الرئيسيةبحث

شرح تشريح القانون لابن سينا/القسم الثاني/الفصل الثامن



فصل
تشريح القلب


قال الشيخ الرئيس رحمة الله عليه أما القلب فإنه مخلوق... إلى قوله: وإن كان أشبه الأعضاء بها لكن تحركها غير إرادي.

الشرح

إن فعل القلب كما بيناه أو لاً: أن يولد الروح الحيواني ويوزعه على الأعضاء لتحيا، وتوليده ذلك بأن يسخن الدم ويلطفه حتى إذا خالطه بما في الرئة من الهواء صلح ذلك المجموع لأن يصير روحاً حيوانياً. وذلك إذا حصل في القلب فلا بد من أن يكون له تجويف يحوي الدم الذي يحتاج إلى تسخينه وذلك بما يحدث فيه من الغليان الذي يلزمه تخلخل الجرم وانبساطه فلذلك لا يكفي في ذلك أن يكون ذلك الدم محوياً في العروق لأن العروق لا تتسع لهذا الانبساط الذي يحتاج إليه لأجل ترقق القوام جداً، فلا بد من أن يكون له تجويف آخر يحوي الروح الحيواني ومنه ينفذ في الشرايين إلى جميع الأعضاء وهذه الروح لا بد من أن تكون شديدة اللطافة هوائية فهي لا محالة مستعدة لسرعة التخلخل فلا بد من أن يكون القلب يمدها كل وقت بالغذاء وغذاؤها لا بد من أن يكون هوائياً يغلب على جوهره الجوهر الهوائي وإنما يمكن ذلك بمخالطة الأجزاء اللطيفة جداً الدموية لجوهر كثير هوائي وامتزاج ذلك المجموع وانطباخه حتى يستعد لأن يصير في القلب روحاً. وهذا الانطباخ والامتزاج لا يمكن أن يكون أو لاً في القلب فاستبين أن القلب دائماً في انبساط وانقباض وذلك ينافي بقاء ذلك الجرم فبه مدة في مثلها تمتزج وتنطبخ فلا بد من أن يكون ابتداء هذا الانطباخ والامتزاج في عضو آخر حتى إذا حصل له الاستعداد الذي به يقرب من طبيعة الروح نفذ إلى التجويف المملوء من الروح الذي في القلب فاستحال في ذلك التجويف إلى مشابة تلك الروح، وكان منه اغتذاؤها، وهذا العضو الذي يفيد هذا الاستعداد لا بد من أن يكون مشتملاً على هواء كثير يخالطه ما يلطفه القلب من الدم حتى يصير من مجموع ذلك مادة تصلح لتغذية هذا الروح فلا بد من أن يكون بالقرب من القلب فإنه لو كان بعيداً عنه لقد كان الرقيق من الدم النافذ إليه من القلب قد يبرد في المسافة الطويلة ويكثف فتبطل لذلك لطافته، وكان لم ينفذ من ذلك العضو من الهواء الخارج لتلك الأجزاء الدموية الذي استعد لتغذية الروح إلى أن يصل إلى القلب ويبرد ويفارقه ذلك الاستعداد فلذلك لا بد من أن يكون هذا العضو الذي يستعد فيه هذا المجموع لتغذية الروح مع كثرة الهواء فيه هو أيضاً بقرب القلب وذلك العضو هو الرئة فلذلك لا بد من أن يكون اغتذاء الروح الذي في القلب بأن يلطف الدم في القلب ويرق قوامه جداً ثم بعد ذلك ينفذ في الرئة ويخالطه ما فيها من الهواء وينطبخ فيها حتى يتعدل ويصلح لتغذية الروح ثم بعد ذلك ينفذ إلى الروح الذي في القلب ويختلط به ويغذوه وهذا الموضع الذي هو في القلب وفيه الروح لا بد من أن يكون متسعاً ليتسع بمقدار كفاية البدن كله من الروح فلذلك لا بد من اشتمال القلب على تجويف مجرى الدم، ويتلطف فيه ذلك الدم، وتجويف آخر يحوي الروح ومن ذلك التجويف ينفذ الروح إلى جميع الأعضاء ولا بد من أن يكون التجويف الذي فيه الدم بالقرب من الكبد الذي فيه يتكون الدم، وذلك بأن يكون في الجانب الأيمن من القلب، فإن موضع الكبد هو في الجانب الأيمن من البدن فلا بد من أن يكون التجويف الحاوي للروح هو في الجانب الأيسر من القلب ويجب أن يكون هذا التجويف الأيسر أكثر سعة من التجويف الأيمن لأن الدم الذي يخالط الهواء ويمتزج فيه يكفي فيه أن يكون قليل المقدار جداً لأن الغالب على هذا الروح يجب أن يكون هو الهواء نفسه فلذلك هذا الدم الذي يحتاج إلى تلطيفه في القلب لا يحتاج فيه أن يكون كثيراً جداً، وأما الروح الذي في الجانب الأيسر، فإنه يجب أن يكون كثيراً جداً ليفي بالانتشار في جميع الأعضاء فلذلك يحتاج أن يكون مكانه كثير السعة فلا بد من أن يكون هذا التجويف مع سعته عميقاً. ويلزم ذلك أن يكون القلب طويلاً ليتسع لعمق هذين التجويفين ولا بد من أن يكون فيه موضع كثير السعة ليتسع لهذين التجويفين ويجب أن يكون هذا الموضع الكثير السعة من القلب هو في أعلاه ليكون كل واحد من التجويفين بقرب الرئة فيسرع إليها وصول الدم الذي قد تلطف في التجويف الأيمن ويسرع إلى القلب نفوذ ما استعد في الرئة لتغذية الروح لينفذ بسرعة إلى التجويف الأيسر فلذلك يجب أن يكون أو سع موضع في القلب هو في أعلاه، وأما أسفله فيجب أن يكون رقيقاً لفقدان هذين التجويفين هناك. ولأن الغلظ هناك فضل غير محتاج إيه، ومع ذلك يضيق المكان على الأعضاء التي لا بد منها هناك. ولأن الغلظ هناك فضل غير محتاج إليه، ومع ذلك يضيق المكان على الأعضاء التي لا بد منها هناك ويجب أن يكون الانتقال من سعة أعلى القلب وغلظ جرمه إلى رقة أسفله بتدريج كتدريج البطن الأيسر في سعة أعلاه إلى ضيق أسفله، فلذلك يكون شكل القلب صنوبرياً.

قوله: مخلوق من لحم قوي الغالب على جرم القلب يجب أن يكون هو اللحم لأنه يحتاج أن يكون شديد الحرارة ليقوى على تلطيف الدم التلطيف المحتاج إليه فيما ذكرناه فلذلك يجب أن يكون الغالب على جرمه الجوهر اللحمي فإن ما سوى اللحم من الأعضاء فإن مزاجه بارد ويجب أن يكون هذا اللحم صلبا ليكون جرم القلب غير شديد القبول للانفعال من الواردات وإنما يكون اللحم صلباً إذا كانت الأرضية في جرمه كثيرة. ويلزم ذلك أن يميل لو نه عن لو ن اللحم الذي هو الحمرة إلى السواد يوجبه كثرة الأرضية في جرمه كثيرة، ويلزم أن يميل لو نه عن لو ن اللحم الذي هو الحمرة إلى السواد توحيه كثرة الأرضية.

وقد علمت أن الحق الذي ذهبنا إليه هو أن حركات القلب في انبساطه وانقباضه حركات إرادية وأن الحركات التي بالليف الجاذب الطولي، والدافع العرضي، والماسك المؤرب كلها حركات إرادية فلذلك أصناف الليف الذي فيه كلها حركات إرادية وإنما كثر فيه الليف ليزداد جرمه صلابة.

قوله: دقق منه الطرف الآخر كالمجموع إلى نقطة ليكون ما يبتلى بمماسة العظام أقل أجزائه. إن هذا الكلام مما لا يصح.

وذلك لأن أسفل القلب ليس البتة عنده عظم يلاقيه لأن القلب موضوع في وسط الصدر، وليس هناك البتة عظم وإنما العظام في محيط الصدر لا عند عظم يلاقيه لكان يلاقيه دائماً، وإنما كان أسفل القلب دائماً ممتلئاً والتألم والتضرر بملاقاته وذلك لا محالة مضعف لقوته.

قوله: كالأساس يشبه الغضروف في أصل القلب جرم أصلب من غيره من أجزاء القلب وتبلغ صلابته في بعض الحيوانات خاصة العظيم الجثة إلى أن يكون ذلك الجرم غليظاً وفائدة هذا الجرم فيما أظن أن يتصل به الجوهر الرباطي فإن الأربطة كما عرفته قبل جميعها يتصل بعظام قريبة من موضع بسطها إلى ليف العضل.

قوله: وفيه ثلاث بطون.

هذا الكلام لا يصح.

فإن القلب فيه بطنان فقط. أحدهما مملوء بالدم، وهو الأيمن، والآخر مملوء بالروح وهو الأيسر. ولا منفذ بين هذين المنفذين البتة. وإلا كان الدم ينتقل إلى موضع الروح فيفسد جوهرها. والتشريح يكذب ما قالوه.

فالحاجز بين البطنين أشد كثافة منه غيره لئلا ينفذ منه شيء من الدم أو من الروح فيضيع.

فلذلك قول من قال: إن ذلك الموضع كثير التخلخل باطل والذي أو جب له ذلك ظنه أن الدم الذي في البطن الأيسر إنما ينفذ إليه من البطن الأيمن من هذا التخلخل، وذلك باطل فإن نفوذ الدم إلى البطن الأيسر إنما هو من الرئة بعد تسخنه وتصعده من البطن الأيمن كما قررناه أولاً.

قوله: ليكون له مستودع غذاء يتغذى به كثيف قوي يشاكل جوهره ومعدن يتولد فيه عن دم لطيف، ومجرى بينهما.

غرضه بهذه الدلالة على ثبوت البطون الثلاثة التي ظن ثبوتها وإنما هي بطنان فقط كما قررناه. وجعله للدم الذي في البطن الأيمن منه يغتذي القلب، لا يصح البتة.

فإن غذاء القلب إنما هو الدم المنبث فيه من العروق المنبثة في جرمه ولو كان القلب يغتذي من ذلك لكان يميله إلى مشابهة جوهره فكان يميله إلى الغلظ والأرضية وليس ذلك الدم كذلك إذ هو أرق من غيره من الدماء التي عند الأعضاء بل فائدة ذلك الدم أن يتلطف فيه ويرق قوامه جداً ويتصعد إلى الرئة ويخالط الهواء الذي فيها وينفذ بعد ذلك في الشريان الوريدي إلى التجويف الأيسر من تجويفي القلب فيكون من ذلك المجموع الروح الحيواني.

قوله: وذلك المجرى يتسع عند تعرض القلب وينضم عند تطوله.

إن هذا الذي يدعي وجوده ويسميه بطناً أوسط قد بينا أن لا وجود له فضلاً عن أن يكون حاله يختلف في الاستعراض والانضمام بحسب ما يدعى من تعرض القلب وتطوله فإن الحركة التي يعتبر فيها للقلب إنما حركة الانبساط والانقباض وأما التطول والاستعراض فمما لا أعتقد له وجوداً.

قوله: وقاعدة الأيسر أرفع، وقاعدة البطن الأيمن أنزل بكثير بسبب ذلك أن رأس القلب وهو طرفه الدقيق مائل إلى الجانب الأيسر كما بيناه.

ويلزم من ذلك أن يكون أعلاه على الصفة المذكورة.

قوله: بانبساط فيجذب الدم إلى داخله كما يجتذب الهواء.

المشهور أن البطن الأيمن من القلب له أيضاً انبساط وانقباض فإنه يجذب الدم بانبساط كما يجذب البطن الأيسر بانبساط النسيم.

وهذا عندنا من الخرافات.

فإن الجذب بالانبساط والانقباض إنما يكون لما لطف من الأجسام والدم ليس كذلك فإن الجسم الكثيف إنما يجذب بسبب الخلاء الحادث بالانبساط إذا لم يوجد جسم ألطف منه ينجذب بذلك فإن الخلاء إنما يجذب ما لطف ثم ما كثف إذا أعوز اللطيف والدم يكفي في انجذابه إلى القلب ما فيه من القوة الجاذبة الطبيعية كما في غيره من الأعضاء وانبساط البطن الأيسر وانقباضه كما نبين في غير هذا الموضع إنما هو لأجل تعديل الروح بالنسيم ودفع فضولها وتغذية الروح بما ينجذب من النسيم المخالط للطيف الدم. وهذا كله مما لا يتحقق في البطن الأيمن فلذلك هو، والله أعلم غير متحرك البتة.

قوله: وقد أخطأ من ظن أن القلب عضلة وإن كان أشبه الأشياء بها لكن بحركة غير إرادي.

قد بينا في مواضع كثيرة أن حركة القلب في انبساطه وانقباضه حركة إرادية وإن كنا لا نشعر بها، ولا بأنا مريدين لها، كما أن حركة العضل كذلك وأما أن القلب هل يسمى عضلة أو لا? فذلك مما لا يسوغ النزاع فيه. والله ولي التوفيق.