادرته قبولهم بعد أن كان منهم ما كان من طول الشرور وشدة النفور والإيضاع فى طرق معاصيه، وأشهدهم مع ذلك حمده العظيم وبره العميم، وكرمه فى أن خلى بينهم وبين المعصية فنالوها بنعمته وإعانته، ثم لم يخل بينهم وبين ما توجبه من الإهلاك والفساد الذى لا يرجى معه صلاح، بل تداركهم بالدواء الشافى فاستخرج منهم داء لو استمر معهم لأفضى إلى الهلاك، ثم تداركهم بروح الرجاء فقذفه فى قلوبهم وأخبر أنه عند ظنونهم به، ولو أشهدهم عظم الجناية وقبح المعصية وغضبه ومقته على من عصاه فقط لأورثهم ذلك المرض القاتل أو الداء العضال من اليأْس من روحه والقنوط من رحمته، وكان ذلك عين هلاكهم، ولكن رحمهم قبل البلاء وفى حشو البلاء وبعد البلاء وجعل تلك الآثار التى توجبها معصيته من المحن والبلاء والشدائد رحمة لهم وسبباً إلى علو درجاتهم ونيل الزلفى والكرامة عنده، فأشهدهم بالجناية عزة الربوبية وذل العبودية، ورقاهم بآثارها إلى منازل قربه ونيل كرامته، فهم على كل حال يربحون عليه يتقلبون فى كرمه وإحسانه، وكل قضاءٍ يقضيه للمؤمن فهو خير به يسوقه إلى كرامته وثوابه، وكذلك عطاياه الدنيوية نعم منه عليهم، فإذا استرجعها أيضاً منهم وسلبهم إياها انقلبت من عطايا الآخرة ما قيل:
إن الله ينعم على عباده بالعطايا الفاخرة، فإذا استرجعها كانت عطايا الآخرة، والرب سبحانه قد تجلى لقلوب المؤمنين العارفين وظهر لها بقدرته وجلاله وكبريائه ومضى مشيئته وعظيم سلطانه وعلو شأْنه وكرمه وبره وإحسانه وسعة مغفرته ورحمته وما ألقاه فى قلوبهم من الإيمان بأسمائه وصفاته إلى حيث احتملته القوى البشرية ووراءه مما لا تحتمله قواهم ولا يخطر ببال ولا يدخل فى خلد مما لا نسبة لما عرفوه إليه.
فاعلم أن الذين كان قسمهم أنواع المعاصى والفجور، وفنون الكفر والشرك والتقلب فى غضبه وسخطه وقلوبهم وأرواحهم شاهدة عليهم بالمعاصى والكفر مقرة بأن له الحجة عليهم وأن حقه قبلهم، ولا يذكر أحد منهم النار إلا وهو شاهد بذلك مقر به معترف اعتراف طائع لا مكره مضطهد، فهذه شهادتهم على أنفسهم وشهادة أوليائه عليهم والمؤمنون يشهدون فيهم بشهادة أخرى لا يشهد بها أعداؤه، ولو شهدوا بها وباؤا بها لكانت رحمته أقرب إليهم من عقوبته، فيشهدون أنهم عبيده وملكه وأنه أوجدهم ليظهر بهم مجده وينفذ فيهم حكمه ويمضى فيهم عدله، ويحق عليهم كلمته ويصدق فيهم وعيده ويبين فيهم سابق علمه، ويعمر بهم ديارهم ومساكنهم التى هى محل عدله وحكمته، وشهد أولياؤه عظيم ملكه وعز سلطانه وصدق رسله وكمال حكمته وتمام نعمته عليهم وقدر ما اختصهم به ومن أى شيء حماهم وصانهم، وأى شيء صرف عنهم، وأنه لم يكن لهم إليه وسيلة قبل وجوده يتوسلون بها إليه أن لا يجعلهم من أصحاب الشمال وأن يجعلهم من أصحاب اليمينى، وشهدوا له سبحانه بأن ما كان منه إليهم وفيهم مما يقتضيه إتمام كلماته الصدق والعدل قوله وتحقق مقتضى أسمائه فهو محض حقه.
وكل ذلك منه حسن جميل له عليه أتم حمد وأكمله وأفضله، وهو حكم عدل وقضاءٌ فصل، وأنه المحمود على ذلك كله فلا يلحقه منه ظلم ولا جور ولا عبث، بل ذلك عين الحكمة ومحض الحمد وكمال أظهره فى حقه وعز أبداه وملك أعلنه ومراد له أنفذه كما فعل بالبدن وضروب الأنعام أتم بها مناسك أوليائه وقرابين عباده، وإن كان ذلك بالنسبة إلى الأنعام هلاكاً وإتلافاً، فأعداؤه الكفار المشركون به الجاحدون أو لى أن تكون دماؤهم قرابين أوليائه وضحايا المجاهدين فى سبيله، كما قال حسان بن ثابت:
يتطهرون- يرونه قربانهــم بدماءِ من علقوا من الكفار
وكذلك لما ضحى خالد بن عبد الله القسرى بشيخ المعطلة الفرعونية جعد بن درهم، فإن خطبهم فى يوم أضحى، فلما أكمل خطبته قال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإنى مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، تعالى عما يقول الجعد علواً كبيراً، ثم نزل فذبحه، فكان ضحيته. وذكر ذلك البخارى فى كتاب خلق الأفعال، فهذا شهود أوليائه من شأن أعدائه، ولكن أعداؤه فى غفلة عن هذا لا يشهدونه ولا يقرون به، ولو شهدوه وأقروا به لأدركهم حنانه ورحمته، ولكن لما حجبوا عن معرفته ومحبته وتوحيده وإثبات أسمائه الحسنى وصفاته العليا ووصفه بما يليق به وتنزيهه عما لا يليق به صاروا أسوأ حالاً من الأنعام وضربوا بالحجاب، وأبعدوا عنه بأقصى البعد وأخرجوا من نوره إلى الظلمات، وغيبت قلوبهم فى الجهل به وبكماله وجلاله وعظمته فى غابات، ليتم عليهم أمده، وينفذ فيهم حكمه، والله عليم حكيم، والله أعلم.
فصل
(@فى أن الله خلق داريْن وخصَّ كل دار بأهل
والله سبحانه مع كونه خالق كل شيء فهو موصوف بالرضا والغضب والعطاء والمنع والخفض والرفع والرحمة والانتقام، فاقتضت حكمته سبحانه أن خلق داراً لطالبى رضاه العاملين بطاعته المؤثرين لأمره القائمين بمحابة وهى الجنة، وجعل فيها كل شيء مرضى وملأها من كل محبوب ومرغوب ومشتهى ولذيذ، وجعل الخير بحذافيره فيها، وجعلها محل كل طيب من الذوات والصفات والأقوال.
وخلق داراً أخرى لطالبى أسباب غضبه وسخطه، المؤثرين لأغراضهم وحظوظهم على مرضاته، العاملين بأنواع مخالفته، القائمين بما يكره من الأعمال والأقوال، الواصفين له بما لا يليق به، الجاحدين لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله لما أخبرت به رسله من صفات كماله ونعوت جلاله، وهى جهنم، وأودعها كل شيء مكروه وسجنها مليء من كل شيء مؤذ ومؤلم، وجعل الشر بحذافيره فيها، وجعلها محل كل خبيث من الذوات والصفات والأقوال والأعمال.
فهاتان الداران هما دارا القرار. وخلق داراً ثالثة هى كالميناء لهاتين الدارين، ومنها يتزود المسافرون إليهما، وهى دار الدنيا، ثم أخرج إليها من أثمار الدارين بعض ما اقتضته أعمال أربابهما وما يستدل به عليهما، حتى كأنهما رأى عين، ليصير للإيمان بالدارين- وإن كان غيباً- وجه شهادة تستأنس به النفوس وتسدل به، فأخرج سبحانه إلى هذه الدار من آثار رحمته من الثمار والفواكه والطيبات والملابس الفاخرة والصور الجميلة وسائر ملاذ النفوس ومشتهاها ما هو نفحة من نفحات الدار التى جعل ذلك كله فيها على وجه الكمال، فإذا رآه المؤمنون ذكرهم بما هناك من الخير والسرور والعيش الرخى كما قيل:
فإذا رآك المسلمون تيقنوا حور الجنان لدى النعيم الخالد
فشمروا إليها وقالوا: اللَّهم لا عيش إلا عيش الآخرة وأحدثت لهم رؤيته عزمات وهمماً وجداً وتشميراً، لأن النعيم يذكر بالنعيم، والشيء يذكر بجنسه، فإذا رأى أحدهم ما يعجبه ويروقه ولا سبيل له إليه قال: موعدك الجنة، وإنما هى عشية أو ضحاها.
فوجود تلك المشتهيات والملذوذات فى هذه الدار رحمة من الله يسوق بها عباده المؤمنين إلى تلك الدار التى هى أكمل منها، وزاد لهم من هذه الدار إليها، فهى زاد وعبرة ودليل، وأثر من آثار رحمته التى أودعها تلك الدار، فالمؤمن يهتز برؤيتها إلى ما أمامه، ويثير ساكن عزماته إلى تلك، فنفسه ذواقة تواقة، إذا ذاقت شيئاً منها تاقت إلى ما هو أكمل منه حتى تتوق إلى النعيم المقيم فى جوار الرب الكريم.
وأخرج سبحانه إلى هذه الدار أيضاً من آثار غضبه ونقمته من العقوبات والآلام والمحن والمكروهات من الأعيان والصفات ما يستدل بجنسه على ما فى دار الشقاء من ذلك، مع أن ذلك من آثار النفسين الشتاء والصيف اللذين أذن الله سبحانه بحكمته لجهنم أن تتنفس بهما، فاقتضى ذانك النفسان آثاراً ظهرت فى هذه الدار كانت دليلاً عليها وعبرة.
وقد أشار تعالى إلى هذا المعنى ونبه عليه بقوله فى نار الدنيا: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لّلْمُقْوِينَ}* [الواقعة: 73]، تذكرة تذكر بها الآخرة ومنفعة للنازلين بالقواءِ وهم المسافرون، يقال: أقوى الرجل إذا نزل بالقِى والقَوَى وهى الأرض الخالية، وخص المقوين بالذكر وإن كانت منفعتها عامة للمسافرين والمقيمين تنبيهاً لعباده- والله أعلم بمراده من كلامه- على أنهم كلهم مسافرون وأنهم فى هذه الدار على جناح سفر ليسوا هم مقيمين ولا مستوطنين وأنهم عابرو سبيل وأبناء سفر. والمقصود أنه سبحانه أشهد فى هذه [الدار] ما أعد لأوليائه وأعدائه فى دار القرار، وأخرج إلى هذه الدار من آثار رحمته وعقوبته ما هو عبرة ودلالة على ما هناك من خير وشر، وجعل هذه العقوبات والآلام والمحن والبلايا سياطاً يسوق بها عباده المؤمنين، فإذا رأوها حذروا كل الحذر واستدلوا بما رأوه منها وشاهدوه على ما فى تلك الدار من المكروهات والعقوبات، وكان وجودها فى هذه الدار وإشهادهم إياها وامتحانهم باليسير منها رحمة منه بهم وإحساناً إليهم وتذكرة وتنبيهاً. ولما كانت هذه الدار ممزوجاً خيرها بشرها وأذاها براحتها ونعيمها بعذابها اقتضت حكمة أحكم الحاكمين أن خلص خيرها من شرها وخصه بدار أخرى هى دار الخيرات المحضة ودار السرر المحضة، فكتب على هذه الدار حكم الامتزاج والاختلاط وخلط فيها بين الفريقين، وابتلى بعضهم ببعض، وجعل بعضهم لبعض فتنة، حكمة بالغة بهرت العقول وعزة قاهرة.
فقام بهذا الاختلاط سوق العبودية كما يحبه ويرضاه، ولم تكن تقوم عبوديته التى يحبها ويرضاها إلا على هذا الوجه، بل العبد الواحد جمع فيه بين أسباب الخير والشر، وسلط بعضه على بعض ليستخرج منه ما يحبه من العبودية التى لا تحصل إلا بذلك. فلما حصلت الحكمة المطلوبة من هذا الامتزاج والاختلاط أعقبه بالتمييز والتخليص، فميز بينهما بدارين ومحلين، وجعل لكل دار ما يناسبها، وأسكن فيها من يناسبها، وخلق المؤمنين المتقين المخلصين لرحمته، وأعداءه الكافرين لنقمته، والمخلصين للأمرين: فهؤلاء أهل الرحمة وهؤلاء أهل النقمة، وهؤلاء أهل النقمة والرحمة. وقسم آخر لا يستحقون ثواباً ولا عقاباً.
ورتب على كل قسم من هذه الأقسام الخمسة حكمه اللائق به، وأظهر فيه حكمته الباهرة، ليعلم العباد كمال قدرته وحكمته وأنه يخلق ما يشاءُ، ويختار من خلقه من يصلح للاختيار، وأنه يضع ثوابه موضعه، ويجمع بينهما فى المحل المقتضى لذلك، ولا يظلم أحداً ولا يبخسه شيئاً من حقه ولا يعاقبه بغير جنايته، هذا مع ما فى ضمن هذا الابتلاء والامتحان من الحكم الراجعة إلى العبيد أنفسهم: من استخراج صبرهم وشكرهم وتوكلهم وجهادهم، واستخراج كمالاتهم الكامنة فى نفسهم من القوة إلى الفعل، ودفع الأسباب بعضها ببعض، وكسر كل شيء بمقابلة ومصادمته بضده، لتظهر عليه آثار القهر وسمات الضعف والعجز ويتيقن العبد أن القهار لا يكون إلا واحداً، وأنه يستحيل أن يكون له شريك، بل القهر والوحدة متلازمان: فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار، ومن سواه مربوب مقهور، له ضد ومناف ومشارك: فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها، وخلق الماءَ وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره، وخلق النار وسلط عليها الماءَ يكسرها ويطفئها، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد، وخلق الحر والبرد والشتاء والصيف وسلط كلا منها على الآخر يذهبه ويقهره، وخلق الليل والنهار وقهر كلا منهما بالآخر، وكذلك الحيوان على اختلاف ضروبه من حيوان البر والبحر لكل منه مضاد ومغالب، فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه وربط بعضه على بعض وإحواج بعضه إلى بعض وقهر بعضه ببعض وابتلاءِ بعضه ببعض وامتزاج خيره بشره، وجعل شره لخيره الفداءِ، ولهذا يدفع إلى كل مؤمن يوم القيامة كافر فيقال له: هذا فداؤك من النار، وهكذا المؤمن فى الدنيا يسلط عليه من الابتلاء والامتحان والمصائب ما يكون فداءه من عذاب الله، وقد تكون تلك الأسباب فداءً له من شرور أكثر منها فى هذا العالم أيضاً، فليعط اللبيب هذا الموضع حقه من التدبر يتبين له حكمة اللطيف الخبير.
فصل
في أن الله خلق عباده على الفطرة
وقد تقرر أن الله سبحانه كامل الصفات له الأسماء الحسنى، ولا يكون عن الكامل فى ذاته وصفاته إلا الفعل المحكم، وهو سبحانه خلق عباده على الفطرة، وكل مولود فإنما يولد على الفطرة التى فطر الخلائق عليها، ولكن الآباء والكافلين للمولودين يخرجونهم من الفطرة، ويعدلون بهم عنها، ولو تركوهم لما اختاروا عليها غيرها، ولكن أخرجوهم عن سنن الحنيفية وأفسدوا فطرهم وقلوبهم، وهكذا بالأضداد والأغيار يخرج بعض المخلوقات عن سنن الإتقان والحكمة، ولولا تلك الأضداد والأغيار لكانت فى مرتبتها كالملودُّ فى فطرته ولذلك أمثلة :
المثال الأول:أن الماء خلقه الله طاهراً مطهراً ، فلو ترك على حالته التى خلق الله عليها ولم يخالطه ما يزيل طهارته لم يكن طاهراً ، ولكن بمخاطة أضداده من الأنجاس والأقذار تغيرت اوصافه وخرج عن لاخلقة التى خلق عليها ، فكانت تلك لانجاسات والقاذورات بمنزلة أيوى الطفل وكافليه لاذين يهودانه وينصرونه ويمجسونه ويشركونه ، وكما أن الماء إذا فسد بمخالطته الأنجاس والقاذورات لم يصلح للطهارة ، فكذلك القلوب إذا فسدت فطرها بالأغيار لم تصلح لحظيرة القدس .
المثال الثاني : الشراب المعتصر من العنب ، فإنه طيب يصلح للدواء ولإصلاح الغذاء والمنافع التي يصلح لها ، فلو خلي على حاله لم يكن إلا طاهرا طيبا ولكن أفسد بتهيئته للسكر واتخاذه مسكرا ، فخرج بذلك عن خلقته التي خلق عليها من الطهارة والطيب ، فصار أخبث شيء وأنجسه . فلو انقلب خلا أو زال بزوالها والله أعلم .
المثال الثالث : الأغذية الطيبة النافعة إذا خالطت باطن الحيوان واستقرت هنالك خرجت عن حالتها التي خلقت عليها واكتسبت بهذه المخالطة والمجاورة خبثا وفسادا لم يكن فيها لسلوكها في غير طرقها التي بها كمالها . ولما أنزل الله الماء طاهرا نافعا فمازج الأرض سالت به أوديتها أوجد جل جلاله بينهما بسبب هذه المخالطة والممازجة أنواع الثمار والفواكه والزروع والنخيل والزيتون وسائر الأغذية والأقوات وأوجد مع ذلك المر والشوك والحنظل وغير ذلك ، واللقاح واحد ، ولكن الأم مختلفة ، قال تعالى : {وَفِي الأرْضِ قِطَعٌ مّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنّاتٌ مّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىَ بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضّلُ بَعْضَهَا عَلَىَ بَعْضٍ فِي الاُكُلِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}* [الرعد: 4]، ثم إنه سبحانه يصرف ما أخرجه من هذا الماء وبقلبه ويحيل بعضه إلى بعضه بالمخالطة والمجاورة عن طبيعته إلى طبيعة أخرى ، وهذا كما خلق كل دابة من ماء ثم خالف بين صورها وقواها ومنافعها وأوصافها وما يصلح لها ، وأمشى بعضا على بطنه وبعضا على رجلين وبعضا على أربع ، حكمة بالغة وقدرة باهرة . وكذلك سبحانه يقلب الليل والنهار ويقلب ما يوجد فيهما ويقلب أحوال العالم كما يشاء ويسلك بذلك مسلك الحكمة البالغة التي بها يتم مراده ويظهر ملكه : {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبّ الْعَالَمِينَ}* [الأعراف: 54].
وهذا القرآن المجيد عمدته ومقصوده الإخبار عن صفات الرب سبحانه وأسمائه وأفعاله وأنواع حمده والثناء عليه والإنباء عن عظمته وعزته وحكمته ، وأنواع صنعه والتقدم إلى عباده بأمره ونهيه على ألسنة رسله ، وتصديقه يفهم بما أقامه من الشواهد والدلالات على صدقهم وبراهين ذلك ودلائله وتبيين مراده من ذلك كله ، وكان من تمام ذلك الإخبار عن الكافرين والمكذبين وذكر ما أجابوا به رسلهم وقابلوا به رسالات ربهم ووصف كفرهم وعنادهم وكيف كذبوا على الله وكذبوا رسله وردوا أمره ومصالحه ، فكان في اجتلاب ذلك من العلوم والمعارف والبيان وضوح شواهد الحق وقيام أدلته وتنوعها ، وكان موقع هذا من خلقه موقع تسبيحه تعالى وتنزيهه من الثناء عليه ، وإن أسماءه الحسنى وصفاته العليا هي موضع الحمد ، ومن تمام حمده تسبيحه وتنزيهه عما وصفه به أعداؤه والجاهلون به مما لا يليق به .
وكان في تنوع تنزيهه عن ذلك من العلوم والمعارف وتقرير صفات الكمال وتكميل أنواع الحمد ما في بيان محاسن الشيء وكماله عند معرفة ما يضاده ويخالفه ، ولهذا كان تسبيحه تعالى من تمام حمده ، وحمده من تمام تسبيحه ، ولهذا كان التسبيح والتحميد قربتين ، وكان ما نسبه إليه أعداؤه ، والمعطلون لصفات كماله- من علوه على خلقه وإنزاله كلامه الذي تكلم به على رسله وغير ذلك مما نزه عنه نفسه وسبح به نفسه ن وكان في ذلك ظهور حمده في خلقه وتنوع أسبابه وكثرة شواهده وسعة طرق الثناء عليه به وتقرير عظمته ومعرفته في قلوب عباده ، فلولا معرفة الاسباب التي يسبح وينزه ويتعالى عنها ، وخلق من يضفيها إليه ويصفه بها ، لما ينزهونه . فلما رأوا في خلقه من قد نسبه إلى ما لا يليق به وجحد من كماله ما هو أولى به سبحوه ، وحينئذ تسبيح مجل له معظم له منزه عن أمر قد نسبه إليه أعداؤه والمعطلون لصفاته ونظير هذا اشتمال كلمة الإسلام- وهي شهادة أن لا إله إلا الله- على النفي والإثبات ، فكان في الإتيان بالنفي في صدر هذه الكلمة من تقرير الإثبات وتحقيق معنى الإلهية وتجريد التوحيد الذي قصد بنفي الإلهية عن كل ما ادعيت فيه سوى الإله الحق تبارك وتعالى ، فتجريد هذا التوحيد من العقد واللسان يتصور إثبات الإلهية لغير الله كما قاله أعداؤه المشركون ونفيه وإبطاله من القلب واللسان من تمام التوحيد وكماله وتقريره وظهور أعلامه ووضوح شواهده وصدق براهينه
ونظير ذلك أيضاً أن تكذيب أعداِء الرسل وردهم ما جاؤوهم به كان من الأسباب الموجبة ظهور براهين صدق الرسل ودفع ما احتج به أعداؤهم عليهم من الشبه الداحضة ودحض حججهم الباطلة وتقرير طرق الرسالة وإيضاح أدلتها، فإن الباطل كلما ظهر فساده وبطلانه أسفر وجه الحق واستنارت معالمه ووضحت سبله وتقررت براهينه، فكسر الباطل ودحض حججه وإقامة الدليل على بطلانه من أدلة الحق وبراهينه.
فتأمل كيف اقتضى الحق وجود الباطل، وكيف تم ظهور الحق بوجود الباطل، وكيف كان كفر أعداِ الرسل بهم وتكذيبهم لهم ودفعهم ما جاؤوا به وهو من تمام صدق الرسل وثبوت رسالات الله وقيام حججه على العباد، ولنضرب لذلك مثالاً يتبين به، وهو ملك له عبد قد توحد فى العالم بالشجاعة والبسالة والناس بين مصدق ومكذب، فمن قائل: هو كذلك ومن قائل: هو بخلاف ما يظن به فإنه لم يقابل الشجعان ولا واجه الأقران، ولو بارز الأقران وقابل الشجاعة لظهر أمره وانكشف حاله. فسمع به شجعان العالم وأبطالهم فقصدوه من كل صوب وأتوه من كل قطر، فأراد الملك أن يظهر لرعيته ما هو عليه من الشجاعة فمكن أولئك الشجعان من منازلته ومقاومته وقال: دونكم وإياه وشأنكم به. فهل تسليط الملك لأولئك على عبده ومملوكه إلا لإعلاءِ شأْنه وإظهار شجاعته فى العالم وتخويف أعدائه به، وقضاءِ الملك أوطاره به، كما يترتب على هذا إظهار شجاعة عبده وقوته وحصول مقصوده بذلك، فكذلك يترتب عليه ظهور كذب من ادعى مقاومته وظهور عجزهم وفضيحتهم وخزيهم وأنهم ليسوا ممن يصلح لمهمات الملك وحوائجه فإذا عدل بهم عن مهماته وولايته وعدل بها عنهم كان ذلك مقتضى حكمة الملك وحسن تصرفه فى ملكه وأنه لو استعملهم فى تلك المهمات لتشوش أمر المملكة وحصل الخلل والفساد والله أعلم بالشاكرين.
والمقصود أن خلق الأسباب المضادة للحق وإظهارها فى مقابلة الحق من أبين دلالته وشواهده، فكان فى خلقها من الحكمة ما لو فاتت [لفاتت] تلك الحكمة، وهى أحب إلى الله من تفويتها بتقدير تفويت هذه الأسباب. والله أعلم.
فصل
فى بيان ما للناس فى دخول الشر فى القضاء الإلهي من الطرق والأصول التى تفرعت عنها هذه الطرق.
وللناس طرق فى دخول الشر فى القضاء الإلهى فنذكرها ونذكر أصولهم التى تفرعت عليها هذه الطرق قبل ذلك. فنقول: للناس قولان: أحدهما قول أهل الإسلام وأَتباع المرسلين كلهم إِن الله سبحانه فعال لما يريد يفعل باختياره وقدرته ومشيئته، فما شاءَ كان وما لم يشأْ لم يكن، وهو الذى يعبر عنه متأخرو المتكلمين بكونه: ((فاعلاً بالاختيار)).
وللفريق الثانى قول من نفى ذلك، وقال: صدر العلم عنه تعالى صدوراً ذاتياً كصدور النور عن الشمس والحرارة عن النار والتبريد عن الماء، ويسمى المتكلمون هذا ((الإيجاب الذاتى)). ومصدره موجبات الذات، وهذا قول الفلاسفة المشّائين وهو الذى يذكره ابن الخطيب وغيره عن الفلاسفة، ولا يحكى عنهم غيره، وإنما هو قول المشائين، وقرّبه متأَخرهم وفاضلهم ابن سينا إلى الإِسلام بعض التقريب، مع مباينته لما جاءت به الرسل، ولما دل عليه صريح العقل والفطرة.
والفريقان متفقون على أن مصدر الكائنات بأَسرها خير محض من جميع الوجوه وكمال صرف، ووجود الشر فى العالم مشهود، والخير لا يصدر عنه إلا خير. ولا جرم اختلفت طرقهم فى كيفية دخول الشر فى القضاء الإِلهى وتنوعت إلى أَربعة طرق:
الطريق الأول: طريق نفاة التعليل والحكمة والأسباب، فإنهم سدوا على أنفسهم هذا الباب وأثبتوا مشيئة محضة لا غاية لها ولا سبب ولا حكمة تفعل لأجلها، ولا يتوقف فعل المختار بها على مصلحة ولا حكمة، ولا غاية لها تفعل، بل كل مقدور يحسن منه فعله، ولا حقيقة عندهم للقبيح لولا المستحيل لذاته الذى لا يوصف بالقدرة عليه. وهؤلاء نفوا مسمى الرحمة والحكمة وإِن أَقروا بلفظ لا حقيقة له، وكان شيخهم الجهم بن صفوان يقف بأصحابه على المجذومين وهم يتقلبون فى بلائهم فقول: أَرحم الراحمين يفعل مثل هذا، يعنى أنه ليس فى الحقيقة رحمة، وإنما هو محض مشيته وصرف إرادة مجردة عن الحكمة والرحمة.
وهؤلاء قابلوا أصحاب الطريق الثانى: وهم الذين أثبتوا له حكمة وغاية، وقالوا: لا يفعل شيئاً إلا لحكمة وغاية مطلوبة، ولكن حجروا عليه سبحانه فى ذلك، وشرعوا له شريعة وضعوها بعقولهم وظنوا أن ما يحسن من خلقه يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، فجعلوا ما أثبتوه له من الحكمة والرحمة من جنس ما هو للخلق، ولهذا كانوا ((مشبهة الأفعال)) كما أن من شبهة بخلقه فى صفاته فهو ((مشبه الصفات)) فاقتسموا التشبيه نصفين: هؤلاء فى أفعاله، وإخوانهم فى صفاته. وقالوا: إِنه تعالى لو خصّ بعض عبيده عن بعض بإِعطائه توفيقاً وقدرة وإرادة ولم يعطها لآخر لكان ظلماً للذى منعه. وقالوا: لو شاءَ من عباده أَفعال المعاصى لكان ينزه عنه كما فى المشاهد ولو شاءَ منهم الكفر والفسوق والعصيان ثم عذبهم عليه لكان ظلماً فى المشاهد أَيضاً، فإن السيد إذا أراد من عبده شيء ففعل ما أراد سيده، فإِنه إذا عذبه عده الناس ظالماً له، وجعلوا العدل فى حقه تعالى من جنس العدل فى حق عباده، والظلم الذى تنزه عنه كالظلم الذى يتنزهون عنه، وجعلوا ما يحسن منه من جنس ما يحسن منهم وما يقبح منه من جنس ما يقبح منهم. وقالوا: لو أَراد الشر لكان شريراً كما فى المشاهد، فإن مريد الشر شرير. وقالوا: لو ختم على قلوب أَعدائه وأسماعهم وحال بينهم وبين قلوبهم وأَضلهم عن الإِيمان وجعل على أَبصارهم غشاوة وجعل من بين أَيديهم سداً ومن خلفهم سداً ثم عذبهم لكان ظالماً لهم، لأَن أَحدنا لو فعل ذلك بعبده ثم عذبه لكان ظالماً له. فهؤلاء المشبهة حقاً فى الأفعال، فعدلهم تشبيه وتوحيدهم تعطيل، فجمعوا بين التشبيه والتعطيل.
وهؤلاء قسموا الشر الواقع فى العالم إلى قسمين: أحدهما: ((شرور هى أفعال العباد)) وما تولد منها، فهذه لا تدخل عندهم فى القضاءِ الإلهى تنزيهاً للرب عن نسبتها إليه، ولا تدخل عندهم تحت قدرته ولا مشيئته ولا تكوينه.
والثانى: ((الشرور التى لا تتعلق بأفعال العباد)) كالسموم والأمراض وأنواع الآلام، وكإبليس وجنوده وغير ذلك من شرور المخلوقات كإيلام الأأطفال وذبح الحيوان، فهذا النوع هو الذى كدَّر على القدرية أُصولهم وشوش عليهم قواعدهم وقالوا: ذلك كله حسن لما فيه من اللطف والمصلحة العاجلة والآجلة. قالوا: أما الآلام والأمراض فمفعولة لغرض صحيح وهو ما ضمن الرب سبحانه لمن أصابه بها من العوض الوافى قالوا: وذلك يجرى مجرى استئجار أَجير فى فعل شاق فإِنه بفرض الاستئجار أخرج الاستئجار عن كونه عبثاً بالأُجرة عن كونه ظلماً، فكان حسناً. قالوا: فإن قيل إذا كان الله قادراً على التفضل بالعوض وبأضعافه بدون توسط الألم فأى حاجة إلى توسطه؟ وأيضاً فإذا حسن الألم لأجل العوض فهل يحسن منا أن يؤلم أحدنا [غيره] بغير إذنه لعوض يصل إليه؟ فالجواب أن الله سبحانه لا يُمرض ولا يُؤلِم إلا من يعلم من حاله أَنه لو أَطلعه على الأَعواض التى تصل إليه لرضى بالأَلم ولرغب فيه لوفور الأعواض وعظمها، وليس كذلك فى شاهد استئجار الأَجير من غير اختياره، قالوا: وليس كذلك إِيلام أَحدنا لغيره لأَجل التعويض، فإِن من قطع يد غيره أَو رجله لعوضه عنها لم يحسن ذلك منه، لأن العوض يصل إليه وهو مقطوع اليد والرجل، وليس من العقلاءِ من يختار ملك الدنيا مع ذلك، والله يوصل الأعواض فى الآخرة إلى الأحياء وهم أكمل شيءٍ خلقاً وأَتمه أَعضاءً، فلذلك افترق الشاهد والغائب فى هذا، قالوا: فإن فرضتموه فى ضرب وجلد مع سلامة الأعضاءِ قبح لأَنه عيب، فإِن فرض فيه مصلحة ورضى المضروب بذلك وعظمت الأعواض عنه فهو حسن فى العقل لا محالة. قالوا: وسر الأَمر أن بالعوض يخرج الألم عن كونه ظلماً لأنه نفع موقوف على مضرة الألم، وباعتبار كونه لطفاً فى الدين يخرج عن كونه عبثاً.
قالوا: وقد رأينا فى المشاهد حسن الألم للنفع، فإنه يحسن فى المشاهد ًإيلام أنفسنا وإتعابها فى طلب العلوم والأرباح التى لا نصل إليها إلا على جنس من التعب والمشقة، قالوا: وهذا الوجه هو الذى حسن لأجله إيلام الأطفال والبهائم فإنه إيلام لنفع، فإن أبدان الأطفال لا تستقيم إلا على الأسباب الجالبة للآلام، وكذلك نفوسهم إنما تكمل بذلك، وإيلام الحيوان لنفع الآدمى به غير قبيح، قالوا: وأما الألم المستحق للعقوبة فإنه حسن فى المشاهد ولكنه غير متحقق فى الغائب بالنسبة إلى الأطفال والبهائم لعدم تكليفها، ولكن لا بد فى إيلامها من مصلحة ترجع إليها وهى ما يحصل لهم من العوض فى الآخرة. قالوا: ويجب إعادتها لاستيفاءِ ذلك الحق الذى لها وهو العوض على الآلام التى حصلت لها قالوا: وبقاؤها بعد الإِعادة موقوف ونعيم الأَطفال والمجانين دائم. واختلفوا فى البهائم فقال بعضهم: يدوم عوضهم، وقال آخرون بانقطاعه فإنهم يصيرون تراباً.
قالوا: فإن لم يكن للبهائم عوض يجب لأجله أن تعاد لم تجب إعادتها عقلاً وتحسن إعادتها، وما يحسن قد يفعله الله وقد لا يفعله وهل تجوز الآلام للتعويض المجرد؟ فيه قولان لهم مبنيان على أصل اختلفوا فيه وهو أنه هل يحسن منه سبحانه التفضل بمثل العوض ابتداً؟ فصار بعضهم إلى امتناعه، كما يمتنع التفضل بمثل الثواب ابتداً عندهم وهم مجمعون على امتناعه لئلا يسوى بين العامل وغيره وصار من ينتمى إلى التحصيل منهم إلى أن التفضل بمقدار الأعواض ممكن غير ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض ممكن غير ممتنع، فمن قال بامتناع التفضل بمقدار العوض الصيمرى جوز وقوع الآلام للتعويض المجرد، ومن جوز التفضل بأَمثال الأَعواض لم تحسن عنده الآلام بمجرد التعويض، بل قالوا: إِنما تحسن لوجهين لا بد من اقترانهما: أَحدهما التزام التعويض، والثانى: اعتبار غير المؤلم بتلك الآلام، وكونها أَلطافاً فى زجر غاو من غوايته إذا شاهدها فى غيره. وذهب عباد الصيمرى منهم إلى أن الآلام تحسن لمجرد الاعتبار من غير تعويض لمن أصابته، ورد عليه جماهير القدَرية ذلك، قالوا: والآلام التى يفعلها سبحانه إِما أن تكون مستحقة كعقوبات الدنيا وعذاب الآخرة، وإما للتعويض، وإما للمصلحة الراجحة.
قالوا: وما يفعله فى الآخرة منها فكله للاستحقاق، وما يفعله فى الدنيا فللعوض والمصلحة، وقد يفعله عقوبة، وأَما ما شرعه من أسباب الأَلم فعقوبات محضة.
وأما مشايخ القوم فقالوا: إنما يحسن منه سبحانه الإيلام لأنه المنعم بالصحة والحياة، ولأنه فى حكم من أعار تلك المنفعة لمن لا يملكها فله قطعها إذا شاء ولأنه قادر على التعويض عالم بقدره، وليس كذلك الواحد من الخلق. قالوا: فإذا استرجع عارية الصحة والحياة خلفها الألم ولا بد.
وأطالوا الكلام فى الآلام وأسبابها، وما يحسن منها وما يقبح، وعلى أى وجه يقع؟ وحصروا أنفسهم غاية الحصر، فاستطالت عليهم الجبرية بالأسئلة والمضايقات وألجأوهم إلى مضايق تضايق عنها أن تولجها الإبر وأضحكوا العقلاء منهم بإبداءِ تنماقضهم، وألزموهم إلزامات لا بد من التزامها أو ترك المذهب. وسأل أبو الحسن الأشعرى أبا على الجبائى عن ثلاثة إخوة لأب وأم مات أحدهم صغيراً، وبلغ الآخر فاختار الإسلام، وبلغ الآخر فاختار الكفر، فاجتمعوا عند رب العالمين، فرفع درجة البالغ المسلم فقال أخوه الصغير: يا رب، ارفع درجتى حتى أبلغ منزلة أخى، فقال: إنك لا تستحق، إن أخاك بلغ فعمل أعمالاً استحق بها تلك الدرجة، فقال: يا رب، فهلا أحييتنى حتى أبلغ فأعمال عمله))، فقال: كانت تلك لمصلحة تقتضى اخترامك قبل البلوغ، لأنى علمت أنك لو بلغت لاخترت الكفر، فكانت المصلحة فى قبضك صغراً. قال: فصاح الثالث بين أطباق النار وقال: يا رب، لم لم تمتنى صغيراً؟ فما جواب هذا أيها الشيخ؟ فلم يرد إليه جواباً. قالوا: وإذا علم سبحانه من بعض العبيد أنه لا يختار الإسلام وأنه لا يكون إلا كافراً مفسداً فى الأرض، فأى مصلحة لهذا العبد فى إيجاده؟ قالوا: وأى مصلحة لإبليس وذريته الكفار فى إيجادهم؟ فإن قلتم: عرضهم للثواب، قيل لكم: كيف يعرضهم لأمر قد يعلم أنهم لا يفعلونه ولا يقع منهم البتة؟ ومن هنا أَنكر غلاتهم العلم القديم، وكفّرهم السلف على ذلك، ومن أقرَّ به منهم فإقراره به مبطل لمذهبه وأصله فى وجوب مراعاة الصلاح والأصلح.
وهذا معنى قول السلف: ناظروا القدرية بالعلم، فإن جحدوه كفروا، وإن أقروا به خُصموا. قالوا: وأما حدث العوض على الآلام فالرب سبحانه قادر على إيصال تلك المنافع بدون توسط الآلام، قالوا: وهذا بخلاف المستأْجر فإن له منفعة وحاجة فى توسط تعب الأَجير واستيفاءِ منفعته، فأما من تعالى عن الانتفاع بخلقه ولا يحتاج إلى أحد منهم البتة فلا يعقل فى حقه ذلك. قالوا: وأما وقوع الآلام على وجه العقوبات فذلك إنما يحسن فى الشاهد لحصول التشفى من الجناة وإطفاءِ نار الغيظ والغضب بالاتتقام منهم، وذلك لحاجة المعاقب إلى العقاب وانتفاعه به، وقياس الغائب على الشاهد فى ذلك ممتنع. قالوا: وأما الإيلام للاعتبار بأن يعتبر الغير بالألم الواقع بغيره فيكون ذلك أدعى له إلى الإذعان والانقياد، فلا ريب أن الصبى إذا شاهد المعلم يضرب غيره على لعبه وتفريطه كان ذلك مصلحة واعتباراً له، ولعله أن ينتفع بضرب ذلك الغير أكثر من انتفاع المضروب، أو حيب لا ينتفع المضروب، ولكن إنما يحسن ذلك إذا كان المضروب مستحقاً للضرب، فأَين استحقاق الأَطفال والبهائم؟ قالوا: وكذلك تمكينه تعالى عباده أن يؤلم بعضهم بعضاً ويضر بعضهم بعضاً- مع قدرته على منع المؤلم المضر- أى مصلحة لمن مكن من ذلك وأُقدر عليه، وهل كانت مصلحته إلا تعجيزه وأَن يحال بينه وبين القدرة على الأَداءِ وصون العباد؟ قالوا: فهذه الشريعة التى وضعتموها لرب العباد، وأوجبتم عليه ما أوجبتم، وحرمتم عليه ما حرمتم وجحدتم عليه فى تصرفه فى ملكه بغير ما أصلتم وفرعتم بعقولكم وآرائكم، تشبيهاً له وتمثيلاً بخلقه فيما يحسن منهم ويقبح، مع أنها شريعة باطلة ما أنزل الله بها من سلطان فإنكم لم تطردوها، بل أنتم متناقضون فيها غاية التناقض، خارجون فيها عما يوجبه كل عقل صحيح وفطرة سليمة، فلا للتشبيه والتمثيل طردتم، ولا بالتعويض قلتم، ولا على حقيقة الحكمة والحمد وقفتم، بل أَثبتم له نوع حكمة لا تقوم به ولا ترجع إليه بل هى قائمة بالخلق فقط، وقد حتم بها فى تمام ملكه، كما أثبت له إخوانكم من الجبرية قدرة مجردة عن حكمة وحمد وغاية يفعل لأجلها، بل جعلوا حمده وحكمته اقتران أفعاله بما اقترنت به من المصالح عادة ووقوعها مطابقة لمشيئته وعلمه فقط، فقدحوا بذلك فى تمام حمده.
وقام حزب الله وحب رسوله وأنصار الحق بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير حق القيام وراعوا هذه الكلمة حق رعايتها علماً ومعرفة وبصيرة، ولم يلقوا الحرب بين حمده وملكه بل أثبتوا له الملك التام الذى لا يخرج عنه شيء من الموجودات أَعيانها وأفعالها، والحمد التام الذى وسع كل معلوم وشمل كل مقدور، وقالوا: إن له فى كل ما خلقه وشرعه حكمة بالغة ونعمة سابغة لأجلها خلق وأَمر، ويستحق أن يثنى عليه ويحمد لأجلها، كما يثنى عليه ويحمد لأَسمائه الحسنى ولصفاته العليا، فهو المحمود على ذلك كله أَتم حمد وأكمله، لما اشتملت عليه صفاته من الكمال وأَسماؤه من الحسن وأفعاله من الحكم والغايات والمقتضية لحمده المطابقة لحكمته الموافقة لمحابه، فإنه سبحانه كامل الذات كامل الأسماءِ والصفات لا يصدر عنه إلا كل فعل كريم مطابق للحكمة موجب للحمد يترتب عليه من محابه ما فعل لأجله، وهذا أمر ذهب عن طائفتى الجبرية والدهرية وحال بينهم وبينه أُصول فاسدة أصلوها وقواعد باطلة أسسوها، من تعطيل بعض صفات كماله كم عطل الفريقان حقيقة محبته: عند الجبرية مشيئته وإرادته، ومحبة العباد له إرادتهم لما يخلقه من النعيم فى دار الثوب، فالمحبة عندهم إنما تعلقت بمخلوقاته لا بذاته.
وحقيقة محبته وكراهته عند القدرية: أمره ونهيه، ومحبة العباد له محبتهم لثوابه المنفصل. وأصَّل الفريقان أنه لا تقوم بذاته حكمة ولا غاية يفعل لأَجلها ثم اختلفوا فقالت الجبرية: لا يفعل لغاية ولا لحكمة أصلاً. وتكايست القدرية بعض التكايس فقالت: فعل لغاية وحكمة لا ترجع إِليه ولا تقوم به ولا يعود إليه منها وصف.
وأصَّل الفريقان أيضاً أنه لا يقوم بذاته فعل البتة، بل فعله عين مفعوله، فعطلوا أَفعاله القائمة به وجعلوها نفس المخلوقات المشاهدة التى لا تقوم به، فلم يقم به عندهم فعل البتة. كما عطل غلاة الجهمية صفاته فلم يثبتوا له صفة تقوم به وإن تناقضوا، وكما عطلت ((السينائية)) أَتباع ابن سينا ذاته فلم يثبتوا له ذاتاً زائدة على وجود مجرد لا يقارن ماهية ولا حقيقة، وأَصلت الجبرية أنه تعالى لا ينزه عن فعل مقدور يكون قبيحاً بالنسبة إليه، بل كل مقدور ممكن فهو جائز عليه، وإن علم عدم فعله فبالسمع وإلا فالعقل يقضى بجوازه عليه فلا ينزه عن ممكن مقدور إلا ما دل عليه بالسمع فيكون تنزيهه عنه لا لقبحه فى نفسه بل لأن وقوعه يتضمن الخلق فى خبره وخبر رسوله ووقع الأمر على خلاف علمه ومشيئته، فهذا حقيقة التنزيه عند القوم.
وأَصلت القدَرية أن ما يحسن من عباده يحسن منه وما يقبح منهم يقبح منه، مع تناقضهم فى ذلك غاية التناقض. فاقتضت هذه الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة فروعاً ولوازم كثيرة، منها مخالف لصريح العقل ولسليم الفطرة كما هو مخالف لما أخبرت به الرسل عن الله، فجعل أرباب هذه القواعد والأُصول قواعدهم وأُصولهم محكمة، وما جاءَ به الرسول متشابهاً، ثم أَصلوا أصلاً فى رد هذا المتشابه إلِى المحكم وقالوا: الواجب فيما خالف هذه القواطع العقلية بزعمهم من الظواهر الشرعية أحد أَمرين: إما يخرجها على ما يعلم العقلاء أن المتكلم لم يرده بكلامه من المجازات البعيدة والألغاز المعقدة ووحشى اللغات والمعانى المهجورة التى لا يعرف أحد من العرب عبر عنها بهذه العبارة ولا تحتملها لغة القوم البتة، وإنما هى محامل أنشئوها هم ثم قالوا: نحمل اللفظ عليها، فأنشؤوا محامل من تلقاءِ أنفسهم وحكموا على الله أو رسله بإرادتها بكلامه، فأنشؤا منكراً وقالوا زوراً.
فإذا ضاق عليهم المجال وغلبتهم النصوص وبهرتهم شواهد الحقيقة من اطرادها وعدم فهم العقلاءِ سواها ومجيئها على طريقة واحدة وتنوع الأَلفاظ الدالة على الحقيقة واحتفافها بقرائن من السياق والتأكيد وغير ذلك مما يقطع كل سامع بأن المراد حقيقتها وما دلت عليه، قالوا: الواجب ردها وأن لا يشتغل بها، وإن أحسنوا العبارة والظن قالوا: الواجب تفويضها وإن نكل علمها إلى الله من غير أن يحصل لنا بها هدى أَو علم أو معرفة بالله وأسمائه وصفاته، أو ننتفع بها فى باب واحد من أبواب الإيمان بالله وما يوصف به وما ينزه عنه، بل نجرى ألفاظها على ألسنتنا ولا نعتقد حقيقتها لمخالفتها للقواطع العقلية، فسموا أُصولهم الفاسدة وشبههم الباطلة- التى هى كبيت العنكبوت، وكما قال فيها القائل شعراً:
شبه تهافتُ كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
قواطع عقلية، مع اختلافهم فيها وتناقضهم فيها ومناقضتها لصريح المعقول وصحيح المنقول، فسموا كلام الله ورسوله: ((ظواهر سمعية)) إزالة لحرمته من القلوب ومنعاً للتعلق به والتمسك بحقيقته فى باب الإيمان والمعرفة بالله وأسمائه وصفاته، فعبروا عن كلامهم بأنه ((قواطع عقلية)) فيظن الجاهل بحقيقته أنه إذا خالفه فقد خالف صريح المعقول، وخرج عن حد العقلاءِ، وخالف القاطع، وعبروا عن كلام الله ورسوله بأنه ((ظواهر)) فلا جناح على من صرفه عن ظاهره وكذب بحقيقته واعتقد بطلان الحقيقة بل هذا عندهم هو الواجب، وقد أَشهد اللهُ سبحانه عبادَه الذين أُوتوا العلم والإِيمان أَن الأَمر بعكس ما قالوه، وأَن كلامه وكلام رسوله هو الشفاءُ والعصمة والنور الهادى والعلم المطابق لعلومه، وأنه هو المشتمل على القواطع العقلية السمعية والبراهين اليقينية، وأَن كلام هؤلاءِ المتهوكين الحيارى المتضمن خلاف ما أَخبره به عن نفسه وأَخبر به عن رسوله هو الشبهات الفاسدة والخيالات الباطلة، وأَنه كالسراب الذى يحسبه الظمآن ماءً حتى إِذا جاءَه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب، وهؤلاء هم أَهل العلم حقاً الذين شهد الله سبحانه لهم به فقال [تعالى]: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحقَّ وَيَهْدِى إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}* [سبأ: 6]، ومن سواه من الصم والبكم [الذى] قال الله فيهم: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا [كنا] فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ}* [الملك: 10]، وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أنما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى، إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأَلْبَابِ}* [الرعد: 19]، وكان ما شهدوه من ذلك بالعقل والفطرة لا بمجرد الخبر، بل جاء إخبار الرب [تعالى] وإخبار رسوله مطابقاً لما فى فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة فتضافر على إِيمانهم به الشريعة المنزلة والفطرة المكملة والعقل الصريح فكانوا هم العقلاء حقاً وعقولهم هى المعيار، فمن خالفها فقد خالف صريح المعقول والقواطع العقلية، ومن أراد معرفة هذا فليقرأ كتاب شيخنا وهو ((بيان موافقة العقل الصريح للنقل الصحيح)) فإنه كتاب لم يطرق العالم له نظير فى بابه، فإِنه هدم فيه قواعد أَهل الباطل من أُسها فخرت عليهم سقوفه من فوقهم، وشيد فيه قواعد أَهل السنة والحديث وأحكمها ورفع [أعلامها وقررها بمجامع الطرق التى تقرر بها الحق] من العقل والنقل والفطرة والاعتبار فجاءَ كتاباً لا يستغنى من نصح [نفسه من أهل العلم عنه فجزاه الله عز وجل عن أهل العلم والإيمان] أفضل الجزاء، وجزى العلم والإيمان عنه [كذلك].
عدنا إلى إتمام الكلام فى كيفية دخول الشر فى القضاء الإلهى، وبيان طرق الناس فى ذلك، واختلافهم فى إِيلام الأَطفال والبهائم. وقالت ((البكرية)) وهم أتباع بكر ابن أُخت عبد الواحد بن زيد البصرى: إِن البهائم والأَطفال لا تأْلم البتة، والذى حملهم على هذا موجب التعليل والحكمة، ولم يرتضوا ما قالت الجبرية من نفى ذلك ولا ما قالت المعتزلة من حديث الأَعواض وما فرّعوه عليه ولم يمكنهم القول بمذهب ((التناسخية)) القائلين بأن الأرواح الفاجرة الظالمة تودع فى الحيوانات التى تناسبها فينالها من أَلم الضرب والعذاب بحسبها، ولا بمذاهب ((المجوس)) من إسناد الشر والخير إلى إلهين مستقلين كل منهما يذهب بخلقه، ولا بقول من يقول: إن البهائم مكلفة مأْمورة منهية مثابة معاقبة، وأن فى كل أُمة منها رسول ونبى منها، وهذه الآلام والعقوبات الدنيوية جزاءٌ على مخالفتها لرسولها ونبيها، فلم يجدوا بداً من التزام ما ذهبوا إليه من إنكار وقوع الآلام بها ووصولها إليها.
وقد رد عليهم الناس بأنهم كابروا الحس وجحدوا الضرورة، وأَن العلم بخلاف ما ذهبوا إليه ضرورى. وقال من أنصف القوم: لا سبيل إلى نسبة هؤلاءِ إِلى جحد الضرورة مع كثرتهم، ولكنهم ربما رأوا أن الطفل والبهيمة لا تدرك الآلام حسبما يدركها العقلاءُ، فإن العاقل إذا أدرك تأَلم جوارحه وأَحس به تأْلم قلبه وطال حزنه وكثر هم روحه وغمها واشتدت فكرته فى ذلك وفى الأسباب الجالبة له والأسباب الدافعة له، وهذه الآلام زائدة على مجرد أَلم الطبيعة، ولا ريب أن البهائم والأطفال لا تحصل لها تلك الآلام كما يحصل للعاقل المميز، فإن أَراد القوم هذا فهم مصيبون، وإن أرادوا أنه لا شعور لها بالآلام البتة وأنها لا تحس بها فمكابرة ظاهرة، فإن الواحد منا يعلم باضطرار أَنه كان يتألم فى طفولته بمس النار له وبالضرب وغير ذلك.
وقالت طائفة: كل ما يتأَلم به الطفل والبهيمة ليس من قبل الله، ولا فعل الله فيه الأَلم لما ثبت من حكمته وهذا يشبه قولهم فى أَفعال الحيوان أَنها ليست من خلق الله ولا كانت بمشيئته، لكن هذا أَشد فساداً من ذلك، فإِن هذه الآلام حوادث لا تتعلق باختيار من قامت به ولا بإِرادته فلا بد لها من محدث، إِذ وجود حادث محال والله خالقها بأسبابها المفضية إِليها، فخالق السبب خالق للمسبب. فإن أراد هؤلاءِ نفى فعلها عن الله مباشرة من غير توسط بسبب أَصلاً فهذا قد يكون حقاً، وإِن أَرادوا أَنها غير منسوبة إِلى قدرته ومشيئته البتة فباطل. وذهبت طائفة إِلى أن فى كل نوع من أَنواع الحيوانات أَنبياءَ ورسلاً، وأَنها مستحقة للثواب والعقاب، وأَن ما ينزل بها من الآلام فجزاءٌ لها وعقوبات على معاصيها ومخالفتها واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِى الأَرْضِ وَلا طَائِر يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}* [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمّهِ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ}* [فاطر: 24].
وقالت طائفة من التناسخية: إن الله خلق خلقه كلهم جملة واحدة بصفة واحدة ثم أَمرهم ونهاهم، فمن عصى منهم نسخ روحه فى جسد بهيمة تبتلى بالذبح والقتل كالدجاج والغنم والإِبل والبقر والبراغيث والقمل، فما سلط على هذه البهائم من الآلام فهو للأَرواح الآدمية التى أَودعت هذه الأَجساد فمن كان منهم زانياً أَو زانية كوفيء بأَن جعل فى بدن حيوان ما يمكنه الجماع كالبغال، ومن كان منهم عفيفاً عن الزنا مع ظلمه وغشمه كوفيء بأَن جعل فى بدن تيس أَو عصفور أَو ديك. ومن كان منهم جباراً عنيداً كوفيء بأَن جعل فى بدن قملة أَو قرادة ونحوهما، إِلى أَن يقتص منهم ثم يردون، فمن عصى منهم بعد ردّه كرر أَيضاً عليه ذلك التناسخ هكذا أبداً حتى يطيع طاعة لا معصية بعدها أَبداً فينتقل إلى الجنة من وقته.
وقد ذهب إلى هذا المذهب من المنتسبين إلى الإِسلام رجل يقال له أَحمد بن حائط طرد أُصول القدرية وشريعتهم التى شرعوها لله فأَوجبوا بها عليه وحرموا. وذهب المجوس إِلى أَن هذه الآلام والشرور من الإِله الشرير المظلم فلا تضاف إِلى الإِله الخير العادل ولا تدخل تحت قدرته، ولهذا كان أَشبه أهل البدع بهم القدرية النفاة. وقالت الزنادقة والدهرية: كل ذلك من تصرف الطبيعة وفعلها، وليس لذلك فاعل مختار مدبر بمشيئته وقدرته، ولا بد فى النار من إِحراق ونفع وفى الماءِ من إِغراق ونفع، وليس وراءَ ذلك شيء، فهذه مذاهب أَهل الأَرضِ فى هذا المقام.
ولما انتهى أَبو عيسى الوراق إِلى حيث انتهت إِليه أَرباب المقالات فطاش عقله ولم يتسع لحكمة إِيلام الحيوان وذبحه صنف كتاباً سماه النوح على البهائم، فأَقام عليها المآتم وناح، وباح بالزندقة الصراح. وممن كان على هذا المذهب أَعمى البصر والبصيرة كلب معرّة النعمان المكنى بأبى العلاءِ المعرى، فإِنه امتنع من أَكل الحيوان زعم لظلمه بالإِيلام والذبح، وأَما ابن خطيب الرى فإِنه سلك فى ذلك طريقة مركبة من طريقة المتكلمين وطريقة الفلاسفة المشائين وهذبها ونقحها واعترف فى آخرها بأَنه لا سبيل إِلى الخلاص من [المطالبات] التى أَوردها على نفسه إلا بالتزام أَنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالقصد والاختيار، فأَقر على نفسه بالعجز عن أَجوبة تلك المطالبات إِلا بإِنكار قدرة الله ومشيئته وفعله الاختيارى، وذلك جحد لربوبيته، فزعم أَنه لا يمكنه تقرير حكمته إلا بجحد ربوبيته، ونحن نذكر كلامه بأَلفاظه. وقال فى ((مباحثه المشرقية)):
الفصل السادس فى كيفية دخول الشر فى القضاءِ الإِلهى، وقبل الخوض فيه لا بد من تقديم مقدمتين:
المقدمة الأُولى- الأُمور التى يقال لها: إِنها شر إِما أن تكون أموراً عدمية، أو أُموراً وجودية. فإِن كانت أموراً عدمية فهى على أقسام ثلاثة: لأنها إما أن تكون عدماً لأمور ضرورية للشيء فى وجوده مثل عدم الحياة، وإما أن تكون عدماً لأُمور نافعة قريبة من الضرورة كالعمى أو أن تكون كذلك كعدم العلم بالفلسفة والهندسة. وأما الأمور الوجودية التى يقال لها شرور فهى كالحرارة المفرقة لاتصال العضو.
واعلم أن الشر بالذات هو عدم ضروريات الشيء وعدم منافعه، مثل عدم الحياة وعدم البصر، فإِن الموت والعمى لا حقيقة لهما إِلا أَنهما عدم الحياة وعدم البصر، وهما من حيث هما كذلك شر، [فإذا] ليس لهما اعتبار آخر بحسبه يكونان شرين. وأما عدم الفضائل المستغنى عنها- مثل عدم العلم بالفلسفة- فظاهر أَن ذلك ليس بشر، وأما الأُمور الوجودية فإِنها ليست شروراً بالذات بل بالعرض، من حيث أنها تتضمن عدم أمور ضرورية أو نافعة، ويدل عليه أنَّا لا نجد شيئاً من الأفعال التى يقال لها شر إِلا وهو كمال بالنسبة إلى الفاعل، وأما شريته فبالقياس إلى شيء آخر، فالظلم مثلاً يصدر عن قوة ظلامة للغلبة وهى القوة الغضبية والغلبة هى كمالها وفائدة خلقتها، فهذا الفعل بالقياس إليها خير، لأنها إن ضعفت عنه فهو بالقياس إليها شر وإنما كان شراً للمظلوم لفوات المال وغيره عنه، والنفس الناطقة كمالها الاستيلاءُ على هذه القوة فعند قهر الغضبية يفوت النفس ذلك الاستيلاءُ ولا جرم كان شراً لها. وكذلك النار إذا أحرقت فإن الإحراق [كمالها] ولكنها شر بالنسبة إلى من زالت [سلامته] بسببها.
وكذلك القتل وهو استعمال الآلة القطاعة فى قطع رقبة إنسان، فإن كون الإنسان قوياً على استعمال الآلة ليس شراً له بل خيراً، وكذلك كون الآلة قطاعة هو خير لها، وكذلك كون الرقبة قابلة للانقطاع كل ذلك خيرات، ولكن القتل شر من حيث أنه متضمن لزوال الحياة، فثبت بما ذكرنا أَن الأُمور الوجودية ليست شرور بالذات بل بالعرض. والله أعلم.
المقدمة الثانية: أن الأشياء إما أن تكون مادية، أو لا تكون، فإن لم تكن مادية لم يكن فيها ما بالقوة فلا يكون فيها شر أصلاً، وإن كانت مادية كانت فى معرض الشر، وعروض الشر لها [إما أن يكون فى ابتداء تكونها أو بعد تكونها] أما الأول فهو أن تكون المادة التى [يتكون] إنساناً أو فرساً يعرض لها من الأسباب ما يجعلها رديئة المزاج رديئة الشكل والخلقة، فرداءة مزاج ذلك الشخص ورداءة خلقه ليس لأن الفاعل حرم بل لأن المنفعل له لم يقبل، وأما الثانى وهو أن يعرض الشر للشيء وطروءُ طاريء عليه بعد تكونه فذلك الطاريء إِما شيء يمنع المكمل من الإكمال مثل تراكم السحب وإظلال الجبال الشاهقات إِذ صار مانعاً من تأْثير الشمس فى [النبات]، وإما شيء يفسد مثل البرد الذى يصل إلى النبات بسبب ذلك استعداده للنشوءِ والنمو.
وإذا عرفت ذلك فنقول: قد بينا أَن الشرّ بالحقيقة إِما عدم ضروريات الشيء، وإِما عدم منافعه. [فنقول]: [ الموجود ] إِما أن يكون خيراً من كل الوجوه، وشراً من كل الوجوه أَو خيراً من وجه وشراً من وجه. وهذا على تقدير أقسام: فإِنه إِما أَن يكون خيره غالباً على شره، أو يكون شره غالباً على خيره، أَو متساوياً خيره وشره، فهذه أقسام خمسة.
أما الذى يكون خيراً من كل الوجوه وهو موجود- [أما] الذى يكون كذلك لذاته- فهو الله تبارك وتعالى، وأما الذى يكون [خيره] لغيره فهو العقول والأَفلاك، لأن هذه الأمور ما فاتها شيء من ضروريات ذاتها ولا من [كمالاتها] أما الذى كله شر أو الغالب فيه أَو [المتساوي] فهو غير موجود لأن كلامنا فى الشيء بمعنى عدم الضروريات والمنافع، لا بمعنى عدم الكمال الزائد، [وإذا عنينا بالشر] ذلك فلا شك أن ذلك مغلوب والخير غالب لأَن الأَمراض وإن كثرت إِلا أَن الصحة أَكثر منها، فالحرق والغرق والخسف، وإن كانت قد تكثر إِلا أن السلامة أكثر منها.
فأما الذى يكون خيره غالباً على شره فالأولى فيه أن يكون موجوداً لوجهين: الأَول أَنه إِن لم يوجد فلا بد وأَن يفوت الخير الغالب، وفوت الخير الغالب شر غالب، فإِذا فى عدمه يكون الشر أغلب من الخير، وفى وجوده يكون الخير أَغلب من الشر، ويكون وجود هذا القسم أولى، مثاله النار: فى وجودها منافع [كثيرة وأيضاً مفاسد كثيرة مثل إحراق الحيوانات، ولكننا إذا قابلنا منافعها] بمفاسدها كانت مصالحها أكثر بكثير من مفاسدها، ولو لم توجد لفاتت تلك المصالح، وكانت مفاسد عدمها أَكثر من مصالحها فلا جرم وجب إيجادها وخلقها.
الثانى- وهو الذى يكون خيره ممزوجاً بالشر- ليس إلا الأُمور التى تحت كرة القمر فلا شك، أَنها معلولات العلل العالية، فلو لم يوجد هذا القسم لكان يلزم من عدمها عدم عللها الموجبة لها، وهى خيرات محضة، فيلزم من عدمها عدم الخيرات المحضة وذلك شر محض، فإِذاً لا بد من وجود هذا القسم.
فإِن قيل: فلم لم يخلق الخالق هذه الأشياء عرية عن كل الشرور؟ فنقول: لأَنه لو جعلها كذلك لكان هذا هو القسم الأول، وذلك مما قد فرغ منه.
وبقى فى العقل قسم آخر وهو: الذى يكون خيره غالباً على شره، وقد بينا أن الأولى بهذا القسم أن يكون موجوداً. قال: وهذا الجواب لا يعجبنى لأَن لقائل أَن يقول: إِنّ جميع هذه الخيرات والشرور إِنما توجد باختيار الله وإرادته، مثلاً الاحتراق الحاصل عقيب النار ليس موجباً من النار، بل الله تعالى اختار خلقه عقيب مماسة النار، وإِذا كان حصول الاحتراق عقيب مماسة النار باختيار الله وإِرادته فكان يمكنه أَن يختار خلق الإِحراق عندما يكون خيراً ولا يختار خلقه عندما يكون شراً، ولا خلاص عن هذه المطالبة إِلا ببيان كونه سبحانه فاعلاً بالذات لا بالقصد والاختيار، ويرجع حاصل الكلام فى هذه المسألة إلى مسأَلة القدم والحدوث.
قلت: لـمّا لم يكن عند الرازى إِلا مذهب الفلاسفة المشائين، والقائلين [بالموجب بالذات أو مذهب القدرية بالمعتزلة القائلين] بوجوب رعاية الصلاح أَو الإصلاح، أَو مذهب الجبرية نفاة الأَسباب والعلل والحكم، وكان الحق عنده متردداً بين هذه المذاهب الثلاثة، فتارة يرجح مذهب المتكلمين، وتارة مذهب المشائين، وتارة يلقى الحرب بين الطائفتين ويقف فى النظارة، وتارة يتردد بين الطائفتين، وانتهى إِلى هذا المضيق ورأَى أَنه لا خلاص له منه إلا بالتزام طريق الجبرية- وهى غير مرضية عنده، وإِن كان فى كتبه الكلامية يعتمد عليها ويرجع فى مباحثه إليها- أو طريق المعتزلة القائلين برعاية الصلاح وهى متناقضة غير مطردة، لم يجد بداً من تحيزه إِلى أَعداء الملة القائلين بأَن الله تعالى لا قدرة له ولا مشيئة ولا اختيار ولا فعل يقوم به.
ومعلوم أن هذه المذاهب بأسرها باطلة ومتناقضة وإن كان بعضها أبطل من بعض، وإنما ألجأَه إِلى التزام القول بإِنكار الفاعل المختار فى هذا المقام تسليمه لهم الأُصول الفاسدة والقواعد الباطلة التى قادت إِلى التزام بعض أَنواع الباطل ولو أَعطى الدليل حقه، وضم ما مع كل طائفة من الحق إِلى حق الطائفة الأُخرى، وتحيز إِلى ما جاءت به الرسل على علم وبصيرة، وهو تقرير لما [جاءوا] به بجميع طرق الحق، لتخلص من تلك المطالبات مع إقراره بأَن رب العالمين فعال لما يريد يفعل بمشيئته وقدرته وحكمته، وأَن له المشيئة النافذة [والحكمة البالغة وأن تقدير تجريد النار عما خلقت] عليه من الإِحراق، والماءِ عما خلق عليه، والرياح والنفوس البشرية عما هيئت له وخلقت عليه، مناف للحكمة المطلوبة المحبوبة للرب سبحانه، وأَن هذا تقرير لعالم آخر وتعطيل الأسباب التى نصبها الله سبحانه مقتضيات لمسبباتها، وأَن تلك الأَسباب مظهر حكمته وحمده وموضع تصرفه لخلقه وأمره، فتقدير تعطيلها تعطيل للخلق والأمر، وهو أَشد منافاة للحكمة وإبطالاً لها، واقتضاءُ هذه الأسباب لمسبابتها كاقتضاء الغايات لأسبابها، فتعطيلها [عنها] قدح فى الحكمة وتفويت لمصلحة العالم التى عليها نظامه وبها قوامه.
ولكن الرب سبحانه قد يخرق العادة ويعطلها عن مقتضياتها أحياناً إِذا كان فيه مصلحة راجحة على مفسدة فوات تلك المسببات، كما عطل النار التى أُلقى فيها إِبراهيم وجعلها عليه برداً وسلاماً عن الإِحراق لما فى ذلك من المصالح العظيمة، وكذلك تعطيل الماءِ عن إِغراق موسى وقومه وعما خلق عليه من الإِسالة والتقاء أَجزائه بعضها ببعض هو لما فيه من المصالح العظيمة والآيات الباهرة والحكمة التامة التى ظهرت فى الوجود وترتب عليها من مصالح الدنيا والآخرة ما ترتب، فهكذا سبحانه سائر أفعاله، مع أنه أشهد عباده بذلك أنه مسبب الأسباب وأن الأسباب خلقه وملكه وأنه يملك تعطيلها عن مقتضياتها وآثارها، وأن [جعلها] كذلك لم يكن من ذاتها وأنفسها، بل هو الذى جعلها كذلك وأودع فيها من القوى والطبائع ما اقتضت به آثارها، أنه إِن شاء أن يسلبها إياها سلبها لا كما يقول أعداؤه من الفلاسفة والطبائعيين وزنادقة الأطباءِ أنه ليس فى الإِمكان تجريد هذه الأسباب عن آثارها وموجباتها ويقولون: لا تعطيل فى الطبيعة، وليست الطبيعة عندهم مربوبة مقهورة تحت قهر قاهر وتسخير مسخر يصرفها كيف يشاء، بل هى المتصرفة المدبرة، ولا كما يقول من نقص علمه ومعرفته بأسرار مخلوقاته وما أودعها من القوى والطبائع والغرائز وبالأسباب التى ربط بها خلقه وأَمره وثوابه وعقابه، فجحد ذلك كله ورد الأمر إلى مشيئة محضة مجردة عن الحكمة والغاية وعن ارتباط العالم بعضه ببعض ارتباط الأسباب بمسبباتها والقوى بمحالها.
ثم المحذور اللازم من إِنكار الفاعل المختار الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته فوق كل محذور، فإِن القائل بذلك يجعل هذه الشرور بأسرها لازمة له لزوم الطفل لحامله والحرارة للنار ولا يمكنه دفعها ولا تخليص الحرارة منها، فهم فروا من إضافة الشر إلى خلقه [ومشيئته واختياره ثم ألزموه إياه وأضافوه إليه إضافة لا يمكن إزالتها مع تعطيل قدرته ومشيئته وخلقه] وعلمه بتفاصيل أحوال عباده، وفى ذلك تعطيل ربوبيته للعاملين، ففروا من محذور بالتزام عدة محاذير، واستجاروا من الرمضاءِ بالنار.
وهذا كما نزهه الجهمية عن استوائه على عرشه وعلوّه على مخلوقاته، فإنه فرار من التحيز والجهة، ثم جعلوه سبحانه فى كل مكان مخالطاً للقاذورات والأماكن المكروهات وكل مكان يأْنف العاقل من مجاورته، ففروا من تخصيصه بالعلوّ فعمموا به كل مكان.
ولما علمت الفرعونية بطلان هذا المذهب فروا إلى شر منه فأخلوا داخل العالم وخارجه منه البتة وقالوا: ليس فوق العرش رب يعبد، ولا إِله يُصَلَى له ويسجد، ولا ترفع إليه الأَيدى، ولا يصعد إليه الكلم الطيب والعمل الصالح، ولا عرج بمحمد ﷺ إليه بل عرج به إلى عدم صرف، ولا فرق بالنسبة إِليه بين العرش وبين أَسفل السافلين، ومن المعلوم أَنه ليس موجوداً فى أَسفل سافلين، فإذا لم يكن موجوداً فوق العرش فهذا إعدام له البتة وتعطيل لوجوده.
فلما [رأت] الحلولية وإِخوانهم من الاتحادية أشباه النصارى ما فى ذلك من الإِحالة قالوا: بل هو هذا الوجود السارى فى الموجودات [الظاهر] فيها على اختلاف صورها وأنواعها بحسنها فهو فى الماء ماءٌ، وفى الخمر خمر، وفى النار نار، وهو حقيقة كل شيء وماهيته، فنزهوه عن استوائه على عرشه وجعلوه وجود كل موجود خسيس أو شريف، صغير أَو كبير طيب أَو غيره، تعالى الله عما يقول أعداؤه علواً كبيراً، وكذلك القائلون بقدم العالم نزهوه عن قيام الإرادات والأَفعال المتجددة به، ثم جعلوا جميع الحوادث لازمة له لا ينفك عنها، ونزهوه عن إرادته [لخلق العالم وأن يكون صدوره عن مشيئته وإرادته] وجعلوه لازماً لذاته كالمضطر إلى صدوره عنه.
وكذلك المعتزلة الجهمية نزهوه عن صفات كماله لئلا يقعوا فى تشبيه، ثم شبهوه بخلقه فى أَفعاله، وحكموا عليه بحسن ما يحسن منهم وقبح ما يقبح منهم، مع تشبيه فى سلب صفات كماله بالجمادات والناقصات، وأن من فر من إثبات السمع والبصر والكلام والحياة له- لئلا يشبّهه- فقد شبهه بالأَحجار التى لا تسمع ولا تبصر ولا تتكلم.
ومن عطله عن صفة الكلام لما يلزم من تشبيه بزعمه فقد شبهه بأصحاب الخرس، والآفات الممتنع منهم الكلام، ومن نزهه عن نزوله كل ليلة إلى سماءِ الدنيا، ودنوه عشية عرفة من أَهل الموقف، ومجيئه يوم [القيامة] للقضاء بين عباده فراراً من تشبيهه بالأجسام فقد شبهه بالجماد الذى لا يتصرف ولا يفعل ولا يجيء ولا يأْتى ولا ينزل، ومن نزهه عن أن يفعل لغرض أو حكمة أو لداع إلى الفعل حذراً من تشبيهه بالفاعلين لذلك فقد شبهه بأهل السفه والعبث [الذين] لا يقصدون بأفعالهم غاية محمودة ولا غرضاً مطلوباً محبوباً، ومن نزهه عن خلق أفعال عباده وتصرفه فيهم بالهداية والإضلال وتخصيص من شاءَ منهم بفضله أو منعه لمن شاء حذراً من الظلم بزعمه فقد وصفه بأقبح الظلم والجور حيث يخلد فى [أطباق] النيران من استنفد عمره كله فى طاعته إذا فعل قبل الموت كبيرة واحدة فإنها تحبط جميع تلك الطاعات وتجعلها هباءً منثوراً، ويخلد فى جهنم مع الكفار ما لم يتب منها، إلى غير ذلك من أصولهم الفاسدة: {فَهَدى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لَمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}* [البقرة: 213].
((قاعدة))
@ كمال العبد وصلاحه يتخلف عنه من إحدى جهتين: إما أَن تكون طبيعته يابسة قاسية غير لينة منقادة ولا قابلة لما به كمالها وفلاحها، وإما أن تكون لينة منقادة سلسة القياد، لكنها غير ثابتة على ذلك، بل سريعة الانتقال عنه كثيرة التقلب، فمتى رزق العبد انقياداً للحق وثباتاً عليه فليبشر، فقد بشر بكل خير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ.
((قاعدة))
إذا ابتلى الله عبده بشيء من أَنواع البلايا والمحن فإن رده ذلك الابتلاء والمحن إلى ربه وجمعه عليه وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به. والشدة بتراء لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائباً عنه وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرضاً.
وكانت البلية فى حق هذا عين النعمة، وإن ساءَته وكرهها طبعه ونفرت منها نفسه فربما كان مكروه النفوس إِلى محبوبها سبباً ما مثله سبب وقوله تعالى فى ذلك هو الشفاءُ والعصمة: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيئاً وَهُوَ شَر لَكُمْ، وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}* [البقرة: 216]، وإِن لم يرده ذلك البلاءُ إليه بل شرد قلبه عنه ورده إلى الخلق وأنساه ذكر ربه والضراعة إليه والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته وسلطان شهوته ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه فى الضراء فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص فى حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل. وبالله التوفيق.
((قاعدة))
فى مشاهد الناس فى المعاصى والذنوب
الناس فى البلوى التى تجرى عليهم أحكامها بإرادتهم وشهواتهم متفاوتون- بحسب شهودهم لأَسبابها وغايتها- أَعظم تفاوت. وجماع ذلك ثمانية مشاهد:
أحدها: شهود السبب الموصل إليها، والغاية المطلوبة منها فقط. وهو شهود الحيوانات، إِذ لا تشهد إلا طريق وطرها، وبرد النفس بعد تناولها. وهذا الضرب من الناس ليس بينه وبين الحيوان البهيم فى ذلك فرق إلا بدقيق الحيلة فى الوصول إِليها، وربما زاد غيره من الحيوانات عليه مع تناولها ولذاتها.
المشهد الثانى: من يشهد مع ذلك مجرد [الحكم] القدرى وجريانه عليه، ولا يجوز شهوده ذلك. وربما رأى أن الحقيقة هو توفية هذا المشهد حقه، ولا يتم له ذلك إلا بالفناءِ عن شهود فعله هو جملة، فيشهد الفاعل فيه غيره والمحرك سواه، فلا ينسب إلى نفسه فعلاً ولا يرى لها إساءَة، ويزعم أن هذا هو التحقيق والتوحيد وربما زاد على ذلك أَنه يشهد نفسه مطيعاً من وجه وإِن كان عاصياً من وجه آخر فيقول: أَنا مطيع للإِرادة والمشيئة وإِن كنت عاصياً للأمر، فإِن كان ممن يرى الأَمر تلبيساً وضبطاً للرعاع عن الخبط والحرمان مع حكم الطبيعة الحيوانية فقد رأى نفسه مطيعاً لا عاصياً، كما قال قائلهم فى هذا المعنى:
أصبحت منفعلاً لما يختاره منى ففعلى كله طاعات
وأصحاب المشهد الأول أقرب إلى السلامة من هؤلاءِ وخير منهم. وهذا المشهد بعينه هو المشهد الذى يشهده المشركون عبّاد الأصنام ووقفوا عنده كما قالوا: {لَوْ شَاءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ}* [الزخرف: 20]، وقالوا: {لَوْ شَاءَ اللهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ}* [الأنعام: 148]،
{وإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقُكُم اللهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ}* [يس: 47]، فهذا مشهد من أشرك بالله ورد أَمره، وهو مشهد إبليس الذى انتهى إليه إذ يقول لربه: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِى لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِى الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ}* [الحجر: 39]، والله أعلم.
المشهد الثالث: مشهد الفعل الكسبى القائم بالعبد فقط ولا يشهد إلا صدوره عنه وقيامه به، ولا يشهد مع ذلك مشيئة الرب له، ولا جريان حكمه القدرى به، ولا عزة الرب فى قضائه ونفوذ أَمره، بل قد فنى بشهود معصيته بذنبه وقبح ما اجترمه عن شهود المشيئة النافذة والقدر السابق: إِما لعدم اتساع قلبه لشهود الأمرين- فقد امتلأ من شهود ذنبه وجرمه وفعله- مع أنه مؤمن بقضاء الرب وقدره، وأن العبد أقل قدراً من أن يحدث فى نفسه ما لم يسبق به مشيئة بارئه وخالقه، وإما لإنكاره القضاءَ والقدر جملة وتنزيهه للرب [تعالى] أن يقدر على العبد شيئاً ثم يلومه عليه، فأما الأول وإن كان مشهده صحيحاً موجباً له أن لا يزال لائماً لنفسه مزرياً عليها ناسباً للذنب والعيب إليها معترفاً بأنه يستحق العقوبة والنكال، وأن الله سبحانه إن عاقبه فهو العادل فيه وأنه هو الظالم لنفسه، وهذا كله حق لا ريب فيه، لكن صاحبه ضعيف مغلوب مع نفسه غير معان عليها، بل هو معها كالمقهور المخذول، فإِنه لم يشهد عزة الرب [تعالي] فى قضائه ونفوذ أمره الكونى ومشيئته وأنه لو شاء لعصمه وحفظه، وأنه لا معصوم إلا من عصمه ولا محفوظ إلا من حفظه، وأنه هو محل لجريان أقضيته وأقداره، مسوق إليها فى سلسلة إرادته وشهوته.
وأن تلك السلسلة طرفها بيد غيره فهو القادر على سوقه فيها إلى ما فيه صلاحه وفلاحه وإلى ما فيه هلاكه وشقاؤه، فهو لغيبته عن هذا المشهد وغلبة شهود المعصية والكسب على قلبه لا يعطى التوحيد حقه ولا الاستعاذة بربه والاستغاثة به والالتجاء إليه والافتقار والتضرع والابتهال حقه، بحيث يشهد سر قوله ﷺ: ((وأعوذ برضاك من سخطك وأعوذ [بعفوك] من عقوبتك، وأعوذ بك منك)).
فإنه سبحانه رب كل شيء وخالق كل شيء، والمستعاذ منه واقع بخلقه ومشيئته، ولو شاءَ لم يكن، فالفرار منه إليه والاستعاذة منه به ولا ملجأ منه إلا إليه ولا مهرب منه إلا إليه لا إله إلا هو العزيز الحكيم.
منكر القضاء والقدر- فمخذول محجوب عن شهود التوحيد مصدود عن شهود الحكمة الإلهية، موكول إلى نفسه [فهو] ممنوع عن شهود عزة الرب فى قضائه وكمال مشيئته ونفوذ حكمه وعن شهود عجزه هو وفقره وأنه لا توفيق له إلا بالله، وأنه إن لم يعنه الله فهو مخذول وإن لم يوفقه ويخلق له عزيمة الرشد وفعله فهو عنه ممنوع، فحجابه عن الله غليظ، فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق إلى الله أقرب من دوام الافتقار إليه.
المشهد الرابع: مشهد التوحيد والأمر، فيشهد انفراد الرب بالخلق، ونفوذ مشيئته وتعلق الموجودات بأسرها به وجريان حكمه على الخليقة وانتهاءها إلى ما سبق لها فى علمه وجرى به قلمه، ويشهد ذلك أمره ونهيه وثوابه وعقابه، وارتباط الجزاءِ بالأعمال واقتضاءها له ارتباط المسببات بأسبابها التى جعلت أسباباً مقتضية لها شرعاً وقدراً وحكمة، فشهوده توحيد الرب [تعالى] وانفراده بالخلق ونفوذ مشيئته وجريان قضائه وقدره يفتح له باب الاستعاذة ودوام الالتجاء إليه والافتقار إليه، وذلك يدنيه من عتبة العبودية ويطرحه بالباب فقيراً عاجزاً مسكيناً لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً وشهوده أمره تعالى ونهيه وثوابه وعقابه يوجب له الحمد والتشمير وبذل الوسع والقيام بالأمر والرجوع على نفسه باللوم والاعتراف بالتقصير، فيكون سيره بين شهود العزة والحكمة والقدرة الكاملة والعلم السابق والمنة العظيمة، وبين شهود التقصير والإساءة منه وتطلب عيوب نفسه وأعمالها.
فهذا هو العبد الموفق المعان الملطوف به المصنوع له الذى أُقيم مقام العبودية وضمن له التوفيق، وهذا هو مشهد الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فهو مشهد أَبيهم آدم إِذ يقول: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَّمْ تَغْفِرْ لنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}* [الأعراف: 23]، ومشهد أول الرسل نوح إذ يقول: {رَبِّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْس لِى بِهِ عِلْمٌ، وإِلا تَغْفِرْ لِى وَتَرْحَمْنِى أكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}* [هود: 47] ومشهد إمام الحنفاء وشيخ الأنبياء إبراهيم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إذ يقول: {الَّذِى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِى هُوَ يُطْعِمُنِى وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِى يُمِيتُنِى ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِى أَطْمَعُ أَنْ يَغْفرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدِّينِ}* [الشعراء: 78- 82]، وقال فى دعائه:{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِى وَبَنِى أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ}* [إبراهيم: 35].
فعلم ﷺ أن الذى يحول بين العبد وبين الشرك وعبادة الأصنام هو الله لا رب غيره، فسأله أن يجنبه وبنيه عبادة الأصنام. وهذا هو مشهد موسى إذ يقول فى خطابه لربه: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِى إِلا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِى مَنْ تَشَاءُ، أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ}* [الأعراف: 155]، أى إِنْ ذلك إلا امتحانك واختبارك، كما يقال فتنت الذهب إذا امتحنته واختبرته، وليس من الفتنة التى هى الفعل المسيء كما فى قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}* [البروج: 10] وكما فى قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}* [البقرة: 193] فإن تلك فتنة المخلوق، فإن موسى أعلم بالله [تعالى] بأن يضيف إليه هذه الفتنة وإنما هى كالفتنة فى قوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}* [طه: 40]، أى ابتليناك واختبرناك وصرفناك فى الأحوال التى قصها الله [سبحانه] علينا من لدن ولادته إِلَى وقت خطابه له وإنزاله عليه كتابه.
والمقصود أن موسى شهد توحيد الرب وانفراده بالخلق والحكم وفعل السفهاء ومباشرتهم الشرك، فتضرع إليه بعزته وسلطانه وأَضاف الذنب إلى فاعله [وجانيه]، ومن هذا قوله: {رَبِّ إِنِّى ظَلَمْتُ نَفْسِى فَاغْفِرْ لِى}* [القصص:16]، قال تعالى: {فَغَفَرَ لَهُ، إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ، وهذا مشهد ذى النون إذ يقول: {لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّى كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين}* [الأنبياء: 87]، فوحد ربه ونزهه عن كل عيب وأضاف الظلم إلى نفسه وهذا مشهد صاحب سيد الاستغفار إذ يقول فى دعائه: ((اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى لا إِلهَ إلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِى وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِك وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى، فَاغْفِرْ لِى، إِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا أَنْتَ)) .
فأقر بتوحيد الربوبية المتضمن لانفراده سبحانه بالخلق وعموم المشيئة ونفوذها، وتوحيد الإلهية المتضمن لمحبته وعبادته وحده لا شريك له والاعتراف بالعبودية المتضمن للافتقار من جميع الوجوه إليه سبحانه، ثم قال: ((وأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ))، فتضمن ذلك التزام شرعه وأَمره ودينه، وهو عهده الذى عهد إلى عباده، وتصديق وعده وهو جزاؤه وثوابه فتضمن التزام الأمر والتصديق بالموعود وهو الإيمان والاحتساب، ثم لما علم أن العبد لا يوفى هذا المقام حقه الذى يصلح له تعالى علق ذلك باستطاعته وقدرته التى لا يتعداها فقال: ((ما استطعت)) أى أَلتزم ذلك بحسب استطاعتى وقدرتى.
ثم شهد المشهدين المذكورين- وهما مشهد القدرة والقوة، ومشهد التقصير من نفسه- فقال:- ((أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ))، فهذه الكلمة تضمنت المشهدين معاً، ثم أضاف النعم كلها إلى وليها وأهلها والمبتديء بها، والذنب إلى نفسه وعمله، فقال: ((أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَى، وَأَبُوءُ بِذَنْبِى))، فأَنْتَ المحمود والمشكور الذى له الثناء كله والإحسان كله ومنه النعم كلها.
فلك الحمد كله ولك الثناءُ كله ولك الفضل كله، وأنا المذنب المسيء المعترف بذنبه المقر بخطئه كما قال بعض العارفين: العارف يسير بين مشاهدة المنة من الله، ومطالعة عيب النفس والعمل.
فشهود المنة يوجب له المحبة لربه سبحانه وحمده والثناءَ عليه ومطالعة عيب النفس والعمل يوجب استغفاره ودوام توبته وتضرعه واستكانته لربه سبحانه، ثم لما قام هذا بقلب الداعى وتوسل إليه بهذه الوسائل قال: ((فَاغْفِرْ لِى فإِنه لا يغفر الذنوب إِلا أَنت)).
فصل
ثم أصحاب هذا المشهد فيه قسمان: أحدهما من يشهد تسليط عدوه عليه وفساده إياه وسلسلة الهوى وكبحه إياه بلجام الشهوة، فهو أَسير معه بحيث يسوقه إلى ضرب عنقه وهو مع ذلك ملتفت إلى ربه وناصره ووليه، عالم بأن نجاته فى يديه وناصيته بين يديه وأَنه لو شاءَ طرده عنه وخلَّصه من يديه، فكلما قاده عدوه وكبحه بلجامه أكثر الالتفات إلى وليه وناصره والتضرع إليه والتذلل بين يديه، وكلما أراد اغترابه وبعده عن بابه تذكر عطفه وبره وإحسانه وجوده وكرمه وغناه وقدرته ورأْفته ورحمته فانجذبت دواعى قلبه هاربة إليه بتراميه على بابه منطرحة على فنائه، كعبد قد شدت يداه إلى عنقه وقدم لتضرب عنقه وقد استسلم للقتل، فنظر إلى سيده أمامه وتذكر عطفه ورأْفته به ووجد فرجة فوثب إليه منها وثبة طرح نفسه بين يديه ومد له عنقه وقال: أنا عبدك ومسكينك، وهذه ناصيتى بين يديك، ولا خلاص لى من هذا العدو إلا بك وإنى مغلوب فانتصر.
فهذا مشهد عظيم المنفعة جليل الفائدة تحته من أسرار العبودية ما لا يناله الوصف، وفوقه مشهد أجلَّ منه وأعظم وأخص تجفو عنه العبارة، وإن الإشارة إليه بعض الإشارة، وتقريبه إلى الفهم بضرب مثل تعبر منه إليه وذلك مثل عبد أخذه سيده بيده وقدمه ليضرب عنقه بيده، فهو قد أحكم ربطه وشد عينيه وقد أَيقن العبد أنه فى قبضته وأنه هو قاتله لا غيره، وقد علم مع ذلك بره به ولطفه ورحمته ورأفته وجوده وكرمه، فهو يناشده بأوصافه ويدخل عليه به، قد ذهب عن وهمه وشهوده كل نسب، فانقطع تعلقه بشيء سواه، فهو معرض عن عدوه الذى كان سبب غضب سيده عليه، قد محا شهوده من قلبه، فهو مقصور النظر إلى سيده وكونه فى قبضته ناظر إلى ما يصنعه، منتظر منه ما يقتضيه عطفه وبره وكرمه.
ومثل الأول مثل عبد أمسكه عدوه وهو يخنقه للموت وذلك العبد يشهد دنوَّ عدوه له، ويستغيث بسيده وسيده يغيثه ويرحمه، ولكن ما يحصل للثانى فى مشهده ذلك من الأمور العجيبة فوق ما يحصل للأول، وهو بمنزلة من قد أخذه محبوبه فهو يخنقه خنقة وهو لا يشهد إلا خنقه له، فهو يقول: اخنق خنقك، فأنت تعلم أن قلبى يحبك.
وفى هذا المثل إشارة وكفاية، ومن غلظ حجابه وكتفت طباعه لا ينفعه التصريح فضلاً عن ضرب الأمثال. والله المستعان وعليه التكلان، ولا قوة إلا بالله. فهذه ستة مشاهد.
المشهد السابع: مشهد الحكمة، وهو أن يشهد حكمة الله فى تخليته بينه وبين الذنب وإقداره عليه وتهيئتة أسبابه له، وأنه لو شاء لعصمه وحال بينه وبينه، ولكنه خلى بينه وبينه لحكم عظيمة لا يعلم مجموعها إلا الله:
أحدها: أنه يحب التَّوابين ويفرح بتوبتهم، فلمحبته للتوبة وفرحه بها قضى على عبده بالذنب، ثم إذا كان ممن سبقت له العناية قضى له بالتوبة.
الثانى: تعريف العبد عزة الله سبحانه فى قضائه ونفوذ مشيئته وجريان حكمه.
الثالث: تعريفه حاجته إلى حفظه وصيانته، وأنه إن لم يحفظه ويصنه فهو هالك ولا بد، والشياطين قد مدت أيديها إليه تمزقه كل ممزق.
الرابع: استجلابه من العبد استعانته به واستعاذته به من عدوه وشر نفسه ودعائه والتضرع إليه والابتهال بين يديه.
الخامس: إرادته من عبده تكميل مقام الذل والانكسار، فإنه متى شهد صلاحه واستقامته شمخ بأنفه وظن أنه وأنه.. فإذا ابتلاه بالذنب تصاغرت عنده نفسه وذلّ وتيقن وتمنى أنه وأنه.
السادس: تعريفه بحقيقة نفسه وأنها الخطائة الجاهلة، وأن كل ما فيها من علم أو عمل أو خير فمن الله منَّ به عليه لا من نفسه.
السابع: تعريفه عبده سعة حلمه وكرمه فى ستره عليه، فإنه لو شاء لعاجله على الذنب ولهتكه بين عباده فلم يصف له معهم عيش.
الثامن: تعريفه أنه لا طريق إلى النجاة إلا بعفوه ومغفرته.
التاسع: تعريفه كرمه فى قبول توبته ومعرفته له على ظلمه وإساءَته.
العاشر: إقامة الحجة على عبده، فإن له عليه الحجة البالغة، فإن عذبته فبعدله وببعض حقه عليه بل اليسير منه.
الحادى عشر: أن يعامل عباده فى إساءتهم إليه وزلاتهم معه بما يجب أن يعامله الله به، فإن الجزاء من جنس العمل، فيعمل فى ذنوب الخلق معه ما يحب أن يصنعه الله بذنوبه.
الثانى عشر: أن يقيم معاذير الخلائق وتتسع رحمته لهم، مع إقامة أمره الله فيهم، فيقيم أمر فيهم رحمة لهم، لا قسوة وفظاظة عليهم.
الثالث عشر: أن يخلع صولة الطاعة والإحسان من قلبه، فتتبدل برقة ورأفة ورحمة.
الرابع عشر: أن يعريه من رداءِ العجب بعمله كما قال النبى ﷺ: ((لَوْ لَمْ تُذّنِبُوا لَخِفْتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَشدُّ مِنْهُ، العَجَبَ))، أو كما قال.
الخامس عشر: أن يعريه من لباس الإدلال الذى يصلح للملوك ويلبسه لباس الذل الذى لا يليق بالعبد سواه.
السادس عشر: أن يستخرج من قلبه عبوديته بالخوف والخشية وتوابعهما من البكاء والإشفاق والندم.
السابع عشر: أن يعرف مقداره مع معافاته وفضله فى توفيقه وعصمته، فإن من تربى فى العافية لا يعرف ما يقاسيه المبتلى ولا يعرف مقدار العافية.
الثامن عشر: أن يستخرج منه محبته وشكره لربه إذا تاب إليه ورجع إليه، فإن الله يحبه ويوجب له بهذه التوبة مزيد محبة وشكر ورضا لا يحصل بدون التوبة وإن كان يحصل توبة بغيرها من الطاعات أثر آخر، لكن هذا الأثر الخاص لا يحصل إلا بالتوبة.
التاسع عشر: أنه إذا شهد إساءته وظلمه، واستكثر القليل من نعمة الله لعلمه بأن الواصل إليه منها كثير على مسيء مثله، فاستقل الكثير من عمله لعلمه بأن الذى يصلح له أن يغسل به نجاسته وذنوبه أضعاف أضعاف ما يفعله، فهو دائماً مستقل لعلمه كائناً ما كان، ولو لم يكن فى فوائد الذنب وحكمه إلا هذا وحده لكان كافياً.
العشرون: أنه يوجب له التيقظ والحذر من مصايد العدو ومكايده، ويعرفه من أين يدخل عليه، وبماذا يحذر منه، كالطبيب الذى ذاق المرض والدواء.
الثانى والعشرون: أنه يرفع عنه حجاب الدعوى، ويفتح له طريق الفاقة فإنه لا حجاب أغلظ من الدعوى، ولا طريق أقرب من العبودية، فإن دوام الفقر إلى الله مع التخليط خير من الصفاءِ مع العجب.
الثالث والعشرون: أن تكون فى القلب أَمراض مزمنة لا يشعر بها، فيطلب دواءَها فيمن عليه اللطيف الخبير، ويقضى عليه بذنب ظاهر فيجد أَلم مرضه فيحتمى ويشرب الدواءَ النافع فتزول تلك الأمراض التى لم يكن يشعر بها، ومن لم يشعر بهذه اللطيفة فغلظ حجابه كما قيل:
لعل عتبك محمود عواقبه وربما صحت الأجسام بالعلل
الرابع والعشرون: أن يذيقه ألم الحجاب والبعد بارتكاب الذنب ليكمل له نعمته أو فرحه وسروره إذا أقبل بقلبه إليه وجمعه عليه وأقامه فى طاعته، فيكون التذاذه فى ذلك- بعد أن صدر منه ما صدر- بمنزلة التذاذ الظمآن بالماء العذب الزلال، والشديد الخوف بالأمن، والمحب الطويل الهجر بوصل محبوبه.
وإن لطف الرب وبره وإحسانه ليبلغ بعبده أكثر من هذا، فيا بؤس من أعرض عن معرفة ربه ومحبته.
الخامس والعشرون: امتحان العبد واختباره هل يصلح لعبوديته وولايته أم لا، فإنه إذا وقع الذنب، سلب حلاوة الطاعة والقرب، ووقع فى الوحشة. فإن كان ممن يصلح اشتاقت نفسه إلى لذة تلك المعاملة فحنت وأنَّت وتضرعت واستعانت بربها ليردَّها إلى ما عودها من بره ولطفه، وإن ركنت عنها واستمر إعراضها ولم تحن إلى تعهدها الأول ومأْلفها ولم تحس بضرورتها وفاقتها الشديدة إلى مراجعة قربها من ربها علم أنها لا تصلح لله، وقد جاء هذا بعينه فى أثر إلهى لا أحفظه.
السادس والعشرون: أن الحكمة الإلهية اقتضت تركيب الشهوة والغضب فى الإنسان أو بعضها، ولو لم يخلق فيه هذه الدواعى لم يكن إِنساناً بل ملكاً، فالذنب من موجبات البَشرية، كما أن النسيان من موجباتها، كما قال النبى ﷺ: ((كُلُّ بَنِى آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الخطَّائِينَ التَّوَّابُونَ))، ولا يتم الابتلاءُ والاختبار إلا بذلك. والله أعلم.
السابع والعشرون: أن ينسيه رؤية طاعته ويشغله برؤية ذنبه فلا يزال نصب عينيه، فإن الله إذا أراد بعبد خيراً سلب رؤية أعماله الحسنة من قلبه والإخبار بها من لسانه، وشغله برؤية ذنبه، فلا يزال نصب عينيه حتى يدخل الجنة، فإن ما تقبل من الأعمال رفع من القلب رؤيته ومن اللسان ذكره.
وقال بعض السلف: إن العبد ليعمل الخطيئة فيدخل بها الجنة، ويعمل الحسنة فيدخل بها النار، قالوا: كيف؟ قال: يعمل الخطيئة فلا تزال نصب عينيه، إذا ذكرها ندم واستقال وتضرع إلى الله وبادر إلى محوها وانكسر وذل لربه وزال عنه عجبه وكبره، ويعمل الحسنة فلا تزال نصب عينيه يراها ويمن بها ويعتد بها ويتكبر بها حتى يدخل النار.
الثامن والعشرون: أن شهود ذنبه وخطيئته يوجب له أن لا يرى له على أحد فضلاً ولا له على أحد حقاً. فإنه إذا شهد عيب نفسه بفاحشة وخطأها وذنوبها لا يظن أنه خير من مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، وإذا شهد ذلك من نفسه لم ير لها على الناس حقوقاً من الإِكرام يتقاضاهم إياها ويذمهم على ترك القيام بها، فإنها عنده أخس قدراً وأقل قيمة من أن يكون لها على عباد الله حقوق يجب مراعاتها، أو لها عليهم فضل يستحق أن يلزموه لأجله، فيرى أن من سلم عليه أو لقيه بوجه منبسط قد أحسن إليه وبذل له ما لا يستحقه فاستراح فى نفسه واستراح الناس من عتبه وشكايته فما أطيب عيشه وما أنعم باله وما أقر عينه، وأين هذا ممن لا يزال عاتباً على الخلق شاكياً ترك قيامهم بحقه ساخطاً عليهم وهم عليه أسخط؟ فسبحان ذى الحكمة الباهرة التى بهرت عقول العالمين.
التاسع والعشرون: أنه يوجب له الإمساك عن عيوب الناس والفكر فيها، فإنه فى شغل بعيبه ونفسه، وطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس، وويل لمن نسى عيبه وتفرغ لعيوب الناس، فالأَول علامة السعادة، والثانى علامة الشقاوة.
الثلاثون: أنه يوجب له الإِحسان إلى الناس والاستغفار لإخوانه الخاطئين من المؤمنين فيصير هجِّيراه: ربِّ اغفر لى ولوالدى وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، فإنه يشهد أن إخوانه الخاطئين يصابون بمثل ما أُصيب به، ويحتاجون إِلى مثل ما هو محتاج إليه، فكما يحب أن يستغفر له أخوه المسلم يحب أن يستغفر هو لأخيه المسلم، وقد قال بعض السلف: إِن الله لما عتب على الملائكة فى قولهم:{أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}* [البقرة: 30]، وامتحن هاروت وماروت جعلت الملائكة بعد ذلك تستغفر لبنى آدم ويدعون الله لهم.
الحادى والثلاثون: أنه يوجب له سعة إبطائه وحلمه ومغفرته لمن أساء إليه، فإنه إذا شهد نفسه مع وبه سبحانه مسيئاً خاطئاً مذنباً- مع فرط إحسانه إليه وبره وشدة حاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين وهذا حاله مع ربه- فكيف يطمع أَن يستقيم له الخلق ويعاملوه بمحض الإحسان وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟ وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته فى كل ما يريد وهو مع ربه ليس كذلك، وهذا يوجب أن يغفر لهم ويسامحهم ويعفو عنهم ويغضى عن الاستقصاءِ فى طلب حقه قبلهم.
قاعدة
كثيراً ما يتكرر فى القرآن ذكر الإِنابة والأَمر بها كقوله تعالى: {وَأَنِيبوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ}* [الزمر: 54]، وقوله حكاية عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِى إِلا باللهِ عَلَيْهِ تَوَكّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}* [هود: 88]، وقوله: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ}* [سورة ق: 8]، وقوله: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ}* [الرعد: 27]، وقوله عن نبيه داود: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ}* [سورة ص: 24]، والإنابة الرجوع إلى الله وانصراف دواعى القلب وجواذبه إليه، وهى تتضمن المحبة والخشية، فإِن المنيب محب لمن أَناب إليه خاضع له خاشع ذليل. والناس فى إِنابتهم على درجات متفاوتة فمنهم المنيب إلى الله بالرجوع إليه من المخالفات والمعاصى، وهذه الإنابة مصدرها مطالعة الوعيد، والحامل عليها العلم والخشية والحذر، ومنهم المنيب إليه بالدخول فى أَنواع العبادات والقربات، فهو ساع فيها بجهده وقد حبب إليه فعل الطاعات وأَنواع القربات، وهذه الإِنابة مصدرها الرجاءُ ومطالعة الوعد والثواب ومحبة الكرامة من الله وهؤلاء أبسط نفوساً من أهل القسم الأول وأشرح صدوراً وجانب الرجاءِ ومطالعة الرحمة والمنة أغلب عليهم، وإلا فكل واحد من الفريقين منيب بالأمرين جميعاً، ولكن خوف هؤلاء اندرج فى رجائهم فأَنابوا بالعبادات، ورجاء الأَولين اندرج تحت خوفهم فكانت إِنابتهم بترك المخالفات ومنهم المنيب إلى الله بالتضرع والدعاءِ والافتقار إليه والرغبة وسؤال الحاجات كلها منه.
ومصدر هذه الإنابة شهود الفضل والمنة والغنى والكرم والقدرة، فأنزلوا به حوائجهم وعلقوا به آمالهم، فإنابتهم إِليه من هذه الجهة مع قيامهم بالأَمر والنهى، ولكن إِنابتهم الخاصة إِنما هى من هذه الجهة، وأَما الأَعمال فلم يرزقوا فيها الإِنابة الخاصة وأَملهم المنيب إليه عند الشدائد والضراءِ فقط إِنابة اضطرار لا إِنابة اختيار كحال الذين قال الله فى حقهم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُرُّ فِى الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدُْْعُونَ إِلا إِيَّاهُ}* [الإسراء: 67]، وقوله تعالى: {فَإِذا رَكِبُوا فِى الْفُلُكِ دَعُوُا الله مُخلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}* [العنكبوت: 65]، وهؤلاء كلهم قد تكون نفس أَرواحهم ملتفتة عن الله سبحانه معرضة عنه إِلى مأْلوف طبيعى نفسانى قد حال بينها وبين إِنابتها بذاتها إلى معبودها وإلهها الحق، فهى ملتفتة إلى غيره ولها إليه إنابة ما بحسب إيمانها به ومعرفتها له
فأَعلى أَنواع الإِنابة إنابة الروح بجملتها إليه لشدة المحبة الخالصة الغنية لهم عما سوى محبوبهم ومعبودهم وحين أَنابت إِليه أرواحهم لم يختلف منهم شيء عن الإِنابة، فإِن الأعضاءَ كلها رعيتها وملكها تبع للروح فلما أَنابت الروح بذاتها إِليه إنابة محب صادق المحبة ليس فيه عرق ولا مفصل إلا وفيه حب ساكن لمحبوبه أَنابت جميع القوى والجوارح: فأَناب القلب أَيضاً بالمحبة والتضرع والذل والانكسار.
وأناب العقل بانفعاله لأوامر المحبوب ونواهيه، وتسليمه لها، وتحكيمه إياها دون غيرها، فلم يبق فيه منازعة شبهة معترضة دونها، وأنابت النفس بالانقياد والانخلاع عن العوائد النفسانية والأخلاق الذميمة والإرادات الفاسدة، وانقادت لللأمر خاضعة له وداعية فيه مؤثرة إياه على غيره، فلم يبق فيها منازعة شهوة تعترضها دون الأمر، وخرجت عن تدبيرها واختيارها تفويضاً إلى مولاها ورضى بقضائه وتسليماً لحكمه.
وقد قيل: إن تدبير العبد لنفسه هو آخر الصفات المذمومة فى النفس.
وأناب الجسد بالأعمال والقيام بها فرضها وسننها على أكمل الوجوه. وأنابت كل جارحة وعضو إنابتها الخاصة فلم يبق من هذا العبد المنيب عرق ولا مفصل إلا وله إنابة ورجوع إلى الحبيب الحق الذى كل محبة سوى محبته عذاب على صاحبها، وإن كانت عذبة فى مباديها فإنها عذاب فى عواقبها، فإنابة العبد ولو ساعة من عمره هذه الإنابة الخالصة أنفع له وأعظم ثمرة من إنابة سنين كثيرة من غيره، فأَين إنابة هذا من إنابة من قبله؟
وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ، بل هذه روحه منيبة أبداً، وإن توارى عنه شهود إنابتها باشتغال فهى كامنة فيها كمون النار فى الزناد.
وأما أصحاب الإنابات المتقدمة فإن أناب أحدهم ساعة بالدعاء والذكر والابتهال فلنفسه وروحه وقلبه وعقله التفاتات عمن قد أناب إليه، فهو ينيب ببعضه ساعة ثم يترك ذلك مقبلاً على دواعى نفسه وطبعه. والله الموفق المعين، لا رب غيره ولا إلَه سواه.
قاعدة
فى ذكر طريق يوصل إلى الاستقامة فى الأحوال والأقوال والأعمال، وهى شيئان:
(يتبع...)
@ أحدهما: حراسة الخواطر وحفظها، والحذر من إهمالها والاسترسال معها، فإن أصل الفساد كله من قبلها يجيء، لأنها هى بذر الشيطان، والنفس فى أَرض القلب، فإذا تمكن بذرها تعاهدها الشيطان بسقيه مرة بعد أخرى حتى تصير إرادات، ثم يسقيها حتى تكون عزائم، ثم لا يزال بها حتى تثمر الأَعمال ولا ريب أن دفع الخواطر أَيسر من دفع الإِرادات والعزائم، فيجد العبد نفسه عاجزاً أو كالعاجز عن دفعها بعد أن صارت إرادة جازمة، وهو المفرط إذا لم يدفعها وهى خاطر ضعيف، كمن تهاون بشرارة من نار وقعت فى حطب يابس، فلما تمكنت منه عجز عن إطفائها، فإن قلت: فما الطريق إلى حفظ الخواطر؟
قلت: أسباب عدة:
أحدها: العلم الجازم باطلاع الرب تعالى ونظره إلى قلبك وعلمه بتفصيل خواطرك.
الثانى: حياؤك منه.
الثالث: إجلالك له أن يرى مثل تلك الخواطر فى بيته الذى خلقه لمعرفته ومحبته.
الرابع: خوفك منه أن تسقط من عينه بتلك الخواطر.
الخامس: إيثارك له أن تساكن قلبك غير محبته.
السادس: خشيتك أن تتولد تلك الخواطر يستعر شرارها فتأْكل ما فى القلب من الإيمان ومحبة الله فتذهب به جملة وأنت لا تشعر.
السابع: أن تعلم أن تلك الخواطر بمنزلة الحب الذى يلقى للطائر ليصاد به، فاعلم أن كل خاطر منها فهو حبة فى فخ منصوب لصيدك وأنت لا تشعر.
الثامن: أن تعلم أن تلك الخواطر الرديئة لا تجتمع هى وخواطر الإيمان ودواعى المحبة والإنابة أصلاً، بل هى ضدها من كل وجه، وما اجتمعا فى قلب إلا وغلب أحدهما صاحبه وأخرجه واستوطن مكانه فما الظن بقلب غلبت خواطر النفس والشيطان فيه خواطر الإيمان والمعرفة والمحبة فأَخرجتها واستوطنت مكانها، لكن لو كان للقلب حياة لشعر بألم ذلك وأحس بمصابه.
التاسع: أن يعلم أن تلك الخواطر بحر من بحور الخيال لا ساحل له، فإذا دخل القلب فى غمراته غرق فيه وتاه فى ظلماته فيطلب الخلاص منه فلا يجد إليه سبيلاً، فقلب تملكه الخواطر بعيد من الفلاح معذب مشغول بما لا يفيد.
العاشر: أن تلك الخواطر هى وادى الحمقى وأَمانى الجاهلين، فلا تثمر لصاحبها إلا الندامة والخزى، وإذا غلبت على القلب أورثته الوساوس وعزلته عن سلطانها وأفسدت عليه رعيته وأَلقته فى الأسر الطويل كما أن هذا معلوم فى الخواطر النفسانية فهكذا الخواطر الإيمانية الرحمانية هى أصل الخير كله، فإن أرض القلب إذا بذر فيها خواطر الإيمان والخشية والمحبة والإنابة والتصديق بالوعد ورجاء الثواب، وسقيت مرة بعد مرة، وتعاهدها صاحبها بحفظها ومراعاتها والقيام عليها، أثمرت له كل فعل جميل، وملأت قلبه من الخيرات، واستعملت جوارحه فى الطاعات، واستقر بها الملك فى سلطانه واستقامت له رعيته، ولهذا لما تحققت طائفة من السالكين ذلك عملت على حفظ الخواطر، وكان ذلك هو سيرها وجل عملها وهذا نافع لصاحبه بشرطين: أحدهما: أن لا يترك به واجباً، ولا سنة، الثانى: أن لا يجعل مجرد حفظها هو المقصود بل لا يتم ذلك إلا بأن يجعل موضعها خواطر الإِيمان والمحبة والإِنابة والتوكل والخشية فيفرّغ قلبه من تلك الخواطر ويعمره بأضدادها، وإلا فمتى عمل على تفريغه منها معاً كان خاسراً، فلا بد من التفطن لهذا.
ومن هنا غلط أقوام من أرباب السلوك وعملوا على إلقاء الخواطر وإزالتها جملة فبذر فيها الشيطان أنواع الشبه والخيالات فظنوها تحقيقاً وفتحاً رحمانياً، وهم فيها غالطون، وإنما هى خيالات وفتوحات شيطانية، والميزان هو الكتاب الناطق والفطرة السليمة والعقل المؤيد بنور النبوة. والله المستعان.
الفصل الثاني
صدق التأهب للقاءِ الله من أنفع ما للعبد وأبلغه فى حصول استقامته، فإِن من استعد للقاءِ الله انقطع قلبه عن الدنيا وما فيها ومطالبها، وحمدت من نفسه نيران الشهوات وأخبتَ قلبه إلى ربه تعالى وعكفت همته على الله وعلى محبته وإيثار مرضاته، واستحدثت همة أُخرى وعلوماً أُخر وولد ولادة أُخرى تكون نسبة قلبه فيها إلى الدار الآخرة كنسبة جسمه إِلى هذه الدار بعد أَن كان فى بطن أُمه فيولد قلبه ولادة حقيقية كما ولد جسمه حقيقة، وكما كان بطن أُمه حجاباً لجسمه عن هذه الدار فهكذا نفسه وهواه حجاب لقلبه عن الدار الآخرة، فخروج قلبه عن نفسه بارزاً إلى الدار الآخرة كخروج جسمه عن بطن أُمه بارزاً إلى هذه الدار، وهذا معنى ما يذكر عن المسيح أَنه قال: ((يا بنى إسرائيل، إِنكم لن تلجوا ملكوت السماءِ حتى تولدوا مرتين))، ولما كان أَكثر الناس لم يولدوا هذه الولادة الثانية ولا تصوروها- فضلاً عن أن يصدقوا بها- فيقول القائل: كيف يولد الرجل الكبير أَم كيف يولد القلب، لم يكن لهم إليها همة ولا عزيمة، إِذ كيف يعزم على الشيء من لا يعرفه ولا يصدقه؟ ولكن إذا كشف حجاب الغفلة عن القلب صدَّق بذلك وعلم أنه لم يولد قلبه بعد والمقصود أَن صدق التأَهب للقاءِ الله هو مفتاح جميع الأَعمال الصالحة والأَحوال الإيمانية ومقامات السالكين إلى الله ومنازل السائرين إليه،من اليقظة والتوبة والإِنابة والمحبة والرجاءِ والخشية والتفويض والتسليم وسائر أعمال القلوب والجوارح، فمفتاح ذلك كله صدق التأَهب والاستعداد للقاءِ الله، والمفتاح بيد الفتاح العليم لا إله غيره ولا رب سواه.
قاعدة شريفة
الناس قسمان: علية وسفلة. فالعلية من عرف الطريق إلى ربه وسلكها قاصداً الوصول إليه، وهذا هو الكريم على ربه. والسفلة من لم يعرف الطريق إلى ربه ولم يتعرفها، فهذا هو اللئيم الذى قال الله تعالى فيه: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مَكْرِمٍ}* [الحج: 18].
والطريق إلى الله فى الحقيقة واحد لا تعدد فيه، وهو صراطه المستقيم الذى نصبه موصلاً لمن سلكه إليه، قال الله تعالى: {وأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُل}* [الأنعام: 153]، فوحد سبيله لأنه فى نفسه واحد لا تعدد فيه، وجمع السبل المخالفة لأنها كثيرة متعددة، كما ثبت أن النبى ﷺ خط خطا ثم قال: ((هذا سبيل الله، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذا سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِى مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سبِيلِهِ}* [الأنعام:153])) ومن هذا قوله تعالى: {اللهُ وَلَى الَّذِينَ آمَنُوا يَخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}* [البقرة: 257]، فوجد النور الذى هو سبيله وجميع الظلمات التى هى سبيل الشيطان.
ومن فهم هذا فهم السر فى إفراد النور وجمع الظلمات فى قوله تعالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}* [الأنعام:1] مع أن فيه سراً أَلطف من هذا يعرفه من يعرف منبع النور ومن أَين فاض وعماذا حصل وأن أَصله كله واحد، وأَما الظلمات فهى متعددة بتعدد الحجب المقتضية لها، وهى كثيرة جداً، لكل حجاب ظلمة خاصة، ولا ترجع الظلمات إلى النور الهادى جل جلاله أصلاً لا وصفاً ولا ذاتاً ولا اسماً ولا فعلاً، وإِنما ترجع إلى مفعولاته سبحانه، فهو جاعل الظلمات ومفعولاتها متعددة متكثرة، بخلاف النور فإنه يرجع إلى اسمه وصفته جل جلاله، تعالى أن يكون كمثله شيء وهو نور السموات والأرض.
قال ابن مسعود: ليس عند ربكم ليل ولا نهار، نور السموات والأَرض من نور وجهه ذكره الدارمى عنه. وفى صحيح مسلم عن أبى ذر قلت: يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال: نور، أَنَّى أَراه،.
والمقصود أن الطريق إلى الله تعالى واحد، فإنه الحق المبين والحق واحد، مرجعه إلى واحد. وأما الباطل والضلال فلا ينحصر، بل كل ما سواه باطل، وكل طريق إلى الباطل فهو باطل، فالباطل متعدد، وطرقه متعددة.
وأما ما يقع فى كلام بعض العلماء أَن الطريق إلى الله متعددة متنوعة جعلها الله كذلك لتنوع الاستعدادات واختلافها، رحمة منه وفضلاً، فهو صحيح لا ينافى ما ذكرناه من وحدة الطريق.وكشف ذلك وإيضاحه أن الطريق وهى واحدة جامعة لكل ما يرضى الله، وما يرضيه متعدد متنوع فجميع ما يرضيه طريق واحد، ومراضيه متعددة متنوعة بحسب الأَزمان والأَماكن والأَشخاص والأَحوال، وكلها طرق مرضاته، فهذه التى جعلها الله سبحانه لرحمته، وحكمته كثيرة متنوعة جداً لاختلاف استعدادات العباد وقوابلهم، ولو جعلها نوعاً واحداً مع اختلاف الأَذهان والعقول وقوة الاستعدادات وضعفها لم يسلكها إلا واحد بعد واحد، ولكن لما اختلفت الاستعدادات تنوعت الطرق ليسلك كل امريءٍ إلى ربه طريقاً يقتضيها استعداده وقوته وقبوله.
ومن هنا يعلم تنوع الشرائع واختلافها مع رجوعها كلها إلى دين واحد بل تنوع الشريعة الواحدة مع وحدة المعبود ودينه، ومنه الحديث المشهور: ((الأَنْبِيَاءُ أَوْلادُ عَلات دينهم واحد))، فأولاد العلات أن يكون الأب واحداً والأُمهات متعددة، فشبه دين الأنبياء بالأب الواحد وشرائعهم بالأمهات المتعددة، فإنها وإن تعددت فمرجعها كلها إلى أب واحد .
وإذا علم هذا فمن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الذى يعد سلوكه إلى الله طريق العلم والتعليم، قد وفر عليه زمانه مبتغياً به وجه الله فلا يزال كذلك عاكفاً على طريق العلم والتعليم حتى يصل من تلك الطريق إلى الله ويفتح له فيها الفتح الخاص أو يموت فى طريق طلبه فيرجى له الوصول إلى مطلبه بعد مماته.
قال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ على الله}* [النساء: 100].
وقد حكى عن جماعة كثيرة ممن أدركه الأجل وهو حريص طالب للقرآن أَنه رؤى بعد موته وأخبره أنه فى تكميل مطلوبه وأنه يتعلم فى البرزخ، فإِن العبد يموت على ما عاش عليه. ومن الناس من يكون سيد عمله الذكر وقد جعله زاده لمعاده ورأْس ماله لمآله، فمتى فتر عنه أَو قصر رأَى أَنه قد غبن وخسر، ومن الناس من يكون سيد عمله وطريقه الصلاة، فمتى قصر فى ورده منها أَو مضى عليه وقت وهو غير مشغول بها أَو مستعد لها أَظلم عليه وقته وضاق صدره.
ومن الناس من يكون طريقه الإحسان والنفع المتعدى، كقضاءِ الحاجات وتفريج الكربات وإِغاثة اللهفات وأنواع الصدقات، قد فتح له فى هذا وسلك منه طريقاً إلى ربه. ومن الناس من يكون طريقه تلاوة القرآن وهى الغالب على أَوقاته وهى أعظم أورداه. ومن الناس من يكون طريقه الصوم، فهو متى أفطر تغير عليه قلبه وساءَت حاله.
ومنهم يكون طريقه الأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر قد فتح الله له فيه ونفذ منه إلى ربه، ومنهم من يكون طريقه الذى نفذ فيه الحج والاعتمار. ومنهم من يكون طريقه قطع العلائق وتجريد الهمة ودوام المراقبة ومراعاة الخواطر وحفظ الأَوقات أن تذهب ضائعة.
ومنهم من جامع المنفذ السالك إلى الله فى كل واد الواصل إليه من كل طريق، فهو جعل وظائف عبوديته قبلة قلبه ونصب عينه يؤمها أَين كانت ويسير معها حيث سارت قد ضرب من كل فريق بسهم، فأَين كانت العبودية وجدته هناك: إِن كان علم وجدته مع أَهله، أَو جهاد وجدته فى صف المجاهدين، أَو صلاة وجدته فى القانتين، أَو ذكر وجدته فى الذاكرين، أَو إحسان ونفع وجدته فى زمرة المحسنين، أَو ومراقبة ومحبه وإنابة إلى الله وجدته فى زمرة المحبين المنيبين، يدين بدين العبودية أَنَّى استقلت ركائبها،ويتوجه إليها حيث استقرت مضاربها، لو قيل له: ما تريد من الأعمال؟ لقال: أريد أن أنفذ أوامر ربى حيث كانت وأين كانت جالبة ما جلبت مقتضية ما اقتضت جمعيتين أو فرقتين أو فرقتنى، ليس لى مراد إلا تنفيذها والقيام بأدائها مراقباً له فيها عاكفاً عليه بالروح والقلب والبدن والسر قد سلمت إليه المبيع منتظراً منه تسليم الثمن: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّة }* [التوبة: 111]، فهذا هو العبد السالك إلى ربه النافذ إليه حقيقة
ومعنى النفوذ إليه أن يتصل به قلبه ويعلق به تعلق المحب التام المحبه بمحبوبه فيسلو به عن جميع المطالب سواه، فلا يبقى فى قلبه إلا محبة الله وأمره وطلب التقريب إليه. فإذا سلك العبد على هذا الطريق عطف عليه ربه فقربه واصطفاه وأَخذ بقلبه إليه وتولاه فى جميع أموره فى معاشه ودينه وتولى تربيته أحسن وأبلغ مما يربى الوالد الشفيق ولده، فإِنه سبحانه القيوم المقيم لكل شيء من المخلوقات طائعها وعاصيها، فكيف تكون قيوميته بمن أَحبه وتولاه وآثره على ما سواه، ورضى به من الناس حبيباً ورباً، ووكيلاً وناصراً ومعيناً وهادياً، فلو كشف الغطاءَ عن ألطافه وبره وصنعه له من حيث يعلم ومن حيث لا يعلم لذاب قلبه حباًله وشوقاً إليه ويقع شكراً له، ولكن حجب القلوب بالأسباب، فصدت عن كمال نعيمها، وذلك تقدير العزيز العليم.
لا فأى قلب يذوق حلاوة معرفة الله ومحبته ثم يركن إلى غيره ويسكن إلى ما سواه؟ هذا ما لا يكون أبداً، ومن ذاق شيئاً من ذلك وعرف طريقاً موصلة إلى الله ثم تركها وأقبل على إرادته وراحاته وشهواته ولذاته وقع فى آثار المعاطب وأودع قلبه سجون المضايق وعذب فى حياته عذاباً لم يعذبه أحد من العالمين، فحياته عجز وغم وحزن، وموته كمد وحسرة، ومعاده أسف وندامة، قد فرط عليه أمره وشتت عليه شمله، وأحضرت نفسه الغموم والأحزان، فلا لذة الجاهلين ولا راحة العارفين، يستغيث فلا يغاث ويشتكى فلا يشكى، فقد ترحلت أفراحه وسروره مدبرة وأقبلت آلامه، وأحزانه وحسراته مقبلة، فقد أُبدل بأُنسه وحشه وبعزه ذلاً وبغناه فقراً وبجمعيته تشتيتاً، وأبعدوه فلم يظفر بقربهم، وأبدلوه مكان الأنس إيحاشاً، ذلك بأنه عرف طريقه إلى الله ثم تركها وناكباً عنها مكباً على وجهه، فأبصر ثم عمى وعرف ثم أَنكر وأَقبل ثم أَدبر ودعى فما أَجاب وفتح له فولى ظهره الباب، قد ترك طريق مولاه وأَقبل بكليته على هواه، فلو نال بعض حظوظه وتلذذ براحاته وشئونه فهو مقيد القلب عن انطلاقه فى فسيح التوحيد وميادين الأُنس ورياض المحبة وموائد القرب، قد انحط بسبب إعراضه عن إلهه الحق إلى أسفل السافلين، وحصل فى عداد الهالكين فنار الحجاب تطلع كل وقت على فؤاده، وإعراض الكون عنه- إذ أعرض عن ربه- حائل بينه وبين مراده، فهو قبر يمشى على وجه الأرض فروحه فى وحشة من جسمه وقلبه فى ملال من حياته، يتمنى الموت ويشتهيه ولو كان فيه ما فيه، حتى إذا جاءه الموت على تلك الحال والعياذ بالله فلا تسأل عما يحل به من العذاب الأَليم بسب وقوع الحجاب بينه وبين مولاه الحق وإحداقه بنار البعد عن قربه والإعراض عنه وقد حيل بينه وبين سعادته وأمنيته.
فلو توهم العبد المسكين هذه الحال وصورتها له نفسه وأَرته إياها على حقيقتها لتقطع والله قلبه ولم يلتذ بطعام ولا شراب، ولخرج إلى الصعدات يجأَر إلى الله ويستغيث به ويستعتبه فى زمن الاستعتاب، هذا مع أنه إذا آثر شهواته ولذاته الفانية التى كخيال طيف أو مزنة صيف نغصت عليه لذاتها أحوج ما كان إليها، وحيل بينه وبينها أَقدر ما كان عليه، وتلك سنة الله فى خلقه كما قال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ، كَذَلِكَ نُفصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}* [يونس: 24]، وهذا هو غب إعراضه وإيثار شهوته على مرضاة ربه، فيعوق القدر عليه أسباب مراده فيخسر الأمرين جميعاً، فيكون معذباً فى الدنيا بتنغيص شهواته وشدة اهتمامه بطلب ما لم يقسم له، وإن قسم له منه شيء فحشوه الخوف والحزن والنكد والألم، فهم لا ينقطع وحسرة لا تنقضى وحرص لا ينفد وذل لا ينتهى وطمع لا يقلع، هذا فى هذه الدار.
وأَما فى البرزخ فأضعاف أضعاف ذلك: قد حيل بينه وبين ما يشتهى، وفاته ما كان يتمناه من قرب ربه وكرامته ونيل ثوابه، وأحضر جميع غمومه وأحزانه. وأما فى دار الجزاء فسجن أمثاله من المبعودين المطرودين.
فواغوثاه ثم واغوثاه بغياث المستغيثين بأرحم الراحمين، فمن أعرض عن الله بالكلية أعرض الله عنه بالكلية، ومن أعرض الله عنه لزمه الشقاءُ والبؤس والبخس فى أحواله وأعماله وقارنه سوءُ الحال وفساده فى دينه ومآله، فإن الرب تعالى إذا أعرض عن جهة دارت بها النحوس وأظلمت أرجاؤها وانكسفت أنوارها وظهرت عليها وحشة الإعراض وصارت مأْوى للشياطين وهدفاً للشرور ومصباً للبلاءِ، فالمحروم كل المحروم من عرف طريقاً إليه ثم أَعرض عنها أَو وجد بارقة من حبه ثم سلبها لم ينفذ إلى ربه منه.
خصوصاً إِذا مال بتلك الإِرادة إِلى شيء من اللذات، وانصرف بجملته إلى تحصيل الأَغراض والشهوات عاكفاً على ذلك فى ليله ونهاره وغدوه ورواحه، هابطاً من الأَوج الأَعلى إلى الحضيض الأدنى، قد مضت عليه برهة من أَوقاته وكان همه الله وبغيته قربه ورضاه وإيثاره على كل ما سواه، على ذلك يصبح ويمسى ويظل ويضحى وكان الله فى تلك الحال وليه لأَنه ولى من تولاه وحبيب من أَحبه ووالاه فأَصبح فى سجن الهوى ثاوياً وفى أَسر العدو مقيماً وفى بئر المعصية ساقطاً وفى أَودية الحيرة والتفرقة هائماً، معرضاً عن المطالب العالية إلى الأَغراض الخسيسة الفانية، كان قلبه يحوم حول العرش فأصبح محبوساً فى أسفل الحش:
فأصبح كالبازى المنتّف ريشـه ذيرى حسـرات كلما طار طـائر
وقد كان دهراً فى الرياض منعماً على كل ما يهوى من الصيد قـادر
إلى أَن أَصابته من الدهر نكبـة إذا هو مقصوص الجناحين حاسـر
فيا من ذاق شيئاً من معرفة ربه ومحبته ثم أَعرض عنها واستبدل بغيرها منها، يا عجباً له بأى شيء تعرض وكيف قر قراره فما طلب الرجوع إلى أحنيته وما تعرض وكيف اتخذ سوى أحنيته سكناً، وجعل قلبه لمن عاداه مولاه من أجله وطناً.
أم كيف طاوعه قلبه على الاصطبار ووافقه على مساكنة الأغيار، فيا معرضاً عن حياته الدائمة ونعيمه المقيم، ويا بائعاً سعادته العظمى بالعذاب الأَليم، ويا مسخطاً من حياته وراحته وفوزه فى رضاه وطالباً رضى من سعادته فى إرضاء سواه، إِنما هى لذة فانية وشهوة منقضية تذهب لذاتها وتبقى تبعاتها، فرح ساعة لا شهر وغم سنة بل دهر، طعام لذيذ مسموم أَوله لذة وآخره هلاك، فالعامل عليها والساعى فى تحصيلها كدودة القز يسد على نفسه المذاهب بما نسج عليها من المعاطب، فيندم حين لا تنفع الندامة ويستقيل حين لا تقبل الاستقالة فطوبى لمن أقبل على الله بكليته وعكف عليه بإرادته ومحبته، فإن الله يقبل عليه بتوليه ومحبته وعطفه ورحمته، وإن الله سبحانه إذا أقبل على عبد استنارت جهاته وأشرقت ساحاتها وتنورت ظلماتها وظهرت عليه آثار إقباله من بهجة الجلال وآثار الجمال، وتوجه إليه أهل الملأ الأعلى بالمحبة والموالاة لأنهم تبع لمولاهم، فإذا أحب عبداً أحبوه وإذا والى والياً والوه، إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل إنى أُحب فلاناً فأحبه، فينادى جبرائيل فى السماءِ: إِن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء ثم يحبه أهل الأرض، فيوضع له القبول بينهم، ويجعل الله قلوب أوليائه تفد إليه بالود والمحبة والرحمة، وناهيك بمن يتوجه إليه مالك الملك ذو الجلال والإكرام بمحبته ويقبل عليه بأنواع كرامته، ويلحظ الملأُ الأعلى وأهل الأرض بالتبجيل والتكريم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
قاعدة
السائر إلى الله تعالى والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية، وقوة عملية، فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق، ومواضع السلوك فيقصدها سائراً فيها، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل. فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشى به فى ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشى فى الظلمة فى مثله من الوهاد والمتالف ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها فلا يضل عنها، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعطبها.
وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية، فإن السير هو عمل المسافر. وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها فقد حصل له شطر السعادة والفلاح، وبقى عليه الشطر الآخر وهو أن يضع عصاه على عاتقه ويشمر مسافراً فى الطريق قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأُخرى واستشعر القرب من المنزل فهانت عليه مشقة السفر، وكلما سكنت نفسه من كلال السير ومواصلة الشد والرحيل وعدها قرب التلاقى وبرد العيش عند الوصول، فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة، فهو يقول: يا نفس أَبشرى فقد قرب المنزل ودنا التلاقى فلا تنقطعى فى الطريق دون الوصل فيحال بينك وبين منازل الأحبة، فإن صبرت وواصلت السير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأَنواع التحف والكرامات، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة، فإن الدنيا كلها لساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة، فالله الله لا تنقطعى فى المفازة، فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين فإِن استصعبت عليه فليذكرها ما أَمامها من أحبابها، وما لديهم من الإِكرام والإنعام، وما خلفها من أعدائها وما لديهم من الإهانة والعذاب وأنواع البلاءِ، فإن رجعت فإلى أعدائها رجوعها، وإن تقدمت فإلى أحبابها مصيرها، وإن وقفت فى طريقها أدركها أعداؤها، فإنهم وراءها فى الطلب.
ولا بد لها من قسم من هذه الأقسام الثلاثة فلتختر أَيها شاءَت. وليجعل حديث الأحبة وشأنهم حاديها وسائقها، ونور معرفتهم وإرشادهم هاديها ودليلها، وصدق ودادهم وحبهم غذاءها وشرابها ودواءَها ولا يوحشه انفراده فى طريق سفره ولا يغتر بكثرة المنقطعين فأَلم انقطاعه وبعاده واصل إليه دونهم، وحظه من القرب والكرامة مختص به دونهم فما معنى الاشتغال بهم والانقطاع معهم؟ وليعلم أن هذه الوحشة لا تدوم بل هى من عوارض الطريق فسوف تبدو له الخيام، وسوف يخرج إليه الملتقون يهنئونه بالسلامة والوصول إليهم، فيا قرة عينه إذ ذاك ويا فرحته إذ يقول: {يَا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِى رَبِّى وَجَعَلَنِى مِنَ الْمُكْرَمِين}* [يس: 26- 27]، ولا يستوحش مما يجده من كثافة الطبع وذوب النفس وبطءِ سيرها، فكلما أدمن على السير وواظب عليه غدواً ورواحاً وسحراً قرب من الدار وتلطفت تلك الكثافة وذابت تلك الخبائث والأدران، فظهرت عليه همة المسافرين وسيماهم، فتبدلت وحشته أُنساً وكثافته لطافة ودرنه طهارة.
فصل
فى تقسيم الناس من حيث القوة العلمية والعملية
فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها، وتكون هذه القوة أَغلب القوتين عليه، ويكون ضعيفاً فى القوة العملية يبصر الحقائق ولا يعمل بموجبها، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل فإذا حضر العمل شارك الجهال فى التخلف وفارقهم فى العلم وهذا هو الغال على أَكثر النفوس المشتغلة بالعلم، والمعصوم من عصمة الله ولا قوة إلا بالله.
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية وتكون أغلب القوتين عليه وتقتضى هذه القوة السير والسلوك والزهد فى الدنيا والرغبة فى الآخرة والجد والتشمير فى العمل، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات فى العقائد والانحرافات فى الأَعمال والأقوال والمقامات كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات، فداءُ هذا من جهله وداءُ الأَول من فساد إرادته وضعف عقله، وهذا حال أَكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم، بل على طريق الذوق والوجد والعادة، يرى أحدهم أَعمى عن مطلوبه لا يدرى من يعبد ولا بماذا يعبده، فتارة يعبده بذوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه من لبس معين أو كشف رأْس أو حلق لحية ونحوها، وتارة يعبده بالأوضاع التى وضعها بعض المتحذلقين وليس له أصل فى الدين، وتارة يعبده بما تحبه نفسه وتهواه كائناً ما كان.
وهنا طرق ومتاهات لا يحصيها إلا رب العباد، فهؤلاء كلهم عمى عن ربهم وعن شريعته ودينه لا يعرفون شريعته ودينه الذى بعث به رسله وأنزل به كتبه ولا يقبل من أحد ديناً سواه، كما أنهم لا يعرفون صفات ربهم التى تعرف بها إلى عباده على ألسنة رسله ودعاهم إلى معرفته ومحبته من طريقها، فلا معرفة له بالرب ولا عبادة له.
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله تعالى ورجى له النفوذ وقوى على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته، فإِن القواطع كثيرة شأْنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين، ولو شاءَ الله لأَزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد، والوقت كما قيل سيف فإن قطعته وإلا قطعك.
فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاءِ وسوء القضاء وشماتة الأعداءِ إِلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب فيأْخذ بيده ويخلصه من أَيدى القواطع. والله ولى التوفيق.
قاعدة نافعة
العبد من حين استقرت قدمه فى هذا الدار فهو مسافر فيها إلى ربه، ومدة سفره هى عمره الذى كتب له فالعمر هو مدة سفر الإنسان فى هذه الدار إلى ربه تعالى، ثم قد جعلت الأيام والليالى مراحل لسفره: فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهى السفر. فالكيس الفَطنِ هو الذى يجعل كل مرحلة نصب عينيه فيهتم بقطعها سالماً غانماً، فإِذا قطعها جعل الأُخرى نصب عينيه، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ويمتد أمله ويحضر بالتسويف والوعد والتأْخير والمطل، بل يعد عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد فى قطعها بخير ما بحضرته، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل وطوَّعت له نفسه الانقياد إلى التزود، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك فلا يزال هذا دأبه حتى يطوى مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ويبتهج بما أَعده ليوم فاقته وحاجته، فإذا طلع صبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا، فحينئذ يحمد سراه وينجل عنه كراه، فما أَحسن ما يستقبل يومه وقد لاح صباحه واستبان فلاحه.
ثم الناس فى قطع هذه المراحل قسمان: قسم قطعوها مسافرين فيها إلى دار الشقاءِ، فكلما قطعوا مرحلة منها قربوا من تلك الدار وبعدوا عن ربهم وعن دار كرامته فقطعوا تلك المراحل بمساخط الرب ومعاداة رسله وأَوليائه ودينه والسعى فى إِطفاءِ نوره وإٍبطال دعوته وإِقامة دعوة غيرها، فهؤلاء جعلت أيامهم يسافرون فيها إلى الدار التى خلقوا لها [واستعملوا] بها، فهم [مصحبون] فيها بالشياطين الموكلة بهم يسوقونهم إلى منازلهم سوقاً كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تُؤُزُّهُمْ أَزَّاً}* [مريم: 83]، أى تزعجهم، إلى المعاصى والكفر إزعاجاً وتسوقهم سوقاً.
القسم الثانى: قطعوا تلك المراحل سائرين فيها إلى الله وإلى دار السلام. وهم ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات بإذن الله.
وهؤلاء كلهم مستعدون للسير موقنون بالرجعّ إلى الله، ولكن متفاوتون فى التزود وتعبئة الزاد واختياره، وفى نفس السير وسرعته وبطئه.
فالظالم لنفسه مقصر فى الزاد غير آخذ منه ما يبلغه المنزل لا فى قدره ولا فى صفته، بل مفرط فى زاده الذى ينبغى له أن يتزوده، ومع ذلك فهو متزود ما يتأَذى به فى طريقه، ويجد غب أذاه إذا وصل المنزل بحسب ما تزود من ذلك المؤذى الضار.
والمقتصد اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشدَّ مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره، فهو سالم غانم لكن فاتته المتاجر الرابحة وأنواع المكاسب الفاخرة. والسابق بالخيرات همه فى تحصيل الأَرباح وشد أَحمال التجارات لعلمه بمقدار الربح الحاصل، فيرى خسراناً أن يدخر شيئاً مما بيده ولا يتجر به، فيجد ربحه يوم يغتبط التجار بأَرباح تجاراتهم، فهو كرجل قد علم أَن أمامه بلدة يكسب الدرهم فيها عشرة إلى سبعمائة وأكثر، وعنده حاصل وله خبرة بطريق ذلك البلد وخبرة بالتجارة، فهو لو أَمكنه بيع ثيابه وكل ما يملك حتى يهيء به تجارة إِلى ذلك البلد لفعل، فهكذا حال السابق بالخيرات بإِذن ربه يرى خسراناً بيناً أن يمر عليه وقت فى غير متجر.
فنذكر بعون الله وفضله نبذة من متاجر الأقسام الثلاثة ليعلم العبد من أى التجار هو:
فأما الظالم لنفسه فإِنه إذا استقبل مرحلة يومه وليلته استقبلها، وقد سبقت حظوظه وشهواته إِلى قلبه فحركت جوارحه طالبة لها ساعية فيها، فإِذا زاحمها حقوق ربه فتارة وتارة فمرة يأْخذ بالرخصة ومرة بالعزيمة، ومرة يقدم على الذنب وترك الحق تهاوناً ووعداً بالتوبة. فهذا حال الظالم لنفسه مع حفظ التوحيد والإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر والتصديق بالثواب والعقاب فمرحلة هذا مقطوعة بالربح والخسران وهو للأغلب منهما، فإِذا ورد القيامة ميز ربحه من خسرانه وحصل ربحه وحده وخسرانه وحده، وكان الحكم للراجح منهما، وحكم الله من وراءِ ذلك لا يعدم عباده منه فضله وعدله.
وأما المقتصدون فأدوا وظيفة تلك المرحلة ولم يزيدوا عليها ولم ينقصوا منها، فلا حصلوا على أرباح التجار ولا بخسوا الحق الذى عليهم. فإذا استقبل أحدهم مرحلة يومه استقبلها بالطهور التام والصلاة التامة فى وقتها بأركانها وواجباتها وشرائطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التى أذن الله له فيها مشتغلاً بها قائماً بأعيانها مؤدياً واجب الرب عالى فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات وأوراد الأذكار والتوجه، فإذا حضرت الفريضة الأُخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله الأول فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاءَ الليل فكذلك إلى حين النوم يأْخذ مضجعه حتى ينشق الفجر فيقوم إلى غذائه وظيفته فإذا جاء الصوم الواجب ويقوم بحقه، وكذلك الزكاة الواجبة والحج الواجب، وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، لا يظلمهم ولا يترك حقه لهم.
فصل
وأما السابقون بالخيرات فهم نوعان: أبرار ومقربون. وهؤلاء الأَصناف الثلاثة هم أَهل اليمين، وهم المقتصدون والأَبرار والمقربون. وأَما الظالم لنفسه فليس من أَصحاب اليمين عند الإِطلاق وإِن كان مآله إلى أصحاب اليمين كما أنه لا يسمى مؤمناً عند الإطلاق وإن كان مصيره ومآله مصير المؤمنين بعد أخذ الحق منه.
وقد اختلف فى قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ}* [فاطر: 33] الآية. هل ذلك راجع إلى الأصناف الثلاثة: الظالم لنفسه، والمقتصد، والسابق بالخيرات، أو يختص بالقسمين الأَخيرين وهما المقتصد والسابق دون الظالم، على قولين: فذهبت طائفة إلى أَن الأَصناف الثلاثة كلهم فى الجنة، وهذا يروى عن ابن مسعود وابن عباس وأَبى سعيد الخدرى وعائشة أُم المؤمنين، قال أبو إسحق السبيعى: أَما الذى سمعت منذ ستون سنة فكلهم ناج، قال أبو داود الطيالسى: أنبأنا الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صبهان الهنائى قال: سألت عائشة عن قول الله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمَنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}* [فاطر: 32]، فقالت لى: يا بنى، كل هؤلاء فى الجنة، فأما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله يشهد له رسول الله بالخيرة والرزق، وأما المقتصد فمن تبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأَما الظالم لنفسه فمثلى ومثلك. قال: فجعلت نفسها معنا.
وقال ابن مسعود: هذه الأُمة يوم القيامة أثلاث: ثلث يدخلون الجنة بغير حساب، وثلث يوم القيامة يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة، وثلث يجيئون بذنوب عظام، فيقول الله: ما هؤلاء؟ وهو أعلم بهم، فتقول الملائكة: هم مذنبون إلا أَنهم لم يشركوا. فيقول الله: أدخلوهم فى سعة رحمتى، وقال كعب: تحاذت مناكبهم ورب الكعبة وتفاضلوا بأَعمالهم وقال الحسن: السابقون من رجحت حسناتهم، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، والظالم من خفت موازينه واحتجت هذه الفرقة بأنه سبحانه سمى الكل ((مصطفين))، وأخبر أنه اصطفاهم من جملة العباد، ومحال أَن يكون الكافر والمشرك من المصطفين، لأن الاصطفاء هو الاختيار، وهو الافتعال من صفوة الشيء وهو خياره، فعلم أَن هؤلاء الأصناف الثلاثة صفوة الخلق وبعضهم خير من بعض: فسابقهم مصطفى عليهم، ثم مقتصدهم مصطفى على ظالمهم، ثم ظالمهم مصطفى على الكافر والمشرك.
واحتجت أيضاً بآثار روتها تؤيد ما ذهب إليه: فمنها ما رواه سليمان الشاذكونى حدثنا حصين بن بهز عن أَبى ليلى عن أَخيه عن أَبيه عن أُسامة بن زيد عن النبى ﷺ فى هذه الآية قال: كلهم فى الجنة. ومنها ما رواه الطبرانى: حدثنا أحمد بن حماد بن رعية، حدثنا يحيى بن بكير، حدثنا ابن لهيعة عن أحمد بن حازم المعافرى عن صالح مولى التوأمة عن أَبى الدرداءِ قال: قرأَ النبى هذه الآية: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بإِذنِ الله}* [فاطر: 32]، فقال: أَما السابق فيدخل الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالم فيجلس فى طول المحبس ثم يتجاوز الله عنه، ومنها ما رواه زكريا الساجى [عن الحسن بن على الواسطى عن أبى سعيد الخزاعى عن الحسن] بن سالم عن سعد بن ظريف عن أَبى هاشم الطائى قال: قدمت المدينة فدخلت مسجدها فجلست إلى سارية، فجاءَ حذيفة فقال: ألا أُحدثك بحديث سمعته من رسول الله ﷺ؟ يقول: ((يبعث الله تبارك وتعالى هذه الأُمة- أَو كما قال- ثلاثة أصناف، وذلك فى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}* [فاطر: 32]، فالسابق بالخيرات يدخل الجنة بلا حساب والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً، والظالم لنفسه يدخل الجنة برحمة الله.
ومنها ما رواه الطبرانى عن محمد بن إسحاق بن راهوية: حدثنا أبى، حدثنا جرير عن الأعمش عن رجل سماه عن أَبى الدرداءِ قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول فى قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية... قال: ((السابق بالخيرات والمقتصد يدخلان الجنة بغير حساب، والظالم لنفسه يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة)).
ومنها ما رواه ابن لهيعة عن أبى جعفر عن يونس بن عبد الرحمن عن أبى الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول هذه الآية:
{ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَاب الَّذِينَ اصطفيْنَا مِنْ عِبَادِنَا- إِلى قوله -سَابقٌ بِالْخَيْرَات}* [فاطر: 32]، قال: فأَما السابقون فيدخلون الجنة بغير حساب، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً، وأما الظالمون فيحاسبون فيصيبهم عناءُ وكرب ثم يدخلون الجنة ثم يقولون: {الْحَمْدُ للهِ الَّذى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَرَنْ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُور شَكُورٌ}* [فاطر: 34] منها ما رواه الحميدى: حدثنا سفيان، حدثنا طعمة بن عمرو الجعفرى عن رجل قال: قال أبو الدرداءِ لرجل: ألا أُحدثك بحديث أخصك به لم أحدث به أحداً؟ قال رسول الله ﷺ: {فَمِنْهُمْ ظالم لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمنهم سَابِقٌ بالخيَرَات} بإذن الله جَنَّاتُ عَدْنٍ قال: ((دخلوا الجنة جميعاً)).
واحتجت أيضاً بالآيات والأَحاديث التى تشهد بنجاة الموحدين من أهل الكبائر ودخولهم الجنة. واحتجت أيضاً بأَن ظلم النفس إِنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصى، فإِن الظلم ثلاثة أَنواع: ظلم فى حق النفس باتباعها شهواتها وإيثارها لها على طاعة ربها وظلم فى حق الخلق بالعدوان عليهم ومنعهم حقوقهم، وظلم فى حق الرب بالشرك به، فظلم النفس إِنما هو بالمعاصى وقد تواترت النصوص بأَن العصاة من الموحدين مآلهم إلى الجنة.
وقالت طائفة: بل الوعد بالجنات إِنما هو للمقتصد والسابق دون الظالم لنفسه، فإِن الظالم لنفسه لا يدخل تحت الوعد المطلق والظالم لنفسه هنا هو الكافر، والمقتصد المؤمن العاصى والسابق المؤمن التقى. وهذا يروى عن عكرمة والحسن وقتادة، وهو اختيار جماعة من المفسرين منهم صاحب الكشاف ومنذر ابن سعيد فى تفسيره والرمانى وغيرهم، قالوا: وهذه الآية متناولة لجميع أقسام الخلق شقيهم وسعيدهم، وهى نظير آية [قوله تعالي]: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ما أَصْحَابُ المَشأَمَة * وَالْسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ}* [الواقعة: 7- 10]، قالوا: فأصحاب الميمنة هم المقتصدون وأصحاب المشأمة [هم] الظالمون لأنفسهم، والسابقون السابقون هم السابقون بالخيرات.
قالوا: ولم [يصطفى] الله من خلقه ظالماً لنفسه، بل المصطفون من عباده هم صفوته وخيارهم والظالمون لأنفسهم ليسوا خيار العباد بل شرارهم، فكيف يوقع عليهم [اسم المصطفين وتناولهم فعل الأصطفاء؟ قالوا: فأيضاً صفوة الله هم أحباؤه والله لا يحب الظالمين فلا يكونون مصطفين قالوا: ولان الظالم لنفسه وإن كان] ممن أورث الكتاب، فهو بتركه العمل بما فيه قد ظلم نفسه والله [تعالي] إِنما اصطفى من عباده من أورثة كتابه ليعمل بما فيه فأما من نبذه وراء ظهوره فليس من المصطفين من عباده قالوا: ولأن الاصطفاء افتعال من صفوة الشيء وهو خلاصته ولبه، وأصله اصتفى فأُبدلت التاءُ طاءً لوقوعها بعد الصاد كالاصطباح والاصطلام ونحوه، والظالم لنفسه ليس صفوة العباد ولا خلاصتهم ولا لبهم فلا يكون مصطفى، قالوا: ولأن الله سلَّم على المصطفين من عباده فقال: {قُلِ الْحَمْدُ للهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِين اصطفى}* [النمل: 59]، وهذا يقتضى سلامتهم من كل شر وكل عذاب، والظالم لنفسه غير سالم من هذا ولا هذا فكيف يكون من المصطفين؟ قالوا: وأيضاً فطريقة القرآن أن الوعد المطلق بالثواب إِنما يكون للمتقين لا للظالمين كقوله تعالى: {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِى نُورثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً}* [مريم: 63] فأَين الظالم لنفسه هنا؟ وقوله تعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِى وُعِدَ المُتَّقون}* [الفرقان: 15]، وقوله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرةٍ مِن رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعدَّت لِلْمُتَّقِينَ}* [آل عمران: 132]، وقوله: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً* حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً * وَكَأْساً دِهَاقاً * لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا كِذَّاباً * جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً}* [النبأ: 31- 36]، [والقرآن] مملوءٌ من هذا، ولم يجيء [فيه موضع واحد بإطلاق الوعد بالثواب للظالم لنفسه أصلاً وأيضاً فلم يجيء] فى القرآن ذكر الظالم لنفسه إِلا فى معرض الوعيد لا الوعد، كقوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِين}* [الزخرف: 74-76]، وقوله: {فَقَالُوا رَبَّنَا بِاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعْلْنَاهُمْ أحَادِيثَ ومزقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ}* [سبأ: 99]، وقوله: {وَمَا ظَلَمْناهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}* [النحل: 118] [وقوله لا ينال عهدى الظالمين وقوله: أن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون] قالوا: وأَيضاً فالظالم لنفسه هو الذى خفت موازينه ورجحت سيئاته، والقرآن كله يدل على خسارته وأَنه غير ناج كقوله تعالى: { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف: 8-9] وقوله: {وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأُمُّهُ هَاوِيَةٌ}* [القارعة: 8- 9]، فكيف يذكر وعده بجناته وكرامته للظالمين أنفسهم الخفيفة موازينهم؟ قالوا: وأيضاً فقوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ}* [يدخلونها] مرفوع لأنه بدل من قوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ وهو بدل نكرة من معرفة كقوله: {لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ * نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ}* [العلق: 15- 16]، وحسن وقوعه [مجيء النكرة موصوفة لتخصيصها بالوصف وقربها من المعرفة ومعلوم أن المبدل منه هو] ((الفضل الكبير)) مختص بالسابقين بالخيرات، والمعنى أن سبقهم بالخيرات بإذنه ذلك هو الفضل الكبير وهو جنات عدن يدخلونها، وجعل السبق بالخيرات نفس الجنات لأنه سببها وموجبها.
قالوا: وأيضاً فإنه وصف حليتهم فيها بأنها أساور من ذهب ولؤلؤ، وهذه جنات السابقين لا جنات المقتصدين، فإن جنات الفردوس أربع كما ثبت فى الصحيح عن النبى ﷺ أنه قال: ((جنتان من ذهب آنيتهما وحليتهما وما فيهما وجنتان من فضة آنيتهما وحليتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداءُ الكبرياءِ على وجهه فى جنة عدن)).
ومعلوم أن الجنتين الذهبيتين أَعلى وأَفضل من الفضيتين فإذا كانت الجنتان الذهبيتان للظالمين لأنفسهم، فمن يسكن الجنتين الفضتين؟ فعلم أن هذه الجنات المذكورة لا تتناول الظالمين لأنفسهم قالوا: وأيضاً فإن أقرب المذكورات إلى ضمير الداخلين هم السابقون بالخيرات فوجب اختصاصهم بالدخول إلى الجنات المذكورات. قالوا: وفى اختصاصهم- بعد ذكر الأقسام- بذكر ثوابهم والسكوت عن الآخرين ما هو معلوم من طريقة القرآن إذ يصرح بذكر ثواب الأبرار والمتقين والمخلصين [والمحسنين ومن رجحت حسناتهم ويذكر عقاب الكفار] والفجار والظالمين لأنفسهم ومن خفت موازينهم، ويسكت عن القسم الذى فيه شائبتان وله مادتان هذه طريقة القرآن كقوله تعالى:{إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِى نَعِيمٍ* وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِى جَحِيمٍ}*[الانفطار: 13- 14]، وقوله: {فأَمَّا مَن طَغَى * وآثر الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمِ هِى الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِى الْمَأْوَى}* [النازعات 37- 41]، وهذا كثير فى القرآن قالوا: وفى السكوت عن شأْن صاحب الشائبتين تحذير عظيم وتخويف له بأَن أَمره مرجأٌ إلى الله وليس عله ضمان ولا له عنده وعد، وليحذر كل الحذر وليبادر بالتوبة، النصوح التى تلحقه فالمضمون لهم النجاة والفلاح.
@
قالوا: وأيضاً فمن المحال أن يقع على أحد من المصطفين اسم الظلم مطلقاً، على الكافر، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِن قَبْل أن يَأْتِى يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}* [البقرة:254]، وقال [تعالى]: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِن وَلِى وَلا نَصِيرٍ}* [الشورى: 8] مع قوله: {اللهُ وَلِى الَّذِينَ آمَنُوا}* [البقرة: 257] والظالم لا ولى له [ولا] يكون من المؤمنين.
قالوا: وأيضاً فمن تدبر الآيات وتأمل سياقها وجدها قد استوعبت جميع أقسام الخلق، ودلت على مراتبهم فى الجزاءِ، فذكر سبحانه أَن الناس نوعان: ظالم، ومحسن. ثم [قسم] المحسن إلى قسمين: مقتصد، وسابق، ثم ذكر جزاء المحسن، فلما فرغ منه ذكر جزاءَ الظالم فقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ}* [فاطر: 36]، وقال [تعالى]: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّى إِلَهٌ مِن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِى الظَّالِمِينَ}* [الأنبياء: 29]، فذكر أنواع العباد وجزاءَهم قالوا: وأيضاً فهذه طريقة القرآن فى ذكر أصناف الخلق الثلاثة كما ذكرهم الله تعالى فى سورة الواقعة والمطففين وسورة الإنسان، فأما سورة الواقعة فذكرهم فى أولها وفى آخرها فقال فى أولها: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً * فأَصْحَابُ المَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ المَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ * فِى جَنَّاتِ النَّعِيم}*
[الواقعة: 7- 12]، فأصحاب المشأَمة هم الظالمون.
وأما أصحاب اليمين فقسمان: أبرار وهم أَصحاب الميمنة، وسابقون وهم المقربون، وفى آخرها: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ* فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِن كَانَ مِن المُكَذَّبِينَ الضَّالِّينَ * فنُزُلٌ مِنْ حَمِيمِ* وَتَصْلِيةُ جَحِيمٍ}* [الواقعة: 88- 94]، فذكر حالهم فى القيامة الكبرى فى أول السورة، ثم ذكر حالهم فى القيامة الصغرى فى البرزخ فى آخر السورة، ولهذا قدم قبله ذكر الموت ومفارقة الروح فقال: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونها إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 83- 87] ثُمَ قال: {فأَمَّا إِن كَانَ مِن الْمُقَرَّبِين}* [الواقعة: 88] إلى آخرها.
وأما فى أولها فذكر أقسام الخلق عقب قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجّاً * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسّاً * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنبَثاً * وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاثَةً}* [الواقعة: 1- 7]، وأما سورة الإنسان فقال [تعالى]: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً}* [الإنسان: 4] فهؤلاء الظالمون أصحاب المشأَمة قال: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبَون مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}* [الإنسان: 5]، فهؤلاء المقتصدون أصحاب اليمين، ثم قال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللهِ يُفْجِّرُونَهَا تَفْجِيراً}* [الإنسان:6]، فهؤلاء المقربون السابقون، ولهذا خصهم بالإضافة إليه وأخبر أنهم يشربون بتلك العين صرفاً محضاً وأنها تمزج للأبرار مزجاً كما قال فى سورة المطففين فى شراب الأبرار: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}* [المطففين:27-28] وقال: يشرب ((بها)) المقربون، ولم يقل: ((منها)) إشعاراً بأَن شربهم بالعين نفسها خالصة لا بها وبغيرها فضمن ((يشرب)) معنى يروى، فعدَّى بالباءَ، وهذا ألطف مأْخذاً وأَحسن معنى من أن يجعل الباء بمعنى من، [ولكن] يضمن يشرب الفعل معنى فعل آخر، فيتعدى تعديته، وهذه طريقة الحذاق من النحاة وهى طريقة سيبويه وأئمة أصحابه، وقال فى الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}* [الإنسان: 5]، لأن شرب المقربين لما كان أكمل استعير له الباءُ الدالة على شرب الرى بالعين خالصة ودلالة القرآن أَلطف وأَبلغ من أن يحيط بها البَشر.
وقال تعالى فى سورة المطففين: {كَلا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِى سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ} إلى قوله: {كَلا إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الجَحِيمِ * ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِى كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}* [المطففين: 7- 17]، [فهؤلاء الظالمون أصحاب الشمال] ثم قال:
{كَلا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِى [عليين] * وَمَا أَدرَاك مَا عِلِّيُّونَ}* [المطففين: 18- 19]، فهؤلاء الأبرارِ المقتصدون، وأَخبر أن المقربين يشهدون كتابهم- أى يكتب بحضرتهم ومشهدهم- لا يغيبون عنه، اعتناءً به وإظهاراً لكرامة صاحبه ومنزلته عند ربه.
ثم ذكر سبحانه نعيم الأبرار ومجالستهم ونظرهم إلى ربهم وظهور نضرة النعيم فى وجوههم، ثم ذكر شرابهم فقال: {يُسْقَوْنَ مِن رَحِيقٍ مَخْتُومٍ* خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِى ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}* [المطففين: 25- 26]، ثم قال: {وَمِزَاجُهُ مِن تَسنيمٍ * عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}* [المطففين: 27- 28]، [التسنيم] أعلى أشربه الجنة، فأخبر سبحانه أن مزاج شراب الأبرار من التسنيم، وأن المقربين يشربون منه بلا مزاج، ولهذا قال:
{عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المُقَرَّبون} [المطففين: 28]، كما قال تعالى فى سورة الإنسان سواءً، قال ابن عباس وغيره: يشرب بها المقربون صرفاً، ويمزج لأصحاب اليمين مزجاً.
وهذا لأن الجزاءَ وفاق العمل، فكما خلصت أعمال المقربين كلها لله خلص شرابهم، وكما مزج الأبرار الطاعات بالمباحات مزج لهم شرابهم، فمن أخلص أخلص شرابه ومن مزج مزج شرابه.
يا لاهياً فى غمرة الجهل والهوي صريعاً على فرش الردى يتقلـب
تأمل- هداك الله- ما [ثم] وانـتـبه فهذا شراب القوم حقاً يركَّــب
وتركيبه فى هذه الدار إن تفــتت فليس له بعد المنية مطلــــب
فيا عجباً من معرض عن حياتــه وعن حظه العالى ويلهو ويلعـب
ولو علم المحروم أى بضاعــــة أضاع لأمسى قلبه يتلهـــب
فإن كان لا يدرى فتلك مصيبــة وإن كان يدرى فالمصيبة أصعب
بلي سوف يدرى حين ينكشف الغطا ويصبح مسلوباً ينوح وينــدب
ويعجـب ممن باع شـيئاً بدون ما يساوى بلا علم وأمرك أعجـب
لأنك قد بعت الحياة وطيبهـــا بلذة حلم عن قليل [سيذهــب]
فهلا عكست الأمر إن كنت حازماً ولكن أضعت الحزم والحكم يغلب
تصدُّ وتنأى عن حـبيبك دائمــاً فأين عن الأحباب ويحك تذهـب
ستعلم يوم الحشر أى تجــــارة أضـعت إذا تلك الموازين تنصب
قالوا : فهكذا هذه الآيات التي في سورة الملائكة ذكر فيها الأقسام الثلاثة : الظالم لنفسه وهو من أصحاب الشمال ، وذكر المقتصد وهو من أصحاب اليمين ، وذكر السابقين وهم المقربون .
قالوا : وليس في الآية ما يدل على اختصاص الكتاب بالقرآن والمصطفين بهذه الأمة ، بل الكتاب اسم جنس للكتب التي أنزلها على رسله ، فإنه أورثها المصطفين من عباده من كل أمة ، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من عباده من كل أمة ، والأنبياء هم الذين أورثوه أولا ثم أورثوه المصطفين من أممهم بعدهم ، قال تعالى : {ولقد آتينا موسى الهدى وأورثنا بني إسرائيل الكتاب * هدى وذكرى لأولي الألباب}*[غافر 54:53] ، فأخبر أنه إنما يكون هدى وذكرى لمن له لب عقل به الكتاب وعمل بما فيه ، والعامل بما فيه هو الذي أورثه الله علمه .
وتأمل قوله تعالى : {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب}* [الشورى: 14] ، كيف حذف الفاعل هنا وبنى الفعل للمفعول لما كان في معرض الذم لهم ونفي العلم عنهم ، ولما كان في سياق ذكر نعمه وآلائه ومنته عليهم قال : {وأورثنا بني إسرائيل الكتاب}* ، ونظير هذه الآية :
{ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}* [ فاطر: 32] ، ومن ذلك قوله تعالى : {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه}* [ الاعراف: 196] ، وأنه لما كان الكلام في سياق ذمهم على إتباعهم شهواتهم وإيثارهم العرض الفاني على حظهم من الآخرة وتماديهم في ذلك لم ينسب التوريث إليه ، بل نسبه إلى المحل فقال : أورثوا الكتاب ولم يقل : أورثناهم الكتاب وقد ذكرت نظير هذا قوله : {أتيناهم الكتاب}* أنه للمدح ، وأورثوا الكتاب إما في سياق الذم ، وإما منقسم في كتاب " التحفة المكية " الكلية .
والمقصود أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده أولا وآخرا قالوا : وقوله تعالى : {فمنهم ظالم لنفسه}* لا يرجع إلى المصطفين ، بل إما أن يكون الكلام قد تم عند قوله : {من عبادنا}* ثم استأنف جملة أخرى وذكر فيها أقسام العباد وأن منهم ظالم ومنهم مقتصد ومنهم سابق .
ويكون الكلام جملتين مستقلتين : بين في إحداهما أنه أورث كتابه من اصطفاه من عباده ، وبين في الأخرى أن من عباده ظالما ومقتصدا وسابقا ، وإما أن يكون المعنى تقسيم المرسل إليهم بالنسبة إلى قبول الكتاب وأن منهم من لم يقبله وهو الظالم لنفسه ، ومنهم من قبله مقتصدا فيه ، ومنهم من قبله سابقا بالخيرات بإذن الله ، قالوا : والذي يدل على هذا الوجه أنه سبحانه ذكر إرساله في كل أمة نذيرا ممن تقدم هذه الأمة فقال : {وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}* [فاطر: 24]، ثم ذكر أن رسلهم جاءتهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المبين ، الآيات الدالة على صدقهم وصحة رسالاتهم ، والزبر : الكتاب ، واحدها زبور بمعنى مزبور أي مكتوب ، الكتاب المنير : من باب عطف الخاص على العام لتميزه عن المسمى العام بفضله وشرفه امتاز بها واختص بها عن غيره ، وهو كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة ، وكعطف أولى العزم على النبيين من قوله : {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم}* [الأحراب: 7] والكتاب المنير هاهنا : التوراة والإنجيل .
ثم ذكر إهلاك المكذبين لكتابه ورسله فقال : {ثم أخذت الذين كفروا فكيف كان نكير}* [فاطر: 26]، ثم ذكر التالين لكتابه وهم المتبعون له العالمون بشرائعه : فقال : { إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور * ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور}* [فاطر: 29-30].
ثم ذكر الكتاب الذي خص به خاتم أنبيائه ورسله محمد ﷺ فقال : {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير}* [فاطر: 31].
ثم ذكر سبحانه من أورثهم الكتاب بعد أولئك وأنه اصطفاهم لتوريث كتابه إذ رده المكذبون لو يقبلوا توريثه .
قالوا : وأما قولكم : إن الاصطفاء افتعال من الصفوة وهي الخيار وهي إنما تكون في السعداء ، فهذا بعينه حجة لنا في أن الظالم لنفسه ليس ممن اصطفاه الله من عباده وقد تقدم تقريره .
قالوا : وأما الآثار التي رويتموها عن النبي ﷺ في ذلك فكلها ضعيفة الأسانيد ومنقطعة لا تثبت ، كيف وهي معارضة بآثار مثلها أو أقوى منها ، قال ابن مردويه في " تفسيره " : حدثنا الحسن بن عبد الله ، حدثنا صالح بن أحمد ، حدثنا أحمد بن محمد بن المعلي الآدمي ، حدثنا حفص بن عمار ، حدثنا مبارك ابن فضالة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر عن النبي ﷺ في قوله تعالى : {فمنهم ظالم لنفسه}* [فاطر: 32]، قال : الكافر ، قالوا : وأما النصوص الدالة على أن أهل التوحيد يدخلون الجنة فصحيحة لا ننازعكم فيها ، غير أنها مطلقة ، ولكن لها شروط وموانع ، كما أن النصوص الدالة على عذاب أهل الكبائر صحيحة متواترة ، ولها شروط وموانع يتوقف لحوق الوعيد عليها ، فكذلك نصوص الوعد يتوقف مقتضاها على شروطها وانتفاء موانعها . قالوا : وأما قولكم إن ظلم النفس إنما يراد به ظلمها بالذنوب والمعاصي دون الكفر فليس بصحيح ، فقد ذكر في القرآن ما يدل على أن ظلم النفس يكون بالكفر والشرك ، ولو لم يكن في هذا إلا قول موسى لقومه : {يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل}* [البقرة: 54]، وقوله عز وجل :
{وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث مزقناهم كل ممزق}* [سبأ: 19] ونظائره كثيرة .
قالت الطائفة الأولى : لو تدبرتم القرآن حق تدبره وأعطيتم الآيات حقها من الفهم وراعيتم وجوه الدلالة وسياق الكلام ، لعلمتم أن الصواب معنا وأن
( هذه الأقسام الثلاثة من الأقسام التي خلقت للجنة وهم درجات عند الله وأن ) هذا التقسيم الذي دلت عليه أخص من التقسيم المذكور في سورة الواقعة والإنسان والمطففين ، فإن ذلك تقسيم للناس إلى شقي وسعيد ، وتقسيم السعداء إلى أبرار ومقربين ، وتلك القسمة خالية عن ذكر العاصي الظالم لنفسه ، وأما هذه الآيات ففيها تقسيم الأمة إلى محسن ومسيئ ، فالمسيئ هو الظالم لنفسه ، والمحسن نوعنان مقتصد وسابق بالخيرات ، فإن الوجود شامل لهذا القسم ، بل هو أغلب أقسام الأمة فكيف يخلو القرآن عن ذكره وبيان حكمه ، ثم لما استوفى أقسام الأمة ذكر الخارجين عنهم وهم الذين كفروا فعمت الآية أقسام الخلق كلهم ، وعلى ما ذهبتم إليه تكون الآية قد أهملت ذكر القسم الأغلب الأكثر وكررت ذكر حكم الكافر أولا وآخرا .
ولا ريب أن ما ذكرناه أولى لبيان هذا القسم وعموم الفائدة ، وأيضا فإن قوله تعالى : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}* [فاطر: 32]صريح في أن الذين أورثهم الكتاب هم المصطفون من عباده ، وقوله عز وجل : {فمنهم ظالم لنفسه}* [فاطر: 32] إما أن يرجع إلى الذين اصطفاهم ، وإما أن يرجع إلى العباد ، ورجوعه إلى الذين اصطفاهم لوجهين : أحدهما أن قوله تعالى : {ومنهم مقتصد ومنهم سابق}* [فاطر: 32]، إنما يرجع إلى المصطفين لا إلى العباد لأن سياق الآية والإتيان بالفاء والتقسيم المذكور كله يدل على أن المراد بيان أقسام الوارثين للكتاب لا بيان أقسام العبد ، إذ لو أراد ذلك لأتى بلفظ يزيل الوهم ولا يلتبس به المراد بغيره ، وكأن وجه الكلام الذي يدل عليه ظاهره . الثاني : أنك إذا قلت : أعطيت مالي البالغين من أولادي فمنهم تاجر ومنهم خازن ومنهم مبذر ومسرف ، هل يفهم من هذا أحد قط أن هذا التقسيم لجملة أولاده ، بل لا يفهم منه إلا أن أولاده كانوا في أخذهم المال أقساما ثلاثة ، ولهذا أتي فيها بالفاء الدالة على تفصيل ما أجمله أولا كما إذا قلت : خذ هذا المال فأعط فلانا كذا وأعط ( فلانا ) كذا ، ونظائره متعددة ، ولا وجه للإتيان بالفاء هاهنا إلا تفصيل المذكور أولا ، لا تفصيل المسكوت عنه والآية قد سكتت عن تفصيل العباد الذين اصطفى منهم من أورثه الكتاب ، فالتفصيل للمذكور ليس إلا ، فتأمله فإنه واضح .
قالوا : وأما قولكم إن الله لا يصطفي من عباده ظالما لنفسه لأن الاصطفاء هو الاختيار من الشئ صفوته وخياره إلى آخر ما ذكرتم فجوابه أن كون العبد المصطفى لله ووليا لله ومحبوبا لله ونحو ذلك من الأسماء الدالة على شرف منزلة العبد وتقريب الله له لا ينافي ظلم العبد نفسه أحيانا بالذنوب والمعاصي بل أبلغ من ذلك أن صديقيته لا تنافي ظلمه لنفسه ، ولهذا قال صديق الأمة وخيارها للنبي ﷺ : علمني دعاء أدعو به في صلاتي ، فقال : ((قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك أنت الغفور الرحيم)) .
وقد قال تعالى : {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين * الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين * والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم}* [آل عمران: 133-135].
فأخبر سبحانه عن صفات المتقين وأنهم يقع منهم ظلم النفس والفاحشة لكن لا يصرون على ذلك ، وقال تعالى : {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون * لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين * ليكفر الله عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذي كانوا يعملون}* [الزمر: 33-35] فهؤلاء الصديقون المتقون قد أخبر سبحانه أن لهم أعمالا سيئة يكفرها ، ولا ريب أنها ظلم للنفس وقال موسى : {رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم}* [ القصص: 16] ، وقال آدم عليه السلام : {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين}* [ الأعراف: 23]، وقال يونس عليه السلام : {لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين}* [ الأنبياء: 87]، وقال تعالى : {إني لا يخاف لدي المرسلون * إلا من ظلم ثم بدل حسنا بعد سوء فإني غفور رحيم}* [ النمل: 11] .
وإذا كان ظلم النفس لا ينافي الصديقية والولاية ، ولا يخرج العبد عن كونه من المتقين ، بل يجتمع فيه الأمران يكون وليا لله صديقا متقيا وهو مسيئ ظالم لنفسه ، علم أن ظلمه لنفسه لا يخرجه عن كونه من الذين اصطفاهم الله من عباده وأورثهم كتابه ، إذ هو مصطفى من جهة كونه من ورثة الكتاب علما وعملا ، ظالم لنفسه من جهة تفريطه في بعض ما أمر به وتعديه بعض ما نهي عنه ، كما يكون الرجل وليا لله محبوبا له من جهة ومبغوضا له من جهة أخرى ، وهذا عبد الله حمار كان يكثر شرب الخمر والله يبغضه من هذه الجهة ، ويحب الله ورسوله ويحبه الله ويواليه من هذه الجهة ، ولهذا نهى النبي ﷺ عن لعنه وقال : إنه يحب الله ورسوله ونكتة المسألة أن الاصطفاء والولاية والصديقية وكون الرجل من الأبرار ومن المتقين ونحو ذلك كلها مراتب تقبل التجزيء والانقسام والكمال والنقصان كما هو ثابت باتفاق المسلمين في أصل الإيمان ، وعلى هذا فيكون هذا القسم مصطفى من وجه ظالما لنفسه من وجه آخر .
وظلم النفس نوعان : نوع لا يبقى معه شيء من الإيمان والولاية والصديقية والاصطفاء وهو ظلمها بالشرك والكفر ، ونوع يبقى معه حظه من الإيمان والاصطفاء والولاية وهو ظلمها بالمعاصي ، وهو درجات متفاوتة في القدر والوصف .
فهذا التفصيل يكشف قناع المسألة ويزيل أشكالها بحمد الله . قالوا : وأما قولكم : إن قوله تعالى : {جنات عدن}* مرفوع لأنه بدل من قوله : {ذلك هو الفضل الكبير}* [فاطر: 32] [الشورى: 22] وهو مختص بالسابقين ، وذكر حليتهم فيها من أساور من ذهب يدل على ذلك إلخ .
فجوابه من وجهين : أحدهما أن هذا بعينه وارد عليكم ، فإن المقتصد من أهل الجنات ، ومعلوم أن جنات السابقين بالخيرات أعلى وأفضل من جناته ، فما كان جوابكم عن المقتصد فهو الجواب بعينه عن الظالم لنفسه ، فإن التفاوت حاصل بين جنات الأصناف الثلاثة ، ويختص كل صنف بما يليق بهم ويقتضيه مقامهم وعملهم .
الجواب الثاني : أنه سبحانه ذكر جزاء السابقين بالخيرات هنا مشوقا لعباده إليه منبها لهم على مقداره وشرفه ، وسكت عن جزاء الظالمين لأنفسهم والمقتصدين ليحذر الظالمون ويجد المقتصدون ، وذكر في سورة الإنسان جزاء الأبرار منبها على ما هو أعلى وأجل منه وهو جزاء المقربين السابقين ليدل على أن هذا إذا كان جزاء الأبرار المقتصدين فما الظن بجزاء المقربين السابقين فقال تعالى : {إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا}* إلى قوله :
{ويطاف عليه بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة}* إلى قوله : { عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا}* [ الإنسان: 5-21]، فذكر هنا الأساور من الفضة والأكواب من الفضة في جزاء الأبرار ، وذكر في سورة الملائكة الأساور من الذهب في جزاء السابقين بالخيرات ، فعلم جزاء المقتصدين من سورة الإنسان ، وعلم جزاء السابقين من سورة الملائكة ، فانتظمت السورتان جزاء المقربين على أتم الوجوه ، والله أعلم بأسرار كلامه وحكمه .
قالوا : وهذا هو الجواب عن قولكم : إن الضمير يختص به أقرب مذكور إليه .
قالوا : وأما قولكم إن الظالم لنفسه إنما هو الكافر فقد تقدم جوابه وذكر ما يبطله .
قالوا : وأما قولكم : إن هذا الآيات نظير آيات الواقعة وسورة الإنسان وسورة المطففين في تقسيم الناس إلى ثلاثة أقسام : أصحاب الشمال ، وأصحاب اليمين ، والمقربون .
فلا ريب أن هذه الآية وافية بالأقسام الثلاثة مع مزيد تقسيم آخر وهو تقسيم أصحاب اليمين إلى ظالم لنفسه ومقتصد فهي مشتملة على تلك الأقسام وزيادة .
قالوا : وأما قولكم : إن الآثار الدالة على أن الأصناف الثلاثة هم السعداء أهل الجنة ضعيفة لا تقوم بها حجة فجوابه : إنها قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ويشهد بعضها لبعض ، ونحن نسوق منها آثارا غير ما ذكرناه يعلم به كثرتها وتعدد طرقها ، فروى ابن مردويه في تفسيره من حديث سفيان عن الأعمش عن رجل عن أبي ثابت أن رجلا دخل المسجد فقال : اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي وسق لي جليسا صالحا . فقال أبو الدرداء : إن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك ، سمعت رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية : {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات}* [فاطر: 32]، مقال : أما السابق بالخيرات فيدخله الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام حتى يدخله الهم والحزن ثم يدخل الجنة ثم قرأ هذه الآية : {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}*[فاطر: 34] .
وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي ليلى عن أخيه عيسى عن أبيه عن أسامة بن زيد في قوله تعالى :
فنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد}* قال : قال : رسول الله ﷺ ((كلهم من هذه الأمة)) .
وروى ابن مردويه أيضا من حديث الفضل بن عميرة القيسي عن ميمون بن سياه عن أبي عثمان النهدي قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول على المنبر : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ((سابقنا سابق ومقتصدنا ناج ، وظالمنا مغفور له)) ، وقرأ عمر : { فمنهم ظالم لنفسه ، ومنهم مقتصد ، ومنهم سابق بالخيرات}* .
وروى أيضا من حديث أبي داود عن شعبة عن الوليد بن العيراز قال : سمعت رجلا من ثقيف يحدث عن رجل من كنانة عن أبي سعيد أن النبي ﷺ قال في هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}* ، قال ((كلهم في الجنة)) ، أو قال : ((كلهم بمنزلة واحدة)) . قال شعبة : أحدهما ، ورواه دواد بن إبراهيم عن شعبة به وقالوا : دخلوا الجنة كلهم بمنزلة واحدة . فهذا حديث صحيح إلى شعبة وإذا كان شعبة في حديث لم يطرح ، بل شد يديك به . ورواه يحيى بن سعيد عن الوليد بن العيزار فذكره بمثله ، وروى محمد بن سعد عن أبيه عن عمه : حدثنا أبي عن أبيه عن ابن عباس في قوله عز وجل : { ثم أروثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}* الآية ، قال : جعل الله أهل الإيمان على ثلاث منازل كقوله : { وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال}* { وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين}* ، { والسابقون السابقون أولئك المقربون}* فهم على هذا المثال .
قلت : يريد ابن عباس أن الله قسم أصحاب اليمين إلى ثلاث منازل كما قسم الخلق في الواقعة إلى ثلاث منازل ، فإن أصحاب الشمال المذكورين في الواقعة هم الكفار المنكرون للبعث ، فكيف تكون هذه منزلة من منازل أهل الإيمان؟ ويجوز أن يريد أن الظالمين لأنفسهم المستحقين للعذاب هم من أهل الشمال ، ولكن إيمانهم يجعلهم آخرا من أهل اليمين . وروي من حديث معاوية بن صالح عن علي بن أبي (طلحة) عن ابن عباس في هذه الآية فقال : هم أمة محمد ﷺ ورثهم الله (سبحانه) كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابا يسيرا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب .
وروي من حديث عثمان بن أبي شيبة حدثنا الحسن بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، حدثنا عمران بن محمد بن أبي ليلى ، حدثنا أبي عن الحكم ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء بن عازب- أو عن رجل عن البراء بن عازب- قال : قال رسول الله ﷺ : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله}* ، قال : ((كلهم ناج وهي هذه الأمة)) .
ورواه الفريابي حدثنا سفيان عن أبي ليلى عن الحكم عن رجل حدثه عن البراء قال : قال رسول الله ﷺ في هذه الآية : { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا}* الآية ، قال ((كل ناج)) .
وقال آدم بن أي إياس : حدثنا أبو فضالة عن الأزهري عبد الله الخزاز ، حدثنا من سمع عثمان بن عفان يقول : ألا إن سابقنا أهل جهادنا ، ألا وإن مقتصدنا أهل حضرنا ألا وإن ظالمنا أهل بدونا ، وقد تقدم حديث عائشة وأبي الدرداء وحذيفة . قالوا : فهذه الآثار يشد بعضها بعضا ، وأنها قد تعددت طرقها واختلفت مخارجها وسياق الآية يشهد لها بالصحة فلا يعدل عنها .
والمقصود الكلام على مراحل العالمين وكيفية قطعهم إياها ، فلنرجع إليه فنقول : أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل سائرين إلى دار الشقاء متزودين غضب الرب سبحانه ومعاداة كتبه ورسله ما بعثوا به ، ومعاداة أوليائه والصد عن سبيله ، ومحاربة من يدعو إلى دينه ، ومقاتلة الذين يأمرون بالقسط من الناس ، وإقامة دعوة غير دعوة الله التي بعث بها رسله لتكون الدعوة له واحدة ، فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل أعمارهم في ضد ما يحبه الله ويرضاه ، وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ،لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواه ، يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله ، فهذا حال المسلم .
وأما من زين له سوء عمله فرآه حسنا وهو غير معترف ولا مقر ولا عازم على الرجوع إلى الله الإنابة إليه أصلا ، فهذا لا يكاد إسلامه أن يكون صحيحا أبدا ولا يكون هذا إلا منسلخ القلب من الإيمان ، ونعوذ بالله من الخذلان .
وأما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة ، فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمر الله ، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاة والأذكار إلى حين تطلع الشمس فيركع الضحى ، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب ، فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما كما أمر مكملا لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه ، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها ، قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر ، وحببت إليه لقاء الله ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة ، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه ، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة .
هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن لا يخلون منها بشيء ما أمكنهم ، فيقصدون من الوضوء أكمله ، ومن الوقت أوله ، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره ، ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة كالاستغفار ثلاثا .
وقول : ((اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام)) .
وقول : ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)) ، ((لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون)) .
ثم يسبحون ويحمدون ويكبرون تسعها وتسعين ، ويختمون المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير .
ومن أراد المزيد قرأ آية الكرسي والمعوذتين عقيب كل صلاة ، فإن فيها أحاديث رواها النسائي وغيره ، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه هذا دأبهم في كل فريضة . فإذا كان قبل غروب الشمس توافروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلون بها بأبدا ، فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده ، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم والواردة في السنة ، وهي كثيرة تبلغ نحوا من أربعين ، فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه من قراءة سورة الإخلاص والمعوذتين ثلاثا ثم يمسحون بها رؤوسهم ووجوههم وأجسادهم ثلاثا ، ويقرؤون آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة ، ويسبحون ثلاثا وثلاثين ويحمدون ثلاثا وثلاثين ويكبرون أربعا وثلاثين ، ثم يقول أحدهم : ((اللهم إني أسلمت نفسي إليك ، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك ، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، ونبيك الذي أرسلت)) ، وإن شاء قال : ((باسمك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه ، فإن أمسكت نفسي فاغفر لها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين)) ، وإن شاء قال : ((اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، ربي ورب كل شيء فالق الحب والنوى ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عني الدين واغنني من الفقر)) .
وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله ، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربة من الله ، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى ، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى وتشييع الجنائز وإجابة الدعوة والمعاونة لهم بالجاه والبدن والنفس والمال وزيارتهم وتفقدهم ، وقائم بحقوق أهله وعياله ، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر ، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الإعتذار والتوبة والاستغفار ، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره فهذا وظيفته دائما .
وأما السابقون المقربون : فنستغفر الله الذين لا إله غلا هو أولا من وصف حالهم وعدم التصاف به ، بل ما شممنا له رائحة . ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم والعلم بها ، وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ،
ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة :
( فوائد معرفة حال السابقين المقربين ) :
منها : أن لا يزال المتخلف المسكين مزريا على نفسه ذاما لها .
ومنها : أنه لا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلا له حقيرا يشهد منازل السابقين وهو في زمرة المنقطعين ، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين .
ومنها : أنه عساه أن تنهض همته يوما إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد .
ومنها : أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة لا يسأل الله عز وجل فيها شيئا إلا أعطاه .
ومنها : أن هذا العلم هو من أشرف علوم العبادة ، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه، وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ، ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة ، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم وتشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير فقد أهل له ، فليقل لنفسه : يا نفس ، فقد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر ، فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به ، فقد قطعت نصف المسافة فهلا تقطعين باقيا فتفوزين فوزا عظيما .
(يتبع...)
@ومنها : أن العلم بكل حال خير من الجهل ، فإذا كان اثنان أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به ، وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين ، فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل ، وإن كان العالم المتصف به خيرا منهما فينبغي أن يعطي كل ذي حق حقه وينزل في مرتبته .
ومنها : أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه فلا بد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة لو بارقة ، ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه .
ومنها : أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده ، والله لا يضيع مثقال ذرة فعسى أن يرحم بذلك العامل .
وبالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر فلا ينبغي أن تصغي إلى من يثبطك عنه وتقول : إنه لا ينفع بل احذره واستعن بالله ولا تعجز ولكن لا تغتر ، وفرق بين العلم والحال ، وإياك أن تظن أن بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله ، هيهات ما أظهر الفرق بين العلم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغني بالفعل ، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل .
فاسمع الآن وصف القوم وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل ، فإن وجدت من نفسك حركة وهمة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل فالطريق واضح والباب مفتوح :
إذا أعجبتك خصـال امريء فكنه تكن مثل ما يعجبـك
فليس على الجود والمكر مـا ت إذا جئتها حاجب يحجبك
فنبأ القوم عجيب ، وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم ، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك .
وجلمة أمرهم : أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله ، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته ، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب .
قد أنساهم حبه ذكر غيره ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه . وقد فنوا بحبه عن حب من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه والتوكل عليه والإنابة إليه والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره. فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إِلهه ومولاه واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسماءَه الحسنى مشاهداً له فى أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه فى فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أَوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته.
فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأْسه منها إلى يوم اللقاءِ.
وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدى ربه؟ قال: أى والله، بسجدة لا يرفع رأْسه منها إلى يوم القيامة.
فشتان بين قلب يبيت عنه ربه قد قطع فى سفره إليه بيداءَ الأَكوان وخرق حجب الطبيعة، ولم يقف عند رسم، ولا سكن إلى علم حتى دخل على ربه فى داره فشاهد عز سلطانه وعظمة جلاله وعلو شأْنه وبهاءَ كماله، وهو مستو على عرشه يدبر أمر عباده وتصعد إليه شؤون العباد وتعرض عليه حوائجهم وأعمالهم، فيأْمر فيها بما يشاءُ، فينزل الأمر من عنده نافداً [كما أمر]، فيشاهد الملك الحق قيوماً بنفسه مَقِّيمَاً لكل ما سواه غنياً عن كل من سواه وكل من سواه فقير إِليه: {يَسْأَلُهُ مَن فِى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِى شَأْنٍ}* [الرحمن:29]، يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويفك عانياً وينصر ضعيفاً ويجبر كسيراً ويغنى فقيراً ويميت ويحيى ويسعد ويشقى ويضل ويهدى وينعم على قوم ويسلب نعمته عن آخرين ويعز أَقواماً ويذل آخرين ويرفع أَقواماً ويضع آخرين.
ويشهده كما أَخبر عنه أعلم الخلق به وأصدقهم فى خبره حيث يقول فى الحديث الصحيح: ((يمين الله ملأَى لا يغيضها نفقة، سحاءَ الليل والنهار، أَرأَيتم ما أنفق منذ خلق الخلق فإِنه لم يغض ما فى يمينه، وبيده الأُخرى الميزان يخفض ويرفع))، فيشاهده كذلك يقسم الأرزاق ويجزل العطايا ويمن بفضله على من يشاءُ من عباده بيمينه، وباليد الأُخرى الميزان يخفض به من يشاء ويرفع به من يشاءُ عدلاً منه وحكمة لا إله إلا هو العزيز الحكيم، فيشهده وحده القيوم بأمر السموات والأرض ومن فيهن، ليس له بواب فيستأْذن ولا حاجب فيدخل عليه، ولا وزير فيؤتى ولا ظهير فيستعان به ولا ولى من دونه فيشفع به إليه، ولا نائب عنه فيعرفه حوائج عباده، ولا معين له فيعاونه على قضائها، [بل قد] أحاط سبحانه بها علماً ووسعها قدرة ورحمة، فلا تزيده كثرة الحاجات إلا جوداً وكرماً، ولا يشغله منها شأْن عن شأْن، ولا تغلطه كثرة المسائل، ولا يتبرم بإلحاح الملحين.
لو اجتمع أول خلقه وآخرهم وإنسهم وجنهم وقاموا فى صعيد واحد ثم سأَلوه فأعطى كلا منهم مسأَلته ما نقص ذلك مما عنده ذرة واحدة إلا كما ينقص المخيط البحر إذا غمس فيه.
ولو أن أولهم وآخرهم وإنسهم وجنهم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منهم ما زاد ذلك فى ملكه شيئاً ذلك بأنه الغنى الجواد الماجد، فعطاؤه [من] كلام وعذابه كلام: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرادَ شَيئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}* [يس:82].
ويشهده كما أخبر عنه أيضاً الصادق المصدوق حيث يقول: ((إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ وَلا يَنْبَغِى لَهُ أَنْ يَنَامَ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَملُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَار وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سَبَحاتُ وَجْهِهِ ما أَدْرَكَهُ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ)).
وبالجملة فيشهده فى كلامه فقد تجلى سبحانه وتعالى لعباده فى كلامه وتراءَى لهم فيه وتعرف إليهم فيه، فبعداً وتباً للجاحدين والظالمين: {أَفِى اللهِ شَك فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}* [إبراهيم: 10] إلا إِله إلا هو الرحمن الرحيم.
فإذا صارت صفات ربه وأسماؤه مشهداً لقلبه أنسته ذكر غيره وشغلته عن حب من سواه، وحديث: دواعى قلبه إلى حبه تعالى بكل جزءٍ من أجزاء قلبه وروحه وجسمه، فحينئذ يكون الرب سبحانه سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به ويده التى يبطش بها، ورجله التى يمشى بها. فبه يسمع وبه يبصر، وبه يبطش، وبه يمشى.
كما أخبر عن نفسه على لسان رسوله ﷺ: ((ومن غلظ حجابه وكثف طبعه وصلب عوده فهو عن فهم هذا بمعزل، بل لعله أن يفهم منه ما لا يليق به تعالى من حلول أو اتحاد، أَو يفهم منه غير المراد منه فيحرف معناه، ولفظه: {وَمَن لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ}* [النور: 40]. وقد ذكرت معنى الحديث والرد على من حرفه وغلط فيه فى كتاب ((التحفة المكية)).
وبالجملة فيبقى قلب العبد- الذى هذا شأْنه- عرشاً للمثل الأعلى أى عرشاً لمعرفة محبوبه ومحبته وعظمته وجلاله وكبريائه، وناهيك بقلب هذا شأْنه فياله من قلب من ربه ما أَدناه ومن قربه ما أحظاه، فهو ينزه قلبه أن يساكن سواه أو يطمئن بغيره، فهؤلاءِ قلوبهم قد قطعت الأكوان وسجدت تحت العرش وأبدانهم فى فرشهم كما قال أبو الدرداءِ: إذا نام العبد المؤمن عرج بروحه حتى تسجد تحت العرش، فإن كان طاهراً أذن لها فى السجود، وإن كان جنباً لم يؤذن لها بالسجود وهذا والله أعلم هو السر الذى لأجله ((أمر النبى ﷺ الجنب إذا أراد النوم أن يتوضأ))، وهو إما واجب على أحد القولين، أو مؤكد الاستحباب على القول الآخر، فإن الوضوءَ يخفف حدث الجنابة ويجعله طاهراً من بعض الوجوه.
ولهذا روى الإمام أحمد وسعيد بن منصور وغيرهما عن أصحاب رسول الله ﷺ: إنهم إذا كان أحدهم جنباً ثم أراد أن يجلس فى المسجد توضأ ثم جلس فيه، وهذا مذهب الإمام أحمد وغيره، مع أن المساجد لا تحل لجنب، [فدل]على أن وضؤه رفع حكم الجنابة المطلقة الكاملة التى تمنع الجنب من الجلوس فى بيت الله وتمنع الروح من السجود بين يدى الله سبحانه.
فتأمل هذه المسألة وفقهها واعرف مقدار فقه الصحابة وعمق علومهم، فهل ترى أحداً من المتأخرين وصل إلى مبلغ هذا الفقه الذى خص الله به خيار عباده وهم أصحاب نبيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءُ والله ذو الفضل العظيم.
فإذا استيقظ هذا القلب من منامه صعد إلى الله بهمه وحبه وأشواقه مشتاقاً إليه طالباً له محتاجاً [له] عاكفاً عليه، فحاله كحال المحب الذى غاب عن محبوبه الذى لا غنى له عنه ولا بد له منه، وضرورته إليه أعظم من ضرورته إلى النفس والطعام والشراب، فإذا نام غاب عنه فإذا استيقظ عاد إلى الحنين إليه، وإلى الشوق الشديد [والحب] المقلق فحبيبه آخر خطراته عند منامه وأولها عند استيقاظه كما قال بعض المحبين لمحبوبه:
وآخر شيء أنت فى كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي
فقد أفصح هذا المحب عن حقيقة المحبة وشروطها، فإذا كان هذا فى محبة مخلوق لمخلوق فما الظن فى محبة المحبوب الأعلى، فأُف لقلب لا يصلح لهذا ولا يصدق به، لقد صرف عنه خير الدنيا والآخرة.
فصل
فإذا استيقظ أحدهم [وقد بدر] إلى قلبه هذا الشأْن فأَول ما يجرى على لسانه ذكر محبوبه والتوجه إِليه واستعطافه والتملق بين يديه والاستعانة به أَن لا يخلى بينه وبين نفسه وأَن لا يكله إليها فيكله إلى ضعة وعجز وذنب وخطيئة بل يكلأه كلاءَة الوليد الذى لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فأَول ما يبدأُ به الحمد لله الذى أحيانا بعد ما أَماتنا وإليه النشور، متدبراً لمعناها من ذكر نعمة الله عليه بأَن أحياه بعد نومه الذى هو أخو الموت وأعاده إلى حاله سوياً سليماً محفوظاً مما لا يعلمه ولا يخطر بباله من المؤذيات [المهلكات] والتى هو غرض وهدف لسهامها كلها تقصده بالهلاك أو الأذى والتى من بعضها [أرواح] شياطين الإنس والجن، فإِنها تلتقى بروحه إذا نام فتقصد إهلاكه وأذاه، فلولا أَن الله سبحانه يدفع عنه لما سلم. هذا [وكم تتلقى] الروح فى تلك الغيبة من أَنواع الأَذى والمخاوف والمكاره والتفزيعات ومحاربة الأعداءِ والتشويش والتخبيط بسبب ملابستها لتلك الأَرواح، فمن الناس من يشعر [بذلك لرقة روحه ولطافتها ويجد اثار ذلك فيها] إذا استيقظ من الوحشة والخوف والفزع والوجع الروحى الذى ربما غلب حتى سرى إلى البدن، ومن الناس من تكون روحه أَغلظ وأكثف وأقسى من أن تشعر بذلك، فهى مثخنة بالجراح مزمنة بالأَمراض ولكن لنومها لا تحس بذلك.
هذا، وكم من مريد لإهلاك جسمه من الهوام وغيرها، وقد حفظه منه فهى فى أحجارها محبوسة عنه لو خليت وطبعها لأهلكته، فمن ذا الذى كلأَه وحرسه وقد غاب عنه حسه وعلمه وسمعه وبصره، فلو جاءَه البلاءُ من أَى مكان جاءَ لم يشعر به، ولهذا ذكر سبحانه عباده هذه النعمة وعدها عليهم من جملة نعمه فقال: {مَن يَكْلأَكُمْ بِاللَّيْلِ وَالْنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}* [الأنبياء: 42].
فإذا تصور العبد ذلك فقال: ((الْحَمْدُ للهِ)) كان حمده أَبلغ وأَكمل من حمد الغافل عن ذلك، ثم تفكر فى أَن الذى أَعاده بعد هذه الإماتة حياً سليماً قادراً على أَن يعيده بعد موتته الكبرى حياً كما كان، ولهذا يقول بعدها: ((وَإِلَيْهِ الْنُّشُورُ))، ثم يقول: ((لا إِلَهَ إِلا الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَالْحَمْدُ للهِ وسُبْحَانَ الله وَلا إِلَهَ إِلا اللهُ وَاللهُ أَكْبَرُ وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا بِاللهِ)) ثم يدعو ويتضرع، ثم يقوم إلى الوضوء بقلب حاضر مستصحب لما فيه، ثم يصلى ما كتب الله [له] صلاة محب ناصح لمحبوبه متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه يرى من أَعظم نعم محبوبه عليه أَن أَقامه وأَنام غيره، واستزاره وطرد غيره، وأهله وحرم غيره، فهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أَن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره فى تلك الصلاة، فهو يتمنى طول ليله ويهتم بطلوع الفجر كما يتمنى المحب الفائز بوصول محبوبه ذلك، فهو كما قيل:
يود أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر
فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه، العزيز الرحيم، ويناجيه بكلامه معطياً لكل آية حظها من العبودية، فتجذب قلبه وروحه إليه آيات المحبة والوداد، والآيات التى فيها الأَسماءُ والصفات، والآيات التى تعرف بها إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم وإِحسانه إِليهم، وتطيب له السير آيات الرجاءِ والرحمة وسعة البر والمغفرة، فتكون له بمنزلة الحادى الذى يطيب له السير ويهونه [عليه]، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإِحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه ويمنعه أن يشرد قلبه عنه.
فتأَمل هذه الثلاثة وتفقه فيها، والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبالجملة فيشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى فى كلامه ويعطى كل آية حظها من عبودية قلبه الخاصة الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأْن آخر لو فطن له العبد لعلم أَنه كان قبل يلعب، كما قيل:
وكنت أَرى أن قد تناهى بى الهوى إِلى غاية ما بعدها لى مذهب
فلما تلاقينا وعاينت حسنـــها تيقنت أَنى إِنما كنت أَلعـب
فوا أَسفاه وواحسرتاه، كيف ينقضى الزمان وينفد العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إِليها وما ذاق أَطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً وموته كمداً ومعاده حسرة وأسفاً.
اللَّهم [ولك] الحمد وإليك المستشكى، وأنت المستعان وبك المستغاث، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
فصل
فإِذا صلى ما كتب الله جلس مطرقاً بين يدى ربه [تعالى] هيبة له وإِجلالاً، واستغفره استغفار من قد تيقن أَنه هالك إن لم يغفر له ويرحمه.
فإذا قضى من الاستغفار وطرا وكان عليه بعد ليل اضطجع على شقه الأَيمن مجماً نفسه مريحاً لها مقوياً على أَداءِ وظيفة الفرض، فيستقبله نشيطاً بجده وهمته كأنه لم يزل طول ليلته لم يعمل شيئاً، فهو يريد أَن يستدرك ما فاته فى صلاة الفجر، فيصلى السُّـنَّة ويبتهل إلى الله بينها وبين الفريضة، فإِن لذلك الوقت شأْناً يعرفه من عرفه، ويكثر فيه من قول: ((يَا حَى، يَا قَيُّوم، لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ)) فلهذا الذكر فى هذا الموطن تأثير عجيب، ثم ينهض إلى صلاة الصبح قاصداً الصف الأول عن يمين الإِمام أو خلف قفاه، فإِن فاته ذلك قصد القرب منه مهما أمكن فإِن للقرب من الإِمام تأثيراً فى سر الصلاة، ولهذا القرب تأْثير فى صلاة الفجر خاصة يعرفه من عرف قوله تعالى: { وَقُرْآنَ الْفَجْر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْر كَانَ مَشْهُوداً }* [الإسراء: 78].
قيل: يشهد الله عَزَّ وجَلَّ وملائكته، وقيل: يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، فيتفق نزول هؤلاء البدل عند صعود أولئك فيجتمعون فى صلاة الفجر، وذلك لأنها هى أول ديوان النهار وآخر ديوان الليل فيشهده ملائكة الليل والنهار.
واحتج لهذا القول بما فى الصحيح من حديث الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: ((فَضْلُ صَلاةِ الْجَمِيعِ عَلَى صَلاةِ الْوَاحِدِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً))، ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار فى صلاة الفجر لقول أبى هريرة: واقرؤوا إن شئتم: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً}* [الإسراء: 87] رواه البخارى فى الصحيح.
قال أصحاب القول الأول: وهذا لا ينافى قولنا، وهو أن يكون الله سبحانه وملائكة الليل والنهار يشهدون قرآن الفجر، وليس المراد الشهادة العامة، فإن الله على كل شيء شهيد، بل المراد شهادة خاصة وهى شهادة حضور ودنوّ متصل بدنو الرب [تعالى] ونزوله إلى سماءِ الدنيا فى الشطر الأخير من الليل.
وقد روى الليث بن سعد: حدثنى زيادة بن محمد [عن محمد بن] كعب القرظى عن فضالة ابن عبيد الأنصارى عن أَبى الدرداء عن رسول الله ﷺ قال: ((إِنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ يَنْزِلُ فِى ثَلاثِ سَاعَاتٍ يَبْقَيْنَ مِنَ اللَّيْلِ، فَيَفْتَحُ الذِّكْرِ فِى السَّاعَةِ الأُولَى الَّذِى لَم يَرَهُ غَيْرَهُ فَيَمْحُو اللهُ مَا يَشَأُ وَيُثْبِتُ، ثُمَّ يَنْزِلُ فِى السَّاعَةِ الثانية إِلَى جَنَّةِ عَدْنٍ وَهِى دَارُهُ الَّتِى لَمْ تَرَهَا عَيْنٌ وَلَمْ تَخْطُرُ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ وَهِى مَسْكَنُهُ لا يسكنها معه من بنى آدم غير ثلاث وهم النبيون والصديقون والشهداءُ، ثم يقول: طوبى لمن دخلك، ثم ينزل فى الساعة الثالثة إلى سماءِ الدنيا بروحه وملائكته فتنفض فيقول: قومى بعزتى، ثم يطلع إلى عباده فيقول: هل من مستغفر فأَغفر له؟ أَلا من سائل يسأَلنى فأعطيه)) ألا [من] داع يدعونى فأُجيبه؟ حتى تكون صلاة الفجر.
ولذلك يقول الله عَزَّ وجلَّ: { وَقُرْآن الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآن الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً }* [الإسراء: 78]، يشهده الله عز وجل وملائكته ملائكة الليل والنهار)).
ففى هذا الحديث أن النزول يدوم إلى صلاة الفجر، وعلى هذا فيكون شهود [الله] سبحانه لقرآن الفجر مع شهود ملائكة الليل والنهار له، وهذه خاصة بصلاة الصبح ليست لغيرها من [الصلوات]، وهذا لا ينافى دوام النزول فى سائر الأحاديث إلى طلوع الفجر ولا سيما وهو معلق فى بعضها على انفجار الصبح، وهو اتساع ضوئه.
وفى لفظ: ((حَتَّى يَضِيءَ الْفَجْرُ))، [فى] لفظ: ((حَتَّى يَسْطَعَ الْفَجْر))، وذلك هو وقت قراءَة الفجر، وهذا دليل على استحباب تقديمها مع مواظبة النبى ﷺ وخلفائه الراشدين على تقديمها فى أول وقتها، فكان النبى ﷺ يقرأُ فيها بالستين إلى المائة ويطيل ركوعها وسجودها وينصرف منها والنساءُ لا يعرفن من الغلس، وهذا لا يكون إلا مع شدة التقديم فى أول الوقت لتقع القراءة فى وقت النزول فيحصل الشهود المخصوص، مع أنه قد جاء فى بعض الأحاديث مصرحاً به دوام ذلك إلى الانصراف من صلاة الصبح، رواه الدارقطنى فى كتاب ((نزول الرب [تعالى] كل ليلة إلى سماءِ الدنيا)) من حديث محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن رسول الله ﷺ قال: ((ينزل الله عَزَّ وجَلَّ إلى سماءِ الدنيا لنصف الليل الآخر أو الثلث الآخر يقول: من ذا الذى يدعونى فأستجيب له؟ من ذا الذى يسألنى فأعطيه؟ من ذا الذى يستغفرنى فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر أو ينصرف القاريء من صلاة الصبح)) رواه عن محمد جماعة: منهم سليمان بن بلال وإسماعيل بن جعفر والدراوردى وحفص بن غياث ويزيد بن هارون وعبد الوهاب بن عطاء ومحمد بن جعفر والنضر بن شميل كلهم قال: ((أو ينصرف القاريء من صلاة الفجر))، فإن كانت هذه اللفظة محفوظة عن النبى ﷺ فهى صريحة فى المعنى كاشفة للمراد، وإن لم تكن محفوظة وكانت من شك الراوى هل قال هذا أو هذا، فقد قدمنا أنه لا منافاة بين اللفظين.
وأن حديث الليث بن سعد عن محمد بن زياد يدل على دوام النزول إلى وقت صلاة الفجر، وأن تعليقه بالطلوع لكونه أول الوقت الذى يكون فيه الصعود، كما رواه يونس بن أبى إسحق عن أبيه عن الأغر أبى مسلم قال: شهدت على النبى ﷺ أنه قال: ((إِنَّ الله عزَّ وجَلَّ يُمْهِلُ حَتَّى إِذَا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْل هَبَط إِلَى هَذِهِ السَّمَاءِ ثُمَّ أمَرَ بِأَبْوَابِ السَّمَاءِ فَفُتِحَتْ ثُمَّ قَالَ: هَلْ مِنْ سَائِلٍ فَأَعْطِيَهُ؟ هَلْ مِنْ دَاعٍ فَأُجِيبُهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ فَأَغْفِرَ لهُ هَلْ مِنْ مُسْتَغِيثٍ أَغِيثُهُ؟ هَلْ مِن مُضْطَّرٍ أَكشِفُ عَنْهُ؟ فَلا يَزَالُ ذَلِكَ مَكَانَهُ حَتَّى يَطَلَعَ الٌفَجْرُ فِى كُلِّ لَيْلَة مِنَ الدُّنْيَا، ثُمَّ يَصْعَدُ إِلَى السَّمَاءِ؟)). قال الدارقطنى: فزاد فيه يونس بن أبى إسحق زيادة حسنة. والمقصود ذكر القرب من الإمام فى صلاة الفجر وتقديمها فى أول وقتها. والله أعلم.
فصل
فإذا فرغ من صلاة الصبح أقبل بكليته على ذكر الله والتوجه إليه بالأذكار التى شرعت أول النهار فيجعلها ورداً له لا يخل بها أبداً، ثم يزيد عليها ما شاءَ من الأذكار الفاضلة أو قراءة القرآن حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت فإن شاءَ ركع ركعتى الضحى وزاد ما شاءَ، وإن شاءَ قام من غير ركوع ثم يذهب متضرعاً إلى ربه سائلاً له أن يكون ضامناً عليه متصرفاً فى مرضاته بقية يومه، فلا ينقلب إلا فى شيء يظهر له فيه مرضاة ربه، وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة الرب.
وبالجملة فيقف عند أول الداعى إلى فعله، فيفتش [ويستخرج منه منفدأ ومسلكاً يسلك به فينقلب] فى حقه عبادة وقربة، وشتان كم بين هذا وبين من إذا عرض له أمر من أوامر الرب لا بد له من فعله وفتش فيه على مراد لنفسه وغرض لطبعه، ففعلة لأجل ذلك وجعل الأمر طريقاً له ومنفذاً لمقصده، فسبحان من فاوت بين النفوس إلى هذا الحد والغاية، فهذا عباداته عادات، والأول عاداته عبادات.
فإذا جاءَ فرض الظهر بادر إليه مكملاً له ناصحاً فيه لمعبوده كنصح المحب الصادق المحبة لمحبوبه الذى قد طلب منه أن يعمل له شيئاً ما، فهو لا يبقى مجهوداً، بل يبذل مقدوره كله فى تحسينه وتزيينه وإصلاحه وإكماله ليقع موقعاً من محبوبه فينال به رضاه عنه وقربه منه.
أفلا يستحى العبد من ربه ومولاه ومعبوده أن لا يكون فى عمله هكذا، وهو يرى المحبين فى أشغال محبوبيهم من الخلق كيف يجتهدون [فى إيقاعها] على أحسن وجه وأكمله، بل هو يجد من نفسه ذلك مع من يحبه من الخلق، فلا أقل من أن يكون مع ربه بهذه المنزلة، ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئاً إلا فعله.
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه فى جميع أعماله، فهو يعلم أنه لا يوفى هذا المقام حقه، فهو أبداً [يستغفر الله عقيب كل عمل وكان النبى ﷺ] إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثاً، وقال تعالى: { وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }* [الذاريات: 18].
قال الحسن: مدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا يستغفرون ربهم. وقال تعالى: { ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}* [البقرة: 199]، فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة، وشرع للمتوضيء أن يقول بعد وضوئه: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْنِى مِنَ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِى مِنَ المُتَطَهِّرِين))، فهذه توبة بعد الوضوءِ، وتوبة بعد الحج، وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل. فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين، فهو لا يزال مستغفراً تائباً، وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره.
فصل
وجماع الأمر فى ذلك إنما هو بتكميل عبودية الله [عز وجل] فى الظاهر والباطن، فتكون حركات نفسه وجسمه كلها فى محبوبات الله، وكمال عبودية العبد موافقته لربه فى محبته ما أَحبه، وبذل الجهد فى فعله وموافقته فى كراهة ما كرهه وبذل الجهد فى تركه، وهذا إنما يكون للنفس المطمئنة، لا للأَمَّارة ولا للَّوامة.
فهذا كمال من جهة الإرادة والعمل، وأما من جهة العلم والمعرفة فأن تكون بصيرته منفتحة فى معرفة الأَسماءِ والصفات والأفعال، له شهود خاص فيها مطابق لما جاءَ به الرسول ﷺ لا مخالف له، [فإنه] بحسب مخالفته له فى ذلك يقع الانحراف ويكون [مع] ذلك قائماً بأحكام العبودية الخاصة التى تقتضيها كل صفة بخصوصها، وهذا سلوك الأكياس الذين هم خلاصة العالم، والسالكون على هذا الدرب أفراد من العالم، طريق سهل قريب موصل، طريق آمن أَكثر السالكين فى غفلة عنه، ولكن يستدعى رسوخاً فى العلم ومعرفة تامة به وإِقداماً على رد الباطل المخالف له ولو قاله من قاله، وليس عند أكثر الناس سوى رسوم تلقوها عن قوم معظمين عندهم، ثم لإحسان ظنهم بهم قد وقفوا عند أقوالهم ولم يتجاوزوها [إلى غيرها] فصارت حجاباً لهم وأَى حجاب.
فمن فتح الله عليه بصيرة قلبه وإِيمانه حتى خرقها وجاوزها إلى مقتضى الوحى والفطرة والعقل، فقد أُوتىخيراً كثيراً ولا يخاف عليه إِلا من ضعف همته، فإِذا انضاف إلى ذلك الفتح همة عالية فذاك السابق حقاً، واحد الناس بزمانه، لا يلحق شأْوه ولا يشق غباره فشتان ما بين من يتلقى أَحواله ووارداته عن الأَسماء والصفات وبين من يتلقاها عن الأوضاع الاصطلاحية والرسوم أو عن مجرد ذوقه ووجده، إِذا استحسن شيئاً قال هذا هو الحق، فالسير إلى الله من طريق الأَسماءِ والصفات شأْنه عجب، وفتحه عجب صاحبه قد سيقت له السعادة وهو مستلق على فراشه غير تعب ولا مكدود ولا مشتت عن وطنه ولا مشرد عن سكنه: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِى تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب}* [النمل:88]. وليس العجب من سائر فى ليله ونهاره وهو فى الثرى لم يبرح من مكانه، وإنما العجب من ساكن لا يرى عليه أَثر السفر وقد قطع المراحل والمفاوز، فسائر قد ركبته نفسه فهو حاملها سائر بها ملبوك يعاقبها وتعاقبه ويجرها وتهرب منه ويخطو بها خطوة إلى أَمامه فتجذبه خطوتين إلى ورائه، فهو معها فى جهد وهى معه كذلك، وسائر قد ركب نفسه وملك عنانها فهو يسوقها كيف شاءَ وأَين شاءَ لا تلتوى عليه ولا تنجذب ولا تهرب منه، بل هى معه كالأسير الضعيف فى يد مالكه وآسره وكالدابة الريضة المنقادة فى يد سائسها وراكبها، فهى منقادة معه حيث قادها، فإِذا رام التقدم جمزت به وأَسرعت، فإذا أَرسلها سارت به وجرت فى الحلبة إلى الغاية ولا يردها شيء فتسير به وهو ساكن على ظهرها، ليس كالذى نزل عنها فهو يجرها بلجامها ويشحطها ولا تنشحط، فشتان ما بين المسافرين فتأَمل هذا المثل فإِنه مطابق لحال السائرين المذكورين، والله يختص برحمته من يشاءُ.
فصل
ومن شأْن القوم أَن تنسلخ نفوسهم من التدبير والاختيار الذى يخالف تدبير [ربهم] تعالى واختياره، بل قد سلموا إليه سبحانه التدبير كله، فلا يزاحم تدبيرهم تدبيره ولا اختيارهم اختياره، لتيقنهم أَنه الملك القاهر القابض على نواصى الخلق المتولى [لتدبير] أَمر العالم كله، وتيقنهم مع ذلك أَنه الحكيم فى أَفعاله الذى لا تخرج أَفعاله عن الحكمة والمصلحة والرحمة، فلم يدخلوا أَنفسهم معه فى تدبيره لملكه وتصريفه أُمور عباده بلو كان كذا وكذا، ولا بعسى ولعل ولا بليت، بل ربهم [تعالى] أَجل وأَعظم فى قلوبهم من أَن يعترضوا عليه أَو يتسخطوا تدبيره أو يتمنوا سواه، وهم أَعلم به وأعرف بأسمائه وصفاته من أَن يتهموه فى تدبيره أَو يظنوا به الإخلال بمقتضى حكمته وعدله، بل هو ناظر بعين قلبه إلى باريء الأَشياء وفاطرها، ناظر إلى إتقان صنعه، مشاهد لحكمته فيه وإن لم يخرج ذلك على مكاييل عقول البشر وعوائدهم ومألوفاتهم.
قال بعض السلف: لو قرض جسمى بالمقاريض أَحب إِلى من أن أقول لشيء قضاه الله: ليته لم يقضه.
وقال آخر: أَذنبت ذنباً أبكى عليه منذ ثلاثين سنة. وكان قد اجتهد فى العبادة قيل له: ما هو؟ قال: قلت مرة لشيء كان: ليته لم يكن. وبعض العارفين يجعل عيب المخلوقات وتنقيصها بمنزلة العيب لصانعها وخالقها، لأنها صنعه وأَثر حكمته، وهو سبحانه أحسن كل شيء فى خلقه وأَتقن كل شيء وهو أحكم الحاكمين وأَحسن الخالقين، له فى كل شيء حكمة بالغة وفى كل مصنوع صنع متقن، والرجل إذا عاب صنعة [رجل آخر وذمها سرى ذلك إلى صانعها فمن عاب صنعة] الرب سبحانه بلا إذنه سرى ذلك إلى الصانع، لأنه كذلك صنعها عن حكمته أظهرها، إذ كانت الصنعة مجبولة لم تصنع نفسها ولا صنع لها فى خلقها.
[والعارف] لا يعيب إلا ما عابه الله ولا يذم إلا ما ذمه، وإذا سبق إلى قلبه ولسانه عيب ما لم يعبه الله وذم ما لم يذمه الله تاب إلى الله منه كما يتوب صاحب الذنب من ذنبه فإنه يستحى من الله أن يكون فى داره وهو يعيب آلات تلك الدار وما فيها، فهو يرى نفسه بمنزلة رجل دخل إلى دار ملك من الملوك ورأَى ما فيها من الآلات والبناء والترتيب، فأَقبل يعيب منها بعضها ويذمه ويقول: لو كان كذا بدل كذا لكان خيراً، ولو كان هذا فى مكان هذا لكان أَولى وشاهد الملكَ يولى ويعزل ويحرم ويعطى فجعل يقول: لو ولى هذا مكان فلان كان خيراً، ولو عزل هذا المتولى لكان أَولى، ولو عوفى هذا.. ولو أَغنى هذا.. فكيف يكون مقت الملك لهذا المعترض وإخراجه له من قربه؟ وكذلك لو أضافه صاحب له فقدم إليه طعاماً فجعل يعيب صفته ويذمه، أَكان ذلك يهون على صاحب الطعام؟ قالت عائشة: ((مَا عَابَ رَسُولُ الله ﷺ طعاماً قط، إِن اشتهى شيئاً أَكله وإِلا تركه)).
والمقصود أن من شأْن القوم ترك الاهتمام بالتدبير والاختيار، بل همهم كله فى إقامة حقه عليهم، وأَما التدبير العام والخاص فقد سلموه لولى الأَمر كله ومالكه الفعال لما يريد.
ولعلك تقول: من ذا الذى ينازع الله فى تدبيره؟ فانظر إلى نفسك- فى عجزها وضعفها وجهلها- كيف هى [عرضة] للمنازعة منازعة جاهل عاجز ضعيف لو قدر لظهرت منه العجائب، فسبحان من أَذله بعجزه وضعفه وجهله، وأَراه العبر فى نفسه لو كان ذا بصر: كيف هو عاجز القدرة، جبار الإرادة، عبد مربوب، مدبر مملوك ليس له من الأَمر شيء، وهو مع ذلك ينازع الله ربوبيته وحكمته وتدبيره، لا يرضى بما رضى الله به، ولا يسكن عند مجارى أَقداره، بل هو عبد ضعيف مسكين يتعاطى الربوبية، فقير مسكين فى مجموع حالاته، ويرى نفسه غنياً، جاهل ظالم ويرى نفسه عارفاً محسناً، فما أجهله بنفسه وبربه، وما أتركه لحقه [وأَشده] إضاعته لحظه، ولو أَحضر رشده لرأَى ناصيته ونواصى الخلائق بيد الله سبحانه وتعالى يحفظها ويرفعها كيف [شاء] وقلوبهم بيده سبحانه وفى قبضته يقلبها كيف يشاءُ، يزيغ منها من يشاءُ ويقيم من يشاءُ، ولكان هذا غالباً على شهود قلبه فيغيب به عن مشيئاته وإرادته واختياره، ولعرف أَن التدبير والركون إلى حول العبد وقوته من الجهل بنفسه وبربه، فينفى العلمُ بالله الْجهلَ عن قلبه، فتمحى منه الإرادات والمشيئات والتدبيرات، ويفوضها إلى مالك القلوب والنواصى، فصير بذلك عبداً لربه تقلبه يد القدرة، ويصير ابن وقته لا ينتظر وقتاً آخر يدبر [نفسه فيه]، لأن ذلك الوقت بيد موقته، فيرى نفسه بمنزلة الميت فى قبره ينتظر ما يفعل به، مستسلم لله منقطع المشيئة والاختيار.
هذا ما يجرى على أحدهم من فعل الله وحكمه وقضائه الكونى، فإذا جاءَ الأَمر جاءت الإِرادة والاختيار [ السعى والجد] واستفراغ الفكر وبذل الجهد، فهو قوى حى فعال يشاهد عبودية مولاه فى أَمره، فهو متحرك فيها بظاهره وباطنه قد أَخرج مقدوره من القوة إلى الفعل، وهو مع ذلك مستعين بربه قائم بحوله وقوته ملاحظ لضعفه وعجزه قد تحقق بمعنى: { إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}* [الفاتحة: 5]، فهو ناظر بقلبه إِلى مولاه الذى حركه، مستعين به فى أَن يوفقه لما يحبه ويرضاه، عينه فى كل لحظة شاخصة إلى حقه المتوجه عليه لربه ليؤديه فى وقته على أَكمل أحواله، فإِذا وردت عليهم أَقداره التى تصيبهم بغير اختيارهم قابلوها بمقتضاها من العبودية، وهم فيها على مراتب ثلاثة:
إحداها: الرضا عنه فيها والمزيد من حبه والشوق إليه، وهذا نشأَ من مشاهدتهم للطفه فيها وبره وإِحسانه العاجل والآجل، ومن مشاهدتهم حكمته فيها ونصبها سبباً لمصالحهم، وشوقهم بها إلى حبه ورضوانه، ولهم من ذلك مشاهد أُخر لا تسعها العبارة وهى فتح من الله على العبد لا يبلغه علمه ولا عمله.
المرتبة الثانية: شكره عليها كشكره على النعم وهذا فوق الرضا عنه بها ومنه ينتقل إلى هذه المرتبة، فهذه مرتبتان لأَهل هذا الشأْن.
والثالثة: للمقتصدين وهى مرتبة الصبر التى إذا نزل منها نزل إلى نقصان الإيمان وفواته من التسخط والتشكى، واستبطاءِ الفرج، واليأْس من الروح والجزع الذى لا يفيد إلا فوات الأَجر وتضاعف المصيبة.
فالصبر أول منازل الإيمان ودرجاته وأوسطها وآخرها، فإن صاحب الرضا والشكر لا يعدم الصبر فى مرتبته، بل الصبر معه وبه يتحقق الرضا والشكر، [و] لا تصور ولا تحقق لهما دونه، وهكذا كل مقام مع الذى فوقه، كالتوكل مع الرضا، وكالخوف والرجاء مع الحب، فإِن المقام لا ينعدم بالترقى إلى الآخر ولو عدم لخلفه ضده، وذلك رجوع إلى نقص الطبيعة وصفات النفس المذمومة، وإِنما يندرج حكمه فى المقام الذى أَعلى منه فيصير الحكم له كما يندرج مقام [المتوكل] فى مقام المحبة والرضا، وليس هذا كمنازل سير الأَبدان الذى إذا قطع منها منزلاً خلفه وراءَ ظهره واستقبل المنزل الآخر معرضاً عن الأَول بارتحاله، بل هذا كمنزلة التاجر الذى كلما باع شيئاً من ماله وربح فيه، ثم باع الثانى وربح فقد ربح بهما معاً، وهكذا أبداً يكون ربحه فى كل صفقة متضاعفاً بانضمامه إلى ما قبله، فالربح الأول اندرج فى الثانى ولم يعدم.
فتأمل هذا الموضع واعطه حقه يزل عنك ما يعرض من الغلط فى علل المقامات وتعلم أَن دعوى المدعى أَنها من منازل العوام ودعوى أنها معلولة غلط من وجهين، أَحدهما: أَن أَعلى المقامات مقرون بأَدناها مصاحب له كما تقدم، متضمن له تضمن الكل لجزئه، أَو مستلزم له استلزام الملزوم للازمه لا ينفك عنه أبداً، ولكن لاندراجه فيه وانطواءِ حكمه تحته يصير المشهد والحكم للعالى.
الوجه الثانى: أن تلك المقامات والمنازل إِنما [تكون فى] منازل العوام وتعرض لها العلل بحسب متعلقاتها وغاياتها، فإِن كان متعلقها وغاياتها بريئاً من شوائب العلل وهو أجلّ متعلق وأَعظمه فلا علة فيها بحال، وهى من منازل الخواص [حينئذ وإن كان متعلقاً خطأً للعبد أو أمراً موشباً بخطه فهى معلولة] من جهة تعلقها بحظه ولنذكر لذلك أمثلة
المثال الأول: الإِرادة، فإن الله جعلها من منازل صفوة عباده، وأَمر رسوله أن يصبر نفسه مع أَهلها فقال: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِى يُرِيدُونَ وَجْهَهُ }* [الكهف: 28] وقال تعالى: { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجزِى إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله }* [الليل 19-20]، وقال حكاية عن أوليائه قولهم: { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ }* [الإنسان: 9]، وهى لام التعليل الداخلة على الغايات المرادة، وهى كثيرة فى القرآن، فقالت طائفة: الإرادة حلية العوام، وهى تجريد القصد، وجزم النية، والجد فى الطلب، وذلك غيره فى طريق الخواص: [نقص و] تفرق، ورجوع إلى النفس.
فإن إرادة العبد عين حظه وهو رأْس الدعوى، وإِنما الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد، كقوله تعالى: { وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ }* [يونس:107]، فيكون مراده ما يراد به واختياره ما اختير له، إِذ لا إِرادة للعبد مع سيده ولا نظر، كما قال:
@أُريد وصاله ويريد هجرى فأَترك ما أُريد لما يريد
ومن هذا قول أبى [يزيد]: قيل لى ما تريد؟ قلت أريد أن لا أريد، لأنى أنا المراد وأنت المريد.
فيقال ليس المراد من ((العوام)) فى كلامهم العامة الجهال، وإِنما مرادهم بهذه اللفظة عموم السالكين، دون أَهل الخصوص الواصلين منازل [إلى] الفناءِ وعين الجمع. وإذا عرف هذا فالكلام على ما ذكر فى الإرادة من وجه:
أحدها: أَن الإِرادة هى مركب العبودية، وأَساس بنائها الذى لا تقوم إلا عليه، فلا عبودية لمن لا إِرادة له، بل أَكمل الخلق أكملهم عبودية ومحبة وأصحهم حالاً وأقومهم معرفة وأتمهم إِرادة، فكيف يقال: إنها حلية العوام أو من منازل العوام.
الوجه الثانى: أنه يلزم من هذا أن تكون المحبة من منازل العوام، وتكون معلولة أيضاً لأنها إرادة تامة للمحبوب ووجود المحبة بلا إرادة كوجود الإنسانية من غير حيوانية وكوجود مقام الإحسان بدون الإيمان [والإسلام]، فإذا كانت الإرادة معلولة وهى من منازل العوام لزم أن تكون المحبة كذلك.
فإِن قيل: المحبة التى لا علة فيها هى تجرد المحب عن الإرادة وفناؤه بإرادة محبوبه عن إرادته، قيل: هذا هو حقيقة الإِرادة أَن يبقى مراده مراد محبوبه، فلو لم يكن مريداً لمراد محبوبه لم يكن موافقاً له فى الإرادة.
والمحبة هى موافقة المحبوب فى إرادته فعاد الأمر إلى ما أشرنا إليه أن المعلول من ذلك ما تعلق بحظ المريد دون محبوبه، فإذا صارت إرادته موافقة لإرادة محبوبه لم تكن تلك الإرادة من منازل العوام ولا معلولة، بل هذه أشرف منازل الخواص وغاية مطالبهم، وليس وراءَها إلا التجرد عن كل إرادة والفناء بشهوده عن إرادة ما يريد، وهذا هو الذى يشير إليه السالكون إلى منازل الفناء ويجعلونه غاية الغايات، وهذا عند أهل الكمال نقص وتغيير فى وجه المحبة وهضم لجانب العبودية وفناء بحظ المحب من مشاهدته جمال محبوبه وفنائه فيه عن حق المحبوب ومراده، فهو الوقوف مع نفس الحظ والهروب عن حق المحبوب ومراده، وهل مثل هذا إلا كمثل رجلين ادعيا محبة ملك فحضرا بين يديه فقال: ما تريدان؟ فقال أحدهما: أُريد أَن لا أُريد شيئاً بل أَفنى عن إِرادتى وأَكون أنا المراد وأنت تريد بى ما تشاءُ.
وقال الآخر: [بل] أُريد أن أُنفق أَنفاسى وذراتى فى محابك ومرضاتك منفذاً لأَوامرك مشمراً فى طاعتك: أَتوجه حيث توجهين وأفعل ما تأْمرنى، هذا الذى أريده.
فقال للآخر: وأنا أريد منك أن تفعل مثل هذا، فإنى سأبعثكما فى أشغالى ومهماتى، فأما أحدهما فقال: لا حظ لى سوى اتباع مرضاتك والقيام بحقوقك، وقال الآخر: لا أُريد إلا مشاهدتك والنظر إليك والفناء فيك، فهل يكونان فى نظره سواءٌ، وهل تستوى منزلتهما عنده؟ ولو أَنعموا النظر لعلموا أن صاحب الفناءِ هو طالب [الحظ] الواقف معه، وأن الآخر وإن لم ينسلخ من الحظ ولكن حظه مراد المحبوب منه لا مراده هو من المحبوب، وبين الأَمرين من الفرق كما بين الأرض والسماءِ.
فالعجب ممن يفضل صاحب الحظ الذى يريده من محبوبه على من صار حظه مراد محبوبه منه، بل الفناء الكامل أن يفنى بإِرادته عن إِرادة [ما] سواه وبحبه عن حب ما سواه وبرجائه عن رجاءِ ما سواه وبخشيته عن خشية ما سواه وبالتوكل عليه عن التوكل على ما سواه، ليس أن تفنى بحظك منه عن مراده منك. وهذا موضع يشتبه علماً وحالاً وذوقاً إلا على من فتح الله عليه بفرقان بين هذا وهذا.
الوجه الثالث: أن الإرادة إنما تكون ناقصة بحسب نقصان المراد، فإذا كان مرادها أشرف [المراد] فإرادته أشرف الإرادات، ثم إذا كانت الوسيلة إليه أجل الوسائل وأنفعها وأكملها فإرادتها كذلك، فلا تخرج إرادته عن إرادة أشرف الغايات وإرادة أقرب الوسائل إليه وأنفعها، فأى علة فى هذه الإرادة وأَى شيء فوقها للخواص؟
الوجه الرابع: أن نقصان الشيء يكون من وجهين، أحدهما: أن يوجب ضرراً، والثانى: أن تكون له ثمرة نافعة، لكن يشغل عما هو أَكمل منه، وكلاهما منتف عن الإرادة، فكيف تكون ناقصة معلولة؟ فإن قيل: لما كان الوقوف معها رجوعاً إلى النفس وتفرقاً ووقوفاً مع حظ المريد كانت ناقصة، قيل: هذا منشأْ الغلط.
وجوابه بالوجه الخامس: وهو أن يقال: قوله: ((إن [الإرادة] تفرق))، فإن أردتم بالتفرق شهود المريد لإرادته [لمرادته] ولعبوديته ولمعبوده ولمحبته ولمحبوبه فلم قلتم: إن هذا التفرق نقص؟ وهل هذا إلا عين الكمال، وهل تتم العبودية إلا بهذا؟ فإن من شهد عبوديته وغاب بها عن معبوده كان محبوباً، ومن شهد المعبود وغاب به عن شهود عبوديته وقيامه بما أَمره به كان ناقص العبودية ضعيف الشهود، وهل الكمال إلا شهود المعبود مع شهود عبادته، فإِنها [عين] حقه ومراده ومحبوبه من عبده، فهل يكون شهود العبد لحق محبوبه ومراده منه وأَنه قائم به ممتثل له نقصاً، ويكون غيبته عن ذلك وإعرضه عنه وفناؤه عن شهوده كمالاً، وهل هذا إلا قلب للحقائق؟ فغاية صاحب هذا الحال والمقام أَن يكون معذوراً بضيق قلبه عن شهود هذا، وهذا إما لضعف المحل أو لغلبة الوارد وعجزه عن احتمال شيء آخر معه، [فأما] أن يكون هذا هو الكمال المطلوب والآخر نقص فكلا.
وأين مقام من يشهد عبوديته ومنة الله عليه فيها وتوفيقه لها وجعله محلاً وآلة [لها]- وهو ناظر مع ذلك إلى معبوده بقلبه، شاهداً له، فانياً عن شهود غيره فى عبوديته- من مقام من لا يتسع لهذا وهذا؟ وتأَمل حال أَكمل الخلق وأَفضلهم وأشدهم حباً لله [ﷺ] كيف كان فى عبادته جامعاً بين الشهودين، حتى كان لا يغيب عن أَحوال المأْمومين فضلاً عن شهود عبادته، فكان يراعى أحوالهم وهو فى ذلك المقام بين يدى ربه سبحانه، فالكلمة من أُمته [عن] منهاجه وطريقته [فى ذلك] ﷺ، فالواجب التمييز بين المراتب وإعطاءُ كل ذى حق حقه، فقد جعل الله لكل شيء قدراً.
وإِن أَردتم بالتفرق شتات القلب فى شعاب الحظوظ وأَودية الهوى، فهذه الإِرادة لا تستلزم شيئاً من ذلك، بل هى جمعية القلب على المحبوب وعلى محابه ومراداته، ومثل هذا التفرق هو عين البقاءِ ومحض العبودية ونفس الكمال، وما عداه فمحض حظ العبد لا حق محبوبه.
الوجه السادس: أن قوله: ((إن الإرادة رجوع إلى النفس، وإن إِرادة العبد عين حظه)) كلام فيه إجمال وتفصيل، فيقال: ما تريدون بقولكم: ((إن الإِرادة رجوع إلى النفس))؟ أَتريدون أنها رجوع عن إرادة الرب وإرادة محابه إلى إرادة النفس وحظوظها، أم تريدون أنها رجوع إلى إرادة النفس لربها ولمرضاته؟ فإِن أَردتم الأول علم أن هذه الإرادة معلولة ناقصة فاسدة، ولكن ليست هذه الإرادة التى نتكلم فيها.
وإن أردتم المعنى الثانى فهو عين الكمال، وإنما النقصان خلافه.
الوجه السابع: أن قولكم: ((إن هذه الإرادة عين حظ العبد)) قلنا: نعم وهى أكبر حظ له وأجله وأعظمه، وهل للعبد حظ أشرف من أن يكون الله وحده إِلهه ومعبوده ومحبوبه ومراده؟ فهذا هو الحظ الأَوفر والسعادة العظمى، ولكن لم قلتم: ((إن اشتغال العبد بهذا الحظ نقص [فى] حقه))، وهل فوق هذا كمال فيطلبه العبد؟ ثم يقال: لو كان فوقه شيء أكمل منه لكان اشتغال العبد به وطلبه إياه اشتغالاً بحظه أيضاً، فيكون ناقصاً، فأَين الكمال؟ فإِن قلتم: فى تركه حظوظه كلها، قيل لكم: وتركه هذا الحظ أيضاً هو من حظوظه، فإِنه [لا] يبقى معطلاً فارغاً خاو من الإرادة أصلاً، بل لا بد له من إرادة ومراد، وكل إِرادة [عندكم] رجوع إلى الحظ، فأَى [شيء إشتغل] به وبإِرادته كان وقوفاً عن حظه، فيالله العجب متى يكون عبداً محضاً خالصاً لربه؟
يوضح هذا الوجه الثامن: أن الحى لا ينفك عن الإرادة ما دام شاعراً بنفسه، وإِنما ينفك عنها إِذا غاب عنه شعوره بعارض من العوارض، فالإرادة من لوازم الحياة فدعوى أَن الكمال فى التجرد عنها دعوى باطلة مستحيلة طبعاً وحساً، بل الكمال فى التجرد عن الإِرادة التى تزحم مراد المحبوب، لا عن الإرادة التى توافق مراده.
الوجه التاسع: قوله: ((الجمع والوجود فيما يراد بالعبد لا فيما يريد... إلخ)) فيقال: هذا على نوعين، أحدهما: ما يراد بالعبد من المقدور الذى يجرى عليه بغير اختياره كالفقر والغنى والصحة والمرض والحياة والموت وغير ذلك، فهذا، لا ريب أن الكمال فناء العبد فيه عن إِرادته، ووقوفه مع ما يراد به لا يكون له إِرادة تزاحم إرادة الله منه، كحال الثلاثة الذين قال أحدهم: أَنا أُحب الموت للقاءِ الله، وقال الآخر: أُحب البقاءَ لطاعته وعبادته، فقال الثالث: غلطتما، ولكن أَنا أُحب من ذلك ما يحب، فإن كان يحب إماتتى أَحببت الموت، وإن كان يحب حياتى أحببت الحياة، فأَنا أُحب ما يحبه من الحياة والموت.
فهذا أَكمل [منهما] وأصح حالاً فيما يراد بالعبد والنوع الثانى ما يراد من العبد من الأَوامر والقربات، فهذا ليس الكمال إلا فى إرادته، وإِن فرقته فهو مجموع فى تفرقته متفرق فى جمعيته، وهذا حال [الكُمّل] من الناس: متفرق الإِرادة فى الأَمر، مجتمع على الأَمر- فهو مجموع عليه متفرق فيه- ولا يكون فعل المرادات المختلفة بإرادة واحدة بالعين، وإنما غايتها أن تكون هنا إرادتان: إحداهما إرادة واحدة للمراد المحبوب، والثانية: إرادات متفرقة لحقه ومحابه وما أَمر به فهى، وإن تعددت وتكثرت فمرجعها إلى مراد واحد بإرادة [واحدة] كلية وكل فعل منها له إرادة جزئية محضة.
الوجه العاشر: أن قول أبى يزيد: ((أُريد أن لا أُريد)) تناقض بيِّن، فإنه قد أَراد عدم الإرادة. فإذا قال: ((أُريد أَن لا أُريد)) يقال له: فقد أَردت، وأَحسن من هذا أَن يكون الجواب: أُريد ما يريد لا ما أُريد، وإذا كان لا بد من إِرادة ففرق بين الإِرادتين: إِرادة سلب الإِرادة، وإِرادة موافقة المحبوب فى مراده. والله أعلم.
الوجه الحادى عشر: أَنه فسر الإِرادة بتجريد القصد وجزم النية، والجد فى الطلب. وهذا هو عين كمال [العبد] وهو متضمن للصدق والإخلاص والقيام بالعبودية، فأَى نقص فى تجريد القصد وهو تخليصه من كل شائبة نفسانية أَو طبيعية وتجريده لمراد المحبوب وحده، والجد فى طلبه وطلب مرضاته وجزم النية وهو أَن لا يعتريها وقفة ولا تأْخير، وهذا الأَمر هو غاية منازل الصديقين، وصديقية العبد بحسب رسوخه فى هذا المقام، وكلما ازداد قربه وعلا مقامه قوى عزمه وتجرد صدقه، فالصادق لا نهاية لطلبه ولا فتور لقصده، بل قصده أَتم وطلبه أكمل ونيته. قال تعالى: { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيكَ الْيَقِينْ }* [الحجر:99]، واليقين هنا الموت باتفاق [أهل] الإسلام، فجاء ﷺ إذ جاءه وإرادته وقصده ونيته فى الذروة العليا ونهاية كمالها وتمامها، فأين العلة فى هذه الإرادة؟ ولكن العلة والنقص فى الإِرادة التى يكون مصدرها النفس والهوى، وغايتها نيل حظ المريد من محبوبه، وإن كان المحبوب يريد ذلك لكن غيره أحب إليه منه، وهو أن يكون مراده محض حق محبوبه وحصول مرضاته، فانياً عن حظه هو من محبوبه، بل قد صار حظه منه نفس حقه ومراده، فهذه هى الإِرادة والمحبة التى لا عِلَّة فيها ولا نقص.
نسأل الله تعالى أَن يمن علينا ويحيينا ولو بنفس منها، كما منّ بتعليمها ومعرفتها إِنه جواد كريم.
الوجه الثانى عشر: أَنه قال بعد هذا: ((فصحة الإِرادة بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع ترك الاختيار والسكون إِلى مجارى الأَقدار، فيكون كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ فأَين هذا من قوله: ((وذلك فى طريق الخواص نقص وتفرق))، وهل يكون بذل الوسع واستفراغ الطاقة إِلا مع تمام الإِرادة؟ وإِنما الذى يفرض له النقص من الإِرادة نوعان: أَحدهما إِرادة مصدرها طلب الحظ، والثانى اختياره فيما يفعل به بغير اختياره.
فعن هاتين الإِرادتين ينبغى الفناء، وفيهما يكون النقص، فالكمال ترك الاختيار فيهما، والسكون إلى مراد المحبوب وحقه فى الأُولى، وإِلى مجارى أَقداره وحكمه فى الثانية، فيكون فى الأُولى حياً فعالاً منازعاً لقواطعه عن مراد محبوبه، وفى الثانية كالميت بين يدى الغاسل يقلبه كيف يشاءُ.
وبهذا التفصيل ينكشف سر هذه المسأَلة، ويحصل التمييز بين محض العبودية وحظ النفس. والله الموفق للصواب.
فـصـل
المثال الثانى: الزهد. قال أَبو العباس [رحمه الله]: ((هو للعوام أيضاً، لأَنه حبس النفس عن الملذوذات، وإمساكها عن فضول الشهوات، ومخالفة دواعى الهوى، وترك ما لا يغنى من الأشياء وهذا نقص فى طريق الخاصة، لأَنه تعظيم للدنيا واحتباس عن انتقادها، وتعذيب للظاهر بتركها مع تعلق الباطن بها والمبالاة بالدنيا عين الرجوع إلى ذاتك، وتضييع الوقت فى منازعة نفسك [وشهود] جنسك وبقائك معك، ألا ترى إلى من أَعطاه الله الدنيا بحذافيرها، كيف قال: { هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }* [سورة ص: 39]، وذلك حيث عافى باطنه من شهودها، وظاهره من التعلق بها.
فالزهد صرف الرغبة إِليه وتعلق الهمة به والاشتغال به عن كل شيء يشغل عنه، ليتولى هو حسم هذه الأَسباب عنك. كما قيل: إِن بعض المريدين سأَل بعض المشايخ فقال: أَيها الشيخ، بأَى شيء تدفع إبليس إذا قصدك بالوسوسة؟ فقال الشيخ: إِنى لا أَعرف إِبليس فأَحتاج إلى دفعه، نحن قوم صرفنا هممنا إلى الله فكفانا ما دونه. وكما قال:
تسترت عن دهرى بظل جناحـه فعينى ترى دهرى وليس يراني
فلو تسأَل الأَيام ما اسمى ما درت وأَين مكانى ما عرفن مكـاني
فيقال: الكلام على هذا من وجوه:
إحداها: أَن جعل الزهد للعوام لما ذكره إِنما يتم إِذا كان الزهد ملزوماً لمنازعة النفس ومجاذبتها لدواعى الشهوة والهوى، وحينئذ فيكون قلبه مشغولاً بتلك الدواعى والجواذب ونفسه تطالبه بها وزهده يأْمره باجتنابها. ولا ريب أن فوق هذا مقاماً أعلى منه، وهو طمأْنينة نفسه وسكونها إِلى محبوبها وانجذاب دواعيها إِلى محابه ومرضاته، وهذا للخواص من المؤمنين.
ولكن هذه المنازعة غير لازمة للزهد، وإِن كان لا بد منها فى حكم الطبيعة لتحقق الابتلاءِ والامتحان، وليتحقق ترك العبد حظه وهواه لربه إيثاراً له على هواه ونفسه.
الثانى: أَنه لو كانت هذه المنازعة وحبس النفس عن الملذوذات من لوازم الزهد لم يكن فيها نقص ولا علة، فإِنها من لوازم الطبيعة وأَحكام الجبلّة، وهى كالجوع والعطش والأَلم والتعب، فحبس النفس عن إجابة دواعيها إيثاراً لله ومرضاته عليها لا يكون نقصاً ولا مستلزماً لنقص.
وقد اختلف أرباب السلوك [وأهل الطريق] هنا فى هذه المسألة، وهى أَيهما أفضل: من له داعية وشهوة وهو يحبسهما لله ولا يطيعهما حباً له وحياءً [منه] وخوفاً، أو من لا داعية له تنازعه بل نفسه خالية من تلك الدواعى والشهوة، وقد اطمأنت إلى ربها واشتغلت به عن غيره، وامتلأت بحبه وإِرادته، فليس فيها موضع لإرادة غيره ولا حبه؟ فرجحت طائفة الأول وقالت: هذا يدل على قوة تعلقه وشدة محبته، فهو يعاصى دواعى الطبع والشهوة ويقهرها بسلطان محبته وإِرادته وخوفه من الله، وهذا يدل على تمكنه من نفسه وتمكن حاله مع الله وغلبة داعى الحق عنده على داعى الطبع والنفس.
قالوا: وأيضاً فله مزيد فى حاله وإيمانه بهذا الإيثار والترك مع حضور داعى الفعل عنده، ومزيد مجاهدة عدوه الباطن ونفسه وهواه، كما يكون له مزيد مجاهدة عدوه الظاهر.
قالوا: والذوق والوجد يشهد لمزيده من الحب والأُنس والسرور والفرح بربه عند إيثاره على دواعى الهوى والنفس، والمطمئن الذى ليس فيه هذا الداعى ليس له مزيد من هذه الجهة، وإِن كان مزيده من جهة أُخرى فهى مشتركة بينهما، ويختص هذا بمزيده من الإيثار والمجاهدة.
قالوا: وأيضاً فهذا مبتلى بهذه الدواعى والإِرادات، [وذاك] معافى منها.
وقد جرت سُنَّة الله فى المؤمنين من عباده أَن يبتليهم على حسب إِيمانهم، فمن ازداد إِيمانه زيد فى بلائه كما ثبت عن النبى ﷺ أَنه قال: ((يبتلى المرءُ على حسب دينه، فإِن كان فى دينه صلابة شدد عليه البلاءُ، وإِن كان فى دينه رقة خفف عنه البلاءُ)).
والمراد بالدين هنا: الإيمان الذى يثبت عند نوازل البلاءِ، فإن المؤمن يبتلى على قدر ما يحمله إيمانه من وارد البلاء. قالوا: فالبلاءُ بمخالفة دواعى النفس والطبع من أَشد البلاء، فإنه لا يصبر عليه الصدِّيقون.
وأما البلاء الذى يجرى على العبد بغير اختياره كالمرض والجوع والعطش ونحوها، فالصبر عليه لا يتوقف على الإيمان، بل يصبر عليه البر والفاجر لا سيما إِذا علم أَنه لا معول له إِلا الصبر، فإِنه إِن لم يصبر اختياراً صبر اضطراراً.
ولهذا كان بين ابتلاءِ يوسف الصديق [ﷺ] بما فعل به إِخوته من الأَذى والإِلقاءِ فى الجب وبيعه بيع العبيد والتفريق بينه وبين أبيه، وابتلائه بمراودة المرأة [له] وهو شاب عزب غريب بمنزلة العبد لها وهى الداعية [له] إلى ذلك، فرق عظيم لا يعرفه إلا من عرف مراتب البلاءِ، فإِن الشباب داع إلى الشهوة والشاب قد يستحى من أَهله ومعارفه من قضاءِ وطره، فإِذا صار فى دار الغربة زال ذلك الاستحياءُ والاحتشام، وإِذا كان عزباً كان أشد لشهوته، وإِذا كانت المرأة هى الطالبة كان أشد وإذا كانت جميلة كان أعظم، فإن كانت ذات منصب كان أقوى فى الشهوة، فإن كان ذلك فى دارها وتحت حكمها بحيث لا يخاف الفضيحة ولا الشهرة كان أبلغ، فإِن استوثقت بتغليق الأَبواب والاحتفاظ من الداخل كان أقوى أيضاً للطلب، فإِن كان الرجل مملوكها وهى كالحاكمة عليه الآمرة الناهية [له] كان أَبلغ فى الداعى، فإِذا كانت المرأة شديدة العشق والمحبة للرجل قد امتلأَ قلبها من حبه، [فهذا] الابتلاء الذى صبر معه مثل الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم صلوات الله عليهم أجمعين.
ولا ريب أن هذا الابتلاء أعظم من الابتلاء الأَول، بل هو من جنس ابتلاء الخليل بذبح ولده، إِذ كلاهما ابتلاءُ بمخالفة الطبع ودواعى النفس والشهوة ومفارقة حكم [الطبع]، وهذا بخلاف البلوى التى أصابت ذا النون. والتى أصابت أيوب [صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين].
قالوا: وأيضاً فإن هذه هى النكتة التى من أجلها كان صالح البشر أفضل من الملائكة لأن الملائكة عبادتهم بريئة عن شوائب [و] دواعى [النفوس] والشهوات البشرية، فهى صادرة عن غير معارضة ولا مانع ولا عائق، [و] هى كالنفس للحى، وأَما عبادات البشر فمع منازعات النفوس وقمع الشهوات ومخالفة دواعى الطبع، فكانت أكمل، ولهذا كان أكثر الناس على تفضيلهم على الملائكة لهذا المعنى ولغيره، فمن لم يخلق له تلك الدواعى والشهوات فهو بمنزلة الملائكة، ومن خلقت له وأَعانه الله على دفعها وقهرها وعصيانها كان أَكمل وأفضل.
قالوا: وأيضاً فإن حقيقة المحبة إيثار المحبوب ومرضاته على ما سواه.
قالوا: وكيف يصح الإيثار ممن لا تنازعه نفسه وطبعه إلى غير المحبوب.
قالوا: وليس العجب من قلب خال عن الشهوات والإِرادات قد ماتت دواعى طبعه وشهوته إذا عكف على محبوبه ومعبوده واطمأن إليه واجتمعت همته، [عليه] وإِنما العجب من قلب قد ابتلى [بما ابتلى] به من الهوى والشهوة ودواعى الطبيعة مع قوة سلطانها وغلبتها وضعفه وكثرة الجيوش التى تغير على قلبه كل وقت إذا آثر ربه ومرضاته على هواه وشهوته ودواعى طبعه، فهو هارب إلى ربه من بين تلك الجيوش، وعاكف عليه فى تلك الزعازع والأَهوية التى تغشى على الأسماع والأبصار والأفئدة يتحمل منها لأجل محبوبه ما لا تتحمله الجبال الراسيات.
قالوا: وأيضاً فنهى النفس عن الهوى عبودية خاصة لها تأْثير خاص، وإنما يحصل إذا كان ثم ما ينهى عنه النفس.
قالوا: وأيضاً فالهوى عدو الإنسان، فإذا قهر عدوه وصار تحت قبضته وسلطانه كان أَقوى وأكمل ممن لا عدو له يقهره.
قالوا: ولهذا كان حالُ النبى ﷺ فى قهره قرينه حتى انقاد وأَسلم له فلم يكن يأْمره إلا بخير أكملَ من حال عمر حيث كان الشيطان إذا رآه يفر منه وكان إذا سلك فجا سلك غير فجه.
وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو: كيف لا يقف الشيطان لعمر بل يفر منه، ومع هذا قد تفلت على النبى ﷺ وتعرض له وهو فى الصلاة وأَراد أن يقطع عليه الصلاة؟ ومعلوم أن حال الرسول أكمل وأقوى.
والجواب ما ذكرناه: أَن شيطان عمر كان يفر منه فلا يقدر أحدهما على قهر صاحبه، وأَما الشيطان الذى تعرض للنبى ﷺ فقد أخذه وأسره وجعله فى قبضته كالأَسير، وأَين من يهرب منه عدوه فلا يظفر به إلى من يظفر بعدوه فيجعله فى أَسره وتحت يده وقبضته، فهذا ونحوه مما احتج به أَرباب هذا القول.
واحتج أَرباب القول الثانى- وهم الذين رجحوا من لا منازعة فى طباعه ولا هوى له يغالبه- بأَن قالوا: كيف تستوى النفس المطمئنة إلى ربها العاكفة على حبه التى لا منازعة فيها أصلاً ولا داعية تدعوها إلى الإعراض عنه، والنفس المشغولة بمحاربة هواها ودواعيها وجواذبها؟ قالوا: وأيضاً ففى الزمن الذى يشتغل هذا بنفسه ومحاربة هواه وطبعه يكون صاحب النفس المطمئنة قد قطع مراحل من سيره وفاز بقرب فات صاحب المحاربة والمنازعة.
قالوا: وهذا كما لو كان رجلان مسافرين فى طريق فطلع على أحدهما قاطع اشتغل بدفعه عن نفسه ومحاربته ليتمكن من سيره، والآخر سائر لم يعرض له قاطع، بل هو على جادة سيره، فإِن هذا يقطع من المسافة أَكثر مما يقطع الأَول ويقرب إلى الغاية أكثر من قربه. قالوا: وأيضاً فإن للقلب قوة يسير بها، فإذا صرف تلك القوة فى دفع العوارض والدواعى القاطعة له عن السير اشتغل قلبه بدفعها عن السير فى زمن المدافعة. قالوا: ولأَن المقصود بالقصد الأَول إنما هو السير إلى الله، والاشتغال بدفع العوارض مقصود لغيره فالاشتغال بالمقصود لنفسه أَولى وأفضل من الاشتغال بالوسيلة، قالوا: وأيضاً فالعوارض المانعة للقلب من سيره هى من باب المرض، واجتماع القلب على الله وطمأْنينته به وسكونه إليه بلا منازع ولا جاذب ولا معارض هو صحته وحياته ونعيمه، فكيف يكون القلب الذى [يعرض له مرض وهو مشغول بدوائه أفضل من القلب الصحيح] لا داءَ به ولا علة؟
قالوا: وأيضاً، فهذه الدواعى والميول والإرادات التى فى القلب تقتضى جذبه وتعويقه عن وجه سيره، وما فيه من داعى المحبة والإِيمان يقتضى جذبه عن طريقها فتتعارض الجواذب، فإِن لم توقفه عوقته ولا بد، فأَين السير بلا معوق من السير مع المعوق؟ قالوا: وأَيضاً فالذى يسير العبد بإِذن ربه إِنما هو همته، والهمة إذا علت وارتفعت لم تلحقها القواطع والآفات، كالطائر إذا علا وارتفع فى الجو فات الرماة ولم يلحقه الحصا ولا البنادق ولا السهام، وإِنما تدرك هذه الأشياءُ للطائر إذا لم يكن عالياً، فكذلك الهمة العالية قد فاتت الجوارح والكواسر، وإِنما تلحق الآفات والدواعى والإِرادات الهمة النازلة، فأَما إِذا علت فلا تلحقها الآفات.
قالوا: وأَيضاً فالحس والوجود شاهد بأَن قلب المحب متى خلا من غير المحبوب واجتمعت شئونه كلها على محبوبه ولم يبق فيه التفات إلى غيره كان أَكمل محبة من القلب الملتفت إلى الرقباءِ المهتم بمحاربتهم ومدافعتهم والهرب منهم والتوارى عنهم.
قالوا: فكم بين محب يجتاز على الرقباءِ فيطرقون من هيبته وخشيته ولا يرفع أحد منهم رأْسه إليه، وبين محب إِذا اجتاز بالرقباءِ هاشوا عليه كالزنابير أَو كالكلاب فاشتغل بدفعهم وحرابهم أو جد فى الهرب منهم، فكيف يسوى هذا بهذا، أم كيف يفضل عليه مع هذا التباين؟
قالوا: وأيضاً فالمحبة الخالصة الصادقة حقيقتها أنها نار تحرق من القلب ما سوى مراد المحبوب، وإِذا احترق ما سوى مراده عدم وذهب أثره، فإذا بقى فى القلب شيء من سوى مراده لم تكن المحبة تامة ولا صادقة، بل هى محبة مشوبة بغيرها، فالمحب الصادق ليس فى قلبه سوى مراد محبوبه حتى ينازعه ويدافعه، والآخر فى قلبه بقية لغير المحبوب فهو جاهد على إخراجها وإعدامها.
قالوا: وأيضاً فالواردات الإلهية ترد على القلوب على قدر استعدادها وقبولها، فإذا صادفت القلب فارغاً خالياً من العوارض والمنازعات ودواعى الطبع والهوى ملأَته على قدر فراغه، وإذا امتلأَ منها لم يبق لأضدادها وأعدائها فيه مسلك، وإذا صادفت فيه موضعاً مشغولاً بغيرهم من الأَغيار لم يساكن ذلك الموضع فيدخل الضد والعدو من تلك الثلمة، كما قال القائل:
لا كان من لسواك فيه بقية يجد الســــبيل بها إليه العذل
وقال:
ومهما بقى للصحو فيه بقية يجد نحوك اللاحى سبيلاً إلى العذل
قالوا: وأيضاً فدواعى الطبع وإرادات النفس وشهواتها مصدرها إما جهل وإما ضعف، فإنها لا تصدر إلا من جهل العبد بآثارها وموجباتها، أَو يكون عالماً بذلك، لكن فيه ضعف وعجز يمنعه عن محوها من قلبه بالكلية، وما كان سببه جهلاً أو عجزاً لا يكون كمالاً ولا مستلزماً لكمال، وأَما القلب الخالى منها ومن الاشتغال بدفعها فقلب شريف قوى علوى رفيع. قالوا: وأيضاً فهذه الإِرادات والدواعى لا تسير العبد، بل إما أن تنسكه إن أجابها، وإما أن تعوقه وتوقفه إن اشتغل بمدافعتها، وأَما إرادات القلب السليم منها والنفس المطمئنة بربها، فكل إرادة منها تسير به مراحل على مهلة، فهو يسير رويداً وقد سبق السعادة كما قيل:
من لى بمثل سيرك المذلل تمشى رويداً وتجيء فى الأول
قالوا: وأيضاً فإن هذه الدواعى والإرادات إنما تحمد عاقبتها إذا ردت صاحبها إلى حال السليم منها فيكون كماله فى تشبهه به وسيره معه، فكيف يكون أكمل ممن كماله إنما هو فى تشبهه به؟
قالوا: وأيضاً فالنفوس ثلاثة: أَمارة، ولوامة، ومطمئنة.
والنفس الأَمارة هى المطيعة لدواعى طباعها وشهواتها، فمبادئ كونها أمارة هى تلك الدواعى والإرادات فتستحكم فتصير عزمات، ثم توجب الأفعال. فمبدأُ صفة الذم فيها تلك الدواعى. وأما النفس المطمئنة فهى التى عدمت هذه المباديء فعدمت غاياتها، فكيف تكون مباديء النفس الأَمارة مما يوجب لها مزية على النفس المطمئنة؟ فهذا ونحوه مما احتجت به هذه الطائفة أيضاً لقولها.
والحق إن كلا الطائفتين على صواب من القول، لكن كل فرقة لحظت غير ملحظ الفرقة الأُخرى، فكأَنهما لم يتواردا على محل واحد، بل الفرقة الأُولى نظرت إلى نهاية سير المجاهد لنفسه وإِرادته وما ترتب له عليها من الأَحوال والمقامات فأَوجب لها شهود نهايته رجحانه فحكمت بترجيحه واستحلت بتفضيله، والفرقة الثانية نظرت إلى بدايته فى شأْنه ذلك ونهاية النفس المطمئنة فأَوجب لها شهود الأَمرين الحكم بترجيح القلب الخالى من تلك الدواعى ومجاهدتها، وكل واحدة من الطائفتين فقد أَدلت بحجج لا تمانع، وأَتت ببينات لا ترد ولا تدافع.