الرئيسيةبحث

شرح العمدة في الفقه/كتاب الطهارة

شرح العمدة في الفقه
كتاب الطهارة
ابن تيمية

كتاب الطهارة

باب أحكام المياه

مسألة خلق الماء طهورا يطهر من الأحداث والنجاسات

الطهور هو ما يتطهر به مثل الفطور والسحور والوجور فأما الطهور فمصدر طهر الشيء وطهر طهارة وطهرا وطهورا ليس الطهور هو الطاهر ولا مبالغة فيه وكذلك قال النبي ﷺ لما سئل عن ماء البحر هو الطهور ماؤه الحل ميته وقال جعلت لنا الأرض مسجدا وطهورا أي مطهرة وهذه صفة للماء دون غيره من المائعات فلذلك طهر غيره ودفع النجاسة عن نفسه والحدث هو معنى يقوم بالبدن تمتنع معه الصلاة والطواف والنجاسة هي أعيان مستخبثة في الشرع يمتنع المصلي من استصحابها وهي في الأصل مصدر نجس الشيء ينجس نجاسة فهو نجس ويقال نجس الشيء ينجس نجسا ثم سمي الشيء النجس نجاسة ونجسا فلا يثنى ولا يجمع إلا أن يريد الأنواع والماء يطهر من الحدث والنجاسة لقوله تعالى } وأنزلنا من السماء ماء طهورا } وقوله تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وقوله في آية الوضوء { فلم تجدوا ماء فتيمموا } وتطهر النبي ﷺ وأصحابه بالماء مشهور وأجمعت الأمة على ذلك

مسألة ولا تحصل الطهارة بمائع غيره

أما طهارة الحدث فهي كالإجماع لأن الله تعالى أمر بالتيمم عند عدم الماء وقال النبي ﷺ ( الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء عشر سنين إلا في النبيذ نبيذ التمر فإن بعض العلماء أجاز الوضوء به في الجملة على تفصيل لهم لما روى ابن مسعود قال كنت مع النبي ﷺ ليلة لقي الجن فقال أمعك ماء قلت لا قال فما في هذه الاداوة قلت نبيذ قال أرنيها تمرة طيبة وماء طهور فتوضأ ثم صلى رواه الإمام أحمد وابن ماجة وأبو داود والترمذي وهذا الحديث قد ضعفه جماعة من الحفاظ ثم إن صح فلعله كان ماء قد طرح فيه تمرات تزيل ملوحته بدليل قوله تمرة طيبة وماء طهور ثم هو منسوخ بآية المائدة التي فرض فيها اليمم عند عدم الماء فإن قصة الجن كانت بمكة في أول الإسلام وأما نجاسة الخبث فعنه ما يدل على أن تزال بكل مائع طاهر يزيل كالخل ونحوه وهو قول أبي حنيفة لأن المقصود هو زوال النجاسة ولذلك يحصل بصوب الغمام وبفعل المجنون وبدون النية وظاهر المذهب كما ذكره الشيخ لأن النبي ﷺ أمر بالماء في حديث الأعرابي الذي بال في المسجد وفي دم الحيض وغسل آنية المجوس ولأن الطهارة بالماء يجوز أن تكون تعبدا فلا يلحق به غيره كطهارة الحدث ولأن الماء ألطف وأنفذ في الأعماق مع أنه ليس له في نفسه طعم ولا لون ولا ريح يبقى بعد زوال النجاسة وهو مخلوق للطهارة دون غيره من المائعات فإنها خلقت للآكل وللدهان وغير ذلك وأعمها وجودا وهو طهور يدفع النجاسة عن نفسه ولا يتنجس في وروده عليها إلى غير ذلك من الصفات التي اختص بها فلا يجوز إلحاق غيره به

مسألة فإذا بلغ الماء قلتين أو كان جاريا لم ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه وما سوى ذلك يتنجس بمخالطته النجاسة

أما الماء الدائم فظاهر المذهب أنه لا يتنجس بوقوع النجاسة فيه إذا كان كثيرا إلا أن يظهر فيه طعم النجاسة أو لونها أو ريحها وأن القليل ينجس بالملاقاة وعنه رواية أخرى أن الجميع لا ينجس إلا بالتغير لما روى أبو سعيد الخدري قال قيل يا رسول الله أنتوضأ من بئر بضاعة وهي بئر يلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن فقال رسول الله ﷺ الماء طهورا لا ينجسه شيء وفي رواية أنه يستقى لك من بئر بضاعة وهي بئر يطرح فيها محائض النساء ولحوم الكلاب وعذر الناس فقال رسول الله ﷺ إن الماء طهور لا ينجسه شيء رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن قال الإمام أحمد هو حديث صحيح

والصحيح الأول لما روى عبدالله بن عمر قال سمعت رسول الله ﷺ وهو يسأل عن الماء يكون في الفلا من الأرض وما ينوبه من السباع والدواب فقال إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث رواه الائمة الخمسة ولفظ ابن ماجة وأحمد في رواية لم ينجسه شيء قال الترمذي حديث حسن فلو كان القليل لا يحمل الخبث ولا يتنجس لم يكن لتقديره فائدة وصح عنه أنه ﷺ نهى عن البول في الماء الدائم ثم الاغتسال منه ونهى عن اغتسال الجنب فيه وأمر المستيقظ من نوم الليل ألا يغمس يده فيه وأمر بإراقة الإناء من ولوغ الكلب فيه وهذا كله يدل على أن القليل تؤثر فيه النجاسة ولانه لقلته قد تبقى النجاسة فيه غير مستهلكة فيفضي استعماله إلى استعمالها وقوله ﷺ لا ينجسه شيء يريد والله أعلم أن ذات الماء لا تنقلب نجسة بالملاقاة فرقا بينه وبين المائعات حيث تنقلب نجسة بوقوع النجاسة فيها لأنه طهور يطهر غيره فنفسه أولى فأما إذا تغير بالنجاسة فإنما حرم استعماله كما يحرم استعمال الثوب الملطخ بالدم والبول فإذا زال التغير كان كزوال النجاسة عن الثوب ولهذا السبب كان سائر المائعات غير الماء ينجس بوقوع النجاسة فيه قليلا كان أو كثيرا في المشهور من المذهب وعنه اعتبار القلتين فيها كالماء وعنه اعتبارها فيما أصله الماء منها كخل التمر دون ما ليس أصله الماء كالعصير وحد الكثير هو القلتان في جميع النجاسات على إحدى الروايتين كما ذكره الشيخ واختاره أبو الخطاب وابن عقيل وأكثر متأخري أصحابنا على ظاهر حديث ابن عمر والرواية الاخرى أن البول من الآدمي والعذرة الرطبة خاصة ينجسان الماء إلا أن يكون مما لا يمكن نزحه كالمصانع التي بطريق مكة وأكثر نصوص أحمد على هذا وهو قول أكثر المتقدمين من أصحابنا لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن الرسول الله ﷺ قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه رواه الجماعة وقال الخلال وجدنا بإسناد صحيح عن علي أنه سئل عن صبي بال في بئر فأمرهم أن ينزحوها وأما الماء الجاري فعن أحمد ما يدل على روايتين إحداهما أنه كالدائم إذا كانت عين النجاسة في جريه منه تبلغ قلتين ولم تتغير فهي طاهرة وإن نقصت عنها فهي نجسه وإن كانت النجاسة واقعة بكل جرية تمر عليها ولم تتغير إن بلغت قلتين فهي طاهرة وإلا فهي نجسة والجرية ما تحاذي النجاسة من فوقها وتحتها وعن يمينها وعن شمالها ما بين جانبي النهر فأما ( ما ) أمامها فهو طاهر لأنها لم تلحقه وكذلك ما وراءها لأنها لم تصل اليه وإن اجتمعت الجريات كلها وفيها جرية طاهرة تبلغ قلتين فالجميع طاهر ما لم يتغير وإلا فهو نجس في المشهور وعلى قولنا إن ضم القليل إلى القليل أو الكثير النجس يوجب طهارة الجميع إذا زال التغير فهنا كذلك

وقال ابن عقيل متى بلغ المجموع هنا قلتين وكانت النجاسة في جرية منه فهو طاهر لأنه ماء واحد وقال السامري إن كانت الجرية التي فيها النجاسة قلتين أو مجموع المتقدم والمتأخر قلتين فهو طاهر وإلا فلا

وهذه الرواية اختيار القاضي وجمهور أصحابنا لعموم حديث القلتين وقياسا للجاري على الدائم والرواية الاخرى أن الجاري لا ينجس إلا بالتغير قليلا كان أو كثيرا اختاره الشيخ وغيره وهو أظهر لأن النبي ﷺ قال لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه وفي لفظ يتوضأ منه ومفهومه جواز ذلك في الجاري مطلقا وكذلك قوله لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب ومفهومه جواز الاغتسال في الجاري وإن استدبر الجرية وكذلك نهيه ﷺ أن يبال في الراكد ومفهومه الإذن في البول في الماء الجاري ولو ينجسه لم يأذن فيه وكذلك حديث بئر بضاعة عام ومفهوم حديث القلتين لا يعارض هذا لأن قوله إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث دليل على أن ما دون القلتين بخلاف ذلك وإذا فرقنا بين جاريه وواقفه حصلت المخالفة لا سيما وسبب الحديث هو السؤال عن الماء الراكد ولأن القليل الواقف إنما ينجس والله أعلم لضعفه عن استهلاك النجاسة والجاري لقوة جريانه يحيلها ويدفعها إذا ورد عليها فكان كالكثير

مسألة والقلتان ما قارب مائة وثمانية أرطال بالدمشقي القلة هي الجب والخابية سميت بذلك لأنها تقل باليد والتقدير بقلال هجر هكذا رواه الشافعي والدارقطني في حديث مرسل إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر وهي قلال معروفة عندهم كانوا يعتبرون بها الاشياء وهي أكثر القلال وأشهرها على عهد النبي ﷺ قال النبي ﷺ في حديث المعراج ثم رفعت لي سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر وإذا ورقها مثل أذان الفيلة وأما قلال هجر فقال ابن جريج رأيت قلال هجر فرأيت القلة منها تسع قربتين أو قربتين وشياء فأثبتنا الشيء احتياطا وجعلناه نصفا لأنه أقصى ما يطلق عليه اسم شيء منكر فصارت القلتان خمس قرب بقرب الحجاز وقرب الحجاز كبار معلومة تسع القربة منها نحو مائة رطل كذا نقله الذين حددوا الماء بالقرب وإنما يقال ذلك بعد التجربة فصارت القلتان خمسمائة رطل بالعراقي ورطل العراق الذي يعتبر به الفقهاء تسعون مثقالا فيكون مائة وثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع درهم فإذا حسبت ذلك برطل دمشق وهو ستمائة درهم كانت القلتان مائة وسبعة أرطال وسبع رطل

وعنه رواية أخرى أنها أربعمائة رطل لأن يحيى بن عقيل قال رأيت قلال هجر وأظن كل قلة تأخذ قربتين والأول أحوط فإن الثاني إنما أخبر عن ظن وهذا التحديد تقريب في الصحيح من الوجهين وقيل من الروايتين فلو نقص الماء نقصا يسيرا لم يؤثر لأن تقدير القلال بالقرب إنما كان عن رأي وحساب يقبل الزيادة والنقص وتقدير القرب بالارطال تقريب فإن القرب وغيرها من أوعية الماء لا تكاد تتساوى على التحقيق إذ لا يقصد كيل الماء ووزنه غالبا في تطهير الماء فإذا كان الماء كثيرا يبلغ قلتين فإنما ينجس بالتغير فإذا زال التغير طهر لأن الحكم إذا ثبت بعلة زال بزوالها كالخمر إذا زالت عنه الشدة المسكرة صار حلالا طاهرا أو كالثوب النجس إذا غسل طهر وذلك بثلاثة اشياء أحدها ان يزول بنفسه فيطهر في أصح الروايتين والثانية لا يطهر لأن النجاسة بحالها لم تزل ولم تستهلك والصحيح الأول لأنها تستهلك بمرور الزمان عليها الثاني أن ينزح الماء ويزول تغيره وهو قلتان فصاعدا لأن بالنزح زالت النجاسة فإن لم يزل تغيره حتى نقص عن القلتين كان حينئذ نجسا بالملاقاة فلا يطهر بزوال تغيره بعد ذلك الثالث أن يضم اليه قلتا ماء طهور جملة أو متتابعا بحسب العادة بصب أو إجراء من عين أو نهر أو نبع ويزول تغيره فيطهر سواء اختلط الماء ان أو لم يختلطا بأن يكون أحدهما صافيا والآخر كدرا لانهما قلتان أضيفتا إلى مائع نجس ولم يغيرهما كان الجميع طاهرا كما لو أضيفتا إلى خمر أو دم وأما الماء القليل فسواء كان متغيرا أو لم يكن لا يطهر حتى يضم إليه قلتا ماء طهور ويزول تغيره لأن نجاسته تكون بملاقاة القليل للنجاسة فإذا كان المضاف إليه كثيرا دفع النجاسة عن نفسه وعما يرد عليه فأما إن أضيف إلى الكثير المتغير أو إلى القليل ما دون القلتين وزال تغيره لم يطهر في ظاهر المذهب وقيل يطهر فيهما وقيل يطهر في الصورة الأولى دون الثانية فأما إن طرح فيه تراب فقطع تغيره لم يطهر ولا يجب غسل جوانب النهر في أصح الروايتين

فصل

فإن تغير بعض الماء الكثير بالنجاسة لم تنجس بقيته إذا بلغ قلتين في أصح الوجهين وقال ابن عقيل ينجس لأنه ماء واحد وإذا لم يتغير الماء الكثير بالنجاسة وكانت مستهلكة فيه كالبول والخمر جاز استعمال جميعه ولم يجب أن يبقى قدرها وإن كانت النجاسة قائمة فيه وهو قدر القلتين فاغترفت منه في إناء فهو طهور وإن كان أكثر من قلتين جاز التناول من جميع جوانبه سواء كان بينه وبين النجاسة قلتان أو لا وسواء في نجاسته ما يدركه الطرف وما لا يدركه إذا تيقن وصوله إلى الماء في المشهور من المذهب ولو سقطت عذرة أو قطعة ميتة في ماء يسير فانتضح منه بسقوطها شيء فهو نجس وإذا شك هل ما وقعت فيه النجاسة قلتان أو انقص فهو نجس في أصح الوجهين

مسألة وإن طبخ في الماء ما ليس بطهور أو خالطه فغلب على اسمه أو استعمل في رفع حدث سلب طهوريته

أما إذا طبخ فيه كماء الباقلي المغلي فإنه قد صار أدما ومرقة ليس بماء حقيقة ولا اسما وأما إذا خالطه فغلب على اسمه أما بأن سلب الماء رقته وجريانه فتصير صبغا وحبرا إن كان كثيفا أو تكون أجزاؤه أكثر من أجزاء الماء إن كان لطيفا حتى يقال حل فيه ماء أو ماء ورد فيه ماء فهذا لم تنف فيه حقيقة ولا اسما وإن غير طعمه أو لونه أو ريحه سلبه التطهير أيضا في أشهر الروايتين لأنه ليس بماء مطلق

والرواية الاخرى هو باق على تطهيره وكذلك على هذه أن غير صفاته الثلاث في أشهر الطريقين وعنه أنه طهور إذا لم يجد المطلق هكذا حكى بعض أصحابنا ثلاث روايات وحكى السامري طريقين أحدهما أن الروايتين على الإطلاق والثانية أن الروايتين فيما إذا عدم الماء المطلق فقط وهي طريقة ابن أبي موسى وعلى الأولى في التغير اليسير ثلاثة أوجه أحدها انه كالكثير والثاني في الفرق بين الرائحة وغيرها والثالث العفو عنه مطلقا وهو اصح

فصل

فأما إن تغير بما لا يمكن صونه عنه فهو باق على طهوريته كالماء المتغير بالطحلب وورق الأشجار المنجابة فيه وما يحمله المد من الغثاء وما ينبت فيه وكذلك ان تغير بطول مكثه وكذلك ما تغير بمجاريه كالقار والنفط لأن هذا التغير لا يمكن صون الماء عنه وهو من فعل الله ابتداء فأشبه التغير الذي خلق الله عليه الماء حتى لو طرحت فيه هذه الاشياء عمدا سلبته التطهير إلا الملح المنعقد من الماء لأنه ماء فهو كذوب الثلج والبرد وفي التراب وجهان لكونه طهورا في الجملة

وإن تغير بطاهر لا يخالطه كالخشب والادهان وقطع الكافور فهو باق على طهوريته في أشهر الوجهين ولا أثر لما غير الماء في محل التطهير مثل ان يكون على بدن المغتسل زعفران أو سدر أو خطمي فتغير به لأن النبي ﷺ أمر بغسل المحرم وغسل ابنته بماء وسدر وأمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر ولأن هذا تدعو اليه الحاجة

فصل وأما المستعمل في رفع الحدث فهو طاهر في ظاهر المذهب لما روى جابر قال جاءني رسول الله ﷺ وأنا مريض لا أعقل فتوضأ وصب وضوءه علي متفق عليه

وفي الصحيح أيضا عن المسور بن مخرمه أن النبي ﷺ كان إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ولأن بدن المحدث طاهر فلا ينجس الماء بملاقاته كسائر الطاهرات ودليل طهارته ما روى الجماعة عن أبي هريرة قال لقيني رسول الله ﷺ وأنا جنب فانسللت فأتيت الرحل فاغتسلت ثم جئت وهو قاعد فقال أين كنت يا أبا هريرة فقال كنت جنبا فقال سبحان الله إن المؤمن لا ينجس وهو مع طهارته غير مطهر في المشهور أيضا لما روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب قالوا يا أبا هريرة كيف يفعل قال يتناوله تناولا رواه مسلم ولو كان الغسل فيه يجزئ ولا يغير الماء لم ينه عنه ولأن الصحابة ما زالوا تضيق بهم المياه في اسفارهم فيتوضؤون ولا يجمعون مياه وضوئهم ولو كانت مطهرة لجمعوها ولأنه مستعمل لإزالة مانع من الصلاة فانتقل حكم المنع إليه كالمستعمل في إزالة النجاسة وما دام الماء يجري على بدن المغتسل وعضو المتوضئ على وجه الاتصال فليس بمستعمل حتى ينفصل

فإن انتقل من عضو إلى عضو لا يتصل به مثل أن يعصر الجنب شعر رأسه على لمعة من بدنه أو يمسح المحدث رأسه ببل يده بعد غسلها فهو مستعمل في إحدى الروايتين كما لو انفصل إلى غير محل التطهير مثل أن يمسح رأسه ببل يأخذه من لحيته أو يعصر شعره في كفه ثم يرده على اللمعة وفي الاخرى ليس بمستعمل وهو أصح لما روت الربيع بنت معوذ أن النبي ﷺ مسح رأسه بما بقي من وضوئه في يديه رواه أحمد وأبو داود وعن ابن عباس قال اغتسل رسول الله ﷺ من جنابة فلما خرج رأى لمعة على منكبه الايسر لم يصبها الماء فعصر شعره عليها رواه أحمد وابن ماجة ولانه ما زال يتنقل في مواضع التطهير فأشبه انتقاله إلى محل متصل وإن اغتمس الجنب في ماء يسير بنية الطهارة صار الماء مستعملا ولم يرتفع حدثه لنهي النبي ﷺ عن ذلك والنهي يقتضي الفساد وهل يصير مستعملا بانفصاله أول جزء منه أو بملاقاة أول جزء منه على وجهين انسبهما بكلامه الأول وصار هنا مستعملا قبل انفصال جميع البدن بخلاف ما إذا اغتسل لا يصير حتى ينفصل كما أن الماء إذا ورد على النجاسة لم ينجس حتى ينفصل وإذا وردت على قليله نجسته ولو لم ينو الاغتسال حتى انغمس كان كمن صب عليه الماء فترتفع الجنابة ويصير مستعملا في وجه وفي وجه لا يرتفع إلا عن أول جزء منفصل وإذا غمس المتوضئ يده في الإناء بعد غسل وجهه ولم ينو غسلها فيه لم يصر مستعملا وقيل يصير مستعملا كما لو اغترف بها الجنب بعد النية والصحيح الأول لأن عبد الله بن زيد لما توضأ وضوء رسول الله ﷺ اغترف بيده من الإناء بعد غسل وجهه وقال هكذا كان يتوضأ رسول الله ﷺ وكذلك الجنب في رواية والرواية الاخرى الفرق للعسر والمشقة في الوضوء ولأن الاثر جاء فيه وإذا كان الانغماس في ماء كثير لم يغيره كالنجاسة واولى

ولو جمع حتى بلغ قلتين كان كالماء القليل النجس إذا جمع إلى مثله حتى بلغ قلتين لا يصير طهورا في ظاهر المذهب

فصل

فأما المستعمل في طهر مستحب كغسل الجمعة وتجديد الوضوء فهو طهور في أظهر الروايتين لأنه لم يزل مانعا وفي الاخرى هو غير مطهر لأنه مستعمل في طهارة شرعية فأشبه الأول وعلى هذا إذا قلنا إن وطء الذمية لا يجوز حتى تغتسل من الحيض وهو إحدى الروايتين فاغتسلت كان ذلك الماء مستعملا لأنه أزال المانع وقيل لا يكون مستعملا لأنه ليس بعبادة

وإذا غسل رأسه بدلا عن المسح ففي المسألة وجهان فأما فضل الطهور وهو ما تبقى في الإناء فهو طهور سواء كان المتطهر رجلا أو أمرأة لما روى ابن عباس قال اغتسل بعض أزواج النبي ﷺ من صحفة فأراد النبي ﷺ أن يتوضأ منه فقلت يا رسول الله إني كنت جنبا فقال إن الماء لا يجنب رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح لكن إذا خلت بالطهارة منه أمرأة لم يجز للرجل أن يتطهر به في وضوء ولا غسل في أشهر الروايتين

لما روى الحكم بن عمرو الغفاري أن رسول الله ﷺ نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة رواه الخمسة وقال الترمذي هذا حديث حسن قال أحمد أكثر أصحاب رسول الله ﷺ يقولون إذا خلت بالماء فلا يتوضأ منه ويحمل توضؤ النبي ﷺ بفضل وضوء ميمونه على أنها لم تخل به توفيقا بين الحديثين وإن تعارضا فحديث المنع أولى لأنه حاضر ولانه ناقل عن الاصل فيكون أولى من المبقي على الاصل لأن الاصل الحل فالحضر بعده فإن كان الحل بعده لزم البعد مرتين وإن كان الحل قبل الحظر لزم مرة واحدة

والخلوة لا يشاركها الرجل سواء شاهدها أو لم يشاهدها في إحدى الروايتين لعموم الحديث خصص منه حال المشاركة لقول عائشة كنت أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد تختلف أيدينا فيه من الجنابة متفق عليه وقال عبد الله بن سرجس اغتسلا جمعيا هي هكذا وأنت هكذا فإذا خلت به فلا تقربه والرواية الاخرى ألا تشاهد عند الطهارة وهي أصح لأن النبي ﷺ توضأ بفضل ميمونة

ومتى شاهدتها أمرأة أو صبي مميز أو كافر فهو كالرجل عند الشريف أبي جعفر وغيره كخلوة النكاح

وقال القاضي يختص بالرجل المسلم لأن الحكم يختص به بخلاف خلوة النكاح وهل يختص ذلك بفضل طهارة الحدث أو يعم طهارتي الحدث والخبث على وجهين وكذلك هل للرجل استعماله في الخبث على وجهين وفيما خلت به الكافرة وجهان فأما ما خلا به خنثى مشكل فلا بأس به ولا يؤثر التطهير من الماء الكثير في أصح الوجهين

فأما فضل طهور الرجل للمرأة فلا بأس به في المنصوص المشهور وقيل تمنع منه ولا بأس بشربه في اصح الروايتين ويكره في الاخرى إذا خلت به

فأما المستعمل في غير الحدث فلا بأس به إلا ما غمس القائم من نوم الليل يده فيه قبل غسلها ثلاثا ففي بقاء طهوريته روايتان فإن قلنا يؤثر فسواء غمسها قبل نية غسلها أو بعده في المشهور وقيل لا يؤثر إلا بعد نية غسلها وقيل بعد نية الوضوء نوى غسلها أو لم ينوه وحد هذه اليد إلى الكوع وفي غمس اليسير كالاصبع والاصبعين وجهان وفي غمس من ليس من أهل الطهارة الشرعية كالكافر والمجنون والصبي غير المميز وجهان ولا يؤثر الغمس في الكثير نص عليه بل يصح وضوؤه فيه ويجزئ عن غسلهما وكذلك ما لو وقف تحت انبوب أو ميزاب فتوضأ ولم ينقل الماء بيده فأما إذا نقله بيده أو صبه فيهما من الإناء صبا وتوضأ قبل غسلهما فهل يجزئه عن غسلهما ويصح وضوؤه على روايتين ويجوز استعمال هذا الماء فيما تستعمل فيه المياه الطاهرة في أشهر الوجهين وفي الآخر يراق بكل حال وإذا لم يجد إلا هذا الماء على القول بأنه غير طهور توضأ به وتيمم والمنفصل من اليد المغسولة كالمغتسل به في رفع الحدث إن قيل بوجوبه وإلا فكالمستحب

فصل

ولا يكره المسخن بالشمس في المنصوص المشهور وقال التميمي وحفيده رزق الله يكره لأنه روى عن عمر لا تغتسلوا بالمشمس فإنه يورث البرص وليس بشيء لأن الناس ما زالوا يستعملونه ولم يعلم أن أحدا برص ولأن ذلك لو صح لم يفرق بين ما قصد بتشميسه وما لم يقصد والاثر ان صح فلعل عمر بلغه ذلك فنهى عنه كما نهى النبي ﷺ عن تأبير النخل وقال ما أراه يغني شيئا ثم قال أنتم أعلم بأمر دنياكم لأن المرجع في ذلك إلى العادة وكذلك المسخن بالنار إلا أن يكون شديد الحرارة يمنع غسباغ الوضوء

لأن النبي ﷺ أذن في دخول الحمام بالأرز إلا أن يكون الوقود نجسا فيكره في اصح الروايتين لاحتمال وصول بعض اجزاء النجاسة إلى الماء فإن كان بينهما حاجز حصين كره أيضا في أحد الوجهين لأن سخونته إنما كانت باستعمال النجاسة وايقادها هل هو مكروه أو محرم على وجهين وفي كراهة الاغتسال والتوضؤ من ماء زمزم روايتان وأما إزالة النجاسة به فتكره قولا واحدا

مسألة وإذا شك في طهارة الماء أو غيره أو نجاسته بنى على اليقين

يعني إذا تيقن الطهارة ثم شك هل تنجس أم لا بنى على ما تيقنه من طهارته وكذلك إذا تيقن النجاسة وكذلك البدن والثوب والأرض وجميع الأعيان وهذه قاعدة ممهدة في الشرع وهي استصحاب الحال المعلومة وإطراح الشك ولذلك لم يكره التوضؤ بماء سقايات الأسواق والحياض الموروده وكذلك إذا تيقن الحدث أو الطهارة وشك في زواله بنى على المستيقن فإذا شك في عدد الركعات أو الأطواف أو الطلقات بنى على اليقين وهو الأقل وكذلك إذا شك في حياة الرجل وموته لتوريثه بنى على يقين الحياة وإذا شك في خلق الجنين وقت موت مورثه بنى على اليقين وهو العدم وفروع هذا الأصل كثيرة جدا والسبب في ذلك أن الشيء إذا كان على حال فانتقاله عنها يفتقر إلى زوالها وحدوث الأخرى وبقاء الثانية وبقاء الأولى لا يفتقر إلا إلى مجرد الإبقاء فيكون البقاء أيسر من الحدوث فيكون أكثر والأصل إلحاق الفرد بالأعم الأغلب فإن أخبره مخبر بنجاسته لم يجب أن يقبل منه حتى يبين السبب فيقبل سواء كان رجلا أو أمرأة مستورا أو معروفا بالعدالة بخلاف الفاسق وخبر الصبي كشهادته

مسألة وإن خفي موضع النجاسة من الثوب أو غيره غسل ما تيقن به غسلها

لأنه اشتبه الطاهر بالنجس فوجب اجتناب الجميع حتى يتيقن الطهارة إما بالغسل أو اليقين كما لو اشتبه المذكى بالميت ولانا قد تيقنا النجاسة فلا يزول حكمها إلا بيقين الطهارة بناء على اليقين فعلى هذا إن كان رآها على يديه أو على ثوبه الملبوس غسل ما يمكن رؤيته وإن رآها على أحد كميه غسل الكمين وإن رآها على بقعة غسلها جميعها فأما إذا تيقن أنها أصابت موضعا بعينه وشك هل أصابت غيره لم يجب أن يغسل إلا ما تيقن نجاسته

وقد نبه الشيخ رحمه الله تعالى على أنه إذا اشتبه الطاهر بالنجس اجتنبهما جميعا وهذا ظاهر المذهب وقال جماعة من أصحابنا يتحرى إذا كانت أواني الماء الطهور أكثر والأول أصح لما تقدم ويلزمه أن يعدم الطهور بخلطه بالنجس أو بإراقتهما في إحدى الروايتين وهذا إذا لم يكن محتاجا اليه للشرب ونحوه فإنه حينئذ لا يريقه ويجب التحري للاكل والشرب في اصح الروايتين ولا يلزمه غسل ما أصاب ه إذا وجد الماء في اصح الوجهين

مسألة وإن اشتبه طهور بطاهر توضأ من كل واحد منهما

لأنه أمكنه تأدية فرضه بيقين من غير ضرر فاشبه ما لو نسي صلاة من يوم لا يعلم عينها ثم إن شاء توضأ من كل واحد منهما وضوءا كاملا وإن شاء غسل العضو من هذا ثم من هذا ثم يصلي صلاة واحدة في اصح الوجهين هذا إذا لم يكن محتاجا إلى أحدهما للشرب فإن كان محتاجا اليه توضأ بما يرى أنه المطهر والا بأيهما شاء ويتيمم في الصورتين

مسألة وإن اشتبهت الثياب الطاهرة بالنجسة صلى في ثوب بعد ثوب بعدد النجس وزاد صلاة

لانه إذا صلى صلاة زائدة على عدد النجس تيقن أنه صلى في ثوب طاهر ولم تتعد اليه النجاسة بخلاف الاواني ولا يجزئه أن يتحرى كالقبلة للعلة التي تقدمت لأن القبلة يغلب اشتباهها وعليها دلائل منصوبة وإصابة عين الكعبة لا يحصل بالتكرار وسواء قلت النجاسة أو كثرت في المشهور وقال ابن عقيل إذا كثرت ولم يعلم عددها أجزا التحري وهذا التكرار في المياه والثياب إنما يجزئ إذا لم يكن طاهرا بيقين فأما مع وجوده فلا يجزئ إلا به لأنه لا بد من الجزم بالنية إذا أمكن إلا أن يتوضأ بغرفة من هذا وغرفة من هذا

مسألة وتغسل نجاسة الكلب والخنزير سبعا إحداهن بالتراب

أما الكلب والخنزير فلا يختلف المذهب في نجاستهما وفي وجوب غسل الاناء من نجاستهما سبعا إحداهن بالتراب لما روى أو هريرة أن رسول الله ﷺ قال إذا شرب الكلب في اناء أحدكم فليغسله سبعا رواه الجماعة ولمسلم طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب ولمسلم أيضا ( إذا ولغ الكلب في اناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرار

فلما أمر بإراقة الاناء وسمي الغسل طهورا دل على النجاسة إذا الطهارة الواجبة في عين البدن لا تكون إلا عن نجاسة وعنه أنه يجب غسلها ثمانيا لما روى عبد الله بن مغفل أن رسول الله ﷺ قال إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب رواه مسلم وغيره والصحيح أنه عد التراب ثامنة وإن لم تكن غسله كما قال تعالى ثلاثة رابعهم كلبهم يحقق ذلك ان أهل اللغة قالوا إذا كان اسم فاعل على العدد من غير جنس المفعول يجعله زائدا كما قال الله تعالى ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم وإن كان من جنسه جعله أحدهم لقوله ثاني اثنين فلما قال سبع مرات علم أن التراب سماه ثامنا لأنه من غير الجنس وإلا قال فاغسلوه ثمانيا وعفروه الثامنة كما روى أبو داود في حديث أبي هريرة إذا ولغ الكلب في الاناء فاغسلوه سبع مرات السابعة بالتراب

واذا ثبت هذا الحكم في الكلب فالخنزير الذي لا يباح اقتناؤه والانتفاع به أصلا ونص عليه القرآن أولى وله ان يستعمل التراب في أي غسله شاء فإن كان المحل يتضرر بالتراب لم يجب استعماله في اصح الوجهين

ويجزئ موضع التراب الاشنان والصابون ونحوهما في أقوى الوجوه

وقيل لا يجزئ مطلقا وقيل لا يجزئ إلا عند عدم التراب واما الغسلة الثامنة فلا تجزئ بدل التراب في الاصح ويجب التسبيع والتراب في جميع نجاسات الكلب من الريق والعرق والبول وغيرها وكذلك في جميع موارد نجاسته التي لا تتضرر بالتراب في المشهور وقيل عنه لا يجب التراب إلا في الاناء خاصة واما سائر الحيوانات فعلى قسمين أحدهما ما يؤكل لحمه فهذا طاهر وكذلك ما لا يؤكل لحمه لشرفه وهو الانسان سواء كان مسلما أو كافرا ولا يكره سؤره في ظاهر المذهب وعنه يكره سؤر الكافر والثاني ما لا يؤكل لحمه وهو ضربان أحدهما ما هو طواف علينا كالهر وما دونها في الخلقة مثل الحية والفأرة والعقرب وشبه ذلك فهذا لا يكره سؤره الا ما تولد من النجاسات كدود النجاسة والقروح فإنه يكون نجسا لنجاسة أصله لما روت كبشة بنت كعب بن مالك أنها سكبت وضوءا لابي قتادة الانصاري فجاءت هرة فأصغى لها الاناء حتى شربت منه وقال إن رسول الله ﷺ قال إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات رواه أصحاب السنن وقال الترميذي حديث حسن صحيح

وعن عائشة ان رسول الله ﷺ قال إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم وقد رأيت رسول الله ﷺ يتوضأ بفضلها رواه أبو داود

ومما ينبني على ذلك أنه إذا خرجت الهرة أو الفأرة أو الحية من مائع يسير لم تنجسه في المنصوص وقيل تنجسه لملاقاة دبرها والأول أصح لأن من عادة الحيوان جمع دبره إذا دخل الماء خوفا من دخوله فيه فلا يتحقق التنجيس وإذا اكلت نجاسة ثم ولغت في ماء يسير فقيل طاهر وقيل هو نجس إلا أن تغيب غيبة يمكن أنها وردت فيها ماء يطهر فاها وقيل نجس إلا أن تلغوا بعد الاكل بزمن يزول فيه أثر النجاسة بالريق والضرب الثاني من المحرم ما ليس بطواف وهو نوعان أحدهما الوحشي وهو سباع البهائم وجوارح الطير وما يأكل الجيف مثل الفهد والنمر والغراب الابقع والبازي والصقر فهذا نجس في أشهر الروايتين وفي الاخرى هو طاهر لما روى جابر قال قيل يا رسول الله أنتوضأ بما أفضلت الحمر قال نعم وبما أفضلت السباع كلها رواه الشافعي والدارقطني ولأن الاصل في الاعيان الطهارة ويفارق الكلب بجواز اقتنائه مطلقا وجواز بيعه ووجه المشهور حديث ابن عمر المتقدم في القلتين لما سئل ﷺ عن الماء يكون بأرض الفلاة وما ينوبه من السباع والدواب

ولو كانت اسؤرها طاهرة لم يكن للتحديد فائدة ولا يقال لعله اراد إذا بالت فيه لأن الغالب انها انما ترده للشرب والبول فيه نادر فلا يجوز حمل اللفظ العام على الصور القليلة ثم انه لم يستفصل ولو كان الحكم يختلف لبينه أيضا فإنه ﷺ لما علل طهارة الهر بأنها من الطوافين علينا علم أن المقتضى لنجاستها قائم وهو كونها محرمة لكن عارضة مشقة الاحتراز منها فطهرت لذلك لأنه لما علل طهارتها بالطواف وجب التعليل به وعند المخالف انها طهرت لأنها حيوان لا يحرم اقتناؤه وليس للطواف اثر عنده ولأن تحريم الاكل يقتضي كونه خبيثا لقوله تعالى ويحرم عليهم الخبائث ويقتضي نجاسته الا ما قام عليه الدليل بدليل الميتة والدم ولحم الخنزير ونهيه ﷺ عن جلود السباع يؤيد ذلك أو لأنه حيوان حرم لا لحرمته ليس بطواف فكان نجسا كالكلب والخنزير والحديث المتقدم ضعيف لا تقوم به حجة والثاني الانسى وهو البغل والحمار ففيه روايتان وجههما ما تقدم ورواية ثالثة انه مشكوك فيه لتعارض دليل الطهارة والنجاسة فيتوضأ بسؤره ويتيمم والطهارة هنا اقوى لأن فيها معنى الطواف وهو انه لا يمكن الاحتراز منها غالبا

مسألة ويجزئ في سائر النجاسات ثلاث منقية

في هذه المسألة روايات إحداهن أنه لا يجب العدد بل يجزئ ان تكاثر النجاسة بالماء حتى تزول لأن النبي ﷺ قال للمستحاضة واغسلي عنك الدم وصلي وقال لابي ثعلبة في آنية المجوس إن لم تجدوا غيرها فاغسلوها بالماء وقالت اسماء بنت أبي بكر جاءت أمراة إلى النبي ﷺ فقالت إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به فقال تحته ثم تقرضه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه متفق عليه وكذلك في غير هذه الأحاديث أمر بغسل النجاسة ولو كان العدد واجبا لذكره في جواب السائل عن التطهير لأنه وقت حاجة ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ولأن المقصود إزالة النجاسة فإذا زالت لم يجب الزيادة كغسل الطيب عن بدن المحرم والرواية الثانية يجب ان تغسل ثلاث مرات كما اختاره الشيخ لأن النبي ﷺ أمر القائم من نوم الليل ان يغسل يده ثلاثا معللا بتوهم النجاسة فوجوب الثلاث مع تحققها أولى واكتفى في الاستنجاء بثلاثة احجار فالاجتزاء بثلاث غسلات أولى

وروي عن عائشة ان النبي ﷺ كان يغسل مقعدته ثلاثا قال ابن عمر فعلناه فوجدناه دواء وطهورا رواه ابن ماجة والرواية الثالثة انه يجب التسبيع في جميع النجاسات وهي اختيار أكثر أصحابنا لأن النبي ﷺ أمر بذلك في نجاسة الكلب فوجب إلحاق سائر النجاسات بها لأنها في معناها يحقق ذلك ان الحكم لا يختص بمورد النص بل قد اتفقوا على انه يلحق به الثوب والبدن وغيرهما وكذلك الحقنا بالريق العرق والبول والخنزير

وأيضا فإنه إذا وجب التسبيع في الكلب مع انه مختلف في نجاسته ومرخص في الانتفاع به ففي النجاسات المجمع عليها وجاء التغليظ بها والوعيد بقوله " تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه " مع انها لا تزول غالبا الا بالسبع وأيضا فإن التسبيع في نجاسة الكلب إما ان يكون تعبدا أو انه مظنة للإزالة غالبا فعلق الحكم به كالعدد في الاستجمار لئلا يتوهم حصول الازالة بدونها مع بقاء النجاسة وكذلك جعلها الغاية في غسل الميت ولغير ذلك من الأسباب ومهما فرض من ذلك فالنجاسات كلها سواء

ويؤيد ذلك انا لما الحقنا غير الحجر به في باب الاستنجاء اشترطنا العدد فإذا الحقنا المزيل بالمزيل في العدد فكذلك المزال بالمزال واما الأحاديث المطلقة فلعله ﷺ ترك ذكر العدد اكتفاء بالتنبيه عليه بالولوغ أو بجهة أخرى فإنها قضايا اعيان أو لعلمه بأنها لا تزال في تلك الوقائع الا بالتسبيع أو لعل ذلك كان قبل فرض العدد في غسل الولوغ ولا يمكن ان يقال الأحاديث مطلقة بعده لأنه يلزم منه التغيير مرتين والاجتزاء بثلاثة احجار لأنها محففة وهي لا تمنع النجاسة بخلاف الماء فإنه يمنع النجاسة وكذلك لا يحصل الانقاء بدون السبع في الغالب

وعنه رواية رابعة يجب السبع فيما عدا السبيلين فإنه يجزئ فيهما ثلاث لما تقدم والفرق بينهما تكرر نجاسة السبيلين ومشقة السبع فيهما وكذلك اكتفى فيهما بالجامد وعنه يجب التسبيع في السبيلين وفيما عدا البدن فأما سائر البدن فلا عدد لأن البدن يشق التسبيع فيه لكثرة ملاقاته النجاسة تارة منه وتارة من غيره بخلاف غيره وبخلاف السبيلين فإن نجاستهما مغلظة كما تقدم ولذلك نجست كثير الماء في رواية وهل يشترط التراب أو ما يقوم مقامه على القول بالتسبيع على وجهين أحدهما يشترط قاله الخرقي وغيره كنجاسة الكلب

وروت ام قيس بنت محصن قالت سألت رسول الله ﷺ عن الثوب يصيبه دم الحيض قال حكيه بضلع واغسليه بماء وسدر رواه الخمسة الا الترمذي فأمر بالسدر مع الماء ونحن نجيز غير التراب من الجامدات على الصحيح والثاني لا يشترط وهو أشهر لما روى أبو هريرة ان خولة بنت يسار قالت يا رسول الله ليس لي الا ثوب واحد وأنا احيض فيه قال فإذا طهرت فاغسلي موضع الدم ثم صلي فيه قالت يا رسول الله ان لم يخرج اثره قال يكفيك الماء ولا يضرك اثره رواه أحمد وأبو داود وعامة الأحاديث أمر فيها بالماء فقط لا سيما الاستنجاء فإنه نقل عنه قولا وفعلا ونقل عنه دلك يده بالتراب بعده وهو سنة فكيف ترك نقل التدلك بالتراب وهو واجب لكن هذا يقتضي السقوط في نجاسة السبيل ولأن استعمال التراب فيه مشقة عظيمة لا سيما ونحن نشترط طهارته بخلاف العدد فإن النجاسة غالبا لا تزول إلا به وولوغ الكلب يقال فيه لزوجة لا تزول غالبا إلا به

مسألة ( وإن كانت على الأرض فصبة واحدة تذهب بعينها لقول رسول الله ﷺ صبوا على بول الاعرابي ذنوبا من ماء )

النجاسة على الأرض تفارق ما على المنقولات من ثلاثة أوجه أحدها انه لا يشترط فيها عدد سواء كان فيها كلب أو غيره والثاني انه لايشترط انفصال الغسالة عن موضع النجاسة والثالث ان الغسالة طاهرة إذا لم تتغير وذلك للحديث الذي ذكره وهو ما رواه الجماعة عن أبي هريرة ان اعرابيا بال في المسجد فقال النبي ﷺ صبوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء وقد روي انهم حفروا التراب فألقوه والقوا مكانه ماء من وجه مرسل ووجه منكر ولم يصححوه ولأن التراب النجس لو كان قد أخرج لم يحتج إلى تطهير الطاهر

وابو هريرة شهد القصة ولم يذكر ذلك فإذا ثبت انهم قد صبوا على المبال الماء فلولا انه قد طهره وانفصل طاهرا لكان ذلك تكثيرا للنجاسة ولأن الأرض وما اتصل بها من البناء والاجرنة لو لم تطهر الا بانفصال الماء عنها وتكرار غسلها مع نجاسة المنفصل قبل المرة الاخرة لافضى ذلك إلى انتشار النجاسة وامتناع إزالتها بالكلية اذ غالب الأرض لا مصرف عندها وما عنده مصرف فنادر والنادر ملحق بالغالب بخلاف ما يمكن نقله وتحويله إلى المصارف وعنه ان النجاسة إذا كانت بولا قائما لم تنشف لا بد من انفصال الماء عنها وانه يكون نجسا بخلاف ما نشف وما في معناه من الجامد لأن الناشف قد جف والأول هو المذهب

فصل

اذا كان مورد النجاسة لم تنتشر بها كالاواني كفى مرور الماء عليها بعد ازالة العين وإن كان قد تشربها كالثياب والطنافس فلا بد من استخراجها بالعصر وشبهه من الفرك والتنقل في كل مرة ولا يكفي تجفيفه عن العصر في اصح الوجهين

ولو بقي بعد المبالغة والاستقصاء اثر لون أو ريح لم يضر لقوله ﷺ في الحديث المتقدم ولا يضرك اثره والريح قد يعبق عن مجاورة لا مخالطة فهو بالعفو أولى من اللون وإذا غمس المحل النجس في ماء كثير أو ملئ بماء كثير لكثرة لم يحتسب غسله حتى ينفصل الماء عنه في المنصوص كما لو كان الماء قليلا وقد ورد عليه وقيل اذاعولج في الماء بما يليق به من عصر ونحوه حتى يتبدل عليه الماء فتلك غسله لحصول مقصود الانفصال وعلى هذا ما يحتاج إلى العدد يجب اخراجه من الماء سبع مرات على الأول ويكفي تبديل الماء عليه سبع مرات على الثاني وإن غمسه في ماء قليل نجسه ولم يطهر ولم يحتسب غسله كما لو القته ريح وكما لو اغتسل فيه الجنب فأما ان ترك الثوب النجس في وعاء ثم صب عليه الماء وعصره كان غسلة يبني عليها ويطهر المحل بذلك كما لو صب عليه في غير اناء وكما لو اخذ الماء بفمه لتطهير نجاسة فيه ثم مجة وهذا لأن الماء إذا ورد على النجاسة لم يحكم بنجاسته حتى ينفصل كما لا يحكم باستعماله ما دام على العضو ولا تزول طهوريته بتغيره بالطاهر على البدن حتى ينفصل لأن الماء طهور فما دام يتطهر به فطهوريته باقية

فصل

المنفصل قبل طهارة المحل هو نجس سواء كان متغيرا أو لم يكن بخلاف المتصل فإنه إن لم يتغير لم يحكم بتنجيسه حتى ينفصل وإن تغير فتأثيره باق مع نجاسته فأما المنفصل بعد طهارة النجس فنجس أيضا عند ابن حامد والصحيح انه طاهر وهو طهور أيضا في اقوى الوجهين وإن انتضح من المنفصل شيء قبل تكميل السبع فيما يعتبر فيه فقيل يجب تسبيعه وقيل يجب غسله بعدد ما بقي بعد انفصاله فيغسل من الأولى ست وهذا اصح والله أعلم

فصل

ما لا يمكن غسله لا يطهر كالتراب إذا اختلط به رميم الموتى وفتات الروث فأما ما يقع بالماء النجس كاللحم والحب فهل يمكن تطهيره بغسل الحب وغلي اللحم والتجفيف في كل مرة على روايتين فأما اللبن المنقوع بالمائع النجس كالخمر والبول فإنه يصب عليه الماء حتى يداخل اجزاءه ويصير طينا ويذهب اثر النجاسة فإن لم يداخله طهر ظاهره دون باطنه فإن كانت فيه اعيان النجاسة كروث ورميم لم يطهر الا ان يطبخ بالنار فيغسل فيطهر ظاهره لأن النار اكلت النجاسة والماء ازال الاثر ولا يطهر باطنه لأن الماء لم يصل اليه الا ان يسحق سحقا ناعما فيخلص اليه الماء حينئذ وكذلك المائعات كالخل ونحوه لا يطهر لأن النجاسة لا تزايلها الا الماء فإن النجاسة تفارقه كما تقدم وإلا الادهان مثل الزيت والشيرج ونحوهما فإنه يطهر بالغسل على أحد الوجهين وذلك بأ يصب عليه الماء الحار ويفتح في أسفل الوعاء ثقب يخرج منه الماء والا الزئبق فإنه لا يقوى شيء من النجاسات على مداخلته لقوته وتماسكه فاشبه الجامدات

مسألة ويجزئ في بول الغلام الذي لم يأكل الطعام النضح

وذلك لما روت ام قيس بنت محصن الاسدية انها اتت بابن لها لم يأكل الطعام إلى رسول الله ﷺ فبال على ثوبه فدعا بماء فنضحه عليه ولم يغسله وقالت عائشة كان رسول الله ﷺ يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتي بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله متفق عليهما وعن علي بن أبي طالب أن رسول الله ﷺ قال بول الغلام الرضيع ينضح وبول الجارية يغسل قال قتادة وهذا ما لم يطعما فإذا اطعما غسلا جميعا رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن

وعن أبي السمح خادم رسول الله ﷺ قال قال النبي ﷺ يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وقد قيل ان الغلام يبول رزقا مستلقيا على ظهره فينشر نجاسته فتعظم المشقة بغسلها فإذا أكل الطعام قوي واشتد ظهره فقعد فيقل انتشار نجاسته والجارية لا يجاوز بولها محلها وقيل اشياء اخر منها ان الغلام يحمل على الأيدي عادة بخلاف الجارية ومنها ان مزاجه حار فبوله رقيق بخلاف الانثى فإنها شديدة الرطوبة والنضح ان يعم الماء النجاسة وإن لم يجر عنها

ومعنى اكله الطعام ان يشتهيه للاغتذاء به بخلاف ما يحنكه وقت الولادة ويلعقه من الاشربة نحوها

مسألة وكذلك المذي

وهو ماء رقيق يخرج لابتداء الشهوة إذا تحركت وبتفكر أو نظر أو مس وبعد فتورها من غير احساس به وظاهر المذهب انه نجس وعنه انه طاهر اختاره أبو الخطاب في خلافه لما روى سهل بن حنيف قال كنت القى من المذي شدة وكنت أكثر من الاغتسال فسألت رسول الله ﷺ فقال يجزيك من ذلك الوضوء فقلت يا رسول الله كيف اصنع بما يصيب ثوبي قال يكفيك ان تأخذ كفا من ماء فتنضح به حيث ترى انه أصابه رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح وأحمد ولفظه فتمسح بدل قوله فتنضح به والاثرم ولفظه يجزئك ان تأخذ حفنة من ماء فترش عليه فلم يأمره بغسل فرجه منه ولو كان واجبا لامره ويحمل الامر بالنضح وبالغسل في حديث علي على الاستحباب ولانه جزء من المني إذا يخرج بسبب الشهوة من مخرج المني لكنه لم يستحكم بكمال الشهوة والأول هو المشهور لكن يكفي نضح المحل منه في إحدى الروايتين كما ذكره الشيخ للحديث المذكور وحمله على هذا أولى من حمله وسكوته عن غسله على مجرد الاستحباب فإن الاصل في الامر الوجوب لا سيما في مثل هذا وسكوته عن غسل الفرج منه قد يكون لعلم المستمع فإنه كان عالما بنجاسته ولكن سأل عن موجب خروجه وعن كيفية التطهر منه ولانه متردد بين المني لأنه جزء منه وبين البول لكونه لم يكمل وهو مما يشق التحرز منه فاجرا فيه النضح كبول الغلام والاخرى لا يجزئ الا الغسل لما روي عن علي قال كنت رجلا مذاء فاستحييت ان اسأل رسول الله ﷺ فأمرت المقداد فسأله فقال يغسل ذكره ويتوضأ وإذا أمر بغسل الذكر فكذلك سائر المحال والنضح ينبغي ان يكون في غير مخرجه فأما مخرجه ففي قدر ما يجب غسله منه ثلاث روايات إحداهن يجب الاستنجاء منه كالبول اختارها الخلال لأنه نجس فاشبه سائر النجاسات ولأن في حديث علي عن النبي ﷺ في المذي الوضوء وفي المني الغسل قال الترمذي حديث حسن صحيح وكذلك حديث سهل لم يذكر الا الوضوء الثانية يجب غسل جميع الذكر ما أصابه منه وما لم يصبه لحديث علي يغسل ذكره الثالثة يغسل جميع الذكر والانثيين اختارها أبو بكر والقاضي

لما روي عن علي قال كنت مذاء فاستحييت ان اسال رسول الله ﷺ لمكان ابنته فامرت المقداد فسأله فقال يغسل ذكره وانثييه ويتوضأ رواه أحمد وأبو داود فإن قيل يرويه هشام بن عروة عن أبيه عن علي وهو لم يدركه قلنا مرسله أحد أجلاء الفقهاء السبعة رواه ليبين الحكم المذكور فيه وهذا من اقوى المراسيل وقد روى عبد الله بن سعد قال سألت رسول الله ﷺ عن الماء يكون بعد الماء فقال ذاك المذي وكل فحل يمذي فتغسل من ذلك فرجك وانثييك وتوضا رواه أبو داود

ولأنه خارج بشهوة فجاز أن يجب بغسله أكثر من محله كالمنى وذلك لأن الانثيين وعاؤه فغسلهما يقطعه ويزيل اثره

مسألة ولا يطهر شيء من النجاسات بالمسح ولا يعفى عنه الا أسفل الخف والحذاء فإنه يجزئ دلكه بالأرض في إحدى الروايات وفي الاخرى لا يجزئ كسائر الملبوسات والثالثة يجزئ في غير الغائط والبول لغلظهما ووجه الأولى وهي اصح قوله إذا وطئ أحدكم بنعله الاذى فإن التراب له طهور رواه أبو داود ولانه محل يتكرر إصابة النجاسة له فأجزا فيه المسح كالسبيلين وكذلك خرج في طهارتهما طهارة السبيلين بالاستجمار وجهان وذيول الثياب يتوجه فيها الجواز لحديث ام سلمة وكذلك لا تزول النجاسة بالشمس والريح والاستحالة في المشهور وفي الجميع وجه قوي

مسألة ويعفى عن يسيره ويسير الدم وما تولد منه من القيح والصديد ونحوه وهو ما لا يفحش في النفس

النجاسات على قسمين ما يبطل الصلاة قليلها وكثيرها وما يعفى عن يسيرها

اما المذي فيعفى عنه في اقوى الروايتين لأن البلوى تعم به ويشق التحرز منه فهو كالدم بل أولى للاختلاف في نجاسته والاجتزاء عنه بنضحه وكذلك المني إذا قلنا بنجاسته واما الودي فلا يعفى عنه في المشهور عنه كالبول واما الدم فيعفى عن يسيره رواية واحدة وكذلك القيح والمدة والصديد وماء القروح ان كان متغيرا فهو كالقيح والا فهو طاهر كالعرق قال أحمد القيح والصديد والمدة عندي اسهل من الدم الذي فيه شك يعني في نجاسته وسئل القيح والدم عندك سواء فقال الدم لم يختلف الناس فيه والقيح قد اختلف الناس فيه

قال البخاري بزق عبد الله بن أبي اوفى دما فمضى في صلاته وعصر ابن عمر بثرة فخرج منها دم ولم يتوضا وحكى أحمد ان ابا هريرة ادخل اصبعه في انفه فخرج عليها دم فلم يتوضا وعن جابر ابن عبدالله انه سئل عن رجل يصلي فامتخط فخرج من مخاطه شيء من دم قال لا بأس بذلك يتم صلاته ولأن الله سبحانه حرم الدم المسفوح خاصة لأن اللحم لا يكاد يخلو من دم فأباحة للمشقة فلأن يبيح ملاقاته في الصلاة أولى لأن الانسان لا يكاد يخلو من دماميل وجروح وقروح فرخص في ترك غسلها

والمعفو عنه دم الادمي ودم البق والبراغيث إن قيل بنجاسته ودم الحيوان المأكول فأما المحرم الذى له نفس سائله فلا يعفى عن دمه لأن التحرز منه يمكن وهو مغلظ لكون لبنه نجسا وقد روي عن النبي ﷺ انه خلع نعليه في الصلاة وعلل بأن فيهما دم حلمة وكذلك دم الحيضة وما خرج من السبيلين لا يعفى عنه في اصح الوجهين لأنه يغلظ بخروجه من السبيل ولذلك ينقض قليله الوضوء والتحرز منه ممكن واما قدر اليسير فعنه ما دون شبر في شبر وعنه ما دون قدر الكف وعنه القطرة والقطرتان وقيل عنه مادون ذراع في ذراع والمشهور عنه ما يفحش في النفس لأن ابن عباس قال في الدم إذا كان فاحشا اعاد

ولأن التقدير مرجعه العرف إذا لم يقدر في الشرع ولا في اللغة قال الخلال الذي استقر عليه قوله ان الفاحش ما يستفحشه كل انسان في نفسه

وهذا هو ظاهر المذهب الا ان يكون قطرة أو قطرتين فيعفى عنه بكل حال لأن العفو عنه لدفع المشقة فإذا لم يستفحشه شق عليه غسله وإذا استفحشه هان عليه غسله قال ابن عقيل الاعتبار بالفاحش في نفوس أكثر الناس واوساطهم ومما يعفى عنه اثر الاستجمار ان لم نقل بطهارته وبول ما يؤكل لحمه وروثه إن قلنا بنجاسته كدمه المختلف فيه ولمشقة الاحتراز منه

وكذلك يعفى عن ( يسير ) ريق الحيوانات المحرمة وعرقها إذا قلنا بنجاستها في إحدى الروايتين وفي الاخرى لا يعفى كريق الكلب والخنزير وعرقهما والفرق بينهما ان هذه الحيوانات يباح اقتناؤها مطلقا ويشق معه التحرز من ريقها وعرقها وقد اختلف في نجاستها وركب النبي ﷺ حمارا ويعفى عن يسير بول الخفاش في إحدى الروايتين لأنه في وقت النبي ﷺ والى وقتنا لا يسلم الناس منه في المساجد ولا من الصلاة عليه ( ولا يعفى عن يسير النبيذ المختلف فيه في اصح الروايتين كالمجمع عليه فإنه رواية واحدة ) قال ابن عقيل وفي العفو عن يسير القيء روايتان وكذلك ذكر ان يسير القيء يعفى عنه

وكذلك كلما لا ينقض الوضوء خروجه كيسير الدود والحصى والخارج من غير الفرجين لا يجب غسل موضعه كما لا يجب التوضؤ منه وذكر القاضي في العفو عن أرواث البغل والحمار والسباع روايتين أقواهما أنه لا يعفى واما الذي لا يعفى عن يسيره فكالبول والغائط والخمر والميتة لقول النبي ﷺ تنزهوا عن البول فإن عامة عذاب القبر منه وقوله ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ) ولأن هذه نجاسات مغلظة في أنفسها ولا يعم الابتلاء بها وليس في نجاستها اختلاف فلا وجه للعفو عنها مع ان الاختلاف فيها لا اثر له على الاصح

فصل في بيان النجاسات وهي اما حيوان أو جماد اما الحيوان فقد تقدم ذكره وما تحلل من ظاهره مثل ريقه ودمعه وعرقه فهو مثله وأما روث غير المأكول وبوله فهو نجس بكل حال الا ما لا نفس له سائلة فإن روثه وبوله وجميع رطوباته طاهرة وكذلك لبن غير المأكول كالحمر لا يجوز شربه للتداوي ولا غير سواء قلنا بطهارة ظاهرة أو لا إلا لبن الآدمي فإنه ظاهر

وأما الشعر فحكمه حكم ميتته في ظاهر المذهب وعنه انه طاهر مطلقا والقيء نجس لأن النبي ﷺ قاء فتوضأ وسواء أريد غسل يده أو الوضوء الشرعي لأنه لا يكون إلا عن نجاسة

فأما بلغم المعدة فطاهر في أقوى الروايتين كبلغم الرأس وفي الاخرى هو نجس كالقيء والبيض واللبن في أحد الوجهين وفي الآخر كالولد

وأما المني فكاللبن مطلقا واما الجماد فالميتة وقد ذكرها في الآنية والدم كله نجس وكذلك المدة والقيح والصديد وماء القروح المتغير على ما ذكرناه من العفو عن يسيره الا الدماء المأكولة كالكبد والطحال وما بقي على اللحم بعد السفح ودم السمك رواية واحدة والا الدماء التي ليست سائلة كدم الذباب والبق والبراغيث في أقوى الروايتين إلا دم الشهيد ما دام عليه لأن الشارع أمر بإبقائه عليه مع كثرته فلو حمله مصل لم تبطل صلاته

وإلا العلقة في وجه كالطحال والمني والصحيح انها نجسة وسواء استحالت عن مني أو عن بيض والمائعات المسكرة كلها نجسة لأن الله سماها رجسا والرجس هو القذر والنجس الذي يجب اجتنابه وامر باجتنابها مطلقا وهو يعم الشرب والمس وغير ذلك وامر بإراقتها ولعن النبي ﷺ عينها فهي كالدم واولى لامتيازها عليه بالحد وغيره ولا يجوز القصد إلى تخليها فإن خللت لم تطهر في المنصوص المشهور لما روى انس ان النبي ﷺ سئل عن الخمر تتخذ خلا قال لا رواه مسلم وغيره

وعنه أيضا أن ابا طلحة سأل النبي ﷺ عن أيتام ورثوا خمرا فقال اهرقها قال أفلا نجعلها خلا قال لا رواه أحمد وأبو داود وقيل عنه تطهر وقيل بنقلها من مكان إلى مكان دون القاء شيء فيها فأما ان ابتدأ الله قلبها طهرت وإن امسكها كذلك سواء ليتخذ العصير للخل أو للخمر في المشهور وقيل ان اتخذه للخمر ثم امسكه حتى تخلل لم تطهر والأول اصح لقول عمر لا تأكل خلا من خمر افسدت حتى يبدأ الله بفسادها وذلك حين طاب الخل ولا بأس على أمرئ أصاب خلا من أهل الكتاب ان يبتاعه ما لم يعلم انهم تعمدوا إفسادها رواه سعيد

مسألة ومني الآدمي وبول ما يؤكل لحمه طاهر

وأما المني فأشهر الروايتين انه طاهر لما روت عائشة قالت كنت افرك المني من ثوب رسول ﷺ ثم يذهب فيصلي فيه رواه الجماعة إلا البخاري ولو كان نجسا لم يجزئ فركه كسائر النجاسات والرواية الاخرى هو نجس يجزئ فركه لهذا الحديث لأن الفرك انما يدل على خفة النجاسة كالدم ولهذا يجزئ مسح رطبه على هذه الرواية نص عليه ذكره القاضي كفرك يابسة وإن كان مفهوم كلام أكثر أصحابنا انه لا يجزئ الا الفرك كقول أبي حنيفة فإنه خلاف المذهب

ويختص الفرك بمني الرجل لأنه ابيض غليظ يذهب الفرك والمسح بأكثره بخلاف مني المرأة فإن الفرك والمسح لا يؤثر فيه طائلا وانما يجب الغسل أو المسح أو الفرك في كثيره فأما يسيره يعفى عنه كالدم وأولى وإذا استبه موضع الجنابة فرك الثوب كله أو غسل ما رأى وفرك ما لم ير وهذا مشروع على الرواية الأولى استحبابا والأولى أشهر لأن الاصل في النجاسة وجوب الغسل ولأن اثر ابن عباس سئل عن المني يصيب الثوب فقال امطه عنك ولو باذخر أو خرقه فإنما هو بمنزلة المخاط أو البزاق ونحوه عن سعد ابن أبي وقاص وقد روى حديث ابن عباس مرفوعا

وأما الرطوبة التي في فرج المرأة فطاهر في اقوى الروايتين واما بول ما يؤكل لحمه وروثه فطاهر في ظاهر المذهب لما روي عن البراء بن عازب عن النبي ﷺ انه قال لا بأس ببول ما أكل لحمه رواه الدارقطني واحتج به أحمد في رواية عبد الله وقال أبو بكر عبد العزيز ثبت ذلك عن رسول الله ﷺ ولما أخرجا في الصحيحين عن انس بن مالك ان رهطا من عكل أو قال من عرينه قدموا فاجتووا المدينة فأمر لهم رسول الله ﷺ بلقاح وامرهم ان يشربوا من ابوالها والبانها رواه الجماعة ولم يأمرهم بغسل افواههم وما يصيبهم منه مع انهم أعراب معتادون شربه حديثو عهد بجاهلية وساقه مع اللبن سياقة واحدة وكل هذا يدل على طهارته وصح عنه انه اذن في الصلاة في مرابض الغنم ولم يأمر بحائل وطاف على بعيره واذن لام سلمة بالطواف على بعير وكان الاعرابي يدخل بعيره في المسجد وينتجه فيه ولو كانت ارواثها نجسة مع ان عادة البهائم الا تمتنع من البول في بقعة دون بقعة لوجب صيانة المسجد عن ذلك ولما سألته الجن الزاد لهم ولدوابهم قال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم قال النبي ﷺ لا تستنجوا بها فإنها زاد إخوانكم من الجن

فلو كان قد أباح لهم الروث النجس لم يكن في صيانته عن نجاسة مثله معنى وقال أبو بكر بن الاشج كان أصحاب رسول الله ﷺ يصلون وخروء البعير في ثيابهم

باب الآنية

مسألة لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة في طهارة ولا غيرها لقول رسول الله ﷺ لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة

هذا التحريم يستوي فيه الرجال والنساء بخلاف التحلي فإنه يختص بالرجال ويباح لهم منه أشياء مستثناه وكل ما يلبس فهو من باب الحلية سواء كان سلاحا أو لباسا وما لم يلبس فهو من باب الآنية مثل المكحلة والمحبرة والمرود والإبريق والاصل في ذلك ما روت أم سلمة أن النبي ﷺ قال إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم متفق عليه

وفي لفظ لمسلم إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة وعن حذيفة بن اليمان قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا بشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة متفق عليه

فنهى ﷺ عن الاكل والشرب لانهما أغلب الافعال وفي التطهير منها والاستمداد والاكتمال والاستصباح ونحو ذلك لأن ذلك مظنة السرف باستعمال النقدين في غير ما خلقا له والله لا يحب المسرفين ومظنة الخيلاء والكبر لما في ذلك من امتهانهما ومظنة الفخر وكسر قلوب الفقراء والله لا يحب كل مختال فخور

وكذلك يحرم اتخاذها في المشهور من الروايتين فلا يجوز صنعتها ولا استصياغها ولا اقتناؤها ولا التجارة فيها لأنه متخذ على هيئة محرمة الاستعمال فكان كالطنبور وآلات اللهو ولأن اتخاذها يدعو إلى استعمالها غالبا فحرم كاقتناء الخمر والخلوة بالاجنبية ولا تصح الطهارة منها في اصح الوجهين اختاره أبو بكر وسواء اغترف منها أو اغتمس فيها لأنه أتى بالعبادة على الوجه المحرم فأشبه الصلاة في الدار المغصوبة فعلى هذا إن جعلها مصبا لما ينفصل عنه حين التوضؤ فوجهان اصحهما عدم الصحة وفي الثاني يصح اختاره الخرقي وغيره لأن التحريم لا يرجع إلى نفس العبادة ولا إلى شرط من شرائط وجوبها وادائها فأشبهه التوضؤ في المكان المغصوب والصلاة بخاتم ذهب لأن الآنية ليست من الوضوء ولا من شروطه بخلاف البقعة والسترة في الصلاة والمال في الحج

مسألة وحكم الضبب بهما حكمهما إلا أن يكون يسيره من الفضة

الضبة ثلاثة اقسام أحدها الكثيرة فحرام مطلقا لما روي عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال من شرب في إناء ذهب أو فضة أو في إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر في بطنه نار جهنم رواه الدارقطني

وقال ابن عقيل يباح الكثير للحاجة وثانيها اليسير للحاجة كتشعيب التاج وشعيرة السكين فيباح إجماعا وقد روى البخاري عن انس ان قدح النبي ﷺ انكسر فاتخذ مكان الشعب سلسلة من فضة

ولانه إنما قصد به الاصلاح ودفع الحاجة دون الزينة والحلية ولا يباشرها بالاستعمال الا أن يحتاج إلى ذلك كلحس الطعام ويباشر بها الشرب إذا كانت في موضعه فإن لم يحتج اليه فهو منهي عنه نهي تحريم في اصح الوجهين وفي الاخر نهي تنزيه ومعنى الحاجة ان تكون الضبة مما يحتاج اليها سواء كانت من فضة أو نحاس أو حديد فتباح فأما إن احتيج إلى نفس الفضة بأن لا يقوم غيرها مقامها فتباح وإن كان كثيرا ولو كان من الذهب وثالثها اليسير لغير حاجة كحلقة الإناء فيحرم في المنصوص لما ذكرنا ولأن ابن عمر كان يكره الإناء فيه حلقة من فضة

وقيل يباح مطلقا وقيل يباح منه ما لم يباشرها بالاستعمال كرأس المكحلة وتحلية الدواة والمقلمة وأما المضبب بالذهب فحرام مطلقا لما روت اسماء بنت يزيد قالت قال رسول الله ﷺ لا يصلح من الذهب شيء ولا خر بصيصه رواه أحمد وهي مثل عين الجرادة فأما يسيره في اللباس ففيه وجهان يومي اليهما وقيل يباح حلية السلاح دون حلية اللباس وقد أومأ إليه أيضا

مسألة ويجوز استعمال سائر الآنية الطاهرة واتخاذها

سواء كانت ثمينة مثل الياقوت والبلور والعقيق أو غير ثمينة كالخزف والخشب والصفر والحديد والجلود

لأن النبي ﷺ وأصحابه كانت عادتهم استعمال اسقية الادم وآنية البرام والخشب ونحوها ولا يكره شيء منها إلا الصفر والنحاس والرصاص في أحد الوجهين اختاره أبو الفرج المقدسي لأن ذلك يؤثر عن عبدالله بن عمر ولأن الماء قد يتغير فيها ويقال إن الملائكة تكره ريحها والآخر لا يكره وهو المشهور لأن عبد الله بن زيد قال اتانا رسول الله ﷺ فأخرجنا له ماء في تور من صفر فتوضأ رواه البخاري وكذلك الثمين الذي يفوت قيمة النقدين فإن أدلة الإباحة تعمه والنهي اختص النقدين ولا يشبههما

لأن الثمين لا يعرفه إلا خواص الناس ولا يسمح الناس باتخاذه آنية فلا يحصل سرف ولا فخر ولا خيلاء وإن فرض ذلك كان المحرم نفس الفخر والخيلاء كما إذا حصل في المباحات والطاعات وأما الاعيان فإنما تحرم إذا كانت فضة غالبة كذلك ولهذا لما حرم الحرير ابيح ما كان أغلى قيمة منه من الكتان ونحوه

مسألة ويجوز استعمال أواني أهل الكتاب وثيابهم ما لم تعلم نجاستها

أما الاواني التي استعملوها ففيها ثلاث روايات أحدها يباح مطلقا لما روى جابر بن عبدالله قال كنا نغزو مع رسول الله ﷺ فنصيب آنية المشركين وأسقيتهم فنستمتع بها فلا يعيب ذلك عليها رواه أحمد وأبو داود

وفي الصحيحين عن عمران بن حصين أن رسول الله ﷺ وأصحابه توضأوا من مزادة مشركة وروى انس أن يهوديا دعا رسول الله ﷺ إلى خبز شعير وإهالة سنخة فأجابه رواه أحمد والثانية تكره لما روى أبو ثعلبة الخشني قال قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم قال إن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها وإن لم تجدوا فاغسلوها وكلوا متفق عله ولانهم لا يجتنبون النجاسة لا سيما الخمر لاستحلالهم إياها فالظاهر أن أوانيهم لا تسلم من ذلك

وقد قال النبي ﷺ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك قال الترمذي حديث حسن صحيح والرواية الثالثة أن من لا تباح ذبيحته كالمجوس والمشركين أو من يكثر استعمال النجاسة كالنصارى المتظاهرين بالخمر والخنزير لا تباح أوانيهم وتباح آنية من سواهم لكن في كراهتها الخلاف المتقدم والصحيح أنها لا تكره وهذا اختيار القاضي وأكثر أصحابنا من يجعل هذا التفصيل هو المذهب قولا واحدا لحديث أبي ثعلبة المتقدم حملا له على من يكثر استعمال النجاسة وحملا لغيره على غير ذلك كما جاء مفسرا فيما رواه أبو داود عن أبي ثعلبة قال قلت يا رسول الله ان ارضنا ارض أهل كتاب وإنهم يأكلون لحم الخنزير ويشربون الخمر فكيف نصنع بأنيتهم وقدورهم قال إن لم تجدوا غيرها فارحضوها بالماء واطبخوا فيها واشربوا قال آدم بن الزبرقان سمعت الشعبي قال غزوت مع ناس من أصحاب النبي ﷺ فكنا إذا انتهينا إلى أهل قرية فإن كانوا أهل كتاب اكلنا من طعامهم وشربنا من شرابهم وإن كانوا غير أهل كتاب انتفعنا بآنيتهم وغسلناها وعلى هذه الرواية لا يؤكل من طعام هؤلاء إلا الفاكهة ونحوها مما لم يصنعوه في آنيتهم نص عليه وتكون آسارهم نسجة ذكرها القاضي وغيره وذلك لأن من تكون ذبيحته نجسة أو من هو مشهور باستعمال النجاسة لا تسلم آنيته المستعملة من ذلك إلا على احتمال نادر لا يلتفت إليه وما لم يستعملوه أو شك في استعماله فهو على أصل الطهارة وأما الثياب فما لم يعلم أنهم استعملوه لا تكره قولا واحدا سواء نسجوه أو حملوه كالآنية لأن عامة الثياب والآنية التي كانت على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه كانت من نسج الكفار وصنعتهم وما لبسوه ففي كراهته روايتان إلا أن يكون مما يلي العورة كالسراويل والازر ففي جواز استعماله روايتان

فأما ثياب المجوس ونحوهم كآنيتهم كما تقدم في أحد الوجهين وفي الآخر هي كثياب غيرهم من أهل الكتاب

مسألة وصوف الميتة وشعرها طاهر

وكذلك الوبر والريش على ظاهر المذهب وعنه ما يدل على نجاسته لأنه جزء من الحيوان فيتنجس بالموت كغيره والصحيح الأول لأن حياته من جنس النبات وهو النمو والاغتذاء ولهذا لا ينجس المحل بمفارقتها بدليل الزرع إذا يبس والبيض المتصلب في جوف الميتة بخلاف حياة الجلد واللحم فإنهما بالإحساس والحركة الإرادية وهذه التي ينجس المحل بمفارقتها ولهذا يجوز أخذه حال الحياة بخلاف غيره من الاجزاء

ولأن النبي ﷺ قال ما ابين من البهيمة وهي حية فهو ميت فلو كان جزء منها لكان ميتا بالابانة وقد أجمع الناس على جواز الانتفاع بالمجزوز وإذا نتف الريش والشعر فهل يطهر بالغسل أسفله المترطب بالنجاسة على وجهين

مسألة وكل جلد ميتة دبغ أو لم يدبغ فهو نجس

هذا أشهر الروايتين وفي الاخرى الدباغ مطهر في الجملة لما روى ابن عباس قال تصدق على مولاة لميمونة بشاة فماتت فمر بها رسول الله ﷺ فقال هلا أخذتم أهابها فدبغتموه فانتفعتم به فقالوا إنها ميتة فقال إنما حرم أكلها رواه الجماعة الا البخاري والنسائي لم يذكر فيه يالدباغ

وعنه أيضا قال سمعت رسول الله ﷺ يقول أيما إهاب دبغ فقد طهر رواه مسلم ووجه الأولى ما روى عبد الله بن عكيم قال كتب الينا رسول الله ﷺ قبل وفاته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وقد استقر الحكم بعد ذلك على وقال أحمد ما أصلح إسناده وفي لفظ الدراقطني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فإذا جاءكم كتابي هذا لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب وهذا ناسخ لغيره لأنه متأخر ومشعر بنهي بعد رخصة لا سيمعا وفي حديث ابن عباس إنما حرم أكلها وقد استقر الحكم بعد ذلك على تحريم الادهان بودكها ويدل على تقدمه ما روت سودة زوج النبي ﷺ قالت ماتت شاة فدبغنا مسكها ثم ما زلنا ننتبذ فيه حتى صار شنا رواه البخاري وهذا إنما يكون في أكثر من شهر وعن سلمة بن المحبق انه كان مع رسول الله ﷺ في غزوة تبوك فأتى على بيت فراء فيه قربة معلقة فسأل الشراب فقيل إنها ميتة فقال ذكاتها دباغها وهذا قبل وفاته بأكثر من سنة فلو كان رخصة أخرى بعد النهي لزم النسخ مرتين وقيل الاهاب اسم للجلد قبل الدباغ لأن هذا لم يعلم من رسول الله ﷺ فيه رخصة ولا عادة الناس الانتفاع به

فصل

وإذا قلنا بتطهير الدباغ فهل يكون كالحياة أو كالذكاة على وجهين أحدهما انه كالحياة لأنه يحفظ الصحة على الجلد ويصلحه للانتفاع كالحياة فعلى هذا يطهر جلد ما كان طاهرا في الحياة كالهر وما دونها في الخلقة وكذلك جلد ما سوى الكلب والخنزير في رواية

والوجه الثاني أنه كالذكاة فلا يطهر إلا ما تطهره الذكاة وهذا أصح كما سبق من قوله دباغها ذكاتها ولما روت عائشة ان رسول الله ﷺ أمر أن يستمتع بجلود الميتة إذا دبغت رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي ولفظه انه سئل عن جلود الميتة فقال دباغها ذكاتها فقد شبه الدباغ بالذكاة وحكم المشبه مثل المشبه به أو دونه ولانه ﷺ نهى عن جلود السباع ولا تكاد تستعمل الا مدبوغة ولم يفصل وهذا مبنى على ان الذكاة لاجل الماكول فأما غير المأكول فلا يطهر جلده بالذكاة لأنه ذبح غير مشروع فلم يفد طهارة الجلد كذبح المحرم الصيد والذبح في غير الحلق واللبة ولانه ذبح لا يفيد حل اللحم فلم يفد طهارة الجلد كذبح المجوسي والمرتد وهذا لأن التنجيس لو كان لمجرد احتقان الرطوبات في الجلد وإزالته مشروعة بكل طريق لم يفرق بين ذابح وذبح ومذبح ومذبح والذي يدل على ان ما لا يؤكل لحمه لا يطهر جلده لا بذكاة ولا بدباغ ما روى أبو المليح بن أسامة عن أبيه ان رسول الله ﷺ نهى عن جلود السباع رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وزاد أن تفترش وعن معاوية بن أبي سفيان قال نهى رسول الله ﷺ عن جلود النمور ان يركب عليها رواه أحمد وأبو داود وفي لفظ لأحمد نهى عن لبس صوف النمور وعن المقدام بن معدي كرب قال نهى رسول الله ﷺ عن مياثر النمور رواه أحمد والنسائي وعن المقدام انه قال لمعاوية انشدك الله هل تعلم أن رسول الله ﷺ نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها قال نعم رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر رواه أبو داود وهذه الأحاديث نصوص في أنها لا تباح بذكاة ولا دباغ

فصل

ولا بد فيما يدبغ به ان يكون منشفا للرطوبة منقيا للخبث عن الجلد حتى لو نقع الجلد بعده في الماء لم يفسد سواء كان ملحا أو قرظا أو شبا أو غير ذلك ولا بد من طهارته وهل يجب غسل الجلد بعد الدبغ على وجهين ويجوز بيع الجلد المدبوغ ولا يباح اكله إذا كان من حيوان مأكول في اقوى الوجهين ويباح استعماله في اليابسات مع القول بنجاسته في إحدى الروايتين وفي الاخرى لا يباح وهو الاظهر للنهي عن ذلك فأما قبل الدباغ فلا ينتفع به قولا واحدا كما لا يلبس جلد الكلب والخنزير وإن دبغ

مسألة وكذلك عظامها

عظم الميتة نجس وكذلك قرنها وضفرها وحافرها وعصبها في المشهور من المذهب وقيل هو كالشعر لأنه ليس فيه رطوبات تنجسه ولانه لا يحس ولا يألم فيكون كالشعر والظاهر الأول لأن النبي ﷺ كتب إلى جهينة لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ولانه فيه حياة الحيوان بدليل قوله تعالى { من يحيي العظام وهي رميم } ولأن العصب يحس ويألم وكذلك الضرس وذلك دليل الحياة

وأما ما لا يحس منه مثل القرن والظفر والسن إذا طال فإنما هو لمفارقة الحياة ما طال وقد كان مقتضى القياس نجاسته لكن منع من ذلك اتصاله بالجملة تبعا لها ودفعا للمشقة بتنجيس ذلك كما قلنا فيما حشي على العقب وبسط على الانامل وسائر ما يموت من اللحم ولم ينفصل فإذا انفصل أو مات الاصل زال المانع فطهر على السبب وتعليل نجاسة اللحم باحتقان الرطوبات فيه قد تقدم الجواب عنه

مسألة وكل ميتة نجسة إلا الآدمي

أما نجاسة الحيوان بالموت في الجملة فإجماع وقد دل على ذلك قوله تعالى ( حرمت عليكم الميتة ) وذلك يعم أكلها والانتفاع بها وغير ذلك لما روى جابر بن عبد الله انه سمع النبي ﷺ يقول إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والاصنام فقيل يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس فقال لا هو حرام ثم قال رسول الله ﷺ عند ذلك قاتل الله اليهود إن الله لما حرم شحومها جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه رواه الجماعة والكلام في فصلين في أجزاء الميتة وفي اجناسها أما أجزاؤها فاللحم نجس وكذلك الجلد وقد تقدم القول في العظم والشعر وأما ما لا يموت بموتها كالبيض واللبن فإنه لا ينجس بالموت لكن هل ينجس بنجاسة وعائه أما البيض فإذا كان قد تصلب قشره فهو طاهر مباح لأنه لا يصل اليه شيء من النجاسة كما لو غمس في ماء نجس وكما لو طبخ في خمر أو ماء نجس وكذلك لو سلقه في ماء ملح أو مر لم يتغير طعمه وقال ابن عقيل هو طاهر مباح وإن لم يتصلب لأن جمودها وغشاءها الذي هو كالجلد مع لينه يمنع نفوذ النجاسة اليها

كما لو وقعت في مائع نجس والمشهور انها تتنجس إذا لم تتصلب لأنها في النمور والحاجز غير حصين فلا ينفك غالبا من ان يشرب اجزاء عقيب الموت قبل ذهاب حرارة الحياة واما اللبن والإنفحة فطاهر في إحدى الروايتين لأن الصحابة فتحوا بلاد المجوس وأكلوا من جبنهم مع علمهم بنجاسة ذبائحهم وأن الجبن إنما يصنع بالإنفحة وإن اللبن لم ينجس بالموت إذا لا حياة فيه ولا بملاقاة وعائه لأن الملاقاة في الباطن لا حكم لها اذ الحكم بالتنجيس إنما يتسلط على الاجسام الظاهرة

ولذلك لم ينجس المني والنجاسة تخرج من مخرج المني وعلى هذه الرواية فجلد الإنفحة نجس كجلد الضرع وإنما الكلام فيما فيهما والرواية الاخرى هما نجس وهي المنصورة ولانه مائع في وعاء نجس فأشبه ما لو أعيد في الضرع بعد الحلب أو حلبت في اناء نجس وما عللوا به ينتقض بالمخ في العظم فإنه نجس وأما المني والنجاسة فميز له اللبن الخارج في الحياة لأنه لو نجس ما خلق طاهرا في الباطن بما يلاقيه لنجس ابدا بخلاف ما بعد الموت فإنه خروجه نادر كما لو خرج المني والنجاسة بعد الموت

وما ذكر عن الصحابة لا يصح لانهم وإن اكلوا من جبن بلاد فارس فلانة كان بينهم يهود ونصارى يذبحون لهم فحينئذ لا تتحقق نجاسة الجبن ولهذا كتب أبو موسى الاشعري إلى عمر يذكر ان المجوس لما رأوا أن المسلمين لا يشترون جبنهم وإنما يشترون جبن أهل الكتاب عمد المجوس وصلبوا على الجبن كما يصلب أهل الكتاب ليشترى جبنهم فكتب اليه عمر ما تبين لكم انه من صنعتهم فلا تأكلوه وما لم يتبين لكم فكلوه ولا تحرموا على انفسكم ما أحل الله لكم رواه عبد الملك بن حبيب

وقال قد تورع عمرو بن مسعود وابن عباس في خاصة انفسهم من اكل الجبن الا ما ايقنوا انه من جبن المسلمين أو أهل الكتاب خيفة ان يكون من جبن المجوس وقيل لابن عمر انا نخاف ان يجبن الجبن بإنفحة الميتة فقال ما علمت انه ميتة فلا تأكل وأما اجناس الميت فكل ميت نجس الا ما يباح اكله ميتا وما ليس له دم سائل وما حرم لشرفه وقد استثناها الشيخ رحمه الله كذلك لعموم الآية والقياس سواء كان طاهرا في الحياة أو نجسا لكن يبقى نجسا لسببين كما حرم السببين أما الانسان فلا ينجس في ظاهر المذهب وعنه رواية أخرى ينجس لعموم الآية ووقع زنجي في بئر زمزم فمات فأمر ابن عباس بها تنزح رواه الدارقطني ولانه ذو نفس سائلة لا تباح ميتته فنجس بالموت كالشاة والأول اصح لأن النبي ﷺ قال المؤمن لا ينجس متفق عليه وفي لفظ الدارقطني المؤمن لا ينجس حيا ولا ميتا وروى الدارقطني أيضا عن النبي ﷺ ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه فإنه ليس بنجس

ولأن ذلك منقول عن ابن مسعود وابن عباس وعائشة في قضايا متعددة ولم يعرف لهم مخالف ولانه آدمي مسلم فلم ينجس بالموت كالشهيد فإنه مسلم على القولين ولانه لو نجس لم يطهر بالغسل ولأن الموجب لطهارته شرفه وكذلك لا حيا ولا ميتا وإن قلنا ينجس بالموت بحسب اعضائه بالانفصال كسائر الحيوان فأما الشعر فهو طاهر في اصح الروايتن لأنه ليس بمحل للحياة وفي رواية أخرى انه نجس بناء على انه من الجملة كاليد سواء جز أو تساقط بخلاف شعر المأكول فإنه لما احتيج اليه كان جزه كتذكية

وهذا ضعيف كما سبق ويطهر بالغسل في اصح الروايتين ولا ينجس الشهيد كما لا ينجس دمه وإن قلنا لا ينجس بالموت فكذلك اعضاؤه على الاصح وقيل تنجس وإن لم ينجس في الجملة لأن الحرمة انما تثبت لها إذا كانت تابعة وهو ضعيف لأن حرمة الاعضاء كحرمة الجملة وهذا يختص بالمسلم واما الكافر فينجس على الروايتين لأن المقتفي للطهارة من الاثر والقياس مفقود فيه وسبب التنجيس موجود فعمل عمله وعموم كلام بعض أصحابنا يقتفي التسوية كما في الحياة

مسألة وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه لقول رسول الله ﷺ في البحر هو الطهور ماؤه الحل ميتته

اما السمك إذا مات بمفارقة الماء فهو حلال طاهر بالإجماع وكذلك إذا مات في الماء حتف انفه وهو الطافي في ظاهر المذهب وقد خرج فيه وجه انه حرام وليس بشيء ومع ذلك فهو طاهر أيضا لأن دمه طاهر كالجراد هو طاهر وإن قلنا لا يحل ان مات فيه بغير سبب لأنه ليست له نفس سائلة وما عدا السمك مما يباح ففيه ثلاث روايات أحدها ان جميعه يباح بلا ذكاة لعموم الحديث فعلى هذا لا ينجس الماء لموته فيه

والثانية لا يباح منه الا السمك لأنه هو الميتة المعروفة بدليل قوله احل لنا ميتتان ودمان السمك والجراد والثالثة ان ما لا يعيش الا في الماء فهو كالسمك وما يعيش في البر لا يباح الا بالتذكية وهو ظاهر المذهب كما ذكره الشيخ رحمه الله لما روى أبو هريرة قال سأل رجل رسول الله ﷺ فقال يا رسول الله انا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا منه عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله ﷺ هو الطهور ماؤه الحل ميتته رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح ولأن ما لا يعيش الا في الماء لا يمكن تذكيته غالبا فأشبه السمك بخلاف ما يعيش في البر فأما حيوان البحر المحرم كالضفدع والتمساح على المشهور والكوسج إذا قلنا بتحريمه فهو نجس بالموت وينجس الماء القليل كما ينجس غيره من المائعات

مسألة وما لا نفس له سائله إذا لم يكن متولدا من النجاسات

النفس هي دمه ومنه سميت النفساء لجريان نفسها يقال نفست المرأة إذا حاضت ونفست إذا ولدت ومنه قول الشاعر % تسيل على حد الظبات نفوسها % وليس على غير الظبات تسيل %

وهو قسمان أحدهما المتولد من النجاسة مثل صراصير الكنيف فهو نجس حيا وميتا لأنه متولد من نجس فكان نجسا كالكلب والثاني ما هو متولد من طاهر كالذباب والبق والعقرب والقمل والبراغيث والديدان والسرطان سواء لم يكن له دم أو كان له دما غير مسفوح فهذا لا ينجس بالموت ولا ينجس المائع إذا وقع فيه لما روى أبو هريرة ان رسول الله ﷺ قال إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه كله ثم فإن في أحد جناحية شفاء وفي الاخر داء رواه البخاري

فأمر بغمسه مع علمه بأنه يموت بالغمس غالبا لا سيما في الاشياء الحارة فلو كان ينجس الشراب لم يأمر بإفساده وقد روى الدارقطني عن سلمان قال قال رسول الله ﷺ يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فماتت فيه فهو حلال أكله وشربه ووضوءه وقد روي عن عمر ومعاذ وأبي الدرداء وابن مسعود وأبي امامة انهم كانوا يقتلون القمل في الصلاة ومنهم من كان يدفنه في المسجد ولو كان نجسا لصانوا صلاتهم عن حمل النجاسة ومسجدهم عن دفن النجاسة فيه ولانه ليس له دم سائل فأشبه دود الخل والباقلا

فصل

إذا مات في الماء ما يشك فيه هل له نفس سائلة فهو طاهر في أظهر الوجهين فأما الوزغ فهو نجس في المنصوص من الوجهين والله أعلم

باب دخول الخلاء

مسألة يستحب لمن اراد دخول الخلاء ان يقول بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث ومن الرجس النجس الشيطان الرجيم

وذلك لما روي عن علي ان رسول الله ﷺ قال ستر ما بين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء ان يقول بسم الله رواه ابن ماجه والترمذي وعن انس قال كان النبي ﷺ إذا دخل الخلاء قال اللهم اين اعوذ بك من الخبث والخبائث رواه الجماعة وفي لفظ للبخاري إذا اراد ان يدخل

وعن زيد بن ارقم ان رسول الله ﷺ قال إن هذه الحشوش محتضرة فإذا دخل أحدكم فليقل اللهم اين اعوذ بك من الخبث والخبائث رواه أبو داود وابن ماجة وعن أبي امامة ان رسول الله ﷺ قال لا يعجز أحدكم إذا دخل مرفقه ان يقول اللهم اين اعوذ بك من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم رواه ابن ماجة الحشوش جمع حش وهي في الاصل البساتين كانوا يقضون الحاجة فيها ثم سمي موضع قضاء الحاجة حشا والمحتضرة التي تحضرها الشياطين ولذلك أمر بذكر الله والاستعاذة قبل الدخول

والخبث بسكون الباء قال أبو عبيد وابن الانباري وغيرهما قالوا وهو الشر والخبائث الشياطين فكأنه استعاذ من الشر ومن أهل الشر وقال الخطابي انما هو الخبث جمع خبيث والخبائث جمع خبيثة استعاذ من ذكرانهم وإناثهم والأول أقوى لأن فعيل إذا كان صفة جمع على فعلا مثله ظريف وظرفا وكريم وكرما وإنما يجمع على فعل إذا كان اسما مثل رغيف ورغف ونذير ونذر ولانه أكثر معنى والنجس بالكسر والسكون اتباع لما قبله ولو افردته لفتحته والمخبث ذو الأصحاب الخبثاء وهو أيضا الذي يعلم غيره الخبث

مسألة وإذا خرج قال غفرانك الحمد الله الذي أذهب عني الأذى وعافاني

لقول عائشة كان رسول الله ﷺ إذا خرج من الخلاء قال غفرانك رواه الخمسة الا النسائي قال الترمذي حديث حسن غريب وعن انس قال كان رسول الله ﷺ إذا خرج من الخلاء قال الحمد لله الذي اذهب عني الاذى وعافاني رواه ابن ماجة وذكره الامام أحمد ولأن الخلاء مضنة الغفلة والوسواس فاستحب الاستغفار عقيبه

مسألة ويقدم رجله اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج

وهذا عكس دخول المسجد لأن اليمنى احق بالتقديم إلى الاماكن الطيبة واحق بالتأخير عن الاذى ومحل الاذى وكذلك قدمت في الانتعال دون النزع لأنه صيانة لها وهذا فيما يشترك فيه العضوان فأما ما يختص بأحدهما فإنه يفعل باليمين ان كان من باب الكرامة كالاكل والشرب وبالشمال إن كان من باب إزالة الاذى كالاستنجاء والسواك

مسألة ولا يدخله بشيء فيه اسم الله إلا من حاجة

لما روى انس قال كان رسول الله ﷺ إذا دخل الخلاء نزع خاتمه رواه أصحاب السنن وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب وكان نقش خاتمه محمد رسول الله فإن كان معه دراهم أو كتاب أو خاتم فيه ذكر اسم الله وخاف عليه استصحبه وستره واحترز من سقوطه وإن كان خاتما ادار فصه إلى باطن كفه فإن دخل بشيء فيه اسم الله من غير حاجة كره لأنه يصان عنه ذكر الله تعالى باللسان فعما كتب عليه اسمه أولى بدليل المحدث يمنع من مس المصحف دون تلاوة القرآن

مسألة ويعتمد في جلوسه على رجله اليسرى

لما روى سراقة بن مالك قال علمنا رسول الله ﷺ إذا اتينا الخلاء ان نتوكأ على اليسرى وننصب اليمنى رواه الطبراني في معجمه ولأن ذلك اسهل لخروج الحدث

فصل

ولا يتكلم لما روى ابن عمر أن رجلا مر ورسول الله ﷺ يبول فسلم عليه فلم يرد عليه رواه الجماعة الا البخاري وعن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عوراتهما يتحدثان فإن الله يمقت على ذلك رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن ابن عمر أن رجلا مر على رسول الله ﷺ وهو يبول فسلم عليه الرجل فرد عليه السلام فلما جاوزه ناداه النبي ﷺ فقال انما حملني على الرد عليك خشية ان تذهب فتقول اني سلمت على رسول الله ﷺ فلم يرد علي فإذا رأيتني على هذه الحال فلا تسلم علي فإنك ان تفعل لا أرد عليك رواه الشافعي وهذا يدل على ان الكلام هنا مكروه وانه يجوز لعذر وإذا عطس حمد الله بقلبه في أشهر الروايتين والاخرى يحمده بلسانه خفية لعموم الامر به ولانه كلام لحاجة والأول أولى لأن النبي ﷺ لم يرد السلام مع تأكده وتعلق حق الانسان به فغيره أولى

وحكى الامام أحمد ان ابن عباس كان يكره ذكر الله على خلائه ويشدد فيه وذكر الله سبحانه اعظم من غيره من الكلام فلا يقاس به

مسألة وإن كان في الفضاء أبعد واستتر

أما أنه يبعد فلما روى جابر قال خرجنا مع رسول الله ﷺ في سفر فكان لا يأتي البراز حتى يغيب فلا يرى رواه ابن ماجة وعن المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي ﷺ في سفر فأتى حاجته فأبعد في المذهب حتى توارى عني رواه الجماعة واما الاستتار بما يمكنه من هدف حائط أو حائش نخل أو كثيب رمل فلما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال من أتى الغائط فليستتر فإن لم يجد الا ان يجمع كثيبا من رمل فليستديره فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني ادم من فعل فقد احسن ومن لا فلا حرج رواه الامام أحمد وأبو داود وابن ماجة وسنذكر حديث ابن جعفر وغيره ولأن ذلك جهده في ستر العورة المأمور بها ولهذا كره ان يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض لأن كشف العورة إنما أبيح للحاجة فيقدر بقدرها وقد روي عن النبي ﷺ أنه كان إذا اراد الحاجة لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض رواه أبو داود والترمذي واحتج به الامام احمد

مسألة وارتاد موضعا رخوا

لما روى أبو موسى قال مال رسول الله ﷺ إلى دمث في جنب حائط ( فبال ثم قال كان بنو اسرائيل إذا بال أحدهم فأصابه شيء من بوله يتبعه فيقرضه بالمقاريض وقال إذا اراد أحدكم ان يبول فليرتد لبوله ) ( ولا يقضي حاجته في المستحم ثم يتوضأ أو يغتسل فيه ) لأنه يورث الوسواس وربما أصابه شيء منها ولذلك يكره الاستنجاء في كل موضع نجس الا المكان المعد للاستنجاء خاصة ويكره البول في الماء الدائم وإن كثر وبلغ حدا لا يمكن نزحه لعموم النهي عن ذلك

ولأن فتح هذا الباب يفضي إلى كثرة البول فيغيره وهي الموارد المذكورة في حديث معاذ وعن ابن عباس قال سمعت رسول الله ﷺ يقول اتقوا الملاعن الثلاث ان يقعد أحدكم في ظل يستظل فيه أو في طريق أو في نقع ماء رواه أحمد

وأما الجاري فيكره فيه التغوط لبقاء اثره

فأما البول فلا يكره إلا أن تكون الجرية قليلة وتحتها مستعمل يصيبه بيقين لمفهوم النهي عن البول في الماء الدائم ولا يكره البول في الآنية للحاجة لما روي عن عائشة قالت يقولون إن رسول الله ﷺ أوصى إلى علي لقد دعا بالطست ليبول فيها فانخنثت نفسه وما اشعر فإلى من اوصى رواه النسائي وعن اميمة بنت رقيقة قالت كان للنبي ﷺ قدح من عيدان تحت سريره يبول فيه بالليل رواه النسائي وأبو داود

ولا يكره البول قائما لعذر ويكره مع عدم العذر إذا خاف ان ترى عورته أو يصيبه البول فإن أمن ذلك لم يكره في المنصوص من الوجهين لما روى حذيفة ان رسول الله ﷺ أتى سباطة قوم فبال قائما رواه الجماعة وفي الآخر يكره لما روي عن عائشة قالت من حدثكم أن رسول الله ﷺ بال قائما فلا تصدقوه ما كان يبول الا جالسا رواه أحمد وابن ماجة والنسائي والترمذي وقال هو احسن حديث في هذا الباب واصح وهذا يدل على ان الغالب عليه كان الجلوس وإن بوله قائما كان لعذر إما لأنه لم يتمكن من الجلوس في السباطة أو لوجع كان به لما روى أبو هريرة ان رسول الله ﷺ بال قائما من جرح كان بمأبضه أي تحت ركبته قال الشافعي ( كانت العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائما فترى لعله كان به إذ ذاك وجع الصلب ) ولكن قد رويت الرخصة عن عمر وعلي وزيد بن ثابت وأبي هريرة وابن عمر وسهل بن سعد وانس ولأن الاصل الإباحة فمن ادعى الكراهة فعليه الدليل

مسألة ولا يستقبل شمسا ولا قمرا

وذلك لأن بهما يستضئ أهل الأرض فينبغي احترامهما وقد ورد ان اسماء الله مكتوبه عليهما وهذا على سبيل التنزيه فإن كان بينهما حائل فلا بأس

وكذلك يكره ان يستقبل الريح خشية ان يرجع عليه رشاش بوله

مسألة ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لقول رسول الله ﷺ لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ويجوز ذلك في البنيان

هذا هو المنصور عند الأصحاب وانه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء دون البنيان وعنه يحرم فيهما اختاره أبو بكر لما روى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ قال إذا جلس أحدكم لحاجته فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها رواه أحمد ومسلم

وعن أبي ايوب الانصاري عن البني ﷺ قال إذا اتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ببول ولا غائط ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا قال أبو ايوب فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيت نحو الكعبة فننحرف عنها ونستغفر الله متفق عليه وعنه يحرم الاستقبال فيهما دون الاستدبار لما روى ابن عمر قال رقيت يوما على بيت حفصة فرأيت النبي ﷺ على حاجته مستقبل الشام مستدبر الكعبة متفق عليه فهذا يبيح الاستدبار فيبقى الاستقبال على ظاهر النهي

ووجه الأول حديث ابن عمر المذكور وعن عراك بن مالك ان عائشة قالت ذكر لرسول الله ﷺ ان ناسا كرهوا ان يستقبلوا القبلة بفروجهم فقال اوقد فعلوها حولوا مقعدتي قبل القبلة رواه أحمد وابن ماجة وروى أبو داود عن مروان الاصفر قال رأيت ابن عمر اناخ راحلته مستقبل القبلة يبول اليها فقلت يا ابا الرحمن اليس قد نهي عن هذا قال انما هذا في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس

وعلى هذا يحمل ما روى جابر قال نهى رسول الله ﷺ ان تستقبل القبلة ببول فرايته قبل ان يقبض بعام يستقبلها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن غريب وقال البخاري هذا حديث حسن صحيح وقد قيل في وجه الفرق ان كشف العورة محظور في الاصل وانما يباح لحجة فإذا لم يكن بين يديه أو قريبا منه شيء يستره كان افحش وجهه القبلة اشرف الجهات فصينت عنه وعلى هذا نقول ان الجلوس في الصحراء في وهد أو وراء جدار أو بعير كما بين البنيان وإن الجلوس على سطوح الوديان ولا سترة لها كالفضاء

مسألة فإذا انقطع البول مسح من أصل ذكره إلى راسه ثم ينتره ثلاثا

يعني يمسح من أصل الذكر تحت الانثيين إلى رأسه وينتر الذكر يفعل ذلك ثلاثا لما روى عيسى بن يزداد عن أبيه قال قال رسول الله ﷺ إذا بال أحدكم فليمسح ذكره ثلاث مرات رواه أحمد وابن ماجة وقال أبو الشعثاء إذا بلت فاسمح أسفل ذكرك ولانه بالمسح والنتر يسترخي ما اذ عساه يبقى ويخشى عودته بعد الاستنجاء وإن احتاج إلى نحنهة أو مشي خطوات لذلك فعل وقد احسن

وقيل بل يكره لأنه وسواس وبدعة وقال أحمد إذا توضأت فضع يدك على سفلتك ثم اسلت ما ثم حتى ينزل ولا تجعل ذلك من همك ولا تلتفت إلى ظنك وإن استنجى عقب انقطاع البول جاز ولا يطيل المقام لغير حاجة لأن المقام فيه لغير حاجة مكروه لأنه محتضر الشياطين وموضع ابداء العورة ويقال عن لقمان الحكيم ان اطالة الجلوس يدمي الكبد ويورث البواسير

مسألة ولا يمس ذكره بيمينه ولا يتمسح بها

أما مس الذكر باليمين فمنهي عنه في كل حال لما روى أبو قتادة ان رسول الله ﷺ قال لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه ولا يتمسح من الخلاء بيمينه متفق عليه وكذلك الاستنجاء باليمين ولأن سلمان الفارسي قيل له لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة فقال سليمان أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول ( أو ان نستنجئ باليمين أو ان نستنجئ بأقل من ثلاثة احجار ) أو ان نستنجي برجيع أو بعظم رواه مسلم وغيره ولا يستعين بيمينه في ذلك الا ان يحتاج إلى ذلك اما مسح الدبر فلا حاجة فيه إلى الاستعانة باليمين

واما مسح القبل فيستغنى عنها بأن يقصد الاستجمار بجدار أو موضع ناب أو حجر ضخم ونحو ذلك مما لا يحتاج إلى امساكه فإن اضطر إلى الحجارة الصغار أو الحرث ونحوها جعل الحجر بين عقبيه أو بين أصابعه ان امكن وتناول ذكره بشماله فمسحه بها فإن شق عليه ذلك فله الاستعانة باليمين كما له ان يستعين بها في صب الماء وكما لو كان اقطع اليسرى وهل يمسك ذكره بشماله والحجر بيمينه أو بالعكس على وجهين اصحهما الأول وبكل حال تكون اليسرى هي المتحركة لأن الاستجمار انما يحصل بالحركة ولو استتنجى بيمينه صح مع الكراهة

مسألة ثم يستجمر وترا ثم يستنجي بالماء

هذا هو الأفضل لأن عائشة رضي الله عنها قالت مرن ازواجكن ان يتبعوا الحجارة الماء من اثر الغائظ والبول فإني استحييهم كان رسول الله ﷺ يفعله احتج به أحمد في رواية حنبل وروى أيضا في كتاب الناسخ والمنسوخ ان ناسا من الانصار كانوا يتبعون الاستنجاء بالحجارة الماء فنزلت فيه رجال ولأن الغسل بعد تجفيف النجاسة ابلغ في التنضيف فصار كالغسل بعد الحت والفرك في غير ذلك ولانه ابعد من مس الاذى باليد المحوج إلى تكلف تطهيرها

وانما يستحب الايتاء في الاستجمار لما أخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة ان رسول الله ﷺ قال ( من استجمر فليوتر وإن قطع عن شفع جاز لأن في رواية أبي داود وابن ماجة من فعل فقد احسن ومن لا فلا حرج وإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل في ظاهر المذهب وعنه انه يكره الاستنجاء من غير استجمار لأن فيه مباشرة النجاسة بيده ونشرها من غير حاجة ولأن الاقتصار على الحجر يجزئ بالإجماع من غير كراهة والماء قد انكره بعض السلف والأول اصح لأن الماء يطهر المحل ويزيل الاثر والحجر يخفف وكان قياسها على سائر البدن يقضي الا يجزئ الا الماء وانما اجزأت الاحجار رخصة فإذا استعمل الطهور كان أفضل والمباشرة باليد لغرض صحيح وهو الازالة كما في سائر المواضع ثم في الحجر يبقى اثر النجاسة ويدوم فإن لم يكره الحجر فلا اقل من ان يكون مفضولا وما نقل عن بعض الصحابة من انكار الماء فهو الله أعلم انكار على من يستعمله معتقدا لوجوبه ولا يرى الاحجار مجزئة لانهم شاهدوا من الناس محافظة على الماء لم يكن في أول الاسلام فخافوا التعمق في الدين كما قد يبتلى به بعض الناس ولهذا قال سعد بن أبي وقاص لم يلحقون في دينكم ما ليس منه يرى أحدكم ان حقا عليه ان يغسل ذكره إذا بال فإن لم يحمل على هذا فلا وجه له فقد أخرجا في الصحيحين عن انس بن مالك قال كان رسول الله ﷺ يدخل الخلاء فاحمل انا وغلام نحوي اداوه من ماء وعنزة فيستنجي بالماء وقصة أهل قباء مشهورة ويستحب للمستنجي ان يدلك يده بالأرض لما روى أبو هريرة قال كان النبي ﷺ إذا أتى الخلاء اتيته بماء في تورا أو ركوة فاستنجي ثم مسح يده بالأرض رواه داود وابن ماجة

فصل

والأولى ان يبدا الرجل بالقبل لأنه إذا بدا بالدبر ربما أصابت نجاسة القبل يده وأصابت دبره في حالة غسله والمرأة تتخير في ( أحد ) الوجهين لتوازنهما في حقها والثاني تبدا بالدبر لأن نجاسته افحش واعسر ازالة فتبدأ بها لئلا ينجس القبل بها وقد طهر والثيب والبكر فيه سواء الا ان البكر يخرج بولها فوق الفرج والعذرة تمنع نزول البول اليه واما الثيب فيمكن نزول البول في فرجها والمنصوص من الوجهين انه لا يجب تطهير باطن فرجها لما فيه من المشقة كداخل العينين

والآخر يجب فعلى هذا ان لم يتحقق نزول شيء من البول اليه لم يجب شيء وإن تحققنا فهل يجب غسله بالماء لأن النجاسة تعدت المخرج أو يكتفي فيه بالحجر للمشقة في ذلك وانه معتاد على وجهين أصحهما اجزاء الحجر

مسألة وان اقتصر على الاستجمار اجزاءه إذا لم تتعد النجاسة موضع الحاجة

اما إذا لم تتعد النجاسة موضع الحاجة فإنه يجزئه الاستجمار إذا انقى وأكمل العدد سواء في ذلك جميع ما يستنجى منه من البول والمذي والودي والدم وغير ذلك وانما يجزى بشرطين أحدهما الانقاء لأنه هو المقصود وعلامة ذل الا يبقى في المحل شيء يزيله الحجر والثاني ثلاث مسحات لما تقدم من حديث سلمان ولما روت عائشة عن النبي ﷺ قال إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة احجار فإنها تجزئ عنه رواه أبو داود فعلق الاجزاء بها ونهى عما دونها وهذا إجماع من الامة ان الاقتصار على الاحجار يجزئ من غير كراهة واما إذا تعدت موضع الحاجة فلا يجزئه الا الماء لأن الاصل ان يجب ازالة النجاسة بالماء وانما رخص في الاستجمار لتكرار النجاسة على المخرج ومشقة ايجاب الغسل فإذا تعدت عن المخرج المعتاد خرجت عن حد الرخصة فوجب غسلها كنجاسة سائر البدن وحد ذلك ان ينتشر الغائط ( إلى نصف باطن الالية فأكثر وينتشر البول إلى نصف الحشفة فأكثر ) فأما والرمة بأنهما طعام الجن ودليل على الحكم يعم الحجارة وغيرها والا لنهي الناس عنها سوى الاحجار عموما

وقد روى الدارقطني عن طاووس قال رسول الله ﷺ إذا أتى أحدكم البراز فليستطب بثلاثة احجار أو ثلاثة اعواد أو ثلاث حثيات من تراب ثم ليقل الحمد لله الذي اذهب عني ما يؤذيني وامسك علي ما ينفعني وهو مرسل حسن الشرط الأول ان يكون جامدا لأن المائع ان كان مطهرا فذلك غسل واستنجاء وإن لم يكن مطهرا أماع النجاسة ونشرها وحينئذ لا يجزئه الا الماء لأن النجاسة انتشرت عن المخرج المعتاد والثاني ان يكون طاهرا فلا يجوز بجلد ميتة ولا بروث نجس ولا عظم نجس ولا حجر نجس لأن النبي ﷺ نهى عن الاستنجاء بالروث والعظم في حديث ابن مسعود وأبي هريرة وسلمان وخزيمة بن ثابت وسهل بن حنيف ورويفع بن ثابت وقد تقدم أكثرها وذلك يعم العظم الطاهر والنجس والروث الطاهر والنجس اما الطاهر فقد علله بأنه زاد اخواننا من الجن ففي النجس منه لا عله له الا النجاسة ( لا ) سيما الروثة وكسائر الركس والنجس ( وهما ) بمعنى واحد ولا يقال الجميع زاد الجن لأنه قد بين انما زادهم كل عظم ذكر اسم الله عليه

ولانه إذا استجمر بشيء نجس اورث المحل نجاسة غير نجاسته وما سوى نجاسته لا يجزئ الاستجمار فيها وكذلك لو خالف واستنجى بالنجس لم يجزئه الاستجمار ثانيا وتعين الماء وقيل يجزئ لأن هذه النجاسة مائعة لنجاسة المحل ولا يقال المقصود الانقاء من نجاسة المستنجي به غير حاصل الثالث ان يكون منقيا لأن الانقاء هو مقصود الاستجمار فلا يجزئ بزجاج ولا فحم رخو ولا حجر املس الرابع ان ( لا ) يكون محترما مثل الطعام ولا يجوز الاستنجاء به سواء في ذلك طعام الانس والجن وعلف دواب الانس والجن

لما روى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود عن النبي ﷺ ان الجن سألوه الزاد فقال لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم اوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله ﷺ فلا تستنجوا بهما فإنهما زاد اخوانكم وعن أبي هريرة رضي الله عنه ان كان يحمل مع رسول الله ﷺ اداوة لوضوئه وحاجته فبينما هو يتبعه قال أبغني احجارا استنفض بها ولا تأتني بعظم ولا بروثة فاتيته باحجار احملها في طرف ثوبي حتى وضعتها إلى جنبه ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت معه

فقلت ما بال العظم والروثة فقال هما من طعام الجن وانه اتاني وقد جن نصيبين ونعم الجن فسألوني الزاد فدعوت الله لهم الا يمروا بعظم ولا بروثة الا وجدوا عليها طعاما رواه البخاري فبين له ﷺ ما هو طعام الجن ونهانا عنه وتبرأ ممن يستنجئ به فبما هو طعامنا أولى وكذلك ما مكتوب فيه اسم الله تعالى أو شيء من الحديث والفقه سواء كان ورقا أو حجرا أو اديما لأن حرمته اعظم من حرمة علف دواب الجن وكذلك أيضا ما هو متصل بحيوان كيده وذنبه وريشه وصوفه وكذلك يد نفسه سواء في ذلك الحيوان الطاهر والنجس الآدمي وغيره ولأن الحيوان محترم فاشبه المطعوم وإذا كان قد نهى عن الاستنجاء بعلف الدواب فالنهي عن الاستنجاء بها أولى ولا يجوز الاستنجاء بهذه الاشياء لأن الاستنجاء رخصة فلا يباح بمحرم كالقصر في سفر المعصية وقد روى الدارقطني ان النبي ﷺ نهى ان يستنجى بروث أو عظم وقال انهما لا يطهران وقال إسناد صحيح فإن استنجي بها فهل يجزئه اعادة الاستنجاء أو يتعين الماء على وجهين

فإن قيل قد نهي عن الاستنجاء باليمين وقد قلتم يجزئ قلنا اليد ليست شرطا في الاستنجاء وانما جاءت لأنه لا يمكنه الاستنجاء بغيرها حتى لو استغنى عنها بأن يقعد في ماء جار حتى ينقى المحل حصلت الطهارة وكذلك لو استنجى بيد اجنبي فقد اثم واجزاه واما المستنجى به فهو شرط في الاستنجاء كالماء في الطهارة والتراب في التيمم فإن كان محرما لعينه كان كالوضوء بالماء النجس وإن كان لحق الغير كان كالمتوضئ بالماء المغصوب أو اشد لأنه رخصة

فصل

والاستنجاء واجب لكل خارج من السبيلين فلو صلى بدونه لم تصح الصلاة لما روى عن ابن عباس ان رسول الله ﷺ مر بقبرين فقال انهما يعذبان وما يعذبان في كبير اما أحدهما فكان لا يستتر من بوله واما الاخر فكان بمشي بالنميمة رواه الجماعة سواء كان الخارج نادرا أو معتادا رطبا أو يابسا كالروث والبول والدود والحصى والمذي ولأن خروج الخارج من هذا المحل مظنة استصحاب الرطوبة النجسة فعلق الحكم به وإن تخلفت عن الحكم في آحاد الصور

وقال كذلك اعتبر العدد وإن زالت الرطوبة بدونه الا الريح فإن الامام أحمد قال ليس في الريح استنجاء في كتاب الله ولا سنة رسولة انما عليه الوضوء

فقد روي عن النبي ﷺ من استنجى من الريح فليس منا رواه الطبراني وأبو حفص العكبري ولأن الريح ليس لها جرم لا صق يزال ولا هي مظنة استجلاب رطوبة يمكن ازالتها واما الخارج الطاهر فيجب الاستنجاء منه في المشهور كما يجب من يسير الدم والقيح وإن عفي عنه في غير هذا الموضع لأن خروجه من السبيل يورث تغليظا ولأن الاستنجاء من المني فعل النبي ﷺ وأصحابه على الدوام ولا اعلم اخلالهم به بحال

فصل

والأفضل في الاستجمار ان يمر حجرا من مقدم صفحته اليمنى إلى مؤخرها ثم يديرها على اليسرى حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه ثم يمر الثاني من مقدم صفحته اليسرى إلى مؤخرها ثم يديره على اليمنى حتى يرجع به إلى الموضع الذي بدأ منه ثم يمر الثالث على المسربة والصفحتين لأن العدد معتبر في ازالة هذه النجاسة فاستوعب المحل في كل مرة منه كالعدد في ولوغ الكلب

وما روى سهل بن سعد عن النبي ﷺ أولا يجد أحدكم حجرين للصفحتين وحجرا للمسربة رواه الدارقطني وقال إسناد حسن محمول على الابتداء بهذه المواضع لأنه قد جاء بلفظ اخر عنه أنه كان يقبل بواحد ويدبر بآخر ويحلق بالثالث فإن مسح على كل جهة مسحة فوجهان

فصل

السنة ان يستنجي قبل الوضوء فإن اخره إلى بعده اجزاه في إحدى الروايتين لأنها نجاسة فصح الوضوء قبل ازالتها كما لو كانت على البدن فعلى هذا إذا توضأ استفاد بذلك مس المصحف ولبس الخفين ويستمر وضوؤه إذا لم يمس فرجه

والرواية الاخرى لا يصح وضوؤه وهي أشهر لأن في حديث المذي يغسل ذكره ثم يتوضأ رواه النسائي ولأن النبي ﷺ وأصحابه لم ينقل عنهم انهم يتوضؤون الا بعد الاستنجاء وفعله إذا خرج امتثالا للامر فحكمه حكم ذلك الامر ولانهما محلان وجب غسلهما بسبب واحد في بدن واحد فكان الترتيب بينهما مشروعا كمحال الوضوء فأما التيمم فقال ابن حامد هو كالوضوء وقال القاضي لا يجزئه وإن قلنا يجزئ الوضوء لأنه مبيح للصلاة ليس برافع للحدث والاستباحة قبل الاستنجاء لا تحصل فيكون كالتيمم قبل الوقت فعلى هذا لو كانت النجاسة في غير المخرج لم يجز في وجه كذلك وقيل يجزئ لأنه استباح الصلاة من غيرها فاشبه ما لو كانت على الثوب

فصل

يستحب إذا توضأ ان ينضح فرجه بالماء ليقطع عنه الوسواس بخروج البول نص عليه لما روى سفيان بن الحكم أو الحكم بن سفيان قال رايت النبي ﷺ توضأ ثم نضح فرجه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والنسائي

وعن زيد بن حارثة ان النبي ﷺ اتاه جبريل عليه السلام في أول ما اوحي اليه فعلمه الوضوء والصلاة فلما فرغ من الوضوء اخذ غرفة من ماء فنضح بها فرجه رواه أحمد والدارقطني وابن ماجة ولفظه علمني جبريل الوضوء وامرني ان انضح تحت ثوبي لما يخرج من البول بعد الوضوء وهذا في المستنجي بالماء فأما المستجمر فتنجسه ان قلنا ان المحل نجس وإن قلنا هو طاهر فهو مكروه نص عليه

باب الوضوء

مسألة لا يصح الوضوء ولا غيره من العبادات إلا ان ينويه لقول رسول الله ﷺ إنما الاعمال بالنيات وانما لكل أمرئ ما نوى

يعني ان يقصد بغسل الاعضاء رفع حدثه وهو المانع مما تشترط له الطهارة بقصد أو استباحة عبادة لا تستباح الا بالوضوء وهي الصلاة والطواف ومس المصحف فأما ان غسل اعضاءه ليبردها بالماء أو يزيل عنها نجاسة أو ليعلم غيره لم يرفع حدثه وكذلك النية تشترط في الغسل والتيمم لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول انما الاعمال بالنيات وانما لكل أمرئ ما نوى رواه الجماعة

ولأنها عبادة مأمور بها فافتقرت إلى نية كسائر العبادات فإنه يجب عليه ان ينوي العبادة المأمور بها وإن يخلصها لله لقوله { وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين } ولا يقال هي شرط للصلاة فاشبهت طهارة الخبث والاستتار والاستقبال لأن الوضوء عبادة في نفسه وشرط للصلاة ولأن ازالة النجاسة من باب المتروك ولهذا لا يحتاج إلى عمل أصلا بخلاف طهارة الحدث ولذلك اختصت بالماء واما الاستقبال والاستتار فانهما يوجدان في جميع الصلاة مثل وجودهما قبلها فنية الصلاة تنتظمهما بخلاف التوضؤ

ولذلك إذا حلف لا يتطهر وهو متطهر لم يحنث بالاستدامة وإذا حلف لا يستتر وهو مستتر ولا يستقبل القبلة وهو مستقبلها فاستدام ذلك حنث

فصل

ومحل النية القلب فلو سبق لسانه بغير ما قصده كان الاعتبار بما قصد ولو قصد مع الوضوء التبرد أو غيره لم يضره كما لو قصد تعليم غيره أو قصد مع الصلاة تعليمها ويستحب تقديم النية على غسل اليد لأنه أول المسنونات ويجب تقديمها على الوجه والمضمضة والاستنشاق ولانه أول الواجبات ويجوز تقديمها عليه بالزمن اليسير كالصلاة ويجب استصحاب حكمها إلى اخر الوضوء

والأفضل ان يستصحب ذكرها أيضا كما قلنا في الصلاة وغيرها ومعنى الاستدامة أن لا يفسخها بأن ينوي قطع الوضوء أو ينوي بالغسل تبردا أو تنظفا من النجاسة ويعزب عن نية الوضوء فإن فسخها بطلت في اقوى الوجهين كما تبطل الصلاة والصيام فإن افرد كل عضو بنيته بأن يقصد غسله في وضوئه جاز ولم يبطل ما غسله بالفسخ كما لو نوى إبطالها بعد فراغها في الصحيح المشهور

مسألة ثم يقول بسم الله لما روى عن يعقوب بن سلمة الليثي عن أبيه عن أبي هريرة قال قال رسول الله ﷺ لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن سعيد بن زيد وأبي سعيد عن النبي ﷺ مثله رواهما أحمد وابن ماجة ولأن ذكر اسم الله مشروع في أول الافعال العادية كالاكل والشرب والنوم ودخول المنزل والخلاء فلأن يشرع في أول العبادات أولى والمسنون التسمية هذا إحدى الروايتين عن الامام أحمد قال الخلال الذي استقرت عليه الروايات انه لا بأس به يعني إذا ترك التسمية وهي اختيار الخرقي وغيره لأن الأحاديث فيها ليست قوية

وقال أحمد ليس يثبت فيها حديث ولا اعلم فيها حديثا له إسناد جيد

وقال الحسن بن محمد ضعف أبو عبدالله الحديث في التسمية وقال اقوى شيء فيه حديث كثير عن ربيح يعني حديث أبي سعيد ثم ذكر رباحا أي من هو ومن أبو ثفال يعني الذي يروي حديث سعيد بن زيد وقال البخاري في حديث أبي هريرة لا يعرف لسلمة سماع من أبي هريرة ولا ليعقوب سماع من أبيه ولو صحت حملت على الذكر بالقلب وهو النية وكذلك قال ربيعة لما ذكرنا من الأحاديث

والرواية الاخرى انها واجبة اختارها أبو بكر والقاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا بل أكثرهم لما ذكرنا من الأحاديث

قال أبو إسحاق الجوزجاني قال ابن أبي شيبة ثبت لنا عن النبي ﷺ انه قال لا وضوء لمن لم يسم وتضعيف أحمد لها محمول على أحد الوجهين اما انها لا تثبت عنده أولا لعدم علمه بحال الراوي ثم علمه فبنى عليه مذهبه برواية الوجوب ولهذا اشار إلى أنه لا يعرف رباحا ولا ابا ثفال وهكذا تجئ عنه كثيرا الاشارة إلى أنه لم يثبت عنده ثم زال ثبوتها فإن النفي سابق على الاثبات واما انه اشار إلى أنه لم يثبت على طريقة تصحيح المحدثين

فان الأحاديث تنقسم إلى صحيح وحسن وضعيف واشار إلى أنه ليس بثابت أي ليس من جنس الصحيح الذي رواه الحافظ الثقة عن مثله وذلك لا ينفي ان يكون حسنا وهو حجة ومن تأمل الحافظ الامام علم انه لم يوهن الحديث وانما بين مرتبته في الجملة انه دون الأحاديث الصحيحة الثابتة وكذلك قال في موضع آخر احسنها حديث أبي سعيد ولو لم يكن فيها حسن لم يقل فيها احسنها وهذا معنى احتجاج أحمد بالحديث الضعيف وقوله ربما اخذنا بالحديث الضعيف وغير ذلك من كلامه يعني به الحسن

فأما ما رواه متهم أو مغفل فليس بحجة أصلا ويبين ذلك وجوه أحدها ان البخاري اشار في حديث أبي هريرة إلى أنه لا يعرف السماع في رجاله وهذا غير واجب في العمل بل العنعنة مع امكان اللقاء ما لم يعلم أن الراوي مدلس وثانيها انه قد تعددت طرقه وكثرت مخارجه وهذا مما يشد بعضه بعضا ويغلب على الظن ان له أصلا وروي أيضا مرسلا رواه سعيد عن مكحول عن النبي ﷺ انه قال إذا تطهر الرجل وذكر اسم الله طهر جسده كله وإذا لم يذكر اسم الله لم يطهر منه الا مكان الوضوء

وهذا وإن احتج به على ان التسمية ليست واجبة فإنه دليل على وجوبها لأن الطهارة الشرعية التي تطهر الجسد كله حتى تصح الصلاة ومس المصحف بجميع البدن فإذا لم تحصل الشرعية جعلت الطهارة الحسية وهي مقتصرة على محلها كما لو لم ينو وروى الدراوردي ثنا محمد بن أبي حميد عن عمر بن يزيد ان رجلا توضأ ثم جاء فسلم على النبي ﷺ فكأن النبي ﷺ اعرض عنه وقال له تطهر فرجع فتوضأ ثم اجتهد فجاء فسلم فأعرض عنه وقال ارجع فتطهر فلقي الرجل عليا فاخبره بذلك فقال له علي هل سميت الله حين وضعت يدك في وضوئك فقال لا والله فقال ارجع فسمي الله في وضوئك فرجع فسمى الله على وضوئه ثم رجع إلى النبي ﷺ فسلم عليه فرد عليه وأقبل عليه بوجهه ثم قال إذا وضع أحدكم طهوره فليسم الله رواه الجوزجاني عن نعيم بن حماد عنه وثالثها ان تضعيفه اما من جهة ارسال أو جهل راو وهذا غير قادح على إحدى الروايتين وعلى الاخرى وهي قول من لا يحتج بالمرسل نقول إذا عمل به جماهير أهل العلم وارسله من اخذ العلم عن غير رجال المرسل الأول أو روي مثله عن الصحابة أو وافقة ظاهر القرآن فهو حجة وهذا الحديث قد اعتضد بأكثر ذلك فإن عامة أهل العلم عملوا به في شرع التسمية في الوضوء ولولا هذا الحديث لم يكن لذلك أصل وانما اختلفوا في صفة شرعها هل هو ايجاب أو ندب وروي من وجوه متباينة مسندا ومرسلا ولعلك تجد في كثير من المسائل ليس معهم أحاديث مثل هذه ورابعها ان الامام أحمد قال احسنها يعني أحاديث هذا الباب حديث أبي سعيد وكذلك قال إسحاق بن راهويه وقد سئل أي حديث اصح في التسمية فذكر حديث أبي سعيد وقال البخاري احسن حديث في هذا الباب حديث سعيد بن زيد

وهذه العبارة وإن كانوا انما يقصدون بها بيان ان الاثر اقوى شيء في هذا الباب فلولا ان اسانيدها متقاربة لما قالوا ذلك وحملها على الذكر بالقلب أو على تأكيد الاستحباب خلاف مدلول الكلام وظاهره وانما يصار اليه لموجب ولا موجب هنا وإذا قلنا بوجوبها فإنها تسقط بالسهو على إحدى الروايتين كالذبيحة واولى فإن قلنا تسقط سمى متى ذكرها وإن قلنا لا تسقط لغا ما فعله قبلها وهذا على المشهور وهو انها تجب في أول الوضوء قبل غسل الوجه وقال الشيخ أبو الفرج متى سمى اجزاءه

مسألة ويغسل كفيه ثلاثا

هذا مسنون لكل متوضىء سواء ان تحقق طهارتها أو شك في ذلك وهي من جملة الوضوء حتى لو غسلها قبل الوضوء استحب له اعادة غسلها بعد النية وكذلك الذي يوضئ الميت يستحب له ان يغسل كفيه كلما وضأه نص عليه وذلك لأن الذين وضأوا رسول الله ﷺ ذكروا انه كان يبدأ فيغسل كفيه ثلاثا ولأن اليد الة لنقل الماء فاستحب تطهيرها تحقيقا لطهارتهما وتنظيفا لهما وادخالا لغسلهما في حيز العبادة ولو انه على سبيل التجديد

فأما ان كان المتوضئ قد قام من نوم الليل كان غسلهما اوكد حتى يكره تركه وهو واجب في إحدى الروايتين قال القاضي وأصحابه لا عن حدث ولا عن نجس لكن تعبد اختارها أبو بكر وأكثر أصحابنا لما روى أبو هريرة ان رسول الله ﷺ قال إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها ثلاثا فإنه لا يدري اين باتت يده متفق عليه الا ان البخاري لم يذكر العدد ومقتضى الامر الايجاب لا سيما وغسل اليد مستحب مطلقا فلما خص به هذه الحال دل على وجوبه وهذا يختص بنوم الليل دون نوم النهار لأن المبيت انما يكون بالليل فعلى هذا لو استيقظ المحبوس ولم يدر ليل هو ام نهار لم يلزمه غسلهما ومن نام أكثر الليل لزم الغسل دون من بات اقله كالمبيت بمزدلفة وقال القاضي يلزم كل من نام نوما ينقض وضوءه فإن بات ويده في جراب أو مكتوفا وجب غسلهما في اظهر الوجهين وتشترط النية لذلك في أشهر الوجهين لأنه عبادة ولا تشترط التسمية على الاصح وإن قلنا باشتراطها في الوضوء بل المستحب ان يفردها بالتسمية ويجوز تقديمها على الوضوء بالزمن الطويل لأنها ليست من جملته والرواية الثانية انه سنة اختارها الخرقي وجماعة لأن قوله إذا قمتم إلى الصلاة يعم القائم من النوم وغيره لا سيما وقد فسره زيد بن اسلم بالقيام من الليل ولم يذكر شيئا آخر ولأن الطهور الواجب اما عن خبث وهي طهارة بإجماع واما عن حدث ولو كان كذلك لاجزأ غسلهما في جملة اعضاء الوضوء بنية الحدث واكتفى لهما بغسلة واحدة وحملوا الحديث على الاستحباب كما روى أبو هريرة عنه ﷺ انه قال إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات فإن الشيطان يبيت على خياشيمه متفق عليه

لتعليله بوهم النجاسة ولانه قد روى في لفظ صحيح إذا اراد أحدكم الطهور فلا يغمس يده في الاناء حتى يغسلها وهذا يدل على انه اراد به غسل اليد المسنون عند الوضوء وعلى هذه الرواية حكم غسلهما هنا حكم غسلهما عند ارادة كل وضوء الا انه موكد هنا يكره تركه وهل يختص ذلك بمن يريد الوضوء أو يعمه وغيره بحيث يغسل عند الوضع في الطعام وغيره من المائعات يحتمل وجهين

مسألة ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا يجمع بينهما بغرفة واحدة أو ثلاث

لأن الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ ذكروا ذلك فيه والسنة ان يتمضمض ويستنشق بيمينه ويستنثر بشماله وإن يقدمهما على ظاهر الوجه للسنة المستفيضة بذلك ولأن تقديم الباطن أولى لئلا يخرج منه اذى بعد غسل الظاهر فيلوثه وإن يقدم المضمضة للسنة ولأن الفم اشرف واحق بالتطهير وهو اشبه بالباطن وقوله يجمع بينهما أي الجمع بين المضمضة والاستنشاق بماء واحد أفضل من ان يفصل كل واحد بماء لأن في حديث عبدالله بن زيد في صفة وضوء النبي ﷺ انه مضمض واستنشق واستنثر ثلاثا بثلاث غرفات وفي لفظ تمضمض واستنشق من كف واحد فعل ذلك ثلاثا متفق عليهما وفي لفظ تمضمض واستنثر ثلاثا من غرفة واحدة رواه البخاري وكذلك في حديث ابن عباس وعثمان وغيرهما وهذه الأحاديث أكثر واصح من أحاديث الفصل ولأن هذا يحصل معه الاسباغ مع الرفق من غير سرف ثم ان شاء تمضمض واستنشق الثلاث بغرفة واحدة ان امكنة ان يسبغ بها وإن شاء بثلاث غرفات لأن الحديث جاء بهما وإن فعل المضمضة بماء والاستنشاق بماء جاز لأنه قد جاء في الأحاديث اما بغرفتين أو ست غرفات وإذا جمعهما بماء واحد في غرفة واحدة أو فصلهما بماءين في ست غرفات كمل وصفته المضمضة أولا ثم الاستنشاق في أحد الوجهين كما لو فرقهما بغرفتين وفي الاخر يتمضمض ثم يستنشق ثم يتمضمض ثم يستنشق كما لو جمعهما بثلاث غرفات ( ويحتمل ان تكمل المضمضة في الست وفي الاخرى يتمضمض ويستنشق الحاقا لكل واحد بجنسه ) وقد روى عبد الله بن أحمد في المسند عن علي انه تمضمض ثلاثا ثم استنشق ثلاثا بكف كف وقال احببت ان اريكم كيف كان طهور نبي الله ﷺ

فصل

والمضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين الصغرى والكبرى في ظاهر المذهب وعنه ان الاستنشاق وحده هو الواجب لما روى أبو هريرة ان رسول الله ﷺ قال إذا توضأ أحدكم فليستنثر وفي لفظ فليجعل في انفه ماء ثم يستنثر متفق عليه وفي لفظ لمسلم من توضأ فليستنشق وقال للقيط بن صبرة وبالغ في الاستنشاق الا ان تكون صائما فامر بالمبالغة والاستنثار المستلزمين للاستنشاق قام الدليل على استحباب الصفة بقي أصل الفعل على الوجوب ولم يرد مثل هذه الأحاديث الصحاح في المضمضة ولأن طرف الانف لا يزال مفتوحا ليس له ساتر بخلاف الفم ولهذا أمر القائم من نومه بالاستنشاق ثلاث مرات ولم يذكر المضمضة والرواية الثالثة انهما يجبان في الكبرى دون الصغرى لأن الغسل مبناه على وجوب غسل جميع ما يمكن من الظاهر والباطن بدليل باطن الشعور الكثيفة من اللحية والرأس بخلاف الوضوء فإنه لا يجب فيه غسل ما استتر كباطن اللحية

ويروى عنه انه يجب الاستنشاق وحده في الوضوء خاصة لأنه الذي جاء فيه النص والصحيح الأول لأن الله سبحانه وتعالى أمر بغسل الوجه مطلقا وفسره النبي ﷺ بفعله وتعليمه فمضمض واستنشق في كل وضوء توضأه ولم ينقل عنه انه اخل به ابدا مع اقتصاره على اقل ما يجزئ حين توضأ مرة مرة وقال هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة الا به وهذا اقصى حدا في اقتصادر الوجوب من جهة ان فعله إذا خرج امتثالا لامر كان حكمه حكم ذلك الامر في اقتضاء الوجوب

ومن جهة انه لو كان مستحبا لاخل به ولو مرة ليبين جواز الترك كما ترك الثانية والثالثة ومن جهة انه لما توضأ قال هذا صفة الوضوء الذي لا يقبل الله الصلاة الا به وقد روى أبو داود عن لقيط بن صبرة عن النبي ﷺ قال إذا توضأت فمضمض وعن حماد بن سلمة عن عمار بن أبي عمار عن أبي هريرة قال أمر رسول الله ﷺ بالمضمضة والاستنشاق وعن سليمان بن موسى الزهري عن عروة عن عائشة عن النبي ﷺ قال المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه رواهما الدارقطني

وقد روى هذين الحديثين مسندين ومرسلين والمرسل إذا ارسل من جهة أخرى أو عضده ظاهر القرآن أو السنة صار حجة وفاقا وهو كذلك ولأن الفم والانف في الوجه وحكمهما حكم الظاهر وتخصيص النبي ﷺ الاستنشاق بالامر لا لأنه أولى بالتطهير من الفم كيف والفم اشرف لأنه محل الذكر والقراءة وتغيره بالخلوف أكثر لكن يشبه والله أعلم أن الفم لما شرع له التطهير بالسواك واوكد أمره وكان غسله بعد الطعام مشروعا وقبل الطعام على قول علم اعتناء الشارع بتطهيره بخلاف الانف فإنه ذكر لبيان حكمه خشية ان يهمل إذا لم يشرع غسله الا في الوضوء وعند الانتباه

فصل

وهل تسمى المضمضة والاستنشاق فرضا على روايتين منصوصتين وكذلك عنه في صدقة الفطر بناء على إحدى الروايتين عنه ان الفرض ما يثبت بكتاب الله دون ما ثبت وجوبه بالسنة أو ما يثبت بدليل قاطع دون ما ثبت بخبر الواحد والعموم ونحو ذلك وربما قيل ما لم يسقط في عمد ولا سهو ويجوز تأخيرهما عن غسل ظاهر الوجه ويجب تقديمهما على غسل اليد في إحدى الروايتين لانهما من الوجه فوجب تقديمهما كسائر اجزائه

والرواية الثانية انه يجوز تأخيرهما عن جميع الاعضاء وانه لا يجب الترتيب والموالاة بينهما وبين غيرهما لما روى المقدام بن معدي كرب قال اتي رسول الله ﷺ بوضوء فتوضأ فغسل كفيه ثلاثا وغسل وجهه ثلاثا ثم غسل ذراعيه ثلاثا ثم مضمض واستنشق ثلاثا ثم مسح راسه واذنيه ظاهرهما وباطنهما رواه أحمد وأبو داود ولأن وجوبهما لم يعلم بنص القرآن والترتيب انما يجب بين الاعضاء المذكورة في القرآن ليبدأ بما بدأ الله به وانما هما من الوجه على سبيل التبع كما ان الاذنين من الرأس فجاز غسلهما تبعا

مسألة ثم يغسل وجهه ثلاثا

لقوله سبحانه ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) والتثليث في سائر الاعضاء المغسولة لما روي عن عثمان انه دعا بإناء فافرغ على كفيه ثلاثا مرات فغسلهما ثم ادخل يميينه في الاناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاثا ويديه إلى المرفقين ثلاثا مرات ثم مسح برأسه ثم غسل رجليه ثلاثا مرات إلى الكعبين ثم قال رأيت رسول الله ﷺ يتوضا نحو وضوئي هذا ثم قال من توضا نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه متفق عليه

ويستحب ان يزيد في ماء الوجه لاساريره ودواخله وخوارجه وشعوره وإن يمسح ما فيه لأنها مظنة نبو الماء عنها قال أحمد يؤخذ للوجه أكثر مما يؤخذ لعضو من الاعضاء وكره ان يأخذ الماء ثم يصبه ثم يغسل وجهه وقال هذا مسح ولكنه يغسل غسلا وقد روى أبو امامة وصف وضوء النبي ﷺ فذكر ثلاثا وقال وكان يمسح الماقين رواه أحمد والمأق طرف العين من جهة الانف والاذن

مسألة من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين والذقن والى أصول الاذنين

لأن الرأس ما عليه الشعر وهو المشروع مسحه فما دون المنابت هو من الوجه وهذا معتبر بغالب الناس فأما الاقرع الذي ينبت الشعر في بعض جبهتيه أو الاجلح الذي انحسر الشعر عن مقدم راسه فلا عبرة بهما بل يجب على الاقرع غسل الشعر النابت على الوجه وغسل ما تحته ان كان يصف البشرة وقوله إلى ما انحدر من اللحيين والذقن فاللحيان هما العظمان اللذان في أسفل الوجه قد اكتنفاه وعليهما تثبت أكثر اللحية

والذقن مجتمع اللحييين فيجب غسل البشرة ان كانت ظاهرة وغسل ما عليها من الشعر وما استرسل من اللحية عن اللحيين والذقن وعنه لا يجب غسل ما خرج عن محاذاة البشرة طولا وعرضا كما لا يجب مسح ما استرسل من الرأس ولأن الفرض كان على البشرة قبل النبات فلما نبت الشعر انتقل الفرض اليه فما لم يحاذ البشرة لم ينتقل اليه شيء والصحيح الأول لأن النبي ﷺ قال ما من عبد يغسل وجهه كما أمره الله تعالى إلى خرت خطايا وجهه من اطراف لحيته مع الماء ولانه ثابت في المحل المغسول فتبعه وإن طال كالظفر إذا خرج عن حد الاصبع

ولأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة والوجاهة بخلاف الذوائب فإنها لا تشارك الرأس في التراس والارتفاع ولذلك كان غسل اللحية مشروعان ومسح الذوائب مكروها وقد ذكر أصحابنا وغيرهم ان رسول الله ﷺ راي رجلا قد غطى لحيته في الصلاة فقال اكشف عن وجهك فإن اللحية من الوجه وقوله من الاذن إلى الاذن يعني به من وتد الاذن أصلها دون فرعها فلم تدخل الاذنان في الوجه فأما البياض بين الاذنين والعذار فمن الوجه

قال الاصمعي والمفضل بن سلمة ما جاوز وتد الاذن من العارض والعارضان من الوجه ولانه قبل نبات الشعر كان يجب غسله إجماعا وكذلك بعده ولأن فيه معنى التوجه والمواجهة والوجاهة ولأن حكم الموضحة يثبت في عظمه وهي لا تثبت الا في راس أو وجه وليس من الرأس فيكون من الوجه فأما الشعور النابتة في الوجه فإن كانت تصف البشرة وجب غسلها وغسل ما تحتها كما كان يجب قبل نبات الشعر لأنه ما دام يظهر فهو ظاهر لا يشق ايصال الماء اليه وإن لم تصف البشرة لم يجب الا غسل ظاهرها فقط سواء في ذلك شعر الحاجبين والشاربين والعنفقة والعذار واللحية هذا هو المنصوص لأنه يشق ايصال الماء اليها ولانه لم ينقل عنه انه غسل باطن اللحية قال أحمد وقد سئل ايما عجب اليك غسل اللحية أو تخليلها فقال غسلها ليس من السنة وقيل يجب غسل باطن ما سوى اللحية وكذلك لحية المرأة وإن كان كثيفا لأن ايصال الماء لا يشق غالبا والصحيح الأول لأن الفرض بعد الستر انتقل إلى الظاهر ولأن في ايجاب غسل باطنها مشقة وتطريقا للوسواس كاللحية والذي يدخل في الوجه من الشعور الحاجبان واهداب العينين والشاربان والعنفقة والعذار والعارضان

والعذار هو الشعر النابت على العظم النابي محاذيا صماخ الاذن مرتفعا إلى الصدغ ومنحطا إلى العارض والعارض هو النابت على اللحيين إلى الذقن وقال الاصمعي ما جاوز وتد الاذن فهو عارض فأما التحذيف والصدغ والتحذيف هو ما ارتفع عن العذار اخذا إلى طرف اللحيين والنزعة ما انحسر عنه الشعر من الرأس متصاعدا والصدغ هو ما ارتفع من العذار إلى فوق مشيا إلى فرع الاذن ودونه قليلا وهو يظهر في حق الغلام قبل نبات لحيته ففيها ثلاثة اوجه أحدها يجب غسلهما لانهما داخلان في تدوير الوجه فدخلا في حده وإن كان شعرهما متصلا بشعر الرأس كما ان النزعتين لما دخلا في حد الرأس كانتا منه وإن خليا من الشعر والثاني لا يجب لأن هذا الشعر متصل بشعر الرأس ابتداء فكانه منه كسائره والثالث يجب غسل التحذيف خاصة لأنه يعتاد اخذه دون اخذ الصدغ ولأن محله يجب غسله لو لم يكن عليه شعر فكذلك إذا كان عليه ويستحب غسل داخل العين إذا امن الضرر في أحد الوجهين لأن ابن عمر كان يفعله ولا يستحب في الاخر وهو اشبه لأنه لم ينقل عن النبي ﷺ ولانه مظنة تخوف الضرر في الجملة مع تكرار الوضوء

مسألة ويخلل لحيته ان كانت كثيفة وإن كانت تصف البشرة لزمه غسلها

اما التي تصف البشرة فقد تقدم القول فيها واما تخليل الكثيفه فلما روى انس ان النبي ﷺ كان إذا توضأ اخذ كفا من ماء فادخله تحت حنكه فخلل لحيته وقال هكذا أمرني ربي رواه أبو داود وعن ابن عمر ان النبي ﷺ كان إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك وشبك لحيته بأصابعه من تحتها رواه أبو داود وتخليلها من تحتها ليصيب الماء اسافلها كما أصاب عاليها واما غسلها فليس بسنة كما تقدم

مسألة ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ويدخلهما في الغسل

لقوله ( وأيديكم إلى المرافق ) والتثليث لما تقدم ويجب غسل المرفقين لأن المرفق هو من جنس اليد وهو مفصل حسي ونهايته متميزة ومثل هذه الغاية والحد انما يذكر إذا اريد دخوله في المحدود والمغيا كما لو قال بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف وبعتك هذه الأرض إلى شاطئ النهر وقد قيل لأن اسم اليد يتناولها إلى المنكب وبقوله إلى المرافق لنفي الزيادة على المرفق فيبقى المرفق داخلا في مسمى اليد المطلقة

وقد روى الدارقطني عن جابر قال كان رسول الله ﷺ إذا توضأ ادار الماء على مرفقيه وفعله إذا وقع امتثالا لامر وتفسيرا للمجمل كان مثله في الوجوب لا سيما وادخاله احوط وارتفاع الحدث بدونه مشكوك فيه والاصل بقاؤه فإن كان اقطع من دون المرفقين إلى الأصابع غسل ما بقي منه لأن العجز عن بعض الواجب لا يسقط فعل ما يقدر عليه منه لقوله تعالى ( فاتقوا الله ما استطعتم ) وقل النبي ﷺ إذا أمرتكم بامر فاتوا منه ما استطعتم متفق عليه

وان كان القطع من فوق المرفق سقط الغسل لسقوط محله وإن قطعت من مفصل المرفق سقط الغسل وغسل راس العضد في أحد الوجهين لأن غسلهما انما وجب تبعا لابرة الذراع إذا لا يمكن غسلها الا يمكن بغسل راس العضد والمنص منهما وجوب غسل راس العضد لأن المرفق اسم لمجتمع عظم الذراع وعظم العضد فإذا ذهب أحدهما وجب غسل الاخر كما لو بقي بعض الذراع ولو قطعت يد المتيمم من مفصل الكوع سقط مسح ما بقي هناك وإن قلنا في الوضوء بغسل ما بقي لأن الواجب هناك مسح الكفين وقد ذهبا بخلاف الوضوء

فان المرفق من جملة محل الفرض هذا أحد الوجهين والمنصوص وجوب المسح أيضا لأن المامور به مسح اليد إلى الكوع وإذا عجز الاقطع عن افعال الطهارة ووجد من ينجيه ويوضئه متبرعا لزم ذلك وإن لم يجد الا باجرة المثل لزم ذلك أيضا في أشهر الوجهين كما يلزمه شراء الماء والاستنابة في الحج فإن لم يجد من يطهره فقد عجز عن الطهارة في الحال كعادم الماء فيصلي وفي الاعادة وجهان وإذا انقلعت جلدة من العضد حتى تدلت من الذراع وجب غسلها وإن انقلعت من الذراع حتى تدلت من العضد لم يجب اعتبارا باصلها ولو انقلعت من أحدهما والتحم راسها بالاخر غسل ما حاذى موضع الفرض من ظاهرهما وباطنهما المتجافي وما تحته ولو كانت له يد زائدة أصلها في محل الفرض وجب غسلها كالاصبع الزائدة وإن كانت في العضد أو المنكب وهي مثل الاصلية وجب غسلها ليؤدي الفرض بيقين وإن تميزت فهل يجب غسل ما حاذى محل الفرض منهما على وجهين

مسألة ثم يمسح راسه مع الاذنين يبدا بيده من مقدمه ثم يمرهما إلى قفاه ثم يردهما إلى مقدمه

لقوله وامسحوا برؤوسكم والسنة في مسحه ما روى عبد الله بن زيد ان رسول الله ﷺ مسح راسه بيديه فأقبل بهما وادبر بدأ بمقدم راسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه رواه الجماعة قيل لأحمد من له شعر إلى منكبيه كيف يمسح في الوضوء فأقبل أحمد بيديه على راسه مرة وقال هكذا كراهية ان ينتشر شعره يعني انه يمسح إلى قفاه ولا يرد يديه

قال أحمد حديث علي هكذا يعني انه من خاف انتفاش شعره لم يرد يديه سواء كان رجلا أو أمراة وعنه ان المرأة تبدأ بمؤخر راسها ثم ترد يديها إلى مقدمة ثم تعيدهما إلى مؤخرة لما روت الربيع بنت معوذ أن النبي ﷺ مسح برأسه مرتين بدأ بمؤخره ثم بمقدمه وبأذنيه كلتيهما ظهورهما وبطونهما رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن وعنه أنها تمسح كما روت الربيع بنت معوذ أن النبي ﷺ توضأ عندها فمسح الرأس كله من فوق الشعر كل ناحية لمنصب الشعر لا يحرك الشعر عن هيئته رواه أبو داود

وعنه تضع يدها على وسط الرأس ثم تجرها إلى مقدمه ثم ترفعها وتضعها حيث بدأت ثم تحركها إلى مؤخرة بمسحة واحدة محافظة على أن تقبل وتدبر وعلى مسحة لا تغير شعرها لأن بقاء شعرها على هيئة مقصود وكيف ما مسح الرجل والمرأة جاز وأما الاذنان فهما من الرأس بحيث يجزئ مسحهما بمائة كسائر أجزاء الرأس بلا خلاف في المذهب لما روي عن النبي ﷺ أنه قال الاذنان من الرأس رواه أحمد وابن ماجة وروى الصنابحي أن رسول الله ﷺ قال إذا توضأ العبد المؤمن فمضمض خرجت الخطايا من فيه وذكر الحديث إلى أن قال فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه رواه النسائي وهذا يدل على دخولهما في مسمى الرأس ولأن الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ ذكروا أنه مسح رأسه واذنيه قال ابن عباس بغرفة واحدة ولم يذكروا أنه أخذ لهما ماء جديدا قال ابن المنذر مسحهما بماء جديد غير موجود في الأخبار عن النبي ﷺ

ولأن الله سبحانه إنما أمر بمسح الرأس وفعله ﷺ خرج امتثالا للأمر وتفسيرا للمجمل فعلم أن الرأس المذكور في القران هو ما مسحه ﷺ يريد بذلك أنهما عضوان متصلان بالرأس ايصال خلقة فكانا منه كالنزعتين وذلك لأن البياض الذي فوق الأذن هو من الرأس لأن الموضحة يثبت حكمها فيه وهي لا تكون إلا في رأس أو وجه وليس من الوجه فتكون من الراس لكن هل الأفضل أن يمسحها بماء الرأس أو يأخذ لهما ماء جديدا على روايتين إحداهما أن الأفضل مسحهما بماء جديد لأن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما كان يأخذ الماء بأصبعيه لأذنيه رواه مالك في الموطأ ولأنهما لا يشبهان الرأس خلقة ولا يدخلان في مطلقة فأفردا عنه بماء وإن كانا منه كداخل الفم والأنف ومعنى هذا ألا يمسحا إلا بماء جديد ( وذكر القاضي عبد الوهاب وابن حامد أنهما يمسحان بماء جديد بعد أن يمسحان بماء الرأس وليس بشيء ) لأن فيه تفضيلا لهما على الرأس ولأن ذلك خلاف المأثور عن النبي ﷺ وأصحابه والثانية مسحهما بماء الرأس أفضل لأن الذين وصفوا وضوء رسول ﷺ ذكروا أنه مسح رأسه وأذنيه بماء واحد وما نقل خلاف ذلك محمول على أن اليد لم يبق فيها بلل وحينئذ يستحب أخذ ماء جديد لهما ويفارق الفم والأنف لأنهما يغسلان قبله ولا يكفيهما مع الوجه ماء واحد والسنة مسح ظاهرهما وباطنهما وأن يدخل سباحتيه في صماخهما ويمسح بإبهاميه ظاهرهما لأن ذلك منقول عن النبي ﷺ

ولا يستحب تكرار مسح الرأس والأذنين بل السنة مسحة واحدة يقبل بها ويدبر في أصح الروايتين لأن عبدالله بن زيد لما حكى وضوء رسول الله ﷺ قال مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة مع ذكره التثليث في غسل جميع الأعضاء وكذلك عامة الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ مثل عثمان وعلي وابن عباس وعائشة وعبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهم في رواياتهم الصحاح ذكروا أنه مسح رأسه مرة واحدة منهم من صرح بذلك ومنهم من ذكر العدد ثلاثا ثلاثا ولم يذكروا في الرأس عددا

ولأنه مسح فلم يستحب تكراره كالتيمم ومسح الخف والرواية الأخرى يستحب مسحه ثلاثا أيضا لما روى مسلم عن عثمان أن النبي ﷺ توضأ ثلاثا ثلاثا وروى أبو داود في سننه أن عثمان حين حكى وضوء رسول ﷺ قال ومسح رأسه ثلاثا ولكن الصحيح في حديث عثمان أنه مسح رأسه مرة واحدة كذلك قال أبو داود وغيره ويستحب مسح العنق في إحدى الروايتين لما روى الإمام أحمد في المسند عن طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه رأى النبي ﷺ يمسح رأسه حتى بلغ القذال وما يليه من مقدم العنق وحكى الإمام أحمد عن أبي هريرة أنه مسح وقال هو موضع الغل والثانية لا يستحب وهو أظهر لأن الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ لم يذكروه ولو كان مسنونا لتكرر منه فنقلوه ولأنه ليس من الرأس حقيقة ولا حكما والحديث قد طعن فيه سفيان بن عيينة وأحمد وغيرهما ولعله قد فعل ذلك مرة لغرض إذ لو داوم عليه لنقله مثل عثمان وعلي

مسألة ثم يغسل رجليه إلي الكعبين ثلاثا ويدخلهما في الغسل

لقوله تعالى { وأرجلكم إلى الكعبين } وقد قرئت بالنصب والخفض وقال من قرأها بالنصب من الصحابة مثل علي وابن مسعود وابن عباس عاد الأمر إلى الغسل

ولو كان عطفا على محل الجار والمجرور فهو وقراءة الخفض سواء في أنه يراد به الغسل فإن المسح اسم لإيصال الماء إلى العضو سواء سال الماء أو لم يسل قال أبو زيد يقال تمسحت للصلاة

وأيضا من لغة العرب أن الفعلين إذا تقارب معناهما استغنوا بأحدهما لدلالته على الآخر لذا كان في الكلام ما يدل عليه وكان هذا من باب الإيجاز والاختصار كما قال تعالى { يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين } إلى قوله { وحور عين } وهن لا يطاف بهن وإنما يطفن كأنه قال يؤتون بهن كما قال

ورأيت زوجك في الوغا متقلدا سيفا ورمحا وقال علفتها تبنا وماء باردا

وقد دل على أنه أراد المسح الذي هو إجراء الماء على العضو قرينتان إحداهما أنه حدده إلى الكعبين والحد إنما يكون للمغسول لا للممسوح والثانية أن من يقول بالمسح يمسحهما إلى مجتمع القدم والساق فيكون في كل رجل كعب ولو كان كذلك لقيل إلى الكعاب كما قال وأيديكم إلى المرافق لأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد فلما قال إلى الكعبين علم أن في كل رجل كعبين كأنه قال وكل رجل إلى كعبيها

ودلنا على مراد الله من كتابه رسوله المبين عنه ما أنزل إلينا فإن سننه تفسر الكتاب وتبينه وتعبر عنه وتدل عليه فإن الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ مثل عثمان وعلي وعبدالله بن زيد وعبدالله بن عباس والمقدام بن معدي كرب والربيع بنت معوذ رضي الله عنهم وغيرهم أخبروا أنه غسل رجليه وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو قال تخلف عنا رسول الله ﷺ في سفره فأدركنا وقد أرهقنا العصر فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا قال فنادى بأعلى صوته ويل للأعقاب من النار مرتين أو ثلاثا متفق عليه وفي الصحيح عن أبي هريرة وعائشة عن النبي ﷺ أنه قال ويل للأعقاب من النار وروى هذا المتن جماعة من الصحابة منهم جابر وخالد بن الوليد ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل بن حسنة وعن عبدالله بن الحارث الزبيدي قال سمعت رسول الله ﷺ يقول ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار رواه أحمد وكذلك جاء عنه تخليل الأصابع فعلا وأمرا وليس في المسح شيء من ذلك وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى اجتمع أصحاب رسول الله ﷺ على غسل القدمين

وأما التثليث في غسلهما وإدخال الكعبين فلما تقدم والكعبان هما العظمان الناتيان في جانبي الساق لما تقدم وروى النسائي عن عثمان وعلي صفة وضوء رسول الله ﷺ أن كل واحد منهما غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاثا ثم اليسرى كذلك وقال رأيت رسول الله ﷺ صنع مثل ما صنعت وهذا هو المعروف في اللغة قال النعمان ابن بشير كان أحدنا يلزق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة ومنكبه بمنكبه وكذلك ذكره الأصمعي وأبو عبيد وغيرهما من أهل اللغة

مسألة ويخلل أصابعه

لما روى المستورد بن شداد قال رأيت رسول الله ﷺ إذا توضأ خلل أصابع رجليه بخنصره رواه أصحاب السنن ويستحب أيضا تخليل أصابع اليدين وقد روي عنه أن سنة التخليل تختص بأصابع الرجلين فإن تفرق أصابع اليدين يعني من تخليلها والأول هو المذهب لما روي عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال لابن عباس إذا توضأت فخلل أصابع يديك ورجليك رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حسن غريب

ولأنها تضم غالبا عند أخذه الماء ويستحب أن يتعاهد أعضاءه كلها بالدلك لا سيما عقبه وغضون وجهه ويحرك خاتمه إن كان عليه لما روى أبو رافع أن رسول الله ﷺ كان إذا توضأ حرك خاتمه رواه ابن ماجة والدارقطني فإن غلب على ظنه وصول الماء إلى مواضعه بدون الدلك وتحريك الخاتم والتخليل أجزأه وكذلك يغسل ما على عقد الأصابع وما تحت الأظفار من الوسخ لقول رسول الله ﷺ في صلاته إنني أوهم فيها ما لي لا أيهم ورفغ أحدكم بين ظفرة وأنملته يعني داخل الرجل رفغه اجتمع الوسخ والدرن بين ظفرة وأنملته والأرفاغ المغابن مثل الآباط وأصول الفخذين وفي حديث الفطرة وغسل البراجم وهي العقد التي في ظهور الأصابع فإن اجتمع ما تحت الأظفار ومنع وصول الماء إلى ما تحته ففيه وجهان

مسألة ثم يرفع نظره إلى السماء فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله

لما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ما منكم من أحد يتوضأ فيسبغ الوضوء ثم يقول أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء رواه مسلم والترمذي وزاد فيه اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من التطهرين وفي رواية لأبي داود من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع نظره إلى السماء وروي أيضا أنه قال سبحانك وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك

مسألة الرأس كله

هذا هو المشهور في المذهب وعنه يجزئ مسح أكثره لأن مسح جميعه فيه مشقة وقد خفف فيه بالمسح وبالمرة الواحدة فكذلك بالقدر وعنه قدر الناصية لما روى أنس قال رأيت النبي ﷺ يتوضأ وعليه عمامة قطرية فادخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه ولم ينقض العمامة رواه أبو داود وعلى هذا فله أن يمسح قدر الناصية من أي موضع شاء في أشهر الوجهين وفي الآخر تتعين الناصية وبكل حال لا يجزئ الأذنان والصحيح الأول لقوله فامسحوا برؤوسكم أمر بمسح الرأس كما أمر بمسح الوجه في آية التيمم فإذا أوجب استيعاب الوجه بالتراب فاستيعاب الراس بالماء أولى ولأن الرأس اسم للجميع فلا يكون ممتثلا إلا بمسح جميعه كما لا يكون ممتثلا إلا بغسل جميع الوجه ولأن النبي ﷺ توضأ فمسح جميع رأسه وفعله مبين للآية كما تقدم وما نقل عنه أنه مسح على مقدم رأسه فهو مع العمامة كما جاء مفسرا في حديث المغيرة بن شعبة وذلك جائز

وادعاء أن الباء إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه تفيد التبعيض لا أصل له فإنه لم ينقله موثوق به والاستعمال لا يدل عليه بل قد أنكره المعتمدون من علماء اللسان ثم إن إنها تفيده في كل موضع فهذا منقوض بآية التيمم وبقوله { تنبت بالدهن } وقرأت بالبقرة في كل ركعة وتزوجت بالمرأة وحبست صدره بصدره وعلمت بهذا الأمر وما شاء الله من الكلام وإن ادعى أنها تفيده في بعض المواضع فذلك لا من نفس الباء بل من موضع آخر

كما قد يفاد ذلك مع عدم الباء ثم من أين علم أن هذا الموضع من جملة تلك المواضع على أنه لا يصح في موضع واحد ولا فرق من هذه الجهة بين قولك أخذت الزمام وأخذت به وأما قوله { عينا يشرب بها عباد الله } وقوله شربن بماء البحر فإنه لم يرد التبعيض فإنه لا معنى له هنا وإنما الشرب والله أعلم يضمن معنى الزي فكأنه قال يروي بها عباد الله ثم الأحاديث التي ذكرناها أكثرها يقال فيه مسح برأسه وأذنيه فأقبل بهما وأدبر فيذكر استيعاب المسح مع إدخال الباء

قالوا ويقال مسحت ببعض رأسي ومسحت بجيمع راسي ولو كانت للتبعيض لتناقض وإنما دخلت والله أعلم لأن معناها إلصاق الفعل به والمسح هو إلصاق ماسح بممسوح ويضمن معنى الإلصاق فكأنه قيل الصقوا برؤوسكم فيفهم أن هناك شيئا ملصق بالرأس وهو الماء بخلاف ما لو قيل امسحوا رؤوسكم فإنه لا يدل على الماء لأنه يقال مسحت رأس اليتيم ومسحت الحجر وليس هناك شيء يلصق بالممسوح في غير اليد

ولربما توهم أن مجرد مسح الرأس باليد كاف ولهذا والله أعلم دخلت الباء في آية التيمم لتبين وجوب إلصاق التراب بالأيدي والوجوه ولا يجب مسح الأذن وإن قلنا بالاستيعاب في أشهر الروايتين لأنها منه حكما لا حقيقة بدليل أنها تضاف تارة إليه وتارة إلى الوجه بقوله سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره وفي الأخرى يجب لأنهما من الرأس وبكل حال لا يجب مسح ما استتر بالغضاريف كما استتر بالشعر من الراس

وإذا مسح بشرة رأسه من تحت الشعر دون أعلى الشعر لم يجزئه كما لو غسل باطن اللحية دون ظاهرها وكذلك لو مسح المسترسل محلولا أو معقودا على أعلى الرأس وإن قلنا يجزئ مسح البعض ولو خضب رأسه أو طينه لم يجز المسح عليه لأنه ليس هو الرأس ولا حائله الشرعي كما لو كان الخضاب على يديه ورجليه وإذا مسح رأسه أو جهه في التيمم بخرقة ونحوها أجزأه في أصح الوجهين لأن المسح في الآية مطلق فيتناول اليد وغيرها كما يتناول يد الغير

ولو وضع يده المبلولة على رأسه من غير إمرار لم يجزئه في المشهور وكذلك الخرقة لأنه لا يسمى مسحا بخلاف غمس ( العضو ) في الماء فإنه يسمى غسلا وإن مسح الراس بإصبع أو إصبعين أجزأه في أشهر الروايتين بناء على أن البلل الباقي على الأصبع ليس بمستعمل وإنما المستعمل ما انتقل إلى الرأس وإذا غسل رأسه أو خفه وأمر يده عله أجزأ لأنه مسح وزيادة وإن لم يمر يده لم يجزئه في إحدى الروايتين لأن الإمرار بعض المسح ولم يأت به وفي الأخرى يجزئ لأنه أكثر من المسح

ولو وقف تحت ميزان أو مطر ليقصد الطهارة أجزأ إن أمر يده وإن لم يمرها ولم يجر لم يجزئه في أشهر الوجهين فإن جرى فعلى روايتي الغسل ولو أصابه ذلك من غير قصد ثم أمر يده عليه أجزأه في أشهر الروايتين لأن الماء الواقع بغير قصد غير مستعمل فإذا مسح به كان كما لو نقله بيده وفي الأخرى لا يجزئ لأنه لم يقصد نقل الطهور إلى محله

مسألة وترتيب الوضوء على ما ذكرنا

ظاهر المذهب أن ترتيب الأعضاء على ماذكر الله تعالى واجب فإن نكسها أو غسلها جميعا باغتماس أو يوضئه أربعة لم يجزئه فأما ما كان مخرجه في كتاب الله واحدا كالوجه واليدين إذا قدم بعضه على بعض كتقديم ظاهر الوجه على باطن الفم والأنف وتقديم اليسرى على اليمنى فإنه جائز وقد حكى أبو الخطاب وغيره فيه رواية أخرى أن الترتيب ليس بواجب مأخوذ من نصه على جواز تأخير المضمضة والاستنشاق عن جميع الأعضاء وأبى ذلك غيره وخصوا ذلك بمورد نصه فرقا بين المضمضة والاستنشاق وغيرهما حيث صرح هو بالتفرقة كما تقدم

وهذا أصح وليس القول بوجوب الترتيب لاعتقادنا أن الواو تفيد الترتيب فإن نصه ومذهبه الظاهر أنها لا تفيده وإنما قلناه لدليل آخر وذلك أن الله سبحانه أدخل ممسوحا بين مغسولين وقطع النظير عن نظيره أما على قراءة النصب فظاهر مع قول من قال من الصحابة والتابعين عاد الأمر إلى ( الغسل ) وعلى قراءة الخفض أوكد لأنه مع تأخير الرجلين أدخلهما في خبر المسح مراد به غسلهما مع إمكان تقديمهما

والكلام العربي الجزل لا يقطع فيه النظير عن النظير ويفصل بين الأمثال بأجنبي إلا لفائدة ولا فائدة هنا إلا الترتيب وكذلك لو قال الرجل أكرمت زيدا وأهنت عمرا وأكرمت بكرا ولم يقصد فائدة مثل الترتيب ونحوه لعدعيا ولكنه ولا يجوز أن تكون الفائدة استحباب الترتيب فقط لأن الآية إنما ذكر فيها الواجبات فقط وكذلك لم يذكر فيها ترتيب اليسرى واليمنى وأيضا ما ذكره أبو بكر وهو أنا وجدنا المأمورات المعطوف بعضها على بعض ما كان منها مرتبطا بعضه ببعض وجب فيه الترتيب كقوله { اركعوا واسجدوا } وقوله { إن الصفا والمروة من شعائر الله } ) وما لم يكن مرتبطا لم يجب فيه الترتيب كقوله { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } { وأتموا الحج والعمرة لله } { وإنما الصدقات للفقراء والمساكين } { واعلموا أن ما غنتم من شيء فإن لله خمسه } وشبه ذلك وآية الوضوء من القسم الأول وأيضا فإن الترتيب يجوز أن يكون مرادا من جهة الابتداء وفعله ﷺ خرج امتثالا للأمر ولم يتوضأ قط إلا مرتبا فيكون تفسيرا للآية لا سيما ولو كان التنكيس جائزا لفعله ولو مرة ليبين الجواز

وروى جابر أن النبي ﷺ لما طاف واستلم الركن ثم خرج وقال إن الصفا والمروة من شعائر الله فابدأوا بما بدأ الله به هذا لفظ النسائي فإما أن يكون اللفظ عاما وإن كان السبب خاصا فيكون حجة من جهة العموم وإما أن يكون خاصا فإنما وجب الابتداء بالصفا لأن الله بدأ به في خبره فلأن يجب الابتداء بالوجه الذي بدأ الله به في أمره أولى فعلى هذا إذا نكس فغسل يديه قبل وجهه لم يحتسب به ولم يصر الماء مستعملا

وإن نوى المحدث وانغمس في ماء كثير راكد ففيه وجهان أحدهما وهو المنصوص أن الحدث لا يرتفع عن العضو حتى ينفصل عنه الماء فإذا أخرج وجهه ثم يديه ثم مسح راسه ثم خرج من الماء أجزأه وإلا فلا مراعاة للترتيب في الانفصال والثاني يرتفع الحدث قبل انفصال الماء فإذا مكث في الماء قدر ما يسع الترتيب ومسح رأسه ثم مكث بقدر غسل رجليه أو قلنا يجزئ الغسل عن المسح أجزأه وقد تقدم نظير ذلك في إزالة النجاسة وفي الماء المستعمل

فأما إن كان الماء جاريا فمرت عليه أربع جريات أجزأه إن مسح رأسه إن قلنا الغسل يجزئ عن المسح وإلا فلا وقد قيل يجزئه جرية واحدة لكن عليه مسح رأسه وغسل رجليه لأن الغسل لا يجزئ عن المسح فلم تصح طهارة الرأس ولا الرجلين لأنهما بعده مأخوذا من نصه في رجل اراد الوضوء فاغتمس في الماء ثم خرج من الماء فعليه مسح رأسه وغسل رجليه والصحيح الأول لأن الطهارة في هذه المسألة إنما حصلت بإنفصال العضو عن الماء

كما تحصلت في الماء الجاري بانفصال الماء عن العضو وقد نص على مثل ذلك في طهارة الجنب ويسقط ترتيب الوضوء عن الجنب تبعا للغسل إذ قلنا يجزئ عنه الغسل كما سقط فعله حتى لو اغتسل إلا أعضاء وضوئه لم يلزمه الترتيب فيها لبقاء حكم الجنابة فيها ولو غسل بعضها عنها ثم أحدث لزمه الترتيب فيما غسله ولم يلزمه في باقيها

مسألة وأن لايوخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله هذا ظاهر المذهب والمنصوص في رواية الجماعة

وورى عنه حنبل أنها ليست واجبة لأن الله تعالى أمر بالغسل مطلقا ولم يشترط الموالاة وعن ابن عمر أنه غسل رجليه بعد ما جف وضوؤه ولأن ما جاز تفريق النية على أبعاضه جاز تفريق أفعاله كالزكاة والحج والحدود ولأنها طهارة فأشبهت الغسل والصحيح الأول لما روى خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي ﷺ أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يصلي في ظهر قدمه لمعه كقدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسم أن يعيد الوضوء والصلاة رواه أحمد وأبو داود وقال أحمد إسناد جيد ورأى عمر في قدم رجل مثل موضع الفلس لم يصبه الماء فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة رواه الأثرم أما الزكاة فلا يرتبط بعضها بعض والحج عبادات تتعلق بأمكنة وأزمنة ويحتاج كل فعل منه إلى نية والحج لا ينقص بعد وقوعه أما الغسل فإنما لم تشترط المولاة فيه لما تقدم في المياه عنه ﷺ أنه رأى لمعة بعد عسله فعصر شعره عليها وعن علي قال جاء رجلا إلي النبي ﷺ فقال إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر ثم أصبحت فرأيت قدر موضع الظفر لم يصبه الماء فقال النبي ﷺ لو كنت مسحت عليه بيدك أجزأك رواه ابن ماجة

ولأن النبي ﷺ أمر الجنب إذا أراد أن ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة وكذلك الأكل والمجامع ثانيا وكان أصحاب رسول ﷺ يتحدثون في المسجد إذا توضأ وهم جنب ولولا أن الجنابة تنقض بالوضوء لم يكن في ذلك فائدة وإنما تنقض إذا صح تبعيضها وإذا صح تبعيضها صح تفريقها بخلاف الوضوء فإنه لايصح تبعيضه في موضع واحد بل لايرتفع الحدث عن عضو حتى يرتفع عن جميع الأعضاء وقال ابن عباس فيمن نسي المضمضة والاستنشاق في الجنابة وصلى أنه ينصرف فيمضمض ويستنشق ويعيد الصلاة رواه سعيد في سننه ولأن الموالاة تابعة للترتيب والتريب إنما يكون بين عضوين وبدن الجنب كالعضو الواحد ولأن تفريق الغسل يحتاج إليه كثيرا فإنه قد يكون أصلح للبدين وقد ينسى فيه موضع لمعة أو لمعتين أو باطن شعره وفي إعادته مشقة عظيمة والوضوء يندر ذلك فيه وتخف مؤونة الإعادة فافترقا ولأن الوضوء يتعدى حكمه محله إلى سائر البدن وذلك لايكون إلا جملة الغسل لايتعدى حكمه محله فأشبه إزالة النجاسة كما أشار إليه قوله ﷺ أن تحت كل شعرة جنابة

ومتى فرق الغسل فلا بد من نية يستأنفها في تمامة وكذلك الوضوء إذا أخرنا تفريقه لأن النية الحكمية تبطل بطول الفصل كما تبطل بطول الفصل قبل الشروع ولاتسقط الموالاة بالنسيان فلو نسي موضع ظفر من قدمه وطال الفصل أعاد الوضوء إذا ذكره الجاهل لأن الذي أمره النبي ﷺ بإعادة الوضوء كان جاهلا ولم يعذره بذلك وحد الموالاة أن يغسل العضو الثاني قبل أن يجف الماء عن الذي قبله في الزمن المعتدل أو مقداره من الشتاء والاصيف والصيف

فلو لم يشرع فيه حتى نشفت رطوبة الأول أو أخر غسل آخره حتى نشف أوله استأنف فإن الأول بعد شروعه في الثاني وقبل فراغه لاشتغاله بسنة من تخليل أو تكرار أو إسباغ أو إزالة شك لم يعد تفريقها كما لو طول أركان الصلاة قال أحمد إذا كان في علاج الوضوء فلا بأس وإن كان لعبث أو سرف أو زيادة على الثلاث قطع الموالاة كما لو كان لترك وكذلك إذا كان لوسوسة في الأقوى وإن كان لإزالة وسخ فقد قيل إنه كذلك لأنه ليس من الطهارة شرعا وعنه أن التفريق المبطل ما يعد في العرف تفريقا

مسألة وغسل الكفين ثلاثا والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائما

وقد تقدم غسل الكفين وأما المبالغة فلما روى لقيط بن صبرة قال قلت يا رسول الله أخبرني عن الوضوء قال أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وعن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثا رواه أحمد وأبو داود ابن ماجة والمضمضة في معناها ليستغرق داخل الفم وقد تقدم العذر عن تركها في الحديث والمبالغة إن يدير الماء في أقاصي الفم وأن يجتذبه بالنفس إلي أقصى الأنف من غير أن يصير سقوطا أو وجورا وقال أبو إسحاق بن شاقلا المبالغة في الاستنشاق واجبة للأمر بها وظاهر المذهب أنها سنة لأنها تسقط في صوم التطوع ولاتستحب فيه ولو كانت واجبة لما تركت لأجل التطوع

مسألة وتخليل اللحية والأصابع ومسح الأذنين وغسل الميامن قبل المياسر أما تخليل اللحية والأصابع ومسح الأذنين فقد تقدم ذكره

وأما غسل الميامن قبل المياسر فلأن عائشة رضي الله هنها قالت كان رسول الله ﷺ يحب التيامن في تنعله وترجله وظهوره وفي شأنه كله متفق عليه ولأن الذين وصفوا وضوء رسول الله ﷺ بدأوا بالميامن قبل المياسر ولأن الوضوء مما يشتمل العضوين وهو من باب الكرامة فقدمت فيه اليمنى كالانتعال ودخول المسجد والترجل وهو سنة فلو قدم اليسرى جاز نص عليه لأن مخرجها في متاب الله واحد لم يقدم إحداهما على الاخرى وهذا معنى قول علي رضي الله عنه ما أبالي إذا أتمكت وضوئي بأي أعضائي بدأت كذلك جاء عنه مفسرا وقد روى قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه أن عليا سئل فقيل له أحدنا يستعجل فيغسل شيئا قبل شيء فقال لا حتى يكون كما أمر الله رواه أحمد

مسألة والغسل ثلاثا ثلاثا وتكره الزيادة عليها والإسراف في الماء

السنة أن يغسل كل عضو ثلاثا وإلا فمرتين وإن اقتصر علي مرة جاز تقدم وإنما تحصل السنة بالإسباغ

مسألة والواجب من ذلك النية والغسل مرة مرة ما خلا الكفين

وقد تقدم دليل وجوب النية وأما الاجتزاء بالغسل مرة فلما روى ابن عباس قال توضأ النبي ﷺ مرة مرة رواه الجماعة إلا مسلما

وأما الكفان فغسلهما قبل الوجه سنة لما تقدم وإنما محل وجوبهما بعد الوجه لما تقدم وإنما تحصل السنة بإسباغ كل مرة فإن لم يسبغ بالأولى كانت الثانية تماما لها ولهذا جاء عن علي رضي الله عنه لما حكى وضوء النبي ﷺ أخذ غرقه رابعة لوجهة فأما الزيادة على ثلاث سابغات والزيادة من الماء على قدر الحاجة فمنهي عنها لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال جاء أعرابي إلى رسول ﷺ فسأله عن الوضوء فأراه ثلاثا ثلاثا وقال هذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم رواه أحمد والنسائي وابن ماجة

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ مر بسعد وهو يتوضأ فقال ما هذا السرف فقال أفي الوضوء إسراف قال نعم وإن كنت على نهر جار رواه ابن ماجة وعن أبي بن كعب أن النبي ﷺ قال للوضوء شيطان يقال له الولهان فاتقوا وسواس الماء رواه ابن ماجة وعبد الله بن أحمد وعن عبد الله بن مغفل أنه سمع ابنه يقول اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها فقال يا بني سل الله تبارك وتعالى الجنة وعذ به من النار فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول يعتدون في الدعاء والوضوء رواه أحمد

ولو خالف بين الأعضاء بأن يغسل وجهه ثلاثا ويده مرتين لم يكره في أشهر الروايتين وإذا شك هل غسل مرتين أو أكثر بنى على اليقين كعدد الركعات ويستحب أن يشرع في العضد والساق إذا غسل يديه ورجليه في أشهر الروايتين لما روى أبو هريرة قال قال رسو الله ﷺ أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من أثر الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله متفق عليه

فصل

ويكره تنشيف أعضائه في الوضوء والغسل في إحدى الروايتين ما لم يخف ضررا من برد وغيره لأن ميمونة لما وضعت غسل النبي ﷺ قالت فأتيته بالمنديل فلم يردها وجعل ينفض الماء بيده رواه الجماعة ولأنه أثر عبادة لا يخاف ضرره أو لا يستحب إزالته فكرهت كدم الشهيد وخلوف فم الصائم وطرده التراب بجبهة الساجد والرواية الأخرى لايكره ولايستحب وهي أصح لما روى قيس بن سعد قال زارنا رسول الله ﷺ في منزلنا فأمر له سعد بغسل فوضع له فاغتسل ثم ناولته ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس فاشتمل بها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن سلمان أن رسول الله ﷺ توضأ فقلب جبة صوف كانت عليه فمسح بها وجهه رواه ابن ماجة ولأن هذا الأثر لم يرد الشرع باستطابته فأشبه غبار القدمين في سبيل الله وبهذا ينقض قياسهم وأصل قياسهم عكس علتنا وأما نفض يده فكرهه القاضي وأصحابه لما روى عن النبى ﷺ أنه قال إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم وقال طائفة من أصحابنا لايكره كالتنشيف لحديث ميمونة المتقدم ويباح معاونته في الوضوء باستقاء الماء وحمله وصبه عليه والأفضل أن يلي هو ذلك بنفسه فأما إن استناب غيره في فعل الوضوء بأن نوى وغسل الغير أعضاءه فإنه يكره ويجزئه كما لو نوى ووقف تحت ميزاب وأنبوب والله أعلم

مسألة ويسن السواك عند تغير الفم وعند القيام من النوم وعند الصلاة لقول رسول الله ﷺ لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ويستحب في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال

أما استحبابه في جميع الأوقات فلما روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه أحمد وعن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ السواك مطهرة للفم مرضاة للرب رواه أحمد والنسائى وذكره البخارى نعليقا ولأن جميع الأوقات مظنة ما يطهر الفم منه من إدام وأكل وما يطهر له من كلام الله وكلام العباد ولذلك استحب مطلقا ويتأكد اسحبابه لسببين أحدهما عند تغير الفم بمأكول أو خلوه من الطعام أو غير ذلك

وكذلك عند القيام من الليل لما روى حذيفة قال كان رسول الله ﷺ إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك متفق عليه يعني يغسله ويدلك وفي لفظ كنا نؤمر بالسواك إذا قمنا من الليل ولأن بالنوم ينطبق فمه فيحتبس فيه البخار المتصاعد من معدته فيغيره

وكذلك إذا دخل منزله وقد قيل لعائشة بأي شيء كان يبدأ رسول الله ﷺ إذا دخل منزلة قالت بالسواك أخرجه مسلم

وعن عائشة أن النبي ﷺ كان لايرقد ليلا ولا نهارا فيستقيظ إلا تسوك قبل أن يتوضأ رواه أبو داود وأما إذا تغير طعمه أو يحه أو اصفر لون الأسنان من مطعموم أو خلو من الطعام أو غير ذلك فلما روى تمام بن العباس قال أتو النبي ﷺ أو أتى فقال مالي أراكم تأتوني قلحا استاكوا رواه أحمد

ولأن السواك إنما شرع لتطييب الفم وتطهيره وتنظيفه فإذا تغير فقد تحقق اسبب المقتضي له فكان أولى منه عند النوم

والسبب الثاني إذا أراد الصلاة لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله ﷺ لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة رواه الجماعة وعن عائشة قالت قال رسول الله عليه وسلم فضل الصلاة بالسواك على الصلاة بغير السواك سبعون صلاة رواه أحمد وليس بواجب لأن النبي ﷺ علل ترك الأمر بالمشقة فلو كان أمر إيجاب لحصلت المشقة في وجوبه وفي وجوبه على النبي ﷺ وجهان أحدهما كان واجبا عليه قال القاضي وابن عقيل لما روى عبد الله بن حنظلة الغسيل أن رسول الله ﷺ أمر بالوضوء لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر فلما شق ذلك أمر بالسواك لكل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث رواه أحمد وأبو داود وهو مأمور بالتوضؤ لكل صلاة أمر استحباب فعلم أن الموضوع وجوبه والسواك بدل عنه فيكون واجبا والثاني لم يكن واجبا عليه قاله ابن حامد لما روى واثلة بن الاسقع قال قال رسول الله ﷺ أمرت بالسلواك حتى خشيت أن يكتب علي رواه أحمد

وهذا معنى تفضيله على التحديد وهو مزية الأمر حتى كاد يصير مفروضا وهذا الوجه أشبه فإن الأصل مشاركة أمته له في الأحكام وإنما استحب للمصلي لأن القائم إلى الصلاة يقرأ القرآن ويذكر الله ويدعوه فاستحب له تطهير الفم لأنه مجرى القرآن ولئلا يؤذي الملائكة والآدميين بريح فمه ولأن الله يحب المتطهرين وكذلك يستحب لكل قارئ وذاكر وداع كما يستحب لهم الوضوء وأوكد وقد جاء طهروا أفواهكم بالسواك فإنها مجاري القرآن وكذلك السواك عند الوضوء لأنه به وبالمضمضة تكمل نظافة الفم

وقد روي عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء رواه أحمد وذكره البخاري تعليقا قال ويروى نحوه عن جابر وزيد بن خالد عن النبي ﷺ

وأما الصائم بعد الزوال فيكره له في أظهر الروايتين وفي الأخرى لا يكره ولا يستحب على هذه الرواية أيضا وقيل يستحب لما روي عن عاذشة قالت قال رسول الله ﷺ من خير خصال الصائم السواك رواه ابن ماجة وقال عامر بن ربيعة رأيت رسول الله ﷺ ما لا أحصي يتسوك وهو صائم رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن وذكره البخاري تعليقا

ولأنه أحد طرفي النهار فأشبه أوله والأولى ما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك متفق عليه وخلوف الصوم إنما يظهر غالبا بعد الزوال فتكره إزالته لأنه أثر عبادة مستطاب في الشرع فنهي عن إزالته كدم الشهيد وما قبل الزوال إنما يكون خلوفه من أثر النوم أو الأكل بالليل فلم تكره إزالته وعلى ذلك يحمل ما جاء من الحديث ويستحب أن يكون السواك عودا لينا يطيب الفم ولايضره ولايتفتت فيه كالأراك والزيتون والعرجون ويكره بعود الريحان والرمان والآس لأن ذلك يضر الفم يقال إن الرمان يضر لحم الفم ويهيج الدم وعود الريحان يحرك عرق الجذام فأما اليابس فيجرح وأما الرطب فيتفتت وأما الندي فيحصل المقصود ويستحب غسله إذا اجتمع عليه ما يغسله لأن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ يعطيني السواك لأغسله فأبدأ به فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه رواه أبو داود ولا بأس أن يتسوك بسواك غيره وإن لم يغسله

قالت عائشة دخل عبد الرحمن بن إبي بكر ومعه سواك يستن فيه فنظر إليه النبي ﷺ فقلت له اعطني هذا السواك يا عبد الرحمن فأعطانيه فقصمته ثم مضغته فأعطيته رسول الله ﷺ فاستن به رواه البخاري فإن استاك بأصبعه أو بخرقة فقيل لايصيب السنة لأن الشرع لم يرد به مع غلبة وجوده وتيسره وقيل يصيب من السنة بقدر ما يحصل من الإنقاء لأنه ينظف الفم ويزيل تغيره أو تجففه كالعود وقيل يحزىء الأصبع مع الماء في المضمضة لأن في حديث علي بن أبي طالب لما وصف وضوء رسول الله ﷺ أنه تمضمض ثلاثا فأدخل بعض أصابعه في فيه رواه أحمد في المسند وعن أنس أن رجلا من بني عمرو بن عوف قال يا رسول الله إنك رغبتنا في السواك فهل من دون ذلك من شيء فقال أصابعك سواك عند وضوئك أمرها علي أسنانك إنه لا عمل لمن لانية له ولا أجر لمن لا حسبة له رواه أبو جعفر ابن البحتري الرزاز وسمع أبو هريرة رجلا يقول لم أتسوك منذ ثلاثة أيام فقال لو أمررت أصبعك على أسنانك في وضوئك كان بمنزلة السواك رواه حرب في مسائله

والسنة أن يستاك على عرض الأسنان لما روى عطاء قال قال رسول الله ﷺ إذا استكتم استاكوا عرضا وإذا شربتم فاشربوا مصا رواه سعيد في سننه وأبو د اود في مراسيله وعن ربيعة بن أكثم قال كان رسول الله ﷺ يستاك عرضا ويشرب مصا ويقول هذا أهنأ وأمرأ رواه أبو بكر الشافعي في الغيلانيات وقال الخطابي الشوص ذلك الأسنان عرضا بالسواك ونحوه ولأن الاستياك على طول الاسنان من طرفها إلى عمودها ربما آذى اللثة وأفسد العمود

ويستحب الاستياك على لسانه لأن أبا موسى قال أتينا رسول الله ﷺ فرأيته يستاك على لسانه متفق عليه ويستحب التيامن في سواكه أن يبدأ بالجانب الأيمن لأن النبي ﷺ كان يعجبه التيامن في طهوره وفي شأنه كله وأن يستاك باليد اليسرى نص عليه لأنه إماطة أذى يفعل بإحدى اليدين فكان باليسرى كالاسنتجاء مع استحباب الابتداء بالشق الأيمن فيه

فصل

ويستحب أن يكتحل وترا لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله ﷺ إذا اكتحل أحدكم فليكتحل وترا رواه أحمد وفي لفظ من اكتحل فليوتر من فعل ذلك فقد أحسن ومن لا فلا حرج رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والإيتار أن يكتحل في كل عين مرة واحدة أو ثلاثا أو خمسا وقيل هو أن يجعل في العين ثلاثا أو خمسا في اليمنى ثنتين وفي اليسرى واحدة أو في اليمنى ثلاثا وفي اليسرى ثنتين لما روى محمد ابن سعد في الطبقات عن عمران بن أبي أنس عن النبي ﷺ أنه كان يكتحل في اليمنى ثلاثا وفي اليسرى ثنتين بالإثمد وعن عبد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ كان إذا اكتحل يجعل في اليمنى ثلاثة مراود وفي اليسرى مرودين والأول أصح لما روى ابن عباس أن النبي ﷺ كانت له مكحلة يكتحل منها كل ليلة ثلاثة في هذه وثلاثة في هذه رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وهذا أشهر وأثبت وهو أشبه بالتسوية بين العينين في النفع والزينة ويستحب الاكتحال بالإثمد عند النوم لما روى ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ خير أكحالكم الإثمد عند النوم ينبت الشعر ويجلو البصر رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن

فصل

ويستحب الترجل غبا وهو تسريح الشعر ودهنه وكذلك دهن البدن لما روي عن النبي ﷺ أنه يدهن غبا رواه الترمذي في الشمائل وقال جابر بن سمرة كان رسول الله ﷺ قد مشط رأسه وليحته فكان إذا ادهن لم يتبين وإذا شعث رأسه تبين وكان كثير شعر اللحية رواه أحمد ومسلم وعن عبد الله بن المغفل قال نهى رسول الله ﷺ عن الترجل إلا غبا رواه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح قال أحمد معناه يدهن يوما ويوما لا والقصد أن يكون ادهانه في رأسه وبدنه متوسطا على حسب حاله حتى لو احتاج إلى مداومته لكثرة شعره وقحول بدنه جاز لما روى عن أبي قتادة أنه كانت له جمة ضخمة فسأل النبي ﷺ فأمره أن يحسن إليها وأن يترجل كل يوم رواه النسائي وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال من كان له شعر فليكرمه رواه أبو داود وعن جابر قال رأى النبي ﷺ رجلا ثائر الرأس فقال أما يجد هذا ما يسكن به شعره رواه أحمد وأبو داود والنسائى

واتخاذ الشعر أفضل من إزالته بحلق أو قطع نص عليه وقال قد كان للنبي ﷺ جمة وقال عشرة من أصحاب النبي ﷺ كان لهم جمم وعشرة لهم شعر ويسن فرقه من مؤخره فإنه أفضل من سدله نص عليه لما روى ابن عباس قال كان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان أهل الكتاب يسدلون وكان رسول الله ﷺ يحب ويعجبه موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء فسدل ناصيته ثم فرق بعد متفق عليه وذكره في الفطرة في حديث ابن عباس يعني بالناصية وجميع الشعر

وفي شروط عمر على النصارى ألا يفرقوا نواصيهم لئلا يتشبهوا بالمسلمين وهذا إنما يتأتي فيما طال منه والأفضل أن يكون قدر الشعر كشعر النبي ﷺ إن قصر فإلى أذنيه وإنه طال فإلى منكبيه وإن طوله أكثر من ذلك جاز وتقصيره أفضل وكذلك إن قصره بمقراض أو غيره قالت عائشة كان شعر رسول الله ﷺ فوق الوفرة ودون الجمة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح والوفرة الشعر إلى شحمة الأذن والجمة ما بلغ المنكبين

وعن أنس أن النبي ﷺ كان يضرب شعر منكبيه وفي رواية بين أذنيه وعاتقه متفق عليه وفي رواية إلى أنصاف أذنيه رواه أحمد ومسلم وعن سهل بن الحنظلية قال قال رسول الله ﷺ نعم الرجل خريم الأسدي لولا طول جمته وإرسال إزاره فبلغ ذلك خريما فعجل فأخذ شفرة فقطع بها شعره إلى إنصاف أذنيه ورفع إزاره إلى أنصاف ساقيه رواه أحمد وأبو داود

وعن وائل بن حجر قال أتيت النبي ﷺ ولي شعر طويل فلما رآني قال ذباب ذباب قال فرجعت فجززته ثم أتيته من الغد فقال لم أعنك وهذا أحسن رواه أبو داود وابن ماجة والنسائي

وهل يكره حلق الشعر في غير الحج والعمرة إلا من حاجة على روايتين أحدهما يكره لأن النبي ﷺ قال في الخوارج وسيماهم التحليق وقال عمر لصبيع التميمي الذي كان يسأل عن المتشابهات لو وجدتك محلوقا لضربت الذي فيه عيناك وقال ابن عباس رضي الله عنه الذي يحلق رأسه في المصر شيطان قال أحمد كانوا يكرهون ذلك والثانية لايكره ولا يستحب بل تركه أفضل

لما روى ابن عمر عن النبي ﷺ أنه رأى صبيا قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فنهاهم عن ذلك وقال احلقوه كله أو ذروه كله رواه أحمد وأبو داود والسنائي بإسناد صحيح وعن عبد الله بن جعفر أن رسول الله ﷺ أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال لاتبكوا اعلى أخي بعد اليوم ادعو إلي بني أخي قال فجيء بنا كأنا أفرخ فقال ادعو إلي الحلاق قال فجيء بالحلاق فحلق رؤوسنا رواه أحمد وأبو داود والنسائي ولأنه لايكره استئصاله بالمقارض فكذلك حلقه

وما جاء فيه من الكراهة فهو والله أعلم فيمن يعتقد قربة وشعار الصالحين هكذا كانت الخوارج فأما إن حلقه على أنه مباح وإن تركه أفضل فلا فأما المرأة فيكره لها قولا واحدا ويكره حلق القفا لمن لم يحلق رأسه ولم يحتج إليه لأنه من فعل المجوس ومن تشبه بقوم فهو منهم فأما عند الحجامة ونحوها فلا بأس والفزع مكروه لما روى ابن عمر قال نهى رسول الله ﷺ عن القزم متفق عليه وهو حلق بعض الرأس دون بعض مأخوذ من قزع السحاب وهو المتفرق منه

فصل

ويستحب أن ينظر في المرآة ليتجنب ما يشيبه ويصلح ما ينبغي إصلاحه وروى عن خالد بن معدان قال كان رسول الله ﷺ يسافر بالمشط والمرآة والدهن واسلواك والكحل رواه ابن سعد في الطبقات ويستحب أن يتطيب لما روى أنس قال قال روسل الله ﷺ حبب إلي النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة رواه أحمد والنسائي وفي لفظ للنسائي حبب إلي من الدنيا النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة وأن يتبخر لما روى نافع قال كان ابن عمر يستجمر بالألوة غير مطراة وبكافور يطرحه مع الألواة ثم قال هكذا كان يستجمر رسول الله ﷺ ويسحتب للرجل من الطيب ما خفي لونه لما روى أبو هريرة وعمران بن حصين عن النبي ﷺ قال خير طيب الرجل ما ظهر ريحه وخفي لونه وخير طيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه رواهما الترمذي وقال حديث حسن

فصل

في خصال الفطرة روى أبو هريرة قال قال رسول الله ﷺ خمس من الفطرة الاستحداد والختان وقص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار رواه الجماعة وعن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ عشر من الفطرة قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتفاض الماء يعني الاستنجاء قال مصعب ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي قال أبو داود وقد روي عن ابن عباس نحو حديث عائشة قال خمس كلها في الرأس وذكر منها الفرق وجميع هذه الخصال مقصودها النظافة والطهارة وإزالة ما يجمع الوسخ والدرن من الشعور والأظفار والجلد

وأما قص الشارب فقال زيد بن أرقم قال رسول الله ﷺ من لم يأخذ شاربه فليس منا رواه أحمد والنسائى والترمذي وقال حديث حسن صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ جزوا الشوارب وارخو اللحى خالفوا المجوس رواه أحمد ومسلم وعن ابن عمر عن النبي ﷺ قال خالفوا المشركين وفروا اللحى وأحفوا الشوارب متفق عليه وفي رواية البخاري كان ابن عمر إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما فضل أخذه وتحصل السنة بقضبه حتى يبدو الإطار وهو طرف الشفة وكلما أخذ فوق ذلك فهو أفضل نص عليه ولايستحب حلقه لأن في لفظ البخاري عن ابن عمر عن النبي ﷺ قال انهكوا الشوارب واحفوا اللحى

قال البخارى وكان ابن عمر يحفي شاربه حتى ينظر إلى موضع الحلق وروى حرب في مسائله عن عبد الله بن رافع قال رأيت أبا سعيد الخدري وسلمة بن الأكوع وجابر بن عبد الله وابن عمر وأبا أسيد يجوزون شواربهم أخا الحلق وأما إعفاء اللحية فإنه يترك ولو أخذ ما زاد علي القبضة لم يكره نص عليه كما تقدم عن ابن عمر وكذلم أخذ ما تطاير منها

وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ كان يأخذ من لحيته من عرضها وطولها رواه الترمذي وقال حديث غريب فأما حلقها فمثل حلق المرأة رأسها وأشد لأنه من المثلة المنهي عنها وهي محرمة ويكره نتف الشيب وإرالته بمتقاش ونحوه لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي ﷺ نهى عن نتف الشيب رواه الخمسة وفي رواية لأحمد وأبي داود لاتنتفوا الشيب فإنه نور المسلم ما من مسلم يشيب شيبة في الإسلام إلا كتب الله له بها حسنة ورفعه بها درجة وحط عنه بها خطيئة

فأما خضابه بالحمرة والصفرة فسنة مستحبة لما روى أبو هريرة قال قال رسول الله ﷺ إن اليهود والنصارى لايصبغون فخالفوهم رواه الجماعة

قال عثمان بن عبد الله بن موهب دخلنا على أم سلمة فأخرجت إلينا من شعرالنبي ﷺ فإذا هو مخضوب رواه أحمد والبخارى وابن ماجة بالحناء والكتم وللبخاري عن ابن موهب أن أم سلمة أرته شعر النبي ﷺ أحمر وعن أبي ذر قال قال رسول الله ﷺ إن أحسن ما غيرتم به هذا الشيب الحناء والكتم رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح وعن نافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ كان يصفر لحيته بالورس والزعفران وكان ابن عمر يفعل ذلك رواه أبو داود والنسائي ويكره الخضاب بالسواد لما روى جابر بن عبد الله قال جيء بأبي قحافة يوم الفتح إلى رسول الله ﷺ وكأن رأسه ثغامة فقال رسول الله ﷺ اذهبوا به إلي بعض نسائه فليغيره بشيء وجنبوه الواد رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ولأن التسويد يشبه تكون الخلقة وذلك تزوير وتغيير لخلق الله فيكره كما كره وصل الشعر والنمص والتفلج

وإما الاستحداد فهو استعمال الحديد في إزالة شعر العانة ولوقصه أو نتفه أو تنور جاز والحلق أفضل والأفضل في الإبط أن ينتفه ولو حلقه أو قصه أو نوره جاز أيضا ولو نور غير ذلك من شعر الساقين والفخذين جاز أيضا نص عليه لما روت أم سلمة أن النبي ﷺ كان إذا اطلى بدأ بعورته فطلاها بالنورة وسائر جسده أهله رواه ابن ماجة وفيه مقال لكنلا ينور عورته إلا هو أو من يحل له مسها من زوجه أو أمه

قال أبو العباس النسائي ضربت لأبي عبد الله نورة ونورته بها فلما بلغ إلى عانته نورها هو وقال نافع كنت أطلي ابن عمر فإذا بلغ عورته نورها هو بيده رواه الخلال وترك التنور أفضل قال ابن عمر هو مما أحدثوا من النعيم وأما قص الأظفار فمن السنة لإزالة فحشها ودفع ما يجتمع تحتها من وسخ الأرفاغ ونحوها وقد ذكر إسحاق بن راهويه عن النبي ﷺ أنه قال مالي لا أيهم ورفع أحدكم بين ظفره وأنملته إلا أن ينبغي الاقتصاد في قصها وآلا يحيف نص عليه واحتج بحديث ذكره عن الحكم بن عمير قال أمرنا رسول الله ﷺ ألا نحفي من الأظفار في الجهاد وقال عمر وفروا الأظفار في أرض العدو فإنه سلاح قال أحمد هو يحتاج إليها في أرض العدو ألا ترى أنه إذا أراد الرجل أن يحل الحبل أو الشيء ولم يكن له أظفار لم يستطع وروى عبيد الله بن بطة بإسناده عن النبي ﷺ أنه قال من قص أظفاره مخالفا الم ير في عينيه رمدا وفسر أبو عبد الله بن بطة ذلك بأن يقص الخنصر من اليمنى ثم الوسطى ثم الإبهام ثم البنصر ثم السباحة ويقص اليسرى الإبهام ثم الوسطى ثم الخنصر ثم السباحة ثم البنصر وذكرأن عمر بن رجاء فسره كذلك وجاء فيه لون آخر ذكره القاضي أبو يعلى عن وكيع أنه روي عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ يا عائشة إذا أنت قلمت أظفارك فابدئي بالوسطى ثم الخنصر ثم الإبهام ثم البنصر ثم السبابة فإن ذلك يورث الغنى هذه الصفة لاتخالف الأولى إلا في الابتداء بالوسطى قبل الخنصر ومبني ذلك على الابتداء بالأيمن فالأيمن من كل يد مع المخالفة ويستحب غسل رؤوس الأنامل بعد قص الأظفار لإزالة ما عليها من الوسخ ولأنه يقال إن حك الجسد بها قبل الغسل يضره وفي حديث الفطرة غسل البراجم والبراجم العقد التي في ظهور الأصابع والرواجب ما بينها ومعناه غسل المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ ويستحب أن يأخذ الظفر في كل أسبوع لما روى عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ كان يأخذ أظفاره وشاربه في كل جمعة وإن تركه أكثر من ذلك فلا بأس مالم يجاوز أربعين يوما لما روى أنس قال وقت لنا رسول الله ﷺ في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة ألا نترك أكثر من أربعين ليلة رواه الجماعة إلا البخاري

ويستحب فيما ذكره القاضي أن يكون يوم الجمعة لما روى ابن بطة بإسناده عن حميد بن عبد الرحمن عن أبيه قال من قص أظفاره يوم الجمعة أذخل في شفاء وأخرج منه داء وقال يزيد بن مروان في حديث له من قلم أظفاره يوم الجمعة لم يمت بالماء الأصفر وبإسناده عن نافع عن ابن عمرا أنه كان يقلم أظفاره ويقص شاربه كل جمعة وذكر غيره يوم الخميس لما روي أن عليا قال رأيت رسول الله ﷺ يقلم أظفاره يوم الخميس ثم قال يا علي قص الظفر ونتف الإبط وحلق العانة يوم الخميس والغسل واللباس والطيب يوم الجمعة

وعن أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ يصبح المؤمن يوم الجمعة وهو محرم فإذا صلى حل فإذا مكث في الجامع حتى يصلي العصر مع إمامه كان كمن أتى بحجة وعمرة فقيل يا رسول الله متى نتأهب للجمعة قال يوم الخميس رواه الحاكم وأخرجه أيضا من حديث ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد ويستحب دفن ما أزال من شعره وظفره نص عليه وحكاه عن ابن عمر لما روت ميل بنت مشرح الأشعري أنها رأت أباها مشرحا يقلم أظفاره ثم يجمعها ويدفنها ويخبر أنه رأى رسول الله ﷺ يفعل ذلك رواه البخارى في تاريخه والخلال وابن بطة وروى حرب بإسناده عن قبيصة بن ذؤيب عن النبي ﷺ أنه قال اذفنوا شعوركم وأظفارها فدفنتها وعن ابن عمر أنه لق رأسه فأمر بدفن شعره وروى ابن بطة عن رجل من بني هاشم قال أمر رسول الله ﷺ بدفن الدم والشعر

وأما الختان فواجب على الرجال في المنصوص المعروف من الذهب لأن الله سبحانه أمرنا باتباع ملة إبراهيم عليه السلام والختام من ملته لما روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال اختتن إبراهيم خليل الرحمن بعد ما أتت عليه ثمانون سنة واختتن بالقدوم متفق عليه فإن قيل ضمن ملته سائر خصال الفطرة وهي غير واجبة لاسيما وقد قرن النبي ﷺ بينه وبينها في نسق واحد قلنا إزالة الشعور والأظفار القصد بها إزالة ما يجتمع بسببها من العرق والوسخ والدرن وإزالة الأوساخ ليست واجبة وكذلك ما قصدت به

وأما قلفة الذكر فالمقصود التطهير من النجاسة التي تحتقن فيها ونجاسة البول تجب إزالتها وعامة عذاب القبر منها فلذلك وجب إزالة ما يوجب احتقانها واجتماعها يؤيد ذلك أن المقطوع هنا من أصل الخلقة وكذلك يحشر الخلق يوم القيامة غرلا فلولا أن إزالتها من الواجبات لما تكلف قطعه بخلاف الشعر والظفر ولأن البول المحتقن في القلفة نجاسة شرع زوالها فكان واجبا كسائر النجاسات

وكذلك قال ابن عباس الأقلف لايقبل الله له صلاة ولا تؤكل ذبيحته ولاتقبل شهادته وأما المرأة ففيها روايتان إحداهما أن خفضها واجب كالرجل والثانية لايجب لأن ترك ختان الرجل مظنة احتقان النجاسة بخلاف المرأة وقد روى عن النبي ﷺ أنه قال الختان سنة للرجل مكرمة للنساء رواه أحمد يعني بالسنة الطريقة الشرعية وإنما يجب إذا غلب على الظن سلامة المختون فأما إن خشي عليه لكبر أو مرض فإنهه يسقط بل يمنع منه

وإنما يجب الختان إذا وجبت الطهارة والصلاة إنما شرع لذلك والختان قبل ذلك أفضل وهو قبل التمييز أفضل من بعده في المشهور لأنه قربة وطهرة فتقديمها أحرز لأن فيه تخليصا من مس العورة ونظرها فإن عورة الصغير لاحكم لها ولذلك يجوز مسها وتقبيلها كما كان النبي ﷺ يقبل زبيبة الحسن وقيل التأخير إلى سن التمييز أولى لما روى سعيد بن حبير قال سئل ابن عباس مثل من أنت حين قبض النبي ﷺ قال أنا يومئذ مختون قال وكانوا لايختنون الرجل حتى يدرك يعني والله أعلم حتى يقارب الإدراك مثل تراهق وفي رواية لأحمد توفي النبي ﷺ وأنا ابن عشر سنين مختون

وعنه علي أنه كره أن تختتن الجارية قبل سبع سنين ولايكره بعد سبعة أيام وقبلها فيه روايتان إحداهما يكره لأنه فعل اليهود فكره التشبه بهم والآخرى لايكره لأنه لم يثبت فيه نهي وقد روي عن أبي جعفر أن فاطمة كانت تختتن ولدها يوم السابع وروي عن مكحول وغيره أن إبراهيم ختتن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة وختتن ابنه إسحاق لسبعة أيام

ويؤخذ في ختان الرجل جلدة الحشفة وإن أخذ أكثرها جاز وأما المرأة فيستحب ألا يجتذ خافضها نص عليه وحكي عن ابن عمر أنه قال لختاتة أبقى منه شيئا إذا خفضت وعن أم عطية أم رسول الله ﷺ أمر ختانة تختن فقال إذا ختنت فلا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب للبعل رواه أبو داود

وقالت ميمونة زوج النبي ﷺ لختانة إذا خفضن فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرع للزوج وأحظى لها عند زوجها رواه حرب في مسائله

باب المسح على الخفين

مسألة يجوز المسح علي الخفين وما اشبهها من الجوارب الصفقية التي تشبت في القدمين والجراميق التي تجاوز الكعبين في الطهارة الصغرى يوما وليلة للمقيم وثلاثا للمسافر لقول رسول الله ﷺ يمسح المسافر ثلاثة أيام وليالهن والمقيم يوما وليلة

هذا الكلام فيه فصول الأول أن المسح على الخفين جائز في الوضوء للسنة المستفيضة المتلقاة بالقبول وسنة رسول الله ﷺ تفسير القرآن فقوله تعالى { وأرجلكم } بالنصب خطاب لمن رجله في غير الخفين المشروطين وقراءة الخفض خطاب للابسي الخفاف أو يكون المسح على كلتي القراءتين يجمع المسح على الرجل مع الحائل وعدمه أو تكون كلتا القرائتين في غير اللابسين وعلم ذلك كله بالسنة وهي ما روي عن جرير أنه بال ثم توضأ ومسح علي خفيه فقيل له تفعل هذا قال نعم رأيت رسول الله ﷺ بال ثم توضأ ومسح على خفيه قال إبراهيم فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة رواه الجماعة وفي رواية لأحمد قال ما أسلمت إلا بعد أن نزلت المائدة وأنا رأيت رسول الله ﷺ يمسح بعد ما أسلمت

قال أحمد سبعة وثلاثون نفسا يروون المسح عن النبي ﷺ ويروون عن الحسن قال حدثني سبعون من أصحاب النبي الله ﷺ أنه مسح على الخفين الفصل الثاني

إنه جائز على الخفين وعلى كل ما أشبههما من الجوارب والجراميق سواء لبس ذلك على ما يجوز السمح عليه أو على مالا يمسح عليه ولذلك ثلاثة شروط

أحدها أن يستر محل الغرض وهو القدم إلى ما فوق الكعبين

والثاني أن يثبت في القدم بنفسه

والثالث أن يمكن متابعة المشي فيه

لما روى عبد الرحمن بن عوف عن بلال أن النبي ﷺ كان يتوضأ ويمسح على عمامته وموقيه رواه أحمد وأبو داود

قال الجوهري والموق الذي يلبس فوق الخف فارسي معرب والموق إنما يلبس غالبا فوق الخف وعن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ توضأ ومسح على الجوربين والنعلين رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والترمذي وقال حديث حسن صحيح

ولأن ما يلبس في الرجل إذا كان المحل الفرض يمشي فيه عادة فقد شارك الخف في المعنى الذي أبيح له المسح فيشاركه فيه سواء كان مما يقطع به المنازل والقفار أولا ولهذا يمسح علي الخف من جلد وإن لم يكن له نعل وذلك لأن المشي فيه عادة هو مظنة الحاجة إلى لبسه وستره لمحل الغرض لينتقل الغرض إليه فإذا حصلا تعين جواز المسح عليه

ولذلك كان المسح على ذلك منتشرا في الصحابة من غير مخالف قال أحمد يذكر المسح على الجورين عن سبعة أو ثمانية من الصحابة وجورب الخرق كوجورب الصوف إذا كان صفيقا حيث يمشي في مثله عادة وإن كان رقيقا يتخرق في اليومين أو الثلاثة أو لايثبت بنفسه لم يمسح عليه لأن في مثله لايمشي فيه عادة ولايحتاج إلى المسح عليه

وإذا ثبت الجوربان بنعلين يمسح عليهما كما جاء في الحديث وقال أحمد يذكر المسح على الحوربين والنعلين عن عدة من أصحاب رسول الله ﷺ ويمسح على الجورب وعلى سيور النعل التي على ظاهر القدم كما جاء في الحديث ولايمسح أسفله وعقبه لأنه ليس بمحل المسح في الخف فإن مسح الجورب وحده أو النعل وحده فقيل لايجزؤه لأن الرخصة إنما جاءت في هذه المواضع خاصة وقيل يجزئ لأنهما أجريا مجرى جورب منعل

فأما الشرط الأول فيفيد إنه لايجوز المسح على الخف المخرق أو الواسع الذي يرى منه بعض القدم أو الحفيف الذي يصف القدم أو القصير الذي هو دون الكعبين لأن الرجل متى بدت هي أو بعضها كان الظاهر منها حكمه الغسل والجمع بين السمح والغسل لايجوز فيتعين غسل الجميع وقد قال بعض أصحابنا إن المسح على المخروق الذي يمكن متابعة المشي فيه حائز لأن خفاف القوم لم تكن تخلوا من مثل هذا ولم تقيد الرخصة بالساتر دون غيره فإأما إن كان فيه خرق ينضم على الرجل ولاتبدو منه القدم جاز المسح عليه نص عليه لأن القدم مستور بالخف وإما أن لم يثبت وما في معناه بنفسه إما لسعة فيه أو شرج

فقال أصحابنا لايجزؤه مسحه وإن كان قد شده أو شرجه لأنه كاللفافة

قال أحمد في المسح على الجوربين بغير نعل إذا كان يمشي عليهما ويثبتان في رجله فلا بأس

وقال أيضا إذا كان يمشي فيه فلاينثني فلابأس عليه فإنه فإذا انثنى ظهر موضع الوضوء قالوا هذا كان القياس في الجوربين مع النعلين لكن خالفناه للخبر ولأن الحاجة تدعو إلى لبس الجوربين كذلك بخلاف ما لا يثبت إلا بشده فإنه لا يلبس غالبا إلا بشده وقد خرج بعض أصحابنا وجها في اللفافة إنه يمسح عليها إذا وجد مشقة بنزعها فالخف والجورب الذي يثبت بالشد أولى وهذا قياس الجوربين إذا ثبتا بتعلين فإن ثبت بنفسه لكن بشده أو شرجه ستر القدم مسح عليه في أقوى الوجهين لأنه كالساتر بنفسه ومشقة خلفه أظهر وفي الآخر يجرؤه اختاره أبو الحسن الآمدي لأنه كما لم يكف ثبوته بالشد والشرج فكذلك ستره والصحيح الأول لأن الستر ليس هو مقصود اللبس وإنما اعتبرناه لئلا يجب غسل البادي بخلاف ثبوته ولأنه لو ستر القدم بانضمام بعضه إلى بعض لجاز المسح على المنصوص فهذا أولى وسواءكان الخف من جلود أو لبود أو خشب أو زجاج في أشهر الوجهين وفي الآخر لايجوز إلا في ملبوس معتاد كما لم يجز في اللفائف فلا يجوز في الخشب والزجاج والصفر والنحاس وأما ما لا يمكن متابعة المشي فيه إما لضيقه أو ثقله أو تكسره بالمشي أو تعذره كرقيق الخرق أو اللبود لم يجز مسحه لأنه ليس بمنصوص ولا في معنى المنصوص

وأما الخف المحرم كالحرير والمغصوب فقيل هو على روايتي الصلاة في الدار المغصوبة وقيل لايجزئ قولا واحدا لأنه رخصة فلا يستباح بمعصية كالقصر في سفر المعصية وصلاة الخوف في القتال المحرم وقد تقدم مثل هذا في الاستنجاء بالمغصوب ولو لبس جلدا نجسا لحاجة كبلاد الثلج التي يخشى فيها من سقوط أصابعه بحلقه أجزأه مسحه في أحد الوجهين

لأنه مأذون فيه وإن تنجس الماء بالملاقاة فإن ذلك لايمنع كما لايمنع تنجسه على بدن الجنب في أحد الوجهين ولايجزؤه في الآخر وهو أقوى لأنه مأمور بخلعه في الأصل وإنما إبيح لبسه هنا للضرورة فأشبه من لم يستطع خلع الخف الطاهر بعد انقضالء المدة فإن هذه حالة نادة فعلى هذا يكون حكمه حكم فرضه الغسل وقد عجز عنه لقروح أو برد فيتمم ويصلي ولو كان بقدمه أو بباطن خفه نجاسه لا تزال إلا بنزعة فقد قيل هو كالضوء قبل الأستنجاء أو بباطن خفه نجاسة لاتزال إلا بنزعه فقد قيل هو كالوضوء قبل الاتنسجاء لأن الصلاة لا تمكن مع هذه الطهارة غالبا إلا بنقضها والصحيح أنه يصح لطهارته ويستفيد بذلك مس المصحف والصلاة إن عجز عن إزالة النجاسة كما لو توضأ وعلى فرجه نجاسة من غيره بخلاف النجاسة الخارجة فإنها لما أوجبت طهارتين جعلت إحداهما تابعة للأخرى

ومن كان لابسا خفا فالمسح عليه أفضل من أن يخلعه ويغسل في أقوى الروايتين لأن هذا كان عادة رسول الله ﷺ ولم ينقل عنه أنه خلع وغسل ولأن في ذلك ردا للرخصة وتشبها لأهل البدع فيكون مفضولا والثانية المسح سواء لأن كلا منهما جاءت به السنة وأما من لاخف عليه فلا يستحب له أن يلبسه لقصد المسح كما لا يستحب له أن يسافر لأن يقصر

الثالث أن المسح إنما يجوز في الطهارة الصغرى دون الكبرى لما روى صفوان بن عسال المرادي قال أمرنا رسول الله ﷺ إذا كنا سفرا أو مسافرين أن لاننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال حديث حسن صحيح

ولأن الطهارة الكبرى يجب فيها غسل ما يمكن غسله من غير ضرر وإن كان مستورا بأصل الخلقة كباطن شعر الرأس واللحية فما هو مستور بغير الخلقة أولى بخلاف الوضوء فإنه يسقط فيه غسل ما استتر بنفس الخلقة فجاز أن يشبه به الخف في بعض الأوقات وهذا الوضوء يتكرر بخلاف الغسل ولأن الغسل يشبه بإزالة النجاسة من حيث لايتعدى حكمه بخلاف الوضوء

ولأن تحت كل شعرة جنابة فيحتاج إلى بل الشعر وإنقاء البشر

الرابع أن المقيم يمسح يوما وليلة والسمافر ثلاثة أيام ولياليهن فإذا مضت المدة بطل حكم الطهارة ويحتاج إلى لبس ثان على طهارة غسل إن أحب المسح ثانيا وهلم جرا سواء كان في دار الحرب أو دار الإسلام وسواء في ذلك حال شدة البرد وغيره نص عليه لما تقدم من حديث صفوان وعن شريح بن هانئ قال سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح على الخفين فقالت سل عليا فإنه أعلم بهذا الأمر مني كان يسافر مع رسول الله ﷺ فسألته فقال قال رسول الله ﷺ للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة رواه أحمد ومسلم والنسائي وابن ماجة وعن خزيمة بن ثابت عن النبي ﷺ أنه سئل عن المسح على الخفين فقال للسمافر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح والسفر المعتبر للمدة هو السفر المبيح للقصر في قدره وإباحته

فإن كان دون مسافة القصر أو كان محرما مسح كالمقيم جعلا لوجود هذا السفر كعدمه وقيل في السفر المحرم لايمسح أصلا عقوبة له لأن المسح في الأصل رخصة فلا يعان به على سفره وهو ضعيف فإن الرخص التي لاتختص السفر يجوز للعاصي بسفر فعلها كالفطر في المرض والجمع بين الصلاتين له وما أشبه ذلك

وأول المدة المعتبرة من وقت الحدث بعد أن يلبس الخف إلى مثل ذلك الوقت في أشهر الروايتين وفي الأخرى من حين المسح بعد الحدث إلي مثله لظاهر قوله يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن فلو كان أوله الحدث لكان المسح أقل من ثلاث وقد لايمسح أصلا إذا عدم الماء بعد الحدث ثلاثا وقال عمر عمر إمسح إلى مثل ساعتك التي مسحت فيها رواه الخلال

ووجه الأول أنه أمر في حديث صفوان أن لاننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن من الغائط والبول والنوم فمفهومة إنما ينزع لثلاث يضمنهن من الغائط والبول والنوم ولأن ما بعد الحدث وقت يباح فيه المسح فكان من المدة كما بعد الحدث الثاني والثالث

وهذا لأن وقت العبادة ما جاز فيه فعلها إلا ما وقع فعلها كالصلاة والأضحية ومعنى قوله يمسح المسافر ثلاثا أى لايجوز له المسح ثلاثا بدليل ما بعد الحدث الثاني فإنه من المدة وقد لايحتاج فيه إلى المسح أو بناء على أن الغالب وقوع المسح عقيب الحدث وهذا معنى قول عمر إن شاء الله تعالى

مسألة ومتى مسح ثم انقضت المدة أو خلع قبلها بطلت طهارته

لايختلف المذهب أنه إذا انقضت المدة المعتبرة أو خلع قبلها بطل حكم المسح فلا يجوز أن يصلي به سواء نزع خفيه بعد انقضاء المدة أو لم ينزعهما لأن هذه الحال لايجوز أن يبتدئ طهارة السمح فيها لأن النبي ﷺ إنما أذن في المسح ثلاثا لمن ليس علي طهارة غسل وأمر بالخلع عند انقضاء المدة فمتى انقضت المدة خلع الخف فإنه شرط المسح وكل حال لايجوز فيها ابتداء الطهارة لايجوز فيها استدامتها كالتيمم بعد رؤية الماء وهذا لأن ابتداء الطهارة خصوصا أقوى من استدامتها لأنه فعل وذاك حكم ولهذا يجوز ابتداؤها مع قيام الحدث وطهارة المتيمم والمستحاضة بعد خروج الوقت ولا يجوز استدامتها فإذا كان بعد انقضاء المدة وخلع الخف يمتنع ابتداء طهارة المسح فكذلك يمتنع استدامتها ويفارق هذا إذا أزال شعره أو ظفره أن طهارتها بحالها لأن ما تحت الشعر والظفر لم يتعلق به الحدث الأصلي قبل ظهوره بدليل أنه لايشرع طهارته وإنما تعلق به الحدث الأصلي قبل ظهوره بدليل أنه لايشرع ظهارته وإنما تعلق به الحدث التابع كغير أعضاء الوضوء فإذا زال الحدث عن محل الوضوء زال عنه تبعا فلا يعود إليه حتى يعود إليها والرجل تعلق بها الحدث الأصلي بدليل أنها تشرع طهارتها فلو غسلها في الخف أجزاء ولهذا يتعدى حكم الحدث في إحداى الرجلين إلي الأخرى ولا يتعدى موضع الشعر والظفر إلى غيره فإذا زال عنها بشرط عاد إليها بفواته وتبطل الطهارة بذلك في أصح الروايتين كما ذكر الشيخ فإذا أراد عودها احتاج إلى طهارة كاملة وفي الأخرى تبطل طهارة الرجلين خاصة فيكفيه غسلهما لأن الوقت واللبس إنما هو معتبر فيهما خاصة فإذا زال كانتا كرجلين لم تغسلا فيكفي غسلهما خاصة وهذاغ بمثابة من توضأ إلا غسل رجليه فانقلب الماء فيتيمم لهما فلو وجد الماء بعد ذلك بيسير أو بكثير وقلنا الموالاة ليست شرطا كفاه غسل رجليه وبنوا هذا على أن الطهارة تتبعض وأنه يجوز تفريقها كالغسل فأما أن نقول الحدث لم يرتفع عن الرجل خاصة فيغسل بحكم الحدث السابق أو نقول ارتفع عنها وعاد إليها خاصة ووجه الأول أن ما أبطل طهارة عضو أبطل طهارة سائر الأعضاء كسائر النواقض ثم من أصحابنا من بني هذا على أن الموالاة واجبة فإذا تأخر غسل الرجلين لم يصح كما لو كانتا طاهرتين والتزموا على هذا إنه لو كان الخلع وانقضاء المدة عقيب السمح كفى غسل رجليه وبنوا هذا على أن ظهارة المسح لاترفع حدث الرجل وإنما تبيح الصلاة بها لأنها طهارة مؤقتة فلم يرتفع الحدث كالتيمم وطهارة المستحاضة فإذا طهرت الرجل وانقضت المدة طهر حكم السابق والمنصوص أنه يجب عليه استئناف الوضوء سواء طال الفصل أو قصر بناء على شيئين أحدهما أن السمح يرفع الحدث رفعا مؤقتا لأن رفع الحدث شرط لصحة الصلاة مع القدرة عليه فلو لم يحصل لم تصح الصلاة لأنه قادر على غسل رجليه بخلاف المتيمم والمستحاضة فإنهما عاجزان عن رفع الحدث

والثاني أنه إذا ارتفع ثم عاد إلى الرجل سرى إلي بقية الأعضاء لأن الحدث لايتبعض فلا يرتفع عن عضو حتى يرتفع عن الجميع

بدليل أنه لايستفاد ببعضه فائدة أصلا وأن حكمه يتعدى محله وذلك معلق على طهارة جميع الأعضاء ويمكن أن يبنى على أنه وأن لم يرفع لكن الإباحة لا تتعلق ببعض الأعضاء دون بعض فمتى استباح الصلاة بمسح الرجل ثم زالت الإباحة عنها زالت عن جميع الأعضاء ويلزم على هذا متى تيمم لرجليه ثم وجد الماء عقيب ذلك أنه يعيد الوضوء وخلع أحد الخفين كخلعهما فيوجب عليه غسلهما أو جميع الطهارة على اختلاف الروايتين كما لو ظهر بعض القدم وكذلك إذا أخرج القدم أو بعضه إلى ساق الخف خروجا لايمكن متابعة المشي معه في إحدى الروايتين وفي الأخرى إن جاوز العقب موضع الغسل فهو كنزعة وإن كان دونه لم يؤثر لأنه يسير والأولى أقوى لأن استقرار القدم هو الشرط في جواز المسح بدليل ما لو أحدث قبل استقرارها فإنه لايمسح وما كان شرطا في ابتداء الطهارة كان شرطا في بقاء حكمها كما تقدم

مسألة ومن مسح مسافرا ثم أقام أو مقيما ثم سافر أتم مسح مقيم

أما إذا مسح بعض المدة وهو مسافر ثم أقام أتم على مسح يوم وليلة إلا أن يكون قد مسحهما قبل إقامته فيخلع وهذا بلا تردد وأما إذا مسح بعض المدة مقيما ثم سافر ففيهما روايتان إحداهما يتم مسح مسافر اختاره الخلال وصاحبه أبو بكر لأنه سافر في أثناء المدة فأشبه ما لو أحدث ولو لم يمسح حتى سافر فإنه يمسح تمام ثلاثة أيام وليالهن وإن كان ابتدأهن من حين الحدث الموجود في الحضر ولأن المسحات ئ عبادات لايرتبط بعضها ببعض ولايفسد أولها بفساد آخرها فاعتبر كل مسح بالحال الحاضرة كالصوات والصيام بخلاف الصلاة الواحدة والأخرى يتم مسح مقيم كما ذكره الشيخ وهو اختيار الخرقي والقاضي وأكثر أصحابنا لأن المسح عبادة يختلف قدرها بالحضر والسفر فإذا وجد أحد طرفيها في الحضر غلب حكمه كالصلاة وهذا لأن المسحات وإن كن عبادات لايرتبط بعضها ببعض لكن وقتها وقت واحد بعضه مرتبط ببعض ولا بد من بناء أحد طرفيه على الآخر فإذا وقع بعض المدة في الحضر وجوزنا أن يتم مسح ثلاث لكان قد وقع مسح الثلاث في الإقامة والسفر وهو خلاف الحديث وهذا أشبه بالصلاة الواحدة من الصلوات لأن تلك لايرتبط بعضها ببعض في الوقت ولا في الفعل ولو جعلت كالعبادات لكان القياس أن يعطي كل بحسابه فإذا مسح ثلثا يوم في الحضر فقد مسح ثلث مدته فيمسح في السفر ثلثي مدته وهي يومان وليلتان وهذا مع أنه لا يقال لا يصح لأن من شأن العبادات وأوقاتها المتعلقة بالسفر والحضر أن يتعلق بأحدهما لابهما ولأنه يفضي إلى جعل مدة ثالثة غير الواحد والثلاثة وهو خلاف السنة وأما إذا أحدث في الحضر ولم يمسح حتى سافر فإنما أبحنا له أن يمسح مسح مسافر وإن كان أولها في الحضر لأن العبادة لم يفعل شيء منها ولا وجبت في الحضر وإنما وجد وقت جوازها فأشبه ما لو دخل وقت الصلاة على صبي مقيم فبلغ في الوقت بعد سفره ولأن المسح جميعه إذا وقع في السفر تحقق في حقه جميع مشقة السفر بخلاف ما إذا وجد بعضه فإنما يثبت في حقه بعض المشقة والله أعلم

وإذا شك في أول مدة المسح بني على الأصل وهو وجوب غسل الرجلين فلو شك المسافر هل ابتدأ المسح في الحضر أو السفر بنى على مسح حاضر لأن مدته على اليقين كما لو شك المقيم هل ابتدأ المدة في الحضر أو السفر فلو مسح بعد يوم وليلة ثم ذكر أنه أنشأ المسح في السفر أعاد تلك الصلاة كما لو صلى إلى بعض الجهات بغير اجتهاد لم يتبين أنها جهة القبلة أو صلى قريب الزوال بغير اجتهاد لم يتبين أنه بعد الزوال هذا هو المشهور وإن قلنا إن المسافر إذا مسح في الحضر ثم سافر بني على مسح مسافر فكذلك هنا لأن مسحه على التقديرين لكنه يحسب المدة من حين احتمال المسح في الحضر أو من حين احتمال المسح علي اختلاف الروايتين وكذلك كل طاهر لبس خفيه ثم شك في الحدث فإنه يبني حكم المدة على أول أوقات الشك ويبني بتلك الطهارة التي لبس عليها وشك في زوالها على الصحة أخذا باليقين في كل واحد من الحكمين

مسألة ويجوز المسح على العمامة إذا كانت ذات ذوائب ساترة لجميع الرأس إلا ماجرت العادة بكشفه

لايختلف المذهب في جواز المسح على العمامة في الجملة وأنه يجزئ عن مسح ما وازنه الرأس لما روى عمرو بن أمية الضمري قال رأيت رسول الله ﷺ يمسح على عمامته وخفيه رواه أحمد والبخاري وابن ماجة

وعن المغيرة بن شعبة قال توضأ رسول الله ﷺ ومسح على الخفين والعمامة رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح فإن قيل المراد بذلك أنه مسح بعض رأسه وتمم المسح علي ناصيته وعمامته فنقول المجزئ مسح بعض الرأس والمسح على العمامة استحباب وكذلك حكاه الترمذي عن غير واحد من أصحاب رسول الله ﷺ لا يمسح على العمامة إلا أن يمسح برأسه مع العمامة

قلنا لا يصح أن يكون الفرض إنما سقط بمسح بعض الرأس لوجوه

أحدها ماتقدم من أن استيعاب الرأس بالمسح واجب

الثاني ما روى ثوبان قال بعث رسول الله ﷺ سرية فأصابهم البرد فلما قدموا عليه شكوا ما أصابهم فأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين رواه أحمد وأبو داود والعصائب العمائم والتساخين الخفاف فلو كان بعض الرأس هو الممسوح والفرض قد سقط لم يكن إلى الأمر بالعصائب حاجة لقوم شكوا البرد وخافوا البرد أن يلحق رؤوسهم وأرجلهم الثالث أنه أمرهم بمسح العصائب مطلقا كما أمرهم بالخفاف مطلقا ولم يأمرهم مع ذلك بمسح بعض الرأس وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز لاسيما وقد قرنه بمسح الخف الذي ليس معه غيره وكذلك سائر الصحابة الذين نقلوا أنه مسح على الخفين والعمامة فهموا من المسح على العمامة ما فهموا من المسح على الخفين أن لباس العضو ثابت عنه

الرابع أن المسح على العمامة إجماع الصحابة ذكره أبو إسحاق والترمذي عن أبي بكر وعمر وقال أبو إسحاق الشالنجي روي المسح علي العمامة عن ثمانية من الصحابة وهم أبو بكر وعمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وأبو موسى الأشعري وأنس بن مالك وعبد الرحمن ابن عوف وأبو الدرداء

وروى الخلال بإسناده عن عمر قال من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله ولو كان السمح على العمامة وجوده كعدمه في حصول الإجزاء به وأن الفرض إنما هو مسح بعض الرأس لم يكن في حكاية هذا عن الصحابة فائدة ولكان الواجب أن يقال مذهبهم جواز مسح بعض الرأس ثم لم يذكروا مسح بعض الرأس أصلا فكيف ينسب إليهم مالم يقولوه ولا ستحال قول عمر من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله

فإن المخالف يقول إنما طهره مسح بعض الرأس الخامس أن أبا بكر عبد العزيز روى بإسناده عن عمر بن رديح عن عطاء بن أبي ميمونة عن أبي بردة عن المغيرة بن شعبة قال غزونا مع رسول الله ﷺ فأمرنا أن نمسح على الخفين واعمامة ثلاثة أيام ولياليهن في السفر ويوما وليلة للمقيم

وقد قال يحيى بن معين عمر بن رديح صالح الحديث

وروى الخلال بإسناده عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن النبي ﷺ قال يمسح على الخفين والعمامة ثلاثا في السفر ويوما وليلة للمقيم

وأحاديث شهر حسان والتوقيت إنما يكون في البدل واللباص والحائل

والسادس إنما نقول بموجب دليلهم في إحدى الروايتين وأنه إنما يجزئ المسح على العمامة إذا مسح ما يظهر من الرأس عادة كمقدمة كما دل عليه حديث المغيرة بن شعبة وكما نقل عن بعض الصحابة وهذا لأن العمامة نابت عن مسح ما سترته فبقى الظاهر على الأصل ولا يقال ففي هذا جميع بين البدل والمبدل لانا نقول مسح العمامة مع الرأس مشروع إجماعا مع أنه خلاف قياس الرجل إما استحبابا أو وجوبا وذلك لأن ستر جميع الرأس غير معتاد بخلاف ستر جميع القدم

فمن أين لهم ان مسح بعض الرأس بدون العمامة هو المجزئ والرواية الأخرى وهي الصحيحة أته لايجب مسح ما يظهر لأن في حديث بلال وثوبان أمر بمسح الخمار والعصائب ولم يذكر شيء آخر وكذلك عامة من حكى عن المسح على العمامة لم يذكروا الناصية إلا المغيرة فيكون قد فعله في بعض الأوقات إذا لو كان هو المداوم عليه لما أغلفه الأكثرون ولايجب مسح الأذنين على الروايتين لأنه لم ينقل عنه مع مسح العمامة

ولأنهما من الأصل تبعا وقد انتقل الفرض عنه إلى غيره ولأنه عضو يسقط في التيمم وجاء طهوره في القرآن بلفظ المسح فشرع المسح على لباسه كالرجلين وأولى لأن السمح إلى المسح أقرب من المسح على الغسل ولأن الغالب أنه مستور بلباسه واستيعابه يشق ولأن العمامة محل لتكميل وظيفة المسح فكانت محلا للمسح المجزئ كجوانب الرأس وعكسه مسح باطن الخف

وفي مسح المرأة على مقنعتها وهي خمارها المدار تحت حلقهما روايتان

إحداهما لايجوز لأن نصوص الرخص إنما تناولت الرجل بيقين والمرأة مشكوك فيها ولأنها ملبوس على رأس المرأة فهو كالوقاية

والثانية يجوز وهي أظهر لعموم قوله إمسحوا على الخفين والخمار والنساء يدخلن في الخطاب المذكور تبعا للرجال كما دخلن في المسح على الخفين

وذكر الإمام أحمد وابن المنذر عن أم سلمة زوج النبي ﷺ أنها كانت تمسح على الخمار فلولا أنها علمت ذلك من جهة رسول الله ﷺ نصا أو دلالة لما علمته وهي أفهم لمراده ولأن الرأس يجوز للرجل المسح على لباسه فجاز للمرأة كالرجل ولأنه لباس يباح على الرأس يشق نزعه غالبا فأشبه عمامة الرجل وأولى لأن خمارها يستر أكثر من عمامة الرجل ويشق خلعه أكثر وحاحتها إليه أشد من الخفين

فأما العمامة للمرأة فلا يجوز المسح عليها لأنها منهية عن ذلك وكذلك كل ما فيه تشبه بالرجال وإن فرضت الإباحة بعض الأوقات لحاجة فهي حالة نادره فإما مسح الرجل على القلانس المبطنات الكبار كالنوميات التي تتخذ للنوم والدنيات التي كانت القضاة تلبسها مستقدما ففيه روايتان

إحداهما يجوز لأن عمر وأبا موسى وأنس بن مالك رخصوا في ذلك ولأنه ملبوس مباحم عتاد للرأس أشبه العمامة قال بعض أصحابنا وهذا إذا كانت محبوسة تحت الدقن كالعمامة والخمار

والثانية لايجوز لأن ذلك لباس لايشق نزعه فأشبه القلنسوة غير المبطنة ولأن الحديث إنما جاء عن رسول الله ﷺ في العمامة وهذه لاتشبهها من كل وجه فلم تلحق بها

فصل

ومن شرط جواز المسح على العمامة أن تكون ساترة لجميع الرأس إلاما جرت العادة بكشفه مثل مقدم الرأس والأذنين فإن هذا يعفى عنه بخلاف الخف فإنه لايعفى عن يسيره لأن العمائم إنما تلبس على هذه الصفة ثم هي على ثلاثة أقسام

أحدها أن تكون محنكة فيجوز المسح عليها سواء كان لها ذوأبة أو لم يكن من غير إختلاف نعلمه في المذهب وكلام الشيخ على هذا لا مفهوم له

والمحنكة هي التي تدار تحت الحنك منها كوراوتان وتسمى المحنكة أو المتلحاه لأن هذه كانت عمة المسلمين على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه فانصرف كلامه وكلام أصحابه إليها ولم يكونوا كلهم يرفون الذوائب ولأن هذه يشق نزعها فجاز المسح عليها كالخف

الثاني أن لا تكون محنكة ولا ذات ذؤابه فالمذهب المعروف أنه لا يمسح عليها لأنها لم تكن عمة المسلمين فيما مضى ولا تلحق بها لوجهين

أحدهما أنها لايشق نزعها كنزع المحنكة ولاتستر سترها فأشبهت الطاقية والكتلة

والثاني أنه منهي عنها قال عبد الله كان أبي يكره أن يعتم الرجل بالعمامة ولا يجعلها تحت حلقة وقال أيضا يكره أن لا تكون تحت الحنك كراهية شديدة وقال إنما يتعمم مثل ذلك اليهود والنصارى والمجوس وقال أيضا أحب الرجل إذا اعتم أن يتحنك بها ولا يعتم إلا بتحنيك فإنه مكروه

وقال الميموني رأيت أبا عبد الله وعمامته تحت ذقنه ويكره غير ذلك

وذلك لما روى أبو عبيد في آخر الغرائب عن النبي ﷺ أنه أمر بالتحلي ونهي عن الإقتعاط قال أبو عبيد أصل هذا الحديث في لبس العمائم إذا لاثها المعتم على رأسه ولم يجعلها تحت حنكة قيل اقتعطها فهو المنهى عنه وإذا أدارها تحت الحنك قيل تلحاها فهو المأمور به

وروى أبو حفص العكبري عن جعدة بن هبيرة قال رأى عمر بن الخطاب رجلا يصلي وقد أقتعط بعمامته فقال ما هذه العمامة الفاسقية ثم دنا منه فحل لوثا من عمامته فحنكة بها ومضى

وروى أبو محمد الخلال بإسناده عن طاووس في الرجل يلوي العمامة على رأسه ولا يجعلها تحت ذفنه قال تلك عمة الشيطان

وعن الحسن أنه بينما هو يطوف بالبيت إذ أبصر على رجل عمامة قد أعتم بها ليس تحت ذقنه منها شيء فقال له الحسن ماهذه الفاسقية وعن وعن الحسن أنه بينما هو يطوف بالبيت إذ أبصر على رجل عمامة قد أعتم بها ليس تحت ذقنه منها شيء فقال له الحسن ما هذه الفاسقية وعن عمران المقبري قال هذه الأزعمة التي لاتجعلون تحت الحلق منها عمة قوم لوط يقال لها الابارية

ويتخرج جواز المسح عليها كالقلنسوة المبطنة وأولى لأنها في الستر ومشقة النزع لاتنقص عنها وذلك لأنها داخلة في مسمى العمائم والعصائب التي جاء الإذن بها

وأما حكم لبسها فقد رخص فيه إسحاق بن راهوية وغيره من أهل العلم واحتجوا بما روى وهب بن جرير عن أبيه عن يعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله قال أدركت أبناء المهاجرين والأنصار فكانوا يعتمدون ولا يجعلونها تحت الحنك لكن المنصوص عن أحمد الكراهية كما تقدم وأنكر هذا الحديث وقال حديث منكر ما أدري أي شيء ذلك الحديث

وقال أيضا وقد سئل عنه ما أدري ما هو وقيل له تعرف سليمان بن أبي عبد الله فقال لا ورد أحمد له لأن إجماع السلف على خلافه قيل له سمعت أنت هذا الحديث من وهب فقال نعم وهومعروف ولكن الناس على غير الذي رووا عن يعلى بن حكيم

ولأن أولئك اللذين نقل عنهم لم يعرف منهم ولعلهم من جملة من أنكر عليه كما ذكرنا آنفا لكن المحكي عن أحمد فيها لفظ الكراهة والأقرب أنها كراهة لاترتقي إلى حد التحريم ومثل هذا لايمنع الترخيص كما قلنا في سفر النزهة أنه يبيح القصر على ظاهر المذهب يؤيد هذا أن الكراهة على ما ذكر فلا يختلف بين إرخاء ذؤابة وتركه ومع هذا فيقال مال جماعة من أصحابنا إلى المسح على ذات الذوائب

القسم الثالث أن تكون ذات ذؤابة بلا حنك فيجوز المسح عليها في أحد الوجهين وهو الذي ذكره الشيخ لأن إرخاء الذؤابة من السنة قال أحمد في رواية الأثرم وابراهيم بن الحارث ينبغي أن يرخي خلفه من عمامته كما جاء عن ابن عمر يشير بذلك إلى ما روى أبو بكر الخلال بإسناده عن نافع كان ابن عمر يعتم ويرخيها بين كتفيه

وبإسناده عن عبيد الله بن عمر قال أخبرني أشياخنا أنهم رؤوا أصحاب النبي ﷺ يعتمون ويرخونها تحت أكتافهم وبإسناده عن عاصم بن محمد عن أبيه قال رأيت عبد الله بن الزبير اعتم وأرخاها من خلفه نحو ذراع وبإسناده عن سلمة بن وردان قال رأيت على أنس بن مالك عمامة سوداء قد أرخاها من خلفه

وقد روى أبو محمد الخلال بإسناده عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ دعا علي بن أبي طالب فإذا هو رمد فتفل في عينيه ودعا له بعمامة سوداء وأرخى يطرف العمامة من بين كتفيه ثم قال سر فسار ففتح الله عليه

وعن ابن عمر قال عمم النبي ﷺ عبد الرحمن بن عوف عمامة سوداء كرابيس وأرخاها من خلفه قدر أربعة أصابع وقال هكذا فاعتم فإنه إعرف وأجمل

فإذا أرخاها ذؤابة ولم يتحنك فقد أتى ببعض السنة والنهي عن الإقتعاط كان لئلا يتشبه بأهل الكتاب وبهذا يحصل قطع التشبه لأنها ليست من عمائمهم وحملوا حديث سليمان بن أبي عبد الله على أن تلك العمائم كانت بذوائب

والثاني لايجوز لأن عموم النهي يشملها ولأنها لايشق نزعها

ويشترط للمسح على العمامة ما يشترط للمسح على الخف من لبسها على طهارة كاملة ومن اعتبار الوقت وإذا خلعها بطلت طهارته وكذلك إذا انكشف رأسه إلا أن يكون يسيرا مثل أن يرفعها بقدر ما يدخل يده كحك رأسه أو لمسحه في الوضوء ونحو ذلك فلا بأس به مالم يفحش ولو انتقضت فكذلك إلا أن ينقض بعضها ككور أو كورين ففيه روايتان

إحداهما لاتبطل الطهارة لأن العضو مستور ببعض المسموح فأشبه ما لو زال ظاهر الخف وبقيت بطانته

والثانية تبطل وهي المشهورة لأنه بانتقاض بعضها ينتقض سائرها فلم تبقا على حال تثبت بنفسها فأشبه مالو انفتق الخف فتقا لايثبت في الرجل معه وعلى الرواية التي تقول يجوز غسل رجليه في مسلمة الخف يحتاج هنا إلى مسح رأسه وغسل رجليه لأجل الترتيب

فصل

السنة أن يمسح أعلى الخف دون أسفله وعقبه والأفضل أن يضع يده مفرجة الأصابع على أصابع رجليه ثم يجرها إلى ساقه ولو بدأ بأسفل الساق قبل رؤوس الأصابع جاز

وقال ابن أبي موسى السنة أن يمسح أعلاه وأسفله لما روى المغيرة ابن شعبة أن النبي ﷺ مسح أعلى الخف وأسفله رواه الخمسة إلا النسائي

ولأنه موضع يحازي محل الفرض فأشبه أعلاه ولأنه استيعاب بالمسح فكان مشروعا كمسح الرأس والعمامة والأول هو المذهب المنصوص لقول علي رضي الله عنه لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه وقد رأيت رسول الله ﷺ يمسح على ظاهر خفيه رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وعن المغيرة بن شعبة قال رأيت رسول الله ﷺ يمسح علي الخفين على ظاهرهما رواه أحمد أبو داود والترمذي وقال حديث حسن

وذاك الحديث قال الترمذي هو معلول وضعفه أحمد والبخاري وأبو زرعة

قال أحمد الصحيح من حديث المغيرة أن النبي ﷺ مسح أعلى الخف ولأن أسفل الخف ليس بمحل الفرض فكذلك لسنته كالساق وقد بين علي رضي الله عنه أن الرأي وإن اقتضى مسحه لكونه محل الوسخ والأذى إلا أن السنة أحق أن تتبع مع أن رأيا يخالف السنة رأي فاسد لأن أسفله مظنة ملاقاة النجاسة وكثرة الوسخ فيفضي إلى تلويث اليد من غير فائدة إذا ليس المقصود إزالة الوسخ عن الخف ولهذا لايشرع غسله بل غسله كغسل الرأس ولأن استيعابه بالمسح يفضي إلى إخلاقه وإتلافه من غير فائدة كما تقدم وذلك لايشرع وبهذا يظهر الفرق بينه وبين العمامة فإنه لا أذى هناك ولا يخاف بلاها لأن مواضع المسح تتبدل بتبدل الوتاد والصفة التي ذكرناها رواها ابن ماجة عن جابر قال مر رسول الله ﷺ برجل وهو يغسل خفيه فقال بيده كأنه دفعه إنما أمرت بالمسح هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق خططا بالأصابع

ورواه أبوعبد الله بن حامد ولفظه إنما لم تؤمر بهذا فأراه وقال بيده من مقدم الخف إلي الساق وفرق بين الأصابع وهذا أقرب إلى مسح ظهر الخف بجميع تلك اليد بخلاف لو بدأ بما يلي الساق فإن بعض البلل يذهب في الساق وروى الخلال بإسناده عن المغيرة بن شعبة أنه ذكر وضوء رسول الله ﷺ قال ثم تؤضا ومسح على الخفين فوضع يده اليمنى على خفه الأيمن ويده اليسرى على خفه الأيسر ثم مسح أعلاهما مسحة واحدة حتى كأني أنظر إلي أثر أصابعه على الخفين قال القاضي وابن عقيل سنة المسح هكذا أن يمسح خفيه بيده اليمنى لليمنى واليسرى لليسرى قال الإمام أحمد كيف ما فعلت فهوجائز باليد الواحدة أو باليدين ولايسن تكرار المسح ولايتبع ما بين الأصابع بالماء ولا يجب استيعابه بالمسح لما ذكرنا

قال أحمد المسح على الخف هو مس أعلاه خططا بالأصابع وقال هو أثبت عندنا عن رسول الله ﷺ وقد روى في حديث جابر عن النبي ﷺ أنه مسح مرة واحدة وكذلك عن ابن عمر وعن ابن عباس وأنس ومسح عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى رأيت آثار أصابعه وكذلك قيس بن سعد بن عبادة ولأن الاستيعاب والتكرار يوهيه ويخلقه من غير فائدة والواجب مسح أكثره فلا يجزئ مسح ثلاث أصابع ولايسمى مسحا لما ذكرنا من حديث جابر وقوله إنما أمرت هكذا من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والأمر يقتضي الإيجاب لاسيما وقد أخرجه مخرج البيان للمسح المسقط لفرض الغسل

وفي حديث المغيرة وغيره أنه مسح بكفه وفعله هو المفسر للمسح المفروض وقد كان القياس يقتضي مسح جميعه لأنه بدل عن مغسول فكان كالجبيرة وعضوي التيمم لكن سقط أسفله وعقبه لما ذكرنا فبقي ظاهره والأكثر يقام مقام الجميع في كثير من المواضع بخلاف الأقل والمفروض مسح أكثر ظهر القدم فلو مسح بدل ذلك أسفله أو عقبه لم يجزئه لما روى الخلال عن عمر قال رأيت النبي ﷺ يأمر بالمسح على ظاهر الخفين إذا لبسهما وهما طاهرتان

ولما تقدم من حديث جابر ولأن عليا بين أن السنة قدمت ظهر الخف على أسفله مخالفة للرأي الذي يوجب تقديم أسفله فمتى مسح أسفله فقد وافق الرأي الفاسد ولأن فعله خرج امتثالا وبيانا لسنة المسح المفروضة بدلا عن الغسل وإن مسح بخرقة أو بأصبع واحدة أو غسل بدلا عن المسح فهو كما ذكرنا في مسح الرأس وأما العمامة فالسنة استيعابها قال أحمد

يمسح على العمامة كما يمسح على رأسه وهو واجب في الوجهين اختاره أبو حفص البرمكي لأنه حائل شرع مسح جميعه فوجب كالجبيرة ولأن الأصل أن البدل يحكى المبدل لاسيما المبدل من الجنس كقراءة غير الفاتحة بدلا عن الفاتحة بخلاف غير الجنس كالتسبيح عن القرآن والثاني لايجب وهو اختيار أكثرهم بل يجزىء أكثرها كالخف لما روى المغيرة بن شعبة قال كنا مع النبي ﷺ في سفر فتبرز لحاجة ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته ومسح على خفيه رواه النسائي ولأنه بدل ممسوح رخصة فلم يجب استيعابه كالخف وإن أبان البدل منه هناك غسل ويجب استيعابه وفاقا وبهذا يفارق الجبيرة لأنها جعلت كالجلد فمسحت في الطهارتين من غير توقيت وهذان الوجهان فرع على ظاهر المذهب وهو وجوب استيعاب الرأس فأما إن قلنا يجزىء الأكثر أو قدر الناصية من الرأس ومن الناصية فهاهنا أولى ويختص محل الإجزاء بأكوارها وهي دوائرها دون وسطها في أحد الوجهين لأن وسطها باطن فهو بمنزلة أسفل الخف وفي الآخر يجزئ من الجميع لأن الأسم يقع على الجميع وليس باطنها محلا للأولى بخلاف الخف

مسألة ومن شرط المسح على جميع ذلك أن يلبسه على طهارة كاملة

لا يختلف المذهب أنه يشترط في جواز المسح على العمامة والخفين أن يكون قد لبسهما على طهارة فلو كان محدثا حين لبسهما أو أحدث حين وضع قدمه في الخف قبل أن يستقر لم يجز له المسح لأن الحديث تعلق بالرجل في حال ظهورها فصار فرضها الغسل لأنه لا مشقة فيه حينئذ فلا يجوز أن ينوب عنه المسح لأنه أخف منه كمن نسى صلاة حضر فذكرها في السفر فقد استقرت في ذمته تامة فلا يجوز قصرها بخلاف ما إذا لبس طاهرا ثم أحدث فإنه تعلق بها على صفة يشق غسلها فكان الفرض فيها على أحد الأمرين إما الغسل أو المسح وكذلك لا بد أن تكون الطهارة قبل اللبس فلو لبس الخف على حدث ثم توضأ وغسل رجليه فيه لم يجز له المسح عليه حتى يخلعه ثم يلبسه ليكون حين اللبس متطهرا لما روى المغيرة بن شعبة قال كنت مع النبي ﷺ في مسير له فأفرغت عليه من الإداوة فغسل وجهه وغسل ذراعيه ثم مسح برأسه ثم أهويت لأنزع خفيه فقال دعهما فإني أذخلتهما طاهرتين فمسح عليهما متفق عليه ولأبي داود دع الخفين فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان فمسح عليهما

وعن المغيرة بن شعبة قال قلنا يا رسول الله أيمسح أحدنا على الخفين قال نعم إذا أدخلهما وهما طاهرتان رواه الحميدي في مسنده والدارقطني في سننه وعن صفوان بن عسال قال أمرنا رسول الله ﷺ أن نمسح على الخفين إذا أدخلناهما على طهر ثلاثا إذا سافرنا ويوما وليلة إذا أقمنا ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولانخلعهما إلا من جنابة رواه أحمد والدارقطني وابن خريمة قال الخطابي هو صحيح الإسناد وبهذا يدل على أن الطهارة شرط حين ادخلهما الخفين ولأنه إذا لبس الخف محدثا لبسه مع قيام فرض الغسل بالرجل فأشبه ما لو لم يغسلهما حتى أحدث ولا يقال النزع واللبس عبث بل هو تحقيق لشرط الإباحة كما أن من ابتاع طعاما بالكيل ثم باعه فإنه يكيله ثانيا ولا بد أن يبتدئ لبسهما على طهارة كامله في أشهر الروايتين وفي الأخرى يكفيه أن يدخل كل قدم وهي طاهرة فلو غسل إحدى رجليه وأدخلها الخف ثم الأخرى وأدخلها الخف لم يبح له المسح في ظاهر المذهب حتى يخلع ما لبسه قبل تمام طهره فليلبسه بعده ولذلك لو نوى الجنب رفع الحدثين وغسل رجليه ثم أدخلهما الخف قم ثم طهارته أو فعل ذلك المحدث وقلنا الترتيب ليس بشرط لم يجز له المسح على الأولى وجاز على الثانية

لأن النبي ﷺ قال أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان وذلك يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد كما يقال دخل الرجلان الدار وهما راكبان فإنه يقتضي أن كليهما راكب حين دخوله سواء كان الأول إذ ذاك راكبا أو لم يكن

ووجه الأول في حديث صفوان المتقدم إذا أدخلناهما مع طهر وذاك إنما يراد به الطهر الكامل

وعن أبي بكرة عن النبي ﷺ أنه رخص للمسافر ثلاثة ايام ولياليهن وللمقيم يوما وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما رواه الأثرم والدارقطني وابن خزيمة وقال الخطابي هو صحيح الإسناد

والتطهر إنما هو كمال التوضؤ ولأن اللبس اعتبرت له الطهارة فاعتبرت الطهارة الكاملة كمس المصحف ومسح الخف فإنه لايجوز أن يمس المصحف بعضو غسله حتى يطهر الجميع

ولا يمسح على خف رجل غسلها حتى يغسل الرجل الأخرى ويلبس خفها والحديث حجة لنا لإثبات أن كل واحدة طاهرة عند دخولها ولا يثبت لها الطهارة حتى يغسل الأخرى لأن الحدث الأصغر لايتبعض ولا يرتفع عن العضو إلا بعد كمال الوضوء ولهذا لايجوز له مس المصحف بعضو مغسول على أن ما ذكروه ليس بمطرد فإنه لو قال لامرأتيه أنتما طالقتان إن شئتما أو إن حضتما لم يقع طلاق واحدة منهما حتى يوجد الشرط منهما

فأما العمامة فقال أصحابنا هي كالخف فلو مسح على رأسه ثم لبسها ثم غسل رجليه لم يجزئه في أشهر الروايتين حتى يبتدء لبسها بعد كمال الطهارة وفي الأخرى يجزئه لأنه لبسها بعد طهارة محلها ولو لبسها محدثا ثم توضأ ومسح على رأسه ورفعها رفعا فاحشا فكذلك كما لو لبس الخف محدثا فلما غسل رجليه رفعه إلى الساق ثم أعاده وإن لم يرفعها رفعا فاحشا فيحتمل أن يكون كما لو غسل رجليه في الخف لأن الرفع اليسير لايخرجه عن حكم اللبس لأنه إنما عفى عنه هناك للمشقة ويتوجه أن يقال في العمامة لايشترط فيها إبتداء اللباس على طهارة بل يكفي فيها الطهارة المستدامة لأن العادة الجارية أن الإنسان إذا توضأ رفع العمامة ومسح برأسه ثم أعادها ولم تجر العادة بأن يبقى مكشوف الرأس إلى آخر الوضوء ولا أن يجعلها بعد وضوئه ثم يلبسها بخلاف الخف فإن عادته أن يبتدأ لبسه بعد كمال الطهارة وغسله في الخف نادر ولم ينقل عن النبي ﷺ ولا عن أصحابه في المسح على العمامة شيء من ذلك وهو موضع حاجة وتأخير البيان عن وقت الحاجة لايجوز وقد علل أصحابنا الخف بندرة غسل الرجل فيه وهذه العلة تنعكس في العمامة لا سيما إن قلنا ابتداء اللبس على كمال الطهارة واجب فأما إن قلنا يكفي لبسها على طهارة محلها وجعلنا رفعها شيئا يسيرا ثم إعادتها ابتداء لبس فهو شبيه بما ذكرنا

فصل

يكره أن يلبس الخف وهو حاقن كما يكره أن يصلى بهذه الطهارة وطرد ذلك مس المصحف والطواف بها لأن الحدث القريب إذا لم يكن كالحاصل في المنع فلا أقل من الكراهة وإذا قلنا إن سؤر البغل والحمار مشكوك فيه فطهر منه ثم لبس ثم أحدث ثم توضأ منه وتيمم وصلى صحت صلاته لأن الماء إذا كان طاهرا فقد صلى بطهارة وضوء صحيح وإن كان نجسا فقد صلى بالتيمم وفي هذه لبس على طهارة لا تجوز الصلاة بها والطهارة أربعة أنواع غسل ومسح وتيمم وطهارة المستحاضة فإذا لبسه على طهارة غسل فلا شبهة فيه وإذا لبسه على طهارة مسح فهو على ثلاثة أقسام

أحدها أن يلبس خفا على طهارة مسح الخف مثل أن يلبس خفا أو جوريا فيمسح عليه ثم يلبس فوقه خفا أو جرموقا فلا يجوز المسح عليه لأن هذه الطهارة لايمسح بها ثلاثة أيام لأن ما مضى محسوب من المدة والنبي ﷺ إنما أباح المسح على طهر مسح ثلاث ولأن الخف التحتاني بدل عن الرجل والبدل لا يكون له بدل بخلاف ما إذا لبس الفوقاني قبل أن يحدث فإنه لم يتعلق به حكم البدل فجاز أن يمسح ويجوز أيضا أن يمسح التحتاني ويدعه كما يجوز أن يغسل الرجل في الخف وإذا مسح الفوقاني ثم نزعه فهو كما لو بدت رجله في أشهر الروايتين لأن المسح تعلق بالفوقاني وحده فصار التحتاني كاللفافة بخلاف ما إذا نزعه قبل المسح أحدث أو لم يحدث فإن المسح عليه جائز ولبس الفوقاني لم يضره شيء وفي الأخرى لا يلزمه نزع التحتاني بل يتطهر عليه إما بمجرد مسحه أو تكميل الطهارة كما لا يلزمه نزع التحتاني كما لو كان هو الممسوح دون الفوقاني ولو لبس الفوقاني بعد أن أحدث وقبل أن يمسح على التحتاني فهو أحرى أن لايجوز لأنه لبسه على غير طهارة

ولا يشبه بهذا أن يخبط على الخف جلدة لأن هنا خفين منفصلين وهذا كله إذا كان الخفان صحيحين فإن كان التحتاني مخرقا والفوقاني صحيحا مسح عليه كما لو لبسه على لفافة وإن كان التحتاني صحيحا والفوقاني مخرقا فالمنصوص من الوجهين جواز المسح عليه لأن خروقه مستورة

والثاني لا يجوز كما لو كان تحته لفافة وعنه أنه كالجوارب مع النعل فإن ثبت الصحيح بالمخروق جاز المسح عليهما كما تقدم في الجورب مع النعل وإن ثبت الصحيح بنفسه مسح عليه خاصة ولو كانا مخرقين وقلنا يمسح على المخرق فوق الصحيح فهنا وجهان

أحدهما يمسح أيضا كالجوارب الثابت بنعل

والثاني لايمسح كالمحرق فوق اللفافة

القسم الثاني أن يلبس خفا أو عمامة على طهارة مسح الجبيرة فهذا يجوز له المسح لأن هذه الطهارة تقوم مقام الغسل من كل وجه حتى في الحدث الأكبر لأنه لايقدر إلا عليها والجبيرة بمنزلة جلده الثالث أن يلبس خفا على طهارة مسح العمامة أو بالعكس أو يشد جبيرة على طهارة مسح أحدهما ونقول باشتراط الطهارة في الجبيرة ففيه وجهان

أحدهما لايجوز له المسح لأنه لبس على طهارة ناقصة من غير ضرورة أشبه ما لو لبس الخف على خف ممسوح أو لبس العمامة على قلنسوة ممسوحة وجوزنا المسح عليها

والثاني الجواز بناء على أن طهارة المسح ترفع الحدث كما تقدم والنص يتناول ذلك بعمومه وإنما امتنع في الملبوس مع الممسوح لأنه بدل البدل ولبعض المدة المعتبرة شرعا كما تقدم وأما إذا لبسه على طهارة تيمم لم يكن له المسح عليه لأن التيمم لا يرفع الحدث بعد لبسه مع بقاء الحدث ولأنه إذا وجد الماء ظهر حكم الحدث السابق قبل لبسه فيكون في التقدير قد لبس وهو محدث لأنه إنما جعلناه متطهرا في ما لا يستمر حكمه كالصلاة والطواف ومس المصحف للضرورة ولا إلى المسح بعد وجود الماء لأنه يتمكن من غسل رجليه ولبس الخف حينئذ وهذا إنما يكون فيمن يتيمم لعدم الماء وأما من تيمم خوف الضرر باستعماله لجرح أو قرح فإنه إذا لبس الخف على هذه الطهارة ينبغي أن يكون كالمستحاضة وتعليل أصحالنا يقتضي ذلك وأما الطهر الذي معه حدث دائم كالمستحاضة ونحوها فإنها إذا لبست الخف على طهارتها تمسح يوما وليلة في الحضر وثلاثة أيام ولياليهن في السفر نص عليه ولا تتقيد بالوقت الذي يجوز لها أن تصلي فيه بتلك الطهارة كطهارة ذي الحدث المنقطع لأن هذه الطهارة كاملة في حقها وإنما وجب عليها أن تتوضأ لكل صلاة لأن الطهارة فرض لكل صلاة وهي قادرة على ذلك بخلاف اللبس فإنه إنما تشترط له الطهارة حين ابتدأه وقد كانت طهارته حكما والفرق بينهما وبين التيمم أنه لما وجد الماء زالت ضرورته فظهر حكم الحدث السابق ومظنة ذلك أن ينقطع دمها في ابتداء المدة الانقطاع المعتبر فإن ضرورتها قد زالت فكذلك قلنا هنا تبطل طهارتها من أصلها حتى يلزمها استئناف الوضوء لأن الحدث السابق ظهر عمله كما يلزم المتيمم إذا وجد الماء وقال القاضي في الجامع إنما تمسح على الخف ما دامت في الوقت فتنتفع بذلك لو أحدثت بغير الحدث الدائم فأما بعد خروج الوقت فلا تستبيح المسح كما لا تستبيح الصلاة

والأول أصح قال أحمد المستحاضة تمسح على خفها وقال أيضا الذي به الرعاف إذا لم ينقطع وهو يتوضأ لكل صلاة أرجو أن يجزئه أن يمسح على خفيه

مسألة ويجوز المسح على الجبيرة إذلم يتعد بشدها موضع الحاجة إلى أن يحلها

هذا ظاهر المذهب أنه يمسح على الجبيرة في الطهارتين من غير توقيت ولا إعادة عليه ولايلزمه شيء آخر وعنه أنه يلزمه التيمم مع مسحها لما روى جابر رضي الله عنه قال خرجنا في سفر فأصاب رجلا منا حجر فشجه في رأسه ثم احتلم فسأل أصحابه هل تجدون لي رخصة في التيمم فقالوا ما نجد لك رخصة وأنت تقدرعلى الماء فاغتسل فمات فلما قدمنا على رسول الله ﷺ أخبر بذلك فقال قتلوه قتلهم الله ألا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو قال يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده رواه أبو داود والدراقطني ولأنه يشبه الجريح لأنه يترك الغسل خشية الضرر ويشبه لابس الخف لأنه يتضرر بنزع الحائل فلما أشبههما جمع له حكمهما والأول هو المذهب لما صح عن ابن عمر أنه خرجت بإبهامه قرحة فالقمها مرارة فكان يتوضأ عليها

وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول من كان به جرح معصوب عليه توضأ ومسح على العصابة ويغسل ما حول العصاب وإن لم يكن عليه عصاب مسح ما حوله

وقد روى ذلك عن جماعة من التابعين ولا يعرف عن صحابي ولاتابعي خلافة وقد روى عن علي رضي الله عنه قال انكسرت إحدى زندي فأمرني النبي ﷺ أن أمسح على الجبائر رواه ابن ماجة وغيره وروى عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ وإن كان في إسناده مقال فهو معتضد بما ذكرنا ولأنه مسح على حائل فأجزأه من غير تيمم كمسح الخف والعمامة وأولى لأن هذا يتضرر بالنزع ولابس الخف لايتضرر بالنزع ولأنه إما أن يلحق بذي الجرح الظاهر أو بلابس الخف أو بهما

أما الأول فضعيف منه لأنه لا حائل هناك ينتقل الفرض إليه ويجعل الجرح في حكم الباطن

والثاني أضعف منه لأننا إذا ألحقناه بهما عظمت المشقة وأوجبنا طهارتين عن محل واحد وجعلناه أغلظ من لابس الخف مع أنه أحق بالتخفيف منه فتعين أن يلحق بلابس الخف لاسيما وطهارة المسح تشارك الغسل في رفع الحدث وأنها بالماء جائزة في الجملة في حال الاختيار

وأما حديث صاحب الشجة فمعناه والله أعلم أنه يكفيه إما التيمم وإما أن يعصب على شجه خرقة ثم يمسح عليها لأنهم أجمعوا عل أن الجرح الظاهر لايوجب فأن يتيمم وأن يعصب ثم يمسح العصابة والواو وقد تكون بمعنى أو كما في قوله مثنى وثلاث ورباع وذكر القاضي أنه على هذه الرواية يمسح على الجبيرة أيضا وهل تجب عليه الإعادة تخرج على روايتين أظهرهما لايعيد وفي عصابة الفصاد يمسح ويتيمم لأجل النجاسة فعلى هذا الفرق بين الروايتين أنه هل يجوز له شدها على غير طهارة أم لا وقد صرح بذلك في تعليل هذه الرواية وقوله إذا لم يتعد بشدها موضع الحاجة يعني أن الحاجة تدعو إلى أن يتجاوز بها موضع الكسر فرن الجبيرة توضع على طرفي الصحيح لينجبر الكسر وقد يتجاوز بها إلى جرح أو ورم أو شيء يرجى به البرء وسرعة البرء وقد يضطر إلى الجبر بعظم يكفيه أصغر منه لكن لم يجد سواه ولا ما يصغر به ومتى تجاوز لغير حاجة ولا ضرورة لزمه النزع إن لم يضره وإن خاف منه الضرر لم يلزمه النزع إلا على قول أبي بكر في جبر كسره بعظم نجس إنه يفعله ما لم يخش التلف وهل يجزئه مسح الزائد على وجهين أحدهما لا يجزئه كما ذكره الشيخ واختاره القاضي وابن عقيل وغيرهما لأنه شده لغير حاجة فيسمح بقدر الحاجة ويتيم الزائد وقيل يمسحه أيضا مع التيمم والثاني يجزئه مسحه قاله الخلال وغيره لأنه قد صار به ضرورة إلى المسح عليه فأشبه موضع الكسر وترك التحرز منه لا يمنع الرخصة كمن كسر عظمه ابتداء قال الخلال كان أبو عبد الله يتوقى لأن يبسط الشد على الجرح بما يجاوزه ثم سهل في

مسألة الميموني والمروزي لأن هذا مما لا ينضبط وهو شديد جدا ولا بأس بالمسح على العصائب كيف شدها وقوله إلى أن يحلها يعني لا يتوقت مسحها كالخف ونحو ذلك في الطهارتين لأن مسحه لضرورة بخلاف مسح الخف ويجب مسح الجبيرة واستيعابها بالمسح لأنه مسحمشروع للضرورة فوجب فيه لأن الأصل أن البدل يحكى مبدله بخلاف الخف والعمامة وإن كان بعضها في محل الفرض وبعضها خارج عنه مسح ما يحاذي محل الفرض

وهل يشترط أن يتقدمها طهارة على روايتين

إحداهما يشترط كالخف اختارها الخرقى وغيره فعلى هذا إن شدها على حدث نزعها فإن أضره نزعها تيمم لها كالجريح وقيل يمسحها ويتيمم والرواية الثانية أنه لا تعتبر لها الطهارة قبل الشد اختارها الخلال وصاحبه وغيرهما وأشار الخلال أنها الرواية المتأخرة وهي اختيار الشيخ لأنه ذكر اشتراط الطهارة في العمامة والخف ثم ذكر الجبيرة بعد ذلك ولم يشترط لها لأن حديث جابر ليس فيه ذكر الطهارة

وكذلك حديث علي وكذلك ابن عمر وتفارق الخف من وجهين

أحدهما أن الكسر والفك يقع فجأة وبغتة ويبادر إلى إصلاحه عادة ففي اشتراط الطهارة حرج عظيم وربما تعذرت الطهارة بأن يجري دم ينقض الطهارة ولا يمكن إعادتها إلا بغسل المحل وهو متعذر فيضطر إلى شدها على الحدث فإما أن يؤمر بالتيمم فقط بالمسح خير من التيمم أو بهما وهو خلاف الأصول فيتعين المسح

والثاني أن الجبيرة كالأعضاء وتجري مجرى جلدة انكشطت ثم أعيدت بدليل أنها تمسح في الطهارة الكبرى وأنه لاتوقيت في مسحها بخلاف الخف فإذا حل الجبيرة أو سقطت فهو كما لو خلع العمامة يلزمه استئناف الطهارة في أشهر الروايتين وفي الأخرى يكفيه غسل موضعها والبناء علي ما قبلها إلا أن يكون مسحها في غسل يعم البدن كالجنابة والحيض فيسقط الاستئناف بسقوط الترتيب والموالاة والمسح على حائل الجرح أو الدمل أو غيرهما كالمسح على حائل الكسر سواء كان عصابة أو دواء أو مرارة أو لصوقا سواء تضرر بنزع الحائل دون الغسطل إو بالغسل دون نزع الحائل أو بهما وكذلك لو كان في رجله شق جعل فيه قبر أو شمعا مغلا ونحو ذلك وتضرر بنزعه في أظهر الروايتين وفي الأخرى لا يجزئه المسح لأن ذلك من الكي المنهي عنه حيث استعمل بعد إغلائه بالنار والرخص لاتثبت مع النهي والأول أقوى وفي كراهية الاكتواء روايتان إحداهماأنه لايكره وإنما تركه درجة رفيعة وتحمل أحاديث النهي على ما فيه خطر ولم يغلب على الظن نفعه لأن النبي ﷺ كوى أسعد بن زرارة وسعد بن معاذ وأبي بن كعب والثانية يكره لأحاديث النهي فيه والترخيص بالسبب المباح جائز وإن كان مكروها على الصحيح كالقصر في سفر النزهة

مسألة والرجل والمرأة في ذلك سواء

يعني في مسح الخفين لأن بها حاجة إلى لبسهما وذلك مباح لها فاشبهت الرجل وكذلك تمسح الجبيرة وأما مسحها على الخمار ففيه روايتان تقدم توجيههما ومسحها علي العمامة لا يجوز لما تقدم

باب نواقض الوضوء

وهي سبعة الخارج من السبيلين مع كل حال يعني سواء كان نادرا أو معتادا قليلا أو كثيرا نجسا أو طاهرا أما المعتاد فلقوله تعالى { أو جاء أحد منكم من الغائط } ولقوله عليه الصلاة والسلام في حديث صفوان ولكن من غائط وبول ونوم وقوله في الذي يخيل إليه الشيء في الصلاة لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا أو كحديث علي في المذي

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ فقال رجل من أهل حضرموت ما الحدث يا أبا هريرة فقال فساء أو ضراط متفق عليه

أما النادر فكالدود والحصى ودم الاستحاضة وسلس البول والمذي فينقض أيضا لما روى عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال في المذي الوضوء وفي المني الغسل رواه أحمد وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح ولم يفرق بين دائمه ومنقطعه وعن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى الرسول ﷺ فقالت يا رسول الله إني أمرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة قال لا إنما ذاك دم عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وتوضئي لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح

وهذه الزيادة قد رويت من قول عروة ولعله أفتى بها مرة وحدث بها أخرى ولعلها كانت عنده عن فاطمة نفسها لا عن عائشة فقد روى عن عروة عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي ﷺ إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو دم عرق رواه أبو داود والنسائي

وعن عائشة رضي الله عنها قالت جاءت فاطمة بنت أبي حبيش إلى النبي ﷺ فقالت إني أمرأة استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لا اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ثم صلى وإن قطر الدم على الحصير رواه أحمد وابن ماجة

وعن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتتوضأ عند كل صلاة وتصوم وتصلي رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن ولأنه خارج من السبيل فنقض كالمعتاد وأما الطاهر فينقض أيضا في ظاهر المذهب كالمني والريح الخارجة من الدبر أو من قبل المرأة وقبل الرجل في المنصوص المشهور من الوجهين قال أبو بكر لا يحتلف قول أبي عبد الله أن الرجل والمرأة إذا خرجت الريح من قبلهما أنهما يتوضأن وقال القاضي أبو الحسين قياس مذهبنا أن الريح تنقض من قبل المرأة دون الرجل لأن الصائم إذا قطر في إحليله لم يفطر لأنه ليس من الذكر إلى الجوف منفذ بخلاف قبل المرأة

وريح الدبر إنما نقضت لأنها تستصحب بخروجها أجزاء لطيفة من النجاسة بدليل نتنها فإن الرائحة صفة لاتقوم إلا بأجزاء من الجسم وكذلك ريح قبل المرأة بدليل نتنها وربما عللوا ذلك بأن هذا لايدرك فتعليق النقض به محال فإن النبي ﷺ قال في الذي يخيل إليه الشيء وهو في الصلاة لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا وهذه الريح لا تسمع ولا تشم وإنما تعلم بأن يحس الإنسان في ذكره بدبيب يعتقد قطرة بول فإذا انتهى إلى طرف الذكر فلم يجد له أثرا علم أنها الريح ويلتزم من قال هذا بنجاسة المني وإن الريح تنجس الماء اليسير حيث لم ينقض الطهارة بشئ طاهر ويعتذر عن المني بأنه يوجب الطهارة الكبرى فلا يدخل في نواقض الوضوء إلا أن هذا لا يصح فإن مني الرجل إذا خرج من فرج المرأة بعد اغتسالها أو خرجت من الرجل بقية المني وجب الوضوء دون الغسل

والصحيح الأول لأنه خارج من السبيل فنقض كريح الدبر فإنها طاهرة واكتسابها ريح النجاسة لا يضر فإن الريح قد تكتسب من انفصال أجزاء كالحشا المتغيرة والماء بجيفة على جانبه ولو فرضنا انفصال أجزاء من النجاسة فإنما خالطت أجزاء هوائية وذلك لا يوجب التنجس كنا تقدم وقولهم الريح الخبيثة إنما خرجت مستصحبة لأجزاء من النجاسة قلنا بل نادت الرائحة إلى الهواء الخارج من غير أجزاء كما تنادي الحرارة إلى الماء من غير أجزاء من النار والفقه في ذلك أن السبيل هو مظنة خروج النجاسة غالبا فعلق الحكم بهذه المظنة وإن علقناه بنفس خروج النجاسة أيضا وإذا قطر في إحليله دهنا ثم سال أو احتشى في قبله أو بدر قطنا ثم خرج منه شيء لا بلة معه أو كان في وسط القطن ميل فسقط بلا بلة نقض في أشهر الوجوه لأنه خارج من السبيل

والثاني لا ينقض لأنه خارج طاهر وجريان الطاهرفي مجرى النجس الباطن لاينجسه مجريان النجاسة في مجرى القيء ومني المرأة في مجرى دمها

والثالث ينقض الدهن لأنه لا يخلو من بلة نجسة تصحبه بخلاف القطن والميل فأما إن تحقق خروج شيء من بلة الباطن نقض قولا واحدا وكذلك إن احتقن فخرج شيء من الحقنة أو وطئ الرجل المرأة فدب ماؤه فدخل في فرجها ثم خرج لأن هذا دخل الجوف فحكم بتنجيسه

وكذلك لو أدخل الميل ثم أخرجه ولو لم يخرج شيء من الحقنة وماء الرجل لم ينقض كما لو لم يخرج الميل وقيل ينقض لأنه في الغالب لا بد أن يتراجع منه أجزاء يسيره فينقض بوجود المظنة كالنوم ولو استرخت مقعدته فظهرت وعليها بلة لم تنفصل عنها ثم عادت نقض في أشبه الوجهين بكلامه لأنها نجاسة ظهرت إلى ظاهر البدن فأشبهن المتصلة

والثاني لا تنقض لأنها لم تفارق محلها من الباطن فأشبهت ما لم تظهر وكذلك لا يحب الاستنجاء منها وكما لو أخرج الصائم لسانه ثم أدخله وعليه ريقه فابتلعه لم يفطر لأنه لم ينفصل

مسألة والخارج النجس من غيرهما إذا فحش

أما النجاسة إذا خرجت من غير السبيلين فهي قسمان أحدهما البول والعذرة فتنقض سواء كان قليلا أو كثيرا وسواء خرج من تحت المعدة أو من فوق المعدة وسواء استد المخرج أو لم يستد من غير اختلاف في المذهب لعموم حديث صفوان ولكن من غائط وبول ولأن السبيل إنما يغلط حكمه لكونه مخرجهما المعتاد فإذا تغلظ حكمه بسببهما فلأن يتغلظ حكم أنفسهما أولى وأحرى ولا ينتقض الوضوء بخروج الريح من ذلك المخرج وقد خرج وجه إنما ينقض فيما إذا استد المخرج المعتاد وانفتح غيره بناء على جواز الاستجمار فيه ويجيء على قول من يقول من أصحابنا أن الريح تستصحب جزءا من النجاسة بأن تنتقض مطلقا

القسم الثاني سائر النجاسات من الدم والقيح والصديد والقيء والدود فينقض فاحشها بغير اختلاف بالمذهب لما روى معدان بن أبي طلحة عن أبي الدرداء أن النبي ﷺ قاء فتوضأ فلقيت ثوبان في مسجد دمشق فذكرت ذلك له فقال صدق أنا صببت وضؤه رواه أحمد والترمذي وقال هو أصح شيء في هذا الباب وقال الأثرم قلت لأبي عبد الله قد اضطربوا في هذا الحديث فقال حسين المعلم يجوده

وقيل له حديث ثوبان ثبت عندك قال نعم وروى إسماعيل بن عياش قال حدثني ابن خريج عن أبيه وعبد الله بن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال إذا قاء أحدكم في صلاته أو قلس فليتصرف فليتوضأ ثم يبين على مامضى من صلاته ما لم يتكلم رواه الخلال والدارقطني وروى ابن ماجة حديث ابن أبي مليكة ولفظه من أصابه قيء أو رعاف أو قلس أو مذي فلينصرف فليتوضأ ثم يبن على صلاته وهو في ذلك لايتكلم وقد تكلم في أسناد هذا الحديث لأن المشهور عن ابن جريج عن أبيه وعن أبي مليكة عن النبي ﷺ مرسلا إلا أنه وإن كان مرسلا فهو مرسل من وجهين وأيده عمل الصحابة وروى مسندا ما يوافقه وهذا يصيره حجه عند من لايقول بالمرسل المجرد لا سيما وقد قال أحمد كان عمر يتوضأ من الرعاف وقال ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ مثل ذلك وأيضا فإن ذلك منقول عن جماعة من الصحابة في قضايا متفرقة ولم ينقل عنهم خلافه حكى الإمام أحمد في الوضوء من الرعاف عن على وابن مسعود وابن عمر وحكاه ابن عبد البر عن عمر وابن عمر

وروى الشافعي عن ابن عمر أنه كان يقول من وجد رعافا أو مذيا أو قيئا انصرف فتوضأ ثم رجع فبنى ولأنه خارج نجس من البدن فجاز أن ينقض الوضوء كالخارج من السبيل ولا الحجامة سبب يشرع منه الغسل فوجب الوضوء منه كدم الاستحاضة ودليل الوصف في الفرع مذكور في موضعه وأما اليسير من هذه النجاسات فالمشهور في نصه ومذهبه أنه لا ينقض حتى أن من أصحابنا من يجعلها رواية واحدة وحكى ابن أبي موسى وغيره رواية أخرى أن يسيرها ككثيرة وحكاها الخلال في القلس كذلك وحكى أبو بكر الروايتين في القيء والدود بخلاف الدم لأن الدم إنما حرم المسفوح منه بنص القرآن وقد عفي عن اليسير منه وذلك لما ذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه كان ينصرف من قليل الدم وكثيره ولأنها نجاسة فنقضت كالبول والغائط ووجه الأول أن عبد الله بن أبي أوفى بزق دما فمضى في صلاته وعصر ابن عمر بثرة فجرى دم فلم يتوضأ ذكره أحمد والبخاري

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه أدخل أصبعه في أنفه فخرج عليها دم فلم يتوضأ

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سئل عن رجل صلى فامتخط فخرج مع مخاطه شيء من دم قال لا بأس يتم صلاته ذكره أحمد

وقال قال ابن عباس في الدم إذا كان فاحشا أعاد وقال الدم إذا كان قليلا لا أرى فيه الوضوء لأن أصحاب رسول الله ﷺ لا خصول فيه ولأنه لا يجب إزالة عين هذه النجاسة فأن لا يجب تطهير الزعضاء بسببها أولى وذلك لأنه ليس لها محل معتاد ولا يستعد لها والابتلاء بها كثير فعفي عن يسيرها في طهارتي الحدث والخبث بخلاف نجاسة السبيل وقد تقدم حد الكثير في مسائل العفو فأما الخارج الطاهر من البدن كالجشاء والنخامة ونحو ذلك فلا وضؤ فيه

مسألة وزوال العقل إلا النوم اليسير جالسا أو قائما

لايختلف المذهب أن النوم في الجملة ينقض الوضوء وليس هو في نفسه حدثا وإنما هو مظنة الحدث وإنما قلنا ينقض الوضوء لقوله ﷺ في حديث صفوان ولكن من غائط وبول ونوم فأمر أن لا ينزع الخف من النوم ولولا إنه ينقض الوضوء ويوجب الطهارة لما كان حاجة إلى الأمر بأن لا ينزع الخف منه

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ العين وكاء السه فمن نام فليتوضأ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن معاوية رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ العين وكاء السه فإذا نامت العينان استطلق الوكاء رواه أحمد والدارقطني وسئل أحمد عن حديث على ومعاوية في ذلك فقال حديث علي أثبت وأقوى ولأن النوم مظنة خروج الخارج لاستطلاق الوكاء فقامت مقام حقيقة الحدث لاسيما والحقيقة هنا خفية غير معلومة وإذا وجدت لمناط الحكم بها ولو كان حدثا لاستوى فيه النبي ﷺ وغيره

وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ اضطجع حتى نفخ ثم صلى ولم يتوضأ قال ابن عباس لسعيد بن جبير لما سأله عن ذلك إنها ليست لك ولا لأصحابك إنها كانت لرسول الله ﷺ كان يحفظ رواه أحمد وذكر مسلم في الصحيح عن سفيان الثوري قال هذا للنبي ﷺ لأنه بلغنا أن النبي ﷺ تنام عيناه ولا ينام قلبه فلما لم ينقض وضوءه ﷺ بنومه لأن قلبه يقظان وهو محفوظ في منامه لم يبق النوم في حقه مظنة الحدث بخلاف غيره ولو كان حدثا لم يفرق بينه وبين غيره كسائر الأحداث والنوم قسمان كثير وقليل أما الكثير فينقض مطلقا لعموم الأحاديث فيه

قال ابن عباس رضي الله عنه الوضوء على كل نائم إلا من خفق برأسه خفقة أو خفقتين وقد روي مرفوعا

ولأن النوم الكثير قد يفضي إلى الحدث من غير شعور لطول زمانه وعدم الإحساس معه بخلاف اليسير ولأن زوال العقل قد استغرق فنقض علي كل حال كالإغماء والسكر والجنون فإن سائر الأشياء التي تزيل العقل من الإغماء والجنون والسكر لايفرق فيها بين هيئة وهيئة وكذلك النوم المستغرق وأما النوم اليسير فينقض وضوء المضطجع رواية واحدة ولا ينقض وضوء القاعد رواية واحدة وفي القائم والراكع والساجد سواء كان في صلاة أو في غير صلاة أربع روايات إحداها ينقض مطلقا لأن العموم يقتضي النقض بكل نوم خصصه الجالس لما روى أنس رضي الله عنه قال كان أصحاب النبي ﷺ ينامون ثم يصلون ولا يتوضؤون رواه مسلم ورواه أبو داود ولفظه كان أصحاب النبي ﷺ ينتظرون العشاء الآخرة حتى تخفق رؤوسهم ثم يصلون ولا يتوضؤون

وفي لفظ أحمد ينعسون

وروى ثابت عن أنس قال أقيمت الصلاة ورجل يناجي النبي ﷺ فلم يزل يناجيه حتى نام أصحابه فصلى بهم متفق عليه

ورواه أبو داود وقال ولم يذكر وضوءا ولأن نوم الجالس يكثر وجوده من منتظر الصلاة وغيرهم فتعم به البلوى فيعفى عنه كما عفي عن يسير النجاسة من غير السبيلين والرواية الثانية ينقض إلا القائم مع الجالس كما ذكره الشيخ وهو اختيار الخرقي لأن النوم إنما نقض لإفضائه إلى الحدث ومحل الحدث مع القائم منضم منحفظ كالقاعد فيبعد خروج الحدث مع عدم العلم به في النوم اليسير لاسيما والقائم لايستثقل في نومه استقبال الجالس بخلاف الراكع والساجد فإن المحل منهما منفرح مستطلق

والرواية الثالثة ينقض إلا القائم والراكع فإن المخرج منه أكثر انفراجا واستطلاقا فأشبه المضطجع

والرواية الرابعة لاينقض في حال من هذه الأحوال حتى يكثر كما تقدم وهذه اختيار القاضي وأصحابه وكثير من أصحابنا لأن النوم إنما نقض لأنه مفض إلى الحدث وهذا إنما يكون غالبا فيمن استرخت مفاصله وتحلل بدنه فأما غيره فالحدث معه قليل والأصل الطهارة فلا تزول بالشك إذ الكلام في النوم اليسير والقاعد وإن كان محل حدثه منضما فإن النوم الثقيل إليه أقرب والراكع والساجد مع انفتاح مخرجهم فرن نومهم يكون أخف فتقابلا من هذا الوجه واستويا في انتفاء الاسترخاء والتحلل المفضي غالبا إلى الخارج ويدل على ذلك ما ورث عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال إذا نعس أحدكم وهو يصلي فليرقد حتى يذهب عنه النوم فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لايدري لعله يستغفر فيسب نفسه رواه الجماعة وعن أنس عن النبي ﷺ قال إذا نس أحدكم في الصلاة فلينم حتى يعلم ما يقرأ رواه أحمد والبخارى فلولا أن النوم الذي قد لا يعلم معه ما يقرأ والذي قد يسب فيه نفسه تبقى معه طهارته على أى حال كان لما علل النهي بخشية السب والتباس القراءة إذا كان الوضوء قد بطل وكذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما لما صلى مع النبي ﷺ ليلة بات عند خالته ميمونة قال فجعلت إذا أغفيت يأخذ بشحمة أذني ورواه أحمد في الزهد عن الحسن البصري أن النبي ﷺ قال إذا نام أحدكم وهو ساجد يباهي الله به الملائكة يقول انظروا إلى عبدي روحه عندي وهو ساجد لي فأثبته ساجدا مع نومه وهو وإن كان مرسلا فقد اعتضد بما روى الدارقطني في الأفراد عن علي رضي الله عنه قال دخل رسول الله ﷺ منزل أبي بكر وهو راكع قد نام في ركوعه فقال لايضيع الله ركوعك يا أبا بكر نومك في ركوعك صلاة

وروى يزيد الدالاني عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإنه اضطجع استرخت مفاصله رواه أحمد وقد تكلم فيه فقيل هو موقوف على ابن عباس وقيل لم يسمعه قتادة من أبي العالية وهذا لمن يثبته يجعله مرسلا أو موقوفا يؤيده مرسل الحسن فيصير حجة حتى عند من لايقول بالمرسل المجرد والمرجع في حد القليل والكثير إلى العرف لأنه ليس له حد في الشرع فمتى سقط الساجد عن هيئته بتجافيه أو القائم عن قيامه فانتبه ونحو ذلك انتقض طهره وكذلك إن رأى رؤيا في المنصوص من الوجهين وإن شك هل هو قليل أو كثير لم ينتقض والمستند والمحتبي كالمضطجع وعنه كالقاعد لأنه يفضي بمحل الأرض والنوم الناقض من المضطجع وغيره هو أن يغلب على عقله فإن كان يسمع حديث غيره ويفهمه فليس بنائم وإن شك هل نام أولا وهل ما في نفسه رؤيا أو حديث نفس لم ينتقض الطهارة بالشك

مسألة ولمس الذكر بيده

مس الذكر ينقض الوضوء في ظاهر المذهب وروى عنه أنه لا ينقض لما روى قيس بن طلق عن أبيه قال قال رجل يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعد ما يتوضأ فقال هل هو إلا بضعة منه رواه الخمسة وقال الترمذي هذا أحسن شيء في هذا الباب

وعن أبي أمامة قال سئل رسول الله ﷺ عن مس الذكر فقال إنما هو جزء منك رواه ابن ماجة

ولأنه عضو منه فلم ينقض كسائر الأعضاء وهذا لأن النقض إما بخارج أو بمظنة خارج وكلاهما مفقود وعلى هذه الرواية الوضوء منه مستحب ونص عليه حملا لأحاديث الأمر به على ذلك توفيقا بين الأحاديث في ذلك والآثار والصحيح الأول لما روت بسرة بنت صفوان أن النبي ﷺ قال من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ رواه الخمسة

وفي لفظ النسائي إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه فليتوضأ وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وقال أحمد حديث بسرة صحيح

عن أم حبيبه قالت سمعت روسل الله ﷺ يقول من مسلل فرجه فليتوضأ رواه ابن ماجة والأثرم

قال الإمام أحمد حديث أم حبيبة صحيح وقال أبو زرعة حديث أم حبيبة في هذا الباب صحيح وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال إذا أفضى أحدكم بيده إلى بيده رلى ذكره ليس دونه ستر فقد وجب عليه الوضوء رواه الشافعي وأحمد وقال أبو علي ابن السكن هذا من أجود ما روى في هذا الباب

وقد روى النقض به عن بضعة عشر من الصحابة عن النبي ﷺ وجاء النقض بمسه عن عمر وسعد بن أبي وقاص وأبي هريرة وزيد بن خالد والبراء بن عازب وابن عمر وابن عباس وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك رضي الله عنهم وهو شيء لايدرك بالرأي والقياس فعلم أنهم قالوا عن توقيف من النبي ﷺ ولا يعارض هذا أن يكون هو المتمسك باستصحاب الحال والبراءة الأصلية وأما حديث قيس وأبي أمامة فعنه أجوبة أحدها تضعيفه فقد ضعفه أحمد ويحيى وقال أبو زرعة وأبو حاتم قيس لاتقوم به حجة وجعفر بن الزبير كذبه شعبة وقال البخاري والنسائى هو متروك

وثانيها أنه منسوخ لأن طلق بن علي الحنفي كان قدومه وهم يؤسسون المسجد رواه الدراقطني وتأسيس المسجد كان في السنة الأولى من الهجرة وأخبار الإيجاب من رواتها أبو هريرة وإنما أسلم ورأى النبي ﷺ بعد خيبر في السنة السابعة من الهجرة وبسرة بنت صفوان أسلمت عام الفتح في السنة الثامنة

وثالثها أن أحاديثنا ناقلة عن الأصل وحديثهم مبقي على الأصل فإن كان الأمر به هو المنسوخ لزم التعبير مرتين وإن كان ترك الوضوء هو المنسوخ لم يلزم التعبير إلا مرة واحدة فيكون أولى وهذه قاعدة مستقرة أن الناقل أولى من المبقي لما ذكرنا

ورابعها أنه يمكن أن يكون المراد بحديث ترك الوضوء ما إذا لمسه من وراء حائل لأن في رواية النسائي عن طلق قال خرجنا وفدا حتى قدمنا على النبي ﷺ فتابعناه وصلينا معه فلما قضى الصلاة جاء رجل كأنه بدوي فقال يا رسول الله ما تقول في رجل مس ذكره في الصلاة قال وهل هو إلا مضغة منك أو قال بضعة منك والمصلي في الغالب إنما يمسه من فوق ثيابه يويد ذلك أنه علل ذلك بأنه بضعة منك وهذا التعليل مساواته كسائر البضعات والمضغ وهذه التسوية متحققة فيما فوق الثوب فأما دون الثوب فيتميز الغسل وجوب والمهر والحد وفساد العبادات بايلاجه وتنجس الخارجات منه وغير ذلك فكيف يقاس بغيره

وخامسها أنا قدرنا التعارض أحاديثنا أكثر رواة وأصح إسنادا وأقرب إلى الاحتياط وذلك يوجب ترجيحها

مسألة ومس ذكر غيره كمس ذكره وأولى لقول النبي ﷺ يتوضأ من مس الذكر رواه أحمد والسنائى وذكر الصغير كذكر الكبير لعموم الحديث وذكر الميت كالحي في المنصوص من الوجهين وفي الآخر لا ينقض كمس الميتة والفرق بينهما أن الشهوة هناك معتبرة بخلاف مس الذكر من الميت وسواء مسه عمدا أو سهوا لشهوة أو غيرها في المشهور عنه وعنه إنما ينقض إذا تعمد مسه سواء ذكر الطهارة أو نسيها بخلاف ما وقعت يده عليه بغير قصد لقول علي عليه السلام إذا لم تتعمده فلا شيء عليك ذكره الإمام أحمد ولأن تعمد مسه مظنة حدوث الشهوة وعنه إن تعمد مسه لشهوة نقض وإلا فلا كمس النساء لأنه حينئذ يكون مظنة خروج الخارج والأول هو المذهب لعموم الحديث من غير تفريق بين الحشفة وسائر القضيب لأن اسم الذكر يشمل ذلك هذا هو المشهور عنه وعنه لاينقض إلا مس الحشفة لأنه هو مخرج الحدث وبه تتعلق الطهارة الكبرى وسواء مسه ببطن يده أو ظهرها من الأصابع إلى الكوع في المشهور عنه وعنه إن النقض يختص ببطن الكف لأن اللمس المعهود به وعنه ينقض مسه بالذراع جمعيه لأن اليد في الوضوء هي اليد في المرفق والصحيح الأول لقوله إذا أفضى أحدكم بيده إلى فرجه واليد المطلقة في الشرع تنتهي إلى الكوع كما في آية السرقة والمحاربة والتيمم وقوله إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده يعم ظهرها وبطنها كما عمها قوله يغمس يده وآية التيمم فأما مس الذكر بغير اليد فلا ينقض إلا إذا مسه بفرجه في المشهور من المذهب لأنه ادعى إدعى إلى الخروج من مس الذكر وأفحش وفيه وجه أنه لاينقض لأن الحكم في الأصل بعيد

وينتقض الوضوء بمس فرج المرأة في إحدى الروايتين منها ومن أمرأة أخرى وفي الأخرى لاينقض لأن الأحاديث المشهورة من مس ذكره ومفهومها انتفاء ذلك عن غير الذكر

والأول أقوى لأن قوله مس فرجه يعم النوعين وذكر بعض الذكر وحده لايخالف لأن الخاص الموافق للعام لايخصصه بل يؤكده دلالة القدر الموافق منه ويبقى الباقي مدلولا عليه بالعموم فقط ومن قال من أصحابنا تخصيصه لحظ في ذلك أن يكون المفهوم مرادا والمفهوم هنا غير مراد لأن تخصيص الذكر بالذكر لأن الخطاب كان للرجال ولهذا قلنا من مس ذكره وذكر غيره فإن قوله ذكره إنما خصه لأن الغالب أن الإنسان إنما يمس ذكر نفسه وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال أيما رجل مس فرجه فليتوضأ وأيما أمرأة مست فرجها فلتتوضأ رواه أحمد وفي مس حلفة الدبر روايتان إحداهما ينقض اختارها جماعة من أصحابنا لعموم قوله من مس فرجه ولأنه مخرج الحدث فينقض كالذكر والأخرى لاينقض واختارها بعضهم قال الخلال والعمل والأشيع في قوله وحجته أنه لايتوضأ من مس الدبر لأن الحديث المشهور من مس ذكره فيكون هو المراد بالفرج في اللفظ الآخر كما في وقوله تعالى { والذين هم لفروجهم حافظون } وقوله سبحانه وتعالى { ويحفظوا فروجهم }

ولا يمكن إلحاقه به لأن مسه ليس هو مظنة لخروج خارج أصلا بخلاف القبل ولا ينقض مس الفرج المقطوع المنفصل في أحد الوجهين وينقض في الآخر لأنه مس ذكره والأول أقيس لأنه بالانفصال لم يبق له جرم ولا مظنة لخروج خارج ولا يتعلق به شيء من أحكام الذكر فأشبه ما لو مس يدا مقطوعة من أمرأة ولا ينقض وضوء الملموس فرجه رواية أحمد وقيل فيه رواية أخرى وليس بشيء

ولا ينتقض الوضوء بمس ما عدا الذكر من الأرفاع والانثيين وما بين الفرجين وغير ذلك ولا يمس فرج البهيمة سواء كان مأكولة أو محرمة كثيل الجمل وقنب الحمار وغير ذلك لأنه ليس بمنصوص ولا في معنى المنصوص

وأما الخنثى فتنبني على أربعة فصول مس النساء ومس الذكر ومس المرأة فرجها وانتقاض وضؤ الملموس وقد تقدم ذكر فمتى وجد في حقه ما يحمل النقض وعدمه لم ينتقضه اسما كيقين الطهارة ومتى وجد في حقه ما ينقض نفيناه بقضائه ووجه التقسيم أن اللمس إما أن يكون للفرجين أو لأحدهما أو للامس إما أن يكون هو الخنثى أو غيره أو هو وغيره وذلك الغير إما أن يكون رجلا أو أمرأة أو خنثى والتفريع على انتقاض الوضوء في الأصول الأربعة لأن مع القول بعدم الإنتقاض لايبقى تفريع فمتى مس فرجيه هو أو غيره انتقض وضوء اللامس لأنه مس فرجا أصليا ولم ينتقض وضوء الملموس لجواز أن يكون من حنس واحد والملموس إنما ينتقض وضوؤه إذا مس الرجل المرأة والمرأة الرجل ولو مس أحد الفرجين لم ينقض بجواز أن يكون زائدا إلا أن يمس الرجل ذكره لشهوة والمرأة قبلها لشهوة لأن في هاتين الصورتين إن كان الملموس أصليا نقض وإن كان زائدا فقد وجد لمس لشهوة من غير الجنس ولاينتقض وضؤ الملموس لعدم اليقين فإن مس الرجل ذكره لشهوة والمرأة فرجها لشهوة انتقض وضوؤه هنا لتيقن أنه ملموس لشهوة من غير جنسه ولو كان مس أحدهما انتقض لشهوة وضوؤه فقط دون الخنثى والامس الأول فإن مسهما لغير شهوة لم ينتقض وضؤ الخنثى وينتقض وضؤ أحدهما لابعينه وكل واحد منهما يبنى على يقين طهارته في المشهور وعنه يجب عليهما الوضوء ولو مس الرجل فرجه والمرأة ذكره فكذلك ولاينتقض وضوء الخنثى إلا أن يكون مسهما لشهوة وجميع ذلك في اللمس مباشرة فأما اللمس من وراء الحائل فلا ينقض لما تقدم

مسألة ولمس المرأة بشهوة

ظاهر المذهب أن الرجل متى وقع شيء من بشرته على على بشرة انثى بشهوة انتقض وضوؤه وإن كان لغير شهوة مثل أن يقبلها رحمة لها أو يعالجها وهي مريضة أو تقع بشرته عليها سهوا وما أشبه ذلك لم ينقض وعنه ينقض اللمس مطلقا لعموم قوله { أو لامستم النساء } وقراءة حمزة والكسائي أو لمستم النساء وحقيقة الملامسة التقاء البشرتين لاسيما اللمس فإنه باليد أغلب كما قال

لمست بكفي كفه أطلب الغنى

ولهذا قال عمر وابن مسعود رضي الله عنهما القبله من اللمس وفيها الوضوء وقال عبد الله بن عمر قبلة الرجل أمرأته وجسها بيده من الملامسة ولأنه مس ينقض فلم تعتبر فيه الشهوة كمس الذكر ولأن مس النساء في الجملة مظنة خروج الخارج وأسباب الطهارة مما نيط الحكم فيها بالمظان بدليل الإيلاج والنوم ومس الذكر وعنه أن مس النساء لا ينقض بحال

لما روى حبيب بن أبي ثابت عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولايتوضأ رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة ورواه ابراهيم التيمي عن عائشة أخرجه أبو داود والنسائي وقد احتج به أحمد في رواية حنبل وقد تكلم هو وغيره في الطريق الأولى بأن عروة المذكور هو عروة المزني كذلك قال سفيان الثوري ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني وعروة هذا لم يدرك عائشة وإن كان عروة بن الزبير فإن حبيبا لم يدركه قال إسحاق ابن راهويه لاتظنوا أن حبيبا لقى عروة وفي الثاني بأن ابراهيم التيمي لا يصح سماعه من عائشة وجواب هذا أن عامة ما في الإسناد نوع إرسال وإذا أرسل الحديث من وجهين مختلفين اعتضد أحدهما بالآخر لاسيما وقد رواه البزاز بإسناد جيد عن عطاء عن عائشة رضي الله عنهما مثله

ورواه الامام أحمد عن عمرو بن شعيب عن زينب السهمية عن عائشة ولأنه مس فلم ينتقض كمس البهيمة والملامسة في الآية المراد بها الجماع كذلك قد فسرها علي وابن عباس قال سعيد بن جبير اختلف الموالي والعرب في الملامسه في الآية فقال عبيد بن عمير والعرب هي الجماع وقال عطاء والموالي هي مادون الجماع فدخلت على ابن عباس فذكرت ذلك فقال أيهما كنت قلت في الموالي قال غلبت الموالى إن الله حي كريم يكني عما يشاء وإنه كنى بالملامسة عن الجماع وفي لفظ عنه قال اللمس والمباشرة والإفضاء والرفث في كتاب الله الجماع

ولأن اللمس كالمس وقد اريد به الجماع في وقله { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } والملامسة لا تكون إلا من اثنين فيجب حملها على الجماع والصحيح الأول لأن الله تعالى أطلق ذكر مس النساء والمفهوم من هذا في عرف أهل اللغة والشرع هو المس المقصود من النساء وهو اللمس للتلذذ وقضاء الشهوة فإن اللمس لغرض آخر لايفهم من تخصيص النساء بالمس إذ لا فرق بينهن وبين غيرهن في ذلك المس واللمس وإن كان عامدا لكن نسبته إلى النساء أوحت تخصيصه بالمقصود من مسهن كما خص في الطفلة وذوات المحارم ويدل على ذلك أن كل مس ومباشرة وإفضاء ذكر في القرآن فالمراد به ما كان مع الشهوة وجميع الأحكام بمسهن مثل تحريم ذلك على المحرم والمعتكف ورجوب الفدية في الإحرام وانتشار حرمة المصاهرة وحصول الرجعة عند من يقول بذلك إنما تثبت في مس الشهوة ولايقال مس النساء في الجملة هو مظنة أن يكون لشهوة فأقيم مقامه لأننا نقول إن الحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة نيط الحكم بها دون مظنتها وهي هنا كذلك بدليل سائر الأحكام ولأن اللمس مع الشهوة هو المظنة لخروج المذي والمني فيقام مقامه كالنوم مع الريج بخلاف الخالي من الشهوة فإنه كنوم الجالس يسيرا ولو كان المراد به الجماع خاصة لاكتفي بذكره في قوله { وإن كنتم جنبا فاطهروا } ولو أعيد باسمه الخاص وهو الجنابة ليتميز به عن غيره وليعم الجنابة بالوطء وبالاختلاف وجميع المواضع المذكورة في القرآن فإن المراد بها المس لشهوة مطلقا من الجماع وما دونه كقوله { ولا تباشروهن } وقوله أحل لكم ليلة الصيام الرفث وقوله فمن فرض فيهن الحج فلا رفث

وقوله { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن } وقوله تعالى { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } وحينئذ فيكون قوله أو لامستم النساء يعم نوعي الحدث الأكبر والأصغر كما قال ابن عمر ويفيد التيمم لها ويدل على الوضوء مع الشهوة أن النبي ﷺ أمر المجامع إذا لم يمن أن يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره حين كان لا ماء إلا من الماء لم يكن المس ينقض الوضوء لما أمر بذلك ثم بعد ذلك فرض الغسل وذلك زيادة على ما وجب أولا لا رفع له وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه قال جاء رجل فقال يا رسول الله ما تقول في رجل أصاب من أمرأة لا تحل له فلم يدع شيئا يصيب الرجل من المرأة إلا قد أصابه منها إلا أنه لم يجامعها فقال توضأ وضؤ حسنا ثم قم فصل قال فأنزل الله هذه الآية { وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل } فقال معاذ أهي خاصة أم للمسلمين عامة قال بل هي للمسلمين عامة رواه أحمد والدارقطني فأمر بالوضوء مع المباشرة دون الفرج وحديث عائشة المتقدم أن صح محمول على أن اللمس كان يراد إكراما ورحمة وعطفا أو إنه قبل أن يؤمر بالوضوء من مس النساء كما قلنا في مس الذكر ويدل على أن مجرد اللمس لاينقض ما ورت عائشة رضي الله عنها قالت كنت أنام بين يدي رسول الله ﷺ ورجلاي في قبلته فإذا أراد أن يسجد غمز رجلي فقبضتها وإذا قام بسطتها والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح رواه البخاري وأبو داود والنسائي وفي لفظ للنسائي رن كان رسول الله ﷺ ليوتر وإني لمعترضة بين يديه اعتراض الجنازة حتى إذا أراد أن يوتر مسني برجله

وروى الحسن قال كان رسول ﷺ جالسا في مسجده في الصلاة فقبض على قدم عائشة غيرا متلذذ رواه إسحاق ابن راهويه والنسائي ومتى كان اللمس لشهوة فلا فرق بين الأجنبية وذوات المحرم والكبيرة والصغيرة التي قد تشهتي فأما التي لاتشتهي أصلا فلا ينتقض لمسها لشهوة ولمس الميتة كلمس الحية عند القاضي كما أن جماعها سواء في إيجاب الغسل

وقال الشريف أبو جعفر وابن عقيل لاينقض لأنها ليست محلا للشهوة فلا ينقض لمسها كالشعر ومس البهيم بخلاف الجماع فإنه لا فرق بين محل ومحل وبين الشهوة وعدمها بدليل ما لو استدخلت المرأة ذكر نائم ولمس المرأة الرجل ينقض وضوؤها كلمسه لها في أصح الروايتين لأن لمسها أدعى إلى الحدث لفرط شهوتها والأخرى لاينقض لأن النص إنما جاء في لمس الرجل المفضي إلى المذي بخلاف المرأة وإذا قلنا بنقض وضوء اللامس فهل ينتقض وضؤ الملموس على روايتين فإذا قلنا ينقض اعتبرنا الشهوة في المشهور كما نعتبرها في اللامس حتى ينتقض وضوؤه إذا وجدت الشهوة فيه دون اللامس ولا ينتقض إذا لم توجد فيه وإن وجدت في اللامس ولا ينقض اللمس من وراء حائل وإن كان لشهوة لأن اللمس لم يوجد ومجرد الشهوة لاتنقض الوضوء كما لو وجدت في لمس البهيمة أو بنظر أوبفكر ولا ينقض لمس شعر المرأة ولاظفرها ولا سنها كما لا ينقض لمسها بالشعر والظفر والسن ولامس الرجل الرجل وإن كان أمردا ولامس المرأة المرأة في المشهور المنصوص لأنه ليس محلا للشهوة في الأصل ويتخرج أن ينقض إذا كان لشهوة لأنه لمس آدمي لشهوة وقال القاضي ينقض لمس الرجل الرجل والمرأة المرأة لأنه مباشرة لأدمي حقيقة بخلاف الشعر والظفر

مسألة والردة عن الاسلام

الذي عليه عامة الأصحاب أن الارتداد عن الإسلام ينقض الوضوء ولم يذكره القاضي في خصاله وجامعه وأبو الخطاب في الهداية من النواقض فمقتضى كلاهما عدم النقض بها كما فهمه بعض أصحابنا ويشبه والله أعلم أن يكونا تركا ذكرها لعدم ظهور فائدتها لأن المراد إذا لم يعد إلى الإسلام فلا معنى لنقض وضوئه وإن عاد إلى الأسلام وجب عليه الاغتسال في المنصوص وهو أكبر من الوضوء فيدخل فيه الوضوء ثم رأيت القاضي قد صرح في الجامع الكبير بذلك وقال لامعنى لجعلها من النواقض مع وجوب الطهارة الكبرى بالإسلام ويجاب عنه بأنه يظهر فائدته إذا عاد إلى الإسلام فإنا نوجب عليه الوضوء والغسل وإن نواهما بغسله أجزأه في المشهور كما إذا نقض وضوءه بغير الردة ومن لم ينقض وضوءه بالردة لم يوجب عليه إلا الفل ولو لبس الخف على هذه الطهارة ثم أسلم واغتسل في خفيه لم يكن المسح لأنه لبس الخف محدثا ولو قلنا هو طاهر لجاز له المسح لأنه لبسه على طهارة لم يحدث بعدها

وقد احتج جماعة من أصحابنا على ذلك بقوله سبحانه وتعالى { لئن أشركت ليحبطن عملك } بناء على أن الردة تحبط العمل بمجردها فإن الموت عليها في قوله تعالى { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر } شرط للخلود لا يحبط العمل والحجة على هذا الوجه فيها نظر فإن المشهور عن أكثر أصحابنا أن الردة لاتحبط العمل إلا بالموت عليها وبنوا على ذلك صحة الحج في الإسلام الأول وقضاء الفوائت فيه من الصلاة والزكاة والصوم وأيضا فإن الإحباط إنما ينصرف إلى الثواب دون حقيقة العمل بدليل صحة صلاة من صلى خلفه في الإسلام الأول والتحقيق أن الردة إنما تقع بعد انقضاء العبادة وأحكامها أو بعد انقضائها وبقاء أحكامها أو في أثناء وجودها أما الأول فإنها إذا وقعت بعد انقضائها بالكلية فإنها لاتبطلها أصلا وإنما تحبط الثواب إما مطلقا أو بشرط الموت عليها على اختلاف أصحابنا وأما الثالث فإنها إذا وقعت في أثناء الصلاة والصيام والإحرام أفسدت العبادة وأما الثاني فهو الوضوء لأن عمل الوضوء قد انقضى وإنما حكم الطهارة باق فهنا يبطل حكم هذه الطهارة وينقضها وليس هذا من الإحباط وإنما هو من الإبطال اللهم إلا أن يقال إذا كانت تحبط ثواب ما مضى فلأن يفسد الحاضر أولى وأحرى وذلك لأن الكفر ينافي العبادات بالكلية ودوام الوضوء عبادة لأنه مستحب مأمور به والكفر ينافي ذلك واحتج أبو الحسن الجزري على ذلك بقول النبي ﷺ الطهور شطر الإيمان فإذا بطل الإيمان بالكلية فشطره أولى ولأن ما منع ابتداء الوضوء منع استدامته ما منع الكفر كانقضاء المدة والظهور القدم في حق الماسح ورؤية الماء في حق المتيمم ولأن ما منع الكفر ابتداءه منع دوامه كالنكاح وأولى لأن النكاح ليس بعبادة وعكسه ملك المال فإن الردة لما لم تمنع ابتداءه لم تمنع دوامه على المشهور وهذا لأن الكفر إنما منع نكاح المسلمة لأن الكافر ليس أهلا لملك أبضاع المسلمات وهذا لايستوى فيه الابتداء والدوام وكذلك الطهارة منع منها الكافر لأنه ليس من أهل الطهارة والقرب والعبادات وهذا يستوى فيه الابتداء والدوام بل الدوام أولى لإنه هو المقصود من أفعال الوضوء ويقوى الشبه أن كلا من الوضوء والنكاح يستويان في مفارقة الابتداء والدوام بدليل ما لو حلف لا يتطهر وهو متطهر أولا يتزوج وهو متزوج لم يحنث وقد أبطل الكفر النكاح فكذلك يبطل الوضوء فأما الكلام المحرم كالقذف والكذب والاغتياب فيستحب منه الوضوء ولا يجب لما روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنهما قال لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إلي من أن أتوضأ من الطعام الطيب وروى عنه قال الحدث حدثان حدث اللسان وحدث الفرج وحدث اللسان أشد من حدث الفرج ورواه ابن شاهين مرفرعا إلى النبي ﷺ وقد حمله بعض أصحابنا على الردة إذ ليس في اللسان ما يوجب الوضوء غيرها ولعله أراد زن الحدث باللسان وهو الكلام المحرم يوجب الإثم والعقاب فهو أعظم مما يوجب الوضوء فقط وروى حرب عنه أن رجلين صليا مع النبي ﷺ صلاة الظهر أو العصر وكانا صائمين فلما قضيا الصلاة قال أعيد وضوءكما وصلاتكما وامضيا في صومكم واقضيا يوما آخر قالا لم يا رسول الله قال اغتبتما فلانا وفي إسناده نوع جهالة ومعناه الاستحباب لأن إسباغ الوضوء يمحو الخطايا والذنوب فسن عند أسبابها كما تسن الصلاة وقد روى على ابن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت إذا سمعت من رسول الله ﷺ نفعني الله بما شاء وإذا حدثني غيره استخلفته فإذا لي صدقته وإن أبا بكر حدثني وصدق أبوبكر أنه سمع النبي ﷺ قال ما من رجل يذنب ذنبا فيتوضأ فيحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر له رواه أحمد

ولأن الوضوء عبادة فوجب تنزيهها عن الكلام الخبيث كالصيام والإحرام وأما انتقاض الوضوء منه فقال ابن المنذر أجمع من نحفظ قوله من علمماء الأمصار على أن القذف وقول الزور والكذب والغيبة لا توجب طهارة ولا تنقض وضوءا وقد روينا عن غير واحد من الأوائل أنهم أمروا بالوضوء من الكلام الخبيث وذلك استحباب عندنا ممن أمر به قال وقد ثبت أن النبي ﷺ قال من حلف باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ولم يأمر فيه بوضؤ

فصل

ومن الكلام القهقهة فإنها لاتنقض الوضوء في الصلاة ولا خارج الصلاة لكنها تبطل الصلاة فقط كما يبطلها الكلام لقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه من ضحك في الصلاة أعاد الصلاة ولم يعد الوضوء رواه الدارقطني وصححه ورواه مرفوعا بإسناد فيه مقال وذكر الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري مثله ولم يثبت عن صحابي خلافه لأنه لا ينقض خارج الصلاة فكذلك في الصلاة كالكلام المحرم وأولى من وجهين

أحدهما أن الكلام محرم في الموضعين والقهقهة محرمة في الصلاة خاصة

الثاني أن الصلاة تمنع الوضوء مما لا يمنع منه خارج الصلاة خشية إبطالها ولهذا نهي الشاك في وضوئه أن يبطل صلاته لأجل تجديد الوضوء ويستحب لمن شك في غير الصلاة والمتيمم إذا رأى الماء يبطل تيممه اتقافا إلا أن يكون في الصلاة ففيه خلاف وهل يستحب الوضوء من القههقة فيه وجهان

أحدهما يستحب لما روى أبو العالية قال جاء رجل في بصره سوء فدخل المسجد ورسول الله ﷺ يصلي فتردى في حفرة كانت في المسجد فضحك طوائف منهم فلما قضى صلاته أمر من كان ضحك أن يعيد الضوء والصلاة رواه الدارقطني وغيره مرسلا عن الحسن وابراهيم والزهري ومراسيلهم كلها ترجع إلى أبي العالية ومراسيله قد ضعفت

وروي مسندا من وجوه واهية جدا وقد طعن فيه من جهة أن الصحابة كيف يظن بهم الضحك في الصلاة وهذا ضعيف فإن الذي ضحك بعضهم ولعلهم من الذين انفضوا من الجمعة لما جاءت العير وسمعوا اللهو ثم الضحك أمر غالب قد يعذر فيه بعض الناي ومثل هذا الحديث لايوجب شريعة ليس لها أصل ولانظير من غيره وإنما عملنا به في الاستحباب لثلاثة وجوه

أحدها أن المستحبات يحتج فيها بالأحاديث الضعاف إذا لم يكن فيها تغيير أصل لما روى الترمذي عن أنس عن النبي ﷺ قال من بلغه عن الله شيء فيه فضل فعمل به رجاء ذلك الفضل أعطاه الله ذلك وإن لم يكن ذلك كذلك

وثانيها أنه بتقدير صحته ليس فيها تصريح بانتقاض وضوئهم لعلهم أمروا بذلك لأن القهقهة في الصلاة ذنب وخطيئة فيستحب الوضوء والصلاة عقبها كما جاء في حديث أبي بكر المتقدم وكما أمر الذين اغتابا بأن يعيدا الوضوء والصلاة في حديث ابن عباس وكما قد حمل بعضهم حديث معاذ في الذي لمس المرأة وهذا لأن القهقهة في الصلاة استخفاف بها واستهانة فيستحب الوضوء منها كالوضوء من الكلام المحرم وهذا أقرب إلى قياس الأصول وأشبه بالسنة فحمل الحديث عليه أولى

الوجه الثاني لايستحب ولا يكره وهو ظاهر كلامه فإنه قال لا أرى عليه الوضوء فإن توضأ فذلك إليه إذ لا نص فيه والقياس لا يقتصيه ولو أزال من محل وضوئه ظفر أو شعرا ظهرت بشرته أو لم تظهر فإن وضوءه بحاله نص عليه لأن الفرض متعلق بظاهر الشعر والظفر فظهور الباطن لايبطله كما لو انكشط جلده أو قطعت يده ولهذا لايجزئ غسل البشرة المستترة باللحية عن ظاهرها بخلاف قدم الماسح ورأسه وفرق أحمد بينهما بأن هذا شيء يسير فهو كما لو نتف شعرة وقد روى عن ابن عمر أنه قلم أظافره فقال له رجل ألا تتوضأ فقال أتوضأ إنك لأكيس ممن سنته زمه كيسان واستحسن بعض أصحابنا أن يتوضأ من ذلك أو يمر عليه عليه الماء لأن بعض السلف أوجب الوضوء من ذلك ففيه خروج من الاختلاف وقد روى حرب في مسائله أن عليا كان إذا قلم أظفاره وأخذ شاربه توضأ وإذا احتجم اغتسل والمنصوص عن أحمد والقاضي استحباب مسحه بالماء

مسألة وأكل لحم الإبل

هذا هو المعروف في نصه ومذهبه وذكر جماعة من أصحابنا رواية أخرى أنه لا ينقض كسائر اللحوم والأطعمة لأنه الوضوء منه منسوخ بما روى جابر قال كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مسته النار رواه أبو داود والنسائي وقال عمر وابن عباس الوضوء مما خرج وليس مما دخل رواه سعيد في سننه

أو يكون الوضوء أريد به غسل اليد والفم فإنه يسمى وضوءا وهو وإن كان مستحبا في جميع الأطعمة لا سيما من الدسم فإن لحم الإبل فيه زيادة زهومه وحرارة كما حمل بعضهم الوضوء من مس ذكر على هذا لأنه مظنة تلوث اليد بمسه لا سيما من المستجمرين أو يحمل على الضوء لللصلاة استحبابا والصحيح الأول لما روى جابر بن سمرة أن رجلا سأل النبي ﷺ أنتوضأ من لحوم الغنم قال إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ قال أنتوضأ من لحوم الإبل قال نعم توضأ من لحوم الإبل قال أصلي في مرابض الغنم قال نعم قال أصلي في مبارك الإبل قال لا رواه أحمد ومسلم

وعن البراء بن عازب قال سئل رسول الله ﷺ عن الوضوء من لحوم الإبل فقال توضأ منها وسئل عن لحوم الغنم فقال لا تتوضأ منها وسئل عن الصلاة في مبارك الإبل فقال لاتصلوا فيها فإنها من الشياطين وسئل عن الصلاة في مرابض الغنم فقال صلوا فيها فإنها بركة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجة وعن جابر بن سمرة قال أمرنا رسول الله ﷺ أن نتوضأ من لحوم الإبل ولا نتوضأ من لحوم الغنم رواه ابن ماجة

وروى الإمام أحمد من حديث زسيد بن حضير وابنه عبد الله من حديث ذي الغرة وابن ماجة من حديث عبد الله بن عمر قال الإمام أحمد وإسحاق صح في الباب حديثان عن رسول ﷺ وسلم حديث حابر بن سمرة وحديث البراء وهذه سنن صحيحه يتعين المصير إليها ولا يصح ادعاء نسخه لوجوه

أحدهما أنه لا فرق بينه وبين لحم الغنم فأمر بالوضوء من هذا ونهى عن الوضوء من هذا ولو كان هذا قبل النسخ لأمر بالوضوء منهما

وثانيهما أن لحكم الإبل ينقض الوضوء لكونه لحم الإبل لا لكونه ممسوسا بنار يقتضي الوضوء نيه ومطبوخه لكن كان النقض بمطبوخه لعلتين زالت إحداهما وبقيت الأخرى كما لو مس الرجل فرج أمرأته لشهوة انتقض وضوؤه لسببين فلو زالت الشهوة بقي مجرد مس الفرج

وثالثها أنه لم يجيئ حديث بنسخه فإن قول جابر كان آخر الأمرين من رسول الله ﷺ ترك الوضوء مما مست النار إنما هو قضية عين وحكاية فعل النبي ﷺ وذلك أنه توضأ من لحم مسته النار ثم أكل من لحم ولم يتوضأ وذاك كان لحكم غنم كما جاء مفسرا في روايات آخر فأخبر جابر رضي الله عنه أن ترك الوضوء منه كان آخر الآمرين وليس في هذا عموم ولم يحك عن النبي ﷺ لفظا عاما وإنما يفيد هذا أن مسيس النار لا أثر له ولايصح أن يقال لا فرق بينهما بعد تصريح السنة بالفرق ومن حمع ما فرق الله بينه ورسوله كان بمنزلة من قال إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا وهذا قياس فاسد الوضع لمخالفة النص

ورابعها أنه لو فرضنا أنه جاء عن النبي ﷺ صفة عامة بترك الوضوء مما غيرت النار مع أن هذا لم يقع لكان عاما والعام لا ينسخ الخاص لا سيما الذي فرق بينه وبين غيره من أفراد العام بل يكون الخاص مفسرا للعام ومبينا له وخامسها أنه لو اندرج في العموم قصدا لم يفد العموم إلا أنه لا يتوضأ منه من حيث مسته النار ولا يبقى المتوضئ من جهة أخرى كما لو نسخ التوضوء من مس الفرج لم ينف التوضىء من مس فرج المرأة لشهوة ولو كان الرجل مخالفا معتقا وقد نسخ ميراث المخالف لم ينسخ إرثه من حيث هو معتق

وسادسها أنه أمر بالتوضىء من لحمها مع نهيه عن الصلاة في مباركها في سياق واحد مع ترخصه في ترك الوضوء من لحم الغنم وإذنه في الصلاة في مرابضها وذلك اختصاص الإبل بوصف قابلت به الغنم استوجبت لأجله فعل التوضوء وترك الصلاة وهذا الحكم باق ثابت في الصلاة فكذلك يجب أن يكون في الوضوء

وسابعها أنه قد أشار ﷺ في الإبل إلى أنها من الشياطين يريد والله أعلم أنها من جنس الشياطين ونوعهم فإن كل عات متمرد شيطان من أي الدواب كان كالكلب الأسود شيطان والإبل شياطين الأنعام كما للإنس شياطين وسجن شياطين ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أروكبوه برذونا فجعل يهملج به فقال إنما أركبوني شيطانا والتجالس والاجتماع ولذلك كان على كل ذروة بعير شيطان والغنم هي من السكينة والسكينة من أخلاق الملائكة فلعل الإسنان إذا أكل لحم الإبل أورثته نفارا وشماسا وحالا شبيها بحال الشيطان

والشيطان خلق من النار وإنما تطفى النار بالماء فأمر بالوضوء من لحومها كسرا لتلك الصورة وقمعا لتلك الحال وهذا لأن قلب الإنسان وخلقه يتغير بالمطاعم التي يطعمها ولهذا حرم الله الخبائث حتى قيل إنه حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير لما في طباعها من البغي والعدوان فيورث بطباع آكلها مافي طباعها وهذه العلة وما يقاربها يدل عليه إيماء النبي ﷺ

وأما دعوى كون الوضوء هو غسل اليد والفم ففاسد أيضا لوجوه

أحدها الوضوء المطلق في لسان الشرع هو وضوء الصلاة

وثانيها أنه يلزم منه أن يكون الأمر للاستحباب والأصل في الأمر الوجوب

وثالثها أنه ذكره في سياق الصلاة مبينا حكم الوضوء والصلاة في هذين النوعين والوضوء المقرون بالصلاة هو وضوءها لا غير

ورابعها أن جابر بن سمرة هو راوي الحديث ففهم منه وضوء الصلاة وأوجبه وهو أعلم بمعنى ما سمع

وهذه الوجود مع غيرها كما يقال في مس الذكر

وخامسها أنه فرق بينه وبين لحم الغنم ناهيا عن الوضوء من لحم الغنم أو مخيرا بين الوضوء وتركه وقد اجتمع الناس على استحباب غيل الفم واليد من لحممن الغنم وقد قال رسول الله ﷺ من بات وفي يده غمر ولم يغسله فأصابه شيء فلا يلومن إلا نفسه

فكيف يأذن في ترك غسل اليد والفمن من لحم الغنم وهو يلزم من ترك ذلك قال أصحابنا ما كان من المأكولات له رائحة أو زهومة ونحو ذلك فيستحب غسل اليد والفم منه وأما ما ليس له شيء من ذلك كالخبز والثمر فإن شاء غسل وإن شاء ترك وسادسها أنه لو كان المراد بع غسل اليدين والفم لما فرق بينهما وكون الإبل مختصة بزيادة زهومة ودسومة لايوجب اختاصها بالأمر فإنه ﷺ شرب لبنا فمضمض وقال إن له دسما

وسابعها أنه سيأتي أنه أمر بالوضوء من لبن الإبل ومعلوم أن دسمها دون دسم لحم الغنم فكيف يكون المراد به غيل اليد والغم وأما حمله على الاستحباب فبعيد لأنه أمر والأمر للإيجاب ولأنه ذكر الحكم في جواب السائل والحكم في مثل هذا لايفهم منه إلا الإيجاب كالوضوء من الصوت والريح ومس الذكر ولأنه فرق بينه وبين لحم الغنم والنهي في لحم الغنم إنما أفاد نفي الأيجاب فيجب أن يكون في لحم الأبل مفيدا للإيجالب ليحصل الفبرق ولأنه اثبت بذلك صفة في الإبل تقتضي الوضوء والأصل في الأسباب المتقتضية للوضوء أن تكون موجبة ولأن استحباب الوضوء من لحم الإبل دون الغنم إحداث قول ثالث خارج عن قولي العلماء ولإن قاله قائل وعلل ذلك بالخروج من الخلاف وهذه علة اجتهادية ليست تصلح أن تكون علة لنفس الحكم والشارع فرق بينهما تفريقا يوجب اختصاص أحدهما بالحكم لمعنى اختلاف العلماء وذلك المعنى أن يوجب الوضوء أو لا يوجبه أو لا يقتضيه ثم لم يسلم اختصاص الإبل دون غيرها من الأنعام بوصف يستحب معه الوضوء بطلب جميع أدلتهم في المسألة من الجمع بينهما وبين غيرهما ولم يبق حينئذ دليل يوجب صرف الأمر عن الوجوب ويقال إن جاز أن يختص باستحباب الوضوء جاز أن يختص بوجوبه وهو المعقول من الكلام فلا وجه للعدول عنه ثم الجواب عن جميع هذه الأسئلة أنها احتمالات مرجوحة وتأويلات بعيدة لا يجوز حمل الكلام عليها إلا مع دليل قوي أقوى من تلك الدلالة يوجب الصرف عن الظاهر والمصير إلى الباطن وليس في عدم نقض الوضوء بلحوم دليل يقارب تلك الدلالة فضلا عن أن يكون أقوى منها وإنما هو استصحاب حال وقياس طردي يحسن اتباعها عند عدم الدلالة بالكلية ولقد تعجب الإمام أحمد بمن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح وينقض الوضوء بالقهقهة مع أنها أبعد شيء عن العقول والأصول وحديثها من أوهى المراسيل ويترك العمل بهذا أو يعمل بحديث مس الذكر مع تعارض الأحاديث فيه وأن أحاديث النقض ليست مثل هذه الأحاديث في الصحة والظن فمن يخالفه من العلماء أنهم لم يستمعوه أو لم يبلغهم من وجه يصح عندهم فلم تقم عليهم به الحجة وكذلك في انتقاض وضوء الجاهل به روايتان

إحداهما ينتقض وضوء العالم والجاهل كسائر النواقض

والثانية لاينتقض وضوء الجاهل ولا يعيد ما صلى بعد أكله بوضوئه المتقدم قال الخلال ورعلى هذا استقر قول أبي عبد الله في هذا لأن هذا خبر واحد ورد في شيء يخالف القياس فعذر الجاهل به كما يعذر في الجهل بالزنا وشرب الخمر الحديث العهد بالإسلام والناشىء ببادية

بخلاف الوضوء من الخارج من السبيلين فإن المراد هنا هو من لم يسمح الحديث من العامة ونحوهم فأما إن كان قد بلغه الحديث فعنه يعيد وعنه لايعيد إذا تركه على التأويل وطالت المدة وعنه إذا طالت المدة وفحشت مثل عشر سنين لم يعد بخلاف ما إذا كانت قصيرة ولم يفرق بين العالم والجاهل فإن علم هذا قد انتشر يعم طرد هذا أن من كان لايرى النقض بخروج النجاسات أو بمس الذكر ثم رآه بعد ذلك لا يجب عليه إعادة ما كان صلاة وقيل عنه لايعيد إذا تركه متأولا بحال وكذلك من كان صلى بتقليد عالم وشبه ذلك لأن هؤلاء معذورون وكذلك يقال فيمن أخل ببعض أركان الصلاة أو شرائطها المختلفة فيها لعدم العلم بذلك حيث يعذر به اجتهاد أو تقليد ونحوه ثم علم فأما من يحكم بخطئه من المخالفين مثل من ترك الطمأنينة في الصلاة أو مسح على الخفين أكثر من الميقات الشرعي تقليدا لحديث عمر فإن يعيد نص عليه لكونه قد خالف حديثا صحيحا لا معارض له من جنسه بخلاف ما اختلف فيه من الصحابة ولا نص عليه

فصل

وفي الوضوء من ألبانها إذا قلنا يتوضأ من لحمها روايتان

إحداهما ينقض الوضوء لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله ﷺ يقول توضأ من ألبان الإبل ولا توضأ من ألبان الغنم وعن أسيد بن حضير عن النبي ﷺ أنه سئل عن ألبان الإبل فقال توضأ من ألبانها وسئل عن ألبان الغنم فقال لاتتوضأ من ألبانها رواهما أحمد وابن ماجة

وعن البراء بن عازب أن النبي ﷺ قال توضأ من لحوم الإبل وألبانها رواه الشالنجي بإسناد جيد

وروى أيضا عن النبي ﷺ أن النبي ﷺ كان يتوضأء من لحوم الإبل وألبانها وفيه جهالة والثانية لا ينقض اختارها كثير من أصحابنا لما روي عن النبي ﷺ أنه قال تمضمضوا من اللبن فإن له دسما رواه ابن ماجة وهذا يفيد الاكتفاء بالمضمضة في كل لبن وأن الأمر بها استحباب

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه أتى بلبن من ألبان الإبل فشرب فقيل له ألا تتوضأ فقال لا أباليه بالة إسمح يسمح لك ورواه سعيد وأمر النبي الأعراب الذين قدموا المدينة أن يشربوا من أبوال الإبل وألبانها مع كونهم حديثي عهد بجاهلية ولم يأمرهم بالوضوء وحديث أسيد فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف

وحديث عبد الله بن عمر فيه ببقية وهو ضعيف وقول أحمد وإسحاق فيه حديثان صحيحان يدل على ضعف ما سواهما وليس فيهما اللبن ويمكن الجواب عن هذا كله أما المضمضة من اللبن فلا ينفي وجوب غيره وذلك لأن المضمضة مأمور بها عند الشرب لإزالة الدسم والوضوء إنما يجب عند القيام إلى الصلاة كالأمر بغسل اليد عند القيام من نوم الليل والأمر بالاستنشاق في الوضوء لأن ذلك لسبب وهذا لسبب وهذا لأن اللبن كاللحم واللحم تغسل منه اليد والفم ولا ينفي ذلك وجوب الوضوء منها والنجاسة الخارجة يغسل موضعها ولا يمنع ذلك وجوب الوضوء منها وأما حديث ابن عباس فهو رضي الله عنه لم تبلغه السنة في ذلك بلاغا تقوم عليه به الحجة كما يبلغ عليا خبر بروع بنت واشق ولم يبلغ ابن عمر رضي الله عنهما خبر الذي وقصته راحلته ولم يبلغ ابن عباس رضي الله عنهما أحاديث المتعة والصرف وأشباه ذلك كثيرة

وأما حديث الأعرابي فقد كان في أول الهجرة وأحاديث الوضوء بعد ذلك لأن أكثر رواتها مثل عبد الله بن عمر وجابر بن سمرة لم يصحبا النبي ﷺ إلا في آخر حياته وقول أحمد وإسحاق إنما أرادا بقولهما حديثان صحيحان على طريق أهل الحديث واصطلاحهم وأما الحسن فإنهم لايسمونه صحيحا مع وجوب العمل به وهذا كثير في كلام أحمد يضعف الحديث ثم يعمل به يريد أنه ضعيف عن درجة الصحيح ومع هذا فروايه مقارب وليس معارض فيجب العمل به وهو الحسن ولهذا يضعف الحديث بأنه مرسل مع أنه يعمل بأكثر المراسيل وأما بقية فثقة أخرج له مسلم وهو جليل إلا أنه يدلس عن رجال مجهولين والقياس يوافق هذه الرواية فإن اللبن متحلل من اللحم فوجب أن يعطى حكمه كما أعطى حكه في التطهير والتنجيس ولو قيل إن البول كذلك لم يستبعد لأن اللبن مأكول معتاد بخلاف البول ونحوه وإنما قال أصحابنا إن البول والعرق والشعر لاينقض ولو فرضنا أن العلة التي أوجبت النقض باللحم لم يخلص لنا فإنه لابد له من سبب واللبن يشارك اللحم في عامة أحكامه

وفي النقض بالأجزاء التي لاتسمى لحما كالكبد والطحال والسنام والكرش والمصير والجلد وجهان وقيل فيها روايتان

لكن الظاهر أنهما مخرجتان من أصحابنا فمنهنم يطلقهما ومنهم من يبنيهما على اللبن إحداهما لاتنقض وإن قلنا بالنقض في اللحم واللبن إذ لا نص فيه قوي ولا ضعيف والقياس لايقتضيه

والثانية تنقض سواء إن قلنا ينتقض اللبن أولا لأن إطلاق اللحم في الحيوان يدخل في جميع أجزائه وإنما يذكر اللحم خاصة لأنه أغلب الأجزاء ولهذا دخلت في مطلق اسم الخنزير ولأنها أولى بالبعض من اللبن وقد جاء فيه الحديث ولأنه لما ذكر اللحم واللبن علم أنه أراد سائر الأجزاءولأنها جزء من الجزور فنقضت كاللحم وقياس الشبه لايفتقر إلى هاتين العلتين في الأصل فإن المشابهة بين اللحم والكب والسنام من أبين الاشباه ولهذا اشتركا في التحليل والتحريم والطهارة والنجاسة والدسومة والزهومة وقولهم الحكم بعيد إن أريد به هنا مجرد امتحان وابتلاء فلا يصح بعد إشارة النبي ﷺ إلى التعليل وإن أريد به إنا نحن لم نعتقد العلة فهذا مسلم لمن ادعاه لنفسه لكن لايمنع صحة قياس الشبه مع أننا أومأنا إلى التعليل فيما تقدم بما فهمناه من إيماء الشارع حيث ذكر أن الإبل حين خلقت من جن وأنها شياطين فأكل لحمها يورث ضربا من طباعها ونوعا من أحوالها والوضوء يزيل ذلك الأثر وهذا يشترك فيه اللحم وغيره من الأجزاء ولعله والله أعلم كان قد شرع الوضوء مما مست النار إما إيجابا وإما استحبابا بالماء لما تكتسبه من تأثير النار التي خلقت منها الشياطيين لكن أثر النار عارض يزول ولا يبقي مع الإنسان بخلاف اللحم فإن تأثيره عن طبيعة وخليقة فيه فيحتاج إلى شيء يزيله فكذلك صار هنا واجبا دون ذلك

وفي انتقاض الوضوء باللحوم المحرمة روايتان

إحداهما تنقض نص عليها في لحم الخنزيز وخص أبو بكر النقض به لتغليط تحريمه وعمم غيره في جميع اللحوم والمحرمات لأنه أولى بالنقض من لحوم الإبل

والثانية لاتنقض حكاها جماعة من أصحابنا واختارها كثير منهم إذ لا نص فيه وليس القياس بالبين حتى تقاس على المنصوص وكذلك لاينقص بما يحرم من غير اللحوم وأما الوضوء من سائر المطاعم مباحا ومحرمها فليس بواجب ولا مستحب لكن يستحب غسل اليد والفم من الطعام كما يذكر إن شاء الله في موضعه إلا ما مسته النار ففي استحباب الوضوء منه وجهان

أحدهما يستحب لما روى أبو هرزيرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول توضأوا مما مست النار رواه الجماعة إلا البخاري ورواه مسلم من حديث عائشة وزيد بن ثابت ثم نسخ الوجوب منه أو صرف عن الوجوب لما روى ابن عباس وعمرو بن أبي أمية وميمونة رضي الله عنهم أن النبي ﷺ أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ متفق عليها وقوله ولاتتوضؤا من لحوم الغنم

وعن سويد بن النعمان قال خرجنا مع رسول الله ﷺ عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء وهي من أدنى خيبر صلى بنا العصر ثم دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بسويق فأكلنا وشربنا ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى بنا المغرب ولم يتوضأ رواه أحمد والبخاري ويدل على أن ذلك هو الناسخ فعل الخلفاء الراشدين فإنهم كانوا لا يتوضأون مما غيرت النار وإذا اختلفت الأحاديث عن النبي ﷺ نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون فإنهم أعلم بتأويلها وناسخها وإذا زال الوجوب بقي الإستحباب لاسيما وقد ذهب خلق الصحابة والتابعين إلى وجوب الوضوء منها وقال رجال من التابعين الوضوء منها هو الناسخ ففي الوضوء احتياط وخروج من الخلاف

والوجه الثاني لايستحب لأن النبي ﷺ كان يداوم على تركه أخيرا وهو لايداوم على ترك الأفضل وأيضا فإن الوضوء منه قديما لم يكن واجبا لأن أبا هريرة سمع الأمر به وإنما صحبه بعد فتح خيبر وحديث سويد بن النعمان في تركه كان في مخرجه إلى خبير فعلم أنه كان يأمر به استحبابا ويفعله ويتركه أحيانا ثم يترك بالكلية بدليل عمل الخلفاء الراشدين

فصل

كلام الشيخ رضي الله عنه يقتضي أن لا وضوء من غسل الميت وهو قوله وقول أبي الحسن التميمي وغيرهما لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال قال رسول الله ﷺ ليس في عليكم فيميتكم غسل إذا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس فحسبكم أن تغسلوا أيديكم رواه الدراقطني وإسناده جيد ولم يتكلم في أحد منهم إلا في خالد بن مخلد القطواني وعمرو بن أبي عمرو وهما من رجال الصحيحين ولأنه لو يمه لم ينتقض وضؤوه فكذلك إذا غسله ولأنه آدمي فلم ينتقض كغسل الحي وغسل نفسه وحملوا الآثار في المسألة على الاستحباب والمنصوص عنه أن عليه الوضوء وهو قول جمهور أصحابه قال أحمد من غسل ميتا عليه الوضوء وهو أقل ما فيه ولا بد منه وقال أرجو أن لايجب الغسل وأما الوضوء فأقل ما فيه وكذلك قال في مواضع أخر إنه لا بد من الوضوء

روى عطاء أن ابن عمر وابن عباس كانا يأمران غاسل الميت بالوضوء وقال أبو هريرة أقل ما فيه الوضوء وقال ابن عباس يكفي فيه الوضوء ولم ينقل عن غيرهم في تركه رخصة يؤيد ذلك أنهم اختلفوا في وجوب الاغتسال منه ومن لم يوجبه انتهت رخصته إلى الوضوء وكان الوضوء منه شائعا بينهم لم ينقل عنهم الإخلال به قال بكر بن عبد الله المزني حدثني علقمة بن عبد الله قال غسل أباك أربعة من أصحاب رسول الله ﷺ ممن بايع تحت الشجرة فما زادوا على أن حسروا على أيديهم وجعلوا ثيابهم في حجزهم فغسلوا ثم توضؤوا ثم خرجوا وأوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله زوحته أسماء فغسلته ثم أرسلت إلى أصحاب رسول الله ﷺ هل علي من غسل قالوا لا فتوضأت رواهما سعيد في مسنده ولأن النبي ﷺ أمر بالاغتسال منه كما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه

فظاهره يوجب الغسل والوضوء الذي هو بعضه فإذا قام الدليل على عدم وجوب ما زاد على الوضوء بقي الوضوء بحاله أو يقال الأمرا بالغسل أمر بالوضوء بطريق الأولى وفحوى الخطاب فإذا ترك دلالة المنطوف لم يجب أن نترك دلالة فحواه وقول أصحاب رسول الله ﷺ أقل ما فيه الوضوء ويكفي فيه الوضوء دليل على أنه أقل ما يؤمر به والأمر للايجاب ولأنه وضوء مشروع لسبب ماض فكان واجبا كالوضوء من مس الذكر ومن قال هذا التزم أن لا وضوء من القهقهة ولا مامسته النار أو يقول وضوء متفق عليه أو مشروع من غير معارض ولأنه وضوء عن سبب ماض يشرع له الغسل فكان واجبا كوضوء المغمى عليه والمجنون والمستحاضة وهذا لأن شرع الغسل دليل على وقوة المقتضي للطهارة فإذا نزل إلى استحباب الغسل فلا أقل من أن يوجب الوضوء بخلاف الأسباب المستقبلة كغسل الإحرام والجمعة والعيدين فإن المراد بها النظافة فقط وهذا القياس من أقوى الأشتباه لمن تدبره ولأن بدن الميت صار في حكم الغرور بنفسه بدليل كراهة مسه والنظر إليه لا لحاجة وهو مظنة لخروج النجاسات فجاز أن يوجب الوضوء كمس الذكر ولا ينتقض بمسه من غير غسل لأن التعليل للنوع والجواز فلا ينتقض بأمهات المسائل ولأن لمس الناقض يفرق فيه بين ممسوس وممسوس فمس الفرج ينقض مطلقا ومس النساء إذا كان على وجه الشهوة ومس الميت إذا كان على وجه التغسيل له سواء مسه من وراء حائل أو باشره وهذا أجود من تعليل من علله من أصحابنا بأن الغاسل لا يسلم غالبا من مس ذكره وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن صح فمعناه والله أعلم حسبكم في إزالة ما يتوهم من نجاسته أن تغسلوا أيديكم فإنه ليس بنجس وإنما يخشى أن يكون قد خرج منه شيء أصاب اليد ويدل علي هذا شيئان

أحدهما أن ابن عباس هو رواوي الحديث وقد أفتي أن الذي يكفي منه الوضوء وهو أعلم بمعنى ما روى

وثانيهما أن قوله حسبكم أن تغسلوا أيديكم أي حمل على الاستحباب كأن معناه يكفيكم في الاستحباب غسل أيديكم وهو أيضا مما لا يقال به على ما ادعوه فإن الوضوء منه مشروع بل الاغتسال أيضا فيكون المعنى يكفيكم في إزالة ما يتوهم من الخبث والله أعلم

وما ذكروه من الأقيسه منعكس باستحباب الوضوء فإنهم لم يستحبوا الوضوء في تيممه ولا تغسيل الحي أو استحبوه هنا وجاءت به الآثار فكل معنى اقتضى الفرق في الاستحباب حصل الفرق به الايجاب لأنه وضوء جاء به الشرع مطلقا وكان واجبا كالوضوء من مس الذكر ولحم الجزور بل وأوكد من حيث أنه لم يجىء رخصة في ترك الوضوء منه ولا أثر يعارضه والله أعلم والغاسل هو الذي يقلبه ويباشره ويعين في ذلك ولو مرة فأما من يصيب الماء فقط من غير ملامسه للميت فليس بغاسل

فصل

ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث أو تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو على ما يتقين منهما سواء كان في الصلاة أو خارج الصلاة لما روى عبدالله بن زيد قال شكي إلى رسول الله ﷺ الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة قال لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا أخرجه الجماعة إلا الترمذي وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال إن الشيطان يأتي أحدكم في الصلاة فيأخذ شعرة من دبره فيمدها فيرى أنه قد أحدث فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا رواه أحمد وأبو داود ولفظه إذا أتى الشيطان أحدكم فقال له قد أحدثت فليقل له كذبت إلا ما وجد ريحا بأنفه أو سمع صوتا بإذنه وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرج من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا رواه مسلم والترمذي ورواه أحمد ولفظه حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا لا يشك فيه فلما نهاه عن قطع الصلاة وعن الخروج من المسجد مع الشك دل على جواز بناء الصلاة على طهارة مستصحبة مبنية على اليقين ولو كان يجب عليه الوضوء خارج الصلاة لجاز له أو لوجب عليه في الصلاة كسائر النواقض ولا فرق في ذلك بين أن يتساوى الأمران عنده أو يغلب على ظنه أحدهما لما ذكرنا من الأحاديث ولأن الظن إذا لم يكن له ضابط في الشرع وليس عليه إمارة شرعية أو عرضية لم يلتفت إليه كظن صدق أحد المتداعيين بخلاف القبلة والوقت ولأنه شك في بقاء زاول طهارته فيبني على اليقين كما لو شك في نجاسة الثوب والبدن والبقعة بعد تيقن الطهارة قال ابن أبي موسى بعد أن ذكر ذلك إن خيل إليه إله أنه قد أحدث وهو في الصلاة لم يلتفت إليه ولم يخرج من الصلاة وإن خيل إليه ذلك وهو في غير الصلاة فالأحوط له أن يتوضأ ويصلي وهو كما قال فإنا وإن جوزنا له البناء على يقين الطهارة فإن الأفضل له أن يتطهر لما تردد لأن في ذلك خروجا من اختلاف العلماء فإن منهم من لا يجوز له الدخول في الصلاة بطهارة مشكوكة ولأن التجديد مع اليقين مستحب فمع الشك أولى ولأن عدم الطهارة فيها ريب وشبهة وليس في الاحتياط فيها مشقة ولا فتح لباب الوسوسة فكان الاحتياط لها أفضل لقوله ﷺ دع ما يريبك إلى ما لايريبك وقوله فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه بخلاف الشك العارض في الصلاة فرن النبي ﷺ قد نهى عن الخروج من أجله ولأن فيه إبطالا للصلاة بالريب والشبهة ومطاوعة الشيطان في ذلك فلذلك نهي عنه وقياس المذهب أن قطع الصلاة المفروضة لذلك محرم لأجل نهي النبي ﷺ ولأن إبطال الفرض بعد الشروع فيه غير جائز

فصل

فإن تيقن الطهارة والحدث وشك في السابق منهما فهو على قسمين أحدهما إن تيقن أنه كان متطهرا أو أنه كان محدثا فيبني على خلاف حاله قبلهما إن كان متطهرا فهو محدث وإن كان محدثا فهو متطهر لأن الحال قبلهما إن كان طهارة مثلا فقد تيقن أنه وجد بعدها حدث وطهارة فزالت تلك الطهارة بيقين والطهارة الثانية يجوز أن تكون هي الأولى دامت واستمرت ويجوز أن تكون حدثت بعد الحدث والحدث متيقن فلا يزول بالشك

الثاني يتيقن أنه تطهر عن حدث وأنه أحدث بعد طهارة فإن كان قبل هاتين الحالتين متطهرا فهو الآن متطهر وإن كان محدثا فهو الآن محدث لأن الطهارة السابقة قد وجد بعدها حدث ناقض وذلك الحدث وجد بعد طهارة رافعة والأفضل بقاؤها فأما إن تيقن أنه تطهر وأنه أحدث لكن لا يدري هل كانت الطهارة بعد طهارة أو بعد حدث وذلك الحدث هل كان بعد طهارة أو بعد حدث فهذا كالقسم الأول يكون على خلاف حاله قبلهما ولو تيقن أنه ابتدأ الطهارة عن حدث وأنه كان أحدث ولايدري أفعل ذلك وهو محدث أو هو طاهر فهنا هو طاهر بكل حال وكذلك لو تيقن أنه أحدث عن طهارة وأنه توضأ لايدري أتجديدا أم رفعا فهو محدث بكل حال

باب الغسل

الغسل مصدر غسل الثوب والبدن يغسله غسلا والغسل بالضم اسم مصدر اغتسل يغتسل اغتسالا ولهذا كان الغالب في استعمال غسل الميت وغسل الثوب الفتح لأنك تريد الفعل المتعدي وتقول غسل الجنابة وغسل الجمعة بالضم لأنك تريد الاغتسال وهو الفعل اللازم ولو فتحت على نية أنه يغسل بدنه للجنابة والجمعة حسن أيضا والغسل بالضم أيضا الماء الذي يغتسل به والغسل بالكسر ما يغسل به الرأس من خطمي ونحوه

والاغسال على قسمين واجبة ومستحبه

فالواجبة أربعة أنواع ولها ستة أسباب غسل الجنابة وغسل الحيض وغسل الميت وغسل الإسلام في المنصوص فأما غسل الحيض وغسل الميت فيذكران في بابهما

وأما الكافر إذا أسلم فإنه يجب عليه الغسل سواء كان أصليا أو مرتدا وسواء أجنب أو لم يجنب وسواء اغتسل قبل الإسلام من الجنابة أو عند إرادة الإسلام أو لم يغتسل هذا منصوص الإمام أحمد وقول عامة أصحابه

وذكره أبو بكر في التنبيه وقال في غير التنبيه ولايجب الغسل عليه بل يستحب إلا أن يكون أصابته جنابة أو حيض في حال كفره فيحب أن يغتسل غسل الجنابة والحيض إذا أسلم سواء كان قد اغتسل في حال كفره أولا وسواء أوجبناه على المرأة الذمية أن تغتسل من الحيض لزوجها أم لا لأن الخلق الكثير أسلموا على عهد رسول الله ﷺ وعاد إلى الإسلام من إرتد في خلافة أبي بكر رضي الله عنه فلو أوجب الإسلام غسلا لنقل ذلك نقلا متواترا ولأن الإسلام أحد التوبتين فلم يوجب غسلا كالتوبة من المعاصي ولنا ما روى قيس بن عاصم أنه أسلم فأمره النبي ﷺ أن يغتسل بماء وسدر رواه أحمد وأبو داود والسنائي والترمذي وقال حديث حسن

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن ثمامة بن أثال أسلم فقال النبي ﷺ إذهبوا إلى حائط بني فلان فمروه أن يغتسل رواه أحمد وقال كان ذلك مشهورا بينهم ولهذا لما أراد سعد بن زراره كيف تصنعون إذا دخلتم في هذا الأمر قالا نغتسل ونشهد شهادة الحق وإنما نقل الآحاد كما نقل غسل الحيض والنفاس الآحاد وذلك كاف ثم لعل النقل ترك حين انتشر الإسلام وقبل دخول الخلق الكثير جملة واحدة والموجب هو الكفر السابق بشرط الإسلام كما أن الموجب هو خروج دم الحيض بشرط الانقطاع لأن الكافر شر من الجنب في كثير من الأحكام وقد علل بعض أصحابنا بأن الكافر إذا أسلم لايخلو غالبا من جنابة سابقة وغسله في حال كفره لايصح وكونه غير مخاطب بالغسل إذ ذاك لايمنع ثبوت انعقاد سببه كنواقض الوضوء في حق الصبي والمجنون والكافر ويستحب له أن يغتسل بماء وسدر كما في الحديث وكما يستحب غسل الميت والحائض وقيل يجب ذلك لظاهر الأمر به وقال أحمد إذا أسلم يغسل ثيابه ويغتسل ويتطهر بماء وسدر لأن ثيابه مظنة ملاقاة النجاسة فاستحت تطهيرها ويستحب حلق شعره لأن النبي ﷺ أمر رجلا أسلم فقال له ألق وفي لفظ أحلق عنك شعر الكفر واختتن رواه أبو داود

وإذا أجنب الكافرثم أسلم لم يجب علسه سواء غسل الإسلام علي المشهور لأن النبي ﷺ لم ينقل عنه أنه أمر أحدا من الكفار بغسل الجنابة مع كثرة من أسلم من البالغين المتزوجحين ولأنه قد وجب عليه الغسل بالكفر الذي هو مظنة الجنابة وغيرها فلم يجب عليه بالحقيقة غسل آخر كالنوم مع الحدث والوطء مع الإنزال وعلى قول أبي بكر يجب الغسل كما تقدم

وأما غسل الجنابة فهو قسمان كما ذكره الشيخ رحمه الله تعالى

مسألة والموجب له شيئان خروج المني وهو الماء الدافق والتقاء الختانين

والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا } إلى قوله تعالى { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا }

وقوله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } إلى قوله تعالى { أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا }

يقال رجل جنب ورجلان جنبان ورجال جنب وربما قيل أجناب وجنبون واللغة المشهورة أجنب ويقال جنب يقال سمي بذلك لأن الماء جانب محله ويقال لأنه يجتنب الصلاة ومواضعها وما أشبهها من العبادات وتجتنبه الملائكة والجنب اسم يجمع المنزل الماء والواطىء أيضا والسنة فسرت ذلك أما الأول فقد تقدم حديث علي في المذي الوضوء وفي المني الغسل وعن أم سلمة قالت جاءت أم سليم أمرأة أبي طلحة إلى رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله إن الله لا يستحي من الحق هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت فقال نعم إذا رأت الماء متفق عليه وسواء خرج المني من يقظة أو نوم عن تفكر أو نظر أو مس أو غير ذلك

وهذا من العلم العام الذي استفاضت به السنن واجتمعت عليه الأمة والمني هو الماء الدافق إذا خرج بشهوة وماء الرجل أبيض غليظ يشبه رائحة طلع النخل ورائحة العجين ومني المرأة أصفر رقيق فإن خرج بغير دفق وشهوة مثل أن يخرج لمرض أو إبرادة فلا غسل فيه في المسهور من نصه ومذهبه لأن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال كنت رجلا مذاء فسألت رسول الله ﷺ فقال إذا حذفت الماء فاغتسل من الجنابة وإذا لم تكن حاذفا فلا تغتسل رواه أحمد

وفي رواية لأحمد وأبي داود فإذا رأيت المذي فاعتبر الحذف والفضخ وهو خروجه بقوة وشدة وعجلة كما تخرج الحصاة من بين يدي الحاذف والنواة من بين مجرى الفاضح

وروى سعيد في سننه عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ومجاهد وعطاء قالوا دخلت أم سليم على رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله المرأة ترى في منامها كما يرى الرجل أفيجب عليها الغسل قال هل تجد شهوة قالت لعله قال وهل ترى بللا قالت لعله قال فلتغتسل وهذا تفسير ما جاء من العمومات مثل قوله الماء من الماء وقوله إذا رأت المني فلتغتسل وبين أنه ليس بمني لفساده واستحالته أو وإن كان منيا لكان لفساده خرج عن حكمه لأنه خارج يوجب الغسل فإذا تغير عن صفة الصحة والسلامة لم يوجب كدم الاستحاضة مع دم الحيض وذكر القاضي في الجامع رواية ثانية له يوجب الغسل على أي صفة خرج بشهوة أو بغير شهوة للعمومات فيه وأخذها من نصه على أن من جامع ثم اغتسل ثم أنزل فعليه الغسل مع أن ظاهر حاله أنه يخرج بغير شهوة

فصل

إذا احتلم ولم ير الماء فلا غسل عليه وإن استيقظ فرأى الماء فعليه الغسل وإن استيقظ فرأى بللا لا يعلم مني هو أم مذي فإن ذكر احتلاما لزمه الغسل سواء تقدم نومه بفكر أو مسيس أم لا لأن هناك سببا قريبا يضاف الحكم إليه وإن لم يذكر احتلاما لزمه أيضا الغسل إلا أن يتقدمه بفكر أو نظر أو لمس أو تكون به إبرادة فلا غسل عليه وعنه ما يدل على أن لا غسل عليه مطلقا لأنه يجوز أن يكون منيا وأن يكون مذيا وهو طاهر بيقين فلا تزول طهارته بالشك

والصحيح الأول لما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه سئل عن الرجل يجد البلل ولا يذكر احتلاما قال يغتسل وعن الرجل يرى أن قد احتلم ولا يجد البلل قال لا غسل عليه رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة واحتج به أحمد ولأن هذا الماء لا بد لخروجه من سبب وليس هناك سبب ظاهر إلا الاحتلام والماء الذي يخرج بالاحتلام في الغالب إنما هو المني فالحقت هذه الصورة المجهولة بالأعم الأغلب ولهذا إذا كان هناك سبب ظاهر يضاف إيه مثل لمس أو تفكير أو إبردة أضفناه إليه وجعلناه مذيا لأن الأصل عدم ما سواه ومن رأى في ثوبه الذي لا ينام فيه غيره منيا لزمه الغسل ويعيد ما صلى بعد آخر نومة نامها فيه إلا أن يعلم أنه قبلها فيعيد من آخر نومة يمكن أنه منها وإن كان الرائي لذلك صبيا لزمه الغسل إن كان سنه ممن يمكن البلوغ وهو استكمال ثنتي عشرة سنة أو عشر سنين أو تسع سنين على اختلاف الوجوه الثلاثة فأما إن وجد اثنان منيا في ثوب ناما فيه فلا غسل على واحد منهما في المشهور وكذلك كل اثنين تيقن الحدث من أحدهما لا بعينه لأن كل واحد منهما مكلف باعتبار نفسه ولم يتحقق زوال طهارته كما لو قال أحدهما إن كان هذا الطائر غرابا فزوجتي طالق وقال الآخر إن لم يكن غرابا فزوجتي طالق وطار ولم يعلم ما هو كن لا يأثم أحدهما صاحبه وعنه تلزمهما جميعا الطهارة لأنهما تيقنا حدث أحدهما وليس في أمرهما بالغسل كثير مشقة فإن أحس بانتقال المني عند الشهوة فأمسك ذكره فلم يخرج وجب الغسل في المشهور من الروايتين

وفي الأخرى لا يجب لأن النبي ﷺ قال إذا حذفت وفضخت ولم يوجد ذلك ولأنه ما لم يخرج فهو في حكم الباطن فلم يجب بتنقله فيه طهارة كالريح المتنقلة من المعدة إلى قريب المخرج ووجه الأول أنه مني انعقد وأخذ في الدفق والخروج فأشبه ما لو خرج من الاقلف المرتتق إلى ما بين القلفة والحشفة كالمرأة إذا أنزلت ولم يخرج إلى ظاهر فرجها ولأن الانتقال مظنة الإنزا والخروج فأوجب الغسل كالتقاء الختانين وأولى منه لأن الانتقال لا يتخلف عنه الخروج بل لا بد أن يخرج بل ولا يعود إلى محله ومعنى الحديث إذا أخذت في الحذف والفضخ لأنه إذا ظهر بعد ذلك وجب الغسل إجماعا ولا حذف ولا فضخ هذا يخالف الريح المترددة فإنه لا بد من ظهوره بخلاف الريح فإنها قد تعود إلى محلها فإن قلنا لا يجب الغسل فإذا خرج لزمه الغسل سواء كان قد اغتسل أو لم يغتسل قبل البول أو بعده لأنه مني انتقل بشهوة وخرج فلا بد أن يوجب الغسل كما لو خرج عقيب الانتقال بخلاف الذي ينتقل بلا شهوة وإذا قلنا يجب الغسل فاغتسل ثم خرج منه فهو كما لو اغتسل لمني خرج بعضه ثم خرج باقيه والمشهور عنه أنه لا يوجب غسلا ثانيا حتى أن من أصحابنا من يجعله رواية واحدة لما روى سعيد عن ابن عباس أنه سئل عن الجنب يخرج منه المني بعد الغسل قال يتوضأ وكذلك ذكره الإمام أحمد عن علي ولأنه مني واحد فلا يوجب غسلين كما لو ظهر ولأن الموجب هو المني المقترن بالشهوة وهو واحد ولأن الثاني خارج عن غير شهوة فأشبه ما لو خرج لإبردة أو مرض وهذا تعليل الإمام أحمد فقال لا غسل فيه لأن الشهوة ماضية وإنما هو حدث ليس بجناية أرجو أن يجزئه الوضوء لأنه خارج من السبيل وعنه أنه يوجب الغسل ثانيا لأنه مني انتقل لشهوة فأوجب الغسل كالأول وكما لو خرج عقيب انتقاله وعنه إن خرج قبل البول اغتسل وإن خرج بعده لم يغتسل لأن ذلك يروى عن علي وقد ضعفه الإمام أحمد ولأن ما قبل البول هو بقية المني الأول وقد انتقل بشهوة وما بعد البول يجوز أن يكون بقية الأول ويجوز أن يكون غيره خرج لإبردة أو مرض وهو الأظهر لأن البول يدفع بقايا المني لأن مخرج المني تحت مخرج البول وبينهما حاجز رقيق فينعصر مخرج المني تحت مخرج البول فيخرج ما فيه والوجوب لا يثبت بالشك وعلى هذا التعليل فلا يصح مخرج هذه الرواية إلى المنتقل فإنه لا بد من خروجه قبل البول أو بعده ويمكن تعليله بأن ما خرج قبل البول يكون انتقاله إلى الذكر بدفق وشهوة كالخارج إلى باطن القلفة بخلاف ما لم يخرج إلا بعد البول فإنه حين انتقل إلى الذكر كان بغير شهوة فأشبه الخارج عن إبردة أو مرض وقد روى عنه عكس هذه الرواية لأن ما بعد البول مني جديد بخلاف ما قبله فإنه بقية الأول فأما إن وجد سبب الخروج ولم يخرج فقسمان

أحدهما أنه يحتلم ثم ينزل بعد الانتباه فيجب عليه الغسل نص عليه لكن إن خرج لشهوة وجب حينئذ وإن خرج بغير شهوة ثبتنا وجوبه حين الاحتلام على المشهور لأنه حينئذ انتقل بعد الانتباه وسكون الشهوة وقبل الخروج كان جانبا ولم يعلم وعلى قولنا لا يجب إلا بالخروج يكون جنبا من حين خروجه والثاني أن يجامع ولا ينزل فيغتسل ثم ينزل بعد ذلك فيجب عليه الغسل نص عليه وهو على الطريقة المشهورة لأصحابنا محمول على ما إذا وجدت شهوة بعد الوطء حين الأنزال أو قبله فيكون المنى قد انتقل بها وشهوة الجماع قصرت عنه فأما إذا لم تتجدد شهوة فهو كالمني المنتقل إذا خرج بعد انتقاله على ما تقدم وتحقيق هذه الطريقة أنه قد نص في رواية أخرى في هذه أنه إن خرج قبل البول يغتسل وإلا فلا وهذا يبين أنه لا فرق عنده في المني الخارج بعد الغسل بين أن يكون جماع أو بعد إنزال وكلامه في هذه المواضع وتعليله يقتضي ذلك وهو قول جمهور أصحابنا ومنهم من أوجبه مطلقا فعلى هذا ينبغي أن يقال بتكرر الوجوب فيما إذا خرج بعد انتقاله أو بعد وطئه لأنه منى تام قد خرج وانتقل بشهوة دون ما إذا خرج بعضه ثم خرجت بقيته حيث كان الثاني جزاء من الأول وعلى هذا يكون كل واحد من الانتقال والخروج سببا كما أن كل واحد من الوطء والانزال سبب ويمكن على هذا أن يقال في المني الخارج بعد الانتباه هو الموجب لأنه لم يحبس بخلاف من أمسك ذكره فأما الوضوء من الخارج في جميع هذه الصور فلا بد منه لأنه خارج من السبيل

فصل

وأما التقاء الختانين فيوجب الغسل وهو كالإجماع لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل متفق عليه ولمسلم وإن لم ينزل وعن أبي موسى الأشعري قال اختلف في ذلك رهط من المهاجرين والأنصار فقال الأنصاريون لا يجب الغسل إلا من الدفق أو من الماء وقال المهاجرون بل إذا خالط فقد وجب الغسل قال فقلت أنا أشفيكم فقمت فأستأذنت على عائشة فأذنت لي فقلت لها إني أريد أن أسألك عن شيء وإني استحييك فقالت لا تستحيي أن تسألني عما كنت سائلا عنه أمك قلت فما يوجب الغسل قالت عى الخبير سقطت قال رسول الله ﷺ إذا أجلس بين شعبها الأربع ومس الختان الختانان فقد وجب الغسل رواه أحمد ومسلم يعني رجليها وشفريها

وما روى من الرخصة في ذلك مثل ما رواه زيد بن خالد أنه سأل عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال أرأيت إذا جامع الرجل أمرأته فلم يمن فقال عثمان رضي الله عنه يتوضأ كما يتوضأ للصلاة ويغسل ذكره وقال عثمان سمعته من رسول الله ﷺ قال فسألت عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه والزبير بن العوام وطلحة بن عبد الله وأبي بن كعب فأمروه بذلك متفق عليه

وهذا لفظ البخاري فإنه منسوخ قال أبي بن كعب إن الفتيا التي كانوا يقولون الماء من الماء رخصة كان رسول الله ﷺ رخص فيها في أول الإسلام ثم أمر بالاغتسال بعدها رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولفظه إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها قال الترمذي حديث حسن صحيح وعن محمود بن لبيد أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يجامع أهله ثم يكسل ولا ينزل قال يغتسل قال قلت فإن أبي بن كعب كان يقول غسل عليه قال زيد إن أبيا قد نزع عن ذلك قبل أن يموت رواه أحمد

وحكاه أحمد عن عثمان والصحابة المسمين معه العود إلى القول بالغسل وعن الزهري قال سألت عروة عن الذي يجامع ولا ينزل فقال حدثتني عائشة أن النبي ﷺ كان يفعل ذلك ولا يغتسل وذلك قبل فتح مكة ثم اغتسل بعد ذلك وأمر الناس بالغسل رواه الدارقطني ومعنى التقاء الختانين تغيب الحشفة في الفرج سواء كانا مختونين أو ا وذلك يحصل بتحاذي الختانين لأن ختان المرأة في الجلدة التي في أعلى الفرج كعرف الديك ومحل الوطء هو مخرج الحيض والمني والولد في أسفل الفرج فإذا غابت الحشفة فيه تحاذى الختانان فيقال التقيا ولو التزق الختان بالختان من غير إيلاج فلا غسل وكذلك قال ﷺ إذا جاوز الختان الختان وجب الغسل رواه الترمذي وقال حديث حسن صحيح وكنى عن تغييب الحشفة بمس الختان الختان لأنه يحصل معه غالبا ولو غيب الحشفة من وراء حائل وجب الغسل في أحد الوجهين وإذا قطع ذكره فأولج من الباقي بمقدار الحشفة وجب الغسل وتعلقت به أحكام الوطء من التحليل والمهر وغير ذلك وإلا فلا فأما الخصي إذا جامع فقال أحمد في خصي ومجبوب جامع أمرأته لا غسل عليه لأنه قد ذهب قضيبه فإن أنزل فعليه الغسل وقال أيضا إذا كان له ما يصل به وجب عليه الغسل وإلا إذا أنزل قيل أمرأته قال إذا أنزلت قال أصحابنا إذا كان قد بقي من ذكره ما يصل به إلى المرأة وهو مقدار الحشفة وجب عليه الغسل وعليها بإيلاجه وإلا لم يجب إلا بالإنزال للماء وإن لم يلزمها يخلق منه الإنسان وسواء أولج في فرج ذكر أو أنثى في حيوان ناطق أو بهيمة حي أو ميت سواء في ذلك الفاعل والمفعول به لأنه وطء في فرج أصل فأشبه فرج المرأة ولأنه مظنة الإنزال وإن لم يكن يشتهى في الغالب لأن الإقدام على ما لا يشتهى غالبا دليل على قوة الشهوة وكذلك لو استدخلت المرأة ذكر ميت أو بهيمة وسواء في ذلك اليقظان والنائم والطائع والمكره لأن موجبات الطهارة لا يعتبر فيها القصد بدليل احتلام النائم وسبق الحدث ولا بد أن يكون الفرج أصليا فلو وطأ الخنثى المشكل أو وطىء في قبله فلا غسل عليهما لاحتمال أن يكون أولج بخلقة زائدة أو أولج في خلقة رائدة منه وكذلك لو أولج كل واحد من الخنثيين ذكره في قبل الآخر لكن لو وطأ ووطىء في قبله لزمه الغسل ولزم أحد الأخرين لا بعينه كما تقدم في مس الذكر ويجب الغسل على الصغير إذا جامع والصغيرة إذا جومعت بمعنى أنه لايبقى جنبا نص عليه وأنكر قول من لم يوجبه وفسره القاضي وجماعة من أصحابنا بتوقف مجزىء العبادات عليه ووجوبه إذا بلغ يوجب الغسل كما يوجب العدة ثم الصغيرة مثل الكبيرة في إيجاب العدة فكذلك في إيجاب الغسل ولأنا نوجب أمرها بالصلاة فكذلك أمرها بالاغتسال فإنه من لوازمه ويجب الغسل من الإيلاج على العالم والجاهل فلو مكث زمانا لا يغتسل من الوطء ولم يعلم أن الغسل عليه فإنه يحتاط في الصلاة فيعيد حتى يتيقن براءة ذمته نص عليه لأن هذا مما استفاضت به الآثار فلم يعذر به الجاهل ولم يسغ فيه الخلاف نص عليه بخلاف ما قلناه في لحوم الإبل على إحدى الروايتين فإن تلك السنة ليست في الشهرة كهذه وقد قيل إنما قال هذا في العامي الذي لم يقلد ونصه بخلاف هذا وإنما وجب إعادة كل صلاة إذا شك في طهارتها لأنه قد تيقن الوجوب وشك في الأداء المجزىء فلا يجوز تمكنه من الصلاة والطواف ومس المصحف وقراءة القرآن ويجب الغسل إذا بلغ ولم يكن اغتسل ويغسل إذا مات شهيدا ولا خلاف في هذا كله

فصل

فأما الأغتسال المستحبة فهي نوعان

أحدهما ما يقصد به النظافة لأجل اجتماع الناس في الصلاة المشروع لها الاجتماع العام في مجامع المناسك وهو غسل الجمعة والعيدين والكسوف والاستسقاء والاغتسال للإحرام ولدخول مكة والمدينة وللوقوف بعرفه والمبيت بمزدلفة ولرمي الجمار كل يوم وللطواف بالبيت وهذه تذكر إن شاء الله تعالى في موضعها

النوع الثاني ما يشرع لأسباب ماضية وهو غسل المستحاضة لكل صلاة والغسل من غسل الميت وغسل المجنون والمغمى عليه إذا أفاق من غير احتلام والغسل من الحجامة

فأما المستحاضة فيذكر في موضعه وأما الاغتسال من غسل الميت فهو مستحب في المشهور وقال القاضي في الجامع الكبير وابن عقيل لا يجب ولا يستحب من غسل المسلم لأن الحديث لا يثبت فيه فظاهر كلام أحمد يقتضي ذلك وعنه أنه يجب من غسل الميت الكافر لأن النبي ﷺ أمر عليا أن يواري أبا طالب فواراه فلما رجع قال اغتسل رواه أحمد وغيره

وقد ذكرنا في نواقض الوضوء قوله ليس عليكم في ميتكم غسل إذا غسلتموه فإنه ليس بنحس وروي عن ابن مسعود أنه سئل عن الذي يغسل الميت أيغتسل قال وإن كان صاحبكم نجسا وفاغتسلوا منه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الذي يغسل الميت أيغتسل فقال أنجس هو وعن عائشة قالت أأنجاس موتاكم رواهن سعيد فموجب هذا التعليل وجوبه من الكافر لأنه نجس بالموت ولا يطهر بالغسل فعلى هذا يجب الغسل على الحي من غسل الكافر قاله القاضي وقال ابن عقيل لا يجب الأول اختيار أصحابنا لما روى ابن إسحاق قال وقد كنت حفظت من كثير من علمائنا بالمدينة أن محمد بن عمرو بن حزم كان يروي عن المغيرة بن شعبة أحاديث منها أنه حدثه أنه سمع رسول الله ﷺ قال من غسل ميتا فليغتسل رواه أحمد

وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال من غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن وإسناده شرط مسلم وروي من وجوه أخرى قال أبو حفص أي ما شرع لأسباب ماضية وهو من أراد حمله يتوضأ يعني للصلاة عليه وعن عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ قال يغتسل من أربع من الجمعة والجنابة والحجامة وغسل الميت رواه أحمد وأبو داود ولفظه أن النبي ﷺ كان يغتسل وهو شرط مسلم وتضعيف الإمام أحمد وغيره لبعض هذه الأحاديث إما لأنه لم يبلغهم حين التضعيف إلا من وجوه ضعيفه أو بناء على قاعدة الحديث دون ما يحتج به الفقهاء كما تقدم وذهب أبو إسحاق الجوزجاني إلى وجوبه لما ذكرنا وهو معدود من أصحاب أحمد والمذهب أن الأمر فيه على الاستحباب لما تقدم عن الصحابة هنا وفي مسألة نقض الوضوء به ولأنه لو كان واجبا مع كثرة وقوعه لنقل نقلا عاما ولم يخف على أكابر الصحابة مع أن عائشة هي ممن يروى الاغتسال منه وتفتي بعدم وجوبه وكذلك الأمر في حديث علي المتقدم هو استحباب لا سيما والروايات الصحيحة أنه أمره لمواراته دون تغسيله وتعليلهم بعدم النجاسة يفيد غسل ما يصيب الغاسل منه لو كان نجسا دون بقية البدن وأما الاغتسال من الحجامة فمستحب في إحدى الروايتين لما تقدم ولفعل علي وفي الأخرى لا يستحب واختارها القاضي وغيره لأن القياس لا يقتضيه كالرعاف والفصاد وحديثه مضعف

وأما اغتسال المجنون والمغمى عليه إذا فاقا فإن رأيا منيا وجب عليهما الاغتسال وإن لم يريا بللا أصلا ففي وجوب الاغتسال روايتان إحداهما يجب لما روت عائشة قالت ثقل رسول الله ﷺ فقال أصلي الناس قلنا لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال ضعوا لي ماء في المخضب قالت ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس قلنا لا هم ينتظرونك يا رسول الله قال ضعوا لي ماء في المخضب قالت ففعلنا فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه ثم أفاق فقال أصلى الناس فقلنا ا هم ينتظرونك يا رسول الله وذكرت إرساله إلى أبي بكر متفق عليه والأصل في أفعاله الوجوب في إحدى الروايتين يؤكد ذلك في الاغتسال أنه أفتى السائل عن الإغتسال من التقاللاء الخانين بأن يفعل ذلك ويغتسل منه أفتى عامة الصحابة بقولها فعلت ذلك أنا ورسول الله ﷺ فاغتسلنا لا سيما وقد تكرر ذلك منه مع مشقته عليه فلو لم يكن واجبا لتركه ولأنه مظنة للجنابة غالبا فأقيم مقام الحقيقة كالنوم مع الحدث والوطء مع الإنزال قال الإمام أحمد قل ما يكون الإغماء إلا أمنى وقال قل أن يصرع إلا احتلم بل هو أولى من ذلك لأنه ﷺ لا يجوز عليه الاحتلام لأنه معصوم من الشيطان ومع هذا كان يغتسل وهذا يدل على أن الاغماء سبب للغسل مع قطع النظر عن كونه مظنة الإنزال ألا ترى أنه إذا كان محفوظا في منامه من الحدث كان ينام ثم يصلي ولا يتوضأ فإذا وجب الوضوء على الأمة مع أنه لم يكن يفعله فوجوب الاغتسال الذي فعله أولى والرواية الثانية لا يجب بل يستحب لأنه زوال عقل فلم يوجب الاغتسال كالنوم ولأن الحقيقة هنا أمكن اعتبارها فإن المني يبقى في ثوبه وبدنه بخلاف الحدث في النوم فإنه لا يعلم وعلى هذه الرواية لو وجد ولم يتيقنه منيا فقيل لا يجب الغسل أيضا بخلاف النوم لأنه يمكن أن يكون من المرض المزيل للعقل وقيل يجب كالنوم لأن هذا يشرع له الاغتسال بكل حال بخلاف النائم فوجوب الاغتسال عليه يجب على النائم أولى ولهذا لو رأى المريض غير المبرود بللا حكمنا بأنه مني بخلاف صاحب الإبردة والله أعلم

مسألة والواجب فيه النية وتعميم بدنه بالغسل مع المضمضة والاستنشاق أما النية فقد تقدم دليل وجوبها والنية المجزئة أن يقصد رفع حدث النجاسة والاغتسال لما يشترط له ذلك كما قلنا في الوضوء فإن توضأ أو اغتسل بنية الطهارة مسنونة مثل أن ينوي تجديد الوضوء أو الوضوء لقراءة القرآن أو لذكر الله أو للنوم أو للجلوس في المسجد أو يغتسل غسل الجمعة ونحوها من اغسال الصلوات والمناسك ففيه روايتان إحداهما يجزئه كما لو تطهر لصلاة نافلة أو مس المصحف

والثانية لا يجزئه عن الواجب لأنه لا يقصد الطهارة الواجبة ولا ما وجبت له الطهارة فلم يجزئه كما لو تطهر لزيارة الصديق وقال أبو حفص العكبري وغيره إن نوى الطهارة لم يشرع له رفع الحدث كقراءة القرآن واللبث في المسجد أجزأه وإن نوى ما لا يشرع معه رفع الحدث كالتجديد وغسل الجمعة لم يجزئه

فصل

وأما تعميم بدنه بالماء أن يغسل الظاهر جميعه وما في حكمه من الباطن وهو ما يمكن إيصال الماء إليه من غير ضرر وهو ما يسن إيصال الماء إليه في الوضوء أو يغسل من النجاسة كالبشرة التي تحت الشعور الكثيفة مثل شعر الرأس واللحية ومواضع المبالغة من باطن الفم والأنف هكذا ذكر بعض أصحابنا وآخرون أوجبوا هنا ما يجب في الوضوء لأن الصائم ينهى عن المبالغة فإن بالغ دخل في المنهى وإن لم يبالغ لزم الإخلال بواجب في الغسل ولأن الصائم المتطوع لا يبالغ ولو كان واجبا لما سقط بالتطوع وهذه طريقة أبي حفص في الوضوء لقول النبي ﷺ تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وانقوا البشرة احتج به الإمام أحمد في رواية حنبل وعن علي قال سمعت رسول الله ﷺ يقول من ترك موضع شعره من جنابة لم يصبها الماء فعل الله به كذا وكذا من النار قال علي فمن ثم عاديت شعري رواه أحمد وأبو داود ولأنها طهارة تتعلق بجميع البدن فتعلقت بكل ما يمكن كطهارة الجنب وعلى هذا يجب غسل حشفة الأقلف المنفتق إذا أمكن تشمير القلفة كما يجب تطهيرها من النجاسة بخلاف المرتتق فأما باطن فرج المرأة فنص أحمد لأنه لا يجب غسله من جناية ولا نجاسة وأقر النص على ظاهره طائفة من أصحابنا لأنه من الباطن فاشبه الحلقوم وكذلك ثبت الفطر بحصول الحشفة فيه وقال القاضي وغيره يجب غسله فيهما لأنه يمكن تطهيره من غير ضرر كحشفة الأقلف وحمل كلام أحمد على ما عمق من فرجها بحيث لا يصل الماء إليه إلا بمشقة وإذا كان على يديه أو على أعضاء الوضوء نجاسة ارتفع الحدث قبل زوالها عند ابن عقيل لأن الماء ما لم ينفصل باق على طهوريته فكذلك أثر في إزالة النجاسة فأشبه تغيره بالطاهرات وقال الأكثرون لا يرتفع الحدث الا مع طهارة المحل لأن ما قبل ذلك من الماء لاقى النجاسة وانفصل نجسا فلا يكون رافعا للحدث كغيره من المياه النجسة

مسألة وتسن التسمية وأن يدلك بدنه بيديه ويفعل كما روت ميمونة قالت سترت التبي ﷺ فاغتسل من الجنابة فبدأ فغسل يديه ثم صب بيمينه على شماله فغسل فرجه وما أصابه ثم ضرب بيده على الحائط أو الأرض ثم توضأ وضوءه للصلاة ثم أفاض الماء على بدنه ثم تنحى فغسل رجليه

أما التسمية فقال أصحابنا هي كالتسمية في الوضوء على ما مضى وأما دلك البدن في الغسل ودلك أعضاء الوضوء فيه فيجب إذا لم يعلم وصول الطهور إلى محله بدونه مثل باطن الشعور الكثيفة وإن وصل الطهور بدونها فهو مستحب لأنه روي عن رسول الله ﷺ أنه كان إذا توضأ يدلك وعن عائشة أن أسماء سألت النبي ﷺ عن غسل الحيض قال تأخذ إحداكن ماءها وسدرها فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلك دلكا شديدا حتى تبلغ شئون رأسها ثم تصب عليها الماء ثم تأخذ فرصة مسكة فتطهر بها قالت أسماء وكيف أتطهر بها فقال سبحان الله تطهرين بها فقالت عائشة رضي الله عنها تتبعين بها أثر الدم وسألته عن غسل الجنابة فقال تأخذ ماء فتطهر فتحسن الطهور ثم تصب على رأسها فتدلكه حتى تبلغ شئون رأسها ثم تفيض عليها الماء رواه أحمد ومسلم

ولأن بالتدليك يحصل الإنقاء ويتيقن التعميم الواجب فشرع كتخليل الأصابع في الوضوء ولا يجب الدلك وإمرار اليد في الغسل بخلاف أحد الوجهين في الوضوء لقوله في حديث أم سلمة إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين وكذلك ذكر لا سيما افاضة الماء على سائر الجسد ولم يذكر الدلك وإنما ذكره في الشعر لأنه به يحصل وصول الماء إلى البشرة

وقال جبير بن مطعم تذاكرنا غسل الجنابة عند رسول الله ﷺ فقال أما أنا فأخذ ملء كفي ثلاثا فأصب على رأسي ثم أفيض بعد ذلك على سائر جسدي رواه أحمد والبخاري ومسلم ولو كان الدلك واجبا لذكره ليتبين الواجب وأما الحديث الذي ذكره فهو من المتفق عليه عن ميمونة قالت وضعت للنبي ﷺ ماء يغتسل به فأفرغ على يديه فغسلهما مرتين أو ثلاثا ثم أفرغ بيمينه على شماله فغسل مذاكيره ثم دلك يده بالأرض ثم مضمض واستنشق ثم غسل وجهه ويديه ثم غسل رأسه ثلاثا ثم أفرغ على جسده ثم تنحى عن مقامه فغسل قدميه

وعن عائشة رضي الله عنهما أن رسول الله ﷺ كان إذا اغتسل من الجنابة يبدأ فيغسل يديه ثم يفرغ بيمينه على شمال فيغسل فرجه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ثم يأخذ الماء ويدخل أصابعه في أصول الشعر حتى إذا رأى أن قد استبرأ حثى على رأسه ثلاث حثيات ثم أفاض الماء على سائر جسده ثم غسل رجليه متفق عليه

ولمسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ بغسل كفيه ثلاثا وللبخاري يخلل بيده شعره حتى إذا رأى أن قد أروى بشرته أفاض عليه الماء ثلاث مرات وعن عائشة رضي الله عنها قالت كان رسول الله ﷺ إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب فأخذ بكفه فبدأ بشق رأسه الأيمن ثم الأيسر ثم أخذ بكفيه فقال بهما على رأسه متفق عليه

وجملة ذلك أن الغسل قسمان كامل ومجزىء فالمجزء هو ما تقدم وأما الكالم فهو اغتسال رسول الله ﷺ وهو يشتمل على إحدى عشرة خصلة

أولها النية

وثانيهما التسمية

وثالثهما أن يبدأ بغسل يديه ثلاثا كما في الوضوء وأوكد لأن هنا يرتفع الحدث عنهما بذلك

ورابعهما أن يغسل فرجه ويدلك يده بعده لمعنيين

أحدهما أن يزيل ما به من أذى وكذلك إن كان على يديه نجاسة أزالها قبل الاغتسال لئلا تماع بالماء ولئلا يتوقف ارتفاع الحدث على زوالها في المشهور

والثاني أنه إذا أخر غسل الفرج فإن مس انتفض وضوؤه وإن لم يمسه أخل بسنه الدلك وربما لا يتيقن وصول الماء إلى مغابنه إلا بالدلك وكذلك لا يستحب له إعادة الوضوء بعد الغسل إلا أن يكون قد مس ذكره

وخامسها أن يتوضأ ولا يكمل الاغتسال إلا بالوضوء سواء نوى رفع الحدثين أو لم ينو لما تقدم من فعل النبي ﷺ ولما روى سعيد بن منصور في سننه أن عمر سأل النبي ﷺ عن غسل الجنابة فقال توضأ وضوءك للصلاة ثم اغسل رأسك ثلاثا ثم أفض عى رأسك وسائر جسدك

ولأنه غسل يسن فيه تقديم مواضع الوضوء كغسل الميت وهذا لأن أعضاء الوضوء أولى بالطهارة من غيرها بدليل وجوب تطهيرها في الطهارتين فإذا فاتها التخصيص فلا أقل من التقديم ولذلك كان وضوء الجنب مؤثرا في نومه وأكله وجماعه وجلوسه في المسجد

وهو مخير بين أن يتوضأ وضوءا كاملا كما في حديث عائشة أو يؤخر غسل رجليه كما في حديث ميمونة وعى هذا الوجه يكفي إفاضة الماء على رأسه ودلكه من مسحه لأن ذلك كان في الوضوء ولذلك في الغسل الأفضل صفة عائشة في إحدى الروايات وإن احتيج إلى غسلهما ثانيا لكونه بمستنقع يقف الماء فيه أو غير ذلك لأن عائشة أخببرت انه كان يتوضأ كذلك وهذا إخبار عن غالب فعله وميمونة اخبرت عن غسل واحد ولأن في حديث عمر الأمر بذلك ولأنهما من أعضاء الوضوء فأشبها الوجه واليدين ولأنه غسل تقدم فيه الوضوء جميعه كغسل الميت وعنه أن صفة ميمونة أولى لأن غسالة البدن تنصب إليها فتنديهما وتلوثهما فتعين على غسلهما ولا يحتاج إلى إعادته ثانيا ويكون أقل في اراقة الماء ولذلك بدأ بأعالي البدن قبل أسافله والثالثة هما سواء لمجيء السنة بهما

وسادسها أن يخلل أصول الشعر رأسه ولحيته بالماء قبل إفاضة الماء في حديث عائشة لأنه إذا فعل ذلك فإنه ينقي البشرة ويبل الشعر بماء يسير بعد ذلك من غير معالجة

وسابعها أن يفيض على رأسه ثلاثا حثية على شقه الأيمن وحثية على شقة الأيسر وحثية على الوسط

وثامنها أن يفيض الماء على سائر جسده ثلاثا هكذا قال أصحابنا قياسا على الرأس وإن لم ينص عليه في الحديث وهو محل نظر

وتاسعها أن يبدأ بشقه الأيمن لأن رسول الله ﷺ كان يعجبه التيامن في طهوره

وعاشرها أن يدلك بدنه بيديه كما تقدم

وحادي عشرها أن ينتقل من مكانه فيغسل قدميه كما في حديث ميمونة وإذا توضأ أولا لم يجب أن يغسل أعضاء الوضوء مرة ثانية في أثناء الغسل بل الواجب عليه غسل بقية البدن لأن النبي ﷺ لم يكن يتمضمض ويستنشق إلا في ضمن الوضوء ولذلك غسل الوجه واليدين لم يذكر أنه فعله إلا في ضمن وضوئه وهذا على قولنا يرتفع الحدثان بالاغتسال ظاهر وأما على قولنا لا بد من الوضوء فكذلك على معنى ما ذكره أحمد وغيره لأن المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه واليدين مرة في الوضوء ومرة في أثناء تمام الغسل غير واجب قطعا وكلام بعض أصحابنا يقتضي إيجاب ذلك على هذه الرواية وهو ضعيف وإن كان متوجها في القياس بل الصواب أنه لا يستحب على الروايتين

مسألة ولا يجب نقض الشعر في غسل الجنابة إذا روى أصوله أما ترويه أصول الشعر وإيصال الماء إلى بشرته فيجب كما تقدم وكذلك يجب غسل ظاهره وأثنائه والمسترسل منه وما ثبت في الجسد سواء كان مظفورا أو مجدولا في المشهور من المذهب وقيل لا يجب غسل المسترسل منه وشعر الجسد وإنما يجب غسل ما لم يتم غسل البشرة إلا به لأن الشعر ليس من اجزاء الحيوان وقيل إنما يسقط غسل أثناء المسترسل إذا كان مظفورا لأنه لا يجب نقضه والأول هو المذهب المعروف لأن النبي ﷺ قال فبلوا الشعر وقد احتج به الإمام أحمد ولأنه إذا وجب غسل البشرة الباطنة فغسل الشعر أولى ولأنه يجب تطهيره من النجاسة فكذلك من الجنابة كغيره فعلى هذا لا تنقضه في غسل الجنابة إذا وصل الماء إلى أثنائه وتنقضه في غسل الحيض قال مهنا سألت أحمد عن المرأة تنقض شعرها إذا اغتسلت من الجنابة فقال لا فقلت له في هذا شيء قال نعم حديث أم سلمة قلت تنقض شعرها من الحيض قال نعم فقلت له وكيف تنقضه من الحيض ولا تنقضه من الجنابة فقال حديث زسماء عن النبي ﷺ أنه قال تنقضه

أما الأول فلما روى عبيد بن عمير قال بلغ عائشة أن عبد الله بن عمر يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقض رؤوسهن فقالت يا عجبا لابن عمر هو يأمر النساء إذا اغتسلن أن ينقضن رؤوسهن أو يأمرهن أن يحلقن رؤوسهن لقد كنت اغتسل أنا ورسول الله ﷺ من إناء واحد وما أزيد على أن أفرغ على رأسي ثلاث إفراغات رواه أحمد ومسلم ولغير ذلك من الأحاديث والرجل في ذلك كالمرأة فإذا كان الشعر خفيفا أو كان عليه سدر رقيق كفاه أن يصب الماء على رأسه ويعصر في أثر كل صبة بحيث يرى أن قد وصل الماء إلى باطن الشعر وإن كان كثيفا محكما أو عليه سدر ثخين أو حشو يمنع وصول الماء أزال ذلك

وأما الحيض فهل نقض الشعر فيه واجب أو مستحب على وجهين أحدهما يجب لما ذكره الإمام أحمد في حديث أسماء أنه قال تنقضه وإن لم تكن هذه اللفظة فيه والسياق الذي ذكرناه في المسألة قبل هذه لكن فيه ذكر السدر والسدر إنما يستعمل مع نقض وقد احتج بعض أصحابنا لذلك بأن النبي ﷺ أمر عائشة لما أخبرت أنها حائض فقال انقضي رأسك وامتشطي متفق عليه

وفي لفظ انقضي شعرك واغتسلي وعن أنس قال قال رسول الله ﷺ إذا اغتسلت المرأة من حيضها نقضت شعرها نقضا وغسلته بالخطمي والأشنان وإذا اغتسلت من الجنابة تصب الماء على رأسها صبا وغسلته رواه ابن شاهين ولأن الحيض لا يتكرر فلا يشق إيجاب نقضه بخلاف اجنابة والوجه الثاني لا يجب بل يستحب لما روت أم سلمة قالت قلت يا رسول الله إني أمرأة أشد ظفر رأسي فأنقضه لغسل الجنابة قال لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثايات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن صحيح

وفي رواية لمسلم أفانقضه للحيضة وللجنابة وفي لفظ لأبي داود واغمزي قرونك عند كل حفنه وحملوا النقض على الاستحباب كالسدر والطيب فإنه يستحب في كل غسل الحيض اسحبابا مؤكدا حتى قال أحمد وإن كانت قد اغتسلت بالماء ثم وجدت السدر أحب إلي أن تعود إلى السدر

وقال في الطيب تمسك في القطنة شبا من طيب يقطع عنها رائحة الدم وزفرته

وقال القاضي فإن لم تجد مسكا فغيره من الطيب فإن لم تجد فالطين فإن لم تجد فالماء شاف كاف وذلك لما تقدم من حديث الفرصة قال ابراهيم الحربي الفرصة قطعة قطن أو صوف تمس بشيء من طيب وتدخلها المرأة فرجها لتطيب بذلك مخرج الدم وهذا لأن الحيض لما طالت مدته وحصل فيه وسخ وأذى شرع فيه ما يحصل النظافة التامة ولهذا لما سئل أحمد عن النفساء والحائض كم مرة يغتسلان قال كما يغسل الميت قال القاضي ومعنى هذا إنه يجب مرة ويستحب ثلاثا ويكون فيه السدر والطيب كما في غسل الميت

مسألة وإذا نوى بغسله الطهارتين أجزأ عنهما وكذلك لو تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه أجزأه عن جميعها وإذا نوى بعضها فليس له إلا ما نوى أما المسألة الأولى فظاهر المذهب أنه إذا اغتسل غسلا نوى به الطهارتين الصغرى والكبرى أجزأه وإن لم يتوضأ أو توضأ وضوءا هو بعض الغسل ولم يعد غسل أعضاء الوضوء وإذا نوى الأكبر فقط بقي عليه الأصغر وإن نوى بوضوئه الأصغر فقط بقي عليه الأكبر سواء وجد سبب يختص بالأصغر أو كان سببه سبب الأكبر مثل أن ينظر أو يتفكر فيمني أو يجامع من وراء حائل وينزل أولا ينزل على أحد الوجهين وعنه أنه لا يرتفع الأصغر إلا بوضوء مع الغسل بفعله قبل الغسل أو بعده حتى فيما إذا اتحد السبب مثل أن ينظر فيمني وعلى هذه الرواية هل تجب إعادة أعضاء الوضوء على ما تقدم لأن النبي ﷺ كان يتوضأ قبل الغسل وفعله يفسر قوله وإن كنتم جنبا فاطهروا ولأنهما عبادتان مختلفتا الصفة والقدر والفروض فلم يتداخلا كالطهارة الكبرى والصغرى وقال أبو بكر يتداخلان في القدر المشترك بينهما وعليه أن يأتي بخصائص الوضوء وهي الترتيب والموالاة ومسح الرأس على إحدى الروايتين فعلى قوله إذا غسل وجهه ثم يديه ثم مسح رأسه حتى أفاض عليه الماء ثم غسل رجليه بعد ذلك أجزأه ولم يحتج أن يعيد غسل هذه الأعضاء وبكل حال فإذا توضأ قبل غسله كره له إعادة وضوءه بعد غسله إلا أن ينقض وضوءه لمس فرجه أو غير ذلك والأول أصح لأن الله تعالى قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } وفسر التطهير بالاغتسال في الآية الأخرى ولا يقال النهي هنا عن قربان مواضع الصلاة وذلك يزول بالاغتسال لأنا نقو هو النهي عن الصلاة وعن مسجدها ولا يجوز حمله على المسجد فقط لأن سبب نزول الآية صلاة من صلى بهم وخلط في القراءة وسبب النزول يجب أن يكون داخلا في الكلام ولأنه أباح القربان للمسافر إذا تيمم والمساجد في الغالب إنما تكون في الأمصار ولا مسافر هناك وكذلك المريض في الغالب لا يمكنه قربان المسجد ولا يحتاج إليه ولأن الصلاة هي الأفعال نفسها فلا يجوز إخراجها من الكلام فإما أن يكون النهي عنها أو عن الصلاة فقط ويكون قوله إلا عابري سبيل استثناء منقطعا وهذا أحسن إن شاء الله كما في قوله تعالى { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } وقوله { ما لهم به من علم إلا اتباع الظن } ولأن النبي ﷺ قال في المني الغسل وقال إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي ولم يذكر الوضوء وسئل جابر بن عبد الله أيتوضأ الجنب بعد ما يغتسل قال يكفيه الغسل وقال عبد الله بن عمر إذا لم يتوضأ الجنب أجزأه الغسل ما لم يمس فرجه رواهما سعيد ولأن الغسل الذي وصفته ميمونة ليس فيه مسح رأسه ولاغسل رجليه مرتين وإنما فعل ذلك مرة واحدة مكملة لغسله مع أن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ لا يتوضأ بعد الغسل رواه الخمسة أما المسألة الثانية وهي إذا تيمم للحدثين والنجاسة على بدنه فإنه يجزىء عن جميعها في المشهور وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح فعل الصلاة مع قيام مانعها فلا يستبيح فعل الفرض بنية النفل ولأنه إذا اغتسل لأحد الحدثين لم يرتفع الاخر فأن لا يجزىء التيمم لأحدهما عن الآخر أولى وأحرى وإذا اجتمعت عليه أحداث كبرى مثل أن يجامع ويحتلم أو تكون المرأة حائضا جنبا أو صغرى مثل أن ينام ويخرج منه نجاسات ويمس النساء فنوى بطهارته عن جميعها أجزأة وإن نوى بطهارته عن إحداها ارتفعت جميعها عند القاضي وغيره لأنها أحداث توجب طهارة من نوع واحد فكفت النية عن أحدها كما لو تكرر منه الحدث من جنس واحد ونوى عن شيء منه وقال أبو بكر لا يرتفع إلا ما نواه إذا لم يدخل الأصغر في الأكبر بدون النية فالنظير مع النظير أولى مع الظاهر من قوله ? < إنما لكل أمرىء ما نوى > ? وقيل إن كان حكم الحدثين واحدا كالبول مع النوم والوطء مع الإنزال تداخلا وإن كان مختلفا كالحيض مع الجنابة لم يتداخلا وإذا تيمم لبعض الأحداث من جنس واحد فعلى قول أبي بكر لا يجزئه إلا عما نواه كالماء وأولى وعلى قول القاضي فيها وجهان

أحدهما لا يجزئه أيضا لأن التيمم مسح فلم يبح ما لم ينو

والثاني يجزئه كالماء لأن نية التطهير في التيمم تغني عن نية نظيرة ولو تيمم لفرض استباح فرضا آخر ولو تيمم لنفل استباح نفلا آخر لأن ممنوعات أحد الحدثين هي ممنوعات الحدث الآخر بعينة بخلاف الحدث والجنابة

فصل

وقد تضمن هذا الكلام جواز التيمم للجنابة كما يجوز للحدث لقوله تعالى { وإن كنتم جنبا فاطهروا } إلى آخر الآية وعن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله ﷺ في سفر فصلى بالناس فإذا هو برجل معتزل فقال ما منعك أن تصلي قال أصابتني جناية ولا ماء قال عليك بالصعيد فإنه يكفيك متفق عليه

وحديث عمار بن ياسر وعمرو بن العاص وأبي ذر وغيرهم يدل على ذلك وهي في باب التيمم لكن يكره لمن لم يجد الماء أن يطأ زوجته ما لم يخش العنت في إحدى الروايتين لما فيه من إزالة طهارة يمكن إبقاؤها والتعرض لإصابة النجاسة وحملا لما جاء من الرخصة على من يخشى العنت وفي الاخرى لا يكره لأنه مظنة الحاجة في الجملة ولما فيه من الأثر وقد تضمن أيضا جواز التيمم للنجاسة على بدنه إذا عدم ما يزيلها وخشي الضرر بإزالتها كما لو تيمم للحدث وهذا ظاهر المذهب المنصوص فإن صلى بغير تيمم لم يجزئه قال ابن أبي موسى لا يتيمم النجاسة كما لا يتيمم لنجاسة الثوب ونجاسة الاستحاضة وسلس البول ولأن طهارة الجنب بالماء لا تتعدى محلها فأن لا تتعدى طهارة التراب محله أولى ولأن طهارة التراب تعبد قد عجز عن إزالتها وعن التيمم لها وفيه روايتان ووجه الأول أن النبي ﷺ قال إن الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته وهذا يعم طهارتي الحدث والجنب المتعلقة بالبدن دون الثوب لقوله فليمسه بشرته ولأنه محل من البدن يجب تطهيره بالماء مع القدرة عليه فوجب بالتراب عند العجز كمواضع الحدث وبدن الميت وهذا لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبيح فعل الصلاة معه فكذلك التيمم عن الجنب والمستحاضة يجب عليها غسل النجاسة لكل صلاة كما يجب عليها الوضوء لكل صلاة من غير تيمم في الموضعين وعلى هذا إن كانت النجاسة علي جرح لم يجب تطهيره من الحدث تيمم لها خاصة إن كانت على محل الحدث وهي غير معفو عنها يتيمم عن الحدث والجنب ويجزئه تيمم واحد كما ذكر الشيخ في أصح الوجهين كما يجزئه عن الحدثين وكما تتداخل طهارتا الحدث والجنب في الماء وفي الآخر لا يجزئه لأنهما من جنسين ولا إعادة عليه في المشهور من الروايتين لأنه شرط عجز عنه فأشبه ما لو عجز عن التوضئ لمرض وإن عجز عن إزالتها لعدم الماء فقال أبو الخطاب يعيدها لأنه عذر نادر وغيره متصل فأشبه ما لو لم يجد ترابا تيمم به عنها بخلاف نجاسة الجرح فإنها تعم بها البلوى وتطول مدتها والمنصوص المشهور أنه لا إعادة عليه كالتيمم عن الحدث ونجاسة الجرح وهذا بناء على وجوب الإعادة على من عجز عن إزالة النجاسة وعن التيمم لها وهو الرواتين فإذا لم نوجب الإعادة هناك فهاهنا أولى ويجب عليه أن يخفف النجاسة بما أمكنه من مسح أو حك أو نحو ذلك قبل التيمم لأنه المستطاع وتعتبر النية في أصح الوجهين وإن لم تعتبر في مبدله وفي الآخر لا تعتبر له النية كما لا تعتبر لإزالة النجاسة وليس بشيء

فصل يحرم على المحدث الصلاة والطواف ومس المصحف فأما الصلاة فيحرم عليه فرضها ونفلها والسجود المجرد كسجود التلاوة والقيام المجرد وهو صلاة الجنازة ولا يصح منه سواء كان عالما بحدثه أو جاهلا به هذا إذا كان قادرا على الطهارة فأما العاجز فيذكر إن شاء الله تعالى في التيمم لما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه

وعن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله ﷺ لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول رواه الجماعة إلا البخاري وأما الطواف فهو محرم عليه أيضا لأن النبي ﷺ قال إنما الطواف بالبيت صلاة فإذا طفتم فأقلوا الكلام رواه أحمد والنسائي

لكن إذا خالف وطاف محدثا فهل يصح طوافه على روايتين أصحهما أنه لا يصح وأما المصحف فإنه لا يمس منه موضع الكتابة ولا حاشيته ولا الجلد أو الدف أو الورق الأبيض المتصل به لا ببطن الكف ولا بظهره ولا شيء من جسده لأن في الكتاب الذي كتبه النبي ﷺ لعمرو بن حزم أن لا يمس القرآن إلا طاهر رواه مالك والأثرم والدارقطني وغيرهم

وهو كتاب مشهور عند أهل العلم وقال مصعب بن سعد كنت أمسك المصحف على عهد سعد بن أبي وقاص فاحتككت فقال لعلك مسست ذكرك فقلت نعم فقال قم فتوضأ رواه مالك

وذكر الإمام أحمد عن ابن عمر أنه قال لا تمس المصحف إلا على طهارة وعن عبد الرحمن بن يزيد قال كنا مع سلمان فخرج فقضى حاجته ثم جاء فقلت يا أبا عبد الله لو توضأت لعلنا نسألك عن آيات قال إني لست أمسه لا يمسه إلا المطهرون رواه الأثرم والدارقطني وكذلك جاء عن خلق من التابعين من غير خلاف يعرف عن الصحابة والتابعين وهذا يدل على أن ذلك كان معروفا بينهم وقد احتج كثير من أصاحبنا على ذلك بقوله تعالى { لا يمسه إلا المطهرون } كما ذكرنا عن سلمان وبنوا ذلك على أن الكتاب هو المصحف بعينه وأن قوله لا يمسه صيغة خبر في معنى الأمر لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره وردوا قول من حمله على الملائكة فإنهم جميعهم مطهرون وإنما يمسه ويطلع عليه بعضهم

والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المهطرون لوجوه

أحدهما إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله { كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة }

وثانيها أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي ﷺ وثالثها أنه قال في كتاب مكنون والمكنون المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين فهذه صفة اللوح المحفوظ

ورابعها أن قوله { لا يمسه إلا المطهرون } صفة للكتاب ولو كان معناها الأمر لم يصح الوصف بها وإنما يوصف بالجملة الخبرية

وخامسها أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله

وسادسها أنه لو قال المطهرون وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل المتطهرون

كما قال تعالى { فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين }

وقال تعالى { إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين }

وسابعها أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه وذلك بالأمر الذي قد ثبت واستقر أبلغ منه بما يحدث ويكون نعم الوجه في هذا والله أعلم أن القرآن الذي في اللوح المحفوظ هو القرآن الذي في المصحف كما أن الذي في هذا المصحف هو الذي في هذا المصحف بعينة سواء كان المحل ورقا أو أديما أو حجرا أو لحافا فإذا كان من حكم الكتاب الذي في السماء أن لا يمسه إلا المطهرون وجب أن يكون الكتاب الذي في الأرض كذلك لأن حرمته كحرمته أو يكون الكتاب اسم جنس يعم كل ما فيه القرآن سواء كان في السماء أو الأرض وقد أوحى إلى ذلك قوله تعالى { رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة } وكذلك قوله تعالى { في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة } فوصفها أنها مطهرة فلا يصلح للمحدث مسها وكذلك لا يجوز أن يمس بعضو عليه نجاسة ولو غسل المتوضىء بعض أعضائه لم يجز له مسها حتى يكمل طهارته ولو كانت النجاسة على عضو جاز مسه بغيره لأن حكم النجاسة لا يتعدى محلها ويجوز بالتيمم حيث يشرع كما يجوز بالتوضؤ فأما إن حملة بعلاقته أو بحائل له منفصل منه لا يتبعه في الوصية والإقرار وغيرهما كغلافه أو حائل مانع للحامل كحمله في كمة من غير مس أو على رأسه أو في ثوبه أو تصفحه بعود أو مسه به جاز في ظاهر المذهب وعنه لا يجوز لأنه إنما منع من مسه تعظيما لحرمته وإذا تمكن من ذلك بحائل زال التعظيم وحكى بعض أصحابنا رواية أنه إنما يحرم مسه بكمة وما يتصل به لأن كمه وثيابه متصلة به عادة فأشبهت أعضاءه بخلاف العود والغلاف وحكى الآمدي رواية يجوز حملة بعلاقته وفي غلافه دون تصفحه بكمه أو عود ولنا أنه لم يمسه فيبقى على أصل الإباحة لا سيما ومفهوم قوله ﷺ لا يمس القرآن إلا طاهر جواز ما سوى المباشرة وليس المس من وراء حائل كالمباشرة بدليل نقض الوضوء وانتشار حرمة المصاهر به والفدية في الحج وغير ذلك والعلاقة وإن اتصلت به فليست منه إنما يراد لتعليقه وهو مقصود زائد على مقصود المصحف بخلاف الجلد فإنه يراد لحفظ ورق المصحف وصونه وتجوز كتابته من غير مس الصحيفة كتصفحه بعود ولأن الصحابة استكتبوا أهل الحيرة المصاحف وقيل لا يجوز الكتابة وإن أجزنا تقليبه بالعود وقيل يجوز للمحدث دون الجنب كالتلاوة

وما فيه شيء من القرآن حكمه حكم المصحف إن كان مفردا فإن كتب مع القرآن غيره فالحكم للأغلب فيجوز مس كتب التفسير والحديث والفقه والرسائل التي فيها شيء من القرآن في المشهور عنه لأنها ليست مصحفا وقد كتب النبي ﷺ إلى أهل الكتاب بكتاب فيه قرآن وكان يكتب في صدر كتبه إلى أهل النواحي بسم الله الرحمن الرحيم ولأن ما فيها من القرآن لا يثبت لها حرمة المصحف بدليل جواز بيعها وشرائها وعموم الحاجة إلى مسها ويجوز مس ما كتب فيه المنسوخ والتوراة والإنجيل في المشهور من الوجهين وكذلك مس ما فيه الأحاديث المأثورة عن الله تعالى أن ذلك ليس هو القرآن وفي مس الدراهم المكتوب عليها القرآن روايتان وفي مس الصبيان ألواحهم المكتوب فيها القرآن وجهان وقيل روايتان ووجه الرخصة عموم الحاجة إلى ذلك ولا يجوز تمليكه من كافر ولا السفر به إلى بلادهم لما روى عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو رواه أحمد ومسلم ولو ملك الذمي مصحفا بالإرث ألزم بإزالة ملكه عنه لأنهم يتدينون بانتهاكه وانتقاص حرمته

فصل

ويحرم على الجنب ما يحرم على المحدث وهو في ذلك أشد لأن الصلاة تحرم عليه لأنها صلاة ولأن فيها قراءة وكذلك الطواف يحرم عليه لأنه صلاة ولأنه يحتاج إلى المكث في المسجد الحرام وكذلك مس المصحف ويحرم أيضا عليه قراءة القرآن لما روي عن علي قال كان رسول الله ﷺ لا يحجبه وربما قال لا يحجزه عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابة رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح ويجوز بعض الآية في إحدى الروايتين اختارها القاضي وغيره لأنه لا يجزىء في الخطبة ولا يحصل به إعجاز فأشبه البسملة والحمد له والثانية لا يجوز وهي أقوى لقول علي إقرأوا القرآن ما لم يصب أحدكم جنابة فإن أصابه جنابة فلا ولا حرفا واحدا رواه الدارقطني وإسحاق بن راهويه

وقال علي اعلم بها حيث روى عن النبي ﷺ أنه كان يقرأ على كل حال إلا الجنابة والحرف من القرآن فهو أعلم بما يرويه

وقال ابن عباس الجنب والحائض يذكر ان الله ولا يقرآن من القرآن شيئا قيل ولا ية قال ولا نصف اية رواه حرب ولأن بعض الآية كالآية في منع المحدث من مس كتابتها فكذلك في منع الجنب من تلاوتها وأما ذكر الله سبحانه ودعاؤه ونحو ذلك فهو جائز لأن عائشة قال كان رسول الله ﷺ يذكر الله على كل أحيانه رواه الخمسة إلا النسائي وأخرجه البخاري تعليقا

ولأن المنع إنما جاء في القرآن وغيره من ذكر الله لا يساويه في الحرمة بدليل أنه لا يمنع المحدث من مس صحيفته ولا تصح الصلاة به إلا عند العجز عن القرآن وإن التلاوة أفضل من الذكر وغير ذلك وقد قال النبي ﷺ أفضل الكلام بعد القرآن أربع وهو من القرآن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله عى خلقه وقال ما تقرب العباد إلى الله بأفضل مما خرج منه فعلى هذا يجوز من الكلام ما يوافق نظمه نظم القرآن إذا لم يقصد به تلاوة القرآن وإن بلغ آية كقول الآكل والمتوضىء بسم الله الرحمن الرحيم وقول الشاكر الحمد لله رب العالمين وقول المستغفر { ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا } الآية

لأن هذا الكلام قد يقصد به القرآن ويقصد به غيره وإن اتفقت ألفاظها ومتى كان شيئا يتميز به القرآن عن غيره فقد قيل لا يجوز قراءته بكل حال لأنه لا يكون إلا قرآنا وقيل يجوز إذا قصد به معنى عين التلاوة لأن النبي ﷺ كتب إلى الروم في رسالة { يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا } الآية لأنه قصد بها التبليغ لا القراءة والتلاوة

ويحرم عليه اللبث في المسجد بغير وضوء فأما العبور فيه فلا بأس لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال لا أحل المسجد لحائض ولا جنب رواه أبو داود وعن أم سلمة عن النبي ﷺ إن المسجد لا يحل لجنب ولا حائض رواه ابن ماجة ولأن المسجد منزل الملائكة لما فيه من الذكر والملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا جنب ولا تمثال كذلك رواه علي عن النبي ﷺ أخرجه مسلم وغيره ففي لبث الجنب في المسجد ايذاء للملائكة فأما المرور فيجوز لما روت عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ناوليني الخمرة من المسجد فقلت إني حائض فقال إن حيضتك ليست في يدك رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي وقالت ميمونة كان رسول الله ﷺ يدخل على إحدانا وهي حائض فيضع رأسه في حجرها فيقرأ القرآن وهي حائض ثم تقوم إحدانا بخمرته فتضعها في المسجد وهي حائض رواه أحمد والنسائي وقال جابر بن عبد الله كان أحدنا يمر في المسجد جنبا مجتازا رواه سعيد في سننه وقال زيد بن أسلم كان أصحاب رسول الله ﷺ يمشون في المسجد وهم جنب رواه ابن المنذر

وقد احتج أصحابنا على هذه المسألة بقوله { لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل } لأن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما فسروا ذلك بعبور الجنب في المسجد قال جماعة من أصحابنا وغيرهم يكون المراد بالصلاة مواضع الصلاة كما قال تعالى { لهدمت صوامع وبيع وصلوات } وقد فسرها آخرون بأن المسافر إذا لم يجد الماء تيمم لأن الصلاة هي الأفعال أنفسها القول على ظاهره ضعيف لأن المسافر قد ذكر في تمام الآية فيكون تكريرا ولأن المسافر لا تجوز له صلاة مع الجنابة إلا في حال عدم الماء وليس في قوله { إلا عابري سبيل } معترض كذلك ولأنه كما تجوز الصلاة مع الجنابة للمسافر فكذلك للمريض ولم يستثن كما استثني المسافر فلو قصد ذلك ليبين كما بين في آخر الآية المريض والمسافر إذا لم يجد الماء ولأن في حمل الآية على ذلك لزوم التخصيص في قوله تعالى { عابري سبيل } ويكون المخصوص أكثر من الباقي فإن واجد الماء أكثر من عادمه ولا قوله { ولا جنبا } لاستثناء المريض أيضا وفيه تخصيص أحد السببين بالذكر مع استوائهما في الحكم ولأن عبور السبيل حقيقته المرور والاجتياز والمسافر قد يكون لابثا وماشيا فلو أريد المسافر لقيل إلا من سبيل كما في الآيات التي عني بها المسافرين والتوجيه المذكور عن أصحابنا على ظاهره ضعيف أيضا لما تقدم من أن الآية نزلت في قوم صلوا بعد شرب الخمر ولم يكن ذلك في المسجد وإنما كان في بيت رجل من الأنصار ولأنه جوز القربان للمريض والمسافر إذا عدم الماء بشرط التيمم وهذا لا يكون في المساجد غالبا وإنما الوجه في ذلك أن تكون الآية عامة في قربان الصلاة ومواضعها واستثنى من ذلك عبور السبيل وإنما يكون في موضعها خاصة وهذا إنما فيه حمل الفظ على حقيقته ومجازه وذلك جائز عندنا على الصحيح وعلى هذا فتكون الآية دالة على منع اللبث أو تكون الصلاة هي الأفعال ويكون قوله { إلا عابري سبيل } اللاستثناء منقطعا ويدل ذلك على منع اللبث اللبث لأن تخصيص العبور بالذكر يوجب اختصاصه بالحكم ولأنه مستثنى من كلام في حكم النفي كأنه قال لا تقربوا الصلاة ولا مواضعها إلا عابري سبيل وإذا توضأ الجنب جاز له اللبث لما روى أبو نعيم ثنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم قال كان أصحاب رسول الله ﷺ يتحدثون في المسجد وهم على غير وضوء وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل فيتحدث وقال عطاء بن يسار رأيت رجالا من أصحاب النبي ﷺ يجلسون في المسجد وهو مجنبون إذا توضئوا وضوء الصلاة رواه سعيد وهذا لأن الوضوء يرفع الحدثين عن أعضاء الوضوء ويرفع حكم الحدث الأصغر عن سائر البدن فيقارب من عليه الحدث الأصغر فقط ولهذا أمر الجنب إذا أراد النوم والأكل بالوضوء ولولا ذلك لكان مجرد عبث يبين ذلك أنه قد جاء في نهي الجنب أن ينام قبل أن يتوضأ أن لا يموت فلا تشهد الملائكة جنازته فهذا يدل على أنه إذا توضأ شهدت جنازته ودخلت المكان الذي هو فيه ونهى الجنب عن المسجد لئلا يؤذي الملائكة بالخروج فإذا توضأ أمكن دخول الملائكة المسجد فزال المحذور وهذا العبور إنما يجوز إذا كان لحاجه وغرض وإن لم يكن ضروريا فأما لمجرد العبث فلا فإن اضطر إلى اللبث في المسجد أو إلى الدخول ابتداء أو اللبث فيه لخوف على نفسه وماله جاز ذلك ولزمه التيمم في أحد الوجهين كما يلزم إذا لبث فيه لغير ضرورة وقد عدم الماء والمنصوص عنه أنه لا يلزمه لأنه ملجأ إلى اللبث والمقام غير قاصد له فيكون في حكم العابر المجتاز كامسافر لو حبسه عدو أو سلطان كان فيي حكم المجتاز في رخص السفر ولهذا لو دخل المسجد بنية اللبث أثم وإن لم يلبث اعتبارا بقصد اللبث كما يعتبر قصد الإقامة ولا يكره للجنب أن يحتجم أو يأخذ من شعره أو ظفره أو يختضب نص عليه وكذلك الحائض لأن هذا نظافة فأشبه الوضوء ولا يقال إن الجنابة تبقى على الشعر والظفر لأن حكم الجنابة إنما ثبت لهما ما داما متصلين بالإنسان فإذا انفصلا لحقا بالجمادات

فصل

فأما قراءة القرآن وذكر الله تبارك وتعالى فيجوز للمحدث لحديث عائشة المتقدم ولأن ابن عباس أخبر عن النبي ﷺ أنه لما قام الليل قرأ العشر الآيات الآواخر من سورة آل عمران قبل أن يتوضأ وقد روى ابن عباس أن النبي ﷺ خرج من الخلاء فأتي بطعام فذكر له الوضوء فقال ما أردت صلاة فأتوضأ رواه أحمد ومسلم

وفي رواية إنما أمرت بالوضوء إذا أقيمت الصلاة رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي لكن يستحب له الوضوء كذلك لما روى المهاجر ابن قنفذ أنه سلم على النبي ﷺ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه وقال إنه لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني كرهت أن أذكر الله إلا على طهارة رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة

وعن أبى جهيم بن الحارث قال أقبل النبي ﷺ من نحو بئر جمل فلقيه رجل فسلم عليه فلم يرد عليه السلام حتى أقبل على الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام متفق عليه

وكذلك يستحب الوضوء لكل صلاة في المشهور من الروايتين وفي الأخرى لا فضل فيه كما لو توضأ مرارا ولم يصل بينهما ولأن الوضوء إنما يراد لرفع الحدث فإذا لم يكن محدثا لم يستحب له بخلاف الغسل فإنه يشرع للتنظيف والصحيح الأول ما روى أبو هريرة عن النبي ﷺ قال لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم عند كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء سواك رواه أحمد بإسناد صحيح

وعن أنس قال كان رسول الله ﷺ يتوضأ عند كل صلاة قيل له فأنتم كيف كنتم تصنعون قال كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث رواه الجماعة إلا مسلما وعن ابن عمر أن النبي ﷺ قال من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وفيه لين وكان عبد الله بن عمر يتوضأ لكل صلاة طاهرا وغير طاهر رواه أحمد وأبو داود ولأن قوله { إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا } أمر لكل قائم طاهر أو غير طاهر لكن فسرت السنة أن الأمر في حق غير المحدث ليس للإيجاب فيبقى الندب ويستحب الوضوء لمن يريد المنام لما روى البراء بن عازب قال قال رسول الله ﷺ إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن متفق عليه فإن كان جنبا كان الاستحباب في حقه أوكد بحيث يكره له ترك الوضوء كراهة شديدة والمشهور أنه يسن له أن يغسل فرجه ويتوضأ وفي كلامه ظاهره وجوب ذلك لما روى ابن عمر أن عمر قال يا رسول الله أينام أحدنا وهو جنب قال نعم إذا توضأ رواه الجماعة وعن أبى سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن ينام وهو جنب غسل فرجه وتوضأ وضوءه للصلاة رواه الجماعة إلا الترمذي وأما ما رواه أبو إسحاق عن الأسود عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ ينام وهو جنب ولا يمس ماء رواه الخمسة إلا النسائي فقال أحمد ليس بصحيح وكذلك ضعفه يزيد بن هارون والترمذي وغيرهما وإن كان محفوظا معناه والله أعلم لا يمس ماء الاغتسال أرادت أن تبين أنه لم يكن يغتسل قبل النوم كما جاء عنها في رواية سعد بن هشام والمرأة كالرجل في ذلك إذا أصابتها الجنابة وعنه إنه لم يرد ذلك على النساء ورآه على الرجال لأن عائشة أخبرت عنه بالوضوء ولم تذكر أنها كانت تفعل ذلك ولا أنه أمرها مع اشتراكهما في الجنابة ولأن المرأة تمكث مدة حائضا لا يشرع لها وضوء فمكثها جنبا أخف وكذلك يستحب الوضوء للجنب إذا أراد أن يجامع ثانيا أو يأكل أو يشرب لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ رواه الجماعة إلا البخاري

وروى ابراهيم عن الأسود عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا كان جنبا وأراد أن يأكل أو يشرب أو ينام توضأ وضوءه للصلاة رواه أحمد وأبو داود والنسائي وعن عمار بن ياسر أن النبي ﷺ رخص للجنب إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو ينام أن يتوضأ وضوءه للصلاة رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وفي رواية لأحمد وأبي داود أن الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير ولا المتضمخ بالزعفران ولا الجنب

ويكره له تركه هنا كتركه للنوم عند القاضي لحديث عمار هذا والمنصوص أنه لا يكره لكن يكفيه أن يغسل يديه وفمه للأكل وأما الجماع فلا يحتاج فيه إلى ماء ولو ترك غسل اليدين والفم عند الأكل والشرب لم يكره على ظاهر كلامه لما روى أبو سلمة عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلاة وإذا أراد أن يأكل ويشرب يغسل يديه ثم يأكل ويشرب رواه أحمد والنسائي وليس فيه غسل الفم فالظاهر أنه بلغ أحمد من وجه آخر وعن الأسود عن عائشة قالت كان رسول الله ﷺ إذا كانت له حاجة إلى أهله أتاهم ثم يعود ولا يمس ماء رواه أحمد ومن أصحابنا من يجعل المسألة في الأكل والشرب على روايتين إحداهما استحباب الوضوء والثانية استحباب غسل اليدين والمضمضة والصحيح ما ذكرناه أن الوضوء كمال السنة وأن الاقتصار على غسل اليدين أدنى السنة وأما المرأة فالمنصوص أنها كالرجل فيما يشرع لها عند الأكل والشرب من وضوء أو غسل اليد والفم وأما عند معاودة الرجل لها فالأشبه أنه كالنوم

فصل

والواجب في الغسل الأسباغ كالوضوء لكن يستحب أن لا ينقص في غسله من صاع ولا في وضوئه من مد لما روى سفينة قال كان رسول الله ﷺ يغتسل بالصاع ويتطهر بالمد رواه أحمد ومسلم وابن ماجة والترمذي وصححه وعن أنس قال كان رسول الله ﷺ يغتسل بالصاع إلى خمسة أمداد ويتوضأ بالمد متفق عليه

وعن جابر قال قال رسول الله ﷺ يجزىء في الغسل الصاع ومن الوضوء المد رواه أحمد والأثرم ولو أسبغ بدون ذلك جاز من غير كراهة إذا أتى بالغسل ولم يقتصر عى مجرد المسح كالدهن لظاهر القرآن وحديث أم سلمة وجبير بن مطعم وأسماء فإنه علق الإجزاء بالإفاضة من غير تقدير وعن عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبي ﷺ من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد أو قريبا من ذلك رواه مسلم

وعنها أيضا قالت لقد رأيتني أغتسل أنا ورسول الله ﷺ من هذا فإذا بتور موضوع مثل الصاع أو دونه فنشرع فيه جميعا فأفيض بيدي على رأسي ثلاث مرات وما انقض لي شعرا رواه النسائي

وقال عبد الرحمن بن عطاء سمعت سعيد بن المسيب يقول إن لي ركوة أو قال قدحا ما تسع إلا نصف المد أو نحوه ثم أبول ثم أتوضأ وأفضل منه فضلا قال عبد الرحمن فذكرت ذلك لسليمان بن يسار فقال وأنا يكفيني مثل ذلك قال عبد الرحمن فذكرت ذلك أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر فقال أبو عبيدة وهكذا سمعنا من أصحاب رسول الله ﷺ رواه الأثرم وقال ابراهيم النخعي كانوا أشد استبقاء للماء منكم وكانوا يرون أن ربع المد يجزىء من الوضوء رواه سعيد وإن زاد على ذلك زيادة يسيره جاز فأما السرف فمكروه جدا كما تقدم في الوضوء والصاع هنا كصاع الطعام المذكور في الكفارات والصدقات وهي خمسة أرطال وثلث بالعراقي في المشهور عنه وقد روي عنه ما يدل على أن صاع الماء ثمانية أرطال والمد رطلان وهو اختيار القاضي في الخلاف وغيره لأن أنسا قال كان رسول الله ﷺ يتوضأ بإناء يكون رطلين ويغتسل بالصاع رواه أحمد وأبو داود والترمذي ولفظه أن رسول الله ﷺ قال يجزىء في الوضوء رطلان من ماء وهذا يفسر روايته المتفق عليها كان يتوضأ بالمد وعن عائشة قالت كنت اغتسل أنا والنبي ﷺ من إناء واحد من قدح يقال له الفرق متفق عليه والفرق ستة عشر رطلا بالعراقي

فصل

ينبغي للمغتسل الغسل الواجب والمستحب وغيرهما التستر ما أمكنه لأن الله حيي ستير يحب الحياء والستر ثم لا يخلو إما أن يكون بحضرته أحد من الآدميين أولا فإن كان هناك أحد وجب عليه أن يستر عورته منه لقوله سبحانه { قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم } وروى بهز ابن حكيم بن معاوية بن حيده القشيري عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر قال احفظ عورتك إلا من زوجتك وما ملكت يمينك قلت فإذا كان القوم بعضهم في بعض قال إن استطعت أن لا يراها أحد فلا يرينها قلت فإذا كان القوم أحدنا خاليا قال فالله تبارك وتعالى أحق أن يستحيا منه رواه الخمسة إلا النسائي

وذكره البخاري تعليقا وهذا يعم حفظها من النظر والمس فقال لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت وقال لا تمشوا عراة رواه مسلم

وقد تقدم حديث الذين يضربان الغائط ونهى عن دخول الحمام إلا بالأزر وإن لم يكن بحضرته أحد فينبغي أن يستتر بسقف أو حائط أو دابة أو غير ذلك وأن يأتزر كما أن يستتر عند الخلاء والجماع وأن لا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض وأوكد لأن اله أحق أن يستحي منه الناس فيأتي من الستر بقدر ما يمكنه وقد صح عنه ﷺ أنه كان يستتر عند الغسل

وقال أبو موسى الأشعري إني لأغتسل في البيت المظلم فأحني ظهري حياء من ربي عز وجل رواه ابراهيم الحربي فإن اغتسل في فضاء ولا إزار عليه كره له ذلك لما روى يعلى بن أمية أن رسول الله ﷺ رأى رجلا يغتسل بالبراز فقال إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر فإذا اغتسل أحدكم فليستتر رواه أبو داود والنسائي

وعن ابن عباس عن النبي ﷺ قال إن الله ينهاكم عن التعري فاستحيوا من الملائكة الكرام الكاتبين الذين لا يفارقوكم إلا عند الغائط والجنابة والغسل فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فلستتر بثوبه أو بجذم حائط رواه ابراهيم الحربي ورواه ابن بطة من حديث ابن عمر وقد صح ذلك من مراسيل مجاهد وقيل لا يكره كما لو استتر بحائط أو سقف ونحوه فإنه يجوز أن يتجرد لأن به حاجة إلى ذلك فأشبه حال الجماع والتخلي وذكر القاضي في كراهة كسف العورة للاغتسال في الخلوة روايتين وإنما لم يكره له التجرد مع الاستتار لأن في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أن موسى عليه السلام اغتسل عريانا وفي البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أن أيوب عليه السلام اغتسل عريانا ولما تقدم من الأحاديث ولأن النبي ﷺ تجرد لأهله واغتسل وكان يستر بالثوب ويغتسل وحديث بهز في قوله فالله أحق أن يستحي منه فإذا لم يكن حاجة كالغسل والخلاء وغير ذلك فإنه ينهى عن كشف السوءة لغير حاجة وقيل هو على طريق الاستحباب فإنه يستحب له الإتزار في حال الغسل وغيره وعلى هذا فلا يكره دخول الماء بغير ميزر لكن يحب الإتزار لما روى أنس بن مالك قال قال رسول الله ﷺ إن موسى عليه السلام كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته في الماء رواه أحمد ولأنه كشف للاغتسال حيث لا يراه آدمي فجاز كما لو لم يكن في الماء وعنه أنه يكره وعلى هذا أكثر نصوصه وكرهه كراهة شديدة وإنما رخص فيه لمن لا إزار معه لما روى عن جابر قال نهى رسول الله ﷺ أن يدخل الماء إلا بمئزر رواه أبو حفص العكبري وروى أيضا عن أبي محمد الأنصاري قال خرجت إلى شاطىء الفرات فرأيت بغالا فقلت لرجل لمن هذه البغال فقال للحسن والحسين وعبد الله بن جعفر قلت وأين هم قال في الفرات يتغاطون قال فأتيتهم فرأيتهم في سراويلات فقلت للحسن يا بن رسول الله ﷺ تغاطون في الماء وعليكم سراويلات فقا نعم أما علمت أن للماء سكانا وأن أحق من استتر من سكان الماء لنحن

وذكر إسحاق بن راهوية أن الحسن واحسين قيل لهما وقد دخلا الماء وعليهما بردان فقال إن للماء سكانا واحتج به إسحاق وأحمد بمعناه ولأنه كشف للعورة بحضرة من يراه من الخلق فأشبه ما لو كشفها بحضرة آدمي ولذلك كرهنا له التكشف في الخلوة إلا بقدر الحاجة وهو مستغن عن كشفها في الماء لأن الماء يصل إلى الأرفاغ ونحوها من غير تكشف وحديث موسى شرع من قبلنا وكان التستر في شرعهم أخف ولم يكن محرما عليهم النظر إلى العورة بدليل أنهم كانوا يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى عورة بعض وإنما كان موسى يجتنب ذلك حياء والتكشف في الماد أهون منه بين الناس فما كان مكروها فيهم صار محرما فينا وما كان مباحا صار مكروها أو يحمل حديث موسى على كشفها في الماء لحاجة والحديث الآخر إذا لم يحتج إلى كشفها كما في كشفها خارج الماء ويكون مقصود الحديث بيان أن الماء ليس بساتر لأن فيه سكانا

فصل

ولا فرق في ذلك بين الحمام وغيره فلا يحل دخولها إلا بشرط أن يستر عورته عن أعين الناس ويغض نظره عن عوراتهم ولا يمس عورة أحد لا يدع أحدا يمس عورته من قيم ولا غيره لأن كشف العورة والنظر إليها ومسها حرام ثم إن من عدم النظر إلى عورة غيره بأن يكون كل من في الحمام مؤتزرا أو لا يكون فيه غيره فلا بأس بدخوله وإن خشي النظر إلى عوراتهم كره له ذلك قال إلمام أحمد إن علمت أن كل من في الحمام عليه إزار فادخله وإلا فلا تدخل وقال أيضا أدخل إذا استترت واستتر منك ولا أظنك تسلم إلا أن تدخل بالليل أو وقتا لا يكون في الحمام أحد

قال القاضي إن كان لا يسلم من ذلك لم يجز له الدخول يعني إذا غلب على ظنه رؤية العورات هذا إذا قام بفرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيها مثل تغيير ما يكون فيها من التماثيل المحرمة وأمر المتعرين بالتستر ونهي القيم عن مس عورات الناس عند تدليكهم فإن لم يقدر أن يغير المنكر بلسانه ولا بيده فلا يدخلها إلا لحاجة كما لو لم يقدر أن يتحرز من النظر إلى العورات كما قلنا ولأن فيها المنكرات والقعود مع قوم يشربون الخمر أو قوم يخوضون في آيات الله أو يغتابون فإن الأمور المحرمة إنما يباح منها ما تدعو إليه حاجة ولهذا حرمت على النساء إلا لحاجة

لأن المرأة كلها عورة ولا يحل لها أن تضع ثيابها في غير بيت زوجها ومتى دخلها لحاجة أو غير حاجة وجب عليه أن يقوم بفرض التغيير إما بيده أو بلسانه والأفضل اجتنابها بكل حال مع الغنى عنها لأنها مما أحدث الناس من رقيق اعيش ولأنها مظنة النظر في الجملة وقد روى أبو سعيد أن النبي ﷺ قال لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي

وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال من كانت تؤمن بالله واليوم الآخر من إناث أمتي فلا تدخل الحمام رواه أحمد وعن جابر عن النبي ﷺ قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدخل الحمام إلا بمئزر رواه النسائي بإسناد صحيح

وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ﷺ قال إنها ستفتح عليكم أرض العجم وستجدون فيها بيوتا يقال لها الحمامات فلا يدخلها الرجال إلا بالأزر وامنعوا النساء إلا مريضة أو في نفساء رواه أبو داود وابن ماجة

وعن عائشة أن رسول الله ﷺ نهى الرجال والنساء عن الحمامات ثم رخص للرجال أو يدخلوها في الميازر رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي وعن عائشة أن نساء من أهل الشام أو من أهل حمص دخلن عليها فقالت أتين اللاتي يدخلن نساؤكن الحمامات سمعت رسول الله ﷺ يقول ما من أمرأة تضع ثيابها في غير بيت زوجها إلا هتكت الستر بينها وبين ربها رواه أبو داود وابن ماجة والترمذي وقال حديث حسن

والحاجة التي نبيحها مع قيام الحاظر المرض والنفاس فإن الحمام يذهب الدرن وينفع البدن وكذلك الحاجة إلى الغسل من جنابة أو حيض أو غيره مع تعذره في المنزل وخشية التضرر به لبرد أو غيره

فصل

وبناء الحمام من الآمر والصانع وبيعه وشراؤه وكراؤه مكروه نص عليه حتى قال من له حمام لا يبيعه على أنه حمام يبيعه على أنه عقار ويهدم الحمام وكره غلته وإن اشترط على المشتري أن لا يدخله أحدا إلا بمئزر إذا كان الشرط لا ينضبط وقال فمن بنى حماما للنساء ليس بعدل لأنه لا يسلم غالبا من المحرمات مثل نظر العورات وكشفها ودخول النساء وهذه الكراهة كراهة تنزيه عند كثير من أصحابنا وقال القاضي لايجوز بناؤها وبيعها وإجارتها كما لم يجز عمل آلة اللهو وبيعها وإجارتها وعمل أواني الذهب والفضة وعمل بيت النار والبيع وهذا ينبغي أن يحمل على بلاد لا يضطرون إلى الحمامات كالحجاز والعراق ومصر فأما البلاد الباردة كالشام والجزيرة وأرمينية وتشاءم عنها وغيرها فإنهم لا يقدرون على الاغتسال في الشتاء إلا في الحمامات ولهذا قال عمر عليكم بالشمس فإنها حمام العرب ولهذا لما ذكر النبي ﷺ أنها ستفتح بلاد العجم وأن فيها بيوتا يقال لها الحمامات لم يأمر بهدمها

وتكره قراءة القرآن فيه نص عليه لما روى ابن بطة بإسناده عن معاوية ابن قرة قال كتب عمر إلى الأشعري أن عندك بيوتا يقال لها الحمامات فلا يقرأ فيها آية من كتاب الله

وبإسناده عن علقمة عن عبد الله بن مسعود في القراءة قال ليس لذلك بني وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه بئس البيت الحمام نزع من أهله الحياء ولا يقرأ فيه القرآن رواه سعيد واحتج به إسحاق ولا بأس بذكر الله فيه لما روى ابن بطه بإسناده عن إبراهيم أن أبا هريرة دخل الحمام فقال لا إله إلا الله وعن بكر بن عبد الله قال دخلت مع عبد الله بن عمر الحمام فضرب يده في الحوض فقال نعمة البيت هذا لمن أراد أن يتذكر وبئس البيت هذا لمن نزع الله منه الحياء

وعن سفيان بن عبد الله قال كانوا يستحبون إذا دخلوا الحمام أن يقولوا يا بر يا رحيم من وقنا عذاب السموم

وأما السلام فيه فقال أحمد لا أعلم أني سمعت فيه شيئا وكرهه أبو حفص والقاضي وابن عقيل لما روى ابن بطة بإسناده عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال ليس في الحمام سلام ولا تسليم

ورخص فيه بعضهم لأنه كالذكر وأولى منه ولأنه أشبه الخلاء من حيث هو مظنة ظهور العورات وصب الأقذار والنجاسات ومحتضر الشياطين

قال العباس بن عبد الرحمن بن مينا قال إبليس يا رب اجعل لي بيوتا قال بيوتك الحمامات رواه ابراهيم الحربي

وفارقه من حيث وجود الإستتار فيه وتطهره من الأوساخ فمنع من القراءة فيه دون الذكر لأنها أعظم حرمة منه ولذلك منعها الجنب وأما ماؤها إذا كان مسخنا بالنجاسة فقد تقدم حكمه وإن كان مسخنا بالطاهر فلا بأس به قال الخلال ثبت عن أصحاب أبي عبد الله يعني في روايتهم عنه أنه يجزىء أن يغتسل به ولا يغتسل منه قال الإمام أحمد رضي الله عنه ماء الحمام عندي طاهر وقال أيضا هو بمنزلة الماء الجاري

وقال أيضا لا بأس بالوضوء من ماء الحمام وقال أيضا يجزؤه ماء الحمام وفي هذا اختلاف

وروى حنبل بإسناده عن ابراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا لا يغتسلون من ماء الحمام وكان أصحاب علي يغتسلون منه قال أبو عبد الله أذهب إلى فعل أصحاب عبد اله وقال في رواية أخرى إذا كان يوقد بالعذرة لا تدخله إلا إذا دخلت فخرجت يكون لك ما تصبه عليك وهذا مبنى على ما تقدم فإنه إذا سخن بالطاهرات وجرى في موضع طاهر فلا وجه للكراهة وإن سخن بالنجاسات مع وثاقة الحاجر بين النار والماء فكلامه هنا يقتضي روايتين لأنه كرهه في رواية وذكر الاختلاف في رواية أخرى واختار الرخصة ومن أصحابنا من يحمل الرخصة على ما إذا كان الوقود طاهرا والكراهة في الوقود النجس ومن كرهه فلكراهته سببان

أحدهما كونه سخن بالنجاسات

والثاني كونه ماء قليلا تقع فيه يد الجنب وذلك مختلف في نجاسته وفي طهوريته وربما كانت اليد نجسة وقد احتاط لذلك فقال يأخذ من الأنبوبة ولا يدخل يده إلا طاهرة وقال أيضا من الناس من يشدد فيه ومنهم من يقول هو بمنزلة الماء الجاري لأنه ينزف ويخرج الأول فالأول وإنما احتاط بذلك لأن من اناس من يجعله كالماء الدائم وذلك يصير مستعملا بوضع الجنب يده فيه في إحدى الروايتين ومن أصحابنا من علل ذلك بخوف نجاسة اليد فأما ما يأخذه من الأنبوبة فإنه جار بلا تردد ومذهبه أن الجميع كالماء الجاري إذا كان فائضا وكذلك المياه التي تجتمع في البرك ونحوها ويغتص من بعض جوانبها وذلك لأن ذلك الماء نزف وكلما خرج شيء ذهب شيء ولهذا لو كان متغيرا بشيء من الطاهرات والنجاسات زال التغير بعد زمان يسير فأشبه الحفائر التي تكون في أثناء الأنهار الصغار والكبار

باب التيمم

التيمم في اللغة القصد يقال يممت الشيء وتيممته وتأممته أي قصدته ومنه قوله تعالى { ولا تيمموا الخبيث } فلما قال سبحانه { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا } خص في عرف الخطاب الشرعي تيمم الصعيد لمسح الوجه واليد وغلب حتى صار المسح نفسه يسمى تيمما وغلب على ألسنة الفقهاء تيمم الصعيد بمعنى تمسحت بالصعيد

والأصل فيه الكتاب بقوله تعالى { فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } في موضعين والسنة المستفيضة وإجماع الأمة وهو مع ذلك من خصائص أمتنا فإن الله لم يجعل التراب طهورا إلا لهذه الأمة

مسألة وصفته أن يضرب بيديه على الأرض الصعيد الطيب ضربة واحدة فيمسح بهما وجهه وكفيه لقول رسول الله ﷺ لعمار إنما يكفيك هكذا وضرب بيديه الأرض فمسح بها وجهه وكفيه وإن تيمم بأكثر من ضربة أو مسح أكثر جاز في هذه المسألة فصول الفصل الأول

أحدها أن التيمم يجزىء بضربة واحدة يمسح بها وجهه وكفيه لأن الله تعالى قال { فامسحوا بوجوهكم وأيديكم } وهذا يحصل بضربة واحدة وتراب واحد فلا يجب أكثر من ذلك ولذلك لما أمكن غسل الفم والأنف بغرفة واحدة ومسح الرأس بماء واحد أجزأ مسح الوجه واليدين بغبار واحد فإذا قيل غبار الضربة الأولى يذهب بمسح الوجه

قلنا إنما يجزىء إذا مسح الوجه ببطون الأصابع يبقى بطن الراحة لليد أو يمسح الوجه بالطبقة الأولى من التراب ويبقى على اليد غبار يمسحها به فإذا لم يبق غبار لزمه ضربة ثانية كما إذا لم يبق ماء للاستنشاق ولا بلل للأذن

واليد المطلقة في الشرع من مفصل الكوع بدليل آية السرقة والمحاربة وقوله ﷺ إذا قام أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده وقوله ﷺ إذا أفضى أحدكم بيده إلى ذكره

ولأن اليد إما أن تكون مشتركة بين المفاصل الثلاثة أو حقيقة في البعض مجازا في البعض أو حقيقة في القدر المشترك فإن كان الأول فوجوب المسح إلى الكوع متيقن وما زاد مشكوك فيه يحتاج إلى دليل وإن كان الثاني فينبغي أن يكون حقيقة في اليد إلى مفصل الكوع لئلا يلزم المجاز في الآيات والأحاديث ولا ينعكس ذلك بأنه لم نعن باليد ما هو إلى مفصل الإبط في خطاب الشرع وإنما فعله الصحابة احتياطا وإن كان الثالث فالقدر المشترك هو إلى الكوع ولأن اليد عند الإطلاق خلافها عند التقييد

فأما أن يراد بها أقصى ما يسمى يدا أو أقل ما يسمى يدا والأول باطل فيتعين الثاني فإن قيل هي مطلقة في التيمم مقيدة في الوضوء فيحمل المطلق على المقيد لأنهما من جنس واحد وهو الطهارة ولأن المطلق بدل المقيد فيحكيه قلنا إن سلمناه فإنما يحمل المطلق على المقيد إذا كان نوعا واحدا كالعتق في الظهار والجماع واليمين على العتق في القتل وكذلك الشهادة المطلقة في قوله تعالى { فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } هي من نوع الشهادة المفسرة في قوله { ممن ترضون من الشهداء } والمسح بالتراب ليس هو من جنس الوضوء بالماء ثم قد اختلفا في القدر فهذا في عضوين وذلك في أربعة وفي الصفة فالوضوء شرع في التثليث وهو مكروه في التيمم والوجه في الوضوء يغسل والأنف منه وباطن الفم وباطن الشعر الخفيف ويخلل وذلك كله يكره في التيمم وهذا البدل مبني على التخفيف فكيف يلحق بما هو مبني على الأسباغ ثم البدل الذي هو مسح الخف والعمامة لم يحك مبدله في الاستيعاب مع أنه بالماء فأن لا يحكيه المسح بالتراب أولى ثم يدل على فساد ذلك أن الصحابة لما تيمموا إلى الآباط لم يفهموا حمل المطلق على المقيد هنا وهم أهل الفهم للسان وقد حقق ذلك ما خرجاه في الصحيحين عن عمار بن ياسر قال أجنبت فلم أصب الماء فتمعكت في الصعيد وصليت فذكرت ذلك للنبي ﷺ فقال إنما يكفيك هكذا وضرب النبي ﷺ بكفيه الأرض ونفخ فيهما ثم مسح بهما وجهه وكفيه وفي لفظ الدارقطني إنما يكفيك أن تضرب بكفيك في التراب ثم تنفخ فيهما ثم تمسح بهما وجهك وكفيك إلى الرسغين

وعن عمار بن ياسر أن النبي ﷺ قال في التيمم ضربة للوجه والكفين رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه

قال أصحابنا والأفضل أن يضرب بيديه الصعيد مفرجة أصابعه ويمسح ظاهر كفه اليمنى بباطن راحته اليسرى بأن يمر الراحة من رؤوس أصابع اليد اليمنى حتى تنتهي إلى الكوع ثم يمسح ظاهر إبهام اليمنى بباطن إبهام اليسرى ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك ويخلل بين الأصابع ولو مسح الوجه بجميع اليدين ثم مسح إحداهما بالأخرى جاز وإن لم يبق عليهما غبار واحتاج إلى ضربة أخرى لأنه لا بد من مسح الوجه واليدين بالصعيد هكذا ذكر طائفة من أصحابنا وهو ظاهر المنقول عن أحمد

قال أبو داود رأيت أحمد علم رجلا التيمم فضرب بيديه على الأرض ضربة خفيفة ثم مسح إحداهما بالأخرى مسحا خفيفا كأنه نفض منهما التراب ثم مسح بهما وجهه مرة ثم مسح كفيه إحداهما بالأخرى

وقال القاضي لا يجوز أن يمسح وجهه بجميع كفيه أنه يصير التراب الذي على راحتيه مستعملا فإذا مسح به ظهر كفيه لم يجزئه وهذا ضعيف لأن المستعمل ما وصل إلى الوجه أما ما يبقى في اليد فليس بمستعمل كما تقدم مثل هذا في الوضوء الفصل الثاني أنه إن تيمم بضربتين أو بأكثر جاز لأن المفروض في القرآن أن يمسح وجهه ويديه من الصعيد وقد حصل كما قلنا في إيصال الطهور إلى أعضاء المتوضىء وكذلك إن مسح بيديه إلى المرفقين إلى ما فوقهما لكن يكره أن يمسح زيادة على المرفقين أو يمسح بثلاث ضربات مع الاكتفاء بما دونهما فأما المسح بضربتين فهذا أفضل عند القاضي وغيره من أصحابنا لوجهين

أحدهما أن ذلك متفق على جوازه وما دونه مختلف فيه خلافا ظاهرا والأخذ بالمتفق عليه أولى من المختف فيه

الثاني أن ذلك قد روى عن النبي ﷺ من حديث أبي الجهيم وعبد الله بن عمر وجابر والأسع قولا وفعلا أن التيمم ضربة للوجه وضربة للذراعين إلى المرفقين رواهن الدارقطني وغيره وروي عن أبي أمامة أيضا وهي وإن ضعفت فقد تعددت طرقها والعمل بالضعاف في الفضائل جائز مع أن عمر كان يتيمم بضربتين والمنصوص عن أحمد أن السنة ضربة واحدة للوجه والكفين قال ومن قال ضربتين فإنما هو شيء زاد من فعله ولا حرج عليه

وقال أيضا إن فعل لا يضره

وهكذا اختيار كثير من أصحابنا كما ذكره الشيخ رحمه الله لأن هو الذي صح عن النبي ﷺ وهو المفسر لكتاب الله والمعبر عنه وسائر الأحاديث الضعيفة لا يجوز إثبات الأحكام والعدول عن السنة الثابتة بمثلها

قال الخلال الأحاديث في ذلك ضعيفة جدا ثم هو قول عليه الصحابة مثل علي وعمار وابن عباس ثم هو أشبه بمعنى الكتاب والسنة كما ذكرنا فإن التمسح بالتراب لا يستحب الزيادة فيه على قدر الكفاية بدليل أنه لا يسن إطالة الغرة فيه ولا تخليل اللحية ولا الزيادة على المرة منه وأيضا فإن ما أمكن جمعهما بماء واحد في الوضوء فهو أفضل من مائين كالفم والأنف والرأس والأذن أنه أقرب إلى القصد وأبعد عن السرف فما أمكن جمعهما بتراب واحد أولى وإذا كان من فقه الرجل قلة ولوعه بالماء فقلة ولوعه بالتراب أولى وأيضا فإن التمسح بالتراب في الأصل مكروه لأنه ملوث مغبر بخلاف الماء وإنما استثني منه مورد العبادة فالزيادة على الكفاية لا مقتضى له نعم أجزنا الضربتين في الجملة كما أجزنا الغرفتين والمائين في الوضوء لأن الضربتين مظنة الاحتياج إليهما إذ قد لا يكفي التراب الواحد ولا يمكن به وأجزنا المسح إلى المرفق لأنه في الجملة محل الطهارة مع ما جاء فيه عن ابن عمر وغيره وهذا القدر يفيد الجواز لا الفضيلة وأما الخروج من اختلاف العلماء فإنما يفعل احتياطا إذا لم تعرف السنة ولم يتبين الحق لأن من اتقى الشبهات استبرأ عرضه ودينه فإذا زالت الشبهة وتبينت السنة فلا معنى لمطلب الخروج من الخلاف ولهذا كان الإيتار بثلاث مفصولة أولى من الموصولة مع الخلاف في جوازهما من غير عكس والعقيقة مستحبة أو واجبة مع الخلاف في كراهتها وإشعار الهدي سنة مع الخلاف في كراهته والإجماع على جواز تركه وفسخ الحج إلى العمرة من يريد التمتع أولى من البقاء عليه اتباعا لأمر رسول الله ﷺ مع الخلاف الشائع في جواز ذلك وإعطاء صدقة الفطر لمسكين واحد أفضل مع الخلاف في جوازه وترك القراءة للمأموم في صلاة الجهر أفضل بل قراءتها له مكروهة على المشهور مع الخلاف في الأجزاء وتفريق قيمة صدقته بنفسه أفضل مع الخلاف في جوازه في الأحوال الظاهرة وأمثال ذلك كثيرة

وأما الأحاديث المأثورة فهي ضعيفة على ما هو مبين في موضعه والعمل بالضعاف إنما يشرع في عمل قد علم أنه مشروع في الجملة فإذا رغب فيه في بعض أنواعه لحديث ضعيف عمل به أما إثبات سنة فلا ثم إن صحت هذه الأحاديث فإنما تفيد الجواز فقط إذ أقصى ما في الباب أن كلا الصورتين قد صحت عن النبي ﷺ وما كان أقرب إلى القصد فهو أفضل في هذا الباب كما تقدم ولعله ﷺ إنما قصد بذلك نفي شرع الزيادة على المرفق فإن اليد لما كانت مطقة وقد توهم أن مسحها إلى الإبط مشروع بين أن أقصى ما يمسح منها إلى المرفق وأن محل التيمم لا يزيد على الوضوء ولعل ذلك كان في أول ما شرع التيمم ففي حديث عمار بن ياسر أن رسول الله ﷺ نزل بأولات الجيش ومعه عائشة زوجه فانقطع عقد لها من جزع ظفار فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء فأنزل الله تعالى على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب فقام المسلمون مع رسول الله ﷺ فضربوا بأيديهم الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئا فمسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب ومن بطون أيديهم إلى الاباط رواه أحمد وأبو داود والنسائي فأما لا ينهى عنه أو يكونوا فعلوه بأمره ثم نسخ إلى الكوع إلا أن يكونوا فعلوا ذلك بغير أمره فنهاهم عما يقبل النهي وهو الزيادة على الوضوء الجائز

يؤيد ذلك ما روى عن ابن ماجة عن عبيد الله بن عتبة عن عمار بن ياسر حين تيمموا مع رسول الله ﷺ قال فأمر المسلمين فضربوا بأكفهم التراب ولم يقبضوا من التراب شيئا فمسحوا بوجوههم مسحة واحدة ثم عادوا فضربوا بأكفهم الصعيد مرة أخرى فضربوا بأيديهم

ثم بعد ذلك جاء حديث عمار الذي ذكرناه لأنه اعتقد أن التراب يوصل إلى محل الماء وأن الذي عملوه أولا هو تيمم المحدث وأن تيمم الجنب يعم البدن كما يعمه الماء فتمعك بالتراب فبين له النبي ﷺ صفة التيمم وكان ذلك آخر الأمرين وبه كان يقول عمار بعد وفاة النبي ﷺ وإذا تيمم بالضربتين فالأفضل أن يمسح بالضربة الأولى جميع وجهه به الذي يجب غسله في الوضوء ومما لا يشق وبالثانية يديه إلى المرفقين فيضع بطون أصابع يده اليسرى على ظهر أصابع يده اليمنى ويمرها إلى ظهر الكف فإذا بلغ إلى الكوع قبض بأطراف أصابعه على حرف الذراع ويمرها إلى مرفقه ثم يدير بطن ذراعه ويمره عليه ويرفع الإبهام فإذ بلغ الكوع أمر الإبهام على ظهر إبهام يده اليمنى ثم يمسح اليسرى باليمنى كذلك يسمح إحدى الراحتين بالأخرى ويخلل الأصابع والأقطع من الكوع يسمح بالتراب موضع القطع في المنصوص من الوجهين كالوضوء وإن كانت مقطوعة من الذراع مسح موضع القطع أيضا نص عليه

قال القاضي يستحب ذلك لأنه موضع الأسباغ في الوضوء الفصل الثالث أنه يجب استيعاب محل الفرض لقوله تعالى { بوجوهكم وأيديكم } ولقول النبي ﷺ فتمسح بها وجهك وكفيك

وهذا يزيح ما لعله يتوهم في الباء من تبعيض فأما ما يشق إيصال التراب إليه كباطن الشعور الخفيفة والكثيفة فلا لما فيه من المشقة ولأن الواجب ضربة أو بعض ضربة للوجه وبذلك لا يصل التراب إلى أثناء الشعر

ويجب عليه أن ينقل الصعيد إلى الوجه واليد فإن نسفته الريح بغير قصد العبادة على وجهه ويديه ثم نوى ومسح وجهه بما عليه ويديه بما عليهما لم يجزئه بخلاف مسح الرأس على إحدى الروايتين لأن الله تعالى أمره أن يقصد الصعيد وأن يمسح به ولم يأمره في الوضوء إلا بالمسح فإن نقل ما على الوجه إلى اليد أو بالعكس جاز لأنه تيمم الصعيد ومسح به وسواء نقله بيده أو بخرقة في أقوى الوجهين كما لو نقله غيره بإذنه فإن صمد للريح حتى نسفته كان نقلا في أقوى الوجهين لأنه بقصده انتقل

ثم هل يجب عليه أن يمسحه بيده أو غيرها فيه وجهان

أحدهما يجب اختاره الشريف أبو جعفر وغيره لأنه أوصل الطهور إلى محله كما لو تمرغ في التراب كما فعل عمار

والثاني لا يجوز وهو أشبه بما رجحوه في الوضوء لأنه لا يسمى مسحا وكذلك لو وضع يده المغبرة على وجهه من غير إمرار أو ذرى التراب على وجهه وأما التمرغ فإنما يجزىء به في المشهور لأنه مسح إذ لا فرق بين إمرار محل التراب على الوجه أو إمرار اوجه على محل التراب ولو وضع يده على التراب فعلق بها من غير ضرب جاز

والترتيب والموالاة واجبان في التيمم كالوضوء عند جماهير أصحابنا قال أحمد يبدأ بالوجه ثم الكفين في التيمم ومنهم من قال لا يجب هنا وإن أوجبناه في الوضوء لأن التيمم بضربة واحدة جائز وإذا مسح وجهه بباطن أصابعه لم يجب عليه أن يمسحه بعد وجهه بل لو مسح وجهه بجميع باطن يديه وبقي به غبار يكفي لظاهرهما لم يعد مسح الباطن بعد الوجه صرح به جماعة من أصحابنا فقد سقط الترتيب في اليد فكذلك في ظاهرها

ووجهه المشهور أن الترتيب سقط في باطن اليد ضرورة فإنا إن أوجبنا مسحه مرتين كان خلاف قاعدة التيمم فيجب من الترتيب ما يمكن لقوله ? < إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم > ? ولأن مسح باطن اليد لما حصل تبعا لمسح الوجه سقط الترتيب كما سقط عن أعضاء الوضوء إذا أدخلت في الغسل تبعا على أن قول بعض أصحابنا يقتضي الترتيب مطلقا في جميع على ظاهر الآية والحديث فأما الترتيب عن الجنابة فقال القاضي أبو الحسين يجب فيه الترتيب هنا اعتبارا بأصله ولأن عمارا لما تمعك م يؤمر بإعادة الصلاة ولأنه ﷺ قال له إنما يكفيك أن تقو بيديك هكذا ثم ضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ثم مسح الشمال على اليمين وظاهر كفيه ووجهه رواه مسلم

وفي لفظ ثم مسح كل واحدة منهما بصاحبتها ثم بهما وجهه رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح

مسألة وله شروط أربعة أحدها العجز عن استعمال الماء لعدمه أو خوف الضرر باستعماله لمرض أو برد شديد أو خوف العطش على نفسه أو ماله أو رفيقه أو خوف على نفسه أو ماله في طلبه أو اعوازه إلا بثمن كثير في هذا الكلام فصول

الفصل الأول أحدها أن التيمم إنما يجوز إذا لم يكن استعمال الماء إما لعدمه حقيقة أو حكما وإما لضرر باستعماله والأصل في ذلك قوله تعالى { وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا } فذكر المريض والمسافر العادم فهما أغلب الأعذار وألحق المسافر المحبوس في مصر ونحوه ممن عدم الماء والمريض مثل المجدور والمجروح ممن يتضرر باستعمال الماء وفي معناه من يخاف البرد وأما من يقدر على استعمال الماء لكن لا يقدر عى تحصيله إلا بضرر في نفسه أو ماله كمن بينه وبين الماء سبع أو حريق أو فساق فقد ألحق بالمريض لأنه واجد للماء وإنما يخاف الضرر وربما ألحق بالعادم لأنه لا يخاف الضرر بنفس الاستعمال وإنما يخاف التضرر في تحصيله فصار كالعادم عن تحصيله لا عن استعماله وهذا أحسن فأما من لا ضرر عليه في استعماه وهو واجد له فلا يجوز له التيمم سواء خشي فوت الوقت للصلاة أو لم يخشه إذا كان في الحضر لأنه واجد للماء ولأنه الوقت الذي يجب فيه أداء الصلاة هو الوقت الذي يمكن فيه فعلها بشروطها إلا الجنازة في إحدى الروايتين لأن ابن عمر فعل ذلك وجاء الإذن فيه عن ابن عباس موقوفا ومرفوعا رواهما الدارقطني

ولأنه تيمم لما يكثر ويخاف فوته غالبا فأشبه رد امسلم عليه كما فعله النبي ﷺ في حديث أبي جهيم وحديث المهاجر بن قنفذ والأخرى لا يتيمم لها كغيرها وهي المنصورة وأما العيد فلا يتيمم للعيد لأنه يمكن التأهب له قبل الذهاب

وأما ما يستحب له الوضوء كرد السلام ونحوه إذا خشي فوته إن توضأ فإنه يتيمم له لأن النبي ﷺ فعل ذلك الفصل الثاني

أن العاجز عن استعمال الماء لعدمه قسمان

أحدهما إما يعدم فيه الماء كثيرا وهو السفر

والثاني ما يندر فيه عدم الماء فأما المسافر فيتيمم في قصير السفر وطويله في المشهور من المذهب ولا إعادة عليه لقوله تعالى { أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا }

وسواء كان السفر إلى قرية أخرى أو أرض من أعمال مصره كالحراث والحصاد والحطاب وأشباههم إذا حضرت الصلاة ولاماء معه ولا يمكنه الرجوع إلى المصر إلا بتفويت حاجته وفيه وجه إنه يعيد لأنه في عمل مصره بخلاف من كان في عمل قرية أخرى وسواء أمكنه حمل الماء لوضوئه أو لم يمكنه لأن الاستعداد للوضوء قب وجوبه لا يجب وعنه إنما ذلك إذا لم يمكنه حمل الماء فإن أمكنه حمل ماء لوضوئه وجب عليه ولم يجز له التيمم وسواء كان سفر طاعة أو معصية لأنه عزيمة ولأن التيمم لا يختص بالسفر بل يجب حضرا وسفرا ويخرج أن يجب عليه الإعاددة في سفر المعصية لأن التيمم رخصة من حيث عدم وجوب القضاء عزيمة من حيث وجوب فعل الصلاة فيجمع بين العزيمة ووجوب القضاء المتبقي بسبب الرخصة وهذا يشبه ما إذا عدم الماء بعد الوقت فإنه عدمه بسبب محرم الثاني كالمحبوس في المصر وأهل بلد قطع الماء عدوهم فهذا يصلي بالتيمم وعنه لا يصي حتى يجد الماء أو يسافر اختارها الخلال لأن الله إنما أذن في التيمم للمسافر والصحيح الأول لما روى أبو ذر أن رسول الله ﷺ قال الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشرسنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير رواه أحمد والترمذي وصححه

ولأنه عادم للماء فاشبه المسافر وإنما خص بالذكر لأنه إنما يعدم غالبا فيه والمنطوق إذا خرج على الغالب لم يكن له مفهوم مراد وإذا صلى لم يعد في المشهور من المذهب ومن قال يعيد في الأعذار النادرة مثل عدم الماء والتراب ومن خشي البرد فتيمم قال يعيد هنا لأن القياس يقتضي أن من أخل بشرط من شروط الصلاة أعاد إذا قدر عليه إلا أنه عفي عنه فيما يكثر ويشق كما قلنا إن الحائض تقضي الصوم لأنه لا يتكرر ولا تقضي الصلاة لأنها تتكرر ولأن الصلاة المفعولة على وجه الخلل غير مبرئة للذمة في الأصل وإنما فعلت إقامة لوظيفة الوقت والصحيح الأول لأن الله إنما خاطب بصلاة واحدة يفعلها بحسب الإمكان والشرط المعجوز عنه ساقط بالعجز وفي قوله ? < الصعيد الطيب طهور المسلم > ? وقوله ? < التراب كافيك > ? دليل على أنه يقوم مقام الماء مطقا

فصل

ولا يكون عادما حتى يطلب الماء بعد دخول الوقت في رحه ورفقته وما قرب منه وعنه لا يجب طلبه إلا إذا غلب على ظنه وجوده أو رأى أمارات وجوده بأن يرى خضرة أو حفرة أو ركبا أو طيرا يتساقط عى مكان لأنه عادم لماء فجاز له التيمم كما لو طلب ولأن الأصل عدم طلب الماء ولا أمارة تزيل حكم الأصل فوجب العمل به كاستصحاب الحال والمشهور أنه يجب الطلب إذا رجا وجود الماء فإن تيقن أن لا ماء فلا يجب الطلب قولا واحدا لأن الله تعالى قال { فلم تجدوا ماء } ولا ينفي عنه الوجود إلا بعد سابقه الطلب كما في قوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج } وقوله { فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } ولأن التيمم بدل عن غيره مشروط بعدمه فلم يجز إلا بعد الطلب كالصيام الذي هو بدل عن الرقبة وعن الهدي وعن التكفير بالمال والقياس الذي هو بدل عن النص والميت الذي هو بدل عن المذكى ولأن البدل في مثل هذا إنما أبيح للضرورة وإنما تستيقن الضرورة بعد الطلب وصفته أن يفتش على الماء في رحله ويسأل رفقته عن موارده أو عن ما معهم ليبيعوه أو يبذلوه

قال القاضي سواء قالوا لو سألتنا أعطيناك أو منعناك وفي إلزامه سؤالهم البد نظر ويسعى أمامه ووراءه وعن يمينه وعن شماله إلى حيث جرت عادة السفار بالسعي إليه لطلب الماء والمرعى هكذا قال بعض أصحابنا وقال القاضي لا يلزمه المشي في طلبه وعدوله عن طريقه لأنه ليس في تقدير ما يلزمه من المشي توقيف يرجع إليه وليس الميل بأولى من الميلين واحتج إسحاق على ذلك بأن ابن عمر لم يكن يعدل إلى الماء وهو منه غلوة أو غلوتين

وحمل القاضي قول أحمد وقد قيل له وعلى كم يطلب الماء فقال إن لم يصرفه عن وجهه نراه الميل والميلين وإن استدل عليه الميلان والثلاثة فلا يطلبه

وهذا في السائر فأما النازل فلا تردد أنه يلزمه المشي في طلبه وإذا رأى بشرا أو حائطا قصد ذلك وطلب الماء عنده فإذا لم يجد الماء حينئذ ظهر عجزه

قال القاضي وابن عقيل وغيرهما من أصحابنا وا يعتد بطلبه قبل الوقت بل يلزمه إعادة الطلب في وقت كل صلاة لأن طلب اماء شرط لصحة التيمم فلا يصح في وقت لا يصح فيه التيمم لأنه في وقت كل صلاة مخاطب بقوله { فلم تجدوا ماء } وذلك لا يلزمه إلا بعد الطلب وهذا إنما يكون مع الطمع بحصول الماء فأما مع اليأس فلا وإذا كان معه ماء فاراقه قبل الوقت صلى بالتيمم لأنه لم يكن وجب عليه الوضوء نص عليه وإن أراقه بعد دخول الوقت أو مر بما في الوقت فلم يتوضأ مع أنه لا يرجو وجود ماء آخر فقد عصى بذلك فيتيمم ويصلي ويعيد في أحد الوجهين لأنه فرط بترك المأمور به ولا يعيد في الآخر كما لو كسر ساقه فعجز عن القيام أو حرق ثوبه فصار عاريا وكذلك لو وهبه بعد دخول الوقت أو باعه لم يصح في أشهر الوجهين لأنه قد تعين صرفه في الطهارة ولا يصح تيممه إلا أن يكون بعد استهلاكه ففيه الوجهان وإذا نسي الماء في رحله وصلى بالتيمم لزمه الإعادة وكذلك إن جهله بموضع ينسب فيه إلى التفريط مثل أن يكون بقربه بئر أعلامه ظاهرة لأنه شرط فعلي يتقدم الصلاة فلم يسقط بالنسيان كالسترة فلأنه تطهير واجب فلم يسقط بالسيان كما لو نسي بعض أعضائه أو انقضت مدة المسح ولم يشعر وهذا لأن النسيان والجهل إذا كان عن تفريط فإنه قادر على الاحتراز منه في الجملة ولهذا يقال لا تنسى وإن أضل راحلته أو أضل بئرا كان يعرفها ثم وجدها فلا إعادة عليه وقيل يعيد وقيل يعيد في ضلال البئر لأن مكانها واحد وإن كان الماء مع عبده أو وضعه في رحله من حيث لا يشعر أعاد في أقوى الوجهين الفصل الثالث

إذا كان واجد الماء يخاف إن استعمله أن يعطش هو أو أحد من رفقته أو بهائمه أو بهائم رفقته المحترمة فإنه يتيمم

قال الإمام أحمد رضي الله عنه عدة من أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يتيممون ويحبسون الماء لشفاههم

فأما البهائم التي يشرع قتلها كالخنزير والكلب الأسود والبهيم والكلب العقور فلا يحبس لها الماء ثم إن كان هو العطشان أو يخاف العطش على نفسه أو بهائمه أو من يلزمه نفقته وجب تقديم الشرب لأنه من الحوائج الأصلية الواجبة فتقدم على العبادات كما تقدم نفقة النفس والأقارب المتعينة على الحج وإن كان العطشان رفقته أو بهائمه فالأفضل حبس الماء لهم وهو واجب في أحد الوجهين اختاره الشريف أبو جعفر وابن عقيل وغيرهما وفي الآخر لا يجب قاله أبو بكر والقاضي لأنه محتاج إليه وقد قال أحمد إذا كان معه إداواة فيها ماء فرأى عطاشا فأحب إلي أن يسقيهم ويتيمم

وقد صرح القاضي بأن ذلك لا يجب إلا إن خيف عليهم التلف والصواب أن يحمل كلام أحمد وأبي بكر على عطش لا يخاف معه التلف وقيل إنما الوجهان فيما إذا خيف أو يعطشوا فأما العطش الحاضر فيجب تقديم سقيهم له وجها واحدا ولا فرق بين أن يكون هو العطشان أو لخوف عطش رفيقه المزامل أو أحد من أهل القافلة أو من غيرهم لأن ذلك إنما كان لحرمة الآدميين والبهائم وهي لا تختلف بالمرافقة وعدمها وكذلك البهائم المباحة المحترمة فإن في ساقيها أجرا وثوابا ولو كان معه ماء ان نجس وطاهر وهو عطشان شرب الطاهر وتيمم ولم يشرب النجس فإن خاف العطش فهل يتوضأ بالطاهر ويحبس النجس أو يتيمم ويحبس الطاهر على وجهين الفصل الرابع

إذا كان يخاف على نفسه أو ماله في طلبه بأن يكون بينه وبين الماء عدو أو سبع يخاف أنه إن طلبه انقطع عن رفقته أو ضياع أهله أو ماله أو شرود دوابه جاز له التيمم إذا كان للخوف سبب مظنون وإن لم يعلم وجوده فأما إن كان جنبا لزمه الوضوء ولو رأى سوادا فظنه عدوا أو سبعا فتيمم وصلى ثم تبين بخلافه فلا إعادة في أقوى الوجهين لكثرة البلوى بذلك بخلاف صلاة الخوف فإن لم ير شيئا وقد دله على الماء ثقة لزمه طلبه قولا واحدا كما لو تيقنه لأن الماء غلب هنا الظن وجوده ثم لا يخلو إما أن يكون المكان قريبا أو بعيدا أو على التقديرين فأما أن يمكنه الوضوء منه والصلاة في الوقت وقت الاختيار أو يخاف إن طلبه أن يفوت الوقت فأما إن كان قريبا ويمكنه الصلاة به في الوقت لزمه قصده قولا واحدا وإن كان بعيدا يخشى إن طلبه يفوت الوقت لم يجب عليه طلبه ولم يجز له تأخير الصلاة حتى تفوت قولا واحدا وإن كان بعيدا لا يمكنه الصلاة به في الوقت من غير ضرر ولا مشقة كثيرة بأن يكون في طريقه أو مقصده وجب قصده أيضا في إحدى الروايتين لأنه قادر على تأدية فرضه بالماء في الوقت من غير ضرر فأشبه القريب

والرواية الثانية لا يجب قصده ولا تأخير الصلاة بل يصلي بالتيمم هذا هو المشهور في المذهب لما احتج به الإمام أحمد عن ابن عمر أنه تيمم على رأس ميل أو ميلين من المدينة فصلى العصر فقدم والشمس مرتفعة فلم يعد الصلاة وعنه أيضا أنه تيمم بمربد النعم وهو على ثلاثة أميال من المدينة والشمس مرتفعة فلم يعد رواهما الدارقطني ورواه مرفوعا أيضا ولأنه به حاجة إلى تعجيل الصلاة في أول الوقت لبراءة ذمته فلم يجب عليه تأخيرها وطرد ذلك أن يقال فيمن عجز عن بعض الشرائط والأركان في أول الوقت وعلم أنه يقدر عليه في آخره أن له أن يصلي بحسب حاله ولأن سبب الرخصة قائم في الحال فيثبت به وإن تيقن زواله في الحال كالقصر في سفر يعلم أنه يقدم منه قبل خروج الوقت

وإن كان الماء قريبا يخاف فوت الوقت إن قصده أو تشاغل بالوضوء أو كان الواردون عليه كثيرا لا تنتهي إليه النوبة حتى يخرج الوقت أو كان في بئر إن اشتغل بالاستقاء ونحوه خرج الوقت تيمم في أحد الوجهين لأن فرضه كان هو التيمم ولم يجد الماء على وجه يمكنه الصلاة به في الوقت فاستمر حكم العدم في حقه كما لو علم أنه لا يجده إلا بعد خروج الوقت وإن كان الوضوء في الوقت لا أثر له لأن الوقت للصلاة والوجه الثاني يشتغل بأسباب الوضوء وإن فات الوقت كما لو كان في الحضر وإذا خشي دخول وقت الضرورة فهو كما لو خشي خروج الوقت بالكلية لأنه لا يجوز التأخير إليه إلا لعذر فإن أمكنه الوضوء في الوقت فأخر ذلك عمدا حتى خشي الفوات فهو كالحاضر لأن فرضه كان هو الوضوء وهل حد القريب الذي يجب قصد مائة ما يتردد المسافر إليه للرعي أو للاحتكار عادة أو الفرسخ فما دونه كالجمعة أو الميل فما دونه على ثلاثة أوجه الفصل الخامس

إذا أعوزه إلا بثمن كثير وجملة أنه إذا بذل له الماء لطهارته لزمه قبوله لأنه قادر عليه ولا منه عليه لذلك في عرف الناس بخلاف ما إذا بذل له ثمن الماء أو بذلت له الاستطاعة في الحج وهو وإن كان ذا ثمن في المفاوز وأوقات الضرورة فإنما ذلك لمن يحتاجه للشرب إذ لا بد له في الشرب فأما للطهارة فلا ضرورة بأحد إليه لقيام التراب مقامه ولذلك إذا وجد من يبيعه إياه بثمن في تلك البقعة أو مثلها في غالب الأوقات ووجد ثمنه فاضلا عما يحتاج إليه في نفقته وقضاء ديونه ونحو ذلك فإنه يلزمه شراؤه كما يلزمه شراء السترة للصلاة والرقبة للكفارة والهدي للتمتع وكذلك إن زيد على ما يتغابن به الناس بمثله زيادة يسيره لا تجحف بماله فإن كانت تجحفه م يلزمه شراؤه وكذلك إن كانت كثيرة لا تجحف بماله في أحد الوجهين وذكرها القاضي على الروايتين وفي الأخرى يلزمه شراؤه وإن كان ثمنه كثيرا إذا لم يضر ذلك بماله كما يجب بذل ثمن المثل وهذا معنى قول الشيخ رحمه الله تعالى إلا بثمن كثير فإن الكثير هو المجحف والذي يزيد على غبن العادة زيادة كثيرة وكذلك الحكم في شراء الهدي والرقبة والسترة وآلات الحج ونحو ذلك مما يجب صرفه في العبادات فإن وجد الثمن في بلده ووجد من يبيعه في الذمة لزمه شراؤه عند القاضي كما يلزمه شراء الرقبة في الكفارة لذلك ولم يلزمه عند أبي الحسن الآمدي وغيره كالمتمتع إذا عدم الهدي في موضعه دون بلده لأن فرضها متعلق بالوقت بخلاف المكفر الفصل السادس

إذا كان مريضا مثل المجذور والجريح وغيرهما وخاف إن استعمل الماء تضرر انتقل إلى التيمم للآية والحديث صاحب الشجة والخوف المبيح أن يخشى التلف في رواية لأن ما دون ذلك يجوز الصبر عليه لغرض صحيح كالفصد والحجامة

وظاهر المذهب أنه متى خشي زيادة المرض بالألم ونحوه أو تباطؤ البرء إن استعمل الماء جاز له التيمم لأن مثله يجوز له الفطر في رمضان وترك القيام في الصلاة والطيب للناسي والحلق في الإحرام فجاز له ترك الوضوء بالماء وأولى وذلك لأن المريض متى زادت صفته أو مدته كانت تلك الزيادة بمنزلة مرض مبتدىء ولا تجب عبادة يخاف منها المريض ثم إن كان المخوف هو التلف كفى فيه الظن كما قلنا في السبع ونحوه وإن خيف المرض فلا بد أن يغلب على الظن تضرره باستعمال الماء إما بقبول الطبيب أو نحوه فأما مجرد الاحتمال أو يمكن تلافيه فلا يلتفت إليه وكذلك إن كان المرض لا يضره كالصداع والحمى التي يستعمل لها الماء البارد أو الحار ونحو ذلك لأنه إذا أمكنه استعمال الماء البارد أو الحار كان كالصحيح فإن لم يمكنه ذلك بأن يكون عاجزا عن الحركة إلى الماء وليس له من يناوله فهو كالعادم لكن ينبغي أن يكون بمنزلة من عدم الماء في الحضر وإن كان له من يناوله في الوقت فهو واجده وهنا بدل عن المتروك غسله وهي أشياء مترتبة ويجب عليه أن يغسل الصحيح من أعضائه مع التيمم لكل صلاة لتحصل الموالاة بين الوضوء لأن الترتيب واجب في غسل الموضع الجريح فكذلك في بدله لأن البدل يقوم مقام المبدل هذا اختيار القاضي وابن عقيل كالواجد وكذلك إن خشي خروج الوقت قبل مجيء المنازل في المشهور وقيل ينتظر في المنازل وإن خرج

الفصل السابع

إذا خاف من شدة البرد فإنه يتيمم ويصلي لما روى عمرو بن العاص قال احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد في غزوة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح فلما قدمنا على رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له فقال يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب قلت ذكرت قول الله تعالى { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما } فضحك رسول الله ﷺ فلم يقل شيئا رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وذكره البخاري تعليقا

وعن ابن عباس أن رجلا في عهد النبي ﷺ احتلم في برد شديد فاستفتى فأفتي أن يغتسل فمات فبلغ النبي ﷺ فقال قتلوه قتلهم الله إنما شفاء العي سؤال رواه حرب ولأنه إذا خاف المرض باستعمال الماء فهو كما لو خاف زيادته وأولى والمخوف هنا إما التلف وإما المرض على ما تقدم

فأما نفي التألم بالبرد فلا أثر لأن زمن ذلك يسير وإسباغ الوضوء على المكاره مما يكفر الله به الخطايا ومتى أمكنه تسخين الماء واشتراؤه بثمن المثل كما تقدم أو الدخول إلى الحمام بالأجرة لزمه ذلك لأن قدرته على الماء الحار كقدرة المسافر على الماء المطلق وكذلك إن وجد من يقرضه أو يبيعه أو يكريه بثمن في الذمة وله ما يوفيه بعد خروج الوقت لأن زمن ذلك يسير بخلاف المسافر في أحد الوجهين لأن المدة تطول ويخاف تلف المال وبقاء الذمة مشغولة وكذلك إن أمكنه أن يغتسل عضوا عضوا وكلما غسل شيئا ستره وإذا صلى بالتيمم لخشية البرد فلا إعادة في ظاهر المذهب

وعنه يعيد لإنه عذر نادر غير متصل وعنه يعيد في الحضر دون السفر لأن الحضر مظنه دفع البرد بالأكنان والمياه الفاترة فالندرة فيه محققة بخلاف السفر فإنه يكثر فيه البرد خصوصا في البلاد الباردة وحديثا عمرو وابن عباس حجة على الإعادة فإنه لم يعد ولم يأمره النبي ﷺ بالإعادة ولا لأحد صلى خلفه وقد أقره على تعليله بخشية الضرر وهي علة تجمع المقيم والمسافر ولأنه فعل العبادة بحسب قدرته فلم يلزمه الإعادة كالمريض والمسافر والفرق بين العذر النادر والغالب فيما رجع إلى الإخلال بصفات العباد لا دليل عليه وإنما فرق بين الصوم والصلاة في الحيض لأن الحائض تركت الصوم بالكلية وهؤلاء قد فعلوا المفروض في اوقت فإذا وجب قضاؤه لزمهم فعل العبادة مرتين ولا أصل لذلك يقاس عليه ثم إن الحائض يجب عليها صوم واحد في وقت القضاء وهؤلاء يجب عليهم القضاء مع الفريضة في الوقت الثاني فهم بقضاء الحائض للصلاة أشبه ومتى أوجبنا عليه الإعادة فالثانية في فرضه والأولى نافلة ذكره القاضي بخلاف ما لو لم تجب عليه الإعادة كالمعادة مع إمام الحي فإن الفرض قد سقط هناك بالأولى وإنما يكون حكم الأولى نافلة عند براءة ذمته بالإعادة ويتوجه أن يكون كل منهما فرضا وإنما وجب عليه صلاتان لاشتمال كل واحدة على نوع من النقص ينجبر بالأخرى مسأله

فإن أمكنه استعماله في بعض بدنه أو وجد ماء لا يكفيه لبعض طهارته استعمله وتيمم للباقي هنا مسألتان

إحداهما إذا أمكنه استعمله في بعض بدنه مثل أن يكون بعضه صحيحا وبعضه جريحا أو يمكن الذي يخاف البرد كأن يتوضأ ويغسل مغابنه وشبه ذلك فيلزمه غسل ما يقدر عليه في الطهارتين الصغرى والكبرى لحديث صاحب الشجة حيث قال له النبي ﷺ إنما كان يكفيه أن يتيمم ويعصر أو يعصب على جرحه خرقة ثم يمسح عليها ويغسل سائر جسده

وفي حديث عمرو أنه غسل مغابنه وتوضأ وضوءه للصلاة ثم صلى بهم وذلك لأن الله تعالى يقول { فاتقوا الله ما استطعتم } وقال النبي ﷺ إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وهذا يستطيع التطهر بالماء في بعض بدنه فيلزمه ويكون التيمم عما لم يصبه الماء ومثل ذلك مثل من غسل أكثر أعضائه ثم انقلب ماء طهارته فإنه يتيمم له هذا إذا لم يكن غسل بقية البدن ولا مسحه فإن أمكن مسحه دون غسله فعنه يلزمه المسح لأنه بعض المأمور به فيلزمه والتيمم بدلا عن تمام الغسل وعنه يلزمه المسح فقط لأنه أقرب إلى معنى الغسل ولأنه كان عليه حائل أجزأه مسحه فمسح البشرة أولى وعنه يلزمه التيمم فقط لأن الفرض هو الغسل وقد عجز عنه فينتقل إلى بدله وهذا اختيار القاضي وغيره من أصحابنا فإن كان الجرح نجسا أو عليه لصوق أو عصابه أو جبيره فقد تقدم حكمها الثانية إذا وجد ما لا يكفيه لجميع طهارته فإنه يستعمله ويتيمم لما لم يصبه الماء في الغسل والوضوء في أحد الوجهين وفي الآخر وهو قول أبي بكر يستعمل الجنب ما وجد دون المحدث لأن الجنب يرتفع حدثه عما غسله وإذا وجد بعد ذلك ماء غسل بقية بدنه لأن الموالاة لا تجب في الغسل بخلاف المحدث فإن الموالاة واجبة في الوضوء فلا يستفيد بغسل البعض فائدة ولهذا شرع في الجماع غسل بعض بدن الجنب عند النوم والأكل والجماع ولم يشرع غسل بعض أعضاء المحدث والأول قول أكثر أصحابنا لما تقدم في التي قبلها ولأنه من شروط الصلاة فالعجز عن بعضه لا يسقط الممكن منه كالسترة وغسل النجاسة ونقضوا التعليل بالموالاة بما إذا كان بعض أعضائه جريحا وكمن بخس بعض الفاتحة ثم قد يمكن الموالاة إذا وجد ماء قبل جفاف الأعضاء ثم عجز عن الموالاة إذا أسقطها لم تسقط ما هي شرط له وهو الغسل كشرائط غيرها

فصل

وإذا كان الماء الذي وجده الجنب يكفي أعضاء الوضوء غسلها به ناويا عن الحدثين فتحصل له الطهارة الصغرى وبعض الكبرى كما فعل عمرو وكما أمر به النائم والآكل وإذا وجد ما لا يكفيه لم يتيمم حتى يستعمل الماء ليتحقق العدم الذي هو شرط التيمم ويتميز المغسول عن غيره ليعلم ما يتيمم له وإن كان بعض أعضائه جريحا أو مريضا فله أن يبدأ إن شاء بالغسل وإن شاء بالتيمم في الحدث الأكبر لأن الترتيب بين أعضاء الجنب لا يجب في طهارته بالماء فأن لا يجب بين الماء والتراب أولى وله أن يفصل بين التيمم والغسلة بزمن طويل كما في أصل الغسلة وإن كان في الحدث الأصغر ففيه وجهان أحدهما يجب الترتيب والموالاة بين التيمم وما يفعله من الوضوء كما يجب في نفس الوضوء فإذا كان الجرح في وجهه بدأ بالتيمم ثم غسل بقية الوجه وما بعده وإن شاء غسل الممكن من الوجه ثم يتمم ثم غسل بقية الأعضاء وإن كانت الجروح في الأعضاء كلها تيمم لكل عضو حين يشرع في غسله فإن تيمم لها تيمما واحدا كان بمنزلة غسلها جملة واحدة وذلك لا يجوز بخلاف ما لو تيمم عن جملة الوضوء فإن التيمم هناك بدل عن جملة الوضوء وهو طهارة واحدة وهنا هو بدل عن المتروك غسله وهو أشياء مرتبة ويجب عليه أن يغسل الصحيح من أعضائه مع التيمم لكل صلاة لتحصل الموالاة بين الوضوء لأن الترتيب واجب في غسل الموضع الجريح فكذلك في بدله لأن البدل يقوم مقام المبدل هذا اختيار القاضي وابن عقيل

والثاني لا يجب في ذلك ترتيب وموالاة كتيمم الجنب لأنهما طهارتان مفردتان فلم يجب الترتيب والموالاة بينهما وإن اتحد بينهما كالوضوء والغسل ولأن التيمم لو كان في محل الجرح لكان حريا أن لا يجب ترتيبه على الوضوء لأنهما من جنسين فأن لا يجب ترتيبه مع مشروع في غير محل الجرح أولى ولأن الترتيب إنما وجب فيما أمر الله بغسله ومسحه ليبدأ بما بدأ الله به وهذا الجرح ليس مأمورا بغسله ولا مسحه فلا ترتيب له ووجوب الترتيب له لا يلزم منه الترتيب لبدله لأن البدل في غير محل المبدل منه وهو أخذ منه قدرا وموضعا وصفة ومن غير جنسه ثم فيه من المشقة ما ينفيه قوله تعالى { وما جعل عليكم في الدين من حرج } وقوله تعالى { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } وما لا يمكن غسله من الصحيح إلا بانتشار الماء إلى الجرح فله حكم الجريح كما قلنا في الجبيرة فإن أمكنه ضبطه بحيث لا ينتشر الماء إليه لزمه وإن لم يمكنه ضبطه وقدر أن يستنيب من يضبطه لزمه ذلك وإلا سقط غسله وأجزأه التيمم

فصل

فإن كان محدثا وعليه نجاسة والماء يكفي إحدى الطهارتين أزال به النجاسة وتيمم لأن التيمم عند الحدث ثابت بالنص والإجماع

حتى لو كانت النجاسة على ثوبه الذي لا يجد غيره أزالها بالماء في إحدى الروايتين وفي الأخرى يتوضأ ويدع الثوب وإن لم يتيمم له لأن طهارة الثوب مختلف فيها والوضوء مجمع عليه ولو كانت النجاسة على بدنه وثوبه غسل الثوب وتيمم للبدن ويتوجه على الرواية الثانية أن يغسل البدن

الشرط الثاني الوقت فلا يتيمم لفريضة قبل وقتها ولا لنافلة في وقت النهي عنها هذا المشهور في المذهب لأن الله أمر القائم إلى الصلاة بالوضوء فإن لم يجد الماء تيمم وهذا يقتضي أن لا يتيمم إلا بعد القيام إلى الصلاة وإعواز الماء وإنما جاز الوضوء قبل الوقت لأنه يرفع الحدث بخلاف التيمم أو لأن الآية خطاب للمحدثين والمتيمم داخل فيهم بخلاف المتوضىء ولأن التيمم طهارة ضرورة فلم يجز قبل الوقت كطهارة المستحاضة وأنه حكم مقيد بالضرورة فتقيد بقدرها كأكل الميتة ولأنه هو مستغن عنه فلم يجز كتيمم الواجد للماء مع ظاهر قوله ﷺ أينما أدركتني الصلاة تمسحت وصليت وقوله عليه السلام أينما أدركت رجلا من أمتي الصلاة فعنده مسجده وعنده طهوره رواهما الإمام أحمد

وفي رواية أخرى مخرجة أنه يجزىء كالماء وهذا في التيمم للصلاة فأما التيمم لغير ذلك مما تبيحه الطهارة كالطواف ومس المصحف وقراءة القرآن واللبث في المسجد والحائض المنقطع دمها للوطء فيجوز في كل وقت يجوز فعله فيه لأنها أفعال تبيحها الطهارة بالماء فأبيحت بالتراب كالصلاة ولقوله ﷺ الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء عشر سنين فإذا دخل الوقت جاز له أن يتيمم ويصلي سواء غلب على ظنه أنه يجد الماء في الوقت أو لم يغلب ولا إعادة عليه إذا وجد الماء في الوقت إلا إذا تيقن وجود الماء في الوقت على رواية تقدمت لأنه مخاطب بالصلاة في أول الوقت وقد روى أبو داود والدارقطني عن أبي سعيد أن رجلين من أصحاب النبي ﷺ خرجا في سفر فحضرت الصلاة وليس معهما ماء فتيمما صعيدا طيبا فصليا ثم وجدا الماء في الوقت فأعاد أحدهما ولم يعد الآخر ثم أتيا رسول الله ﷺ فذكرا ذلك له فقال للذي لم يعد أصبت السنة وأجزأتك صلاتك وقال للذي أعاد لك الأجر مرتين ولأنه أدى فرضه كما أمر فلم يلزمه إعادة كما لو وجد الماء بعد الوقت لكن إن أعاد في الوقت فهو مستحب في أحد الوجهين للحديث الذي ذكرناه ولأن من العلماء من يوجب الإعادة وفي الآخر لا تستحب كالمستحاضة إذا انقطع دمها في الوقت بعد الصلاة وللماسح على الخفين فأما إذا وجد الماء بعد الوقت فلا تشرع الإعادة والأفضل تأخير التيمم إلى آخر الوقت وأن لا يزال يطلبه حتى يخاف فوت الوقت نص عليه لقول رسول الله ﷺ إذا أجنب الرجل في السفر تلوم ما بينه وبين آخر الوقت فإن لم يجد الماء تيمم رواه أبو حفص ولأن التأخير جائز من غير كراهة فإذا كان لتحصيل فضيلة مرجوة كان أفضل كما لو أخره لطلب جماعة أو تخفف من الأخبثين وأولى وهذا عند أكثر أصحابنا كالقاضي وأبي الخطاب وغيرهما لمن يرجو وجود الماء في آخر الوقت بحيث يكون طمعه ويأسه متقاربين فأما إن يئس من وجوده في غالب الظن فلا يستحب التأخير ومنهم من استحب التأخير مطلقا لأن وجود الماء ممكن وكلام أحمد مطلق في استحباب التأخير وإذا تيمم للمكتوبة صلى صلاة الوقت وجمع بين الصلاتين وصلى الفوائت والنوافل والجنازة حتى يخرج الوقت في أشهر الروايات وفي الأخرى يتيمم لكل فريضة وقيل يتيمم لكل نافلة أيضا ولكل حال يستبيح الطواف وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد وكذلك وطء الحائض في أقوى الوجهين والثالثة يصلي بتيممه ما لم يحدث كالماء ووجهه الأولين ما روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال من السنة أن لا يصلي بالتيمم إلا صلاة واحدة ثم يتيمم للصلاة الأخرى

والصاحب إذا أطلق السنة فإنما يعني سنة النبي ﷺ وروى ابن المنذر عن ابن عمر قال يتيمم لكل صلاة وعن علي قال التيمم عند كل صلاة وعن عمرو بن العاص قال يجدد لكل صلاة تيمما ولم يعرف لهم في الصحابة مخالف إلا رواية عن ابن عباس والمشهور عند خلافها ولأن الله تعالى أمرنا بالتيمم عند القيام إلى الصلاة كما تقدم ولأن التيمم لا يرفع الحدث لأن النبي ﷺ قال لعمرو بن العاص أصليت بأصحابك وأنت جنب سماه جنبا مع علمه أنه قد تيمم للبرد

ولأن المتيمم إذا وجد الماء استعمله بحكم الحدث السابق فلو كان الحدث قد ارتفع لما عاد إلا بوجود سببه فمن قال يتيمم لفعل كل صلاة تمسك بظاهر هذه الآثار والصحيح أن معناه يتيمم كل صلاة من الصلوات المعهودة هي المكتوبات في أوقاتها لأنه المتبادر إلى الفهم من ذلك ولهذا قال ابن عباس ثم يتيمم للصلاة الأخرى والتعريف للعهد ولهذا لا يجب التيمم لفعل كل نافلة وواجب لما قال يتيمم للصلاة الأخرى بل قال يتيمم للرواتب قبلها وبعدها وقول علي عند كل صلاة تنبيه على الوقت ولأن النوافل تفعل بتيمم واحد وبتيمم الفريضة فكذلك الفرائض في وقت واحد ولأن طهارة المستحاضة إنما تبطل بخروج الوقت مع دوام الحدث وتجدده فطهارة المتيمم أولى وإذا نوى الجمع بين الصلاتين في وقت الثانية صار وقتها وقتا واحدا حتى لو تيمم في وقت الأولى لهما أو الفائتة لم يبطل تيممه بدخول وقت الثانية وإذا استباح ما تمنع منه الجنابة كقراءة القرآن واللبث في المسجد أو حدث الحيض كالوطء بتيمم له أو لصلاة بطل أيضا بخروج الوقت في أحد الوجهين اختاره القاضي وفي الآخر لا تبطل كما لا تبطل إلا بنواقض الوضوء لأن وقت الصلاة لا تعلق له بذلك ويحتمل أن تبطل إذا استباح ذلك بتيمم الصلاة دون ما استباحه بتيممه

فصل

ويجوز أن يجمع بتيمم واحد بين طوافين كطواف الإفاضة وطواف منذور وكذلك بين صلاتي جنازة ذكره القاضي كالجمع بين صلاتين في الوقت وأولى وتبطل كذلك بخروج وقت الصلاة كالتيمم للفريضة وكذلك التيمم للنافلة مقدر بوقت المكتوبة لأنه إذا بطل بخروج الوقت بتيمم الفريضة فما سواه أولى والمنصوص عن أحمد أنه إذا صلى على الجنازة بتيمم ثم جيء بجنازة أخرى حين سلم من الأولى صلى عليها بذلك التيمم وإن كان بينهما وقت يمكنه فيه التيمم لم يصل على الأخرى حتى يعيد التيمم وهذا لأن التيمم للجنازة ونحوها لا يتقدر بوقت المكتوبة لأنه لا يستبيح به المكتوبة فالفعل المتواصل في هذه العبادات كتواصل الوقت بالوقت للمكتوبة فإذا وجبت الثانية بعد زمن يتسع للتيمم صارت مستقلة بنفسها وانفصل وقتها عن وقت الأولى كصلاتي الوقتين وعلى قياس المنصوص كل ما ليس له وقت محدد من العبادات كمس المصحف والطواف ونحوهما وحمل القاضي هذا على الاستحباب وظاهر المنصوص خلافه فعلى هذا النوافل المؤقتة كالوتر والكسوف والسنن الرواتب وصلاة الليل تبطل بخروج وقت تلك النافلة وأما النوافل المطلقة فيحتمل أن تكون كالجنازة ونحوها يقدر فيه تواصل الفعل ويحتم أن يمتد وقتها إلى وقت النهي عن النافلة فأما إن كان التيمم للمكتوبة تعلق الحكم بوقتها فيصلي فيه ما شاء من جنائز ونوافل لأن ذلك سبيل التبع للمكتوبة

الشرط الثالث النية فإن تيمم لنافلة لم يصل به فريضة وإن تيمم لفريضة فله فعلها وفعل ما شاء من الفرائض والنوافل حتى يخرج وقتها أما النية في الجملة فلا بد منها كالوضوء والغسل وأؤكد لأن التراب في نفسه ليس بمطهر وإنما يصير مطهرا بالنية ولأن المسح بالتراب إذا خلا عن نية كان عبثا وتغبيرا محضا وقد قيل لأنه جاء في القرآن بلفظ القصد بقوله فتيمموا وهذا ضعيف لأن القصد للتراب لا لنفس العبادة

وصيغة النية هنا أن ينوي استباحة فعل من الأفعال التي يمنعها الحدث كالصلاة ومس المصحف فأما إن نوى رفع الحدث لم يصح وخرج الأصحاب رواية أنه يصح بناء على أن التيمم كالوضوء في صحة بقائه إلى ما بعد الوقت وعلى هذا فصفة نيته كصفة نية الوضوء أن يتيمم لما يجب له التيمم كالصلاة فرضها ونفلها ارتفع المنع مطلقا وإن نواة لما تستحب له النية ففيه وجهان كالوضوء ولا يلزم من هذا أن يكون التيمم رافعا للحدث بل يرفع منع الحدث لأن المقصود من رفع الحدث إزالة منعه وذلك موجود هنا فإذا وجد الماء عاد المنع والتزم بعض أصحابنا على هذا أن التيمم يرفع الحدث رفعا مؤقتا إلى حين وجود الماء فإذا وجد الماء عاد بموجب السبب السابق كما يقول إن تخمر العصير يخرجه من عقد الرهن فإذا تخلل عاد بموجب العقد السابق وكما قلنا في طهارة مسح الخفين على أقوى الوجهين وقال ابن حامد إن نوى به استباحة الصلاة مطلقا صلى به المكتوبة وإن تيمم لنافلة فلا والمشهور أنه لا يستبيح بالتيمم إلا ما نواه وما هو مثله أو دونه لأن النبي ﷺ قال وإنما لكل أمرىء ما نوى ولأن الحدث قائم لم يرتفع كما تقدم وإنما يبيح التيمم ما نواه كما تقدم ولا يلزم من إباحة الأدنى إباحة الأعلى فعلى هذا إذا تيمم لصلاة حاضرة مفروضة أو فائتة أو مطلقة فعل جميع ما سواها لأن الفرض أكمل أنواع الممنوعات بالحدث المباحة بالتيمم ولا فرق بين أن تكون واجبة بالشرع أو النذر وعلى مقتضى كلام أصحابنا لا يستبيح فعل الفرض لا بنية وإذا نوى نافلة الصلاة المطلقة أو معينة فله فعل جميع النوافل والطواف فرضه ونفله ومس المصحف لأن الطهارة للنافلة أوكد لها منهما لاشتراطها للصلاة إجماعا ولا يباح فرض الجنازة لأنها واجبة ولو تيمم للجنازة الواجبة أبيحت الصلاة النافلة لأنها دونها ويتخرج أنه لا يصح إلا أن أحمد جعل الطهارة لنفل الصلاة أوكد منه للجنازة وإن تيمم للطواف أبيح له اللبث في المسجد وقراءة القرآن وكذلك ينبغي أن يكون مس المصحف أو قراءة القرآن أو اللبث في المسجد لم يستبح غير ذلك وقيل يستبيح بنية مس المصحف والقراءة واللبث بخلاف العكس وكل واحد من القراءة واللبث بنية الآخر وهذا أصح لأن ما اشترط له الطهارة أعلى مما اشترط له الطهارة الكبرى وقال القاضي يستبيح بنية مس المصحف قراءة القرآن جميع النوافل لأن جميع ذلك نافلة فهي في درجة واحدة ولو تيمم الصبي لصلاة ثم بلغ لم يجز أن يصليها به لأنه كان لنافلة وله أن يتنفل قبل الفريضة وبعدها وعنه ليس له أن يتنفل قبلها إلا السنن الرواتب لئلا يصير النفل متبوعا بخلاف السنن الرواتب فإن نية الفريضة تتضمنها

الشرط الرابع التراب فلا يتيمم إلا بتراب طاهر له غبار هذه ثلاثة شروط الأول أنه لا يتيمم إلا بالتراب خاصة وعنه أنه يجوز بالرمل وحملها القاضي على رمل فيه تراب وأقرها بعض أصحابنا على ظاهرها لما روى أبو هريرة أن ناسا من أهل البادية أتوا رسول الله ﷺ فقالوا إنا نكون بالرمال الأشهر الثلاثة والأربعة ويكون فينا الجنب والنفساء والحائض ولسنا نجد الماء فقال عليكم بالأرض ثم ضرب بيديه على الأرض لوجهه ضربة وضرب الأخرى فمسح يديه إلى المرفقين رواه أحمد

ووجه الأول أن الله قال { فتيمموا صعيدا طيبا } قال ابن عباس هو تراب الحرث ولفظه فيما ذكر أحمد أطيب الصعيد أرض الحرث ومعنى أرض الحرث الأرض التي يكون فيها الشجر والزرع قال أحمد السباخ لا تنبت والحجر لا ينبت والحرث ينبت وعن حذيفة بن اليمان أن النبي ﷺ قال فضلنا على الناس بثلاث جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة وجعلت لنا الأرض مسجدا وجعلت تربتها لنا طهورا إذا لم نجد الماء رواه مسلم

فلما خص التربة بالذكر بعد تعميم الأرض بكونها مسجدا علم اختصاصها بالحكم وحديث الرمل ضعيف لأن فيه المثنى بن الصباح ثم إن صح فهو محمول على الرمال التي فيها تراب لأنه جاء بلفظ آخر عيكم بالتراب فيدل على الذي في الرمل إنما تيمم بالتراب لأن العرب عادتها أن تعزب إلى الأرض لها حشائش رطبة وإنما الحشائش الرطبة في الرمل الذي يخالطه التراب ولأن الرمل لا يلصق باليد فأشبه الحصاء ولأن طهارة الوضوء خصت بالنوع الذي هو أصل المائعات وكذلك التيمم يخص بالنوع الذي هو أصل الجامدات وهو التراب فأما الأرض السبخة فقد قال أحمد أرض الحرث أحب إلي وإن تيمم من أرض سبخة أجزأ وقال أيضا من الناس من يتوقى السبخة لأنها تشبه الملح وقال أيضا لا يعجبني التيمم بالسباخ لأنه لا يثبت في يده منه شيء يخرج منها إلى غيرها فمن أصحابنا من جعلها كالرمل والمذهب إنها إذا كان لها غبار فهي كالتراب

وإن لم يكن لها غبار فهي كالرمل وعلى هذا ينزل كلام أحمد فإن عدم التراب وجب عليه التيمم بالرمل والسبخة والنورة والكحل والزرنيخ والرماد وكل طاهر تصاعد على وجه الأرض في إحدى الروايتين اختارها ابن أبي موسى وغيره لقوله عليه السلام جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره

ويحمل حديث حذيفة على حال وجود التراب والأحاديث المطلقة عى عدمه لأن النبي ﷺ أخبر أن المسلم لا يزال عنده مسجده وطهوره وقد يعدم التراب في أرض الرمال والسباخ وغيرها ولا إعادة عليه إذا وجد الماء أو التراب في أصح الروايتين كما لو عدم الماء والتراب وأولى وفي الأخرى يعيد لأنه عذر نادر ويكون حكمه إذا وجد التراب كحكم التمسح بالتراب إذا وجد الماء نص عليه والرواية الثانية لا يتيمم إلا بالتراب اختارها الخلال وغيره لأن ما ليس بطهور مع وجود التراب لا يكون طهورا مع وجود التراب لا يكون طهورا مع عدمه كالحشيش والملح المائي فإن خالط التراب ما ليس بطهور كالكحل والنورة والزرنيخ فخرجها القاضي على وجهين

أحدهما وهو اختيار أبي الخطاب أن حكمه حكم الماء إذا خالطته الطاهرات إن لم تغيره لم تؤثر وإن غير اسمه وغلب على أجزائه منع وإن غير بعض صفاته فعلى روايتي الماء

والثاني اختاره ابن عقيل وغيره يمنع بكل حال لأنه ربما حصل في العضو فمنع وصول التراب إليه إلا أن يكون مما ليس له غبار يعلق كا ونخاله الذهب فلا يؤثر ما لم يمنع وصول غبار التراب إلى جميع اليد وإذا خالط الرمل التراب قلنا لا يجوز التيمم به فهل يمنع اتيمم بالتراب على وجهين ذكرهما القاضي وغيره الشرط الثاني أن يكون طاهرا لأن الله تعالى قال { صعيدا طيبا } والطيب هو الطاهر

ووجه الأول أن نزع الخفين والعمامة يبطل الوضوء فيبطل التيمم كسائر النواقض وهذا لأن الخف تتعدى إليه طهارة التيمم حكما كما تتعدى إلى سائر البدن لأن المسح على العضوين قائم مقام تطهير الأعضاء الأربعة فإذا كان عليه خفان فكأنه في الحكم مسح عليهما ولأن الحدث قائم بالرجين وإنما استباح الصلاة بالتيمم مع سترهما إذا ظهرتا ظهر حكم الحدث فيحتاج إلى تيمم حتى لو تيمم قبل اللبس ثم خلع لم ينتقض تيممه ويزيد التيمم على الماء بشيئين أحدهما أن خروج الوقت يبطلها في المشهور لأنها طهارة ضرورة فتقدر بقدرها كطهارة المستحاضة وقيل لا تبطل إلا بدخول وقت الصلاة الثانية لأنه حينئذ يخاطب بتجديد التيمم فعلى هذا يصلي الضحى بتيمم الفجر وقد تقدمت الروايتان الأخريان الثاني القدرة على استعمال الماء إما أن يجده إن كان عادما أو يقدر على استعماله إن كان مريضا لأن النبي ﷺ قال الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجد الماء فليمسه بشرته فإن ذلك خير وقد تقدم ثم إن وجده قبل الصلاة بطل التيمم قولا واحدا وكذلك إن رأى ما يدل على الماء أو ظن وجود الماء فإنه يلزمه الطلب ويبطل تيممه في أحد الوجهين وإن وجده بعد الصلاة بطل أيضا فلا يصلي به صلاة أخرى وإن وجده في الصلاة بذل تيممه أيضا في ظاهر المذهب وكان قبل ذلك يقول يمضي فيها ولا يبطلها فحمل الخلال وصاحبه المسألة قولا واحدا لأن الرجوع عنه وجوده كعدمه وأثبت ابن حامد وغيره المسألة على روايتين لأن القول الأول قاله باجتهاد فلا ينتقض باجتهاد ثان بخلاف نسخ الشارع وكذلك كل رواية علم الرجوع عنها وذلك لأن الصلاة حال لا يجب فيها استعماله كما بعد الفراغ ولأنه عمل صح بالبدل فلا يبطل بوجود المبدل عنه كحكم الحاكم بشهود الفرع لا يبطل بوجود شهود الأصل ولأنه وجد المبدل منه بعد الشروع في البدل فلم يجب الانتقال إليه كما لو وجد الأصل الهدى بعد الشروع في صوم المتمتع أو الرقبة بعد الشروع في صوم الكفارة ولأنه لا يمكن من الوضوء إلا بإبطال الصلاة وذلك منهي عنه بقوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } ونهي النبي ﷺ الذي يخيل إليه الحدث في الصلاة أن يخرج منها إلا باستيقان الحدث فعلى هذا لو خرج منها لنجاسة أصابته أو غير ذلك لم يكن له أن يعيدها بذلك التيمم قولا واحدا فإن لم يجد من الماء إلا ما يكفيه لإزالة النجاسة أعاد التيمم لأن الأول قد بطل بطلب الماء ولو نوى الإقامة في الصلاة ثم رأى الماء لم تبطل الصلاة بناء على جواز التيمم في الحضر وإنه لا إعادة عليه قاله القاضي فعلى هذا إن قلنا لا يتيمم في الحضر أو يعيد بطلت هنا لأنها غير معتد بها والأول أصح لقول النبي ﷺ الصعيد الطيب طهور المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك وقوله عليه السلام في الحديث وجعلت لنا تربتها طهورا إذا لم نجد الماء فجعله طهورا بشرط عدم الماء والحكم المشروط بشرط يزول بزواله وأمر بأن يمسه بشرته إذا وجده وهذا يعم المصلي وغيره ولو افترق الحكم لبينه ولأن ما أبطل الطهارة خارج الصلاة أبطلها في الصلاة كسائر النواقض وتقريب الشبه أن هذه طهارة ضرورة ورؤية الماء تبطلها خارج الصلاة فكذلك داخلها كانقطاع دم المستحاضة وانتهاء مدة المسح ولأنه قد بطل تيممه فلزمه الخروج من الصلاة كما وكان مقيما أو نوى الإقامة والدليل على أن تيممه بطل مع قوله الصعيد الطيب طهور المسلم إذا لم يجد الماء أنه لو مضى فيها ولم يفرغ حتى عدم الماء لم يجز له أن ينتقل حتى يتيمم مع قولنا يمضي فيها على أشهر الوجهين وكذلك في المشهور لا يجوز له أن يزيد على ركعتين في التنقل المطلق الذي لم ينوه عددا ولأن الطهارة بالماء فرض كان عاجزا عنه فإذا قدر عليه في الصلاة لزمه فعله كالعاري إذا وجد الثوب والمريض إذا قدر على القيام وأما كونه لا يجب فيها الطلب فإنما ذاك إذا شك في وجود الماء لأنه قد دخل في الصلاة بيقين فلا يخرج منها بشك كالذي يخيل إليه الحدث فأما إن رأى ما يدل على وجود الماء مثل ركب لا يخلون من ماء ونحو ذلك لزمه الطلب فإن وجد الماء وإلا استأنف التيمم وشهود الفرع قد تم العمل المقصود بهم فنظيره هنا أن يجد الماء بعد الفراغ

ونظير مسألة التيمم أن يقدر على شهود الفرع في أثناء كلمة فإنه لا ينفذ حكمه بهم وأما قولهم وجد المبدل منه بعد الشروع في البدل هنا هو التيمم وليس هو الصلاة فلا يصح الوصف في الفرع وإن قالوا بعد الشروع في العمل بالبدل لم يصح الأصل

وثانيها أنه إذا شرع هنا في البدل وهو التيمم ثم وجد المبدل وهو الماء انتقل إجماعا وثالثها إن وجود المبدل منه هنا يبطل البدل فلا يمكن إتمامه والاكتفاء به وهناك وجود الرقبة والهدي لا يبطل الصوم فأمكن إجزاؤه فنظير هذا بدل يفسد بوجود مبدله

ورابعها أنه منتقض بالصغيرة إذا اعتدت بالشهور ثم حاضت في أثنائها لتنتقل إلى المبدل وهو الاقراء وهذا نص أحمد والحاق مسألتنا بهذا أولى لأن العدة والصلاة يبنى آخرهما على أولهما فتفسد بفساده بخلاف الصيام وأما إبطال الصلاة هنا فهو لم يبطلها وإنما بطلت بحكم الشرع كما لو سبقه الحدث أو وجد السترة يعيد منه ولو فرضنا أنه أبطلها لغرض صحيح ليأتي بها على وجه الكمال لم يكن ذلك محذورا فإذا قلنا يخرج فإنه يستأنف الصلاة بعد وضوئه في المنصوص وخرج القاضي وغيره رواية أنه يتطهر ويبني كما يقول فيمن سبقه الحدث على إحدى الروايتين وفرق آخرون بين هذا وبين من سبقه الحدث بأن هذا كان المانع موجودا حين ابتداء الصلاة وهو الحدث وإنما جازت الصلاة معه بالتيمم إذا كمل مقصوده وهنا لم يكمل المقصود فيبقى المانع بحاله بخلاف من سبقه الحدث وكذلك الطريقان في المستحاضة إذا انقطع دمها في أثناء الصلاة ومن ابتدأ الصلاة عاريا ثم وجد السترة يعيد منه وكذلك الماسح إذا انقضت مدته في أثناء الصلاة إن قلنا المسح لا يرفع الحدث وإن قلنا يرفعه فهو كالحدث السابق ولا فرق بين صلاة العيد والجنازة وغيرهما ويتخرج أن يبنى في صلاة الجنازة وإن كان يخاف أنه إن خرج وتطهر فات الوقت وهو في السفر لم يخرج في أشهر الوجهين وإن كان في الحضر خرج كما لو كان خارج الصلاة ومن صلى بلا ماء ولا تراب ثم وجد أحدهما وقلنا يمضي في التي قبلها فقيل تبطل هنا لأنها صلاة بغير طهارة والصحيح أنا إن قلنا لا يعيدها مضى فيها وإن قلنا يعيدها قطعها كالمحبوس في المصر إذا وجد الماء في أثناء صلاته والمتيمم من البرد إذا قدر على الماء المسخن في أثناء صلاته وكذلك كل من تلزمه الإعادة فإنه يخرج ومن لا تلزمه فإنه يمضي وإن يمم الميت ثم وجد الماء في أثناء الصلاة عليه فقيل يقطع قولا واحدا وقيل هي كالأولى وحيث جاز له المضي فهو واجب عليه في أحد الوجهين لأن إبطال الصلاة لا يجوز إلا لواجب وقال الشريف أبو جعفر القطع أولى لما فيه من الاختلاف وكالمكفر إذا انتقل من الصوم إلى العتق وإذا خرج الوقت وهو في الصلاة بطل تيممه في أشهر الوجهين وكذلك لو خرج الوقت قبل أن يصليها لأن خروج الوقت مبطل للتيمم كالقدرة على استعمال الماء والآخر لا تبطل بناء على أن التيمم لفعل الصلاة لا لوقتها وأنه يمضي فيها إذا شرع فيها بالتيمم ولو قدر على استعمال الماء في أثناء قراءة أو وطء أو لبث في المسجد أو مس مصحف قطعه قولا واحدا لأن بعضه لا يرتبط ببعض وإن كان في أثناء طواف فهو كالصلاة إلا أن نقول الموالاة فيه ليست واجبة ومن لم يجد ماء ولا ترابا أو وجدهما وعجز عن الوضوء والتيمم إما لقروح ببدنه وإما لعجزه عن فعل الطهارتين وعدم من يطهره فإنه يصلي على حسب حاله لما روت عائشة رضي الله عنها أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت فبعث رسول الله ﷺ رجالا في ظنها فوجدوها فادركتهم الصلاة وليس معهم ماء فصلوا بغير وضوء فلما أتوا رسول الله ﷺ شكوا ذلك إيه فانزل الله تعالى آية التيمم رواه الجماعة إلا الترمذي

فصلوا بغير طهارة للضرورة فكذلك كل من عجز عن الطهارة ولأنه شرط من شرائط الصلاة فإذا عدم عجز عنه فعل ما يقدر عليه كسائر الشرائط فلا إعادة عليه في إحدى الروايتين وفي الأخرى يعيد اختارها القاضي بناء عى العذر النادر وقد تقدم وبناء على أنه عجز عن الأصل والبدل فلم يسقط الفرض عنه كما لو عجز في الكفارات عن الأصول والأبدال أما فعل ما لا يجب من قراءة أو وطء أو مس مصحف أو صلاة نافلة فلا يجوز إلا بطهارة لأنه لا حاجة إليه ولو قيل بجوازه لتوجه بناء على أن التحريم إنما ثبت مع إمكان الطهارة ولأن له أن يزيد في الصلاة على أداء الواجب على ظاهر قول أصحابنا حتى لو كان جنبا قرأ بأكثر من الفاتحة فكذك فيما يستحب خارج الصلاة إذا اجتمع حي وميت كلاهما مفتقر إلى الغسل وهناك ماء مبذول لأولاهما به فالميت أولى به في أقوى الروايتين اختارها أبو بكر وغيره والحائض أولى به في أقوى الوجهين ومن عليه نجاسة أولى منهما وهو أولى من الميت في أحد الوجهين وإن قلنا الميت أولى من الجنب والصحيح أن الميت أولى به بكل حال لأنه لا ترجى له الطهارة بالماء بعد ذلك وإن اجتمع جنب ومحدث والماء يكفي المحدث ولا يفضل منه شيء دون الجنب فهو أولى وإن كان يكفي الجنب لصغر خلقه ولا يفضل منه شيء أولا يكفي واحدا منهما أو يكفي المحدث وحده ويفضل منه شيء فالجنب أولى لأن حدثه أغلظ وهو محتاج إلى استعمال الماء كله وإن كان يكفي كلا منهما وحده ويفضل منه شيء فهل يقدم المحدث أو الجنب أو يتساويان بحيث يقرع الباذل بينهما أو يعطيه لمن شاء على ثلاثة أوجه فأما إن كان ملكا لأحد هؤلاء فهو أولى به وإن اشتركا اقتسموه واستعمل كل واحد نصيبه لأنه لا يلزم الرجل بذل ما يحتاج للطهارة لطهارة غيره وإن كان الماء مباحا فهو كالمبذول لأنه متى وجده أحدهم كان أحوج إليه بمنزلة المضطر وغيره إذا وجد فاكهة مباحة وقيل لاحظ فيه للميت لأنه لا يجد شيئا وإنما يجده الأحياء والأول أوجه لأن تغسيل الميت أوجب على الأحياء فإذا وجدوه كان صرفه إلى ما وجب عليهم للميت أولى ولأنهم يستفيدون بذلك الصلاة عليه ولو بادر المجروح فتطهر به أساء وصحت طهارته بخلاف الماء المغصوب لأنه لم يمكله أحد هكذا ذكر كثير من أصحابنا وحملوا مطلق كلام أحمد رضي الله عنه على ذلك وقد قال الإمام أحمد في قوم في سفر ومعهم من الماء ما يشربون ومعهم ما يغتسل به وقد أصابت رجلا منهم جنابة ومعهم ميت أعجب إلي أن يغسل الميت وتيمم الجنب فهؤلاء قوم مشتركون في الماء وقد يقدم الميت وهو إما أن يكون له نصيب في الماء أولا يكون له شيء وقد قدمه بنصيب الأحياء حتى بنصيب الجنب وهو في نفس هذه المسألة قد م الجنب في رواية أخرى وهذا فيما إذا كان الماء مشتركا لأن نصيب كل واحد لا يكفيه لطهوره ولا يستبيح به شيئا بل لا بد من تيممه فكان تخصيص واحد بالماء وآخر بالتيمم أولى من تيمم كل واحد وتشقيص طهارته ألا ترى أن الشرع قد حكم فيما إذا أعتق شخص من عبيد أن يجمع الحرية كلها في شخص واحد والرق في آخر لمصلحة تخليص الحرية والملك وإن كان فيه إسقاط حق المشترك من الحرية وقال أيضا فيمن معه ماء بأرض فلاة وهو جنب ومعه ميت إن هو اغتسل بالماء بقي الميت وإن غسل الميت بقى هو قال وما أدري ما سمعت في هذا شيئا وتوقفه هنا يخرج على الروايتين هناك وظاهر الرواية أن الميت لا شيء له في الماء ووجهه هذا أن تغسيل الميت واجب على الحي من الماء الذي يملكه كما يجب اغتساله بخلاف الحيين وهذا أيضا دلالة على المسألة الأولى

باب الحيض

الحيض مصدر حاضت المرأة تحيض حيضا وتحيضا إذا جرى دمها ويسمى الدم حيضا وهو دم خلقة وجبلة وكتب الله على بنات آدم بحكمه غذاء الولد ونباته فالولد يخلق من ماء الرجل والمرأة ثم يغذى في الرحم بدم الطمث فإذا ولد تحول الدم لبنا فيرضع منه فإذا خلت الرحم من ولد اجتمع الدم ثم خرج في أوقات معلومة قال بعضهم ولذلك وصى النبي ﷺ ببر الأم ثلاث مرات وببر الأب مرة واحدة والأصل في ثبوت أحكام الحيض الكتاب والسنة والإجماع على ما يذكر في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى

مسألة ويمنع عشرة أشياء فعل الصلاة ووجوبها وفعل الصيام والطواف وقراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد والوطء في الفرج وسنة الطلاق والاعتداد بالأشهر ويوجب الغسل والبلوغ والاعتداد به فإذا انقطع الدم أبيح فعل الصيام والطلاق ولم يبح سائرها حتى تغتسل ويجوز الاستمتاع من الحائض بما دون الفرج لقول النبي ﷺ اصنعوا كل شيء إلا النكاح

في هذا الكلام فصول الفصل الأول أحدها أن الحائض لا يحل لها أن تصلي ولا تصوم فرضا ولا نفلا فإذا طهرت وجب عليها قضاء الصوم المفروض دون الصلاة وهذا مما اجتمعت عليه الأمة وقد روى الجماعة عن معاذة العدوية قالت سألت عائشة فقلت لها ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة فقالت أحرورية أنت فقالت ليس بحرورية ولكني أسأل فقالت كنا نحيض على عهد رسول الله ﷺ فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة ومعنى قولها أحرورية أنت الانكار عليها أن تكون من أه حروراء وهي مكان ينتسب إليه الخوارج وإنما قالت ذلك لأن من الخوارج من كان يأمرها بقضاء الصلاة لفرط تعمقهم في الدين حتى مرقوا منه

وقال النبي ﷺ أليست إحداكن إذا حاضت لم تصل ولم تصم قلن بلى متفق عليه وقال للمستحاضة إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة والصوم واجب في ذمتها حين الحيض وكذلك على المسافر وكل من لزمته العبادة قضاء فإنها وجبت في ذمته كما يجب الدين المؤجل في ذمة المدين وكذك يفعلها قضاء لكن ذلك مشروط بالتمكن منها فيما بعد فإن مات قبل التمكن لم يكن عاصيا فإذا انقطع دمها صح الصوم في المعروف من المذهب كما يصح صوم الجنب لأن الطهارة غير مشروطة للصوم ولم تصح صلاتها لكن تجب في ذمتها لأنها صارت قادرة عى فعلها الفصل الثاني

أنه لا يجوز لها أن تطوف بالبيت لما أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال لها لما حاضت وهي محرمة اقضي ما يقضي الحاج إلا أنك لا تطوفي بالبيت حتى تطهري متفق عليه

وفي لفظ لمسلم حتى تغتسلي

ولما قالت إن صفية بنت حيي قد حاضت قال

أحابستنا هي قالت إنها قد أفاضت قال فلا إذن فلو كان طوافها جائزا لم تحسبهم ولأن الطواف بالبيت صلاة كما تقدم والحائض لا يجوز لها أن تصلي ولأن الطواف لا يصح إلا في المسجد الحرام والحائض لا يجوز لها أن تلبث في المسجد توضأت أو لم تتوضأ فإن خالفت وطافت لم يجز لها الطواف في أشهر الروايتين وفي الأخرى تجبره بدم ويجزؤها مع التحريم كما يجبر بالدم من ترك شيئا من الواجبات وفعل شيئا من المحظورات مع التحريم والإثم الفصل الثالث

أنه لا يجوز لها قراءة القرآن ومس المصحف واللبث في المسجد لأن حدثها كحدث الجنب وأغلظ لقيام سبب الحدث وسواء في ذلك ما قبل الانقطاع وما بعده لأن أحسن أحوالها أن تكون كالجنب ولها العبور في المسجد لكن إن كان دمها جاريا فإنها تتلجم لتأمن من تلويث المسجد وقيل لا تدخله إلا لأخذ شيء منه دون وضع شيء فيه للحاجة إلى ذلك وقد تقدمت الأحاديث في جواز ذلك وأما اللبث فيه بالوضوء فيجوز إذا انقطع دمها وأما قبل فلا يجوز نص عليه لأن طهارتها لا تصح وسبب الحدث قائم ولذلك لم يستحب لها الوضوء لنوم أو أكل ونحو ذلك الفصل الرابع

أنه يحرم وطؤها في الفرج فأما الاستمتاع منها فيما دون الفرج مثل القبلة واللمس والوطء دون الفرج فلا بأس به لقول الله سبحانه وتعالى { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن } والمحيض إما أن يكون إسما لمكان الحيض كالقبل والمنبت فيختص التحريم بمكان الحيض وهو الفرج أو هو الحيض وهو الدم نفسه لقوله أذى أو نفس خروج الدم الذي يعبر عنه بالمصرد كقوله { واللائي يئسن من المحيض } فقوله على هذا التقدير في المحيض يحتمل مكان الحيض ويحتمل زمانه وحاله فإن كان الأول فمكان المحيض هو الفرج وإن كان المراد فاعتزلوا النساء في زمن المحيض فهذا الاعتزال يحتمل اعتزالهن مطلقا كاعتزال المحرمة والصائمة

ويحتمل اعتزال ما يراد منهن في الغالب وهو الوطء في الفرج وهذا هو المراد بالآية لوجوه

أحدها أنه قال هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض فذكر الحكم بعد الوصف بحرف الفاء وذلك يدل على أن الوصف هو العلة لا سيما وهو مناسب للحكم كقوله { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } فإذا كان الأمر باعتزالهن من الإيذاء إضرارا أو تنجيسا وهذا مخصوص بالفرج فيختص بمحل سببه

وثانيها أن الإجماع منعقد على أن اعتزال جميع بدنها ليس هو المراد كما فسرته السنة المستفيضة فانتفت الحقيقة المعنوية فتعين حمله على الحقيقة العرفية وهو المجاز اللغوي وهو اعتزال الموضع المقصود في الغالب وهو الفرج لأنه يكنى عن اعتزاله باعتزال المرأة كثيرا كما يكنى عن مسه بالمس والافضاء مطلقا وبذلك فسره ابن عباس فيما رواه ابن أبي طلحة عنه في قوله فاعتزلوا النساء في المحيض بقوله فاعتزلوا نكاح فروجهن رواه عبد بن حميد وابن حزم وأبو بكر عبد العزيز وغيرهم في تفاسيرهم

فأما اعتزال الفرج وما بين السرة والركبة فلا هو حقيقة اللفظ ولا مجازه

وثالثها أن السنة قد فسرت هذا الاعتزال بأنه ترك الوطء في الفرج فروى أنس أن اليهود كانت إذا حاضت أمرأة منهم لم يؤاكوها ولم يجامعوها في البيوت فسأل أصحاب رسول الله ﷺ عن ذلك فأنزل الله { ويسألونك عن المحيض قل هو أذى } فقال رسول الله ﷺ اصنعوا كل شيء إلا النكاح وفي لفظ إلا الجماع رواه الجماعة إلا البخاري والجماع عند الإطلاق هو الايلاج في الفرج فأما في غير الفرج فليس هو كالجماع ولا نكاح وإنما يسمى به توسعا عند التقييد فيقال الجماع فيما دون الفرج لكونه بالذكر في الجملة وكذلك جميع الأحكام المتعلقة بالجماع إنما تتعلق بالإيلاج لا سيما الاستمتاع في الفرج فما فوق السرة جائز إجماعا وروى أبو داود عن عكرمة عن بعض أزواج النبي ﷺ أن النبي ﷺ كان إذا أراد من الحائض شيئا القى على فرجها شيئا وعن عائشة أن رسول الله ﷺ سئل عن ما يحل للرجل من أمرأته الحائض فقال تجنب شعار الدم رواه ابن بطة

ولأنه محل حرم للأذى فاختص التحريم بمحل الأذى كالوطء في الدبر ولا يقال هذا يخشى منه مواقعة المحظور لأن الأذى القائم بالفرج ينفر عنه كما ينفر عن الوطء في الدبر ولذلك أبيح له ما فوق الإزار إجماعا ثم إنه إذا أراد ذلك ألقى على فرجها شيئا كما جاء عن النبي ﷺ لئلا يصيبه الأذى ولو روعي هذا فحرم جميع بدنها كالمحرمة والصائمة والمعتكفة ومع هذا فالأفضل أن يقتصر في الاستمتاع على ما فوق الإزار لأنه هو الغالب على استمتاع النبي ﷺ بأزواجه

قالت عائشة كانت إحدانا إذا كانت حائضا فأراد رسول الله ﷺ أن يباشرها أمرها أن تأتزر بازار في فور حيضتها ثم يباشرها متفق عليه وعلى نحوه من حديث ميمونة ولأنه أبعد له عن الإلمام بالموضع امعتاد بخلاف الدبر فإنه ليس بمعتاد والفرج المباح يغني عن الدبر فلا يفضي إليه ثم القرب منه ضروري وهنا ليس هناك فرج مباح ولا ضرورة فنهاب الإلمام به على العادة السابقة أو يلوثه الدم مع ما في ذلك من الخروج من اختلاف العلماء

فصل

ولا يجوز وطؤها بعد انقطاع الدم حتى تغتسل لأن الله تعالى قال { ولا تقربوهن حتى يطهرن } أي حتى ينقطع دمها { فإذا تطهرن } أي اغتسلت بالماء وهكذا فسره ابن عباس فيما رواه عنه ابن أبي طلحة وكذلك قال مجاهد وغيره وقال إسحاق بن راهوية أجمع أهل العلم من التابعين على أن لا يطأها حتى تغتسل وأكثر أهل الكوفة يقرؤون حتى يطهرن بالتشديد وكلهم يقرؤون الحرف الثاني فإذا تطهرن والتطهر إنما يكون فيما يتكلفه ويروم تحصيله وذلك لا يكون إلا في الاغتسال فأما انقطاع الدم فلا صنع لها فيه ولهذا لما قال { وإن كنتم جنبا فاطهروا } فهم منه الاغتسال فإن قيل فعى قراءة الأكثرين ينتهي النهي عن القراءتين بانقطاع الدم لأن الغاية هنا تدخل في المغيا لأنها بحرف حتى فإذا تم انقطاع الدم فقد انتهت الغاية قلنا قبل الانقطاع النهي عن القربان المطلق فلا يباح بحال فإذا انقطع الدم زال ذلك التحريم المطلق لأنها قد صارت حينئذ مباحة إن اغتسلت حراما إن لم تغتسل ويبين هذا الشرط قوله { فإذا تطهرن } وبهذا تبين أن قراءة الأكثر أكثر فائدة وهذا كقوله تعالى { وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم } وأيضا فقد روي عن بضعة عشر من الصحابة منهم الخلفاء الراشدون أن المطلق أحق بزوجته حتى تغتسل من الحيضة الثالثة فإذا كان حدث الحيض موجب بقاء العدة فلأن يقتضي بقاء تحريم الوطء أولى وأحرى فإن لم تجد ماء تيممت فإن وجدت الماء عاد التحريم كما في التيمم للصلاة وغيرها

فصل

وإذا وطأ الحائض وجبت عليه الكفارة في ظاهر المذهب وعنه لا تجب بل يستغفر الله تعالى حملا للحديث الوارد فيه على الاستحباب مع ما فيه من الاضطراب فأنه وطء حرام لا لأجل عبادة فلم يوجب كفارة كالزنا والوطء في الدبر ووجه الأولى ما روى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن مقسم عن ابن عباس عن النبي ﷺ في الذي يأتي أمرأته وهي حائض قال يتصدق بدينار أو نصف دينار قال أبو داود سمعت أحمد بن حنبل يقول

ما أحسن حديث عبد الحميد فيه قيل له فتذهب إليه قال نعم وقال إسحاق بن راهوية هذه السنة الصحيحة التي سنها رسول الله ﷺ في غشيان الحائض

وقد رواه الإمام أحمد بإسناد جيد من حديث قتادة عن مقسم ولأنه وطأ فرجا يملكه حرم لعارض فجاز أن يوجب الكفارة كالوطء في الصيام والإحرام وطرده الاعتكاف وإن قلنا به وإلا قلنا حرم لسبب عارض من جهة الله وهذا لأن الكفارة ماحية للذنب وزاجرة عنه فلا يشرع في الكبائر ونحوها مما تأبد تحريمه كالزنا والوطء في الدبر فإنه أعظم من أن يكفر والدعي إليه أقوى من أن يكتفي فيه بالكفارة فأما إذا كان التحريم عارضا فربما دعت النفس إلى العادة فشرعت الكفارة ماحية للذنب فإنه أهون وزاجرة عن معاودته ولهذا أغنى وجوبها عن العتزير في أحد الوجهين ويشرع التعزير فيما لا كفارة فيه وبهذا أوجبنا الكفارة في وطء رمضان والإحرام ولم تكن العلة في الأصل افساد العبادة فقط لأنا نوجبها في الإحرام الفاسد والصوم الفاسد في رمضان وإنما وجبت في الأصل زجرا ومحوا وجبرا ولا شيء في الفرع يجبر فلهذا خفت

فصل

وهو مخير بين التكفير بدينار أو نصف دينار في أشهر الروايتين على ظاهر الحديث الصحيح في ذلك وعنه إن كان في اقبال الدم فدينار وإن كان في إدباره فنصف دينار حملا للتقسيم في موضعيين وقد روى عبد الكريم ابن أبي المخارق عن مقسم عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي ﷺ في الذي يقع على أمرأته وهي حائض قال إن كان الدم عبيطا فليتصدق بدينار وإن كان صفوه فليتصدق بنصف دينار رواه الترمذي ولا شيء عليه إذا وطىء بعد انقطاع الدم في المنصوص من الوجهين إذ لا نص فيه وحرمته أخف والوجه الآخر فيه الكفارة لبقاء التحريم

ولما روى ابن جريج قال أخبرني عبد الكريم وغيره عن مقسم عن ابن عباس أن النبي ﷺ جعل في الحائض تصاب دينارا فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار كل ذلك عن النبي ﷺ رواه أحمد في المسند ورواه أبو داود موقوفا على ابن عباس والمعتمد هي الرواية الأولى لصحتها ونصف الدينار الزائد إذا أخرج دينارا فهو من الكفارة المقدرة المأمور بها وإن جاز تركه بخلاف ما زاد على ذلك فإنه صدقة محضة وإن أخرج على جهة التكفير فهو مرغب فيه ليس هو من الكفارة المقدرة المأمور لقوله الصدقة تطفىء الخطيئة وقوله أتبع السيئة الحسنة تمحها وقول حذيفة فتنة الرجل في أهله وماله تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا كما يخير الحاج بين أن يبيت الليلة الثالثة بمنى ويرمي الجمرة من الغد وبين أن لا يفعل وكمن وجب عليه الهدي فأن أخرج سبع بدنة جاز وإن أخرج بدنة فهو هدي أيضا وهو أفضل ومن وجبت عليه بنت مخاض فأخرج حقه جاز وكان الجميع زكاة والزائد عى ذلك لا يوصف بالوجوب عند بعض أصحابنا أن الواجب لا يجوز تركه وقد سمى الله تعالى ما زاد على الواجب تطوعا في قوله تعالى وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا يعنى أكثر من مسكين فهو خيرا له وقال النبي ﷺ للذي وجبت في ماله بنت مخاض ذلك الذي عليك فإن تطوعت بخير منه قلبناه منك وآجرك الله عليه ووصفه بعضهم بالوجوب وإن جاز تركه كما في الركعتين الزائدتين في صلاة السفر كما قال بعضهم في الواجب الذي ليس بمقدر مثل القيام والركوع والسجود إذا طوله زيادة على ما يجزىء وأكثر ما فيه أنه يجب باختيار المكلف وهذا جائز كما يجب إتمام الإحرام إذا شرع فيه ويجب على العامي الأخذ بأحد القولين إذا اختار تقليد صاحبه وهذا لأنا نخيره بين أن يتركه أو يفعله على صفة الوجوب كما يخير بين ترك نوافل العبادات وبين أن يفعلها على الوجه المشروع فتكون الصفة واجبة بشرط فعل الأصل وإن لم تكن واجبة إذا ترك الأصل

فصل

وتجب الكفارة على العالم والجاهل سواء كان جاهلا بالحيض وبالتحريم أو بهما وكذلك الناسي كالعامد في المنصوص من الوجهين وفي الآخر لا يجب قاله ابن أبي موسى وغيره لأنه معذور ولأنها كفارة صغرى فلم تجب مع السهو ككفارة اليمين والأول أشهر لأن الحديث عام وقد روى حرب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى جارية له فقالت إني حائض فكذبها فوقع عليها فوجدها حائضا فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فقال له يغفر الله لك أبا حفص تصدق بنصف دينار ولأن المحرم أو الصائم إذا وطىء ناسيا وجبت الكفارة في المشهور من الروايتين وكذلك هنا فإن وطأها طاهرا فحاضت في أثناء الوطء فإن استدام لزمته الكفارة وإن نزع في الحال انبنى على أن النزع هل هو جماع وفيه قولان لأصحابنا أحدهما هو جماع فإذا قال لامرأته أنت طالق ثلاثا إن جامعتك لم يجز له أن يجامعها أبدا في إحدى الروايتين خشية أن يقع النزع في غير ملك وإذا طلع عليه الفجر وهو مولج فنزع في الحال لزمته الكفارة كما اختاره ابن حامد والقاضي فعلى هذا تلزمه الكفارة هنا على الوجه المنصوص وهو اختيار ابن حامد لأن أكثر ما فيه أنه معذور والمعذور تلزمه الكفارة في النزع كما تلزمه في الصيام والإحرام وعلى الوجه الذي اختاره ابن أبي موسى لا كفارة عليه

والقول الثاني ليس النزع بجماع فلا شيء عليه هنا كما لا يفسد صومه بالنزع عند أبي حفص ولا يأثم به في اليمين على إحدى الروايتين وهل تجب الكفارة بوطء الصبي والمجنون على وجهين

وتجب من الذهب الخالص قال جماعة من أصحابنا وسواء كان تبرا أو مضروبا ويتوجه أن يجزؤه إلا المضروب لأن الدينار اسم للمضروب خاصة ولهذا يلزمه ذلك في الدية ولو كان ماله دنانير فأخرج عنها مكسرا لزمه أن يخرج الفضل بينهما في الزكاة ويجوز أن يعطيها لواحد وجماعة لأنه لم ينص على عدد فأشبهت النذر وإخراج القيمة هنا كإخراجها في الزكاة والكفارة وكذلك الدراهم عن الدنانير وقيل يجوز هنا وإن لم يجزئه هناك كالخراج والجزية

وأما المصرف فهو مصرف الكفارات في أحد الوجهين وهم الفقراء والمساكين وكل من يعطى من الزكاة بخاصة كابن السبيل والغارم لمصلحة نفسه والمكاتب وفي الوجه الآخر هم المساكين خاصة وكذلك كل صدقة مطلقة هل تسقط بالعجز على روايتين ذكرهما القاضي إحداهما تسقط واختارها ابن حامد وغير ككفارة الوطء في رمضان ولأنه حق مالي ليس ببدل ولا له بدل فأشبه صدقة الفطر والمال لقوله ﷺ لا صدقة إلا عن ظهر غنى والثانية أنها لا تسقط واختارها بعضهم ككفارة اليمين والظهار والإحرام

فصل

وأما المرأة فلا يجب عليها إن كانت مكرهة وهي التي اضجعت قهرا أو وطئت وهي نائمة إذ لا فعل لها فأما المطاوعة ففيها وجهان تخريجا على الصوم والحج لكن المنصوص هنا هو الوجوب وهو الصحيح في الجميع لكن تمكينها من وطء الرجل بمنزلة الوطء في الحد ففي الكفارة أولى وأما النائمة والتي ضربت حتى مكنت فهل تلحق بالمطاوعة أو المغلوبة على نفسها على وجهين ويتخرج أن تجب على المكرهة أيضا ويتحملها الزوج أو لا يتحملها كما في الحج والصيام فعلى هذا يلزمها كفارة أخرى وقيل الكفارة الواحدة يشتركان فيها ويجب في وطء النفساء ما يجب في وطء الحائض نص عليه لأنها مثلها

فأما الوطء في الدم المشكوك فيه فلا يجوز وأما الكفارة فينبغي إن تبين أنه حيض كالمبتدأة والمعتادة والمنتقلة عادتها أو العائد دمها بعد انقطاعه في الحيض والنفاس إذا تكرر ذلك فعليها الكفارة وإلا كان كوطء المستحاضة ووطء المستحاضة حرام في إحدى الروايتين إلا أن يخاف العنت لأنه دم أذى فاشبه الحيض وفي الأخرى لا يحرم كدم القروح والجروح في الفرج ولم يذكر فيه كفارة الفصل الخامس

أن الحيض يمنع سنة الطلاق فإذا طلقها في حالة الحيض كان مبتدعا بذلك لقوله تعالى { إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن } يعني طاهرا من غير جماع وعن عبد الله بن عمر أنه طلق أمرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر لرسول الله ﷺ فتغيظ فيه رسول الله ﷺ ثم قال ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطقها فليطقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء رواه الجماعة

ولأنه إذا طلقها حائضا لم تحسب تماما الحيضة من القروء فتتربص بعد تلك الحيضة بثلاثة قروء وفي ذلك تطويل للعدة وذلك اضرار بها وقد قيل إن الحيض مظنة الزهد فيها والتفرقة عنها فربما يعقبه الندم فإذا انقطع الدم كان الطلاق سنة نص عليه وذكر أبو بكر عبد العزيز فيها قولين يعني روايتين إحداهما أنه بدعة حتى تغتسل وهو اختيار بعض أصحابنا لأن في رواية أن النبي ﷺ قال لعمر مر عبد الله فليراجعها فإذا اغتسلت من حيضتها الأخرى فلا يمسها حتى يطلقها وإن شاء يمسكها فليمسكها فإنها العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء رواه الدارقطني

وهذه الرواية تفسير الرواية الأخرى وتبين أن المسيس والطلاق إنما يكون بعد الاغتسال ولأن ما قبل الاغتسال في حكم الحيض في تحريم الوطء وبقاء العدة وجواز الرجعة فكذلك في تحريم الطلاق وابتداء العدة وطرد ذلك إذا قلنا إن حضت حيضة فأنت طالق ووجه الأول ظاهر حديث ابن عمر في الرواية المشهورة ولأنه يصح فيه صومها وتجب فيه الصلاة فأشبه ما بعد الاغتسال الفصل السادس

أنه يمنع الاعتداد بالأشهر إذا حصلت الفرقة في الحياة ويوجب الاعتداد به لقوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } وقوله سبحانه { واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن } فأمر بثلاثة قروء إنما هو لذوات القروء ومفهوم قوله تعالى واللائي يئسن واللائي لم يحضن أن من ليست من الآيسات ولا من الصغار تعتد بسوى ذلك وهو الحيض فأما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا سواء صغيرة أو آيسة أو ممن تحيض لقوله { والذين يتوفون منكم } الآية فعم ولم يخص الفصل السابع

أنه يوجب الغسل وهذا إجماع لما روت عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش كانت تستحاض فسألت النبي ﷺ فقال إنما ذاك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي رواه البخاري وقد تقدم أمره للحائض بالاغتسال من حديث أم سلمة وعائشة وأسماء وغيرهن ولأن الله سبحانه وتعالى أخبر أن الحائض ليست بطاهر لقوله { ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن }

وأمر بالطهارة للصلاة بقوله في سياق آية الوضوء { وإن كنتم جنبا فاطهروا } إلى قوله { ولكن يريد ليطهركم } مع قوله ﷺ لا يقبل الله صلاة بغير طهور أخرجه مسلم فعلم بذلك أن صلاتها قبل التطهر صلاة بغير طهور فلا تصح ولأن حدثها أغلظ من حدث الجنب فهي بالغسل أولى والموجب له عند بعض أصحابنا انقطاع الدم لأن ما قبل ذلك لا يصح اغتسالها فلا يكون الغسل واجبا وعند بعضهم الموجب له خروج الدم وانقطاعه شرط لصحته كما يجب الغسل والوضوء بخروج الخارجات قبل انقطاعها وإن كانت الطهارة لا تصح إلا بعد انقطاعها وهذا أقيس ولو كان عليها غسل جنابة وهي حائض لم يجب عليها لأنه لا يفيد شيئا لكن إن كانت الجنابة قد أصابتها قبل الحيض يستحب لها أن تغتسل غسلها من الجنابة وإن كانت حائضا نص عليه في مواضع لأنها تستفيد بذلك ارتفاع حدث الجنابة الواجب قبل الحيض ومتى اغتسلت صح وارتفع حدث الجنابة وبقي حدث الحيض الفصل الثامن

أنه يوجب البلوغ بما روت عائشة رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال لا يقبل الله صلاة حائض إلا بخمار رواه الخمسة إلا النسائي ولأنه بالحيض تصلح المرأة أن تكون أما فحصل به الادراك والبلوغ كالانزال ولأنه أحد الأصلين من المرأة اللذين يخلق منهما الانسان فحصل البلوغ به كالمني ولأن بلوغ الأشد هو استكمال الانسان قواه والحيض والإمناء قوى آخر البدن حصولا فيه يحصل بلوغ الأشد

مسألة وأقل الحيض يوم وليلة

الأصل في هذا الكلام أن الأسماء التي علقت الأحكام بها في الشرع ثلاثة أقسام

أحدها ما بين حده ومقداره بالشرع كأعداد الصلاة ومواقيتها ونصب الزكوات وفرائضها وعدد الطوفات ونحو ذلك

وثانيها ما يعلم حده ومقداره من جهة اللغة كالليل والنهار والبرد والفجر والسنة والشهر ونحو ذلك

وثالثها ما ليس له حد في الشرع ولا في اللغة فالرجوع فيه إلى ما تعرفه الناس ويعتادونه كالجود والقبض والتفرق ونحو ذلك والحيض شبيه بهذا القسم فإن الدم الخارج من الفرج قسمان دم حيض ودم عرق ولا بد من الفصل بينهما لترتيب أحكام الحيض على عدم الحيض دون الدم الآخر

ولا شك أن دم الحيض دم طبيعة وجبلة مثل خروج المني والبول وغير ذلك من الإنسان ودم الاستحاضة دم فساد ومرض وعرق فإذا خرج الدم على الوجه المعتاد في النساء كان دم حيض وإن خرج من العادة كان استحاضة بمنزلة الجرج والغالب على النساء أنهن يحضن ستا أو سبعا وقد وجد كثيرا من تحيض أقل من ذلك قال عطاء بن أبي رباح رأيت النساء من كانت تحيض يوما ومن كانت تحيض خمسة عشر يوما وذكر إسحاق بن راهوية عن بكر المزني أنه قال

تحيض آمائي يومين وذكر عبد الرحمن بن مهدي عن أمرأة يقال لها أم العلا قالت حيضتي منذ آباد الدهر يومان فلم تزل على ذلك حتى قعدت عن الحيض وقا الشافعي رأيت أمرأة أثبت لي عنها أنها لم تزل تحيض يوما لا تزيد عليه وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثة أيام وقال إسحاق قد صح في زماننا عن غير واحدة أنها قالت حيضتي يومان قال وقالت أمرأة معروفة من أهلنا لم أفطر منه عشرين سنة في رمضان إلا يومين وقال أبو عبد الله الزبير المصري كان من نسائنا من تحيض يوما ومن تحيض خمسة عشر يوما فإذا كان هؤلاء العلماء قد أخبروا بذلك أعلم أن في النساء من تحيض اليوم واليومين كثيرا فصار ذلك أمرا معروفا معتادا في النساء وكذلك قال الخلال مذهب أبي عبد الله لا ختلاف فيه أن أقل الحيض يوم وأكثره خمسة عشر لكن اختفلت الرواية في هذا اليوم فعنه هو يوم بليلته كما ذكره الشيخ وعنه يوم بدون ليلته اختاره أبو بكر لأن الأوزاعي قال عندنا أمرأة تحيض بكرة وتطهر عشية ولأن الأصل في كل دم خارج أن يكون حيضا لأن دم الاستحاضة دم عارض لعلة والأصل عدمها والأولى اختيار الخرقي وأكثر أصحابنا لأن اليوم المطلق هو بليلته ولأن ذلك هو ثبت تكرره في النساء ما دون ذلك لم ينقل إلا عن واحد فلا يثبت العرف والعادة به كما لم تثبت العادة حق المرأة بمرة واحدة فأما ما دون اليوم إذا وجد فلا يكون حيضا لأنه لم يثبت في ذلك حيض معتاد فأشبه دم الصغيرة والآيسة ولأن الحيض يمنع الصوم والصلاة كما في الأحاديث والمجة الواحدة لا تمنع ذلك

مسألة وأكثر خمسة عشر يوما

هذا هو المشهور عنه وقد روي عنه أن أكثره سبعة عشر يوما لما ذكره عبد الرحمن بن مهدي قال أخبرتني أمرأة ثقة من جيراني أنها تحيض سبعة عشر وحكى أيضا عن نساء الماجشون أنهن كن يحضن سبع عشرة والأول أشهر عند أصحابنا لأن حيض الخمسة عشر هو الذي كثر وجوده في النساء كما تقدم وقال أحمد حدثني يحيى بن آدم قال سمعت شريكا يقول عندنا أمرأة تحيض كل شهر خمسة عشر يوما وقال ابن المبارك قال الأوزاعي ومالك بن أنس كانت عندنا أمرأة تحيض قال أحدهما خمسة عشر يوما وقال الآخر تحيض يوما واحدا حيضا معتدلا وقا الشافعي أثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن خمسة عشر يوما وقال إسحاق بن راهوية سمعنا من النساء من يحضن أحد عشر يوما أو اثني عشر يوما أو أربعة عشر يوما أو خمسة عشر يوما كل ذلك صح عن العلماء واستيقنوا ذلك عن نسائهم وغيرهن

وما زاد على ذلك فنادر لا يبني عليه قال عبد الرحمن بن مهدي لم يبلغنا أن أمرأة حاضت أكثر من خمسة عشر يوما إلا واحدة حاضت سبعة عشر يوما وقال إسحاق لست أرى ما زاد على الخمسة عشر يصح كصحة الخمسة عشر يوما وقال في الخمسة عشر هي إجماع أهل العلم وما عقلوه وقد احتج على ذلك بما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ قال ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن أما ناقصات العقل فشهادة أمرأتين تعدل شهادة رجل وأما نقصان دينها فإنها تمكث شطر عمرها لا تصلي والشطر النصف فهذا يدل على أن النصف هو منتهى نقصان دينهن إذ لو كان أكثر من ذلك لذكره في معرض بيان نقص دينهن ولأنه لو لم يرد ذلك لذكر إما الغالب أو الأقل وهذا يدل أيضا على أن أقل الطهر خمسة عشر يوما إذ لو كان أقل من ذلك لذكره لأنه الغاية في نقص الدين فإن قيل بل أعتبر الغالب لأن غالب الأعمار من الستين إلى السبعين فقريب الربع قبل البلوغ وما بقي ترك الصلاة نحو ربعه فيسلم النصف قلنا ما تركت من الصلاة قبل البلوغ يشتركن فيه هن والرجال فلا يجوز أن يعد من نقص دينهن وأما قبل البوغ ليس الإنسان من أهل التكليف أصلا فلا يوصف منعه من الصلاة بنقص دين

مسألة وأقل الطهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوما ولا حد لأكثره

أما أكثر الطهر فلا حد له لأن من النساء من تطهر الشهر والسنة كما أن منهن من لا تحيض أبدا وأما أقله فثلاثة عشر وهذا هو المشهور من المذهب وقالت طائفة من أصحابنا أكثره خمسة عشر وحكاه ابن أبي موسى والقاضي وغيرهما رواية عن أحمد لما سبق وسلك طائفة من أصحابنا طريقه في ذلك وهو أن الله جعل عدة الآيسة والصغيرة ثلاثة أشهر في مقابلة القروء الثلاثة التي هي عدة من الحيض كل شهر مقابل قرء أو لا يجوز أن يكون في مقابله أقل الحيض والطهر لأن أقلهما يكون أقل من ذلك ولا في مقابلة أكثرها أو أقل وأكثر الطهر لأن أكثر الطهر لا غاية له فبقي أن يكون في مقابلة أقل الطهر وأكثر الحيض ثم منهم من قال أكثر الحيض خمسة عشر فأقل الطهر خمسة عشر وقال أبو بكر وغيره أقل الطهر ثلاثة عشر فأكثر الحيض سبعة عشر وعنه أنه ليس بين الحيضتين شيء مؤقت وهو على ما تعرف المرأة من عادتها وإن كانت اثنى عشر يوما أو عشرة أيام لأنه لا يؤقت في ذلك فيرجع فيه إلى العادة كأكثر الطهر ووجه المشهور ما احتج به الإمام أحمد ورواه عن علي رضي الله عنه أن أمرأة جاءت إليه قد طلقها زوجها فزعمت أنها حاضت في شهر ثلاث حيض طهرت عند كل قرء وصلت فقال علي لشريح قل فيها فقال شريح إن جاءت ببينة من باطنة أهلها ممن يرضى دينه وأمانته شهدت أنها حاضت في شهر ثلاثا وإلا فهي كاذبة فقال على قالون معناه بالرومية جيد

وذكر إسحاق عن عطاء وابراهيم النخعي كذلك ولا يعرف لهم مخالف ولا يمكن في شهر ثلاث حيض إلا بأن تكون الثلاثة عشر طهرا كاملا فيثبت بهذا الحديث أن الثلاثة عشر طهرا صحيح فاصل بين الحيضتين وما دون ذلك لم يثبت فيه توقيف ولا عادة فلم يجز أن نجعل الدم الموجود في طرفه حيضتين إلا بدليل بخلاف ما إذا جعلناه حيضة واحدة فإن الأصل عدم التعدد والتغاير والله أعلم

مسألة وأقل سن تحيض له المرأة تسع سنين

هذا هو المشهور في المذهب

وقد روي عنه في ابنة عشر إذا رأت الدم فليس بحيض قال القاضي فعلى هذه الرواية يكون أول زمن الحيض أول زمن الاحتلام وهو اثنتا عشرة سنة لما روي عن مكحول عن أبي أمامة عن النبي ﷺ قال ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش شافع ومشفع من لم يبلغ اثنتي عشرة سنة ومن بلغ ثلاث عشرة سنة فعليه وله رواه أبو بكر والشافعي في الغيلانيات

ووجه الأول ما ذكره البخاري عن عائشة قالت إذا بلغت المرأة تسع سنين فهي أمرأة ورواه القاضي أبو يعلى عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ إذا أتى على الجارية تسع سنين فهي أمرأة وفي إسناده نوع جهالة لكنه إذا م يكن حجة وحده فقد أيده قول صحابي ولولا أن التسع يمكن فيها البلوغ لما كانت المرأة ببلوغها ولأن المرجع في ذلك إلى الموجود والعادة ولم يعرف حيض معتاد قبل استكمال التسع فإن ندر وجود دم فهو دم فساد فأما بعدها فقد وجد حيض وحبل وقال الشافعي أقل من سمعته من النساء تحيض نساء تهامة تحيض لتسع سنين وقال أيضا أرأيت جدة لها إحدى وعشرين سنة حجر عليها

مسألة وأكثره ستون سنة

لا يختلف المذهب أن لانقطاع الحيض غاية إذا بلغتها المرأة لم تحض بعدها بل يكون الدم حينئذ دم فساد لأن الله تعالى قال { واللائي يئسن من المحيض } ولو أمكن أن الحيض لا ينقطع أبدا لم ييئسن أبدا ولأنه لم يوجد حيض معتاد في بنت المائة ونحوها فإن وجد شيء من ذلك فهو دم فساد كالصغيرة وهذه الغاية ستون سنة في إحدى الروايات لأن ما قبل ذلك قد وجد فيه حيض معتاد بنقل نساء ثقات

والثانية خمسون لقول عائشة إذا بلغت المرأة خمسين سنة خرجت من حد الحيض ذكره الإمام أحمد ورواه الدارقطني ولفظه لن ترى المرأة في بطنها ولدا بعد خمسين سنة قالوا وهذا تقدير لا يدرك بالرأي فيشبه أن يكون توقيفا والثالثة ستون في نساء العرب لأن نساء العرب أشد جبلة وأسرا وقد ذكر الزبير بن بكار في جملة النسب عن بعضهم أنه قال

لا تلد الخمسين إلا عربية ولا تلد لستين إلا قرشية وقال أن هند بنت عبيدة بن عبد الله بن زمعة ولدت موسى بن عبد الله بن حسين بن حسن ولها ستون سنة

وجعل الخرقي ما بين الخمسين إلى الستين دما مشكوكا فيه هل هو حيض أو استحاضة لتعارض العادة التي توجب أن يكون حيضا وقول عائشة الذي ظاهره التوقيف فتصوم فيه وتصلي لجواز أن لا يكون حيضا صحيحا كالمستحاضة وتغتسل إذا انقطع الدم وتقضي الصوم لجواز أن يكون حيضا صحيحا

مسألة والمبتدأة إذا رأت الدم لوقت تحيض في مثله جلست فإذا انقطع لأقل من يوم وليلة فليس بحيض

وذلك لأن الحيض هو شيء كتبه الله على بنات آدم ولا بد للمرأة في الغالب منه ودم الاستحاضة دم فساد ومرض لعارض والأصل هو الصحة والسلامة فيجب بناء الدم على الأصل والحاق الفرد بالأعم الأغلب فلذلك تجلس عن الصلاة أول ما ترى الدم فإن انقطع لأقل من يوم وليلة عى المشهور فهو دم فساد لأن الحيض لا يكون أقل من ذلك فتقضي ما تركت فيه من الصلاة

مسألة وإذا جاوز ذلك ولم يعبر أكثر الحيض فهو حيض

لا تخلو المبتدأة إما أن ينقطع دمها ليوم وليلة ويستمر بها فإن انقطع فهو حيض تغتسل لانقطاعه وتصير طاهرا في جميع الأحكام ولا يكره لزوجها وطؤها كالمعتادة إذا طهرت لعادتها وعنه يكره وطؤها حتى يتكرر بها ذلك مرتين أو ثلاثا فتطهر أيام حيضها لأنها لا تأمن معاودة الدم في حال الوطء ولا مشقة عليه في الامتناع فيكره وطؤها كالنفساء إذا انقطع دمها لدون الأربعين فعلى هذا يترك الوطء إلى تمام أكثر الحيض كما قالوا في النفساء هذا موجب تعليل القاضي وصرح به غيره وإن استمر بها فالمشهور عن الإمام أحمد وهو اختيار أكثر أصحابه بأنها تحتاط فتغتسل عقب اليوم والليلة لجواز أن يكون المستمر دم استحاضة وتصوم الفرض وتصلي في هذه الأيام ثم إن انقطع لأكثر الحيض فما دونه اغتسلت غسلا ثانيا لاحتمال أن يكون حيضا فإن استمر بها الدم ثانية وثالثة على وجه واحد تبينا أنه دم حيض فتقضي ما صامت فيه أو طافت فيه من الفرض لأنه وقع في أيام الحيض فيجعل ما زاد على الحيض المتيقن مشكوكا فيه حتى يصير معتادا وإن انقطع دمها في الشهر الثاني لأقل الحيض تبينا أنه في الشهر الأول دم فساد فلا تقضي الصوم والطواف فيه لأنها فعلته في دم لم يحكم بأنه حيض وإنما هو كدم الاستحاضة ولأن اختلاف العادة يؤثر فيما ثبت أنه حيض ففيما لم يثبت أنه حيض أولى وهكذا إن زاد في الشهر الثاني على حيض الشهر الأول أو تقدم فإن الزيادة دم فساد لأنها لم تتكرر وقد ذكر أبو بكر وأكثر أصحابنا في هذه المسألة ثلاث روايات أخر إحداهن أنها تجلس الدم جميعه ما لم تعبر أكثر الحيض اختاره الشيخ رحمه الله هنا وهو اقيس في بادىء الرأي لأن الأصل في الدم الخارج أن يكون حيضا ما لم يقل دليل على فساده ولا دليل هنا لأنه موجود في زمن الإمكان المعتاد ولأن أول الدم جلسته لأنه في وقت الإمكان فكذلك آخره ولأنه كان دم حيض قبل اليوم والليلة والأصل في بقائه على ما كان ولأن النساء لم يزلن يحضن على عهد رسول الله ﷺ وأصحابه ولم ينقل أنهن كن يؤمرن في أثناء الحيضة الأولى والثانية بالاغتسال عقب يوم وليلة ولو فعلن ذلك لنقل والثانية أنها تجلس غالب عادات النساء ستا أو سبعا كما تجلسه المستحاضة لأن الدم الموجود في هذه الأيام يظهر أنه حيض بخلاف ما بعد ذلك فاحتطنا له

والثالثة أنها تقصد عادة نسائها مثل أمها وأختها وعمتها وخالتها لأن الحيض هو من باب الطبائع والجبلات وبنوا الأب الواحد والأم الواحدة أقرب إلى الاشتراك في ذلك من غيرهم

وقال القاضي المذهب عندي رواية واحدة أنها تجلس أقل الحيض وإنما الروايات في المبتدأة المستحاضة وطريقة الجمهور أقوى لأن أبا بكر أثبت ذلك عن أحمد وحكوا عنه ألفاظا تدل على ذلك وقد قال بعضهم إذا كان قد جعل ما زاد على الأقل حيض في المستحاضة مع انفصاله بدم فاسد لكونه صالحا له فالصالح الذي م يتصل بدم فاسد أولى وهذه الأولوية لا تجيء على المذهب لأنها متى استحيضت فليس لها وقت ترتقبه تميز فيه دم الحيض عن غيره ولا سبيل إلى جعل الزائد مشكوكا فيه أبدا لإفضائه إلى الحرج العظيم وليس الاحتياط بأن تصلي وتصوم أولى من الاحتياط بأن لا تصلي وتقضي الصوم وقد تبينا أن بعض هذا الدم حيض وبعضه استحاضة فلهذا عدلنا إلى الفرق بين دم الحيض والاستحاضة بخلاف ما إذا لم يتجاوز أكثر الحيض فإنه دائر بين أن يكون حيضا أو استحاضة فأمكن الاحتياط فيه لانكشاف الأمر فيما بعد وهذا وجه المشهور ولأن هذا الدم لا تبنى عليه الاستحاضة على أصلنا فلم يكن حيضا كسائر الدماء الفاسدة ولأنه ليس قبله عادة ولا نتيقن أن بعده عادة والحيض الصحيح حاصل بدونه وهو دائر بين الحيض والاستحاضة فلم تترك الصلاة المتيقنة بشيء مشكوك فيه بخلاف اليوم والليلة فإن المرأة أهل للحيض وقد رأت الدم ولا بد أن يكون منه ما هو دم حيض ويستحيل أن يكون الدم خارج في وقت الإمكان جميعه استحاضة وأمرناها أن تجلس أول ما رأته وإن جاز انقطاعه قبل اليوم لأن الأصل جريانه واستمراره فإن الانقطاع خلاف الأصل

فصل

فعلى الرواية المشهورة عن أحمد إذا قلنا أنها لا تجلس ما زاد على أقل الحيض حتى تصير عادة وقلنا العادة المعتبرة أن تتكرر ثلاث مرات فقالت طائفة من أصحابنا في المرة الرابعة تعمل بها فعلى هذا إذا تكرر الدم في الأشهر الثلاثة عى قدر واحد جلسته في الشهر الرابع ولم تغتسل إلا حين الانقطاع ولم تصل ولم تصم وتقضي ما حاضت من الفرض في تلك الحيضات وإن اختلف قدر الدم جلست القروء والمتفق عليه فلو رأت شهراسبعا وشهرا ستا وشهرا خمسا جلست في الرابع الخمس لأنها صارت عادة وسواء كان الاختلاف مرتبا أو غير مرتب فالمرتب أن تكون الزيادة والنقص على ترتيب مثل أن تحيض في الشهر الأول خمسا وفي الثاني ستا وفي الثالث سبعا أو بالعكس فتكون العادة خمسا على إحدى الروايتين وفي الأخرى ستا وغير المرتب مثل أن تحيض ستا ثم خمسا ثم سبعا فلا تكون العادة إلا الخمس لا تردد في أحد الوجهين لأن في اليوم السادس لم يتكرر متواليا بل انقطع في الشهر الثاني فيبطل كونه حيضا ولا بد في العادة من التكرر المتوالي وفي الوجه الآخر تجري فيه الروايتان ولا يجوز وطؤها في هذا الدم وأجزنا وطء المستحاضة لأن هذا الدم أسوأ أحواله أن يكون مشكوكا فيه فيجب الاحتياط بترك الوطء فيه كما أحتيط بالصلاة فيه ولهذا كان صومها وطوافها واعتكافها هنا موقوفا وفي المستحاضة صحيحا وقال القاضي وابن عقيل إذا أثبتنا العادة بثلاث مرات فإنا نتبعها في المرة الثالثة وإن أثبتناها بمرتين عملت بها في المرة الثالثة وكلام أحمد يقتضي هذا وهو أشبه لأن العادة في المرة الثالثة كأقل الحيض في أول مرة فوجب العمل به من أول زمنه

مسألة فإذا تكرر ثلاثة بمعنى واحد صار عادة

هذا أشهر الروايتين وعنه أنه يصير عادة بتكرار مرتين فتبني عليه المبتدأة في المرة الثالثة أو في المرة الثانية على اختلاف الطريقين لأن العادة مشتقة من العود وذلك يحصل في المرة الثانية والأول أصح لأن النبي ﷺ لما رد المستحاضة إلى عادتها قال اجلسي قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها وقال اجلسي قدر ما كانت تسحبك حيضتك وقال لتنظر ما كانت تحيض في كل شهر وحيضها مستقيم فلتعتدد بذلك ولا يقال كانت تفعل كذا إلا لما دام وتكرر دون ما وجد مرة أو مرتين وقال في حديث آخر تجلس أيام اقرائها وأقل ما تكون الأقراء ثلاثة ولأن الثلاث آخر حد القلة وأول حد الكثرة ولهذا قدر بها أشياء كثيرة مثل جيار المصارة وخيار المخدوع ومدة الهجرة والإحداد على غير الزوج وإقامة المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه وغير ذلك وقولهم العادة مشتقة من العود إنما يصح لو كان الشرع هو الذي علق الحكم باسم العادة والعادة من ألفاظ الفقهاء وهذا كما يقول بعضهم أقل أسماء الجموع اثنان لأن الجمع الضم وذلك موجود في الاثنين وإنما يصح هذا لو كان العرب سمت هذه الألفاظ جموعا وإنما هذه تسمية النحاة ثم لو راعينا الاشتقاق فإن العادة لا تحصل بعود مرة لأن أصلها عودة فلما تحركت الواو وانفتح ما قبلها قبلت الفا وهذه صيغة مبالغة فلا يحصل ذلك إلا بتكرار العود وأقل ما يتكرر فيه العود مرتين بعد الأولى وسواء كانت الأشهر الثلاثة متوالية أو متفرقة حتى لو حاضت سبعا ثم ستا ثم خمسا فإنها تجلس الخمس فإن حاضت في الشهر الرابع ستا صارت هي العادة كتكررها ثلاث مرات هذا أحد الوجهين

وفي الثاني لا تثبت العادة إلا بتوالي أشهر الحيض لأنها لما حاضت بعد ذلك ستا صار اليوم السادس حيضا مبتدئا لا معتادا وهذا أشبه بالمذهب لأن من أصلنا أن العادة إذا نقصت في بعض الأشهر فإن كانت تحيض عشرا فحاضت في شهر سبعا ثم استحيضت في عقب ذلك فإنها تبني على سبع

مسألة وإن عبر ذلك فالزائد استحاضة

المستحاضة هي التي يخرج منها دم الحيض وليس بحيض بل هو دم عرق وفساد لمرض أو انحلال طبيعة أو غير ذلك وهذا الدم يفارق حكمه حكم الحيض لأنه شبيه بدم الجرح والفصاد ونحو ذلك وليس هو دم الجبلة الذي كتبه الله على بنات آدم وخلقه لحكمة غذاء الولد وتربيته وهو ثلاثة أقسام

أحدها أن تعلم أنه دم استحاضة كالدم تراه الصغيرة والعجوز الكبيرة أو الذي يجاوز أكثر الحيض فإن الذي يجاوز أكثر الحيض يعلم أنه استحاضة

وثانيها أن تقوم الامارة على أنه دم استحاضة من العادة أو التمييز أو غيرها

وثالثها أن يلتبس الأمر ويشتبه كما سنذكر إن شاء الله تعالى وهذا الذي يشتبه على قسمين منه ما يعلم أن بعضه حيض وبعضه استحاضة وقد اختلط هذا بهذا ومنه ما لا يدري أدم حيض هو أم دم استحاضة وهذا هو المشكوك فيه فصارت الدماء ثلاثة أصناف منها ما يحكم بأنه حيض ومنها يحكم بأنه استحاضة ومنها ما يشك فيه فمتى عبر الدم في المبتدأة أكثر الحيض فهي مستحاضة يجري عليها حكم المستحاضات كالمعتادة ثبت في حقها حكم الاستحاصة في أول مرة في أصح الوجهين وفي الاخر وهو قول القاضي قديما لا يثبت في حقها حكم المستحاضة حتى يتكرر مرة أو مرتين على اختلاف الروايتين لأنه يرجى انكشاف حالها قريبا بحدوث عادة لها فتجلس على قوله يوما وليلة في ظاهر المذهب في الأشهر الثلاثة على قولنا لا تثبت العادة إلا بثلاث ومن الثالث أو الرابع تجلس كما تجلسه المستحاضة وهو ست أو سبع في المشهور وإن تبين أن بعض ما تجلسه كان حيضا فتقضي صومه كغير المستحاضة والوجه الأول أصح وقد نص على معناه وهو الذي اختاره عامة أصحابنا حتى القاضي أخيرا ثم إن كانت جلست أكثر الحيض كما ذكره الشيخ فتغتسل عند انقضاء زمن الحيض وتلتزم حكم المستحاضة من حينئذ لأنها قبل ذلك لم تكن تعلم أنها مستحاضة فإذا استمر بها الدم في الشهر الثاني عملت إما بالتمييز أو بالغالب كما سيأتي وما تركته من الصلاة في الشهر الأول في الزمن الذي تبين أنها كانت فيه استحاضة إما بالتميز أو بالغالب فإنها تقضيه وإن كانت جلست أقله فإنها تقضي ما صامت في المدة التي تبين أنها حيض فكذلك إن جلست غالبة أو عادة نسائها

مسألة وعليها أن تغتل عند آخر الحيض

هذا على ما ذكره وهو أنها تغتسل عند آخر الذي قعدته أولا فكذلك كل استحاضة فإن عيها أن تغتسل عند آخر الحيض لأن النبي ﷺ قال فاطمة بنت أبي حبيش إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي رواه البخاري

ولا يجب عليها في مدة الاستحاضة غسل وإنما عليها أن تتوضأ لأن في حديث فاطمة وتوضأي لكل صلاة ولم يأمرها بالغسل وحيث ما جاء الوضوء فهو استحاضة وإن اغتسلت كل يوم غسلا من الظهر إلى الظهر فهو أفضل من الوضوء لأنه ما من يوم إلا ويمكن أن دم الحيض قد انقطع فيه والأفضل من ذلك أن تغتسل ثلاثة أغسال غسلا تجمع به بين الظهر والعصر وغسلا تجمع به بين المغرب والعشاء وغسلا تصلي به الفجر فتكون قد صلت بطهارة محققة وأشد ما قيل فيها أن تغتسل لكل صلاة لما روي عن عائشة قالت استحيضت زينب بنت جحش فقال لها النبي ﷺ اغتسلي لكل صلاة رواه أبو داود وعن عائشة أن سهلة بنت سهيل بن عمرو استحيضت فأتت رسول الله ﷺ وسألته عن ذلك فأمرها بالغسل عند كل صلاة فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل والمغرب والعشاء بغسل والصبح بغسل رواه أحمد وأبو داود ولأن وقت كل صلاة يجوز أن يكون قد انقطع دم الحيض لا سيما في المتحيرة لأن العادة والتمييز ليسا بدليل قاطع لجواز انتقال العادة وكون الأصفر والأحمر دم حيض ولأنه وإن كان استحاضة محققة فهو شبيه بدم الحيض فجاز أن يستحب معه الغسل كالحجامة وأولى

مسألة وتغسل فرجها وتعصبه

لأن النبي ﷺ قال لفاطمة قإذا أدبرت الحيضة فاغسلي عنك الدم وصلي وقال لحمنة أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت إنه أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أشد من ذلك قال فتلجمي وقال في حديث أم سلمة للمستحاضة لتستثفر بثوب قال الخطابي هو أن تشد ثوبا تحتجز به يمسك موضع الدم لمنع السيلان فقد أمر النبي ﷺ بغسل الدم وأمر بما يوجب حبس الدم عن السيلان من احتشاء أو شد أو تعصيب حسب الإمكان وذلك لأنه نجاسة وحدث أمكنت الصلاة بدونها فوجب الاحتراز منه كغير المعذور وإن غلب الدم وخرج بعد إحكام الشد والتلجم لم يضر ولما روت عائشة رضي الله عنها قالت اعتكفت مع رسول الله ﷺ أمرأة من ازواجه فكانت ترى الدم والصفرة والطست تحتها وهي تصلي رواه البخاري

وعن عائشة أن النبي ﷺ قال لفاطمة بنت أبي حبيش اجتنبي الصلاة أيام محيضك ثم اغتسلي وتوضأي لكل صلاة وصلي وإن قطر الدم على الحصير رواه أحمد وابن ماجة والدارقطني

وكان عمر رضي الله عنه لما طعن يصلي وجرحه يشخب دما احتج به الإمام أحمد ورواه هو وغيره وقال إسحاق كان زيد بن ثابت به سلسل البول وكان يداويه ما استطاع فإذا غلبه توضأ ولا يبالي ما أصاب ثوبه ولأن هذا أقصى ما يمكنه ولا يكلف الله نفسها إلا وسعها ولا إعادة عليه لأنه فعل ما أمر به ولأنه عذر يتصل به ويدوم ففي إيجاب الإعادة مشقة ويجب إعادة غسل الدم والتعصيب لوقت كل صلاة كالوضوء في أحد الوجهين سواء ظهر الدم في ظهر العصابة أو كان بباطنها والآخر لا يجب وهو أقوى لأن في غسل العصائب كل وقت وتجفيفه أو إبداله بطاهر مشقة كبيرة بخلاف الوضوء ولأن النبي ﷺ لما أمرها بالوضوء لكل صلاة لم يذكر غسل الدم وعصب الفرج

مسألة وتتوضأ لكل صلاة وتصلي

وجملة ذلك أنه لا يجوز أن تتوضأ إلا بعد دخول الوقت فإذا توضأت صلت به ما شاءت من الفروض والنوافل وعنه لا تجمع بوضوء واحد فرضين لكن إذا غتسلت فلها أن تجمع بالغسل بينهما لأن النبي ﷺ قال لفاطمة وتوضئي لكل صلاة وجوز الجمع بين الصلاتين بغسل واحد لحمنة بنت جحش وسهلة بنت سهيل والمشهور الأول لأنه إذا جاز أن تجمع بين الفرضين بغسل واحد جاز بوضوء واحد لأن الحدث قائم في الموضعين وإنما كان الغسل أفضل خشية أن يكون الخارج دم حيض وقوله توضئي لكل صلاة أي لوقت كل صلاة من الصلوات المعهودة لما روى ابن بطة بإسناده عن حمنة بنت جحش أنها كانت تهراق الدم وأنها سألت رسول الله ﷺ عن ذلك فأمرها أن تغتسل لوقت كل صلاة

لأنه يجوز لها الجمع بين نوافل وفرض ولو أراد أنها تتوضأ لفعل كل صلاة مطلقا لما جاز ذلك ولأن الصلاة الراتبة هي المشهورة فأما الفوائت والمجموعة فنادرة فإذا قيل توضأ عند كل صلاة انصرف الإطلاق إلى المعهود ولهذا لما قال أنس كان رسول الله ﷺ يتوضأ لكل صلاة لم يفهم إلا الصلوات الخمس في مواقيتها ولا يجوز طهارتها قبل الوقت لأنها طهارة ضرورة فلم يجز في وقت الاستغناء عنها كالتيمم وأولى لأن سبب الحدث هنا خارج عند التطهر وبعد بخلاف التيمم فإن القائم هناك الحدث ولأنه حكم مقيد بالضرورة فيقدر بقدها كأكل الميتة

ولأن الحدث الخارج ينقض الوضوء ويوجب الاستنجاء إلا ما عفي عنه للضرورة ولا ضرورة قبل الوقت فإذا خرج الوقت انتقضت طهارتها كما تنتقض بدخوله لو توضأت قبل ذلك في أحد الوجهين اختاره القاضي والوجه الآخر وهو ظاهر كلام أحمد أنها لا تبطل بخروج الوقت وإنما تبطل بدخوله فإذا توضأت للفجر لم يبطل وضوؤها إلا بزوال الشمس لأن النبي ﷺ أمرها أن تغتسل لوقت كل صلاة وتتوضأ لكل صلاة وذلك يقتضي بقاء طهارتها من الوقت إلى الوقت ولأن كلما دخل وقت صلاة فهي مأمورة بالوضوء لها فوجب عليها وجاز أن تصلي بما شاءت بعد ذلك تبعا فلا فرق بين ما تفعله في الوقت أو بعد الوقت فإذا توضأت فإنها تنوي رفع الحدث المتقدم أو استباحة الصلاة من الحدث المتأخر فإن نوت رفع الحدث فقط لم يكن لأن سبب الحدث دائم فلا يرتفع هكذا ذكره بعض أصحابنا وكلام غيره يقتضي أنه لا يجب عليها ذلك لأنهم قالوا هذه الطهارة ترفع بها حدثا سابقا ولا يوثر فيها تجدد الحدث بل يتعقب هذا الحدث طهارتها فتكون محدثة وإن أجزنا لها الصلاة مع الحدث لأنه لم يمكن في حقها أكثر من ذلك وإن نوت الاستباحة فقط أجزأ لأنه يعم الاستباحة من الحدثين ويتضمن ارتفاع الحدث المتقدم ولا يجب أن تنوي الطهارة للفريضة مثل التيمم لأن هذه الطهارة ترفع الحدث الذي أوجبها وهو المتقدم والحدث المتجدد بعد ذلك معفو عنه للضرورة فلا يوجب طهارة أخرى والأفضل أن تصلي في عقب الطهارة إحترازا عن الحدث والنجاسة بعد الإمكان إلا أن تؤخرها لبعض مصالحها كانتظار جماعة أو إقامة أو تكميل سترة فإن أخرتها لغير مصلحة فقد قيل لا يجزؤها لأنه أمكن التحرز عن ذلك فأشبه ما لو لم يحكم الشد والصحيح أنه يجزىء لأن الطهارة مقيدة بالوقت كما تقدم ولأنه يجوز لها أن تطيل القراءة والتسبيح في الصلاة فجاز لها التأخير كصلاة المغرب بخلاف ما بعد خروج الوقت فإنه لا يجوز مد الصلاة إليه عمدا ولأن طهارتها باقية في حق النوافل التي لم تصلها تبعا مع تأخيرها فلاأن يبقى لفرض الوقت أولى

مسألة وكذلك حكم من به سلس البول ومن في معناه

يعني كل من به حدث دائم لا ينقطع قدر ما يتوضأ ويصلي كسلس البول والمذي والريح والجرح الذي لا يرقأ والرعاف الدائم قال هؤلاء يتوضؤون لكل صلاة ويمنعون الحدث بقدر الطاقة ثم من كان حدثه بخروج نجاسة وجب تطهيرها إن أمكن كالجريح ومن لم يمكنه أن يعصب على جرحه عصابا لم يكن عليه شيء فإن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه يثغب دما ولأن هذا حدث دائم فأشبه المستحاضة وينقض طهارتهم ما ينقض طهارة غيرهم سوى الحدث الدائم مثل أن يبول أحدهم أو يمس ذكره لأنه في هذا الحدث بمنزلة الصحيح فأما الحدث الدائم فإن كان متواصلا أو يقطع تارات لايتسع الوضوء والصلاة لم تبطل الطهارة كما تقدم لأنه لو أبطل الطهارة مطلقا لما أمكنت الصلاة معه وإن انقطع قدرا يتسع الوضوء والصلاة فهو على قسمين

أحدهما أن ينقطع عن برء بأن لا يعود بعد ذلك فيتبين بهذا الانقطاع بطلان طهارته لأن الحدث الخارج قبل الانقطاع كان مبطلا للطهارة وإنما عفي عنه للضرورة فمتى زالت الضرورة ظهر أثره وكذلك الحدث القائم ببدن المتيمم فإن انقطع ولم تعلم هل هو عن برء أو غير برء لم يحكم بأنه برء لأن الأصل عدم البرء وبقي بلا سبب الاستحاضة فرن لم يعد وتبين أنه كان عن برء حكمنا ببطلان كل صلاة صلتها بعد هذا الانقطاع إذا كان قد وجد قبله حدث بعد الطهارة لأنا تبينا أنها صلت بعد انتقاض وضوئها انتقاضا يوجب الوضوء وأفضى إلى ما فيها أنها جاهلة بالحدث ولا فرق في بطلان الصلاة بين العالم بالحدث والجاهل به يعم إن كان صاحب هذا الحدث إماما فهو كمن أم قوما ناسيا لحدثه أو جاهلا به وإن كان هذا الانقطاع في الصلاة فهو على الطريقين الذي يذكر أن فيما بعد الثاني أن ينقطع عن غير برء بل ينقطع ويعود فإن كان زمن هذا الانقطاع معلوما وقد صار عادة لزمها أن تتحرى وتتطهر وتصلي فيه ومتى انقطع على هذا الوجه بطلت طهارتها لأنها أمكنها الصلاة بطهارة صحيحة من غير مشقة فأما إن عرض هذا الانقطاع لمن عادته اتصال الحدث فكذلك في أحد الوجهين ذكرهما الآدمي وغيره وهو الصحيح عند كثير من أصحابنا منهم القاضي وابن عقيل لأن الضرورة زالت به فيظهر حكم الحدث كالمتيمم إذا رأى الماء سواء وجد هذا الانقطاع في الصلاة أو خارجها لأن ما كان حدثا خارج الصلاة كان حدثا فيها وقد خرجها ابن حامد وغيره على روايتي المتيمم إذا رأى الماء وأبى غيره التخريج لأن الحدث هنا قد وجد بعد الطهارة ولم يوجد عنه بدل يبنى على حكمه وقد قدر على شرط العبادة فيها فأشبه العاري إذا وجد السترة والمصلي بالنجاسة إذا قدر على إزالتها في الصلاة لاسيما وهنا مبطلان بطلان طهارة الحدث وحمل النجاسة وإذا خرج وتطهر فإنه يستأنف وقد خرج القاضي وجها وغيره أنه يبني كما خرجه في التيمم ثم إذا انقطع ولم يعلم هل هو انقطاع متسع أو غير مستع لم يحكم ببطلان الوضوء حتى يمضي زمن يمكن فيه الوضوء والصلاة لأن الانقطاع الذي يوجب الطهارة مشكوك فيه ولايجوز له أن يصلي به لاحتمال دوامه واستمراره وليست هنا طهارة متيقنة لأن الحدث وجد بعدها والمسوغ الصلاة معه وهو دوامه مشكوك فيه فأشبه المتيمم إذا شك في عدم الماء قبل الدخول في الصلاة لم يجز له أن يصلي حتى يستبرئ فإن خاف وصلى واتسع الانقطاع تبينا بطلان صلاته لبطلان طهارته وإن لم يتسع الالانقطاع فالطهارة بحالها وكذلك الصلاة لأنا تبينا أنها وقعت بطهارة في أحد الوجهين وفي الآخر لايصح وهو أقيس لأنه شرع في الصلاة مع المخالفة فلم يصح وإن أصاب كمن شك في الطهارة فصلى ثم تيقن الطهارة وماسح الخف إذا شك في انقضاء المدة ثم صلى ثم تبين بقاؤها وكذلك لو صلى إلى القبلة بلا احتهاد ولا تقليد ثم تيقن أنه أصاب أو حكم الحاكم أو أفتى المفتي أو قال في القرأن أو شهد الشاهد بغير الطريق المشروع وتبين أنه أصاب أو حكم الحاكم أو أفتى المفتي أو قال في القرآن أو شهد الشاهد بغير الطريق المشروع وتبين أنه أصاب وإن كان الانقطاع في الصلاة قطعها بمجرده في أشهر الوجهين

كما منع من ابتدأ الصلاة معه فإن أتمها واتسع زمن الانقطاع تبينا بطلانها وإلا خرج فيها الوجهان والأظهر أنه يتمها هنا لأن الانقطاع محتمل أن يكون متسعا ويحتمل أن يكون ضيقا فلا تبطل به الصلاة المتيقنة كالمتيمم إذا طلع عليه ركب وهو في الصلاة ولم يعلم أن معهم ماء ولو كان لها عادة بانقطاع ضيق فاتسع الانقطاع فهو كما لو عرض الانقطاع المتسع ابتداء لكن إذا تطهرت هنا كانت الطهارة صحيحة في نفسها فلو لبست عليها خفا كانت قد لبسته على طهارة صحيحة حتى لو عاد الدم بعد ذلك ثم انقطع انقطاعا متسعا كان لها المسح بخلاف ما لو جرى الدم قبل اللبس ثم انقطع الانقطاع المعتبر فإنا نتبين أنه ملبوس علي حدث هذا كله إذا عرض الانقطاع واختلف ولم يكن له وقت معلوم وقدر معلوم يبنى عليه فيصير مثل العادة بل تقدم تارة وتأخر أخرى وضاف مرة واتسع أخرى ووجد مرة وعدم أخرى فكذلك أيضا عند كثير من أصحابنا إلا إنه إذا وجد لم يمنع من الدخول في الصلاة معه ولا المضي فيها حتى يتبين أنه متسع لأنها قد ألغت الانقطاعين من الطويل والقصير فليس إلحاقه بأحدهما أولى من الآخر ولأن الأنقطاع الضيق قد صار عادة فأشبه ما لو لم تعد غيره

الوجه الثاني أن هذا الانقطاع لايبطل مطلقا وقال أحمد بن القاسم سألت أبا عبد الله فقلت إن هؤلاء يتكلمون بكلام كثير ويوقنون بوقت يقولون إذا توضأت للصلاة وقد انقطع الدم ثم سال بعد ذلك ذلك قبل أن تدخل في الصلاة تعيد الوضوء ويقولون إذا كان الدم سائلا فتوضأت ثم انقطع الدم قولا آخر قال لست أنظر في انقطاعه حين توضأت سال الدم أم يسل إنما آمرها أن تتوضأ لكل صلاة فتصلي بذلك الوضوء النافلة والفائتة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى فقد نص على أن الانقطاع حين الوضوء لا عبرة به ولم يفرق بين طويلة وقصيره وإنه سال بعده دم أو لم يسل

ومقتضى هذا أنه إذا انقطع طويلا فتوضأت فيه ولم تصلي حتى سال الدم فطهارتها باقية وإن اتسع الانقطاع وأن السائل بعد ذلك لاينقض الوضوء حتى يخرج الوقت سواء انقطع بعد ذلك أو لم ينقطع وأنه لافرق بين وضوئها وهو منقطع أو هو سائل ولو كان الانقطاع قد نقض الطهارة الماضية لكان الوضوء فيه واجبا بخلاف السيلان فاختلف أصحابنا في هذا الكلام بعد اتفاقهم على أن ظاهره أن انقطاع الحدث لايبطل الطهارة فتأوله القاضي على الانقطاع القليل المعتاد ومنهم من أقرة على ظاهره وهم أهل الوجه الثاني لكن منهم من قال لا أثر لهذا الانقطاع العارض أو المختلف المعتاد وأن طهارتها صحيحة ما لم ينقطع انقطاع برء أويخرج الوقت إلا أن يكون وقت الانقطاع معلوما واسعا كما تقدم قال أبو الحسن الآمدي وهو الظاهر وهو اختيار الشيخ صاحب الكتاب ومنهم من قال أما الانقطاع للعارض فإنها تفعل فيه كما تقدم وأما المتكرر والمختلف فإنها لا تلتفت إليه وهذه الطريقة في الجملة أشبه بكلام أحمد وأشبه بالسنة فإن الحكم لو اختلف بهذا الانقطاع وجودا وعدما لبينه النبي ﷺ للمستحاضات فإنه يعرض كثيرا لهن ثم تكليفها كلما انقطع الدم لحظة أن تنظر هل يعود بعد مدة متسعة أو ضيقة فيه مشقة عظيمة ثم فيه تقدير الطهارة بالفعل الذي لا ينضبط وإن قولهم قدر ما يسع الوضوء والصلاة يختلف ذلك باختلاف بعد الماء من المتوضئ وقربه وسرعته وبطاؤه ونشاطه وكسله وكذلك الصلاة ثم بماذا يقدرون هذا الوضوء والصلاة بأقل ما يجزئ من المتوضئ مرة مرة والاقتصار على الفاتحة وتسبيحة واحدة في الركوع والسجود أم بالوضوء والصلاة الكاملتين فإن كان الأول فنحن نجوز لها مع قيام الدم أن تصلي صلاة كاملة فلأن يجوز ذلك إذا انقطع وخشيت عوده بطريق الأولى فكذلك الثاني فإنه يجوز لها تطويل الأولى ثم لو كان إذا انقطع الدم وجب عليها الوضوء والصلاة به ولم يتسع الوقت للقدر المجزئ لما جاء تكميل الوضوء والصلاة كمن خشي أنه إن توضأ ثلاثا وصلى صلاة كاملة خرج الوقت لم يجز أن يصليها ثم إنها لا تعلم قدر الزمان إلا بمضيه وحينئذ يفوت المقصود فكيف تكلفه وإن وجب عليها الضوء ثانيا فلا فائدة فيه لقيام الحدث معه وهي لاتنسب في ذلك إلى تفريط ثم تقدير الزمان بفعل قليل للواحد إنما يعلم بحرز وفرض وذلك يختلف باختلاف أراء الناس ومواقيت العبادات حدود لله لايجوز تعديها فكيف يفوض إلى الناس

مسألة فإذا استمر بها الدم في الشهر الآخر فإن كانت معتادة فحيضها أيام عادتها وإن لم تكن معتادة ولها تمييز وهو أن يكون بعض دمها أسود ثخينا وبعضه رقيقا أحمر فحيضها زمن الأسود الثخين

أما إذا استمر بها الدم فلا يخلوا إما أن يكون لها عادة محفوظة يعلم قدرها ووقتها أولا فإن كان لها عادة رجعت إلى عادتها فجلست قدر ما كانت تحبسها حيضتها سواء كان الدم في جميعها أسود أو أحمر أو بعضه أسود وبعضه أحمر في أشهر الروايتين وهي اختيار أكثر الأصحاب وإن لم تكن معتادة إما أن تكون مبتدأة أو ناسية لعادتها أو غير ذلك فإنها ترد إلى التمييز فإن دم الحيض أسود ثخين منتن محتدم ودم المستحاضة أحمر رقيق أو أصفر فتجلس أمن الدم الأسود إذا لم يزد على أكثر الحيض ولم ينقض عن أقله وعنه أنها ترد إلى التمييز أولى فإن لم يكن لها تمييز بأن كان الدم كله أسود أو أحمر وزاد الأسود على أكثر الحيض أو نقص عن أقله ردت إلى العادة وهذا اختيار الخرقي فإن كان زمن العادة كله أسود وما سواه أحمر عملت بذلك بلا شبهة لما روت عائشة أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت يا رسول الله إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال إنما ذلك دم عرق وليست بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة وإذا أدبرت فاغسلي عنه الدم وصلي رواه الجماعة إلا ابن ماجة

وعن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش أنها كانت تستحاض فقال لها النبي ﷺ إذا كان دم الحيض فإنه أسود يعرف فإذا كان كذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضأي وصلي فإنما هو عرق رواه أبو داود والنسائي ولأنه خارج يوجب الغسل فيرجع إلى صفته عند الإشكال كالمني المشتبه بالمذي وكان أولى من العادة لأنه علامة في تميز الدم حاضرة والعادة علامة منقضية والأول أصح لما ورت عائشة رضي الله عنها أن أم حبيب بنت جحش التي كانت تحت عبد الرحمن بن عوف شكت إلى رسول الله ﷺ الدم قال لها امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي فكانت تغتسل عند كل صلاة رواه مسلم

وعن القاسم عن زينب بنت جحش أنها قالت للنبي ﷺ إنها مستحاضة فقال تجلس أيام أقرائها ثم تغتسل وتؤخر الظهر وتعجل العصر وتغتسل وتصلي وتؤخر المغرب وتعجل العشاء وتغتسل وتصليهما جمعيا وتغتسل للفجر رواه النسائي وعن أم سلمة أنها استفتت رسول ﷺ في أمرأة تهراق الدم فقال لتنظر قدر الأيام والليالي التي كانت تحيضهن من الشهر فتدع الصلاة ثم تغتسل ولتستغر ثم تصلي رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وعن عائشة أنها سألت رسول الله ﷺ لامرأة فسد حيضها واهريقت دما لا تدري ما تصلي قالت فأمرني أن آمرها فلتنتظر قدر الليالي والأيام ثم لتدع الصلاة فيهن وتقدرهن ثم تغتسل وتحسن طهرها ثم لتستثفر ثم تصلي رواه أبو داود ولأن العادة طبيعة ثابتة فوجب الرد إليها عند التغير لتمييز دم الجبلة من دم الفساد ولأن الاستحاضة مرض وفساد والفاسد هو ما خرج من عادة الصحة والسلامة ولهذا يستدل على سقم الأعضاء بخروجها عن عادتها وقدمنا العادة على التمييز لأن النبي ﷺ أفتى به في قضايا متعددة ولو كان العمل بالتمييز مقدما لبدإ به ولأنه لم يستفصل واحدة منهم عن حال دمها وترك الاستفصال يوجب عدم الجواب لجميع صور السؤال ولأنه يبعد أن لا يكون فيهن مميزة ولأن الدم الموجود في العدة هو حيض في غير المستحاضة بكل حال فكذلك في المسحتاضة بخلاف الدم الأسود ولأن الدم الزائد على العادة حادث مع الاستحاضة فكان استحاضة كما زاد على أكثر الدم وهذا لأن الحكم إذا حدث وهناك سبب صالح له أضيف إليه ولأن الدم الأسود إن كان أقل من العادة فالصفرة والكدرة في زمن العادة حيض وإن كان أكثر فلا دليل على أنه حيض لاحتمال أن يكون استحاضة ولأن المشهور عندنا أن الدم إذا تغير أول مرة عن حاله لا يلتفت إليه حتى يتكرر فيصير عادة في المبتدأة والمعتادة مع أنه صالح لايكون حيضا فلئن يعمل بالعادة المتقدمة مع الاستحاضة أولى وأما حديث فاطمة فقد روت عائشة رضي الله عنها أن فاطمة بنت أبي حبيش سألت النبي ﷺ فقالت إني استحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة فقال لا إن ذلك دم عرق ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي رواه البخاري فقد ردها تارة إلى التمييز وتارة إلى العادة والله أعلم أنه أمرها بالعادة أولا فلم يقطعها فأمرها بالتمييز كذلك قال الإمام أحمد أنها نسيت أيامها وقد تقدم ذكر العادة التي يرجع إليها وإنها لا تثبت إلا بثلاث في ظاهر المذهب وتثبت العاد بالتمييز فإذا رأت دما أسود خمسة أيام في ثلاثة أشهر وما فيه دم أحمد متصل وهي مبتدأة أو ناسية ثم صار دما مبهما فإنها تجلس زمن الدم الأسود ولكن لأهل تقدم هذه العادة على التمييز بعدما أثبتنا التمييز بأول مرة على وجهين مثل أن ترى في الشهر الرابع خمسة أحمد ثم أسود وثلاثة أحمر ثم أسود فقيل حيضها من أول الأسود قدر عادتها لأن الأسود يمنع الأحمر قبله أن يكون حيضا لأن التمييز أصل هذه العادة فيكون أقوى منها وقيل حيضها من الأحمر لأنه صادف زمان العادة ومن أصلنا أن العادة مقدمة على التمييز

فصل

والعادة على قسمين متفقة ومختلفة فالمتفقة أن يكون أربعة أيام مثلا من أول يوم كل شهر فيعمل بها وأمال المختلفة فعلى قمسين مضبوطة وغير مضبوطة فالمضبوطة إن كانت علي ترتيب مثل أن تحيض في الشهر الأول ثلاثة وفي الثاني أربعة وفي الثالث خمسة ثم تحيض ثلاثة ثم أربعة ثم خمسة فإذا استحيضت قعدت هكذا علي الترتيب فتجلس في شهر الاستحاضة بقدمر يومين ثم تبني على ذلك فإن ليم تعلم شهر الاستحاضه جلست اليقين وهو ثلاثة واغتسلت عقيبها غسلا واحدا في أحد الوجهين وفي الثاني تجلس أكثره لأن هذه متحبرة فتجلس أغلب عادات النساء أو أكثر الحيض في رواية لكن هنا لا يجوز أن يراد على أكثر عادتها لأنه ليس حيضا بيقين ولا يلزمها إلا غسل واحد كالمتميزة

وكذلك إن كان شيئا مضبوطا معتادا على غير ترتيب مثل أن تحيض في أول شهر خمسة وفي الثاني ثلاثة وفي الثالث أربعة وتسمى العادة الدائرة وأما التي ليست مضبوطة مثل أن تحيض تارة ثلاثة وتارة خمسة وتارة أربعة أو أقل أو أكثر ولا يتسق على نظام فإنها تجلس الأقل المتفق عليه لأنه عادة بيقين والزائد مشكوك فيه ولو نقصت عادتها كمن عادتها عشرة فرأت سبعة وطهرت فإنها طاهر فإذا استحيضت في الشهر الآخر جلست السبعة لأنها هي العادة القريبة ولأن الثلاثة طهر متيقن في الشهر الذي يعقبه شهر الاستحاضة فلم يكن حيضا كما زاد على العادة

فصل

فإن تغيرت العادة بتقدم أو تأخر أوزيادة لم تجاوز أكثر الحيض مثل أن يكون حيضها عشرة أيام في أول الشهر فترى الحيض قبلها أو بعدها أو أكثر منها لم تلتفت إلى ذلك في المشهور من المذهب حتى يتكرر ثلاثا أو مرتين بل يكون مشكوكا فيه تصوم وتصلي وتقضي الصوم إن تكرر على معنى واحد فإن يئست قبل ذلك وانقطع حيضها تقتضيه كطهر المستحاضة المشكوك فيه وقيل تقتضيه كصوم النفاس المشكوم فيه ولا يقربها زوجها وتغتسل عند انقطاع الدم في آخر العادة إن كان في أثر العادة كما قلنا في المبتدأ لأن هذا الدم بمنزلة ما زاد على أقل الحيض وأولى وقد روى عنه ما يدل على أنه حيض ما لم يجاوز أكثر الحيض لما ذكره البخارى في صحيحه إن نساءكن يبعثن إلي عائشة بالدرجة فيها الكرسف فيه الصفرة فتقول لا تعجلن حتى ترين العصة البيضاء تريد بذلك الطهر من الحيضة فاعتبرت حصول النقاء الخالص ولم تأمرهن بالعادة وعن فاطمة بنت المنذر قالت كنا في حجر جدتي أسماء بنات بنتها فكانت إحدنا تطهر من الحيضة ثم لعل الحيضة تنكسها بالصفرة فتأمرنا أن نعتزل الصلاة ما رأيناها حتى لا نرى إلا البياض خالصا رواه سعيد ولأن الأصل في الدم الخارج أن يكون دم حيض لأن دم الاستحاضة دم مرض وفساد

ووجه الأول ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال في المرأة ترى ما يريبها بعد الطهرة إنما هو عرق أو قال عروق رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة وقالت أم عطية كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئا رواه أبو داود وهذا يدل على أن الزائد على الطهر المعتاد ليس بحيض ولأنه دم زائد على العادة فلم يثبت حتى يميز بالتكرار كالزائد على العادة في حق الاستحاضة وهذا لآن الصلاة ثابتة في ذمتها بيقين وخروجه على العادة يورث الشك فيه فوجب الاحتياط فيه فأما إن نقص عن العادة فإن الطهر يثبت بذلك لأن الطاهر لا تكون حائضا قط وعلى ذلك يحمل حديث عائشة وأسماء لأن الطهر قبل كمال العادة طهر صحيح إذا رات النقاء الخالص فإن الصفرة والكدرة في العادة حيض ويدل على ذلك ما روى حرب عن عائشة قالت إذا رأت بعد الغسل صفرة أو كدرة توضأت وصلت

فصل

أما التمييز فمن شرطه أن لا يزيد الدم الأسود على أكثر الحيض ولا ينقص عن أقله وأن لا ينقص الأحمر عن أقل الطهر ولا بد فيه من اختلاف لون الدم فتكون أقراءه هو الحيض والباقي استحاضة فإذا رأت خمسة اسود وخمسة أحمر وخمسة أصفر فالأسود هو الحيض والأحمر والاصفر استحاضة ولا يشترط في الرجوع إلى التمييز تكرره في اقوى الوجهين وهذا ظاهر كلام أحمد بل نصه وهو قول القاضي في بعض المواضع وابن عقيل وغيرهما وفي الآخر لا بد من تكرره كالعادة وهو قول القاضي في بعض المواضع والآمدي وغيرهما لا سيما إذا قدمنا العادة عليه فلو رأت المبتدأة في أول كل شهر خمسة أسود والباقي أحمر فالحيض أيام الدم الأسود على الوجه الأول لكن أول مرة تجلس يوما وليلة لأن استحاضتها لم تكن معلومة ثم في الشهر الثاني تجلس الدم الأسود كله وتقضي ما فعلته في مدة الدم الأسود أول مرة من صيام وطواف واعتكاف وعلى الوجه الثاني تجلس يوما وليلة ثلاث مرات على المشهور من الروايتين فإن تكرر بمعنى واحد صار عادة فتجلس الخمسة في الشهر الرابع أو الثالث على اختلاف الوجهين سواء كان دمها أوسود أو احمر لأنه زمن عادة فتقدم على التمييز ولو رأت المبتدأة خمسة أيام أحمر ثم اسود ولم يجز الأسود أكثر الحيض فحيضها زمن الدم الاسود ولا يضره تقدم الأحمر عليه كما لا يضر زمن العادة تقدم دم آخر عليها وعلى قولنا أن التمييز لا يفتقر إلى تكرار وإن قلنا يفتقر إلى تكرار فإنها تجلس يوما وليلة أو ثلاثة وإن جاوز أكثر الحيض فقيل تحيض من أول الدم الاحمر لأنه ليس لها تمييز صحيح فكانت كمن اتفق لون دمها وقيل تحيض من أول الدم الأسود لأنه أشبه تكون دم الحيض ولو كان الأحمر المتقدم أكثر من الطهر الكامل بقدر حيضة مثل أن تكون ستة عشر يوما وباقي الشهر أسود فعلى وجهين أحدهما تحيض من أول الأسود كالتي قبلها والثاني تحيض من أول الأحمر يوما وليلة وتحيض الاسود لأنه يمكن أن يكونا حيضتين

قال القاضي ولا تحيض على هذا أكثر من يوم وليلة رواية واحدة لأنها لو حيضت غالب الحيض ونحوه لنقص ما بين الحيضتين عن أقل الطهر وهو يفتقر بحيضها من أوله إلى تكرره على وجهين ولو كان الأحمر مع الأسود أكثر من شهر فقيل ليس لها تمييز صحيح لأن الغالب أن في كل شهر حيضة وطهرا فإذا خالف التمييز الغالب ضعف والصحيح أنه تمييز صحيح كما لو كان زمنه أكثر من غالب الحيض

فصل

والأحمر كالأسود في غير المستحاضة لأنه دم مثله وقيل يعتبر السواد في حق المبتدأة فلا تكون بالغة بالأحمر لقول النبي ﷺ دم الحيض أسود يعرف ولأن المبتدأة لا عادة لها فيكون السواد دليل الحيضة والأول هو المشهور لأن الأحمر إذا جاء في العادة بدل الأسود كان حيضا فإذا لم يخالف صفة متقدمة فهو أولى بذلك بخلاف الصفرة والكدرة فإنه لا تجيء الحيضة منها وحدها قط فأما الصفرة والكدرة فهي في زمن العادة حيض يتقدمها حمرة وسواد أو لم يتقدمها وفيما خرج عن العادة ليست بحيض تكررت منها أو لم تتكرر بل يكفي فيها الوضوء وعنه ما يدل على أنها إن تكررت كانت حيضا واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل لأنها بالتكرر تصير كما لو كانت في العادة بخلاف ما تراه بعد الطهر فإنها لا تلتفت إليه لو كان دما ولأن الصفرة والكدرة من ألوان الدم فأشبه السواد والحمرة وقد روى عن أسماء بنت أبي بكر ما يشبه ذلك ووجه الأول قوله في التي ترى ما يريبها بعد الطهر إنما هو عرق أو عروق وقالت أم عطية كنا لا نعد الكدرة والصفرة شيئا رواه البخاري وفي لفظ لأبي داود بعد الطهر وهذا يبين أنه قبل الطهر حيض

كما رواه أحمد عن عائشة إن نساءكن يرسلن بالدرجة فيها الشيء من الصفرة إليها فتقول لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء قال أحمد القصة شيء يتبع الحيضة أبيض لا يكون فيه صفرة ولا كدرة وقال أيضا تدخل القطنة فتخرج عليها نقطة بيضاء تكون على أثر الدم هي علامة الطهر وقال في رواية أخرى القصة البيضاء إذا استدخلت القطنة فخرجت بيضاء ليس عليها شيء وكذلك قال الأزهري

والقصة بضم القاف القطنة التي تحشوها المرأة فإذا خرجت بيضاء لا تغير عليها فهي القصة ورواه البخاري عن عائشة قالت في الصفرة والكدرة إذا كانت واصلة بالحيض فهي بقية من الحيض لا تصلي حتى ترى الطهر الأبيض وإذا رأت الطهر الأبيض ثم رأت الصفرة والكدرة بعد ذلك فإنما تلك الترية تتوضأ وتصلي

قال إسحاق بن راهوية إذا رأت الطهر الأبيض ثم رأت صفرة أو كدرة مستلزما بحيضها في أيام أقرائها فذلك حيض كله

قال ولا اختلاف بين أهل العلم في ذلك وروى حرب عن عائشة قالت إذا رأت بعد الطهر صفرة أو كدرة توضأت وصلت وإن رأت دما أحمر اغتسلت وصلت وهذا يبين أن حكمه مخالف لحكم الدم الأحمر تكرر أو لم يتكرر ولأنه عدم اللون والعادة فضعف كونه حيضا وهو وحده لا يكاد يتكرر وإن فرض ذلك فهو نادر ولو رأت المبتدأة صفرة أو كدرة لم تلتفت اليه لما تقدم وقد روى ذلك عن عائشة وقال القاضي وغيره تجلسه بناء على أن اليوم والليلة للمبتدأة كالعادة للمعتادة وبنى على هذا بعض أصحابنا أنها لو رأت الصفرة والكدرة خارج العادة كان حكمها حكم الدم العبيط في أنها تحسبها حيضا على رواية لما روي عن أسماء

والأول هو المنصوص عنه اذ الصفرة والكدرة ليست بنفسها حيضا لا سيما إذا وردت على طهر متيقن

مسألة وإذا كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها فحيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة لأنه غالب عادات النساء ظاهر المذهب أن من لا عادة لها لا تمييز تحيض غالب حيض النساء ستا أو سبعا سواء كانت مبتدأة أو ناسية لعادتها وعنه أنها تحيض أقل الحيض لأن ما زاد على ذلك يحتمل الحيض والاستحاضة والصلاة ثابتة في ذمتها بيقين فلا تتركها بالشك لا سيما ومن أصلنا أنا نحتاط بذلك قبل الاستحاضة بقي حال الاستحاضة أولى

وعنه في المبتدأة أنها تحيض أكثر الحيض لأن الأصل في الخارج أن يكون دم حيض فتعمل بذلك ما لم تتيقن كونه استحاضة ولا تتيقن ذلك إلا بمجاوزة الأكثر وعنه أنها تحيض مثل حيض نسائها من أمها وأختها وعمتها وخالتها لأن اشتراك الأقارب في الأمور العادية والقوى الطبيعية أقرب ثم خرج القاضي في الناسية مثل هاتين الروايتين لأنها مستحاضة لا عادة لها ولا تمييز وامتنع غيره من التخريج تفريقا بينهما بأن حيضها أكثر الحيض أو ما زاد على غالب عادات النساء يفضي إلى المشقة عليها إذا انكشف الأمر وذكرت العادة لأنها تقضي حينئذ ما تركته من الصلوات بخلاف المبتدأة فإنه لا يرجى انكشاف حيضها والأول أصح لما روت حمنة بنت جحش أنها قالت يا رسول الله إني استحضت حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام فقال أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم قالت هو أكثر من ذلك قال فاتخذي ثوبا قالت هو أكثر من ذلك قال فتلجمي قالت إنما أثج ثجا فقال سآمرك بأمرين أيهما فعلت أجزأ عنك من الآخر فإن قويت عليهما فأنت أعلم فقال لها إنما هذه ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي أربعا وعشرين ليلة أو ثلاثا وعشرين ليلة وأيامها وصومي فإن ذلك يجزيك وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما يطهرن ميقات حيضهن وطهرهن فإن قويت على أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر فتغتسلين ثم تصلين الظهر والعصر جميعا ثم تؤخرين المغرب وتعجلين العشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي وتغتسلين مع الفجر وتصلين فكذلك فافعلي وصلي وصومي إن قدرت على ذلك وقال رسول الله ﷺ وهذا أعجب الأمرين إلي رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح وكذلك صححه الإمام أحمد

وفي لفظ لأحمد وابن ماجة تلجمي وتحيضي في كل شهر في علم الله ستة أيام أو سبعة ثم اغتسلي غسلا وصلي وصومي ثلاثا وعشرين أو أربعا وعشرين وهذه المرأة لم تكن متميزة ولا معتادة إذ لو كانت كذلك لردها إليه ولم تكن مبتدأة لأنها كانت تعجوزا كبيرة قد حاضت قبل ذلك هكذا قال الإمام أحمد وإسحاق ثم لم يسألها هل حاضت قبل ذلك أو لم تحض ولو اختلف الحال لسألها ولأن الست أو السبع أغلب الحيض فيلحق المشتبه بالغالب إذ الأصل الحاق الفرد بالأعم الأغلب دون النادر

فصل

والتخيير بين الست والسبع تخير تحر واجتهاد فأيهما غلب على قلبها أنه أقرب إلى الصواب فعلته وجوبا في أحد الوجهين لظاهر قوله حتى إذا رأت أن قد طهرت واستنقأت ولئلا تكون مخيرة في اليوم السابع بين كون الصلاة واجبة أو غير واجبة وفي الثاني تخير إرادة ومشيئة فأيهما شاءت فعلت على ظاهر لفظ أو

فصل

الناسية ثلاثة أقسام أحدها المتحيرة وهي الناسية للعدد والوقت فتحيض ستة أيام أو سبعة كما تقدم في المشهور ثم إن علمت شهرها وهو الزمان الذي لها فيه طهر وحيض مثل أن تقول كنت أحيض في كل شهر حيضه لا أعلم قدرها ولا وقتها جعلنا ذلك شهر حيض لها في كل شهر هلالي ثم إن ذكرت زمن افتتاح الدم مثل أن ينقطع عنها الدم مدة ثم يعود ويستمر بها فإنها تجلس من حين عودة في أظهر الوجهين كأنه عادة في خامس الشهر فتجلس من كل شهر في خامسه المدة المضروبة والوجه الثاني تجلسه بالتحري كغيرها وإن لم تذكر افتتاح الدم وطال عهدها به جلست من أول كل شهر في أحد الوجهين وفي الآخر تجلسه بالتحري قاله أبو بكر وابن أبي موسى وهو أصح لأن التحري هنا طريق ولا يعارضه غيره بخلاف الصورة الأولى فإن أول الدم أحق أن يكون حيضا من آخره فإن لم يغلب على ظنها شيء جلست من أول الشهر وجها واحدا لأن قول النبي ﷺ للمستحاضة تحيضي في علم الله ستا أو سبعا في كل شهر ثم اغتسلي وصلي وصومي ثلاث وعشرين أو أربعا وعشرين دليل على أن الحيض قبل الطهر وأنه محسوب من أول الشهر

الثانية أن تكون ناسية لعادتها ذاكرة لوقتها مثل أن تقول كنت أحيض في العشر الأول من الشهر ولا أعلم عدده فتجلس ستا أو سبعا في المشهور من أول العشر في أحد الوجهين وبالتحري في أقواهما وإن قالت أعلم إني كنت في أول الشهر حائضا ولا أعلم آخر الحيض حيضناها ذلك اليوم وما بعد وإن قالت كان آخر الشهر آخر حيضتي حيضناها ذلك اليوم وما قبله وإن قالت كنت في أول الشهر حائضا لا ادري هل كان أول حيضي أو آخره حيضناها ذلك اليوم وما بعده في أحد الوجهين وفي الآخر تتحرى فيما قبله وما بعده كما تقدم الثالثة أن تكون ذاكرة لعددها دون وقتها فإن لم تحدد لها وقتا أصلا كأن تقول حيضي خمسة أيام لا أدري متى هي فإنها تحيض الخمس من أول الشهر في أحد الوجهين وفي الآخر تتحرى لوقتها وشهرها إن عرفته عمل به وإن لم تعرفه فهو الشهر الغالب للنساء وهو ثلاثون يوما وإن علمت لها وقتا مثل أن تقول حيضتي في العشر الأول أو في النصف الأول وهي خمسة أيام ولا أعلم عينها فهذه كل زمان تيقنت فيه الطهر فهي طاهر وكل زمان تيقنت فيه الحيض فهي حائض وكل زمان اشتبه عليها فإنها تجلس منه قدر عادتها إما بالتحري أو من أوله وطريق معرفة ذلك أنها إذا تيقنت الحيض في أيام فإن كانت أيام الحيض بقدر تلك الأيام أو اقل جاز أن يكون في أول تلك الأيام وجاز أن يكون في آحرها فليس هنا حيض متيقن ولا طهر متيقن فتجلس قدر الحيض أما من أول تلك الأيام أو بالتحري وإن كان الحيض أكثر من نصف تلك الأيام فالزائد على النصف ومثله من وسط تلك الأيام حيض بيقين لا بد في أي وقت فرضت ابتداء الحيض فلا بد أن يدخل الوسط فيه مثال ذلك أن تقول كنت أحيض سبعة أيام من العشر الأول فإن الأربعة الوسطى حيض بيقين وهي الرابع والخامس والسادس والسابع لأنها داخلة في زمن الحيض على كل تقدير والثلاث الباقية من حيضها تجلسها إما من أول الشهر أو بالتحري على اختلاف الوجهين وهي حيض مشكوك فيه وتبقى الثلاثة الأخر وهي طهر مشكوك فيه وإن قالت حيضي عشرة من النصف الأول من الشهر فإن الزائد على النصف إذا أضافته كان خمسة أيام فهذه الخمس الوسطى حيض بيقين والخمس الأول والأواخر مشكوك فيها فتجلس إحدى الخمستين بالتحري أو الأقل منهما

فصل

والطهر في أثناء الحيضة طهر صحيح إذا رأت النقاء الخالص بحيث لا يتغير لون القطنة إذا احتشت بها وإن كانت أقل من يوم في المشهور عنه وعنه أن ما دون اليوم لا يلتفت إليه كالفترات واللحظات وما لم تر فيه القصة البيضاء وعنه أنه ليس الطهر في أثناء الحيضة بطهر صحيح بل حكمه حكم الدم لأن دم الحيض يستمسك مرة وينقطع أخرى وليس بدائم الجريان فلو كان وقت الانقطاع طهر لم تسقط عنها الصلاة بحال ولأنه لو كان طهرا صحيحا كان ما قبله وما بعده حيض صحيح تام فتنقضي العدة بثلاث من هذا الجنس

والأول المذهب لقول ابن عباس في المستحاضة إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي فإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي رواه أبو داود ولأنه ليس جعل النقاء الخالص حيضا تبعا لما يتخلله من الدم في العادة فأما اللحضات التي يستمسك فيها دم الحيض فلا يحصل فيها النقاء الخالص ولا ترى معه القصة البيضاء فعلى هذا إذا رأت يوما دما ويوما طهرا ولم يجاوز مجموعها أكثر الحيض اغتسلت أيام النقاء وصلت وصامت وضمت النقاء إلى الدم فكان مجموعها حيضا بشرط أن لا ينقص عن أقل الحيض وأما إن جاوز أكثر الحيض فهي مستحاضة سواء حصل النقاء بعد أكثر الحيض أو اتصل الدم بأكثر الحيض وقال القاضي وإن لم تكن معتادة فإن النقاء في السادس عشر يفصل بين دم الحيض والاستحاضة لأن هذا الدم لم يتصل بدم فاسد ولا حالف عادة متقدمة فوجب أن يكون حيضا ووجه الأول أن هذا الدم وإن لم يتصل بدم فاسد فلم يتصل بدم صحيح فعارض الأمران وكان كما لو اتصل بهما ولو اتصل بهما كان الجميع استحاضة فكذلك إذا انفصل عنهما وهذه تسمى الملفقة

مسألة والحامل لا تحيض إلا أن ترى الدم قبل ولادتها بيومين أو ثلاثة فيكون دم نفاس

أما الدم الذي تراه الحامل فإنه عندنا دم فساد لأن الله تعالى جعل دم الحيض غذاء للجنين فإذا خرج شيء فقد خرج على غير الوجه المعتاد قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الله قد رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم زرقا للولد وعن علي رضي الله عنه أنه قال إن الله رفع الحيض عن الحبلى وجعل الدم مما تغيض الأرحام رواهما أبو حفص ابن شاهين وروى الأثرم والدارقطني عن عائشة رضي الله عنهما في الحامل ترى الدم فقالت الحامل لا تحيض وتغتسل وتصلي فأمرتها بالغسل لأنها مستحاضة والمستحاضة يستحب لها الغسل ولأن الشرع جعل الحيض علامة على براءة الرحم من الحمل في العدة والاستبراء فلو جاز اجتماعهما لما كان علامة على عدمه ولإن طلاق الحائض محرم والطلاق بعد تبين الحمل جائز فلو كان الدم الذي تراه الحامل حيضا لما جاز الطلاق فيه لما يلزمه من تخصيص العمومات والخروج عن القياس فأما الذي تراه قبل الوضع بيومين أو ثلاثة فهو نفاس لأنه دم خارج بسبب الولادة فكان نفاسا كالخارج بعدها وهذا لأن الحامل لا تكاد ترى الدم فإذا رأته قريب الوضع فالظاهر أنه بسبب الولد لا سيما إن كان قد ضربها المخاض وهذه اليومان والثلاثة وإن جعلناها نفاسا فليست من المدة بل أول المدة من حين الوضع لأن في الحديث كانت تقعد بعد نفاسها وفي الآخر كم تجلس النفساء إذا ولدت فأما إذا خرج بعض الولد فالدم قبل انفصاله محسوب من المدة وفيه وجه أنه لا يحسب حتى ينفصل جميعه

باب النفاس

وهو الدم الخارج بسبب الولادة وحكمه حكم الحيض

دم النفاس هو دم الحيض المحتقن في الرحم الفاضل من رزق الولد فلما خرج الولد تنفست الرحم فخرج بخروجه وحكمه حكم الحيض فيما يوجبه من الغسل ويحرمه من الوطء والعبادات ويسقطه من الصلاة لأنه هو دم الحيض فأما الولادة العرية عن الدم ففيها وجهان أحدهما يجب فيها الغسل لأنها مظنة خروج الدم غالبا فأقيمت مقامه كالوطء مع الإنزال والنوم مع الحدث وانتقال المني مع ظهوره والثاني لا يجب لأن وجوب الغسل هنا ليس بمنصوص ولا في معناه والحكمة هنا ظاهرة منضبطة فيجب تعليق الحكم بها دون المظنة ولأنه كان منيا فانعقد واستحال فلم يجب فيه غسل كالعلقة والمضغة

مسألة وأكثره أربعون يوما

يعني أنها إذا رأت الدم أكثر من أربعين يوما لم تكن نفساء وحكي عنه أن أكثره ستون لأنه قد روي عن عطاء والأوزاعي أن ذلك وجد

والأول هو المذهب لما روت مسة الأزدية عن أم سلمة قالت كانت النفساء تجلس على عهد رسول الله ﷺ أربعين يوما وكنا نطلي وجوهنا بالورس من الكلف وفي لفظ تقعد بعد نفاسها رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة والترمذي

قال الخطابي أثنى محمد بن إسماعيل على هذا الحديث

وعن أم سلمة أنها سألت النبي ﷺ كم تجلس المرأة إذا ولدت قال تجلس أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك رواه الدارقطني وهذا يفسر الحديث الأول ويبين أن ذلك أمر من النبي ﷺ إلا إن كان ذلك عادة النساء فإنه يستحيل في العادة اتفاق عادة أهل بلدة في النفاس ويكون ذلك بيان أقصى ما تجلسه وبيان ما تجتنب فيه زوجها من الوطء وقد حكى الإمام أحمد ذلك عن عمر وابن عباس وأنس وعائذ بن عمرو وعثمان بن أبي العاص وأم سلمة ولا يعرف لهم من الصحابة مخالف وقال إسحاق هو السنة المجتمع عليها وقال الطحاوي لم يقل بالستين أحد من الصحابة وإنما هو قول من بعدهم ولأن الأربعين هي المدة التي ينتقل فيها الانسان من خلق إلى خلق فإنه يبقى نطفة أربعين ثم علقة مثل ذلك ثم مضغة مثل ذلك فإذا كان طور خلقه يكمل في الأربعين فأن يخرج الدم في الأربعين أولى وكذلك كثيرا ما يخرج في أقل منها فعلى هذا متى جاوز الدم أكثر النفاس فما في مدة النفاس نفاس ولا يكون استحاضة في مدة النفاس وما زاد على الأربعين إن أمكن أن يكون حيضا بأن يصادف عادة الحيض أو أن يتصل بعادة الحيض ويتكرر أو يكون بينه وبين عادة الحيض طهر كامل أو يتكرر فهو حيض وإلا فهو استحاضة وهذا بخلاف الحيض فإنه إذا جاوز الأكثر ثبت حكم المستحاضة فيه كله لأن النبي ﷺ أمر النفساء أن تقعد أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك وهذا يدل على أنها إذا لم تر الطهر تقعد الأربعين دون ما بعده من غير إلتفات إلى عادة أو تمييز ولأن العبرة بكونه نفاسا ووجوده في مدة الأربعين فقط سواء تكرر أو لم يتكرر وسواء تغير لونه أو لم يتغير لأن دم النفاس هو ما فضل عن غذاء الولد وذلك يختلف باختلاف الولد في خلقه ومكثه ولأن الحيض يتكرر كثيرا وتقصر مدته بخلاف النفاس فإن اعتبار العادة فيه يؤدي إلى حرج عظيم ومشقة

وإذا ولدت توأمين فأول مدة النفاس وآخرها من الأول وعنه أن أوله من الأول وآخره من الثاني اختارها بعض أصحابنا فتجلس ما تراه من الدم بعد وضع الأول ما لم تجاوز أكثر النفاس فإذا وضعت الثاني استأنفت له مدة أخرى ودخلت بقية مدة الأولى في مدته إن كانت باقية لأنه ولد فاعتبرت له المدة كالأول وكالمنفرد ولأن الرحم تتنفس به كما تنفست بالأول فكثر الدم بسبب ذلك فيجب اعتبار المدة له وعنه رواية ثالثة اختارها أبو بكر أن أول المدة وآخرها من الثاني لأنها قبل وضعه حامل ولا يضرب لها مدة النفاس كما قبل الأول ولهذا لا تنقضي العدة إلا بوضعها فعلى هذه الرواية ما قبل وضع الثاني كما قبل وضع الحمل المنفرد إن كان قبل يومين أو ثلاثة فهو نفاس وليس من المدة وإن كان أكثر من ذلك لم يلتفت إليه وهذا بعيد على أصلنا ووجه الأولى وإليها صغى أكثر أصحابنا أن الدم الخارج عقب وضع الأول دم تعقب ولادة فكان نفاسا كدم الولد الفذ وهذا لأن الرحم تنفست به وانفتح ما استد منها فكان بسببه فيكون نفاسا وإذا كان أوله منه فكذلك آخره لأن الحمل الواحد لا يوجب مدتين كالولد الواحد إذا خرج منقطعا ولأن خروج الولد الأول كظهور بعض الولد فأول المدة محتسبة من حين ظهور البعض فكذلك آخرها كما قلنا في ظهور بعض الولد فإن آخر المدة يتبع أولها إما من حين ظهور البعض أو من حين انفصال الجميع

مسألة ولا حد لأقله متى رأت الطهر اغتسلت وهي طاهرة

وهذا لما تقدم من حديث أم سلمة لما سألت النبي ﷺ كم تجلس المرأة إذا ولدت قال تجلس اربعين إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ولم يفصل بين مدة طويلة أو قصيرة وقال الترمذي أجمع أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ ومن بعدهم على أن النفساء تدع الصلاة أربعين يوما إلا أن ترى الطهر قبل ذلك ولأ الدم الخارج عقب الولادة خرج بسببها فكان نفاسا سواء كان قليلا أو كثيرا إذ ليس في تقديره هنا نص ولا اتفاق ولا قياس صحيح ولأن من النساء من لا ترى الدم أصلا ومنهن من ترى قليلا أو كثيرا والمرجع في ذلك إلى ما وجد وقد روي أن أمرأة ولدت على عهد النبي ﷺ ولم تر دما فسميت ذات الجفاف وذكر الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن مهدي قال كانت عندنا أمرأة تسمى الطاهر تلد أول النهار وتطهر آخره فإذا انقطع بدون الأربعين اغتسلت وصلت وصامت بلا خلاف لما تقدم لكن في حد الطهر روايتان كما في طهر الملفقة

إحداهما لا بد أن يكون يوما وما دون ذلك لا يلتفت إليه

والثانية لا فرق بين القليل والكثير إذا رأت النقاء الخالص ويكره وطؤها إلى تمام الأربعين في المشهور عنه كراهة تنزيه وعنه ما يدل على أنها كراهة تحريم وعنه أنه مباح لأنه وطء بعد الطهر والتطهير فأشبه الوطء إذا انقطع لأكثره ووطء الحائض إذا انقطع دمها لعادة ووجه الأول ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن علي بن أبي طالب وعائذ بن عمرو وعبد الله بن عباس وعثمان بن أبي العاص رضي الله عنهم أنهم قالوا لا توطأ النفساء إلا بعد الأربعين ولا يعرف لهم مخالف في الصحابة رضي الله عنهم

وقد روي ابن شاهين عن معاذ عن النبي ﷺ قال ( إذا رأت الطهر فيما دون الأربعين صامت وصلت ولا يأتيها زوجها إلا بعد الأربعين )

وحديث أم سلمة المتقدم ظاهر العموم في جميع النفساوات لكن تصوم وتصلى بعد الطهر إجماعا ثم إن قيل هو حرام فلظاهر الآثار وإن قيل هو مكروه وهو المشهور فأن النقاء الخالص المبيح لفعل العبادات وفرضها قد وجد وإنما كره خوفا أن يصادفه الدم حين الوطء أو خوفا أن ترى الدم بعد الوطء فإن من الناس من يجعل الجميع نفاسا فيكون قد وطء نفساء فإن أكثر النفاس هو الغالب

ومثل هذا ما لو انقطع دم الحائض المعتادة لدون العادة فإنها تكون طاهرا تغتسل وتصلي وتصوم وفي كراهية الوطء روايتان كهاتين الروايتين والمنع في النفاس أشد لأن العادة في الجملة قد تتغير وتنقص بخلاف الأربعين للنفساء فإنه حد شرعي وفي المبتدأة إذا انقطع دمها لدون الأكثر روايتان أيضا كذلك لكن رواية عدم الكراهة هنا مرجحة لأن عود الدم في زمان العادة كثير بخلاف بلوغ الحيض أكثر المدة فإنه قليل وبخلاف النفاس فإن أغلبه أكثره والعادة غير معتبرة كما تقدم لعدم انتظامها

مسألة فإن عاد في مدة الأربعين فهو نفاس أيضا

هذا إحدى الروايتين عنه لأنه دم في مدة النفاس فكان نفاسا كالأول وكما لو اتصل وعلى هذا سواء حصل بين الأول والثاني طهر كامل أو لم يحصل وسواء كان الثاني قليلا أو كثيرا لأنه مضموم إلى الأول قال ابن أبي موسى فعلى هذه الرواية يجب عليها إعادة ما صامته وطافته من الفرض في الطهر بين المدتين هذا مبنى على أن الطهر في اثناء النفاس ليس بطهر صحيح والمشهور في المذهب خلافه وعليه تبنى أحكام الملفقة والرواية الأخرى وهي المشهورة عنه اختارها أكثر أصحابنا أن هذا الدم دم شك لأنه قد تعارض فيه أمارة النفاس والاستحاضة والحيض لأن كونه موجودا في مدة النفاس يوجب كونه نفاسا وكونه بعد طهر صحيح يبقى ذلك كما لو رأته بعد أيام مع الولادة التي لا دم معها فأنه لا يكون نفاسا بل إما حيض إن قام دليله وإلا استحاضة فكذلك احتيط فيه للعبادات الواجبة وقضاء الصوم والطواف والامساك عن الوطء فأما إن بلغ الثاني أقل الحيض وصارت مدة الحيض فهذا لا يكون استحاضة بل هو إما حيض أو نفاس وحكمهما واحد في ترك العبادات وقضاء الصوم وسواء كان بينه وبين الدم الأول طهر كامل أو لم يكن لأن الطهر الكامل إنما يشترط بين حيضتين فأما بين دم الحيض والنفاس فلا كما لو رأت دما بعد الأربعين بيوم أو يومين وقال القاضي في بعض كتبه إن كان الدم الثاني أقل من يوم وليلة فهو دم فساد لأنه ليس بنفاس لانقطاع حكمه وليس بحيض لأنه أقل من مدته وإن بلغ يوما وليلة فهو مشكوك فيه لأنه صالح للحيض ولم يتكرر وبكل حال فالطهر المتقدم طهر صحيح لا تقضي ما صامت فيه كالطهر في أثناء الحيضة على ظاهر المذهب وإن كان أقل من يوم ففيه روايتان كما تقدم وإن انقطع دم الحائض في أثناء العادة ثم عاد وقلنا أن الحيض لا يثبت إلا بالتكرار على ظاهر المذهب ففيه روايتان إحداهما أنه حيض في العادة والثانية ليس بحيض حتى يتكرر لأنه بانقطاعه خرج عن العادة وعوده فيها يشبه انتقاله عن زمن العادة وحيض المبتدأة أكثر من يوم فإن صار عادة قضت ما صامت فيه وإن لم يتكرر كان دم فساد ولا حرج عليها في الصلاة التي صلت فيه بخلاف العادة في مدة النفاس فأنه لا يرجى انكشاف أمره لعدم العادة هناك كما تقدم

فصل

والولد الذي تثبت فيه أحكام النفاس هو ما بين فيه شيء من خلق الانسان مثل يد أو أصبع وذلك إذا نكس في الخلق الرابع فإن القت مضغة لا تخطيط فيها أو علقة فليس بنفاس وعنه أنه نفاس بالمضغة دون العلقة وخرجوا وجها أنه نفاس فيهما إذا علم أنه مبدأ خلق آدمي على رواية انقضاء العدة وثبوت الاستيلاد به فأما النطفة فلا أثر لها قولا واحدا وحيث قلنا ليس هو نفاس يكون كما لو رأته غير الحامل إن صادف زمن العادة فهو حيض وإن لم يصادفها كان مشكوكا فيه حتى يتكرر إلا أن تكون مبتدأة وبكل حال فإذا رأته على الطلق امسكت عن العبادات لأن الظاهر أنها تضع ما يثبت فيه حكم النفاس ثم إن تبين بعد الوضع أنه ليس بنفاس ولا هو حيض قضت ما تركت من الواجبات وإن لم يتبين شيء بأن يكون قد دفن قبل الكشف ثبت على الظاهر أنه نفاس كما نقول في سائر أنواع التحري