☰ جدول المحتويات
- المقدمة
- قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له)
- (انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل)
- قوله: (ولاشيء مثله)
- قوله: (ولا شيء يعجزه)
- قوله: (ولا إله غيره)
- قوله: ( قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء )
- قوله: ( لايفنى ولايبيد )
- قوله: (ولا يكون إلا ما يريد)
- قوله: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام )
- قوله: (ولا يشبهه الأنام)
- قوله: (حي لا يموت قيوم لا ينام)
- قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة)
- قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة)
- قوله: (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه)
- قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري)
- قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق)
- قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا)
- قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير)
- قوله: (خلق الخلق بعلمه)
- قوله: ( وقدر لهم أقدارا )
- قوله: ( وضرب لهم آجالا )
- قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم)
- قوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته)
- قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته)
- قوله: (يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي، فضلا. ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي، عدلا)
- قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله )
- قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد )
- قوله: ( لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره )
- قوله: ( آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده )
- قوله: (وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى)
- قوله: ( وإنه خاتم الانبياء )
- قوله: ( وإمام الاتقياء )
- قوله: ( وسيد المرسلين )
- قوله: (وحبيب رب العالمين)
- قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)
- قوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء)
- قوله: (وإن القرآن كلام الله )
- قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر)
- قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية)
- قوله: (ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام)
- قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه)
- قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان)
- قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم)
- قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه)
- قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية)
- قوله: ( وتعالى عن الحدود والغايات)
- قوله: ( والمعراج حق)
- قوله: ( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق )
- قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار)
- قوله: ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق )
- قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار)
- قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم)
- وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه)
- قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى)
- قوله: ( ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم )
- قوله: ( فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن)
- قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه)
- قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه)
- قوله:(وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والإعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته)
- قوله:(فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً)
- وقوله : ( والعرش والكرسي حق )
- قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه)
- قوله:(ونقول: ان الله اتخذ إبراهيم خليلاً ،وكلم الله موسى تكليماً)
- قوله:(ونؤمن بالملائكة والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين)
- قوله:(ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)
- قوله : ( ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله )
- قوله:(ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين)
- قوله: ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله
- قوله: ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته
- قوله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام ،وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة
- قوله: ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه
- قوله: والإيمان : هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
- تابع قوله: والإيمان: هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
- تابع أيضا قوله: والإيمان: هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
- قوله : والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن
- قوله : وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن
- قوله: والايمان : هو الايمان بالله
- قوله: ونحن مؤمنون بذلك كله ، لا نفرق بين أحد من رسله
- قوله: وأهل الكبائر من أمة محمد ﷺ في النار لا يخلدون
- قوله: ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، وعلى من مات منهم
- قوله : ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً
- قوله : ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق
- قوله: ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد ﷺ إلا من وجب عليه السيف
- قوله: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا
- قوله : ونتبع السنة والجماعة ، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة
- قوله : ونحب أهل العدل والأمانة ، ونبغض أهل الجور والخيانة
- قوله : ونقول : الله أعلم ، فيما اشتبه علينا علمه
- قوله : ونرى المسح على الخفين ، في السفر والحضر ، كما جاء في الاثر
- قوله: والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين
- قوله : ونؤمن بالكرام الكاتبين ، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين
- قوله : ونؤمن بملك الموت ، الموكل بقبض أرواح العالمين
- قوله: وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً
- قوله: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة
- وقوله : والجنة والنار مخلوقتان ، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان
- قوله : والاستطاعة التي يجب بها الفعل
- قوله : وأفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد
- قوله : ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ماكلفهم
- قوله : وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات
- قوله : والله تعالى يستجيب الدعوات ، ويقضي الحاجات
- قوله: ويملك كل شيء ، ولا يملكه شيء
- قوله : والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى
- وقوله: ونحب أصحاب رسول الله ﷺ
- قوله: ونثبت الخلافة بعد رسول الله ﷺ أولاً لأبي بكر الصديق
- قوله : ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
- قوله : ثم لعثمان رضي الله عنه
- قوله : ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
- قوله : وهم الخلفاء الراشدون ، والأئمة المهديون
- قوله: وأن العشرة الذين سماهم رسول الله ﷺ وبشرهم بالجنة
- قوله: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله ﷺ ، وأزواجه الطاهرات من كل دنس
- قوله: وعلماء السلف من السابقين ،ومن بعدهم من التابعين ،أهل الخير والأثر
- قوله: ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام
- قوله: ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم
- قوله : ونؤمن بأشراط الساعة
- قوله : ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة
- قوله : ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وعذاباً
- قوله : ودين الله في الأرض والسماء واحد ، وهو دين الإسلام
- قوله : فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: فإنه لما كان علم أصول الدين أشرف العلوم، إذ شرف العلم بشرف المعلوم، وهو الفقه الأكبر بالنسبة إلى فقه الفروع، ولهذا سمى الإمام أبو حنيفة رحمة الله عليه ما قاله وجمعه في أوراق من أصول الدين: الفقه الأكبر وحاجة العباد إليه فوق كل حاجة، وضرورتهم إليه فوق كل ضرورة، لأنه لا حياة للقلوب، ولا نعيم ولا طمأنينة، إلا بأن تعرف ربها ومعبودها وفاطرها، بأسمائه وصفاته وأفعاله. ويكون مع ذلك كله أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه دون غيره من سائر خلقه.
ومن المحال أن تستقل العقول بمعرفة ذلك وإدراكه على التفصيل، فاقتضت رحمة العزيز الرحيم أن بعث الرسل به معرفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاح دعوتهم، وزبدة رسالتهم، معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله، إذ على هذه المعرفة تبنى مطالب الرسالة كلها من أولها الى آخرها.
ثم يتبع ذلك أصلان عظيمان:
أحدهما: تعريف الطريق الموصل إليه، وهي شريعته المتضمنة لأمره ونهيه.
والثاني: تعريف السالكين ما لهم بعد الوصول إليه من النعيم المقيم. فأعرف الناس بالله عز وجل أتبعهم للطريق الموصل إليه، وأعرفهم بحال السالكين عند القدوم عليه.
ولهذا سمى الله ما أنزله على رسوله روحا، لتوقف الحياة الحقيقية عليه، ونورا لتوقف الهداية عليه.
فقال تعالى: (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) [1] وقال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [2] فلا روح إلا فيما جاء به الرسول، ولا نور إلا في الاستضاءة به. وسماه الشفاء كما قال تعالى: (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ) [3]
فهو وإن كان هدى، وشفاء مطلقا، لكن لما كان المنتفع بذلك هم المؤمنين، خصوا بالذكر.
والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فلا هدى إلا فيما جاء به.
ولا ريب أنه يجب على كل أحد أن يؤمن بما جاء به الرسول إيمانا عاما مجملا، ولا ريب أن معرفة ما جاء به الرسول على التفصيل فرض على الكفاية، فإن ذلك داخل في تبليغ ما بعث الله به رسوله، وداخل في تدبر القرآن وعقله وفهمه، وعلم الكتاب والحكمة، وحفظ الذكر، والدعاء الى الخير، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعاء الى سبيل الرب بالحكمة والموعظة الحسنة، والمجادلة بالتي هي أحسن، ونحو ذلك مما أوجبه الله على المؤمنين، فهو واجب على الكفاية منهم.
وأما ما يجب على أعيانهم: فهذا يتنوع بتنوع قدرهم، وحاجتهم ومعرفتهم، وما أمر به أعيانهم، ولا يجب على العاجز عن سماع بعض العلم أو عن فهم دقيقه ما يجب على القادر على ذلك.
ويجب على من سمع النصوص، وفهمها من علم التفصيل ما لا يجب على من لم يسمعها، ويجب على المفتي والمحدث والحاكم ما لا يجب على من ليس كذلك.
وينبغي أن يعرف أن عامة من ضل في هذا الباب أو عجز فيه عن معرفة الحق، فإنما هو لتفريطه في اتباع ما جاء به الرسول، وترك النظر والاستدلال الموصل إلى معرفته.
فلما أعرضوا عن كتاب الله ضلوا، كما قال تعالى: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [4]
قال ابن عباس رضي الله عنهما: تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه، أن لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة ثم قرأ هذه الآيات.
وكما في الحديث [5] عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: إنها ستكون فتن قلت: فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيع به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا تنقضي عجائبه، ولا تشبع منه العلماء، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي الى صراط مستقيم إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث، الدالة على مثل هذا المعنى.
ولا يقبل الله من الأولين والآخرين دينا يدينون به، إلا أن يكون موافقا لدينه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم السلام.
وقد نزه الله تعالى نفسه عما يصفه العباد، إلا ما وصفه به المرسلون بقوله سبحانه: (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [6]
فنزه نفسه سبحانه عما يصفه به الكافرون، ثم سلم على المرسلين، لسلامة ما وصفوه به من النقائص والعيوب، ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التي يستحق عليها كمال الحمد.
ومضى على ما كان عليه الرسول ﷺ خير القرون، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان، يوصي به الأول الآخر ويقتدي فيه اللاحق بالسابق. وهم في ذلك كله بنبيهم محمد ﷺ مقتدون، وعلى منهاجه سالكون.
كما قال تعالى في كتابه العزيز: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) [7]
فإن كان قوله: { ومن اتبعني } معطوفا على الضمير في {أدعو}، فهو دليل على أن أتباعه هم الدعاة الى الله.
وإن كان معطوفا على الضمير المنفصل، فهو صريح أن أتباعه هم أهل البصيرة فيما جاء به دون غيرهم، وكلا المعنيين حق.
وقد بلغ الرسول ﷺ البلاغ المبين، وأوضح الحجة للمستبصرين، وسلك سبيله خير - القرون.
ثم خلف من بعدهم خلف اتبعوا أهواءهم، وافترقوا، فأقام الله لهذه الامة من يحفظ عليها أصول دينها، كما أخبر الصادق ﷺ بقوله: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم.
وممن قام بهذا الحق من علماء المسلمين: الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الأزدي الطحاوي، تغمده الله برحمته، بعد المائتين، فإن مولده سنة تسع وثلاثين ومائتين، ووفاته سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
فأخبر رحمه الله عما كان عليه السلف، ونقل عن الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وصاحبيه أبي سوف يعقوب بن ابراهيم الحميري الأنصاري، و محمد بن الحسن الشيباني رضي الله عنهم - ما كانوا يعتقدون من أصول الدين، ويدينون به رب العالمين.
وكلما بعد العهد، ظهرت البدع، وكثر التحريف، الذي سماه أهله تأويلا ليقبل، وقل من يهتدي إلى الفرق بين التحريف والتأويل. اذ قد يسمى صرف الكلام عن ظاهره إلى معنى آخر يحتمله اللفظ في الجملة تأويلا، وإن لم يكن ثم قرينة توجب ذلك، ومن هنا حصل الفساد. فإذا سموه تأويلا قبل وراج على من لا يهتدي إلى الفرق بينهما.
فاحتاج المؤمنون بعد ذلك إلى ايضاح الأدلة، ودفع الشبه الواردة عليها، وكثر الكلام والشغب، وسبب ذلك إصغاؤهم إلى شبه المبطلين، وخوضهم في الكلام المذموم، الذي عابه السلف، ونهوا عن النظر فيه والإشتغال به والإصغاء إليه، امتثالا لأمر ربهم، حيث قال: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِه) [8] فإن معنى الآية يشملهم.
وكل من التحريف والإنحراف على مراتب: فقد يكون كفرا، وقد يكون فسقا، وقد يكون معصية، وقد يكون خطأ.
فالواجب اتباع المرسلين، واتباع ما أنزله الله عليهم. وقد ختمهم الله بمحمد ﷺ، فجعله آخر الأنبياء، وجعل كتابه مهيمنا على ما بين يديه من كتب السماء، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وجعل دعوته عامة لجميع الثقلين، الجن والأنس، باقية إلى يوم القيامة، وانقطعت به حجة العباد على الله. وقد بين الله به كل شيء، وأكمل له ولأمته الدين خبرا وأمرا، وجعل طاعته طاعة له، ومعصيته معصية له، وأقسم بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموه فيما شجر بينهم، وأخبر أن المنافقين يريدون أن يتحاكموا إلى غيره، وأنهم إذا دعوا إلى الله والرسول، وهو الدعاء إلى كتاب الله وسنة رسوله - صدوا صدودا، وأنهم يزعمون أنهم إنما أرادوا إحسانا وتوفيقا، كما يقوله كثير من المتكلمة والمتفلسفة وغيرهم: إنما نريد أن نحس الأشياء بحقيقتها، أي ندركها ونعرفها، ونريد التوفيق بين الدلائل التي يسمونها العقليات، - وهي في الحقيقة: جهليات - وبين الدلائل النقلية المنقولة عن الرسول، أو نريد التوفيق بين الشريعة والفلسفة. وكما يقوله كثير من المبتدعة، من المتنسكة والمتصوفة: إنما نريد الأعمال بالعمل الحسن، والتوفيق بين الشريعة وبين ما يدعونه من الباطل، الذي يسمونه: حقائق وهي جهل وضلال.
وكما يقوله كثير من المتكلمة والمتأثرة: إنما نريد الإحسان بالسياسة الحسنة، والتوفيق بينها وبين الشريعة، ونحو ذلك.
فكل من طلب أن يحكم في شيء من أمر الدين غير ما جاء به الرسول، ويظن أن ذلك حسن، وأن ذلك جمع بين ما جاء به الرسول وبين ما يخالفه - فله نصيب من ذلك، بل ما جاء به الرسول كاف كامل، يدخل فيه كل حق، وإنما وقع التقصير من كثير من المنتسبين إليه، فلم يعلم ما جاء به الرسول في كثير من الامور الكلامية الإعتقادية، ولا في كثير من الأحوال العبادية، ولا في كثير من الإمارة السياسية، أو نسبوا إلى شريعة الرسول، بظنهم وتقليدهم، ما ليس منها، وأخرجوا عنها كثيرا مما هو منها.
فبسبب جهل هؤلاء وضلالهم وتفريطهم، وبسبب عدوان أولئك وجهلهم ونفاقهم، كثر النفاق، ودرس كثير من علم الرسالة.
بل إنما يكون البحث التام، والنظر القوي، والإجتهاد الكامل، فيما جاء به الرسول ﷺ، ليعلم ويعتقد، ويعمل به ظاهرا وباطنا فيكون قد تلي حق تلاوته، وأن لا يهمل منه شيء.
وإن كان العبد عاجزا عن معرفة بعض ذلك، أو العمل به، فلا ينهي عما عجز عنه مما جاء به الرسول، بل حسبه أن يسقط عنه اللوم لعجزه، لكن عليه أن يفرح بقيام غيره به، ويرضى بذلك، ويود أن يكون قائما به، وأن لا يؤمن ببعضه ويترك بعضه، بل يؤمن بالكتاب كله، وأن يصان عن أن يدخل فيه ما ليس منه، من رواية أو رأي، أو يتبع ما ليس من عند الله، اعتقادا أو عملا، كما قال تعالى: (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُون) [9]
وهذه كانت طريقة السابقين الأولين، وهي طريقة التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.
وأولهم السلف القديم من التابعين الأولين، ثم من بعدهم. ومن هؤلاء أئمة الدين المشهود لهم عند الأمة الوسط بالإمامة.
فعن أبي يوسف رحمه الله تعالى أنه قال لبشر المريسي: العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم، وإذا صار الرجل رأسا في الكلام قيل: زنديق، أو رمي بالزندقة.
أراد بالجهل به اعتقاد عدم صحته، فإن ذلك علم نافع، أو أراد به الإعراض عنه أو ترك الالتفات إلى اعتباره.
فإن ذلك يصون علم الرجل وعقله فيكون علما بهذا الإعتبار. والله أعلم.
وعنه أيضا أنه قال: من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام.
وقال أيضا رحمه الله تعالى (شعرا):
كل العلوم سوى القرآن مشغلة | إلا الحديث وإلا الفقه في الدين |
العلم ما كان فيه قال حدثنا | وما سوى ذاك وسواس الشياطين |
وذكرالأصحاب في الفتاوى: أنه لو أوصى لعلماء بلده: لا يدخل المتكلمون، وأوصى إنسان أن يوقف من كتبه ما هو من كتب العلم، فأفتى السلف أن يباع ما فيها من كتب الكلام. ذكر ذلك بمعناه في الفتاوى الظهيرية.
فكيف يرام الوصول إلى علم الاصول، بغير اتباع ما جاء به الرسول؟!
ولقد أحسن القائل:
أيها المغتدي ليطلب علما | كل علم عبد لعلم الرسول |
تطلب الفرع تصحح أصلا | كيف أغفلت علم أصل الاصول |
ونبينا ﷺ أوتي فواتح الكلم وخواتمه وجوامعه، فبعث بالعلوم الكلية والعلوم الأولية والأخروية على أتم الوجوه، ولكن كلما ابتدع شخص بدعة اتسعوا في جوابها، فلذلك صار كلام المتأخرين كثيرا، قليل البركة، بخلاف كلام المتقدمين، فإنه قليل، كثير البركة، لا كما يقوله ضلال المتكلمين وجهلتهم: أن طريقة القوم من المنتسبين إلى الفقه: إنهم لم يتفرغوا لاستنباط الفقه وضبط قواعده وأحكامه اشتغالا منهم بغيره! والمتأخرون تفرغوا لذلك، فهم أفقه!!
فكل هؤلاء محجوبون عن معرفة مقادير السلف، وعمق علومهم، وقلة تكلفهم، وكمال بصائرهم.
وتالله ما امتاز عنهم المتأخرون إلا بالتكلف والإشتغال بالأطراف التي كانت همة القوم مراعاة أصولها، وضبط قواعدها، وشد معاقدها، وهممهم مشمرة إلى المطالب العالية في كل شيء. فالمتأخرون في شأن، والقوم في شأن آخر، وقد جعل الله لكل شيء قدرا.
وقد شرح هذه العقيدة غير واحد من العلماء، ولكن رأيت بعض الشارحين قد أصغى إلى أهل الكلام المذموم، واستمد منهم، وتكلم بعباراتهم.
والسلف لم يكرهوا التكلم بالجوهر والجسم والعرض ونحو ذلك لمجرد كونه اصطلاحا جديدا على معان صحيحة، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضا الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق، ومن ذلك مخالفتها الكتاب والسنة، ولهذا لا تجد عند أهلها من اليقين والمعرفة ما عند عوام المؤمنين، فضلا عن علمائهم.
ولاشتمال مقدماتهم على الحق والباطل، كثر المراء والجدال، وانتشر القيل والقال، وتولد لهم عنها من الأقوال المخالفة للشرع الصحيح والعقل الصريح ما يضيق عنه المجال.
وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله: فمن رام علم ما حظر عنه علمه.
وقد أحببت أن أشرحها سالكا طريق السلف في عباراتهم، وأنسج على منوالهم، متطفلا عليهم، لعلي أن أنظم في سلكهم، وأدخل في عدادهم، وأحشر في زمرتهم (مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا) [10] ولما رأيت النفوس مائلة إلى الاختصار، آثرته على التطويل والإسهاب (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) [11] هو حسبنا ونعم الوكيل.
قوله: (نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له)
نقول في توحيد الله معتقدين بتوفيق الله أن الله واحد لا شريك له [12]
شرح: أعلم أن التوحيد أول دعوة الرسل، وأول منازل الطريق، وأول مقام يقوم فيه السالك إلى الله عز وجل.
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [13]
وقال هود عليه السلام لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [14]
وقال صالح عليه السلام لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [15]
وقال شعيب عليه السلام لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [16]
وقال تعالى: (وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوت) [17]
وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُون) [18]
وقال ﷺ: أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله.
ولهذا كان الصحيح أن أول واجب يجب على المكلف شهاده أن لا إله إلا الله، لا النظر، ولا القصد إلى النظر، ولا الشك، كما هي أقوال لأرباب الكلام المذموم.
بل أئمة السلف كلهم متفقون على أن أول ما يؤمر به العبد الشهادتان، ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب بلوغه، بل يؤمر بالطهارة والصلاة إذا بلغ أو ميز عند من يرى ذلك.
ولم يوجب أحد منهم على وليه أن يخاطبه حينئذ بتجديد الشهادتين، وإن كان الإقرار بالشهادتين واجبا باتفاق المسلمين، ووجوبه يسبق وجوب الصلاة، لكن هو أدى هذا الواجب قبل ذلك.
وهنا مسائل تكلم فيها الفقهاء: كمن صلى ولم يتكلم بالشهادتين، أو أتى بغير ذلك من خصائص الإسلام، ولم يتكلم بهما، هل يصير مسلما أم لا؟ والصحيح أنه يصير مسلما بكل ما هو من خصائص الإسلام.
فالتوحيد أول ما يدخل به في الإسلام، وآخر ما يخرج به من الدنيا، كما قال النبي ﷺ: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة.
وهو أول واجب وآخر واجب.
فالتوحيد أول الأمر وآخره، أعني: توحيد الإلهية، فإن التوحيد يتضمن ثلاث أنواع:
أحدها: الكلام في الصفات.
والثاني: توحيد الربوبية، وبيان أن الله وحده خالق كل شيء.
والثالث: توحيد الإلهية، وهو استحقاقه سبحانه وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له.
أما الأول: فإن نفاة الصفات أدخلوا نفي الصفات في مسمى التوحيد، كجهم بن صفوان ومن وافقه، فإنهم قالوا: اثبات الصفات يستلزم تعدد الواجب، وهذا القول معلوم الفساد بالضرورة، فإن اثبات ذات مجردة عن جميع الصفات لا يتصور لها وجود في الخارج، وانما الذهن قد يفرض المحال ويتخيله وهذا غاية التعطيل.
وهذا القول قد أفضى بقوم الى القول بالحلول والإتحاد، وهو أقبح من كفر النصارى، فإن النصارى خصوه بالمسيح، وهؤلاء عموا جميع المخلوقات.
ومن فروع هذا التوحيد: أن فرعون وقومه كاملو الإيمان، عارفون بالله على الحقيقة.
ومن فروعه: أن عباد الأصنام على الحق والصواب، وأنهم إنما عبدوا الله لا غيره.
ومن فروعه: أنه لا فرق في التحريم التحليل بين الأم والأخت والأجنبية، ولا فرق بين الماء والخمر، والزنا والنكاح، والكل من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة.
ومن فروعه: أن الأنبياء ضيقوا على الناس.
تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
وأما الثاني: وهو توحيد الربوبية، كالإقرار بأنه خالق كل شيء، وأنه ليس للعالم صانعان متكافئان في الصفات والأفعال، وهذا التوحيد حق لا ريب فيه، وهو الغاية عند كثير من أهل النظر والكلام وطائفة من الصوفية، وهذا التوحيد لم يذهب إلى نقيضة طائفة معروفة من بني آدم، بل القلوب مفطورة على الإقرار به أعظم من كونها مفطورة على الإقرار بغيره من الموجودات، كما قالت الرسل فيما حكى الله عنهم: (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) [19].
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الصانع فرعون، وقد كان مستيقنا به في الباطن، كما قال له موسى عليه السلام: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) [20]
وقال تعالى عنه وعن قومه: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْما وَعُلُوّا) [21]
ولهذا لما قال: (وما رب العالمين؟) على وجه الإنكار له تجاهل العارف، قال له موسى: (قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [22].
وقد زعم طائفة أن فرعون سأل موسى مستفهما عن الماهية، وأن المسؤول عنه لما لم تكن له ماهية عجز موسى عن الجواب وهذا غلط.
وإنما هذا استفهام إنكار وجحد، كما دل سائر آيات القرآن على أن فرعون كان جاحدا لله نافيا له، لم يكن مثبتا له طالب للعلم بماهيته.
فلهذا بين لهم موسى أنه معروف، وأن آياته ودلائل ربوبيته أظهر وأشهر من أن يسأل عنه بما هو؟
بل هو سبحانه أعرف وأظهر وأبين من أن يجهل، بل معرفته مستقرة في الفطر أعظم من معرفة كل معروف.
ولم يعرف عن أحد من الطوائف أنه قال: أن العالم له صانعان متماثلان في الصفات والأفعال، فإن الثنوية من المجوس، والمانوية القائلين بالأصلين: النور والظلمة، وأن العالم صدر عنهما -: متفقون على أن النور خير من الظلمة، وهو الإله المحمود، وأن الظلمة شريرة مذمومة، وهم متنازعون في الظلمة، هل هي قديمة أو محدثة؟ فلم يثبتوا ربين متماثلين.
وأما النصارى القائلون بالتثليت، فانهم لم يثبتوا للعالم ثلاثة أرباب ينفصل بعضهم عن بعض، بل متفقون على أن صانع العالم واحد، ويقولون: باسم الإبن والأب وروح القدس إله واحد.
وقولهم في التثليث متناقض في نفسه، وقولهم في الحلول أفسد منه، ولهذا كانوا مضطربين في فهمه، وفي التعبير عنه، لا يكاد واحد منهم يعبر عنه بمعنى معقول، ولا يكاد أثنان يتفقان على معنى واحد، فانهم يقولون: هو واحد بالذات، ثلاثة بالاقنوم! والاقانيم يفسرونها تارة بالخواص، وتارة بالصفات، وتارة بالأشخاص.
وقد فطر الله العباد على فساد هذه الاقوال بعد التصور التام.
وبالمجلة فهم لا يقولون باثبات خالقين متماثلين.
والمقصود هنا: أنه ليس في الطوائف من يثبت للعالم صانعين متماثلين، مع أن كثيرا من أهل الكلام والنظر والفلسفة تعبوا في اثبات هذا المطلوب وتقريره. ومنهم من اعترف بالعجز عن تقرير هذا بالعقل، وزعم أنه يتلقى من السمع.
والمشهور عند أهل النظر اثباته بدليل التمانع، وهو: أنه لو كان للعالم صانعان فعند اختلافهما مثل أن يريد أحدهما تحريك جسم وآخر تسكينه، أو يريد أحدهما احياءه والآخر اماتته -: فإما أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.
والأول ممتنع، لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع، لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون، وهو ممتنع، ويستلزم أيضا عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها، واذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزا لا يصلح للإلهية.
وتمام الكلام على هذا الأصل معروف في موضعه، وكثير من أهل النظر يزعمون أن دليل التمانع هو معنى قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [23] لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروه هو توحيد الإلهية الذي بينه القرآن، ودعت إليه الرسل عليهم السلام وليس الأمر كذلك، بل التوحيد الذي دعت إليه الرسل، ونزلت به الكتب، هو توحيد الإلهية المتضمن توحيد الربوبية، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فإن المشركين من العرب كانوا يقرون بتوحيد الربوبية، وأن خالق السموات والأرض واحد، كما أخبر تعالى عنهم بقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [24] (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الآيات [25]
ومثل هذا كثير في القرآن، ولم يكونوا يعتقدون في الأصنام أنها مشاركة لله في خلق العالم، بل كان حالهم فيها كحال أمثالهم من مشركي الأمم من الهند والترك والبربر وغيرهم، تارة يعتقدون أن هذه تماثيل قوم صالحين من الأنبياء والصالحين، ويتخذونهم شفعاء، ويتوسلون بهم الى الله، وهذا كان أصل شرك العرب.
قال تعالى حكاية عن قوم نوح (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّا وَلا سُوَاعا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرا) [26]
وقد ثبت في صحيح البخاري، وكتب التفسير، وقصص الأنبياء وغيرها، عن ابن عباس رضي الله عنهما، وغيره من السلف، أن هذه أسماء قوم صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد، فعبدوهم وأن هذه الأصنام بعينها صارت إلى قبائل العرب، ذكرها ابن عباس رضي الله عنهما، قبيلة قبيلة
وقد ثبت في صحيح مسلم عن أبي الهياج الاسدي، قال: قال لي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ألا أبعثك على ما بعثني رسول الله ﷺ؟ أمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال في مرض قبل موته: لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذره ما فعلوا، قالت عائشة رضي الله عنها: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذ مسجدا.
وفي الصحيحين أنه ذكر في مرض موته كنيسة بأرض الحبشة، وذكر من حسنها وتصاوير فيها، فقال: إن أولئك اذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصورا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.
وفي صحيح مسلم عنه ﷺ أنه قال قبل أن يموت بخمس: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، فإني أنهاكم عن ذلك.
ومن أسباب الشرك عبادة الكواكب واتخاذ الاصنام بحسب ما يظن أنه مناسب للكواكب من طباعها.
وشرك قوم إبراهيم عليه السلام كان - فيما يقال - من هذا الباب. وكذلك الشرك بالملائكة والجن واتخاذ الأصنام لهم.
وهؤلاء كانوا مقرين بالصانع، وأنه ليس للعالم صانعان، ولكن اتخذوا هؤلاء شفعاء، كما أخبر عنهم تعالى بقوله: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [27] وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [28]
وكذلك كان حال الأمم السالفة المشركين الذين كذبوا الرسل.
كما حكى الله تعالى عنهم في قصة صالح عليه السلام عن التسعة الرهط الذين تقاسموا بالله، أي تحالفوا بالله، لنبيتنه وأهله.
فهؤلاء المفسدون المشركون تحالفوا بالله عند قتل نبيهم وأهله، وهذا بين أنهم كانوا مؤمنين بالله إيمان المشركين.
فعلم أن التوحيد المطلوب هو توحيد الإلهية، الذي يتضمن توحيد الربوبية.
قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إلى قوله: (إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) [29].
وقال تعالى: (أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض) [30]
وقال ﷺ: كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه
ولا يقال: أن معناه يولد ساذجا لا يعرف توحيدا ولا شركا، كما قال بعضهم - لما تلونا، ولقوله ﷺ فيما يروي عن ربه عز وجل: خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين الحديث.
وفي الحديث المتقدم ما يدل على ذلك، حيث قال: يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ولم يقل: ويسلمانه.
وفي رواية يولد على الملة وفي أخرى: على هذه الملة.
وهذا الذي أخبر به ﷺ هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه. منها، أن يقال: لا ريب أن الإنسان قد يحصل له من الأعتقادات والإرادات ما يكون حقا، وتارة ما يكون باطلًا، وهو حساس متحرك بالإرادات، ولا بد له من أحدهما، ولا بد له من مرجح لأحدهما.
ونعلم أنه إذا عرض على كل أحد أن يصدق وينتفع وأن يكذب ويتضرر، مال بفطرته إلى أن يصدق وينتفع، وحينئذ فالاعتراف بوجود الصانع الإيمان به هو الحق أو نقيضه، والثاني فاسد قطعا، فتعين الأول، فوجب أن يكون في الفطرة ما يقتضي معرفة الصانع والإيمان به.
وبعد ذلك: أما أن يكون في فطرته محبته أنفع للعبد أولا. والثاني فاسد قطعا، فوجب أن يكون في فطرته محبة ماينفعه.
ومنها: أنه مفطور على جلب المنافع ودفع المضار بحسه.
وحينئذ لم تكن فطرة كل واحد مستقلة بتحصيل ذلك، بل يحتاج إلى سبب معين للفطرة، كالتعليم ونحوه، فإذا وجد الشرط وانتفى المانع استجابت لما فيها من المقتضي لذلك.
ومنها: أن يقال: من المعلوم أن كل نفس قابلة للعلم وإرادة الحق، ومجرد التعليم والتحضيض لا يوجب العلم والإرادة، لولا أن في النفس قوة تقبل ذلك، وإلا فلو علم الجهال والبهائم وحضضا لم يقبلا.
ومعلوم أن حصول إقرارها بالصانع ممكن من غير سبب منفصل من خارج، وتكون الذات كافية في ذلك، فإذا كان المقتضي قائما في النفس وقدر عدم المعارض، فالمقتضي السالم عن المعارض يوجب مقتضاه، فعلم أن الفطرة السليمة إذا لم يحصل لها ما يفسدها، كانت مقره بالصانع عابدة له.
ومنها: أن يقال، إنه إذا لم يحصل المفسد الخارج ولا المصلح الخارج، كانت الفطرة مقتضية للصلاح، لأن المقتضي فيها للعلم والارادة قائم، والمانع منتف.
ويحكى عن أبي حنيفة رحمه الله: أن قوما من أهل الكلام أرادوا البحث معه في تقرير توحيد الربوبية.
فقال لهم: أخبروني قبل أن نتكلم في هذه المسألة عن سفينة في دجلة، تذهب فتمتلىء من الطعام والمتاع وغيره بنفسها، وتعود بنفسها، فترسي بنفسها، وتفرغ وترجع، كل ذلك من غير أن يدبرها أحد؟!!
فقالوا: هذا محال لا يمكن أبدا!
فقال لهم: إذا كان هذا محالا في سفينة، فكيف في هذا العالم كله علوه وسفله!! وتحكى هذه الحكاية أيضا عن غير أبي حنيفة.
فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية، الذي يقر به هؤلاء النظار، ويفنى فيه كثير من أهل التصوف، ويجعلونه غاية السالكين، كما ذكره صاحب منازل السائرين وغيره، وهو مع ذلك إن لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه - كان مشركا من جنس أمثاله من المشركين.
والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له.
ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلا على الثاني، إذ كانوا يسلمون في الأول وينازعون في الثاني، فيبين لهم سبحانه أنكم إذا كنتم تعلمون أنه لا خالق إلا الله وحده، وأنه هو الذي يأتي العباد بما ينفعهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، لا شريك له في ذلك، فلم تعبدون غيره، وتجعلون معه آلهة أخرى؟
كقوله تعالى: (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) الآيات [31].
يقول الله تعالى في آخر كل آية: (أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ) أي: أإله مع الله فعل هذا؟ وهذا استفهام إنكار، يتضمن نفي ذلك، وهم كانوا مقرين بأنه لم يفعل ذلك غير الله، فاحتج عليهم بذلك، وليس المعنى استفهام: هل مع الله إله؟ -كما ظنه بعضهم- لأن هذا المعنى لا يناسب سياق الكلام، والقوم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى، كما قال تعالى: (أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لا أَشْهَد) [32]. وكانوا يقولون: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَها وَاحِدا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) [33].
لكنهم ما كانوا يقولون: إن معه إلها (جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزا) [34] بل هم مقرون بأن الله وحده فعل هذا وهكذا سائر الآيات. وكذلك قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [35].
وكذلك قوله في سورة الأنعام: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ) [36] وأمثال ذلك.
واذا كان توحيد الربوبية، الذي يجعله هؤلاء النظار، ومن وافقهم من الصوفية هو الغاية في التوحيد -: داخلا في التوحيد الذي جاءت به الرسل، ونزلت به الكتب، فليعلم أن دلائله متعددة، كدلائل اثبات الصانع ودلائل صدق الرسول، فإن العلم كلما كان الناس إليه أحوج كانت أدلته أظهر، رحمة من الله بخلقه.
والقرآن قد ضرب الله للناس فيه من كل مثل، وهي المقاييس العقلية المفيدة للمطالب الدينية، لكن القرآن يبين الحق في الحكم والدليل، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وما كان من المقدمات معلومة ضرورية متفقا عليها، استدل بها، ولم يحتج إلى الاستدلال عليها.
والطريقة الصحيحة في البيان أن تحذف، وهي طريقة القرآن، بخلاف ما يدعيه الجهال، الذين يظنون أن القرآن ليس فيه طريقة برهانية، بخلاف ما قد يشتبه ويقع فيه نزاع، فإنه يبينه ويدل عليه.
ولما كان الشرك في الربوبية معلوم الأمتناع عند الناس كلهم، باعتبار اثبات خالقين متماثلين في الصفات والافعال، وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن ثم خالقا خلق بعض العالم، كما يقوله الثنوية في الظلمة، وكما يقوله القدرية في أفعال الحيوان، وكما يقوله الفلاسفه الدهرية في حركة الأفلاك أو حركات النفوس، أو الأجسام الطبيعية، فإن هؤلاء يثبتون أمورا محدثة بدون أحداث الله إياها، فهم مشركون في بعض الربوبية، وكثير من مشركي العرب وغيرهم قد يظن في آلهته شيئا من نفع أوضر، بدون أن يخلق الله ذلك.
فلما كان هذا الشرك في الربوبية موجودا في الناس، بين القرآن بطلانه، كما في قوله تعالى: (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) [37]
فتأمل هذا البرهان الباهر، بهذا اللفظ الوجيز الظاهر.
فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا، يوصل إلى عابده النفع ويدفع عنه الضر، فلو كان معه سبحانه إله آخر يشركه في ملكه، لكان له خلق وفعل، وحينئذ فلا يرضى تلك الشركة، بل أن قدر على قهر ذلك الشريك وتفرده بالملك والإلهية دونه فعل، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب بذلك الخلق، كما ينفرد ملوك الدنيا بعضهم عن بعض بملكه، إذا لم يقدر المنفرد منهم على قهر الآخر والعلو عليه. فلا بد من أحد ثلاثة آمور:
أما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه.
واما أن يعلو بعضهم على بعض.
واما أن يكونوا تحت قهر ملك واحد يتصرف فيهم كيف يشاء، ولا يتصرفون فيه، بل يكون وحده هو الإله، وهم العبيد المربوبون المقهورون من كل وجه.
وانتظام أمر العالم كله واحكام أمره، من أدل دليل على أن مدبره إله واحد، وملك واحد، ورب واحد، لا إله للخلق غيره، ولا رب لهم سواه. كما قد دل دليل التمانع على أن خالق العالم واحد، لا رب غيره ولا إله سواه، فذلك تمانع في الفعل والإيجاد، وهذا تمانع في العبادة والإلهية.
فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان، كذلك يستحيل أن يكون لهم إلهان معبودان.
فالعلم بأن وجود العالم عن صانعين متماثلين ممتنع لذاته، مستقر في الفطر معلوم بصريح العقل بطلانه، فكذا تبطل إلهية اثنين.
فالآية الكريمة موافقة لما ثبت واستقر في الفطر من توحيد الربوبية، دالة مثبتة مستلزمة لتوحيد الإلهية.
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) [38]
وقد ظن طوائف أن هذا دليل التمانع الذي تقدم ذكره، وهو أنه لو كان للعالم صانعان الخ، وغفلوا عن مضمون الآية، فإنه سبحانه أخبر أنه لو كان فيهما آلهة غيره، ولم يقل أرباب.
وأيضا فإن هذا إنما هو بعد وجودهما، وأنه لو كان فيهما وهما موجودتان آلهة سواه لفسدتا.
وأيضا فإنه قال: (لفسدتا)، وهذا فساد بعد الوجود، ولم يقل: لم يوجدا.
ودلت الآية على أنه لا يجوز أن يكون فيهما آلهة متعددة، بل لا يكون الإله إلا واحد، وعلى أنه لا يجوز أن يكون هذا الإله الواحد إلا الله سبحانه وتعالى، وأن فساد السموات والأرض يلزم من كون الآلهة فيهما متعددة، ومن كون الإله الواحد غير الله وأنه لا صلاح لهما إلا بأن يكون الإله فيهما هو الله وحده لا غيره.
فلو كان للعالم إلهان معبودان لفسد نظامه كله، فإن قيامه إنما هو بالعدل، وبه قامت السموات والارض.
وأظلم الظلم على الاطلاق الشرك، وأعدل العدل التوحيد.
وتوحيد الإلهية متضمن لتوحيد الربوبية دون العكس. فمن لا يقدر على أن يخلق يكون عاجزا، والعاجز لا يصلح أن يكون إلها.
قال تعالى: (أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئا وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [39].
وقال تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [40]. وكذا قوله تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلا) [41] وفيها للمتأخرين قولان:
أحدهما: لاتخذوا سبيلا إلى مغالبته.
والثاني: وهو الصحيح المنقول عن السلف كقتادة وغيره، وهو الذي ذكره ابن جرير لم يذكر غيره: لاتخذوا سبيلا بالتقرب إليه، كقوله تعالى: (إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا) [42].
وذلك أنه قال: (لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ) وهم لم يقولوا: إن العالم له صانعان بل جعلوا معه آلهة اتخذوهم شفعاء وقالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [43] بخلاف الآية الأولى.
(انواع التوحيد الذي دعت إليه الرسل)
ثم التوحيد الذي دعت إليه رسل الله ونزلت به كتبه نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في الطلب والقصد.
فالأول: هو اثبات حقيقة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعاله وأسمائه، ليس كمثله شيء في ذلك كله، كما أخبر به عن نفسه، وكما أخبر رسوله ﷺ.
وقد أفصح القرآن عن هذا النوع كل الإفصاح، كما في أول (الحديد) و(طه) وآخر (الحشر) وأول (آلم تنزيل السجدة) وأول (آل عمران) وسورة (الإخلاص) بكمالها، وغير ذلك.
والثاني: وهو توحيد الطلب والقصد، مثل ما تضمنته سورة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ) [44]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة (يونس) وأوسطها وآخرها، وأول سورة (الأعراف) وآخرها، وجملة سورة (الأنعام).
وغالب سور القرآن متضمنة لنوعي التوحيد، بل كل سورة في القرآن. فالقرآن إما خبرعن الله وأسمائه وصفاته، وهو التوحيد العلمي الخبري.
وأما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي. وأما أمر ونهي والزام بطاعته، فذلك من حقوق التوحيد ومكملاته.
وإما خبرعن اكرامه لأهل توحيده، وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده.
وأما خبر عن أهل الشرك، وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد.
فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم.
فالحمد لله رب العالمين توحيد، الرحمن الرحيم توحيد، مالك يوم الدين توحيد، إياك نعبد وإياك نستعين توحيد، اهدنا الصراط المستقيم توحيد متضمن لسؤال الهداية إلى طريق أهل التوحيد، الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين الذين فارقوا التوحيد.
وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت له به ملائكته وأنبياؤه ورسله.
قال تعالى: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِما بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلام) [45]
فتضمنت هذه الآية الكريمة اثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود به.
وعبارات السلف في شهد - تدور على الحكم، والقضاء، والإعلام، والبيان، والإخبار. وهذه الأقوال كلها حق لا تنافي بينها: فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه.
فلها أربع مراتب: فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وان لم يعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويتذكرها وينطق بها أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به ويخبره به ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به.
فشهادة الله سبحانه لنفسه بالوحدانية والقيام بالقسط تضمنت هذه المراتب الأربع: علمه بذلك سبحانه، وتكلمه به، وإعلامه وإخباره لخلقه به، وأمرهم والزامهم به.
فأما مرتبة العلم فإن الشهادة تضمنتها ضرورة، وإلا كان الشاهد شاهدا بما لا علم له به.
قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [46]
وقال ﷺ: على مثلها فاشهد، وأشار إلى الشمس.
وأما مرتبة التكلم والخبر، فقال تعالى: (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ) [47]
فجعل ذلك منهم شهادة، وإن لم يتلفظوا بلفظ الشهادة ولم يؤدوها عند غيرهم.
وأما مرتبة الإعلام والإخبار فنوعان: إعلام بالقول، وإعلام بالفعل. وهذا شأن كل معلم لغيره بأمر: تارة يعلمه به بقوله، وتارة بفعله.
ولهذا كان من جعل داره مسجدا وفتح بابها وأفرزها بطريقها وأذن للناس بالدخول والصلاة فيها -: معلما أنها وقف، وان لم يتلفظ به.
وكذلك من وجد متقربا الى غيره بأنواع المسار، يكون معلما له ولغيره أنه يحبه، وان لم يتلفظ بقوله، وكذلك بالعكس.
وكذلك شهادة الرب عز وجل وبيانه وإعلامه، يكون بقوله تارة، وبفعله أخرى. فالقول ما أرسل به رسله وأنزل به كتبه.
وأما بيانه وإعلامه بفعله فكما قال ابن كيسان: شهد الله بتدبيره العجيب وأموره المحكمة عند خلقه -: أنه لا إله إلا هو.
وقال آخر:
وفي كل شيء له أية | تدل على أنه واحد |
ومما يدل على أن الشهادة تكون بالفعل، قوله تعالى: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [48]
فهذه شهادة منهم على أنفسهم بما يفعلونه.
والمقصود أنه سبحانه يشهد بما جعل آياته المخلوقة دالة عليه، ودلالتها إنما هي بخلقه وجعله.
وأما مرتبة الأمر بذلك والإلزام به، وأن مجرد الشهادة لا يستلزمه، لكن الشهادة في هذا الموضع تدل عليه وتتضمنه - فإنه سبحانه شهد به شهادة من حكم به، وقضى وأمر وألزم عباده به.
كما قال تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [49] وقال تعالى: (وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) [50] وقال تعالى (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَها وَاحِدا) [51] وقال تعالى: (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخر) [52] وقال تعالى: (وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ) [53]
والقرآن كله شاهد بذلك.
ووجه استلزام شهادته سبحانه لذلك: أنه إذا شهد أنه لا إله إلا هو، فقد أخبر وبين وأعلم وحكم وقضى أن ما سواه ليس بإله، أو آلهية ما سواه باطلة، فلا يستحق العبادة سواه، كما لا تصلح الإلهية لغيره، وذلك يستلزم الأمر باتخاذه وحده إلها، والنهي عن اتخاذ غيره معه إلها، وهذا يفهمه المخاطب من هذا النفي والإثبات، كما إذا رأيت رجلا يستفتي رجلا أو يستشهده أو يستطبه وهو ليس أهلا لذلك، ويدع من هو أهل له، فتقول: هذا ليس بمفت ولا شاهد ولا طبيب، المفتي فلان، والشاهد فلان، والطبيب فلان، فإن هذا أمر منه ونهي.
وأيضا: فالآية دلت على أنه وحده المستحق للعبادة، فإذا أخبر أنه هو وحده المستحق للعبادة، تضمن هذا الإخبار أمر العباد وإلزامهم بأداء ما يستحق الرب تعالى عليهم، وأن القيام بذلك هو خالص حقه عليهم.
وأيضا: فلفظ الحكم و القضاء يستعمل في الجملة الخبرية، ويقال للجملة الخبرية: قضية، وحكم، وقد حكم فيها بكذا.
قال تعالى: (أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [54]
فجعل هذا الإخبار المجرد منهم حكما، وقال تعالى: (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) [55] لكن هذا حكم لا إلزام معه
والحكم والقضاء بأنه لا إله الا هو متضمن الإلزام. ولو كان المراد مجرد شهادة لم يتمكنوا من العلم بها، ولم ينتفعوا بها ولم تقم عليهم بها الحجة.
بل قد تضمنت البيان للعباد ودلالتهم وتعريفهم بما شهد به، كما أن الشاهد من العباد إذا كانت عنده شهادة ولم يبينها بل كتمها، لم ينتفع بها أحد، ولم تقم بها حجة.
وإذا كان لا ينتفع بها إلا ببيانها، فهو سبحانه قد بينها غاية البيان بطرق ثلاثة: السمع، والبصر، والعقل.
أما السمع: فبسمع آياته المتلوة المبينة لما عرفنا إياه من صفات كماله كلها، الوحدانية وغيرها، غاية البيان، لا كما يزعمه الجهمية ومن وافقهم من المعتزلة ومعطلة بعض الصفات من دعوى احتمالات توقع الحيرة، تنافي البيان الذي وصف الله به كتابه العزيز ورسوله الكريم.
كما قال تعالى: (حم وَالْكِتَابِ الْمُبِين) [56]، (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ) [57]، (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [58]، (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [59]، (فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [60]، (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [61].
وكذلك السنة تأتي مبينة أو مقررة لما دل عليه القرآن، لم يحوجنا ربنا سبحانه وتعالى إلى رأي فلان، ولا إلى ذوق فلان ووجْدِه في أصول ديننا. ولهذا نجد من خالف الكتاب والسنة مختلفين مضطربين، بل قد قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينا) [62]
فلا يحتاج في تكميله إلى أمر خارج عن الكتاب والسنة.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ أبو جعفر الطحاوي فيما يأتي من كلامه من قوله: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ﷺ.
وأما آياته العيانية الخلقية: فالنظر فيها والإستدلال بها يدل على ما تدل عليه آياته القولية السمعية، والعقل يجمع بين هذه وهذه، ويجزم بصحة ما جاءت به الرسل، فتتفق شهادة السمع والبصر والعقل والفطرة.
فهو سبحانه لكمال عدله ورحمته واحسانه وحكمته ومحبته للعذر واقامة الحجة - لم يبعث نبيا إلا ومعه آية تدل على صدقه فيما أخبر به.
قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [63]، وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ*بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ) [64]، وقال تعالى: (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ) [65]، وقال تعالى: (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ) [66]، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) [67]، حتى إن من أخفى آيات الرسل آيات هود، حتى قال له قومه: ( يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) [68]، ومع هذا فبينته من أوضح البينات لمن وفقه الله لتدبرها، وقد أشار إليها بقوله: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [69]
فهذا من أعظم الآيات: أن رجلا واحدا يخاطب أمة عظيمة بهذا الخطاب، غير جزع ولا فزع ولا خوار، بل هو واثق بما قاله، جازم به، فأشهد الله أولا على براءته من دينهم وما هم عليه، اشهاد واثق به معتمد عليه، معلم لقومه أنه وليه وناصره وغير مسلط لهم عليه. ثم أشهدهم إشهاد مجاهر لهم بالمخالفة أنه بريء من دينهم وآلهتهم التي يوالون عليها ويعادون عليها ويبذلون دماءهم وأموالهم في نصرتهم لها، ثم أكد ذلك عليهم بالإستهانة لهم واحتقارهم وازدرائهم.
ولو يجتمعون كلهم على كيده وشفاء غيظهم منه، ثم يعاجلونه ولا يمهلونه لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه . ثم قرر دعوتهم أحسن تقرير، وبين أن ربه تعالى وربهم الذي نواصيهم بيده هو وليه ووكيله القائم بنصره وتأييده، وأنه على صراط مستقيم، فلا يخذل من توكل عليه وأقر به، ولا يشمت به أعداءه.
فأي آية وبرهان أحسن من آيات الأنبياء عليهم السلام وبراهينهم وأدلتهم؟ وهي شهادة من الله سبحانه لهم بينها لعباده غاية البيان.
ومن أسمائه تعالى المؤمن وهو في أحد التفسيرين: المصدق الذي يصدق الصادقين بما يقيم لهم من شواهد صدقهم، فإنه لا بد أن يري العباد من الآيات الافقية والنفسية ما يبين لهم أن الوحي الذي بلغه رسله حق.
قال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) [70] أي: القرآن، فإنه هو المتقدم في قوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [71] ثم قال: (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [72]
فشهد سبحانه لرسوله بقوله أن ما جاء به حق، ووعد أنه يري العباد من آياته الفعلية الخلقية ما يشهد بذلك أيضا.
ثم ذكر ما هو أعظم من ذلك كله وأجل، وهو شهادته سبحانه بأنه على كل شيء شهيد، فإن من أسمائه الشهيد الذي لا يغيب عنه شيء، ولا يعزب عنه، بل هو مطلع على كل شيء مشاهد له، عليم بتفاصيله. وهذا استدلال بأسمائه وصفاته، والأول استدلال بقوله وكلماته، واستدلاله بالآيات الأفقية والنفسية استدلال بأفعاله ومخلوقاته.
فإن قلت: كيف يستدل بأسمائه وصفاته، فإن الاستدلال بذلك لا يعهد في الأصطلاح؟
فالجواب: أن الله تعالى قد أودع في الفطرة التي لم تتنجس بالجحود والتعطيل، ولا بالتشبيه والتمثيل، أنه سبحانه الكامل في أسمائه وصفاته، وأنه الموصوف بما وصف به نفسه ووصفه به رسله، وما خفي عن الخلق من كماله أعظم وأعظم مما يعرفونه منه.
ومن كماله المقدس شهادته على كل شيء واطلاعه عليه، بحيث لا يغيب عنه ذرة في السموات ولا في الأرض باطنا وظاهرا.
ومن هذا شأنه كيف يليق بالعباد أن يشركوا به، وأن يعبدوا غيره ويجعلوا معه إلها آخر؟
وكيف يليق بكماله أن يقر من يكذب عليه أعظم الكذب، ويخبر عنه بخلاف ما الأمر عليه، ثم ينصره على ذلك ويؤيده ويعلي شأنه ويجيب دعوته ويهلك عدوه، ويظهر على دينه من الآيات والبراهين ما يعجز عن مثله قوى البشر، وهو مع ذلك كاذب غير مفتر؟!
ومعلوم أن شهادته سبحانه على كل شيء وقدرته وحكمته وعزته وكماله المقدس يأبى ذلك. ومن جوز ذلك فهو من أبعد الناس عن معرفته.
والقرآن مملوء من هذه الطريق، وهي طريق الخواص، يستدلون بالله على أفعاله وما يليق به أن يفعل ولا يفعله.
قال تعالى: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [73] وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
ويستدل أيضا بأسمائه وصفاته على وحدانيته وعلى بطلان الشرك كما في قوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [74]
وأضعاف ذلك في القرآن.
وهذه الطريق قليل سالكها، لا يهتدي إليها إلا الخواص. وطريقة الجمهور الاستدلال بالآيات المشاهده، لأنها أسهل تناولا وأوسع. والله سبحانه يفضل بعض خلقه على بعض.
فالقرآن العظيم قد اجتمع فيه ما لم يجتمع في غيره، فإنه الدليل والمدلول عليه، والشاهد والمشهود له. قال تعالى لمن طلب آية تدل على صدق رسوله: (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [75]
وإذا عرف أن توحيد الالهية هو التوحيد الذي أرسلت به الرسل وأنزلت به الكتب، كما تقدمت إليه الإشارة - فلا يلتفت إلى قول من قسم التوحيد إلى ثلاثة أنواع، وجعل هذا النوع توحيد العامة، والنوع الثاني توحيد الخاصة، وهو الذي يثبت بالحقائق، والنوع الثالث توحيد قائم بالقدم، وهو توحيد خاصة الخاصة، فإن أكمل الناس توحيد الأنبياء صلوات الله عليهم والمرسلون منهم أكمل في ذلك، وأولو العزم من الرسل أكملهم توحيدا، وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد، صلى الله وسلم عليهم أجمعين.
وأكملهم توحيدا الخليلان: محمد وإبراهيم، صلوات الله عليهما وسلامه، فإنهما قاما من التوحيد بما لم يقم به غيرهما علما، ومعرفة، وحالا، ودعوة للخلق وجهادا، فلا توحيد أكمل من الذي قامت به الرسل، ودعوا إليه، وجاهدوا الأمم عليه.
ولهذا أمر سبحانه نبيه أن يقتدي بهم فيه. كما قال تعالى، بعد ذكر مناظرة إبراهيم قومه في بطلان الشرك وصحة التوحيد وذكر الأنبياء من ذريته (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [76].
فلا أكمل من توحيد من أمر رسول الله ﷺ أن يقتدي بهم.
وكان ﷺ يعلم أصحابه إذا أصبحوا أن يقولوا: أصبحنا على فطرة الاسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفا مسلما وما كان من المشركين.
فملة إبراهيم: التوحيد، ودين محمد ﷺ: ما جاء به من عند الله قولا وعملا واعتقادا.
وكلمة الإخلاص: هي شهادة أن لا إله إلا الله.
وفطرة الإسلام: هي ما فطر عليه عباده من محبته وعبادته وحده لا شريك له، والإستسلام له عبودية وذلا وانقيادا وإنابة.
فهذا توحيد خاصة الخاصة، الذي من رغب عنه فهو من أسفه السفهاء.
قال تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [77]
وكل من له حس سليم وعقل يميز به، لايحتاج في الاستدلال إلى أوضاع أهل الكلام والجدل واصطلاحهم وطرقهم البتة، بل ربما يقع بسببها في شكوك وشبه يحصل له بها الحيرة والضلال والريبة، فإن التوحيد إنما ينفع إذا سلم قلب صاحبه من ذلك، وهذا هو القلب السليم الذي لا يفلح إلا من أتى الله به.
ولا شك أن النوع الثاني والثالث من التوحيد الذي ادعوا أنه توحيد الخاصة وخاصة الخاصة، ينتهي إلى الفناء الذي يشمر إليه غالب الصوفية، وهو درب خطر، يفضي إلى الأتحاد.
انظر إلى ما أنشد شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري رحمه الله تعالى حيث يقول:
ما وحد الواحد من واحد | إذ كل من وحده جاحد |
توحيد من ينطق عن نعته | عارية أبطلها الواحد |
توحيده إياه توحيده | ونعت من ينعته لأحد |
وإن كان قائله رحمه الله لم يرد به الإتحاد، لكن ذكر لفظا مجملا محتملا جذبه به الاتحادي إليه، وأقسم بالله جهد أيمانه أنه معه، ولو سلك الألفاظ الشرعية التي لا أجمال فيها كان أحق، مع أن المعنى الذي حام حوله لو كان مطلوبا منا لنبه الشارع عليه ودعا الناس إليه وبينه، فإن على الرسول البلاغ المبين، فأين قال الرسول: هذا توحيد العامة، وهذا توحيد الخاصة، وهذا توحيد خاصة الخاصة؟ أو ما يقرب من هذا المعنى؟ أو أشار إلى هذه النقول والعقول حاضرة.
فهذا كلام الله المنزل على رسوله ﷺ، وهذه سنة الرسول، وهذا كلام خير القرون بعد الرسول، وسادات العارفين من الأئمة، هل جاء ذكر الفناء فيها، وهذا التقسيم عن أحد منهم؟
وإنما حصل هذا من زيادة الغلو في الدين، المشبه لغلو الخوارج، بل لغلو النصارى في دينهم.
وقد ذم الله تعالى الغلو في الدين ونهى عنه، فقال تعالى: ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ) [78] ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ ) [79]
وقال ﷺ: لا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن من كان قبلكم شددوا فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم [80].
قوله: (ولاشيء مثله)
ولاشيء مثله[81]
شرح: اتفق أهل السنة على أن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
ولكن لفظ التشبيه قد صار في كلام الناس لفظ، مجملا يراد به المعنى الصحيح، وهو ما نفاه القرآن ودل عليه العقل، من أن خصائص الرب تعالى لا يوصف بها شيء من المخلوقات، ولا يماثله شيء من المخلوقات في شيء من صفاته: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [82]، رد على الممثلة المشبهة (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، رد على النفاة المعطلة، فمن جعل صفات الخالق مثل صفات المخلوق، فهو المشبه المبطل المذموم، ومن جعل صفات المخلوق مثل صفات الخالق، فهو نظير النصارى في كفرهم، ويراد به أنه لا يثبت لله شي من الصفات، فلا يقال: له قدرة، ولا علم، ولا حياة، لأن العبد موصوف بهذه الصفات!
ولازم هذا القول أنه لا يقال له: حي، عليم، قدير، لأن العبد يسمى بهذه الأسماء، وكذلك كلامه وسمعه وبصره وإرادته وغير ذلك. وهم يوافقون أهل السنة على أنه موجود، عليم قدير، حي.
والمخلوق يقال له: موجود حي عليم قدير، ولا يقال: هذا تشبيه يجب نفيه، وهذا مما دل عليه الكتاب والسنة وصريح العقل، ولا يخالف فيه عاقل، فإن الله سمى نفسه بأسماء، وسمى بعض عباده بها، وكذلك سمى صفاته بأسماء، وسمى ببعضها صفات خلقه، وليس المسمى كالمسمي فسمى نفسه: حيا، عليما، قديرا، رؤوفا، رحيما، عزيزا، حكيما، سميعا، بصيرا، ملكا، مؤمنا، جبارا، متكبرا.
وقد سمى بعض عباده بهذه الأسماء فقال: (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) [83]، (وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ) [84]، (فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيم) [85]، (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [86]، (فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعا بَصِيرا) [87]، (قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ) [88]، (وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ) [89]، (أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنا) [90]، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [91]
ومعلوم أنه لا يماثل الحي الحي، ولا العليم العليم، ولا العزيز العزيز، وكذلك سائر الأسماء.
وقال تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِه) [92] (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) [93] (وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) [94] (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [95] (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً) [96]
وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يعلمنا الإستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا اقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال: عاجل أمري وآجله - فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم رضني به. قال: ويسمي حاجته. [97].
وفي حديث عمار بن ياسر الذي [98] وغيره، عن النبي ﷺ، أنه كان يدعو بهذا الدعاء: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق، أحييني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا لي، اللهم إني أسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيما لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين.
فقد سمى الله ورسوله صفات الله علما وقدرة وقوة.
وقال تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) [99] (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاه) [100]
ومعلوم أنه ليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة، ونظائر هذا كثيرة.
وهذا لازم لجميع العقلاء.
فإن من نفي صفة من صفاته التي وصف الله بها نفسه، كالرضى والغضب، والحب والبغض، ونحو ذلك، ورغم أن ذلك يستلزم التشبيه والتجسيم!
قيل له: فأنت تثبت له الإرادة والكلام والسمع والبصر، مع أن ما تثبته له ليس مثل صفات المخلوقين، فقل فيما نفيته وأثبته الله ورسوله مثل قولك فيما أثبته، إذ لا فرق بينهما.
فإن قال: أنا لا أثبت شيئا من الصفات!
قيل له: فأنت تثبت له الأسماء الحسنى، مثل: عليم، حي، قادر.
والعبد يسمى بهذه الأسماء، وليس ما يثبت للرب من هذه الأسماء مماثلا لما يثبت للعبد فقل في صفاته نظير قولك في مسمى أسمائه.
فإن قال: وأنا لا أثبت له الأسماء الحسنى، بل أقول.
هي مجاز، وهي أسماء لبعض مبتدعاته، كقول غلاة الباطنية والمتفلسفة!
قيل له: فلا بد أن تعتقد أنه موجود وحق قائم بنفسه، والجسم موجود قائم بنفسه، وليس هو مماثلا له.
فإن قال: أنا لا أثبت شيئا، بل أنكر وجود الواجب.
قيل له: معلوم بصريح العقل أن الموجود إما واجب بنفسه، وإما غير واجب بنفسه، وإما قديم أزلي، وإما حادث كائن بعد أن لم يكن، وإما مخلوق مفتقر الى خالق، وإما غير مخلوق ولا مفتقر الى خالق، وإما فقير إلى ما سواه، وإما غني عما سواه، وغير الواجب بنفسه لا يكون إلا بالواجب بنفسه، والحادث لا يكون إلا بقديم، والمخلوق لا يكون إلا بخالق، والفقير لا يكون إلا بغني عنه، فقد لزم على تقدير النقيضين وجود موجود واجب بنفسه قديم أزلي خالق غني عما سواه، وما سواه بخلاف ذلك.
وقد علم بالحس والضرورة وجود موجود حادث كائن بعد أن لم يكن، والحادث لا يكون واجبا بنفسه، ولا قديما أزليا، ولا خالقا لما سواه، ولا غنيا عما سواه.
فثبت بالضرورة وجود موجودين: أحدهما واجب، والآخر ممكن، أحدهما قديم، والآخر حادث، أحدهما غني، والآخر فقير، أحدهما خالق، والآخر مخلوق.
وهما متفقان في كون كل منهما شيئا موجودا ثابتا، ومن المعلوم أيضا أن أحدهما ليس مماثلا للآخر في حقيقته، إذ لو كان كذلك لتماثلا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وأحدهما يجب قدمه وهو موجود بنفسه، والآخر لا يجب قدمه ولا هو موجود بنفسه، وأحدهما خالق والآخر ليس بخالق، وأحدهما غني عما سواه، والآخر فقير.
فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب القدم ليس بواجب القدم، موجودا بنفسه غير موجود بنفسه، خالقا ليس بخالق، غنيا غير غني، فيلزم اجتماع الضدين على تقدير تماثلهما. فعلم أن تماثلهما منتف بصريح العقل، كما هو منتف بنصوص الشرع.
فعلم بهذه الأدلة اتفاقهما من وجه، واختلافهما من وجه. فمن نفى ما اتفقا فيه كان معطلا قائلا بالباطل، ومن جعلهما متماثلين كان مشبها قائلا بالباطل، والله أعلم.
وذلك لأنهما وإن اتفقا في مسمى ما اتفقا فيه، فاللة تعالى مختص بوجوده وعلمه وقدرته وسائر صفاته، والعبد لا يشركه في شيء من ذلك، والعبد أيضا مختص بوجوده وعلمه، وقدرته، والله تعالى منزه عن مشاركة العبد في خصائصه.
وإذا اتفقا في مسمى الوجود والعلم والقدرة، فهذا المشترك مطلق كلي يوجد في الأذهان لا في الأعيان، والموجود في الأعيان مختص لا اشتراك فيه.
وهذا موضع اضطراب فيه كثير من النظار، حيث توهموا أن الإتفاق في مسمى هذه الأشياء يوجب أن يكون الوجود الذي للرب كالوجود الذي للعبد.
وطائفة ظنت أن لفظ الوجود يقال بالاشتراك اللفظي، وكابروا عقولهم، فإن هذه الأسماء عامة قابلة للتقسيم، كما يقال: الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، وقديم وحادث.
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام، واللفظ المشترك كلفظ المشتري الواقع على المبتاع والكوكب، لا ينقسم معناه، ولكن يقال: لفظ المشتري يقال على كذا أو على كذا، وأمثال هذه المقالات التي قد بسط الكلام عليها في موضعه.
وأصل الخطأ والغلط: توهمهم أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتا في هذا المعين وهذا المعين، وليس كذلك، فان ما يوجد في الخارج لا يوجد مطلقا كليا، بل لا يوجد إلا معينا مختصا، وهذه الأسماء إذا سمي الله بها كان مسماها معينا مختصا به، فإذا سمي بها العبد كان مسماها مختصا به.
فوجود الله وحياته لا يشاركه فيها غيره، بل وجود هذا الموجود المعين لا يشركه فيه غيره، فكيف بوجود الخالق؟
ألا ترى أنك تقول: هذا هو ذاك، فالمشار إليه واحد لكن بوجهين مختلفين.
وبهذا ومثله يتبين لك أن المشبهة أخذوا هذا المعنى وزادوا فيه على الحق فضلوا، وأن المعطلة أخذوا نفي المماثلة بوجه من الوجوه.
وزادوا فيه على الحق حتى ضلوا. وأن كتاب الله دل على الحق المحض الذي تعقله العقول السليمة الصحيحة، وهو الحق المعتدل الذي لا انحراف فيه.
فالنفاة أحسنوا في تنزيه الخالق سبحانه عن التشبيه بشيء من خلقه، ولكن أساؤوا في نفي المعاني الثابتة لله تعالى في نفس الأمر.
والمشبهة أحسنوا في إثبات الصفات، ولكن أساؤوا بزيادة التشبيه.
واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عنها أو ما يناسب عينها، ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط، حتى في أول تعليم معاني الكلام بتعليم معاني الألفاظ المفرده، مثل تربية الصبي الذي يعلم البيان واللغة، ينطق له باللفظ المفرد ويشار له الى معناه إن كان مشهودا بالإحساس الظاهر أو الباطن، فيقال له: لبن، خبز، أم، أب، سماء، أرض، شمس، قمر، ماء، ويشار له مع العبارة الى كل مسمى من هذه المسميات، وإلا لم يفهم معنى اللفظ ومراد الناطق به، وليس أحد من بني آدم يستغني عن التعليم السمعي، كيف وآدم أبو البشر وأول ما علمه الله تعالى أصول الأدلة السمعية وهي الأسماء كلها، وكلمه وعلمه بخطاب الوحي ما لم يعلمه بمجرد العقل.
فدلالة اللفظ على المعنى هي بواسطة دلالته على ما عناه المتكلم وأراده، وإرادته وعنايته في قلبه، فلا يعرف باللفظ ابتداء، ولكن لا يعرف المعنى بغير اللفظ حتى يعلم أولا أن هذا المعنى المراد هو الذي يراد بذلك اللفظ ويعني به، فإذا عرف ذلك ثم سمع اللفظ مرة ثانية، عرف المعنى المراد بلا إشارة إليه.
وإن كانت الإشارة الى ما يحس بالباطن، مثل الجوع والشبع والري والعطش والحزن والفرح، فإنه لا يعرف اسم ذلك حتى يجده من نفسه، فإذا وجده أشير له إليه، وعرف أن اسمه كذا، والإشارة تارة تكون إلى جوع نفسه أو عطش نفسه، مثل أن يراه أنه قد جاع فيقول له: جعت، أنت جائع، فيسمع اللفظ ويعلم ما عينه بالإشارة أو ما يجري مجراها من القرائن التي تعين المراد، مثل نظر أمه إليه في حال، جوعه وإدراكه بنظرها أو نحوه جنها تعني جوعه، أو يسمعهم يعبرون بذلك عن جوع غيره.
اذا عرف ذلك فالمخاطب المتكلم إذا أراد بيان معان، فلا يخلو إما أن يكون مما أدركها المخاطب المستمع بإحساسه وشهوده، أو بمعقوله، وإما أن لا يكون كذلك.
فإن كانت من القسمين الأولين لم يحتج إلا إلى معرفة اللغة، بأن يكون قد عرف معاني الألفاظ المفردة ومعنى التركيب، فاذا قيل له بعد ذلك: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانا وَشَفَتَيْنِ) [101] أو قيل له: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [102]
ونحو ذلك، فهم المخاطب بما أدركه بحسه، وإن كانت المعاني التي يراد تعريفه بها ليست مما أحسه وشهده بعينه، ولا بحيث صار له معقول كلي يتناولها حتى يفهم به المراد بتلك الألفاظ، بل هي مما لا يدركه بشيء من حواسه الباطنة والظاهرة، فلا بد في تعريفه من طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينه وبين معقولات الأمور التي شاهدها من التشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل.
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أمورا لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها، أتى بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر.
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها، أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية، والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد، كتعليم الصبي، كما قال ربيعة ابن أبي عبد الرحمن: الناس في حجور علمائهم كالصبيان في حجور آبائهم.
وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد يكون مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم، كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عادا، فإن عادا من جنسهم والريح من جنس ريحهم، وإن كانت أشد. وكذلك غرق فرعون في البحر، وكذا بقية الأخبار عن الأمم الماضية.
ولهذا كان الإخبار بذلك فيه عبرة لنا، كما قال تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [103]
وقد يكون الذي يخبر به الرسول ما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه.
كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركا وشبها بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم.
فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه مشاهدة كامله ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أشهدهم إياه، وأشار لهم إليه، وفعل قولا يكون حكاية له وشبها، به يعلم المستعمون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة.
فينبغي أن يعرف هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب.
فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة والإشتباه الذي بينهما، وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة.
ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق، كما تقدم في قصص الأمم، وإن لم يكن مثلها بين ذلك بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا، ونحو ذلك.
وإذا تقرر انتفاء المماثلة كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي لا يمنع وجود القدر المشترك الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط.
قوله: (ولا شيء يعجزه)
شرح: لكمال قدرته.
قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [104]: (وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرا) [105] (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيما قَدِيرا) [106] (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [107].
لا يؤده أي: لا يكرثه ولا يثقله ولا يعجزه.
فهذا النفي لثبوت كمال ضده، وكذلك كل نفي يأتي في صفات الله تعالى في الكتاب والسنة إنما هو لثبوت كمال ضده.
كقوله تعالى: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا) [108]، لكمال عدله، (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [109] لكمال علمه. وقوله تعالى: (وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) [110] لكمال قدرته، (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [111] لكمال حياته وقيوميته، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) [112] لكمال جلاله وعظمته وكبريائه، وإلا فالنفي الصرف لا مدح فيه، ألا ترى أن قول الشاعر:
قبيلة لا يغدرون بذمة | ولا يظلمون الناس حبة خردل |
لما اقترن بنفي الغدر والظلم عنهم ما ذكره قبل هذا البيت وبعده، وتصغيرهم بقوله قبيلة علم أن المراد عجزهم وضعفهم، لا كمال قدرتهم. وقول الآخر:
لكن قومي وإن كانوا ذوي عدد | ليسوا من الشر في شيء وإن هانا |
لما اقترن بنفي الشر عنهم ما يدل على ذمهم، علم أن المراد عجزهم وضعفهم أيضا.
ولهذا يأتي الإثبات للصفات في كتاب الله مفصلا، والنفي مجملا، عكس طريقة أهل الكلام المذموم: فإنهم يأتون بالنفي المفصل والإثبات المجمل، يقولون: ليس بجسم ولا شبح ولا جثة ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا رائحة ولا طعم، ولا مجسة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق، ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض، وليس بذي أبعاض وأجزاء وجوارح وأعضاء، وليس بذي جهات، ولا بذي يمين ولا شمال وأمام وخلف وفوق وتحت، ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا يجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الأماكن، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم، ولا يوصف بأنه متناه، ولا يوصف بمساحة ولا ذهاب في الجهات وليس بمحدود، ولا والد ولا مولود، ولا تحيط به الأقدار ولا تحجبه الأستار الى آخر ما نقله أبو الحسن الأشعري رحمه الله عن المعتزلة.
وفي هذه الجملة حق وباطل. ويظهر ذلك لمن يعرف الكتاب والسنة. وهذا النفي المجرد مع كونه لا مدح فيه، فيه إساءة أدب، فإنك لو قلت للسلطان: أنت لست بزبال ولا كساح ولا حجام ولا حائك! لأدبك على هذا الوصف وإن كنت صادقا، وإنما تكون مادحا إذا أجملت النفي فقلت: أنت لست مثل أحد من رعيتك، أنت أعلى منهم وأشرف وأجل. فإذا أجملت في النفي أجملت في الأدب.
والتعبير عن الحق بالألفاظ الشرعية النبوية الآلهية هو سبيل أهل السنة والجماعة.
والمعطلة يعرضون عما قاله الشارع من الأسماء والصفات، ولا يتدبرون معانيها، ويجعلون ما ابتعدوه من المعاني والألفاظ هو المحكم الذي يجب اعتقاده واعتماده.
وأما أهل الحق والسنة والإيمان فيجعلون ما قاله الله ورسوله هو الحق الذي يجب اعتقاده واعتماده.
والذي قاله هؤلاء إما أن يعرضوا عنه إعراضا جمليا، أو يبينوا حاله تفصيلا، ويحكم عليه بالكتاب والسنة، لا يحكم به على الكتاب والسنة.
والمقصود: أن غالب عقائدهم السلوب، ليس بكذا، ليس بكذا، وأما الإثبات فهو قليل، وهي أنه عالم قادر حي، وأكثر النفي المذكور ليس متلقى عن الكتاب والسنة، ولا عن الطرق العقلية التي سلكها غيرهم من مثبتة الصفات.
فإن الله تعالى قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [113]
ففي هذا الإثبات ما يقرر معنى النفي. ففهم أن المراد انفراده سبحانه بصفات الكمال، فهو سبحانه وتعالى موصوف بما وصف به نفسه، ووصفه به رسله، ليس كمثله شيء في صفاته ولا في أسمائه ولا في أفعاله، مما أخبرنا به من صفاته، وله صفات لم يطلع عليها أحد من خلقه، كما قال رسوله الصادق ﷺ في دعاء الكرب: اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي. وسيأتي التنبيه على فساد طريقتهم في الصفات إن شاء الله تعالى.
وليس قول الشيخ رحمه الله تعالى ولا شيء يعجزه من النفي المذموم، فإن الله تعالى قال: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيما قَدِيرا) [114]، فنبه سبحانه وتعالى في آخر الآية على دليل انتفاء العجز، وهو كمال العلم والقدرة، فإن العجز إنما ينشأ إما من الضعف عن القيام بما يريده الفاعل، وإما من عدم علمه به، والله تعالى لا يعزب عنه مثقال ذرة، وهو على كل شيء قدير، وقد علم ببدائه العقول والفطر كمال قدرته وعلمه، فانتفى العجز، لما بينه وبين القدرة من التضاد، ولأن العاجز لا يصلح أن يكون إلها، تعالى الله عن ذكر ذلك علوا كبيرا.
قوله: (ولا إله غيره)
شرح: هذه كلمة التوحيد التي دعت إليها الرسل كلهم، كما تقدم ذكره.
وإثبات التوحيد بهذه الكلمة باعتبار النفي والإثبات المقتضي للحصر، فإن الإثبات المجرد قد يتطرق إليه الإحتمال.
ولهذا - والله أعلم - لما قال تعالى: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [115] قال بعده: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ) [116]
وقد اعترض صاحب المنتخب على النحويين في تقدير الخبر في لا إله إلا هو - فقالوا: تقديره: لا إله في الوجود إلا الله، فقال: يكون ذلك نفيا لوجود الإله.
ومعلوم أن نفي الماهية أقوى في التوحيد الصرف من نفي الوجود، فكان إجراء الكلام على ظاهره والإعراض عن هذا الإضمار أولى.
وأجاب أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي في ري الظمآن فقال: هذا كلام من لا يعرف لسان العرب، فإن إله في موضع المبتدأ على قول سيبويه، وعند غيره اسم لا، وعلى التقديرين فلا بد من خبر المبتدأ، وإلا فما قاله من الإستغناء عن الإضمار فاسد.
وأما قوله: إذا لم يضمر يكون نفيا للماهية - فليس بشيء، لأن نفي الماهية هو نفي الوجود، لا تتصور الماهية إلا مع الوجود، فلا فرق بين لا ماهية و لا وجود.
وهذا مذهب أهل السنة، خلافا للمعتزلة، فإنهم يثبتون ماهية عارية عن الوجود، و إلا الله - مرفوع، بدلا من لا إله لا يكون خبرا ل لا، ولا للمبتدأ. وذكر الدليل على ذلك.
وليس المراد هنا ذكر الاعراب، بل المراد رفع الأشكال الوارد على النحاة في ذلك، وبيان أنه من جهة المعتزلة.
وهو فاسد: فإن قولهم: نفي الوجود ليس تقييدا، لأن العدم ليس بشيء.
قال تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا) [117]..
ولا يقال: ليس قوله: غيره كقوله: إلا الله، لأن غير تعرب بإعراب الاسم الواقع بعد إلا.
فيكون التقدير للخبر فيهما واحدا. فلهذا ذكرت هذا الإشكال وجوابه هنا.
قوله: ( قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء )
قديم [118] بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء
ش: قال الله تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِر) [119]. وقال ﷺ: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء. فقول الشيخ قديم بلا ابتداء، دائم بلا انتهاء هو معنى أسمه الأول والآخر.
والعلم بثبوت هذين الوصفين مستقر في الفطر، فإن الموجودات لا بد أن تنتهي إلى واجب الوجود لذاته، قطعا للتسلسل. فإنا نشاهد حدوث الحيوان والنبات والمعادن وحوادث الجو كالسحاب والمطر وغير ذلك، وهذه الحوادث وغيرها ليست ممتنعة، فإن الممتنع لا يوجد، ولا واجبة الوجود بنفسها، فإن واجب الوجود بنفسه لا يقبل العدم، وهذه كانت معدومة ثم وجدت، فعدمها ينفي وجودها، ووجودها ينفي امتناعها، وما كان قابلا للوجود والعدم لم يكن وجوده بنفسه، كما قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [120]. يقول سبحانه: أحدثوا من غير محدث أم هم أحدثوا أنفسهم؟
ومعلوم أن الشيء المحدث لا يوجد نفسه، فالممكن الذي ليس له من نفسه وجود ولا عدم لا يكون موجودا بنفسه، بل إن حصل ما يوجده وإلا كان معدوما، وكل ما أمكن وجوده بدلا عن عدمه وعدمه بدلا عن وجوده، فليس له من نفسه وجود ولا عدم لازم له.
وإذا تأمل الفاضل غاية ما يذكره المتكلمون والفلاسفة من الطرق العقلية، وجد الصواب منها يعود الى بعض ما ذكر في القرآن من الطرق العقلية بأفصح عبارة وأوجزها، وفي طرق القرآن من تمام البيان والتحقيق ما لا يوجد عندهم مثله، قال تعالى: (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا) [121]
ولا نقول: لا ينفع الاستدلال بالمقدمات الخفية والأدلة النظرية -: فإن الخفاء والظهور من الأمور النسبية، فربما ظهر لبعض الناس ما خفي على غيره، ويظهر للإنسان الواحد في حال ما خفي عليه في حال أخرى.
وأيضا فالمقدمات وإن كانت خفية فقد يسلمها بعض الناس وينازع فيما هو أجلى منها، وقد تفرح النفس بما علمته من البحث والنظر ما لا تفرح بما علمته من الأمور الظاهرة. ولا شك أن العلم باثبات الصانع ووجوب وجوده أمر ضروري فطري، وإن كان يحصل لبعض الناس من الشبه ما يخرجه إلى الطرق النظرية.
وقد أدخل المتكلمون في أسماء الله تعالى القديم، وليس هو من الأسماء الحسنى، فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القران: هو المتقدم على غيره، فيقال: هذا قديم، للعتيق، وهذا حديث، للجديد. ولم يستعملوا هذا الإسم إلا في المتقدم على غيره، لا فيما لم يسبقه عدم، كما قال تعالى: (حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) [122]
والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني، فإذا وجد الجديد قيل للأول: قديم، وقال تعالى: (وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيم) [123]. أي: متقدم في الزمان
وقال تعالى: (قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) [124].
فالأقدم مبالغة في القديم، ومنه: القول القديم والجديد للشافعي -رحمه الله- وقال تعالى: (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّار) [125] أي يتقدمهم.
ويستعمل منه الفعل لازما ومتعديا، كما يقال: أخذت ما قدم وما حدث، ويقال: هذا قدم هذا وهو يقدمه. ومنه سميت القدم قدما، لأنها تقدم بقية بدن الإنسان وأما إدخال القديم في أسماء الله تعالى، فهو مشهور عند أكثر أهل الكلام.
وقد أنكر ذلك كثير من السلف والخلف، منهم ابن حزم.
ولا ريب أنه إذا كان مستعملا في نفس التقدم، فإن ما تقدم على الحوادث كلها فهو أحق بالتقدم من غيره. لكن أسماء الله تعالى هي الأسماء الحسنى التي تدل على خصوص ما يمدح به، والتقدم في اللغة مطلق لا يختص بالتقدم على الحوادث كلها، فلا يكون من الأسماء الحسنى.
وجاء الشرع بإسمه الأول. وهو أحسن من القديم، لأنه يشعر بأن ما بعده آيل إليه وتابع له، بخلاف القديم. والله تعالى له الأسماء الحسنى لا الحسنة.
قوله: ( لايفنى ولايبيد )
ش: إقرار بدوام بقائه سبحانه وتعالى، قال عز من قائل: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) [126]. والفناء والبيد متقاربان في المعنى، والجمع بينهما في الذكر للتأكيد، وهو أيضا مقرر ومؤكد لقوله: دائم بلا انتهاء.
قوله: (ولا يكون إلا ما يريد)
ش: هذا رد لقول القدرية والمعتزلة، فإنهم زعموا أن الله أراد الإيمان من الناس كلهم والكافر أراد الكفر. وقولهم فاسد مردود، لمخالفته الكتاب والسنة والمعقول الصحيح، وهي مسألة القدر المشهورة، وسيأتي لها زيادة بيان إن شاء الله تعالى.
وسموا قدرية لإنكارهم القدر، وكذلك تسمى الجبرية المحتجون بالقدر قدرية أيضا.
والتسمية على الطائفة الأولى أغلب.
أما أهل السنة فيقولون: إن الله وإن كان يريد المعاصي قدرا - فهو لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل يبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وهذا قول السلف قاطبة، فيقولون: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ولهذا اتفق الفقهاء على أن الحالف لو قال: والله لأفعلن كذا إن شاء الله - لم يحنث - إذا لم يفعله وإن كان واجبا أو مستحبا. ولو قال: أن أحب الله - حنث - إذا كان واجبا أو مستحبا.
والمحققون من أهل السنة يقولون: الإرادة في كتاب الله نوعان: إرادة قدرية كونية خلقية، وإرادة دينية أمرية شرعية، فالإرادة الشرعية هي المتضمنة للمحبة والرضى، والكونية هي المشيئة الشاملة لجميع الموجودات.
وهذا كقوله تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقا حَرَجا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [127] وقوله تعالى عن نوح عليه السلام: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [128] وقوله تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ) [129]
وأما الإرادة الدينية الشرعية الأمرية، فكقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [130] وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [131] وقوله تعالى: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمايُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفا) [132] وقوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [133] وقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا) [134]
فهذه الإرادة هي المذكورة في مثل قول الناس لمن يفعل القبائح: هذا يفعل ما لا يريده الله، أي: لا يحبه ولا يرضاه ولا يأمر به.
وأما الإرادة الكونية فهي الإرادة المذكورة في قول المسلمين: ما شاء الله كان ولم يشأ لم يكن.
والفرق ثابت بين إرادة المريد أن يفعل، وبين إرادته من غيره أن يفعل.
فإذا أراد الفاعل أن يفعل فعلا فهذه الإرادة معلقة بفعله، وإذا أراد من غيره أن يفعل فعلا فهذه الإرادة لفعل الغير، وكلا النوعين معقول للناس، والأمر يستلزم الإرادة الثانية دون الأولى، فالله تعالى إذا أمر العباد بأمر فقد يريد إعانة المأمور على ما أمر به وقد لا يريد ذلك، وإن كان مريدا منه فعله.
وتحقيق هذا مما يبين فصل النزاع في أمر الله تعالى: هل هو مستلزم لإرادته أم لا؟ فهو سبحانه أمر الخلق على ألسن رسله عليهم السلام بما ينفعهم ونهاهم عما يضرهم، ولكن منهم من أراد أن يخلق فعله، فأراد سبحانه أن يخلق ذلك الفعل ويجعله فاعلا له.
ومنهم من لم يرد أن يخلق فعله، فجهة خلقه سبحانه لأفعال العباد وغيرها من المخلوقات، غير جهة أمره للعبد على وجه البيان لما هو مصلحة للعبد أو مفسدة، وهو سبحانه - إذ أمر فرعون وأبا لهب وغيرهما بالإيمان - كان قد بين لهم ما ينفعهم ويصلحهم إذا فعلوه، ولا يلزم إذا أمرهم أن يعينهم، بل قد يكون في خلقه لهم ذلك الفعل وإعانتهم عليه وجه مفسدة من حيث هو فعل له، فإنه يخلق ما يخلق لحكمة، ولا يلزم إذا كان الفعل المأمور به مصلحة للمأمور، إذا فعله - أن يكون مصلحة للأمر إذا فعله هو أو جعل المأمور فاعلا له.
فأين جهة الخلق من جهة الأمر؟ فالواحد من الناس يأمر غيره وينهاه مريدا النصيحة ومبينا لما ينفعه، وإن كان مع ذلك لا يريد أن يعينه على ذلك الفعل، اذ ليس كل ما كان مصلحتي في أن آمر به غيري وأنصحه - يكون مصلحتي في أن أعاونه أنا عليه، بل قد تكون مصلحتي إرادة ما يضاده. فجهة أمره لغيره نصحا غير جهة فعله لنفسه، وإذا أمكن الفرق في حق المخلوقين فهو في حق الله أولى بالإمكان.
والقدرية تضرب مثلا بمن أمر غيره بأمره، فإنه لا بد أن يفعل ما يكون المأمور أقرب الى فعله، كالبشر والطلاقة وتهيئة المساند والمقاعد ونحو ذلك.
فيقال لهم: هذا يكون على وجهين: أحدهما: أن تكون مصلحة الأمر تعود الى الآمر، كأمر الملك جنده بما يؤيد ملكه، وأمر السيد عبده بما يصلح ملكه، وأمر الإنسان شريكه بما يصلح الأمر المشترك بينهما، ونحو ذلك.
الثاني: أن يكون الآمر يرى الإعانة للمأمور مصلحة له، كالأمر بالمعروف، وإذا أعان المأمور على البر والتقوى فإنه قد علم أن الله يثيبه على إعانته على الطاعة، وأنه في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
فأما إذا قدر أن الآمر إنما أمر المأمور لمصلحة المأمور، لا لنفع يعود على الآمر من فعل المأمور، كالناصح المشير، وقدر أنه إذا أعانه لم يكن ذلك مصلحة للآمر، وأن في حصول مصلحة المأمور مضرة على الآمر، مثل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى وقال لموسى عليه السلام: (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) [135]
فهذا مصلحته في أن يأمر موسى عليه السلام بالخروج، لا في أن يعينه على ذلك، إذ لو أعانه لضره قومه. ومثل هذا كثير.
وإذا قيل: أن الله أمر العباد بما يصلحهم، لم يلزم من ذلك أن يعينهم على ما أمرهم به، لا سيما وعند القدرية لا يقدر أن يعين أحدا على ما به يصير فاعلا.
وإذا عللت أفعاله بالحكمة، فهي ثابتة في نفس الأمر، وإن كنا نحن لا نعلمها.
فلا يلزم إذا كان نفس الآمر له حكمة في الأمر أن يكون في الإعانة على فعل المأمور به حكمة، بل قد تكون الحكمة تقتضي أن لا يعينه على ذلك، فإنه إذا أمكن في المخلوق أن يكون مقتضى الحكمة والمصلحة أن يأمر لمصلحة المأمور، وأن تكون الحكمة والمصلحة للآمر أن لا يعينه على ذلك -: فإمكان ذلك في حق الرب أولى وأحرى.
والمقصود: أنه يمكن في حق المخلوق الحكيم أن يأمر غيره بأمر ولا يعينه عليه، فالخالق أولى بإمكان ذلك في حقه مع حكمته. فمن أمره وأعانه على فعل المأمور كان ذلك المأمور به قد تعلق به خلقه وأمره إنشاء وخلقا ومحبة، فكان مرادا بجهة الخلق ومرادا بجهة الأمر.
ومن لم يعنه على فعل المأمور كان ذلك المأمور قد تعلق به أمره ولم يتعلق به خلقه، لعدم الحكمة المقتضية لتعلق الخلق به، ولحصول الحكمة المقتضية لخلق ضده.
وخلق أحد الضدين ينافي خلق الضد الآخر، فإن خلق المرض - الذي يحصل به ذل العبد لربه ودعاؤه وتوبته وتكفير خطاياه ويرق به قلبه ويذهب عنه الكبرياء والعظمة والعدوان -يضاد خلق الصحة التي لا تحصل معها هذه المصالح.
ولذلك كان خلق ظلم الظالم - الذي يحصل به للمظلوم من جنس ما يحصل بالمرض - يضاد خلق عدله الذي لا يحصل به هذه المصالح، وإن كانت مصلحته هو في أن يعدل.
وتفصيل حكمة الله عز وجل في خلقه وأمره، يعجز عن معرفته عقول البشر، والقدرية دخلوا في التعليل على طريقة فاسدة: مثلوا الله فيها يخلقه، ولم يثبتوا حكمة تعود إليه.
قوله: ( لا تبلغه الأوهام، ولا تدركه الأفهام )
شرح: قال الله تعالى: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْما) [136]
قال في الصحاح: توهمت الشيء: ظننته، وفهمت الشيء: علمته. فمراد الشيخ رحمه الله: أنه لا ينتهي إليه وهم، ولا يحيط به علم.
قيل: الوهم ما يرجى كونه، أي: يظن أنه على صفة كذا، والفهم: هو ما يحصله العقل ويحيط به.
والله تعالى لا يعلم كيف هو إلا هو سبحانه وتعالى، وإنما نعرفه سبحانه بصفاته، وهو أنه أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْض) [137] (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [138]
قوله: (ولا يشبهه الأنام)
ولا يشبهه الأنام [139]
شرح: هذا رد لقول المشبهة، الذين يشبهون الخالق بالمخلوق، سبحانه وتعالى، قال عز وجل: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [140]
وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في الفقه الأكبر: لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه.
ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا. انتهى.
وقال نعيم بن حماد: من شبه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه. وقال اسحاق بن راهويه: من وصف الله فشبه صفاته بصفات أحد من خلق الله فهو كافر بالله العظيم.
وقال: علامة جهم وأصحابه، دعواهم على أهل السنة والجماعة ما أولعوا به من الكذب -: أنهم مشبهة، بل هم المعطلة.
وكذلك قال خلق كثير من أئمة السلف: علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة، فإنه ما من أحد من نفاة شيء من الأسماء والصفات إلا يسمي المثبت لها مشبها، فمن أنكر أسماء الله بالكلية من غالية الزنادقة، القرامطة والفلاسفة، وقال: أن الله لا يقال له: عالم ولا قادر-: يزعم أن من سماه بذلك فهو مشبه، لأن الاشتراك في الإسم يوجب الاشتباه في معناه، ومن أثبت الاسم وقال: هو مجاز، كغالية الجهمية، يزعم أن من قال: أن الله عالم حقيقة، قادر حقيقة -: فهو مشبه، ومن أنكر الصفات وقال: أن الله ليس له علم ولا قدرة ولا كلام ولا محبة ولا إرادة - قال لمن أثبت الصفات: أنه مشبه، وأنه: مجسم.
ولهذا كتب نفاة الصفات، من الجهمية والمعتزلة والرافضة ونحوهم، كلها مشحونة بتسمية مثبتة الصفات مشبهة ومجسمة، ويقولون في كتبهم: إن من جملة المجسمة قوما يقال لهم: المالكية، ينسبون إلى رجل يقال له: مالك بن أنس، وقوما يقال لهم الشافعية، ينسبون الى رجل يقال له: محمد بن ادريس!! حتى الذين يفسرون القرآن منهم، كعبد الجبار، و الزمخشري، وغيرهما، يسمون كل من أثبت شيئا من الصفات وقال بالرؤية - مشبها، وهذا الاستعمال قد غلب عند المتأخرين من غالب الطوائف.
ولكن المشهور من استعمال هذا اللفظ عند علماء السنة المشهورين: أنهم لا يريدون بنفي التشبيه نفي الصفات، ولا يصفون به كل من أثبت الصفات. بل مرادهم أنه لا يشبه المخلوق في أسمائه وصفاته وأفعاله، كما تقدم من كلام أبي حنيفة رحمه الله أنه تعالى يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا.
وهذا معنى قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [141] فنفى المثل وأثبت الصفة.
وسيأتي في كلام الشيخ اثبات الصفات، تنبيها على أنه ليس نفي التشبيه مستلزما لنفي الصفات.
ومما يوضح هذا: أن العلم الالهي لا يجوز أن يستدل فيه بقياس تمثيلي يستوي فيه الأصل والفرع، ولا بقياس شمولي يستوي أفراده، فإن الله سبحانه ليس كمثله شيء، فلا يجوز أن يمثل بغيره، ولا يجوز أن يدخل هو وغيره تحت قضية كلية يستوي أفرادها.
ولهذا لما سلكت طوائف من المتفلسفة والمتكلمة مثل هذه الأقيسة في المطالب الالهية - لم يصلوا بها إلى اليقين، بل تناقضت أدلتهم، وغلب عليهم بعد التناهي الحيرة والإضطراب، لما يرونه من فساد أدلتهم أو تكافيها.
ولكن يستعمل في ذلك قياس الأولى، سواء كان تمثيلا أو شمولا، كما قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [142]
مثل أن يعلم أن كل كمال للممكن أو للمحدث، لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وهو ما كان كمالا للوجود غير مستلزم للعدم بوجه -: فالواجب القديم أولى به.
وكل كمال لا نقص فيه بوجه من الوجوه، ثبت نوعه للمخلوق والمربوب المدبر-: فإنما استفاده من خالقه وربه ومدبره، وهو أحق به منه. وأن كل نقص وعيب في نفسه، وهو ما تضمن سلب هذا الكمال، اذا وجب نفيه عن شيء من أنواع المخلوقات والممكنات والمحدثات -: فإنه يجب نفيه عن الرب تعالى بطريق الاولى.
ومن أعجب العجب: أن من غلاة نفاة الصفات الذين يستدلون بهذه الآية الكريمة على نفي الصفات والأسماء، ويقولون: واجب الوجود لا يكون كذا ولا يكون كذا - ثم يقولون: أصل الفلسفة هي التشبيه بالإله على قدر الطاقة، ويجعلون هذا غاية الحكمة ونهاية الكمال الإنساني، ويوافقهم على ذلك بعض من يطلق هذه العبارة.
ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: تخلقوا بأخلاق الله، فإذا كانوا ينفون الصفات، فبأي شيء يتخلق العبد على زعمهم؟!
وكما أنه لا يشبه شيئا من مخلوقاته تعالى، لا يشبهه شيء من مخلوقاته، لكن المخالف في هذا النصارى والحلولية والاتحادية لعنهم الله تعالى.
ونفي مشابهة شيء من مخلوقاته له، مستلزم لنفي مشابهته لشيء من مخلوقاته.
فلذلك اكتفى الشيخ رحمه الله بقوله ولا يشبهه الأنام. والأنام: الناس، وقيل، كل ذي روح، وقيل: الثقلان.
وظاهر قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ) [143] - يشهد للأول أكثر من الباقي. والله أعلم.
قوله: (حي لا يموت قيوم لا ينام)
شرح: قال تعالى: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) [144]، فنفي السنة والنوم دليل على كمال حياته وقيوميته.
وقال تعالى: (ألم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ) [145] وقال تعالى: (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [146] وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) [147] وقال تعالى: (هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُو) [148] وقال ﷺ: إن الله لاينام ولا ينبغي له أن ينام، الحديث.
لما نفى الشيخ رحمه الله التشبيه، أشار إلى ما تقع به التفرقة بينه وبين خلقه، بما يتصف به تعالى دون خلقه: فمن ذلك: أنه حي لا يموت، لأن صفة الحياة الباقية مختصة به تعالى، دون خلقه، فإنهم يموتون.
ومنه: أنه قيوم لا ينام، إذ هو مختص بعدم النوم والسنة، دون خلقه، فإنهم ينامون.
وفي ذلك إشارة إلى أن نفي التشبيه ليس المراد منه نفي الصفات، بل هو سبحانه موصوف، بصفات الكمال، لكمال ذاته. فالحي بحياة باقية لا يشبه الحي بحياة زائلة، ولهذا كانت الحياة الدنيا متاعا ولهوا ولعبا (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَان) [149]، فالحياة الدنيا كالمنام، والحياة الآخرة كاليقظة، ولا يقال: فهذه الحياة الآخرة كاملة، وهي للمخلوق -: لأنا نقول: الحي الذي الحياة من صفات ذاته اللازمه لها، هو الذي وهب المخلوق تلك الحياة الدائمة، فهي دائمة بإدامة الله لها، لا أن الدوام وصف لزم لها لذاتها، بخلاف حياة الرب تعالى.
وكذلك سائر صفاته، فصفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
واعلم أن هذين الاسمين، أعني: الحي القيوم مذكوران في القرآن معا في ثلاث سور كما تقدم، وهما من أعظم أسماء الله الحسنى، حتى قيل: أنهما الأسم الأعظم، فإنهما يتضمنان إثبات صفات الكمال أكمل تضمن وأصدقه، ويدل القيوم على معنى الأزلية والأبدية ما لا يدل عليه لفظ القديم.
ويدل أيضا على كونه موجودا بنفسه، وهو معنى كونه واجب الوجود.
والقيوم أبلغ من القيام لأن الواو أقوى من الألف، ويفيد قيامه بنفسه، باتفاق المفسرين وأهل اللغة، وهو معلوم بالضرورة.
وهل تفيد إقامته لغيره وقيامه عليه؟ فيه قولان، أصحهما: أنه يفيد ذلك.
وهو يفيد دوام قيامه وكل قيامه، لما فيه من المبالغة، فهو سبحانه لا يزول ولا يأفل، فإن الافل قد زال قطعا، أي: لا يغيب ولا ينقص ولا يفنى ولا يعدم، بل هو الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال، موصوفا بصفات الكمال.
واقترانه بالحي يستلزم سائر صفات الكمال، ويدل على دوامها وبقائها، وانتفاء النقص والعدم عنها أزلا وأبدا. ولهذا كان قوله: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) [150] أعظم آية في القرآن، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ.
فعلى هذين الإسمين مدار الأسماء الحسنى كلها، وإليهما ترجع معانيها.
فإن الحياة مستلزمة لجميع صفات الكمال، فلا يتخلف عنها صفة منها إلا لضعف الحياة، فإذا كانت حياته تعالى أكمل حياة وأتمها، استلزم إثباتها إثبات كل كمال يضاد نفيه كمال الحياة.
وأما القيوم فهو متضمن كمال غناه وكمال قدرته، فإنه القائم بنفسه، فلا يحتاج إلى غيره بوجه من الوجوه.
المقيم لغيره، فلا قيام لغيره إلا بإقامته. فانتظم هذان الاسمان صفات الكمال أتم انتظام.
قوله: (خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة)
خالق بلا حاجة، رازق بلا مؤنة [151]
شرح: قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) [152]، وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [153]، (وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاء) [154]، (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) [155]
وقال ﷺ، من حديث أبي ذر رضي الله عنه: يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته - ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المحيط اذا أدخل البحر الحديث. [156]. وقوله بلا مؤنة: بلا ثقل ولا كلفة.
قوله: (مميت بلا مخافة، باعث بلا مشقة)
شرح: الموت صفة وجودية، خلافا للفلاسفة ومن وافقهم.
قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) [157]
والعدم لا يوصف بكونه مخلوقا. وفي الحديث: أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش أملح، فيذبح بين الجنة والنار.
وهو وإن كان عرضا فالله تعالى يقلبه عينا، كما ورد في العمل الصالح: أنه يأتي صاحبه في صورة الشاب الحسن، والعمل القبيح على أقبح صورة وورد في القرآن: أنه يأتي على صورة الشاب الشاحب اللون، الحديث أي قراءة القارىء وورد في الأعمال: أنها توضع في الميزان، والأعيان هي التي تقبل الوزن دون الاعراض.
وورد في سورة البقرة وآل عمران: أنهما يوم القيامة يظلان صاحبهما كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف.
وفي الصحيح: أن أعمال العباد تصعد الى السماء وسيأتي الكلام على البعث والنشور. إن شاء الله تعالى.
قوله: (ما زال بصفاته قديما قبل خلقه)
ما زال بصفاته قديما قبل خلقهلم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفته، وكما كان بصفاته أزليا، كذلك لا يزال عليها أبديا
شرح: أي: أن الله سبحانه وتعالى لم يزل متصفا بصفات الكمال: صفات الذات وصفات الفعل.
ولا يجوز أن يعتقد أن الله وصف بصفة بعد أن لم يكن متصفا بها، لأن صفاته سبحانه صفات كمال، وفقدها صفة نقص، ولا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفا بضده.
ولا يرد على هذه صفات الفعل والصفات الإختيارية ونحوها، كالخلق والتصوير، والاماتة والاحياء، والقبض والبسط والطي، والاستواء والإتيان والمجيء، والنزول، والغضب والرضى، ونحو ذلك مما وصف به نفسه ووصفه به رسوله، وإن كنا لا ندرك كنهه وحقيقته التي هي تأويله، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا، ولكن أصل معناه معلوم لنا، كما قال الإمام مالك رضي الله عنه، لما سئل عن قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [158]. وغيرها: كيف استوى؟ فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وإن كانت هذه الأحوال تحدث في وقت دون وقت، كما في حديث الشفاعة: إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله.
لأن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن، ألا ترى أن من تكلم اليوم وكان متكلمًا بالأمس لا يقال: أنه حدث له الكلام، ولو كان غير متكلم، لأنه لآفة كالصغر.
والخرس، ثم تكلم يقال -: حدث له الكلام، فالساكت لغير آفة يسمى متكلما بالقوة، بمعنى أنه يتكلم إذا شاء، وفي حال تكلمه يسمى متكلما بالفعل، وكذلك الكاتب في حال الكتابة هو كاتب بالفعل، ولا يخرج عن كونه كاتبا في حال عدم مباشرته الكتابة.
وحول الحوادث بالرب تعالى، المنفي في علم الكلام المذموم، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب ولا سنة، وفيه إجمال: فإن أريد بالنفي أنه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة لشيء من مخلوقاته المحدثة، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن - فهذا نفي صحيح.
وإن أريد به نفي الصفات الإختيارية، من أنه لا يفعل ما يريد، ولا يتكلم بما شاء إذا شاء، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والإستواء والإتيان كما يليق بجلاله وعظمته - فهذا نفي باطل.
وأهل الكلام المذموم يطلقون نفي حلول الحوادث، فيسلم السني للمتكلم ذلك، على ظن أنه نفى عنه سبحانه ما لا يليق بجلاله، فإذا سلم له هذا النفي ألزمه نفي الصفات الإختيارية وصفات الفعل، وهو غير لازم له.
وإنما أتي السني من تسليم هذا النفي المجمل، وإلا فلو استفسر واستفصل لم ينقطع معه.
وكذلك مسألة الصفة: هل هي زائدة على الذات أم لا؟ لفظها مجمل، وكذلك لفظ الغير، فيه إجمال، فقد يراد به ما ليس هو إياه، وقد يراد به ما جاز مفارقته له.
ولهذا كان أئمة السنة رحمهم الله تعالى لا يطلقون على صفات الله وكلامه أنه غيره، ولا أنه ليس غيره.
لإن إطلاق الإثبات قد يشعر أن ذلك مباين له، وإطلاق النفي قد يشعر بأنه هو هو، إذا كان لفظ الغير فيه إجمال، فلا يطلق إلا مع البيان والتفصيل: فإن أريد به أن هناك ذاتا مجردة قائمة بنفسها منفصلة عن الصفات الزائدة عليها - فهذا غير صحيح، وان أريد به أن الصفات زائدة على الذات التي يفهم من معناها غير ما يفهم من معنى الصفة - فهذا حق، ولكن ليس في الخارج ذات مجردة عن الصفات، بل الذات الموصوفة بصفات الكمال الثابتة لها لا تنفصل عنها، وإنما يفرض الذهن ذاتا وصفة، كلا وحده، ولكن ليس في الخارج ذات غير موصوفة، فإن هذا محال.
ولو لم يكن إلا صفة الوجود، فإنها لا تنفك عن الموجود، وإن كان الذهن يفرض ذاتا ووجودا، يتصور هذا وحده، وهذا وحده، لكن لا ينفك أحدهما عن الآخر في الخارج.
وقد يقول بعضهم: الصفة لا عين الموصوف ولا غيره. هذا له معنى صحيح، وهو: أن الصفة ليست عين ذات الموصوف التي يفرضها الذهن مجردة بل هي غيرها، وليست غير الموصوف، بل الموصوف بصفاته شيء واحد غير متعدد.
فاذا قلت: أعوذ بالله فقد عذت بالذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال المقدسة الثابتة التي لا تقبل الإنفصال بوجه من الوجوه.
وإذا قلت: أعوذ بعزة الله، فقد عذت بصفة من صفات الله تعالى، ولم أعذ بغير الله.
وهذا المعنى يفهم من لفظ الذات، فإن ذات في أصل معناها لا تستعمل إلا مضافة، أي: ذات وجود، ذات قدرة، ذات عز، ذات علم، ذات كرم، إلى غير ذلك من الصفات.
فذات كذا بمعنى صاحبة كذا: تأنيث ذو. هذا أصل معنى الكلمة، فعلم أن الذات لا يتصور انفصال الصفات عنها بوجه من الوجوه، وإن كان الذهن قد يفرض ذاتا مجردة عن الصفات، كما يفرض المحال.
وقد قال ﷺ: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. و قال ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
ولا يعوذ ﷺ بغير الله. وكذا قال ﷺ: اللهم اني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. و قال ﷺ: ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
وقال ﷺ: أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات.
وكذلك قولهم: الأسم عين المسمى أو غيره؟ وطالما غلط كثير من الناس في ذلك، وجهلو الصواب فيه: فالأسم يراد به المسمى تارة، ويراد به اللفظ الدال عليه أخرى، فإذا قلت: قال الله كذا، أو سمع الله لمن حمده، ونحو ذلك - فهذا المراد به المسمى نفسه، وإذا قلت: الله إسم عربي، والرحمن إسم عربي، والرحيم من أسماء الله تعالى ونحو ذلك - فالأسم ها هنا هو المراد لا المسمى، ولا يقال غيره، لما في لفظ الغير من الإجمال.: فان أريد بالمغايرة أن اللفظ غير المعنى فحق، وإن أريد أن الله سبحانه كان ولا إسم له، حتى خلق لنفسه أسماء، أو حتى سماه خلقه بأسماء من صنعهم -: فهذا من أعظم الضلال والإلحاد في أسماء الله تعالى.
والشيخ رحمه الله أشار بقوله: ما زال بصفاته قديما قبل خلقه إلى آخر كلامه - إلى الرد على المعتزلة والجهمية ومن وافقهم من الشيعة.
فإنهم قالوا: إنه تعالى صار قادرا على الفعل والكلام بعد أن لم يكن قادرا عليه، لكونه صار الفعل والكلام ممكنا بعد أن كان ممتنعا، وأنه انقلب من الإمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي! وعلي ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما، فإنهم قالوا: إن الفعل صار ممكنا له بعد أن كان ممتنعا منه. وأما الكلام عندهم فلا يدخل تحت المشيئة والقدرة، بل هو شيء واحد لازم لذاته.
وأصل هذا الكلام من الجهمية، فإنهم قالوا: إن دوام الحوادث ممتنع، وإنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ، لامتناع حوادث لا أول لها، فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلا متكلما بمشيئة، بل يمتنع أن يكون قادرا على ذلك، لأن القدرة على الممتنع ممتنعة! وهذا فاسد، فإنه يدل على امتناع حدوث العالم وهو حادث، والحادث إذا حدث بعد أن لم يكن محدثا فلا بد أن يكون ممكنا، والإمكان ليس له وقت محدود، وما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت فيه، وليس لإمكان الفعل وجوازه وصحته مبدأ ينتهي إليه، فيجب أنه لم يزل الفعل ممكنا جائزا صحيحا، فيلزم أنه لم يزل الرب قادرا عليه، فيلزم جواز حوادث لا نهاية لأولها.
قالت الجهمية ومن وافقهم: نحن لا نسلم أن إمكان الحوادث لا بداية له، لكن نقول، إمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا بداية له، وذلك لأن الحوادث عندنا تمتنع أن تكون قديمة النوع، بل يجب حدوث نوعها ويمتنع قدم نوعها، لكن لا يجب الحدوث في وقت بعينه، فإمكان الحوادث بشرط كونها مسبوقة بالعدم لا أول له، بخلاف جنس الحوادث.
فيقال لهم: هب أنكم تقولون ذلك، لكن يقال: إمكان جنس الحوادث عندكم له بداية، فإنه صار جنس الحدوث عندكم ممكنا بعد أن لم يكن ممكنا، وليس لهذا الإمكان وقت معين، بل ما من وقت يفرض إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم دوام الإمكان، وإلا لزم انقلاب الجنس من الإمتناع إلى الإمكان من غير حدوث شيء.
ومعلوم أن انقلاب حقيقة جنس الحدوث أو جنس الحوادث، أو جنس الفعل، أو جنس الأحداث، أو ما أشبه هذا من العبارات - من الإمتناع الى الإمكان، وهو مصير ذلك ممكنا جائزا بعد أن كان ممتنعا من غير سبب تجدد، وهذا ممتنع في صريح العقل، وهو أيضا انقلاب الجنس من الإمتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي، فإن ذات جنس الحوادث عندهم تصير ممكنة بعد أن كانت ممتنعة، وهذا الإنقلاب لا يختص بوقت معين، فإنه ما من وقت يقدر إلا والإمكان ثابت قبله، فيلزم أنه لم يزل هذا الإنقلاب ممكنا، فيلزم أنه لم يزل الممتنع ممكنا! وهذا أبلغ في الإمتناع من قولنا: لم يزل الحادث ممكنا، فقد لزمهم فيما فروا إليه أبلغ مما لزمهم فيما فروا منه! فإنه يعقل كون الحادث ممكنا، ويعقل، أن هذا الإمكان لم يزل، وأما كون الممتنع ممكنا فهو ممتنع في نفسه، فكيف إذا قيل: لم يزل إمكان هذا الممتنع؟! وهذا مبسوط في موضعه.
فالحاصل: أن نوع الحوادث هل يمكن دوامها في المستقبل والماضي أم لا؟ أو في المستقبل فقط؟ أو الماضي فقط؟
فيه ثلاثة أقوال معروفة لأهل النظر من المسلمين وغيرهم:
أضعفها: قول من يقول، لا يمكن دوامها لا في الماضي ولا في المستقبل، كقول جهم بن صفوان وأبي الهديل العلاف.
وثانيها قول من يقول: يمكن دوامها في المستقبل دون الماضي، كقول كثير من أهل الكلام ومن وافقهم من الفقهاء وغيرهم.
والثالث: قول من يقول: يمكن دوامها في الماضي والمستقبل، كما يقوله أئمة الحديث، هي من المسائل الكبار. ولم يقل أحد يمكن دوامها في الماضي دون المستقبل.
ولا شك أن جمهور العالم من جميع الطوائف يقولون: إن كل ما سوى الله تعالى مخلوق كائن بعد أن لم يكن، وهذا قول الرسل وأتباعهم من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم:
ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارنا لفاعله لم يزل ولا يزال معه - ممتنع محال، ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء.
فإن الرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال، يفعل ما يشاء ويتكلم إذا يشاء.
قال تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ) [159]، وقال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيد) [160]، وقال تعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [161]، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّه) [162]، وقال تعالى: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدا) [163]
والمثبت إنما هو الكمال الممكن الوجود، وحينئذ فإذا كان النوع دائما فالممكن والإكيل هو التقدم على كل فرد من الأفراد بحيث لا يكون في أجزاء العالم شيء يقارنه بوجه من الوجوه.
وأما دوام الفعل فهو أيضا من الكمال، فإن الفعل إذا كان صفة كمال فدوامه دوام كمال.
قالوا: والتسلسل لفظ مجمل، لم يرد بنفيه ولا اثباته كتاب ولا سنة، ليجب مراعاة لفظه، وهو ينقسم إلى واجب وممتنع وممكن: فالتسلسل في المؤثرين محال ممتنع لذاته، وهو أن يكون مؤثرون كل واحد منهم استفاد تأثيره مما قبله لا إلى غاية.
والتسلسل الواجب: ما دل عليه العقل والشرع، من دوام أفعال الرب تعالى في الأبد، وأنه كلما انقضى لأهل الجنة نعيم أحدث لهم نعيما آخر لا نفاد له، وكذلك التسلسل في أفعاله سبحانه من طرف الأزل، وأن كل فعل مسبوق بفعل آخر، فهذا واجب في كلامه، فإنه لم يزل متكلما إذا شاء، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت، وهكذا أفعاله التي هي من لوازم حياته، فإن كل حي فعال، والفرق بين الحي والميت: الفعل، ولهذا قال غير واحد من السلف: الحي الفعال، وقال عثمان بن سعيد: كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلا عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل.
وأما التسلسل الممكن: فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف، كما تتسلسل في طرف الأبد، فإنه إذا لم يزل حيا قادرا مريدا متكلما، وذلك من لوازم ذاته - فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل، ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه، فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدما لا أول له، فلكل مخلوق أول، والخالق سبحانه لا أول له، فهو وحده الخالق، وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن.
قالوا: وكل قول سوى هذا فصريح العقل يرده ويقضي ببطلانه، وكل من اعترف بأن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل لزمه أحد أمرين، لا بد له منهما: أما أن يقول بأن الفعل لم يزل ممكنا، وأما أن يقول لم يزل واقعا، وإلا تناقض تناقضا بينا، حيث زعم أن الرب تعالى لم يزل قادرا على الفعل، والفعل محال ممتنع لذاته، لو أراده لم يمكن وجوده، بل فرض إرادته عنده محال وهو مقدور له. وهذا قول ينقض بعضه بعضا.
والمقصود: أن الذي دل عليه الشرع والعقل، أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن. أما كون الرب تعالى لم يزل معطلا عن الفعل ثم فعل، فليس في الشرع ولا في العقل ما يثبته، بل كلاهما يدل على نقيضه.
وقد أورد أبو المعالي في ارشاده وغيره من النظار على التسلسل في الماضي، فقالوا: إنك لو قلت: لا أعطيك درهما إلا أعطيك بعده درهما، كان هذا ممكنا، ولو قلت: لا أعطيك درهما حتى أعطيك قبله درهما، كان هذا ممتنعا.
وهذا التمثيل والموازنة غير صحيحة، بل الموازنة الصحيحة أن تقول: ما أعطيتك درهما الا أعطيتك قبله درهما، فتجعل ماضيا قبل ماض، كما جعلت هناك مستقبلا بعد مستقبل.
وأما قول القائل: لا أعطيك حتى أعطيك قبله، فهو نفي للمستقبل حتى يحصل في المستقبل ويكون قبله. فقد نفى المستقبل حتى يوجد المستقبل، وهذا ممتنع. أما نفي الماضي حتى يكون قبله ماض، فإن هذا ممكن.
والعطاء المستقبل ابتداؤه من المستقبل. والمعطى الذي له ابتداء وانتهاء لا يكون قبله ما لا نهاية له، فإن ما لا نهاية له فيما يتناهى ممتنع.
قوله: (ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بأحداثه البرية استفاد اسم الباري)
شرح: ظاهر كلام الشيخ رحمه الله أنه يمنع تسلسل الحوادث في الماضي، ويأتي في كلامه ما يدل على أنه لا يمنعه في المستقبل، وهو قوله والجنة والنار مخلوقتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، وهذا مذهب الجمهور كما تقدم.
ولا شك في فساد قول من منع ذلك في الماضي والمستقبل، كما ذهب إليه الجهم وأتباعه، وقال بفناء الجنة والنار، لما يأتي من الأدلة إن شاء الله تعالى.
وأما قول من قال بجواز حوادث لا أول لها، من القائلين بحوادث لا آخر لها - فأظهر في الصحة من قول من فرق بينهما، فإنه سبحانه لم يزل حيا، والفعل من لوازم الحياة، فلم يزل فاعلا لما يريد، كما وصف بذلك نفسه، حيث يقول: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ) [164].
والآية تدل على أمور:
أحدها: أنه تعالى يفعل بإرادته ومشيئته.
الثاني: أنه لم يزل كذلك، لأنه ساق ذلك في معرض المدح والثناء على نفسه، وأن ذلك من كماله سبحانه، ولا يجوز أن يكون عادما لهذا الكمال في وقت من الأوقات.
وقد قال تعالى: (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) [165]
ولما كان من أوصاف كماله ونعوت جلاله لم يكن حادثا بعد أن لم يكن.
الثالث: أنه إذا أراد شيئا فعله، فان (ما) موصوله عامة، أي: يفعل كل ما يريد أن يفعله، وهذا في إرادته المتعلقة بفعله. وأما إرادته المتعلقة بفعل العبد فتلك لها شأن آخر: فان أراد فعل العبد ولم يرد من نفسه أن يعينه عليه ويجعله فاعلا لم يوجد الفعل وإن أراده حتى يريد من نفسه أن يجعله فاعلا.
وهذه هي النكتة التي خفيت على القدرية والجبرية، وخبطوا في مسألة القدر، لغفلتهم عنها، وفرق بين إرادته أن يفعل العبد وإرادة أن يجعله فاعلا، وسيأتي الكلام على مسألة القدر في موضعه إن شاء الله تعالى.
الرابع: أن فعله وإرادته متلازمان، فما أراد أن يفعل فعل، وما فعله فقد أراده. بخلاف المخلوق، فإنه يريد ما لا يفعل، وقد يفعل ما لا يريده. فما ثم فعال لما يريد إلا الله وحده.
الخامس: إثبات إرادات متعددة بحسب الأفعال، وأن كل فعل له إرادة تخصه، هذا هو المعقول في الفطر، فشأنه سبحانه أنه يريد على الدوام ويفعل ما يريد.
السادس: أن كل ما صح أن تتعلق به أرادته جاز فعله، فإذا أراد أن ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، وأن يجيء يوم القيامة لفصل القضاء، وأن يري عباده نفسه، وأن يتجلى لهم كيف شاء، ويخاطبهم، ويضحك إليهم، وغير ذلك مما يريد سبحانه - لم يمتنع عليه فعله، فإنه تعالى فعال لما يريد. وإنما يتوقف صحة ذلك على اخبار الصادق به، فإذا أخبر وجب التصديق، وكذلك محو ما يشاء، واثبات ما يشاء، كل يوم هو في شأن، سبحانه وتعالى.
والقول بأن الحوادث لها أول، يلزم منه التعطيل قبل ذلك، وأن الله سبحانه وتعالى لم يزل غير فاعل ثم صار فاعلا.
ولا يلزم من ذلك قدم العالم، لأن كل ما سوى الله تعالى محدث ممكن الوجود، موجود بإيجاد الله تعالى له، ليس له من نفسه إلا العدم، والفقر والإحتياج وصف ذاتي لازم لكل ما سوى الله تعالى، والله تعالى واجب الوجود لذاته، غني لذاته، والغنى وصف ذاتي لازم له سبحانه وتعالى.
وللناس قولان في هذا العالم: هل هو مخلوق من مادة أم لا؟ واختلفوا في أول هذا العالم ما هو؟ وقد قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) [166].
وروى البخاري وغيره عن عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: قال أهل اليمن لرسول الله ﷺ: جئناك لنتفقه في الدين، ولنسألك عن أول هذا الأمر، فقال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وفي رواية: ولم يكن شيء معه، وفي رواية غيره: وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، وخلق السماوات والأرض، وفي لفظ: ثم خلق السماوات والأرض.
فقوله كتب في الذكر يعني اللوح المحفوظ، كما قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [167] سمى ما يكتب في الذكر ذكرا كما يسمى ما يكتب في الكتاب كتابا.
والناس في هذا الحديث على قولين: منهم من قال: أن المقصود أخباره بأن الله كان موجودا وحده ولم يزل كذلك دائما، ثم ابتدأ أحداث جميع الحوادث، فجنسها وأعيانها مسبوقة بالعدم، وأن جنس الزمان حادث لا في زمان، وأن الله صار فاعلا بعد أن لم يكن يفعل شيئا من الأزل إلى حين ابتداء الفعل كان الفعل ممكنا.
والقول الثاني: المراد إخباره عن مبدأ خلق هذا العالم المشهود الذي خلقه الله في ستة أيام ثم استوى على العرش، كما أخبر القرآن بذلك في غير موضع، وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: قدر الله تعالى مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
فأخبر ﷺ أن تقدير هذا العالم المخلوق في ستة أيام كان قبل خلقه السماوات بخمسين ألف سنة، وأن عرش الرب تعالى كان حينئذ على الماء.
دليل صحة هذا القول الثاني من وجوه: أحدها: أن قول أهل اليمن جئناك لنسألك عن أول هذا الأمر، وهو اشارة الى حاضر مشهود موجود، والأمر هنا بمعنى المأمور، أي الذي كونه الله بأمره.
وقد أجابهم النبي ﷺ عن بدء.
هذا العالم الموجود، لا عن جنس المخلوقات، لأنهم لم يسألوه عنه، وقد أخبرهم عن خلق السماوات والأرض حال كون عرشه على الماء، ولم يخبرهم عن خلق العرش، وهو مخلوق قبل خلق السماوات والأرض.
وأيضا فإنه قال: كان الله ولم يكن شيء قبله، وقد روي معه، وروي غيره، والمجلس كان واحدا، فعلم أنه قال أحد الألفاظ والآخران رؤيا بالمعنى، ولفظ القبل ثبت عنه في غير هذا الحديث.
ففي حديث مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ: أنه كان يقول في دعائه: اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، الحديث.
واللفظان الآخران لم يثبت واحد منهما في موضع آخر، ولهذا كان كثير من أهل الحديث إنما يرويه بلفظ القبل، كالحميدي و البغوي و ابن الاثير. وإذا كان كذلك لم يكن في هذا اللفظ تعرض لابتداء الحوادث، ولا لأول مخلوق.
وأيضا: فإنه يقال: كان الله ولم يكن شيء قبله أو معه أو غيره، وكان عرشه على الماء وكتب في الذكر كل شيء.
فأخبر عن هذه الثلاثة بالواو، و خلق السماوات والأرض روي بالواو وبثم، فظهر أن مقصوده إخباره إياهم ببدء خلق السماوات والأرض وما بينهما، وهي المخلوقات التي خلقت في ستة أيام، لا إبتداء خلق ما خلقه الله قبل ذلك، وذكر السماوات والأرض بما يدل على خلقهما، وذكر ما قبلهما بما يدل على كونه ووجوده، ولم يتعرض لابتداء خلقه له.
وأيضا: فإنه إذا كان الحديث قد ورد بهذا وهذا، فلا يجزم بأحدهما إلا بدليل، فإذا رجح أحدهما فمن جزم بأن الرسول أراد المعنى الآخر فهو مخطىء قطعا، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة ما يدل على المعنى الآخر، فلا يجوز إثباته بما يظن أنه معنى الحديث، ولم يرد كان الله ولا شيء معه مجردا، وإنما ورد على السياق المذكور، فلا يظن أن معناه الإخبار بتعطيل الرب تعالى دائما عن الفعل حتى خلق السماوات والأرض.
وأيضا: فقوله ﷺ: كان الله ولاشيء قبله، أو معه، أو غيره، وكان عرشه على الماء، لا يصح أن يكون المعنى أنه تعالى موجود وحده لا مخلوق معه أصلا، لأن قوله وكان عرشه على الماء. يرد ذلك، فإن هذه الجملة وهي وكان عرشه على الماء إما حالية، أو معطوفة، وعلى كلا التقديرين فهو مخلوق موجود في ذلك الوقت، فعلم أن المراد ولم يكن شيء من هذا العالم المشهود.
قوله: (له معنى الربوبية ولا مربوب، ومعنى الخالق ولا مخلوق)
شرح: يعني أن الله تعالى موصوف بأنه الرب قبل أن يوجد مربوب، وموصوف بأنه خالق قبل أن يوجد مخلوق.
قال بعض المشايخ الشارحين: وإنما قال: له معنى الربوبية ومعنى الخالق دون الخالقية، لأن الخالق هو المخرج للشيء من العدم إلى الوجود لا غير، والرب يقتضي معاني كثيرة، وهي: الملك والحفظ والتدبير والتربية وهي تبليغ الشيء كماله بالتدريج، فلا جرم أتى بلفظ يشمل هذه المعاني، وهي الربوبية. انتهى.
وفيه نظر، لأن الخلق يكون بمعنى التقدير أيضا.
قوله: (وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا)
وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيااستحق هذا الاسم قبل إحيائهم، كذلك استحق أسم الخالق قبل إنشائهم
شرح: يعني: أنه سبحانه وتعالى موصوف بأنه محيي الموتى قبل إحيائهم، فكذلك يوصف بأنه خالق قبل خلقهم، إلزاما للمعتزلة ومن قال بقولهم، كما حكينا عنهم فيما تقدم. وتقدم تقرير أنه تعالى لم يزل يفعل ما يشاء.
قوله: (ذلك بأنه على كل شيء قدير)
ذلك بأنه على كل شيء[168] قدير وكل شىء إليه فقير، وكل أمر عليه يسير، لا يحتاج إلى شيء، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير
شرح: ذلك إشارة إلى ثبوت صفاته في الأزل قبل خلقه.
والكلام على كل وشمولها وشمول كل في كل مقام بحسب ما يحتف به من القرائن، يأتي في مسألة الكلام إن شاء الله تعالى.
وقد حرفت المعتزلة المعنى المفهوم من قوله تعالى: (وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [169]، فقالوا: أنه قادر على كل ما هو مقدور له، وأما نفس أفعال العباد فلا يقدر عليها عندهم، وتنازعوا: هل يقدر على مثلها أم لا؟! ولو كان المعنى على ما قالوا لكان هذا بمنزلة أن يقال: هو عالم بكل ما يعلمه وخالق لكل ما يخلقه ونحو ذلك من العبارات التي لا فائدة فيها.
فسلبوا صفة كمال قدرته على كل شيء.
وأما أهل السنة، فعندهم أن الله على كل شيء قدير، وكل ممكن فهو مندرج في هذا.
وأما المحال لذاته، مثل كون الشيء الواحد موجودا معدوما في حال واحدة، فهذا لا حقيقة له، ولا يتصور وجوده، ولا يسمى شيئا، باتفاق العقلاء.
ومن هذا الباب: خلق مثل نفسه، وإعدام نفسه وأمثال ذلك من المحال.
وهذا الأصل هو الإيمان بربوبيته العامة التامة، فإنه لا يؤمن بأنه رب كل شيء إلا من آمن أنه قادر على تلك الأشياء، ولا يؤمن بتمام ربوبيته وكمالها إلا من آمن بأنه على كل شيء قدير.
وإنما تنازعوا في المعدوم الممكن: هل هو شيء أم لا؟ والتحقيق: أن المعدوم ليس بشيء في الخارج، ولكن الله يعلم ما يكون قبل أن يكون، ويكتبه، وقد يذكره ويخبر به، كقوله تعالى: (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) [170] فيكون شيئا في العلم والذكر والكتاب، لا في الخارج، كما قال تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [171]، وقال تعالى: (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئا) [172]، أي: لم تكن شيئا في الخارج، وإن كان شيئا في علمه تعالى، وقال تعالى: (هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئا مَذْكُورا) [173].
قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [174]، رد على المشبهة.
وقوله تعالى: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [175]، رد على المعطلة، فهو سبحانه وتعالى موصوف بصفات الكمال، وليس له فيها شبيه.
فالمخلوق وإن كان يوصف بأنه سميع بصير- فليس سمعه وبصره كسمع الرب وبصره، ولا يلزم من اثبات الصفة تشبيه، إذ صفات المخلوق كما يليق به، وصفات الخالق كما يليق به.
ولا تنف. عن الله ما وصف به نفسه وما وصفه به أعرف الخلق بربه وما يجب له وما يمتنع عليه، وأنصحهم لأمته، وأفصحهم وأقدرهم على البيان. فإنك إن نفيت شيئا من ذلك كنت كافرا بما أنزل على محمد ﷺ، وإذا وصفته بما وصف به نفسه فلا تشبهه بخلقه، فليس كمثله شيء، فإذا شبهته بخلقه كنت كافرا به.
قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيها.
وسيأتي في كلام الشيخ الطحاوي رحمه الله ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه.
وقد وصف الله تعالى نفسه بأن له المثل الاعلى، فقال تعالى: (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [176]، و قال تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم) [177].
فجعل سبحانه مثل السوء - المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال - لأعدائه المشركين وأوثانهم، وأخبر أن المثل الأعلى - المتضمن لاثبات الكمال كله - لله وحده.
فمن سلب صفة الكمال عن الله تعالى فقد جعل له مثل السوء، ونفى عنه ما وصف به نفسه من المثل الأعلى، وهو الكمال المطلق، المتضمن للأمور الوجودية، والمعاني الثبوتية، التي كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل - كان بها أكمل وأعلى من غيره.
ولما كانت صفات الرب سبحانه وتعالى أكثر وأكمل، كان له المثل الأعلى، وكان أحق به من كل ما سواه.
بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى المطلق أثنان، لأنهما أن تكافآ من كل وجه، لم يكن أحدهما أعلى من الآخر، وإن لم يتكافآ، فالموصوف به أحدهما وحده، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير.
واختلفت عبارات المفسرين في المثل الأعلى.
ووفق بين أقوالهم من وفقه الله وهداه، فقال: المثل الأعلى يتضمن: الصفة العليا، وعلم العالمين بها، ووجودها العلمي، والخبر عنها وذكرها، وعبادة الرب تعالى بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه.
فها هنا أمور اربعة:
الأول: ثبوت الصفات العليا لله سبحانه وتعالى، سواء علمها العباد أو لا، وهذا معنى قول من فسرها بالصفة.
الثاني: وجودها في العلم والشعور، وهذا معنى قول من قال من السلف والخلف: أنه ما في قلوب عابديه وذاكريه، من معرفته وذكره، ومحبته وجلاله، وتعظيمه، وخوفه ورجائه، والتوكل عليه والإنابة إليه.
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشركه فيه غيره أصلا، بل يختص به في قلوبهم، كما اختص به في ذاته. وهذا معنى قول من قال من المفسرين: أن معناه: أهل السماوات يعظمونه ويحبونه ويعبدونه، وأهل الأرض كذلك، وإن أشرك به من أشرك، وعصاه من عصاه، وجحد صفاته من جحدها، فأهل الأرض معظمون له، مجلون، خاضعون لعظمته، مستكينون لعزته وجبروته.
قال تعالى: (وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ) [178].
الثالث: ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها من العيوب والنقائص والتمثيل.
الرابع: محبة الموصوف بها وتوحيده، والإخلاص له، والتوكل عليه، والإنابة إليه.
وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب والإخلاص أقوى.
فعبارات السلف كلها تدور على هذه المعاني الأربعة.
فمن أضل ممن يعارض بين قوله تعالى: (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) [179]، وبين قوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [180]؟
ويستدل بقوله: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) على نفي الصفات ويعمى عن تمام الآية وهو قوله: (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [181] حتى أفضى هذا الضلال ببعضهم، وهو أحمد بن أبي دؤاد القاضي، إلى أن أشار على الخليفة المأمون أن يكتب على ستر الكعبة: ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم، حرف كلام الله لينفي وصفه تعالى بأنه السميع البصير كما قال الضال الآخر، جهم بن صفوان: وددت أني أحك من المصحف قوله تعالى: (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) [182] فنسأل الله العظيم السميع البصير أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، بمنه وكرمه.
وفي إعراب كمثله - وجوه، أحدها: أن الكاف صلة زيدت للتأكيد.
قال أوس بن حجر:
ليس كمثل الفتى زهير | خلق يوازيه في الفضائل |
وقال آخر: ما أن كمثلهم في الناس من بشر
وقال آخر: وقتلى كمثل جذوع النخيل
فيكون مثله خبر ليس واسمها شيء.
وهذا وجه قوي حسن، تعرف العرب معناه في لغتها، ولا يخفى عنها اذا خوطبت به، وقد جاء عن العرب أيضا زيادة الكاف للتأكيد في قول بعضهم:
وصاليات ككما يؤثفين
وقول الآخر: فأصبحت مثل كعصف مأكول
الوجه الثاني: أن الزائد مثل أي: ليس كهو شيء، وهذا القول بعيد، لأن مثل اسم والقول بزيادة الحرف للتأكيد أولى من القول بزيادة الاسم.
الثالث: أنه ليس ثم زيادة أصلا، بل هذا من باب قولهم: مثلك لا يفعل كذا، أي: أنت لا تفعله، وأتى بمثل للمبالغة، وقالوا في معنى المبالغة هنا: أي: ليس كمثله مثل لو فرض المثل، فكيف ولا مثل له. وقيل غير ذلك، والأول أظهر.
قوله: (خلق الخلق بعلمه)
شرح: خلق: أي: أوجد وأنشأ وأبدع. ويأتي خلق ايضا بمعنى: قدر.
والخلق: مصدر، وهو هنا بمعنى المخلوق.
وقوله: بعلمه في محل نصب على الحال، أي: خلقهم عالما بهم، قال تعالى: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير ) [183] وقال تعالى: ( وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ* وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَار) [184]
وفي ذلك رد على المعتزلة.
قال الإمام عبد العزيز المكي صاحب الإمام الشافعي رحمه الله وجليسه، في كتاب الحيدة، الذي حكى فيه مناظرته بشرا المريسي عند المأمون حين سأله عن علمه تعالى: فقال بشر: أقول: لا يجهل، فجعل يكرر السؤال عن صفة العلم، تقريرا له، و بشر يقول: لا يجهل، ولا يعترف له أنه عالم بعلم، فقال الإمام عبد العزيز: نفي الجهل لا يكون صفة مدح، فإن هذه الأسطوانة لا تجهل، وقد مدح الله تعالى الأنبياء والملائكة والمؤمنين بالعلم، لا بنفي الجهل.
فمن أثبت العلم فقد نفى الجهل، ومن نفى الجهل لم يثبت العلم، وعلى الخلق أن يثبتوا ما أثبته الله تعالى لنفسه، وينفوا ما نفاه، ويمسكوا عما أمسك عنه.
والدليل العقلي على علمه تعالى: أنه يستحيل ايجاده الأشياء بالجهل، ولأن ايجاده الأشياء بإرادته، والإرادة تستلزم تصور المراد، وتصور المراد: هو العلم بالمراد، فكان الايجاد مستلزما للإرادة، والإرادة مستلزمة للعلم، فالايجاد مستلزم للعلم. ولأن المخلوقات فيها من الأحكام والإتقان ما يستلزم علم الفاعل لها، لأن الفعل المحكم المتقن يمتنع صدوره عن غير علم، ولأن من المخلوقات ما هو عالم، والعلم صفة كمال، ويمتنع أن لا يكون الخالق عالما.
وهذا له طريقان: أحدهما: أن يقال: نحن نعلم بالضرورة أن الخالق أكمل من المخلوق، وأن الواجب أكمل من الممكن، ونعلم ضرورة أنا لو فرضنا شيئين:
أحدهما عالم والآخر غير عالم - كان العالم أكمل، فلو لم يكن الخالق عالما لزم أن يكون الممكن أكمل منه، وهو ممتنع.
الثاني: أن يقال: كل علم في الممكنات، التي هي المخلوقات - فهو منه، ومن الممتنع أن يكون فاعل الكمال ومبدعه عاريا منه بل هو أحق به.
والله تعالى له المثل الأعلى، ولا يستوي هو والمخلوقات، لا في قياس تمثيلي، ولا في قياس شمولي، بل كل ما ثبت للمخلوق من كمال فالخالق به أحق، وكل نقص تنزه عنه مخلوق ما فتنزيه الخالق عنه أولى.
قوله: ( وقدر لهم أقدارا )
شرح: قال تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرا) [185] وقال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [186] وقال تعالى: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرا مَقْدُورا) [187] وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى) [188]
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء.
قوله: ( وضرب لهم آجالا )
شرح: يعني: أن الله سبحانه وتعالى قدر آجال الخلائق، بحيث إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون.
قال تعالى: ( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ) [189]
وقال تعالى: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابا مُؤَجَّلا) [190]
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود قال: قالت أم حبيبة زوج النبي ﷺ ورضي الله عنها: اللهم أمتعني بزوجي رسول الله، و بأبي سفيان، و بأخي معاوية، قال: فقال النبي ﷺ، قد سألت الله لآجال مضروبة، وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة، لن يعجل شيئا قبل أجله، ولن يؤخر شيئا عن أجله، ولو كنت سألت الله أن يعيذك من عذاب في النار وعذاب في القبر-: كان خيرا وأفضل فالمقتول ميت بأجله، فعلم الله تعالى وقدر وقضى أن هذا يموت بسبب المرض، وهذا بسبب القتل، وهذا بسبب الهدم، وهذا بسبب الحرق، وهذا بالغرق، إلى غير ذلك من الأسباب.
والله سبحانه خلق الموت والحياة، وخلق سبب الموت والحياة. وعند المعتزلة: المقتول مقطوع عليه أجله، ولو لم يقتل لعاش إلى أجله فكأن له أجلان وهذا باطل، لأنه لا يليق أن ينسب إلى الله تعالى أنه جعل له أجلا يعلم أنه لا يعيش إليه البتة، أو يجعل أجله أحد الأمرين، كفعل الجاهل بالعواقب، ووجوب القصاص والضمان على القاتل، لارتكابه المنهي عنه ومباشرته السبب المحظور.
وعلى هذا يخرج قوله ﷺ: صلة الرحم تزيد في العمر أي: سبب طول العمر. وقد قدر الله أن هذا يصل رحمه فيعيش بهذا السبب الى هذه الغاية، ولولا ذلك السبب لم يصل إلى هذه الغاية، ولكن قدر هذا السبب وقضاه، وكذلك قدر أن هذا يقطع رحمه فيعيش إلى كذا، كما قلنا في القتل وعدمه.
فإن قيل: هل يلزم من تأثير صلة الرحم في زيادة العمر ونقصانه تأثير الدعاء في ذلك أم لا؟
فالجواب: أن ذلك غير لازم، لقوله ﷺ لأم حبيبة رضي الله عنها: قد سألت الله تعالى لآجال مضروبة الحديث، كما تقدم. فعلم أن الأعمار مقدرة، لم يشرع الدعاء بتغيرها، بخلاف النجاة من عذاب الآخرة.
فإن الدعاء مشروع له نافع فيه، ألا ترى أن الدعاء بتغيير العمر لما تضمن النفع الآخروي - شرع كما في الدعاء من حديث عمار بن ياسر عن النبي ﷺ أنه قال: اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني اذا كانت الوفاة خيرا لي، إلى آخر الدعاء [191].
ويؤيد هذا ما رواه الحاكم في صحيحه من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي ﷺ: لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه.
وفي الحديث رد على من يظن أن النذر سبب في دفع البلاء وحصول النعماء، وقد ثبت [192] عن النبي ﷺ: أنه نهى عن النذر، وقال: انه لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل.
واعلم أن الدعاء يكون مشروعا نافعا في بعض الأشياء دون بعض، وكذلك هو. وكذلك لا يجيب الله المعتدين في الدعاء.
وكان الامام أحمد رحمه الله يكره أن يدعى له بطول العمر، ويقول: هذا أمر قد فرغ منه.
وأما قوله تعالى: (وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ) [193]، فقد قيل في الضمير المذكور في قوله تعالى: من عمره أنه بمنزلة قولهم: عندي درهم ونصفه، أي: ونصف درهم آخر، فيكون المعنى: ولا ينقص من عمر معمر آخر، وقيل: الزيادة والنقصان في الصحف التي في أيدي الملائكة، وحمل قوله تعالى: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ*يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [194] على أن المحو والإثبات من الصحف التي في أيدي الملائكة، وأن قوله: (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [195] اللوح المحفوظ.
ويدل على هذا الوجه سياق الآية وهو قوله: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ)، ثم قال: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ) أي: من ذلك الكتاب، (وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [196]، أي: أصله، وهو اللوح المحفوظ.
وقيل: يمحو الله ما يشاء من الشرائع وينسخه ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، والسياق أدل على هذا الوجه من الوجه الأول، وهو قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) [197]
فأخبر تعالى أن الرسول لا يأتي بالآيات من قبل نفسه، بل من عند الله، ثم قال: (لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ * يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) [198]، أي: أن الشرائع لها أجل وغاية تنتهي إليها، ثم تنسخ بالشريعة الأخرى، فينسخ الله ما يشاء من الشرائع عند انقضاء الأجل، ويثبت ما يشاء. وفي الآية أقوال آخرى، والله أعلم بالصواب.
قوله: (ولم يخف عليه شيء قبل أن يخلقهم، وعلم ما هم عاملون قبل أن يخلقهم)
شرح: فإنه سبحانه يعلم ما كان وما يكون و ما لم يكن أن لو كان كيف يكون، كما قال تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [199]
وإن كان يعلم أنهم لا يردون، ولكن أخبر أنهم لو ردوا لعادوا، كما قال تعالى: (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرا لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [200]
وفي ذلك رد على الرافضة والقدرية، والذين قالوا: إنه لا يعلم الشيء قبل أن يخلقه ويوجده.
وهي من فروع مسألة القدر، وسيأتي لها زيادة بيان، إن شاء الله تعالى.
قوله: (وأمرهم بطاعته، ونهاهم عن معصيته)
شرح: ذكر الشيخ الأمر والنهي، بعد ذكره الخلق والقدر، إشارة إلى أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [201]، وقال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا) [202]
قوله: (وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته)
وكل شيء يجري بتقديره ومشيئته، ومشيئته تنفذ، لا مشيئة للعباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء لهم كان، وما لم يشأ لم يكن [203]
شرح: قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيما) [204] وقال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [205] وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) [206]، وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ) [207].
وقال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعا) [208] وقال تعالى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقا حَرَجا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ) [209]
وقال تعالى حكاية عن نوح عليه السلام إذ قال لقومه: (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [210]
وقال تعالى: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [211]
إلى غير ذلك من الأدلة على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن. وكيف يكون في ملكه ما لا يشاء! ومن أضل سبيلا وأكفر ممن يزعم أن الله شاء الإيمان من الكافر والكافر شاء الكفر فغلبت مشيئة الكافر مشيئة الله!! تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا.
فإن قيل: يشكل على هذا قوله تعالى: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا ) [212] الآية وقوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) [213].
وقوله تعالى: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) [214] فقد ذمهم الله تعالى حيث جعلوا الشرك كائنا منهم بمشيئة الله، وكذلك ذم إبليس حيث أضاف الإغواء إلى الله تعالى إذ قال: (رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) [215]
قيل: قد أجيب على هذا بأجوبة، من أحسنها: أنه أنكر عليهم ذلك لأنهم احتجوا بمشيئته على رضاه ومحبته، وقالوا: لو كره ذلك وسخطه لما شاءه، فجعلوا مشيئته دليل رضاه، فرد الله عليهم ذلك.
أو أنه أنكر عليهم اعتقادهم أن مشيئة الله دليل على أمره به.
أو أنه أنكر عليهم معارضته شرعه وأمره الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه بقضائه وقدره، فجعلوا المشيئة العامة دافعة للأمر، فلم يذكروا المشيئة على جهة التوحيد، وإنما ذكروها معارضين بها لأمره، دافعين بها لشرعه، كفعل الزنادقة، والجهال إذا أمروا أو نهوا احتجوا بالقدر.
وقد احتج سارق على عمر رضي الله عنه بالقدر، فقال: وأنا أقطع يدك بقضاء الله وقدره.
يشهد لذلك قوله تعالى في الآية: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) [216].
فعلم أن مرادهم التكذيب، فهو من قبل الفعل، من أين له أن الله لم يقدره؟ أطلع الغيب؟ فإن قيل: فما يقولون في احتجاج آدم على موسى عليهما السلام بالقدر، اذ قال له: أتلومني على أمر قد كتبه الله علي قبل أن أخلق بأربعين عاما؟ وشهد النبي ﷺ أن آدم حج موسى، أي: غلب عليه بالحجة؟
قيل.: تتلقاه بالقبول والسمع والطاعة، لصحته عن رسول الله ﷺ، ولا تتلقاه بالرد والتكذيب لراوية، كما فعلت القدرية، ولا بالتأويلات الباردة.
بل الصحيح أن آدم لم يحتج بالقضاء والقدر على الذنب، وهو كان أعلم بربه وذنبه، بل آحاد بنيه من المؤمنين لا يحتج بالقدر، فإنه باطل.
وموسى عليه السلام كان أعلم بأبيه وبذنبه من أن يلوم آدم على ذنب قد تاب منه وتاب الله عليه واجتباه وهداه، وإنما وقع اللوم على المصيبة التي أخرجت أولاده من الجنة، فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، لا على الخطيئة، فان القدر يحتج به عند المصائب، لا عند المعائب. وهذا المعنى أحسن ما قيل في الحديث.
فما قدر من المصائب يجب الاستسلام له، فإنه من تمام الرضى بالله ربا، وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب. فيتوب من المعائب، ويصبرعلى المصائب.
قال تعالى: (فَاصبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) [217] وقال تعالى: (وَإِنْ تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا) [218].
وأما قول إبليس ( رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي ) [219]، انما ذم على احتجاجه بالقدر، لا على اعترافه بالمقدر وإثباته له.
ألم تسمع قول نوح عليه السلام: (لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [220].
ولقد أحسن القائل:
فما شئت كان وإن لم أشأ | وما شئت إن لم تشأ لم يكن |
وعن وهب بن منبه، أنه قال: نظرت في القدر فتحيرت، ثم نظرت فيه فتحيرت، ووجدت أعلم الناس بالقدر أكفهم عنه، وأجهل الناس بالقدر أنطقهم به.
قوله: (يهدي من يشاء، ويعصم ويعافي، فضلا. ويضل من يشاء، ويخذل ويبتلي، عدلا)
شرح: هذا رد على المعتزلة في قولهم بوجوب فعل الأصلح للعبد على الله، وهي مسألة الهدى والضلال.
قالت المعتزلة: الهدى من الله: بيان طريق الصواب، والإضلال: تسمية العبد ضالا، وحكمه تعالى على العبد بالضلال عند خلق العبد الضلال في نفسه.
وهذا مبني على أصلهم الفاسد: أن أفعال العباد مخلوقة لهم.
والدليل على ما قلناه قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [221] ولو كان الهدى بيان الطريق لما صح هذا النفي عن نبيه، لأنه ﷺ بين الطريق لمن أحب وأبغض وقوله تعالى: ( وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ) [222]
وقوله: (يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) [223]
ولو كان الهدى من الله البيان وهو عام في كل نفس لما صح التقييد بالمشيئة
وكذا قوله تعالى: (وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) [224] وقوله: (مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [225].
قوله: ( وكلهم يتقلبون في مشيئته، بين فضله وعدله )
شرح: فإنهم كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ) [226]. فمن هداه إلى الإيمان فبفضله، وله الحمد، ومن أضله فبعدله، وله الحمد. وسيأتي لهذا المعنى زيادة إيضاح، إن شاء الله تعالى، فإن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في القدر في مكان واحد، بل فرقه، فأتيت به على ترتيبه.
قوله: ( وهو متعال عن الأضداد والأنداد )
شرح: الضد: المخالف، والند: المثل. فهو سبحانه لا معارض له، بل ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، ولامثل له، كما قال تعالى: (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوا أَحَدٌ) [227].
ويشير الشيخ رحمه الله - بنفي الضد والند - الى الرد على المعتزلة، في زعمهم أن العبد يخلق فعله.
قوله: ( لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره )
شرح: أي: لا يرد قضاء الله راد، ولا يعقب، أي لا يؤخر حكمه، مؤخر، ولا يغلب أمره غالب، بل هو الله الواحد القهار.
قوله: ( آمنا بذلك كله، وأيقنا أن كلا من عنده )
شرح: أما الإيمان فسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. والإيقان: الإستقرار، من قر الماء في الحوض إذا استقر. والتنوين في كلا بدل الاضافة، أي: كل كائن محدث من عند الله، أي: بقضائه وقدره وإرادتة ومشيئته وتكوينه.
وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، إن شاء الله تعالى.
قوله: (وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى)
وإن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، ورسوله المرتضى [228]
شرح: الإصطفاء والإجتباء والإرتضاء: متقارب المعنى. واعلم أن كمال المخلوق في تحقيق عبوديته لله تعالى. وكلما ازداد العبد تحقيقا للعبودية ازداد كماله وعلت درجته ومن توهم أن المخلوق يخرج عن العبودية بوجه من الوجوه، وأن الخروج عنها أكمل، فهو من أجهل الخلق وأضلهم، قال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) [229] إلى غير ذلك من الآيات. وذكر الله نبيه ﷺ باسم العبد في أشرف المقامات، فقال في ذكر الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) [230] وقال تعالى: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ) [231] وقال تعالى: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) [232] وقال تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) [233].
وبذلك استحق التقديم على الناس في الدنيا والآخرة. ولذلك يقول المسيح عليه السلام يوم القيامة، إذا طلبوا منه الشفاعة بعد الأنبياء عليهم السلام -: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فحصلت له تلك المرتبة بتكميل عبوديته لله تعالى.
وقوله: وإن محمدا بكسر الهمزة، عطفا على قوله: إن الله واحد لا شريك له. لأن الكل معمول القول، أعني: قوله نقول في توحيد الله.
والطريقة المشهورة عند أهل الكلام والنظر، تقرير نبوة الأنبياء بالمعجزات، لكن كثير منهم لا يعرف نبوة الأنبياء إلا بالمعجزات، وقرروا ذلك بطرق مضطربة، والتزم كثير منهم إنكار خرق العادات لغير الأنبياء، حتى أنكروا كرامات الأولياء والسحر، ونحو ذلك.
ولا ريب أن المعجزات دليل صحيح، لكن الدليل غير محصور في المعجزات، فإن النبوة إنما يدعيها أصدق الصادقين أو أكذب الكاذبين، ولا يلتبس هذا بهذا إلا على أجهل الجاهلين.
بل قرائن أحوالهما تعرب عنهما، وتعرف بهما والتمييز بين الصادق والكاذب له طرق كثيرة فيما دون دعوى النبوة، فكيف بدعوة النبوة؟ وما أحسن ما قال حسان رضي الله عنه:
لو لم يكن فيه آيات مبينة | كانت بديهته تأتيك بالخبر |
وما من أحد ادعى النبوة من الكذابين إلا وقد ظهر عليه من الجهل والكذب والفجور واستحواذ الشياطين عليه - ما ظهر لمن له أدنى تمييز. فإن الرسول لا بد أن يخبر الناس بأمور ويأمرهم بأمور، ولا بد أن يفعل أمورا يبين بها صدقه.
والكاذب يظهر في نفس ما يأمر به ويخبر عنه وما يفعله ما يبين به كذبه من وجوه كثيرة. والصادق ضده. بل كل شخصين ادعيا أمرا: أحدهما صادق والآخر كاذب - لا بد أن يظهر صدق هذا وكذب هذا ولو بعد مدة، إذ الصدق مستلزم للبر، والكذب مستلزم للفجور.
كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي الى البر، وإن البر يهدي الى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا.
ولهذا قال تعالى: (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ) [234].
فالكهان ونحوهم، وإن كانوا أحيانا يخبرون بشيء من المغيبات، ويكون صدقا - فمعهم من الكذب والفجور ما يبين أن الذي يخبرون به ليس عن ملك، وليسوا بأنبياء ولهذا لما قال النبي ﷺ لابن صياد: قد خبأت لك خبأ، فقال: هو الدخ - قال له النبي ﷺ: اخسأ، فلن تعدو قدرك يعني: إنما أنت كاهن.
وقد قال للنبي ﷺ: يأتيني صادق وكاذب. وقال: أرى عرشا على الماء، وذلك هو عرش الشيطان وبين أن الشعراء يتبعهم الغاوون، والغاوي: الذي يتبع هواه وشهوته، وإن كان ذلك مضرا له في العاقبة.
فمن عرف الرسول وصدقه ووفاءه ومطابقة قوله لعمله - علم علما يقينا أنه ليس بشاعر ولا كاهن.
والناس يميزون بين الصادق والكاذب بأنواع من الأدلة، حتى في المدعي للصناعات والمقالات، كمن يدعي الفلاحة والنساجة والكتابة، وعلم النحو والطب والفقه وغير ذلك.
والنبوة مشتملة على علوم وأعمال لا بد أن يتصف الرسول بها، وهي أشرف العلوم وأشرف الأعمال. فكيف يشتبه الصادق فيها بالكاذب؟ ولا ريب أن المحققين على أن خبر الواحد والاثنين والثلاثة -: قد يقترن به من القرائن ما يحصل معه العلم ضروري، كما يعرف الرجل رضى الرجل وحبه وبغضه وفرحه وحزنه وغير ذلك مما في نفسه، بأمور تظهرعلى وجهه، قد لا يمكن التعبيرعنها، كما قال تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ) [235]، ثم قال: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [236].
وقد قيل: ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله على صفات وجهه وفلتات لسانه.
فإذا كان صدق المخبر وكذبه يعلم بما يقترن من القرائن، فكيف بدعوى المدعي أنه رسول الله، كيف يخفى صدق هذا من كذبه؟ وكيف لا يتميز الصادق في ذلك من الكاذب بوجوه من الأدلة؟
ولهذا لما كانت خديجة رضي الله عنها تعلم من النبي ﷺ أنه الصادق البار، قال لها لما جاءه الوحي: إني قد خشيت على نفسي، فقالت: كلا - والله لا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق. فهو لم يخف من تعمد الكذب، فهو يعلم من نفسه ﷺ أنه لم يكذب، وإنما خاف أن يكون قد عرض له عارض سوء، وهو المقام الثاني، فذكرت خديجة ما ينفي هذا، وهو ما كان مجبولا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم، وقد علم من سنة الله أن من جبله على الأخلاق المحمودة ونزهه عن الأخلاق المذمومة -: فإنه لا يخزيه.
وكذلك قال النجاشي لما استخبرهم عما يخبر به واستقرأهم القرآن فقرؤوا عليه: إن هذا والذي جاء به موسى عليه السلام ليخرج من مشكاة واحدة. وكذلك ورقة ابن نوفل، لما أخبره النبي ﷺ بما رآه، وكان ورقة قد تنصر، وكان يكتب الإنجيل بالعربية، فقالت له خديجة: أي: عم، اسمح من ابن أخيك ما يقول، فأخبره النبي ﷺ بما رأى فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى.
وكذلك هرقل ملك الروم، فإن النبي ﷺ لما كتب إليه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، طلب من كان هناك من العرب، وكان أبو سفيان قد قدم في طائفة من قريش في تجارة إلى الشام، وسألهم عن أحوال النبي ﷺ، فسأل أبا سفيان، وأمر الباقين إن كذب أن يكذبوه، فصاروا بسكوتهم موافقين له في الأخبار، سألهم: هل كان في آبائه من ملك؟ فقالوا: لا، قال: هل قال هذا القول أحد قبله؟ فقالوا: لا، وسألهم: أهو ذو نسب فيكم؟ فقالوا: نعم، وسألهم: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقالوا: لا، ما جربنا عليه كذبا، وسألهم: هل اتبعه ضعفاء الناس أم أشرافهم؟ فذكروا أن الضعفاء اتبعوه؟ وسألهم: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكروا أنهم يزيدون، وسألهم: هل يرجع أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقالوا: لا، وسألهم: هل قاتلتموه؟ قالوا: نعم، وسألهم عن الحرب بينهم وبينه؟ فقالوا: يدال علينا مرة وندال عليه أخرى، وسألهم: هل يغدر؟ فذكروا أنه لا يغدر، وسألهم: بماذا يأمركم؟ فقالوا: يأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، وينهانا عما كان يعبد آباؤنا، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.
وهذه أكثر من عشر مسائل، ثم بين لهم ما في هذه المسائل من الأدلة، فقال: سألتكم هل كان في آبائه من ملك؟ فقلتم: لا، قلت: لو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتكم هل قال هذا القول فيكم أحد قبله؟ فقلتم: لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد قبله لقلت: رجل أئتم بقول قيل قبله، وسألتكم هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقلتم: لا، فقلت: قد علمت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب فيكذب على الله تعالى، وسألتكم أضعفاء الناس يتبعونه أم أشرافهم؟ فقلتم: ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل، يعني في أول أمرهم، ثم قال: وسألتكم هل يزيدون أم ينقصون؟ فقلتم، بل يزيدون، وكذلك الإيمان حتى يتم، وسألتكم هل يرتد أحد منهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟ فقلتم: لا، وكذلك الإيمان، إذا خالطت بشاشة القلوب لا يسخطه أحد.
وهذا من أعظم علامات الصدق والحق، فإن الكذب والباطل لا بد أن ينكشف في آخر الأمر، فيرجع عنه أصحابه، ويمتنع عنه من لم يدخل فيه، والكذب لا يروج إلا قليلا ثم ينكشف.
وسألتكم كيف الحرب بينكم وبينه؟ فقلتم: إنها دول، وكذلك الرسل تبتلى وتكون العاقبة لها، قال: وسألتكم هل يغدر؟ فقلتم: لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وهو لما كان عنده من علمه بعادة الرسل وسنة الله فيهم أنه تارة ينصرهم وتارة يبتليهم وأنهم لا يغدرون - علم أن هذه علامات الرسل، وأن سنة الله في الأنبياء والمؤمنين أن يبتليهم بالسراء والضراء، لينالوا درجة الشكر والصبر.
كما في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: والذي نفسي بيده، لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خير له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرا له.
والله تعالى قد بين في القرآن ما في إدالة العدو عليهم يوم أحد من الحكمة فقال: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [237].
وقال تعالى: (ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) [238]، الآيات. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على سنته في خلقه وحكمته التي بهرت العقول.
قال: وسألتكم عما يأمر به؟ فذكرتم أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، وينهكم عما كان يعبد آباؤكم، وهذه صفة نبي، وقد كنت أعلم أن نبيا يبعث، ولم أكن أظنه منكم، ولوددت أني أخلص إليه، ولولا ما أنا فيه من الملك لذهبت إليه، وإن يكن ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين. وكان المخاطب بذلك أبو سفيان بن حرب، وهو حينئذ كافر من أشد الناس بغضا وعداوة للنبي ﷺ، قال أبو سفيان بن حرب: فقلت لأصحابي ونحن خروج، لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليعظمه ملك بني الأصفر، وما زلت موقنا بأن أمر النبي ﷺ سيظهر، حتى أدخل الله علي الإسلام وأنا كاره.
ومما ينبغي أن يعرف: أن ما يحصل في القلب بمجموع أمور، قد لا يستقل بعضها به، بل ما يحصل للإنسان - من شبع وري وشكر وفرح وغم - فأمور مجتمعة، لا يحصل ببعضها، لكن ببعضها قد يحصل بعض الأمر.
وكذلك العلم بخبر من الأخبار، فإن خبر الواحد يحصل للقلب نوع ظن، ثم الآخر يقويه، إلى أن ينتهي إلى العلم، حتى يتزايد ويقوى. وكذلك الأدلة على الصدق والكذب ونحو ذلك.
وأيضا: فإن الله سبحانه أبقى في العالم الآثار الدالة على ما فعله بأنبيائه والمؤمنين من الكرامة، وما فعله بمكذبيهم من العقوبة، كثبوت الطوفان، وإغراق فرعون وجنوده، ولما ذكر سبحانه قصص الأنبياء نبيا بعد نبي، في سورة الشعراء، كقصة موسى وإبراهيم ونوح ومن بعده، يقول في آخر كل قصة: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) [239].
وبالجملة: فالعلم بأنه كان في الأرض من يقول إنه رسول الله، وأن أقواما اتبعوهم، وأن أقواما خالفوهم، وأن الله نصر الرسل والمؤمنين، وجعل العاقبة لهم، وعاقب أعداءهم -: هو من أظهر العلوم المتواترة وأجلاها. ونقل أخبار هذه الأمور أظهر وأوضح من نقل أخبار من مضى من الأمم من ملوك الفرس وعلماء الطب، كبقراط وجالينوس و بطليموس وسقراط وأفلاطون وأرسطو وأتباعه.
ونحن اليوم إذا علمنا بالتواتر من أحوال الأنبياء وأوليائهم وأعدائهم - علمنا يقينا أنهم كانوا صادقين على الحق من وجوه متعددة: منها: أنهم أخبروا الأمم بما سيكون من انتصارهم وخذلان أولئك وبقاء العاقبة لهم. ومنها: ما أحدثه الله لهم من نصرهم وإهلاك عدوهم، إذا عرف الوجه الذي حصل عليه، - كغرق فرعون وغرق قوم نوح وبقية أحوالهم -عرف صدق الرسل. ومنها: أن من عرف ما جاءت به الرسل من الشرائع وتفاصيل أحوالها، تبين له أنهم أعلم الخلق، وأنه لا يحصل مثل ذلك من كذاب جاهل، وأن فيما جاؤوا به من المصلحة والرحمة والهدى والخير ودلالة الخلق على ما ينفعهم ومنع ما يضرهم -ما يبين أنه لا يصدر إلا عن راحم بر يقصد غاية الخير والمنفعة للخلق.
ولذكر دلائل نبوة محمد ﷺ من المعجزات وبسطها موضع آخر، وقد أفردها الناس بمصنفات، كالبيهقي وغيره.
بل إنكار رسالته ﷺ طعن في الرب تبارك وتعالى، ونسبة له إلى الظلم والسفه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، بل جحد للرب بالكلية وإنكار.
وبيان ذلك: أنه إذا كان محمد عندهم ليس بنبي صادق، بل ملك ظالم، فقد تهيأ له أن يفتري على الله ويتقول عليه، ويستمر حتى يحلل ويحرم، ويفرض الفرائض، ويشرع الشرائع وينسخ الملل، ويضرب الرقاب، ويقتل أتباع الرسل وهم أهل الحق، ويسبي نساءهم ويغنم أموالهم وذراريهم وديارهم، ويتم له ذلك حتى يفتح الأرض، وينسب ذلك كله إلى أمر الله له به ومحبته له، والرب تعالى يشاهده وهو يفعل بأهل الحق، وهو مستمر في الافتراء عيه ثلاثا وعشرين سنة، وهو مع ذلك كله يؤيده وينصره، ويعلي أمره، ويمكن له من أسباب النصر الخارجة عن عادة البشر، وأبلغ من ذلك أنه يجيب دعواته، ويهلك أعداءه، ويرفع له ذكره، هذا وهو عندهم في غاية الكذب والإفتراء والظلم، فإنه لا أظلم ممن كذب على الله وأبطل شرائع أنبيائه وبدلها وقتل أولياءه، واستمرت نصرته عليهم دائما، والله تعالى يقره على ذلك، ولا يأخذ منه باليمين، ولا يقطع منه الوتين فيلزمهم أن يقولوا: لا صانع للعالم ولا مدبر، ولو كان له مدبر قدير حكيم، لأخذ على يديه ولقابله أعظم مقابلة، وجعله نكالا للصالحين. إذ لا يليق بالملوك غير ذلك، فكيف بملك الملوك وأحكم الحاكمين؟ ولا ريب أن الله تعالى قد رفع له ذكره، وأظهر دعوته والشهادة له بالنبوة على رؤوس الاشهاد في سائر البلاد، ونحن لا ننكر أن كثيرا من الكذابين قام في الوجود، وظهرت له شوكة، ولكن لم يتم أمره، ولم تطل مدته، بل سلط الله عليه رسله وأتباعهم، وقطعوا دابره واستأصلوه. هذه سنة الله التي قد خلت من قبل، حتى إن الكفار يعلمون ذلك.
قال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ * قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) [240] أفلا تراه يخبر أن كماله وحكمته وقدرته تأبى أن يقر من تقوَّل عليه بعض الأقاويل، بل لابد أن يجعله عبرة لعباده كما جرت بذلك سنته في المتقولين عليه، وقال تعالى: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ) [241]
وهنا انتهى جواب الشرط، ثم أخبر خبرا جازما غير معلق: أنه يمحو الباطل ويحق الحق، وقال تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْء) [242].
فأخبر سبحانه أن من نفى عنه الإرسال والكلام لم يقدره حق قدره.
وقد ذكروا فروقا بين النبي والرسول، وأحسنها. أن من نبأه الله بخبر السماء، إن أمره أن يبلغ غيره، فهو نبي رسول، وإن لم يأمره أن يبلغ غيره، فهو نبي وليس برسول. فالرسول أخص من النبي، فكل رسول نبي، وليس كل نبي رسولا، ولكن الرسالة أعم من جهة نفسها، فالنبوة جزء من الرسالة، إذ الرسالة تتناول النبوة وغيرها، بخلاف الرسل، فإنهم لا يتناولون الانبياء وغيرهم، بل الامر بالعكس. فالرسالة أعم من جهة نفسها، وأخص من جهة أهلها. وإرسال الرسل من أعظم نعم الله على خلقه، وخصوصا محمد ﷺ، كما قال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [243] وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [244].
قوله: ( وإنه خاتم الانبياء )
وإنه خاتم الانبياء
شرح: قال تعالى: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ } [245].
وقال ﷺ: مثلي ومثل الانبياء كمثل قصر أحسن بناؤه، وترك منه موضرع لبنة، فطاف به النظار يتعجبون من حسن بنائه، إلا موضع تلك اللبنة، لا يعيبون سواها، فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ختم بي البنيان وختم بي الرسل، [246].
وقال ﷺ: إن لي أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد، وأنا الماحي، يمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر، الذي يحشر الناس على قدمي، وأنا العاقب، والعاقب الذي ليس بعده نبي، وفي صحيح مسلم عن ثوبان، قال: قال رسول الله: وإنه سيكون في أمتي ثلاثون كذابون، كلهم يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين، لا نبي بعدي، الحديث.
و لمسلم: أن رسول الله ﷺ قال: فضلت على الانبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأرسلت الى الخلق كافة، وختم بي النبيون.
قوله: ( وإمام الاتقياء )
شرح: هو ﷺ، الإمام الذي يؤتم به، أي: يقتدون به. والنبي ﷺ إنما بعث للاقتداء به، لقوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } [247]. وكل من اتبعه واقتدى به فهو من الأتقياء.
قوله: ( وسيد المرسلين )
وسيد المرسلين [248]
شرح: قال ﷺ: أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع، وأول مشفع. [249].
وفي أول حديث الشفاعة: أنا سيد الناس يوم القيامة وروى مسلم و الترمذي عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: إن الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم.
فإن قيل: يشكل على هذا قوله ﷺ: لاتفضلوني على موسى، فإن الناس يصعقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فأجد موسى باطشاً بساق العرش، فلا أدري هل أفاق قبلي، أو كان ممن استثنى الله ؟ [250]، فكيف يجمع بين هذا وبين قوله أنا سيد ولد آدم ولا فخر.
فالجواب: أن هذا كان له سبب، فإنه كان قد قال يهودي: لا والذي اصطفى موسى على البشر، فلطمه مسلم، وقال: أتقول هذا ورسول الله ﷺ بين أظهرنا ؟ فجاء اليهودي فاشتكى من المسلم الذي لطمه، فقال النبي ﷺ هذا، لأن التفضيل إذا كان على وجه الحمية والعصبية وهوى النفس كان مذموماً، بل نفس الجهاد إذا قاتل الرجل حمية وعصبية كان مذموماً، فإن الله حرم الفخر، وقد قال تعالى: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } [251]، وقال تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ } [252].
فعلم أن المذموم إنما هو التفضيل على وجه الفخر، أو على وجه الإنتقاص بالمفضول.
وعلى هذا يحمل أيضاً قوله ﷺ: لا تفضلوا بين الأنبياء، إن كان ثابتاً، فإن هذا قد روي في نفس حديث موسى، وهو في البخاري وغيره. لكن بعض الناس يقول: إن فيه علة، بخلاف حديث موسى، فإنه صحيح لا علة فيه باتفاقهم.
وقد أجاب بعضهم بجواب آخر، وهو: أن قوله ﷺ لا تفضلوني على موسى، وقوله: لا تفضلوا بين الأنبياء نهي عن التفضيل الخاص، أي: لا يفضل بعض الرسل على بعض بعينه، بخلاف قوله: أنا سيد ولد آدم ولا فخر فإنه تفضيل عام فلا يمنع منه.
وهذا كما لو قيل: فلان أفضل أهل البلد، لا ينصب على أفرادهم، بخلاف ما لو قيل لأحدهم: فلان أفضل منك.
ثم إني رأيت الطحاوي رحمه الله قد أجاب بهذا الجواب في شرح معاني الآثار.
وأما ما يروى أن النبي ﷺ قال: لا تفضلوني على يونس بن متي، وأن بعض الشيوخ قال: لا يفسر لهم هذا الحديث حتى يعطى مالاً جزيلاً، فلما أعطوه فسره بأن قرب يونس من الله وهو في بطن الحوت كقربي من الله ليلة المعراج وعدواً هذا تفسيراً عظيماً.
وهذا يدل على جهلهم بكلام الله وبكلام رسوله لفظاً ومعنى، فإن هذا الحديث بهذا اللفظ لم يروه أحد من أهل الكتب التي يعتمد عليها، وإنما اللفظ الذي في الصحيح: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس ابن متي.
وفي رواية: من قال أني خير من يونس بن متى فقد كذب. وهذا اللفظ يدل على العموم، لا ينبغي لأحد أن يفضل نفسه على يونس بن متى، ليس فيه نهي المسلمين أن يفضلوا محمداً على يونس، وذلك لأن الله تعالى قد أخبر عنه أنه التقمه الحوت وهو مليم، أي: فاعل ما يلام عليه.
وقال تعالى: { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [253].. فقد يقع في نفس بعض الناس أنه أكمل من يونس، فلا يحتاج إلى هذا المقام، إذ لا يفعل ما يلام عليه.
ومن ظن هذا فقد كذب، بل كل عبد من عباد الله يقول ما قال يونس: (لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) كما قال أول الأنبياء وآخرهم، فأولهم آدم قد قال: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [254].
وآخرهم وأفضلهم وسيدهم: محمد ﷺ، قال في الحديث الصحيح، حديت الاستفتاح، من رواية علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره، بعد قوله وجهت وجهي آخره: اللهم أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعاً، لا يغفر الذنوب إلا أنت، إلى آخر الحديث، وكذا قال موسى عليه السلام: { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [255] وأيضاً فيونس ﷺ لما قيل فيه: { فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ } [256] فنُهي نبينا ﷺ عن التشبه به، وأمره بالتشبه بأولي العزم، حيث قيل له: { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } [257]، فقد يقول من يقول: أنا خير من يونس -: للأفضل أن يفخر على من دونه، فكيف إذا لم يكن أفضل، فان الله لا يحب كل مختال فخور، وفي صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه قال: أوحي إلي أن تواضعوا، حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد.
فالله تعالى نهى أن يفخر على عموم المؤمنين، فكيف على نبي كريم ؟ فلهذا قال: لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متي. فهذا نهي عام لكل أحد أن يتفضل ويفتخر على يونس. وقوله: من قال إني خير من يونس بن متي فقد كذب، فانه لو قدر أنه كان أفضل، فهذا الكلام يصير نقصاً، فيكون كاذباً، وهذا لا يقوله نبي كريم، بل هو تقدير مطلق، أي: من قال هذا فهو كاذب، وإن كان لا يقوله نبي، كما قال تعالى: { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [258]، وإن كان ﷺ معصوماً من الشرك، لكن الوعد والوعيد لبيان مقادير الأعمال.
وإنما أخبر ﷺ أنه سيد ولد آدم، لأنا لا يمكننا أن نعلم ذلك إلا بخبره، إذ لا نبي بعده يخبرنا بعظيم قدره عند الله، كما أخبرنا هو بفضائل الأنبياء قبله، صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ولهذا أتبعه بقوله ولا فخر، كما جاء في رواية.
وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر: إن مقام الذي أسري به الى ربه وهو مقرب معظم مكرم - كمقام الذي ألقي في بطن الحوت وهو مليم ؟ ! وأين المعظم المقرب من الممتحن المؤدب ؟! فهذا في غاية التقريب، وهذا في غاية التأديب.
فانظر إلى هذا الإستدلال، لأنه بهذا المعنى المحرف اللفظ لم يقله الرسول، وهل يقاوم هذا الدليل على نفي علو الله تعالى عن خلقه الأدلة الصحيحة الصريحة القطعية على علو الله تعالى على خلقه، التي تزيد على ألف دليل، كما يأتي الإشارة إليها عند قول الشيخ رحمه الله محيط بكل شيء وفوقه، إن شاء الله تعالى.
قوله: (وحبيب رب العالمين)
وحبيب رب العالمين [259]
شرح: ثبت له ﷺ أعلى مراتب المحبة، وهي الخلة، كما صح عنه ﷺ أنه قال: إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً.
وقال: ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن. والحديثان في الصحيح وهما يبطلان قول من قال: الخلة لإبراهيم والمحبة لمحمد، فإبراهيم خليل الله ومحمد حبيبه.
وفي الصحيح أيضاً: إني أبرأ الى كل خليل من خلته. والمحبة قد ثبتت لغيره.
قال تعالى: { وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [260]، { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } [261]، { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } [262].
فبطل قول من خص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة. وحديث ابن عباس رضي الله عنهم الذي رواه الترمذي الذي فيه: إن إبراهيم خليل الله، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر -: لم يثبت.
والمحبة مراتب: أولها: العلاقة، وهي تعلق القلب بالمحبوب.
والثانية: الإرادة، وهي ميل القلب إلى محبوبه وطلبه له.
الثالثة: الصبابة، وهي انصباب القلب إليه بحيث لا يملكه صاحبه، كانصباب الماء في الحدور.
الرابعة: الغرام، وهي الحب اللازم للقلب، ومنه الغريم، لملازمته، ومنه: { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [263].
الخامسة: المودة، والود، وهي: صفو المحبة وخالصها ولبها، قال تعالى: { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً } [264]..
السادسة: الشغف، وهي وصول المحبة إلى شغاف القلب.
السابعة: العشق: وهو الحب المفرط الذي يخاف على صاحبه منه، ولكن لا يوصف به الرب تعالى ولا العبد في محبة ربه، وإن كان قد أطلقه بعضهم. واختلف في سبب المنع، فقيل: عدم التوقيف، وقيل غير ذلك. ولعل امتناع إطلاقه: أن العشق محبة مع شهوة.
الثامنة: التيم، وهو بمعنى التعبد.
التاسعة: التعبد.
العاشرة: الخلة، وهي المحبة التي تخللت روح المحب وقلبه. وقيل في ترتيبها غير ذلك. وهذا الترتيب تقريب حسن، لا يعرف حسنه إلا بالتأمل في معانيه.
واعلم أن وصف الله تعالى بالمحبة والخلة هو كما يليق بجلال الله تعالى وعظمته، كسائر صفاته تعالى، وإنما يوصف الله تعالى من هذه الأنواع بالإرادة والود والمحبة والخلة، حسبما ورد النص.
وقد اختلف في تحديد المحبة على أقوال، نحو ثلاثين قولاً. ولا تحد المحبة بحد أوضح منها، فالحدود لا تزيدها إلا خفاء.
وهذه الاشياء الواضحة لا تحتاج الى تحديد، كالماء والهواء والتراب والجوع ونحو ذلك.
قوله: (وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى)
وكل دعوى النبوة بعده فغي وهوى [265]
شرح: لما ثبت أنه خاتم النبيين، علم أن من ادعى بعده النبوة فهو كاذب.
ولا يقال: فلو جاء المدعي للنبوة بالمعجزات الخارقة والبراهين الصادقة كيف يقال بتكذيبه ؟
لأنا نقول: هذا لا يتصور أن يوجد، وهو من باب فرض المحال، لأن الله تعالى لما أخبر أنه خاتم النبيين، فمن المحال أن يأتي مدع يدعي النبوة ولا يظهر أمارة كذبه في دعواه.
والغي: ضد الرشاد. والهوى: عبارة عن شهوة النفس. أي: أن تلك الدعوى بسبب هوى النفس، لا عن دليل، فتكون باطلة.
قوله: (وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء)
وهو المبعوث إلى عامة الجن [266] وكافة الورى، بالحق والهدى، وبالنور والضياء
شرح: أما كونه مبعوثاً إلى عامة الجن، فقال تعالى حكاية عن قول الجن: { يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ } [267] الآية.
وكذا سورة الجن تدل على أنه أرسل إليهم أيضاً. قال مقاتل: لم يبعث الله رسولاً إلى الأنس والجن قبله. وهذا قول بعيد.
فقد قال تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُم } [268]، الآية، والرسل من الأنس فقط، وليس من الجن رسول، كذا قال مجاهد وغيره من السلف والخلف. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الرسل من بني آدم، ومن الجن نذر. وظاهر قوله تعالى حكاية عن الجن: { إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى } [269]، الآية: تدل على أن موسى مرسل اليهم أيضاً. والله أعلم.
وحكى ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم: أنه زعم أن في الجن رسلاً، واحتج بهذه الآية الكريمة. وفي الإستدلال بها على ذلك نظر لأنها محتملة وليست بصريحة، وهي - والله أعلم - كقوله: { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [270] والمراد: من أحدهما.
وأما كونه مبعوثاً إلى كافة الورى، فقد قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } [271] وقال تعالى: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [272] وقال تعالى: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } [273] أي: وأنذر من بلغه، وقال تعالى: { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً } [274] وقال تعالى: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ } [275]، وقال تعالى: { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [276] وقال تعالى: { وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ } [277].
وقال ﷺ: أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعث إلى الناس عامة، [278].
وقال ﷺ: لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار، [279]. وكونه ﷺ مبعوثاً إلى الناس كافة معلوم من دين الإسلام بالضرورة.
وأما قول بعض النصارى إنه رسول إلى العرب خاصه -: فظاهر البطلان، فإنهم لما صدقوا بالرسالة لزمهم تصديقه في كل ما يخبر به، وقد قال إنه رسول الله إلى الناس عامة، والرسول لا يكذب، فلزم تصديقه حتماً، فقد أرسل رسله وبعث كتبه في أقطار الأرض إلى كسرى وقيصر والنجاشي والمقوقس وسائر ملوك الأطراف، يدعو إلى الإسلام.
وقوله: وكافة الورى في جر { كَافَّة } نظر، فإنهم قالوا: لم تستعمل كافة في كلام العرب إلا حالاً، واختلفوا في إعرابها في قوله تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ } [280]، على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها حال من الكاف في أرسلناك وهي إسم فاعل والتاء فيها للمبالغة، أي: إلا كافاً للناس عن الباطل، وقيل: هي مصدر كف، فهي بمعنى كفا أي: إلا أن تكف الناس كفا، ووقوع المصدر حالاً كثير.
الثاني: أنها حال من الناس. واعترض بأن حال المجرور لا يتقدم عليه عند الجمهور، وأجيب بأنه قد جاء عن العرب كثيراً فوجب قبوله، وهو اختيار ابن مالك رحمه الله، أي: وما أرسلناك إلا للناس كافة.
الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: رسالة كافة. واعترض بما تقدم أنها لم تستعمل إلا حالاً.
وقوله: بالحق والهدى وبالنور والضياء. هذه أوصاف ما جاء به رسول الله ﷺ من الدين والشرع المؤيد بالبراهين الباهرة من القرآن وسائر الأدلة. والضياء: أكمل من النور، قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً } [281].
قوله: (وإن القرآن كلام الله )
وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله الله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية، فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر، حيث قال تعالى: { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } [282]، فلما أوعد الله بسقر لمن قال: { إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ } [283] علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر.
شرح: هذه قاعدة شريفة، وأصل كبير من أصول الدين، ضل فيه طوائف كثيرة من الناس. وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما، وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة.
وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال:
أحدها: أن كلام الله هو ما يفيض على النفوس من معاني، إما من العقل الفعال عند بعضهم، أو من غيره، وهذا قول الصابئة والمتفلسفة.
وثانيها: أنه مخلوق خلقه الله منفصلاً عنه، وهذا قول المعتزلة.
وثالثها: أنه معنى واحد قائم بذات الله، هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وإن عبر عنه بالعبرانيه كان توراة، وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه، كالاشعري وغيره.
ورابعها: أنه حروف وأصوات أزلية مجتمعة في الأزل، وهذا قول طائفة من أهل الكلام ومن أهل الحديث.
وخامسها: أنه حروف وأصوات، لكن تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، وهذا قول الكرامية وغيرهم.
وسادسها: أن كلامه يرجع إلى ما يحدثه من علمه وإرادته القائم بذاته، وهذا يقوله صاحب المعتبر، ويميل اليه الرازي في المطالب العالية.
وسابعها: أن كلامه يتضمن معنى قائماً بذاته هو ما خلقه في غيره، وهذا قول أبي منصور الماتريدي.
وثامنها: أنه مشترك بين المعنى القديم القائم بالذات وبين ما يخلقه في غيره من الاصوات، وهذا قول أبي المعالي ومن اتبعه.
وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء، وهو يتكلم به بصوت يسمع، وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة.
وقول الشيخ رحمه الله وإن القرآن كلام الله إن بكسر الهمزة - عطف على قوله: إن الله واحد لا شريك له ثم قال: وإن محمداً عبده المصفى. وكسر همزة إن في المواضع الثلاثة، لأنها معمول القول، أعني قوله في أول كلامه: نقول في توحيد الله.
وقوله: كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً: -رد على المعتزلة وغيرهم.
فإن المعتزلة تزعم أن القران لم يبد منه، كما تقدم حكاية قولهم، قالوا: وإضافته إليه اضافة تشريف، كبيت الله، وناقة الله، يحرفون الكلام عن مواضعه ! وقولهم باطل، فإن المضاف إلى الله تعالى معان وأعيان، فاضافة الأعيان الى الله للتشريف، وهي مخلوقة له، كبيت الله، وناقة الله، بخلاف إضافة المعاني، كعلم الله، وقدرته، وعزته، وجلاله، وكبريائه، وكلامه، وحياته، وعلوه، وقهره - فإن هذا كله من صفاته، لا يمكن أن يكون شيء من ذلك مخلوقا.
والوصف بالتكلم من أوصاف الكمال، وضده من أوصاف النقص. قال تعالى: { وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً } [284]. فكان عُبَّاد العجل مع كفرهم، أعرف بالله من المعتزلة، فإنهم لم يقولوا لموسى: وربك لا يتكلم، أيضاً. وقال تعالى عن العجل أيضاً: { أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً } [285]. فعلم أن نفي رجوع القول ونفي التكلم نقص يستدل به على عدم ألوهية العجل.
وغاية شبهتهم أنهم يقولون: يلزم منه التشبيه والتجسيم ؟ فيقال لهم: إذا قلنا إنه تعالى يتكلم كما يليق بجلاله انتفت شبهتهم. ألا ترى أنه تعالى قال: { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ } [286] فنحن نؤمن أنها تكَلَّم، ولا نعلم كيف تتكلم وكذا قوله تعالى: { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [287]. وكذلك تسبيح الحصا والطعام، وسلام الحجر، كل ذلك بلا فم يخرج منه الصوت الصاعد من لديه المعتمد على مقطع الحروف.
وإلى هذا أشار الشيخ رحمه الله بقوله: منه بدا بلا كيفية قولاً، أي: ظهر منه ولا ندري كيفية تكلمه به. وأكد هذا المعنى بقوله قولا، أتى بالمصدر المعرف للحقيقة، كما أكد الله تعالى التكليم بالمصدر المثبت النافي للمجاز في قوله: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [288].
فماذا بعد الحق إلا الضلال؟! ولقد قال بعضهم لأبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة-: أريد أن تقرأ: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى } [289] بنصب اسم الله، ليكون موسى هو المتكلم لا الله! فقال أبو عمرو: هب أني قرأت هذه الآية كذا، فكيف تصنع بقوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [290] ؟ ! فبهت المعتزلي !
وكم في الكتاب والسنة من دليل على تكليم الله تعالى لأهل الجنة وغيرهم. قال تعالى: { سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [291]، فعن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: بينا أهل الجنة في نعيم إذ سطع لهم نور، فرفعوا أبصارهم، فإذا الرب جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم، فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة، وهو قول الله تعالى: سلام قولاً من رب رحيم، فلا يلتفتون إلى شيء مما هم فيه من النعيم، ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم، وتبقى بركته ونوره. [292].
ففي هذا الحديث إثبات صفة الكلام، وإثبات الرؤية، واثبات العلو، وكيف يصح مع هذا أن يكون كلام الرب كله معنى واحداً، وقد قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ } [293] فأهانهم بترك تكليمهم، والمراد أنه لا يكلمهم تكليم تكريم وهو الصحيح، إذ قد أخبر في الآية الأخرى أنه يقول لهم في النار { اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ } [294]، فلو كان لا يكلم عباده المؤمنين، لكانوا في ذلك هم وأعداؤه سواء، ولم يكن في تخصيص أعدائه بأنه لا يكلمهم فائدة أصلاً. وقال البخاري في صحيحه: باب كلام الرب تبارك وتعالى مع أهل الجنة، وساق فيه عدة أحاديث.
فأفضل نعيم أهل الجنة رؤية وجهه تبارك وتعالى، وتكليمه لهم. فإنكار ذلك إنكار لروح الجنة. وأعلى نعيمها وأفضله الذي ما طابت لأهلها إلا به.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْء } [295]، والقرآن شيء، فيكون داخلاً في عموم كل فيكون مخلوقاً ! ! فمن أعجب العجب. وذلك: أن أفعال العباد كلها عندهم غير مخلوقة لله تعالى، وإنما يخلقها العباد جميعها، لا يخلقها الله فأخرجوها من عموم كل، وأدخلوا كلام الله في عمومها، مع أنه صفة من صفاته، به تكون الأشياء المخلوقة، إذ بأمره تكون المخلوقات، قال تعالى: { وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْر } [296]. ففرق بين الخلق والأمر، فلو كان الأمر مخلوقاً لزم أن يكون مخلوقاً بأمر آخر، والآخر بآخر، إلى ما لا نهاية له، فيلزم التسلسل، وهو باطل. وطرد باطلهم: أن تكون جميع صفاته تعالى مخلوقة، كالعلم والقدرة وغيرهما، وذلك صريح الكفر، فإن علمه شيء، وقدرته شيء، وحياته شيء، فيدخل ذلك في عموم كل، فيكون مخلوقاً بعد أن لم يكن، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
وكيف يصح أن يكون متكلماً بكلام يقوم بغيره ؟ ولو صح ذلك للزم أن يكون ما أحدثه من الكلام في الجمادات كلامه ! وكذلك أيضاً ما خلقه في الحيوانات، لا يفرق حينئذ بين نطق وأنطق. وإنما قالت الجلود: { أَنطَقَنَا اللَّهُ } [297]، ولم تقل: نطق الله، بل يلزم أن يكون متكلماً بكل كلام خلقه في غيره، زوراً كان أو كذباً أو كفراً أو هذياناً ! ! تعالى الله عن ذلك. وقد طرد ذلك الاتحادية، فقال ابن عربي:
وكل كلام في الوجود كلامه | سواء علينا نثره ونظامه ! ! |
ولو صح أن يوصف أحد بصفة قامت بغيره، لصح أن يقال للبصير: أعمى، وللأعمى: بصير! لأن البصير قد قام وصف الأعمى بغيره، والأعمى قد قام وصف البصير بغيره ! ولصح أن يوصف الله تعالى بالصفات التي خلقها في غيره، من الألوان والروائح والطعوم والطول والقصر ونحو ذلك.
وبمثل ذلك ألزم الإمام عبد العزيز المكي بشراً المريسيى بين يدي المأمون، بعد أن تكلم معه ملتزماً أن لا يخرج عن نص التنزيل، وألزمه الحجة، فقال بشر: يا أمير المؤمنين، ليدع مطالبتي بنص التنزيل، ويناظرني بغيره، فإن لم يدع قوله ويرجع عنه، ويقر بخلق القرآن الساعة وإلا فدمي حلال. قال عبد العزيز: تسألني أم أسألك ؟ فقال بشر: اسأل أنت، وطمع في فقلت له: يلزمك واحده من ثلاث لا بد منها: إما أن تقول: أن الله خلق القرآن، وهو عندي أنا كلامه - في نفسه، أو خلقه قائماً بذاته ونفسه، أو خلقه في غيره ؟ قال: أقول: خلقه كما خلق الأشياء كلها. وحاد عن الجواب. فقال المأمون: اشرح أنت هذه المسألة، ودع بشراً فقد انقطع. فقال عبد العزيز: أن قال خلق كلامه في نفسه، فهذا محال، لأن الله لا يكون محلاً للحوادث المخلوقة، ولا يكون فيه شيء مخلوق وأن قال خلقه في غيره فيلزم في النظر والقياس أن كل كلام خلقه الله في غيره فهو كلامه، فهو محال أيضاً، لأنه يلزم قائله أن يجعل كل كلام خلقه الله في غيره - هو كلام الله ! وأن قال خلقه قائماً بنفسه وذاته، فهذا محال: لا يكون الكلام إلا من متكلم، كما لا تكون الإرادة إلا من مريد، ولا العلم إلا من عالم، ولا يعقل كلام قائم بنفسه يتكلم بذاته. فلما استحال من هذه الجهات أن يكون مخلوقاً، علم أنه صفة لله. هذا مختصر من كلام الإمام عبد العزيز في الحيدة.
وعموم كل في كل موضع بحسبه، ويعرف ذلك بالقرائن. ألا ترى إلى قوله تعالى: { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ } [298]، ومساكنهم شيء، ولم تدخل في عموم كل شيء دمرته الريح ؟ وذلك لأن المراد تدمر كل شيء يقبل التدمير بالريح عادة وما يستحق التدمير. وكذا قوله تعالى حكاية عن بلقيس: { وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ } [299]، المراد من كل شيء يحتاج إليه الملوك، وهذا القيد يفهم من قرائن الكلام. إذ مراد الهدهد أنها ملكة كاملة في أمر الملك، غير محتاجة الى ما يكمل به أمر ملكها، ولهذا نظائر كثيرة.
والمراد من قوله تعالى: { اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [300]، أي كل شيء مخلوق، وكل موجود سوى الله فهو مخلوق، فدخل في هذا العموم أفعال العباد حتماً، ولم يدخل في العموم الخالق تعالى، وصفاته ليست غيره، لأنه سبحانه وتعالى هو الموصوف بصفات الكمال، وصفاته ملازمة لذاته المقدسة، لا يتصور انفصال صفاته عنه، كما تقدم الاشارة إلى هذا المعنى عند قوله: ما زال قديماً بصفاته قبل خلقه. بل نفس ما استدلوا به يدل عليهم. فاذا كان قوله تعالى: الله خالق كل شيء مخلوقاً، لا يصح أن يكون دليلاً.
وأما استدلالهم بقوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [301]، فما أفسده من استدلال ! فإن جعل إذا كان بمعنى خلق يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: { وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } [302] وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ* وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [303] وإذا تعدى إلى مفعولين لم يكن بمعنى خلق قال تعالى: { وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً } [304] وقال تعالى: { وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً } [305] وقال تعالى: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } [306] وقال تعالى: { وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ } [307] وقال تعالى: { وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ } [308] وقال تعالى: { وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً } [309] ونظائره كثيرة فكذا قوله تعالى: { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [310].
وما أفسد استدلالهم بقوله تعالى: { نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ } [311] على أن الكلام خلقه الله تعالى في الشجرة فسمعه موسى منها، وعموا عما قبل هذه الكلمة وما بعدها، فإن الله تعالى قال: { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَن } [312] والنداء: هو الكلام من بعد: فسمع موسى عليه السلام النداء من حافة الوادي ثم قال: فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ [313]. أي أن النداء كان في البقعة المباركة من عند الشجرة، كما يقول سمعت كلام زيد من البيت، يكون من البيت لابتداء الغاية، لا أن البيت هو المتكلم ! ولو كان الكلام مخلوقاً في الشجرة، لكانت الشجرة هي القائلة: { يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [314] وهل قال: { إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } غير رب العالمين؟ ولو كان هذا الكلام بدا من غير الله لكان قول فرعون { أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى } [315] صدقاً، إذ كل من الكلامين عندهم مخلوق قد قاله غير الله ! وقد فرقوا بين الكلامين على أصولهم الفاسدة: أن ذاك كلام خلقه الله في الشجرة، وهذا كلام خلقه فرعون ! ! فحرفوا وبدلوا واعتقدوا خالقاً غير الله. وسيأتي الكلام على مسألة أفعال العباد، إن شاء الله تعالى.
فإن قيل: فقد قال تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [316] و[317]. وهذا يدل على أن الرسول أحدثه، إما جبرائيل أو محمد.
قيل: ذكر الرسول معرف أنه مبلغ عن مرسله، لأنه لم يقل إنه قول ملك أو نبي، فعلم أنه بلغه عمن أرسله به، لا أنه أنشأ من جهة نفسه. وأيضاً: فالرسول في إحدى الآيتين جبرائيل، وفي الأخرى محمد، فإضافته إلى كل منهما تبين أن الإضافة للتبليغ، إذ لو أحدثه أحدهما امتنع أن يحدثه الآخر. وأيضاً: فقوله رسول أمين، دليل على أنه لا يزيد في الكلام الذي أرسل بتبليغه ولا ينقص منه، بل هو أمين على ما أرسل به، يبلغه عن مرسله. وأيضاً: فإن الله قد كفر من جعله قول البشر، ومحمد ﷺ بشر، فمن جعله قول محمد، بمعنى أنه أنشأه - فقد كفر. ولا فرق بين أن يقول: إنه قول بشر، أو جني، أو ملك، والكلام كلام من قاله مبتدئاً، لا من قاله مبلغاً. ومن سمع قائلاً يقول:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
قال: هذا شعر امرىء القيس، ومن سمعه يقول: إنما الاعمال بالنيات وانما لكل امرىء ما نوى -: قال: هذا كلام الرسول، وإن سمعه يقول: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ* إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [318] -: قال: هذا كلام الله، إن كان عنده خبر ذلك، وإلا قال: لا أدري كلام من هذا ؟ ولو أنكر عليه أحد ذلك لكذب. ولهذا من سمع من غيره نظماً أو نثراً، يقول له: هذا كلام من ؟ هذا كلامك أو كلام غيرك ؟
وبالجملة، فأهل السنة كلهم، من أهل المذاهب الأربعة وغيرهم من السلف والخلف، متفقون على أن كلام الله غير مخلوق. ولكن بعد ذلك تنازع المتأخرون في أن كلام الله هل هو معنى واحد قائم بالذات، أو أنه حروف وأصوات تكلم الله بها بعد أن لم يكن متكلماً، أو أنه لم يزل متكلماً إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وأن نوع الكلام قديم، وقد يطلق بعض المعتزلة على القرآن أنه غير مخلوق، ومرادهم أنه غير مختلق مفترى مكذوب، بل هو حق وصدق، ولا ريب أن هذا المعنى منتف باتفاق المسلمين.
والنزاع بين أهل القبلة إنما هو في كونه مخلوقاً خلقه الله، أو هو كلامه الذي تكلم به وقام بذاته ؟ وأهل السنة إنما سئلوا عن هذا، وإلا فكونه مكذوباً مفترى مما لا ينازع مسلم في بطلانه. ولا شك أن مشايخ المعتزلة وغيرهم من أهل البدع - معترفون بأن اعتقادهم في التوحيد والصفات والقدر لم يتلقوه لا عن كتاب ولا سنة، ولا عن أئمة الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما يزعمون أن عقلهم دلهم عليه، وإنما يزعمون أنهم تلقوا من الأئمة الشرائع.
ولو ترك الناس على فطرهم السليمة وعقولهم المستقيمة، لم يكن بينهم نزاع، ولكن ألقى الشيطان إلى بعض الناس أغلوطة من أغاليطه، فرق بها بينهم. { وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } [319]. والذي يدل عليه كلام الطحاوي رحمه الله: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء كيف شاء، وأن نوع كلامه قديم. وكذلك ظاهر كلام الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر، فإنه قال: والقرآن في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي ﷺ منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله في القرآن عن موسى عليه السلام وغيره، وعن فرعون وابليس - فإن ذلك كلام الله إخباراً عنهم، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق، والقرآن كلام الله لا كلامهم، وسمع موسى عليه السلام كلام الله تعالى، فلما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته لم يزل، وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين، يعلم لا كعلمنا، ويقدر لا كقدرتنا، ويرى لا كرؤيتنا، ويتكلم لا ككلامنا. انتهى.
فقوله: ولما كلم موسى كلمه بكلامه الذي هو من صفاته - يعلم منه أنه حين جاء كلمه، لا أنه لم يزل ولا يزال أزلاً وأبداً يقول يا موسى، كما يفهم ذلك من قوله تعالى: { وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [320]، ففهم منه الرد على من يقول من أصحابه أنه معنى واحد قائم بالنفس لا يتصور أن يسمع، وإنما يخلق الله الصوت في الهواء، كما قال أبو منصور الماتريدي وغيره. وقوله: الذي هو من صفاته لم يزل رد على من يقول إنه حدث له وصف الكلام بعد أن لم يكن متكلماً.
وبالجملة: فكل ما تحتج به المعتزلة مما يدل على أنه كلام متعلق بمشيئته وقدرته، وأنه يتكلم إذا شاء، وأنه يتكلم شيئاً بعد شيء، فهو حق يجب قبوله. وما يقوله من يقول: إن كلام الله قائم بذاته، وأنه صفة له. والصفة لا تقوم الا بالموصوف -: فهو حق يجب قبوله والقول به. فيجب الأخذ بما في قول كل من الطائفتين من الصواب، والعدول عما يرده الشرع والعقل من قول كل منهما.
فإذا قالوا لنا: فهذا يلزم أن تكون الحوادث قامت به. قلنا: هذا القول مجمل، ومن أنكر قبلكم قيام الحوادث بهذا المعنى به تعالى من الأئمة ؟ ونصوص القرآن والسنة تتضمن ذلك، ونصوص الأئمة أيضاً، مع صريح العقل.
ولا شك أن الرسل الذين خاطبوا الناس وأخبروهم أن الله قال ونادى وناجى ويقول، لم يفهموهم أن هذه مخلوقات منفصلة عنه، بل الذي أفهموهم إياه: أن الله نفسه هو الذي تكلم، والكلام قائم به لا بغيره، وأنه هو الذي تكلم به وقاله، كما قالت عائشة رضي الله عنها في حديث الإفك: ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله في بوحي يتلى. ولو كان المراد من ذلك كله خلاف مفهومه لوجب بيانه، إذ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز. ولا يعرف في لغة ولا عقل قائل متكلم لا يقوم به القول والكلام وإن زعموا أنهم فروا من ذلك حذراً من التشبيه، فلا يثبتوا صفة غيره، فإنهم إذا قالوا: يعلم لا كعلمنا، قلنا: ويتكلم لا كتكلمنا، وكذلك سائر الصفات.
وهل يعقل قادر لا تقوم به القدرة، أو حي لا تقوم به الحياة ؟ وقد قال ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فهل يقول عاقل إنه ﷺ عاذ بمخلوق ؟ بل هذا كقوله: أعوذ برضاك من سخطك. وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وكقوله: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. وكقوله: وأعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا. كل هذه من صفات الله تعالى.
وهذه المعاني مبسوطة في مواضعها، وإنما أشير إليها هنا إشارة.
وكثير من متأخري الحنفية على أنه معنى واحد، والتعدد والتكثر والتجزؤ والتبعض حاصل في الدلالات، لا في المدلول. وهذه العبارات مخلوقة، وسميت كلام الله لدلالتها عليه وتأديه بها، فإن عبر بالعربية فهو قرآن، وإن عبر بالعبرانية فهو توراة، فاختلفت العبارات لا الكلام. قالوا: وتسمى هذه العبارات كلام الله مجازاً !
وهذا الكلام فاسد، فإن لازمه أن معنى قوله: { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى } [321] هو معنى قوله: { وأقيموا الصلاة } [322].
ومعنى آية الكرسي هو معنى آية الدين ! ومعنى سورة الاخلاص هو معنى { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [323].
وكلما تأمل الإنسان هذا القول تبين له فساده، وعلم أنه مخالف لكلام السلف. والحق: أن التوراة والإنجيل والزبور والقرآن من كلام اللة حقيقة، وكلام الله تعالى لا يتناهى، فإنه لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء كيف شاء، ولا يزال كذلك. قال تعالى: { قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [324] وقال تعالى: { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [325].
ولو كان ما في المصحف عبارة عن كلام الله، وليس هو كلام الله، لما حرم على الجنب المحدث مسه، ولو كان ما يقرأه القارىء ليس كلام الله لما حرم على الجنب والمحدث قراءته. بل كلام الله محفوظ في الصدور، مقروء بالألسن، مكتوب في المصاحف، كما قال أبو حنيفة في الفقه الأكبر. وهو في هذه المواضع كلها حقيقة، وإذا قيل: فيه خط فلان وكتابته -: فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: فيه مداد قد كتب به -: فهم منه معنى صحيح حقيقي، وإذا قيل: المداد في المصحف -: كانت الظرفية فيه غير الظرفية المفهومة من قول القائل: فيه السماوات والأرض، وفيه محمد وعيسى، ونحو ذلك. وهذان المعنيان مغايران لمعنى قول القائل: فيه كلام الله. ومن لم يتنبه للفروق بين هذه المعاني ضل ولم يهتد للصواب.
وكذلك الفرق بين القراءة التي هي فعل القارىء، والمقروء الذي هو قول الباري، من لم يهتد له فهو ضال أيضاً، ولو أن إنساناً وجد في ورقة مكتوباً ألا كل شيىء ما خلا الله باطل من خط كاتب معروف. لقال: هذا من كلام لبيد حقيقة، وهذا خط فلان حقيقة، وهذا كل شيء حقيقة، وهذا خبر حقيقة، ولا تشتبه هذه الحقيقة بالأخرى.
تابع قوله: ( وإن القرآن كلام الله، منه بدا بلا كيفية قولاً، وأنزله على رسوله وحياً، وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً، وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة، ليس بمخلوق ككلام البرية. فمن سمعه فزعم أنه كلام البشر فقد كفر، وقد ذمه الله وعابه وأوعده بسقر حيث قال تعالى: إن هذا إلا قول البشر - علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر، ولا يشبه قول البشر).
والقرآن في الأصل: مصدر، فتارة يذكر ويراد به القراءة، قال تعالى: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [326] وقال ﷺ: ( زينوا القرآن بأصواتكم ) وتارة يذكر ويراد به المقروء قال تعالى: { فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ } [327] وقال تعالى: { وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [328].
وقال ﷺ: إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف. إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث الدالة على كل من المعنيين المذكورين. فالحقائق لها وجود عيني وذهني ولفظي ورسمي، ولكن الأعيان تعلم، ثم تذكر، ثم تكتب. فكتابتها في المصحف هي المرتبة الرابعة. وأما الكلام فإنه ليس بينه وبين المصحف واسطة، بل هو الذي يكتب بلا واسطة ولا لسان.
والفرق بين كونه في زبر الأولين، وبين كونه في رق منشور، أو لوح محفوظ، أو في كتاب مكنون -: واضح. فقوله عن القرآن: { وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ } [329]، أي ذكره ووصفه والأخبار عنه، كما أن محمداً مكتوب عندهم. إذ القرآن أنزله الله على محمد، لم ينزله على غيره أصلاً، ولهذا قال في الزبر، ولم يقل في الصحف، ولا في الرق، لأن الزبر جمع زبور و الزبر هو: الكتابة والجمع، فقوله: وإنه لفي زبر الأولين أي: مزبور الأولين، ففي نفس اللفظ واشتقاقه ما يبين المعنى المراد، ويبين كمال بيان القرآن وخلوصه من اللبس. وهذا مثل قوله: { الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ } [330] أي: ذكره بخلاف قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [331] أو { فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [332] أو { فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ } [333]، لأن العامل في الظرف إما أن يكون من الأفعال العامة، مثل الكون والإستقرار والحصول ونحو ذلك، أو يقدر: مكتوب في كتاب، أو في رق. والكتاب: تارة يذكر ويراد به محل الكتابة، وتارة يذكر ويراد به الكلام المكتوب. ويجب التفريق بين كتابة الكلام في الكتاب، وكتابة الأعيان الموجودة في الخارج فيه - فإن تلك إنما يكتب ذكرها. وكلما تدبر الإنسان هذا المعنى وضح له الفرق.
وحقيقة كلام الله تعالى الخارجية: هي ما يسمع منه أو من المبلغ عنه، فإذا سمعه السامع علمه وحفظه. فكلام الله مسموع له معلوم محفوظ، فإذا قاله السامع فهو مقروء له متلو، فإن كتبه فهو مكتوب له مرسوم. وهو حقيقة في هذه الوجوه كلها لا يصح نفيه. والمجاز يصح نفيه، فلا يجوز أن يقال: ليس في المصحف كلام الله، ولا: ما قرأ القارىء كلام الله، وقد قال تعالى: { وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ } [334]. وهو لا يسمع كلام الله من الله، وإنما يسمعه من مبلغه عن الله. والآية تدل على فساد قول من قال: إن المسموع عبارة عن كلام الله وليس هو كلام الله، فإنه تعالى قال: حتى يسمع كلام الله، ولم يقل حتى يسمع ما هو عبارة عن كلام الله. والأصل الحقيقة. ومن قال: إن المكتوب في المصاحف عبارة عن كلام الله، أو حكاية كلام الله، وليس فيها كلام الله -: فقد خالف الكتاب والسنة وسلف الأمة، وكفى بذلك ضلالا.
وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه، وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله، وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمه الله يقول: كلام الله منه بدا. وكذلك قال غيره من السلف، ويقولون: منه بدا، وإليه يعود. وإنما قالوا: منه بدا، لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل، فبدأ الكلام من ذلك المحل. فقال السلف: منه بدا أي هو المتكلم به، فمنه بدا، لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [335] { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي } [336] وقال: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ } [337]. ومعنى قولهم: وإليه يعود-: يرفع من الصدور والمصاحف، فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عدة آثار.
وقوله بلا كيفية: أي: لا تعرف كيفية تكلمه به قولاً ليس بالمجاز، وأنزله على رسوله وحياً، أي: أنزله إليه على لسان الملك، فسمعه الملك جبرائيل من الله، وسمعه الرسول ﷺ من الملك، وقرأ على الناس. قال تعالى: { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [338] وقال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [339]. وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى.
وقد أورد على ذلك أن إنزال القرآن نظير إنزال المطر، أو إنزاله الحديد، وإنزال ثمانية أزواج من الأنعام.
والجواب: أن إنزال القرآن فيه مذكور أنه إنزال من الله. قال تعالى: { حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [340] وقال تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [341] وقال تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [342] وقال تعالى: { تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [343] وقال تعالى: { إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينََ } [344]، وقال تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [345]، وقال تعالى: { وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ } [346] وقال تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقّ } [347]. وإنزال المطر مقيد بأنه منزل من السماء قال تعالى: { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } [348]. والسماء: العلو. وقد جاء في مكان آخر أنه منزل من المزن، والمزن: السحاب. وفي مكان آخر أنه منزل من المعصرات. وإنزال الحديد والأنعام مطلق، فكيف يشبه هذا الإنزال بهذا الإنزال ؟ ! فالحديد إنما يكون من المعادن التي في الجبال، وهي عالية على الأرض، وقد قيل أنه كلما كان معدنه أعلى كان حديده أجود. والأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من أصلابها إلى أرحام الإناث، ولهذا يقال: أنزل ولم يقل نزل ثم الأجنة تنزل من بطون الأمهات إلى وجه الارض. ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها عند الوطء، وينزل ماء الفحل من علو الى رحم الأنثى، وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى سفل. وعلى هذا فيحتمل قوله: { وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ } [349] وجهين: أحدهما: أن تكون (من) لبيان الجنس، الثاني: أن تكون "من" لابتداء الغاية وهذان الوجهان يحتملان في قوله: { جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً } [350].
وقوله: وصدقه المؤمنون على ذلك حقاً الإشارة إلى ما ذكره من التكلم على الوجه المذكور وإنزاله، أي هذا قول الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وهم السلف الصالح، وأن هذا حق وصدق.
وقوله: وأيقنوا أنه كلام الله تعالى بالحقيقة ليس بمخلوق ككلام البرية. رد على المعتزلة وغيرهم بهذا القول ظاهر. وفي قوله: بالحقيقة رد على من قال: إنه معنى واحد قام بذات الله لم يسمع منه وإنما هو الكلام النفساني، لأنه لا يقال لمن قام به الكلام النفساني ولم يتكلم به -: أن هذا كلام حقيقة، وإلا للزم أن يكون الأخرس متكلماً، ولزم أن لا يكون الذي في المصحف عند الإطلاق هو القرآن ولا كلام الله، ولكن عبارة عنه ليست هي كلام الله، كما لو أشار أخرس إلى شخص بإشارة فهم بها مقصوده، فكتب ذلك الشخص عبارته عن المعنى الذي أوحاه إليه ذلك الأخرس، فالمكتوب هو عبارة ذلك الشخص عن ذلك المعنى. وهذا المثل مطابق غاية المطابقة لما يقولونه، وإن كان الله تعالى لا يسميه أحد أخرس، لكن عندهم أن الملك فهم منه معنى قائماً بنفسه، لم يسمع منه حرفاً ولا صوتاً، بل فهم معنى مجرداً، ثم عبر عنه، فهو الذي أحدث نظم القرآن وتأليفه العربي، وأنا الله خلق في بعض الأجسام كالهوى الذي هو دون الملك هذه العبارة.
ويقال لمن قال إنه معنى واحد -: هل سمع موسى عليه السلام جميع المعنى أو بعضه ؟ فإن قال: سمعه كله، فقد زعم أنه سمع جميع كلام الله وفساد هذا ظاهر. وإن قال: بعضه، فقد قال يتبعض. وكذلك كل من كلمه الله أو أنزل إليه شيئاً من كلامه.
ولما قال تعالى للملائكة: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة } [351] ولما قال لهم: { اسْجُدُوا لِآدَمَ } [352].
وأمثال ذلك -: هل هذا جميع كلامه أو بعضه ؟ فإن قال: إنه جميعه، فهذا مكابرة، وإن قال: بعضه، فقد اعترف بتعدده.
وللناس في مسمى الكلام والقول عند الإطلاق -: أربعة أقوال:
أحدها: أنه يتناول اللفظ والمعنى جميعا، كما يتناول لفظ الإنسان الروح والبدن معاً، وهذا قول السلف.
الثاني: اسم اللفظ فقط، والمعنى ليس جزء مسماه، بل هو مدلول مسماه، وهذا قول جماعة من المعتزلة وغيرهم.
الثالث: أنه إسم للمعنى فقط، وإطلاقه على اللفظ مجاز، لأنه دال عليه، وهذا قول ابن كلاب ومن اتبعه.
الرابع: أنه مشترك بين اللفظ والمعنى، وهذا قول بعض المتأخرين من الكلابية، ولهم قول خامس، يروى عن أبي الحسن، أنه مجاز في كلام الله، حقيقة في كلام الآدميين لأن حروف الآدميين تقوم بهم، فلا يكون الكلام قائماً بغير المتكلم، بخلاف كلام الله، فإنه لا يقوم عنده بالله، فيمتنع أن يكون كلامه. وهذا مبسوط في موضعه. وأما من قال إنه معنى واحد، واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما | جعل اللسان على الفؤاد دليلا |
فاستدلال فاسد. ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا هذا خبر واحد! ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه وتلقيه بالقبول والعمل به ! فكيف وهذا البيت قد قيل إنه موضوع منسوب إلى الأخطل، وليس هو في ديوانه ؟ ! وقيل إنما قال: إن البيان لفي الفؤاد وهذا أقرب إلى الصحة، وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الإستدلال به، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام، وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت بالناسوت ! أي: شيء من الإله بشيء من الناس ! أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟! وأيضاً: فمعناه غير صحيح، إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه وإن لم ينطق به ولم يسمع منه، والكلام على ذلك مبسوط في موضعه، وإنما أشير اليه إشارة.
وهنا معنى عجيب، وهو: أن هذا القول له شبه قوي بقول النصارى القائلين باللاهوت والناسوت ! فإنهم يقولون: كلام الله هو المعنى القائم بذات الله الذي لا يمكن سماعه، وأما النظم المسموع فمخلوق، فإفهام المعنى القديم بالنظم المخلوق يشبه امتزاج اللاهوت بالناسوت الذي قالته النصارى في عيسى عليه السلام، فانظر إلى هذا الشبه ما أعجبه !
ويرد قول من قال: بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس -: قوله ﷺ: إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس. وقال: إن الله يحدث من أمره ما يشاء، وإنما أحدث أن لا تكلموا في الصلاة. واتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته. واتفقوا كلهم على أن ما يقوم بالقلب، من تصديق بأمور دنيوية وطلب - لا يبطل الصلاة، وإنما يبطلها التكلم بذلك. فعلم اتفاق المسلمين على أن هذا ليس بكلام.
وأيضاً: ففي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم تتكلم به أوتعمل به. فقد أخبر أن الله عفا عن حديث النفس إلا أن تتكلم، ففرق بين حديث النفس وبين الكلام، وأخبر أنه لا يؤاخذ به حتى يتكلم به، والمراد: حتى ينطق به اللسان، باتفاق العلماء. فعلم أن هذا هو الكلام في اللغة، لأن الشارع إنما خاطبنا بلغة العرب.
وأيضاً ففي السنن: أن معاذاً رضي الله عنه قال: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ فقال: وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. فبين أن الكلام إنما هو باللسان. فلفظ القول و الكلام وما تصرف منهما، من فعل ماض ومضارع وأمر واسم فاعل -: إنما يعرف في القرآن والسنة وسائر كلام العرب إذا كان لفظاً ومعنى. ولم يكن في مسمى الكلام نزاع بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وإنما حصل النزاع بين المتأخرين من علماء أهل البدع، ثم انتشر.
ولا ريب أن مسمى الكلام والقول ونحوهما - ليس هو مما يحتاج فيه إلى قول شاعر، فإن هذا مما تكلم به الأولون والآخرون من أهل اللغة، وعرفوا معناه، كما عرفوا مسمى الرأس واليد والرجل ونحو ذلك.
ولا شك أن من قال: إن كلام الله معنى واحد قائم بنفسه تعالى وأن المتلو المحفوظ المكتوب المسموع من القارىء حكاية كلام الله وهو مخلوق -: فقد قال بخلق القرآن وهو لا يشعر، فإن الله يقول: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [353]. أفتراه سبحانه وتعالى يشير الى ما في نفسه أو إلى المتلو المسموع ؟ ولا شك أن الإشارة إنما هي إلى هذا المتلو المسموع، إذ ما في ذات الله غير مشار إليه، ولا منزل ولا متلو ولا مسموع.
وقوله: لا يأتون بمثله - أفتراه سبحانه يقول: لا يأتون بمثل ما في نفسي مما لم يسمعوه ولم يعرفوه، وما في نفس الله عز وجل لا حيلة إلى الوصول إليه، ولا إلى الوقوف عليه.
فإن قالوا: إنما أشار إلى حكاية ما في نفسه وعبارته وهو المتلو المكتوب المسموع، فأما أن يشير إلى ذاته فلا - فهذا صريح القول بأن القرآن مخلوق، بل هم في ذلك أكفر من المعتزلة، فإن حكاية الشيء بمثله وشبهه. وهذا تصريح بأن صفات الله محكية، ولو كانت هذه التلاوة حكاية لكان الناس قد أتوا بمثل كلام الله، فأين عجزهم ؟! ويكون التالي - في زعمهم - قد حكى بصوت وحرف ما ليس بصوت وحرف. وليس القرآن إلا سوراً مسورة، وآيات مسطرة، في صحف مطهرة. قال تعالى: { فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات } [354]: { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآياتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ } [355] { فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ } [356]. ويكتب لمن قرأ بكل حرف عشر حسنات. قال ﷺ: أما إني لا أقول (آلم) حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف. وهو المحفوظ في صدور الحافظين المسموع من ألسن التالين. قال الشيخ حافظ الدين النسفي رحمه الله في المنار: إن القرآن إسم للنظم والمعنى. وكذا قال غيره من أهل الأصول. وما ينسب إلى أبي حنيفة رحمه الله: أن من قرأ في الصلاة بالفارسية أجزأه - فقد رجع عنه - وقال: لا يجوز القراءة مع القدرة بغير العربية. وقالوا: لو قرأ بغير العربية إما أن يكون مجنوناً فيداوى، أو زنديقاً فيقتل، لأن الله تكلم به بهذه اللغة، والإعجاز حصل بنظمه ومعناه.
وقوله: ومن سمعه وقال إنه كلام البشر فقد كفر. لا شك في تكفير من أنكر أن القرآن كلام الله، بل قال إنه كلام محمد أو غيره من الخلق، ملكاً كان أو بشراً. وأما إذا أقر أنه كلام الله، ثم أول وحرف - فقد وافق قول من قال: إن هذا إلا قول البشر. في بعض ما به كفر، وأولئك الذين استزلهم الشيطان - وسيأتي الكلام عليه عند قول الشيخ ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله إن شاء الله تعالى.
وقوله: ولا يشبه قول البشر، يعني أنه أشرف وأفصح وأصدق. قال تعالى: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً } [357]. وقال تعالى: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْل هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [358].
وقال تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِه } [359] وقال تعالى: { قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ } [360]. فلما عجزوا - وهم فصحاء العرب، مع شدة العداوة - عن الإتيان بسورة مثله، تبين صدق الرسول ﷺ أنه من عند الله. وإعجازه من جهة نظمه ومعناه، لا من جهة أحدهما فقط. هذا مع أنه قرآن عربي غير ذي عوج بلسان عربي مبين، أي بلغة العربية.
فنفي المشابهة من حيث التكلم، ومن حيث التكلم به، ومن حيث النظم والمعنى، لا من حيث الكلمات والحروف. وإلى هذا وقعت الإشارة بالحروف المقطعة في أوائل السور، أي أنه في أسلوب كلامهم وبلغتهم التي يخاطبون بها. ألا ترى أنه يأتي بعد الحروف المقطعة بذكر القرآن ؟ { ألم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ } [361]، { آلم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ* نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ } [362]. الآية { ألمص * كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْك } [363] الآية { الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ } [364].
وكذلك الباقي ينبههم أن هذا الرسول الكريم لم يأتكم بما لا تعرفونه بل خاطبكم بلسانكم، ولكن أهل المقالات الفاسدة يتذرعون بمثل هذا إلى نفي تكلم الله به وسماع جبريل منه.
كما يتذرعون بقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [365] إلى نفي الصفات وفي الآية مايرد عليهم قولهم، وهو قوله تعالى { وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } [366].
كما في قوله تعالى: { فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِه } [367]. ما يرد على من ينفي الحرف، فإنه قال: فاتوا بسورة، ولم يقل فأتوا بحرف، أو بكلمة. وأقصر سورة في القرآن ثلاث آيات. ولهذا قال أبو يوسف و محمد: إن أدنى ما يجزىء في الصلاة ثلاث آيات قصار أو آية طويلة، لأنه لا يقع الإعجاز بدون ذلك. والله أعلم.
قوله: (ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر)
ومن وصف الله بمعنى من معاني البشر، فقد كفر، من أبصر هذا اعتبر. وعن مثل قول الكفار انزجر. علم أنه بصفاته ليس كالبشر
شرح: لما ذكر فيما تقدم أن القرآن كلام الله حقيقة، منه بدا، نبه بعد ذلك على أنه تعالى بصفاته ليس كالبشر، نفياً للتشبيه عقيب الإثبات، يعني أن الله تعالى وإن وصف بأنه متكلم، لكن لا يوصف بمعنى من معاني البشر التي يكون الإنسان بها متكلماً، فإن الله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وما أحسن المثل المضروب للمثبت للصفات من غير تشبيه ولا تعطيل -: باللبن الخالص السائغ للشاربين، يخرج من بين فرث التعطيل ودم التشبيه. والمعطل يعبد عدماً، والمشبه يعبد صنماً. وسيأتي في كلام الشيخ: ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه. وكذا قوله: وهو بين التشبيه والتعطيل. أي دين الاسلام، ولا شك أن التعطيل شر من التشبيه، بما سأذكره إن شاء الله تعالى. وليس ما وصف الله به نفسه ولا ما وصفه به رسوله تشبيهاً، بل صفات الخالق كما يليق به، وصفات المخلوق كما يليق به.
وقوله: فمن أبصر هذا اعتبر. أي من نظر بعين بصيرته فيما قاله من إثبات الوصف ونفي التشبيه ووعيد المشبه اعتبر وانزجر عن مثل قول الكفار.
قوله: (والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية)
والرؤية حق لأهل الجنة، بغير إحاطة ولا كيفية، كما نطق به كتاب ربنا: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [368]. وتفسيره على ما أراد الله تعالى وعلمه، وكل ما جاء في ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله ﷺ فهو كما قال[369]، ومعناه على ما أراد، لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا، فانه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ﷺ. ورد علم ما أشتبه عليه إلى عالمه).
شرح: المخالف في الرؤية الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الخوارج والإمامية. وقولهم باطل مردود بالكتاب والسنة. وقد قال بثبوت الرؤية الصحابة والتابعون، وأئمة الإسلام المعروفون بالإمامة في الدين، وأهل الحديث، وسائر طوائف أهل الكلام المنسوبون إلى السنة والجماعة.
وهذه المسألة من أشرف مسائل أصول الدين وأجلها، وهي الغاية التي شمر إليها المشمرون، وتنافس المتنافسون، وحرمها الذين هم عن ربهم محجوبون، وعن بابه مردودون.
وقد ذكر الشيخ رحمه الله من الأدلة قوله تعالى: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ* إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [370]. وهي من أظهر الأدلة. وأما من أبى إلا تحريفها بما يسميه تأويلاً -: فتأويل نصوص المعاد والجنة والنار والحساب، أسهل من تأويلها على أرباب التأويل. ولا يشاء مبطل أن يتأول النصوص ويحرفها عن مواضعها إلا وجد إلى ذلك من السبيل ما وجده متأول هذه النصوص.
وهذا الذي أفسد الدنيا والدين. وهكذا فعلت اليهود والنصارى في نصوص التوراة والإنجيل، وحذرنا الله أن نفعل مثلهم. وأبى المبطلون إلا سلوك سبيلهم، وكم جنى التأويل الفاسد على الدين وأهله من جناية. فهل قتل عثمان رضي الله عنه إلا بالتأويل الفاسد ؟ وكذا ما جرى في يوم الجمل، وصفين، ومقتل الحسين، والحرة ؟ وهل خرجت الخوارج، واعتزلت المعتزلة، ورفضت الروافض، وافترقت الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إلا بالتأويل الفاسد؟ !
وإضافة النظر إلى الوجه، الذي هو محله، في هذه الآية، وتعديته بأداة إلى الصريحة في نظر العين، وإخلاء الكلام من قرينة تدل على خلافه حقيقة موضوعة صريحة في أن الله أراد بذلك نظر العين التي في الوجه إلى الرب جل جلاله.
فإن النظر له عدة استعمالات، بحسب صلاته وتعديه بنفسه: فإن عدي بنفسه فمعناه: التوقف والإنتظار: كقوله: { انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ } [371] وإن عدي بـ (في) فمعناه: التفكر والاعتبار، كقوله: { أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [372] وإن عدي بـ (إلى) فمعناه: المعاينة بالأبصار، كقوله تعالى: { انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَر } [373] فكيف إذا أضيف إلى الوجه الذي هو محل البصر؟! وروى ابن مردويه بسنده إلى ابن عمر قال: { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ } [374] قال: من البهاء والحسن إلى ربها ناظرة، قال في وجه الله عز وجل. عن الحسن قال: نظرت إلى ربها فنضرت بنوره. وقال أبو صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما، إلى ربها ناظرة قال: تنظر إلى وجه ربها عز وجل. وقال عكرمة: وجوه يومئذ ناضرة، قال: من النعيم، إلى ربها ناظرة، قال: تنظر إلى ربها نظراً، ثم حكى عن ابن عباس مثله. وهذا قول المفسرين من أهل السنة والحديث.
وقال تعالى: { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } [375] قال: الطبري: قال علي بن أبي طالب، وأنس بن مالك هو النظر إلى وجه الله عز وجل، وقال تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [376] فالحسنى: الجنة، والزيادة: هي النظر إلى وجهه الكريم، فسرها بذلك رسول الله ﷺ والصحابة من بعده، كما روى مسلم في صحيحه عن صهيب قال: (قرأ رسول الله ﷺ: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [377]، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، نادى مناد: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو ؟ ألم يثقل موازيننا ويبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار ؟ فيكشف الحجاب، فينظرون إليه، فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر اليه، وهي الزيادة. ورواه غيره بأسانيد متعددة وألفاظ أخر، معناها أن الزيادة النظر إلى وجه الله عز وجل. وكذلك فسرها الصحابة رضي الله عنهم. روى ابن جرير ذلك عن جماعة، منهم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، و حذيفة، و أبو موسى الاشعري، و ابن عباس، رضي الله عنهم.
وقال تعالى: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [378]. احتج الشافعي رحمه الله وغيره من الأئمة بهذه الآية على الرؤية لأهل الجنة، ذكر ذلك الطبري وغيره عن المزني عن الشافعي. وقال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع ابن سليمان قال: حضرت محمد بن إدريس الشافعي، وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول الله عز وجل: { كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ } [379] ؟ فقال الشافعي: لما أن حجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى.
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى: { قَالَ لَنْ تَرَانِي } [380] وبقوله تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَار } [381] - فالآيتان دليل عليهم:
أما الآية الأولى: فالاستدلال منها على ثبوت رؤيته من وجوه:
أحدها: أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته - أن يسأل ما لا يجوز عليه، بل هو عندهم من أعظم المحال.
الثاني: أن الله لم ينكر عليه سؤاله، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله، وقال: { إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ } [382].
الثالث: أنه تعالى قال: لن تراني، ولم يقل: اني لا أرى، أو لا تجوز رؤيتي، أو لست بمرئي. والفرق بين الجوابين ظاهر. ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعاماً فقال: أطعمنيه، فالجواب الصحيح: أنه لا يؤكل، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال: إنك لن تأكله. وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار، لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى. يوضحه:
الوجه الرابع: وهو قوله: { وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } [383]. فأعلمه أن الجبل مع قوته وصلابته لا يثبت للتجلي في هذه الدار، فكيف بالبشر الذي خلق من ضعف ؟
الخامس: أن الله سبحانه قادر على أن يجعل الجبل مستقراً، وذلك ممكن، وقد علق به الرؤية، ولو كانت محالاً لكان نظير أن يقول: إن استقر الجبل فسوف آكل وأشرب وأنام. والكل عندهم سواء.
السادس: قوله تعالى: { فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّا } [384]، فإذا جاز أن يتجلى للجبل، الذي هو جماد لاثواب له ولا عقاب، فكيف يمتنع أن يتجلى لرسوله وأوليائه في دار كرامته ؟ ولكن الله أعلم موسى أن الجبل إذا لم يثبت لرؤيته في هذه الدار، فالبشر أضعف.
السابع: أن الله كلم موسى وناداه وناجاه، ومن جاز عليه التكلم والتكليم وأن يسمع مخاطبه كلامه بغير واسطة - فرؤيته أولى بالجواز. ولهذا لا يتم إنكار رؤيته إلا بإنكار كلامه، وقد جمعوا بينهما. وأما دعواهم تأييد النفي بـ لن وأن ذلك يدل على نفي الرؤية في الآخرة -: ففاسد، فإنها لو قيدت بالتأبيد لا يدل على دوام النفي في الآخرة، فكيف إذا أطلقت ؟
قال تعالى: { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً } [385] مع قوله: { وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [386] ولأنها لو كانت للتأبيد المطلق لما جاز تحديد الفعل بعدها، وقد جاء ذلك، قال تعالى: { فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } [387]. فثبت أن لن لا تقتضي النفي المؤبد.
قال الشيخ جمال الدين ابن مالك رحمه الله:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا | فقوله أردد وسواه فاعضدا |
وأما الآية الثانية: فالاستدلال بها على الرؤية من وجه حسن لطيف، وهو: أن الله تعالى إنما ذكرها في سياق التمدح، ومعلوم أن المدح إنما يكون بالصفات الثبوتية، وأما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمراً وجودياً، كمدحه بنفي السنة والنوم، المتضمن كمال القيومية، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة، ونفي اللغوب والإعياء، المتضمن كمال القدرة، ونفي الشريك والصاحبة والولد والظهير، المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره، ونفي الأكل والشرب المتضمن كمال صمديته وغناه، ونفي الشفاعة عنده إلا بإذنه المتضمن كمال توحده وغناه عن خلقه، ونفي الظلم، المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه، المتضمن كمال علمه وإحاطته، ونفي المثل، المتضمن لكمال ذاته وصفاته. ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمراً ثبوتياً، فإن المعدم يشارك الموصوف في ذلك العدم، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه، فإن المعنى: أنه يرى ولا يدرك ولا يحاط به، فقوله: { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [388]، يدل على كمال عظمته، وأنه أكبر من كل شيء، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به، فإن الإدراك هو الإحاطة بالشيء، وهو قدر زائد على الرؤية، كما قال تعالى: { فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ* قَالَ كَلَّا } [389]، فلم ينف موسى الرؤية، وإنما نفى الإدراك، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر وبدونه، فالرب تعالى يرى ولا يدرك، كما يعلم ولا يحاط به علماً، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية، كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية. بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه.
وأما الأحاديث عن النبي ﷺ وأصحابه، الدالة على الرؤية فمتواترة، رواها أصحاب الصحاح والمسانيد والسنن. فمنها: حديث أبي هريرة: أن ناساً قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة ؟ فقال رسول الله ﷺ: هل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر ؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: هل تضارون في الشمس ليس دونها سحاب ؟ قالوا: لا، قال فإنكم ترونه كذلك، الحديث، [390]. وحديث أبي سعيد الخدري أيضاً في الصحيحين نظيره. وحديث جرير بن عبد الله البجلي، قال: كنا جلوساً مع النبي ﷺ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة، فقال: إنكم سترون ربكم عياناً، كما ترون هذا، لا تضامون في رؤيته، [391]. وحديث صهيب المتقدم، [392]. وحديث أبي موسى عن النبي ﷺ، قال: وجنتان من فضة، آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب، آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن يروا ربهم تبارك وتعالى إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن، [393]. ومن حديث عدي بن حاتم: وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه، وليس بينه وبينه حجاب ولا ترجمان يترجم له، فيقول: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلغك ؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك ؟ فيقول، بلى يا رب. [394].
وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابياً. ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها، ولولا أني التزمت الأختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث.
ومن أراد الوقوف عليها فليواظب سماع الأحاديث النبوية، فإن فيها مع إثبات الرؤية أنه يكلم من شاء إذا شاء، وأنه يأتي لفصل القضاء يوم القيامة، وأنه فوق العالم، وأنه يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، وأنه يتجلى لعباده، وأنه يضحك، إلى غير ذلك من الصفات التي سماعها على الجهمية بمنزلة الصواعق. وكيف تعلم أصول دين الإسلام من غير كتاب الله وسنة رسوله ؟ وكيف يفسر كتاب الله بغير ما فسره به رسوله ﷺ وأصحابه رضوان الله عليهم، الذين نزل القرآن بلغتهم ؟ وقد قال ﷺ: من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار.
وفي رواية: من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار. وسئل أبو بكر رضي الله عنه عن قوله تعالى: { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [395]. ما الأب ؟ فقال: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم ؟
وليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله، بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية، لا تشبيه المرئي بالمرئي، ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه. وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة ؟ ومن قال: يرى لا في جهة - فليراجع عقله ! ! فإما أن يكون مكابراً لعقله وفي عقله شيء، وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته، رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة.
ولهذا ألزم المعتزلة من نفي العلو بالذات بنفي الرؤية، وقالوا: كيف تعقل رؤية بلا مقابلة بغير جهة، وإنما لم نره في الدنيا لعجز أبصارنا، لا لامتناع الرؤية، فهذه الشمس إذا حدق الرائي البصر في شعاعها ضعف عن رؤيتها، لا لامتناع في ذات المرئي، بل لعجز الرائي، فإذا كان في الدار الآخرة أكمل الله قوى الآدميين حتى أطاقوا رؤيته. ولهذا لما تجلى الله للجبل: { وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ { [396] بأنه لا يراك حي إلا مات ولا يابس إلا تدهده، ولهذا كان البشر يعجزون عن رؤية الملك في صورته إلا من أيده الله كما أيد نبينا قال تعالى: { وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ } [397]. قال غير واحد من السلف: لا يطيقون أن يروا الملك في صورته، فلو أنزلنا عليهم ملكاً لجعلناه في صورة بشر، وحينئذ يشتبه عليهم: هل هو بشر أو ملك ؟ ومن تمام نعمة الله علينا أن بعث فينا رسولاً منا.
وما ألزمهم المعتزلة هذا الإلزام إلا لما وافقوهم على أنه لا داخل العالم ولا خارجه. لكن قول من أثبت موجوداً يرى لا في جهة - أقرب إلى العقل من قول من أثبت موجوداً قائماً بنفسه لا يرى ولا في جهة.
ويقال لمن قال بنفي الرؤية لانتفاء لازمها وهو الجهة: أتريد بالجهة أمراً وجودياً ؟ أو أمراً عدمياً ؟ فإن أراد بها أمراً وجودياً كان التقرير: كل ما ليس في شيء موجود لا يرى، وهذه المقدمة ممنوعة، ولا دليل على إثباتها، بل هي باطلة، فإن سطح العالم يمكن أن يرى، وليس العالم في عالم آخر. وإن أردت بالجهة أمراً عدمياً، فالمقدمة الثانية ممنوعة، فلا نسلم أنه ليس في جهة بهذا الاعتبار.
وكيف يتكلم في أصول الدين من لا يتلقاه من الكتاب والسنة، وإنما يتلقاه من قول فلان ؟! وإذا زعم أنه يأخذه من كتاب الله لا يتلقى تفسير كتاب الله من أحاديث الرسول، ولا ينظر فيها، ولا فيما قاله الصحابة والتابعون لهم بإحسان، المنقول إلينا عن الثقات النقلة، الذين تخيرهم النقاد، فانهم لم ينقلوا نظم القرآن وحده، بل نقلوا نظمه ومعناه، ولا كانوا يتعلمون القرآن كما يتعلم الصبيان، بل يتعلمونه بمعانيه. ومن لا يسلك سبيلهم فإنما يتكلم برأيه، ومن يتكلم برأيه وما يظنه دين الله ولم يتلق ذلك من الكتاب فهو مأثوم وإن أصاب، ومن أخذ من الكتاب والسنة فهو مأجور وإن أخطأ، لكن إن أصاب يضاعف أجره.
وقوله: والرؤية حق لأهل الجنة، تخصيص أهل الجنة بالذكر، يفهم منه نفي الرؤية عن غيرهم. ولا شك في رؤية أهل الجنة لربهم في الجنة، وكذلك يرونه في المحشر قبل دخولهم الجنة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن رسول الله ﷺ.
ويدل عليه قوله تعالى: { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ } [398]. واختلف في رؤية أهل المحشر على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه لا يراه إلا المؤمنون.
الثاني: يراه أهل الموقف، مؤمنهم وكافرهم، ثم يحتجب عن الكفار ولا يرونه بعد ذلك.
الثالث: يراه مع المؤمنين المنافقون دون بقية الكفار. وكذلك الخلاف في تكليمه لأهل الموقف.
واتفقت الأمه على أنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه، ولم يتنازعوا في ذلك إلا في نبينا ﷺ خاصة: منهم من نفى رؤيته بالعين، ومنهم من أثبتها له ﷺ. وحكى القاضي عياض في كتابه الشفا اختلاف الصحابة ومن بعدهم في رؤيته ﷺ، وإنكار عائشة رضي الله عنها أن يكون ﷺ رأى ربه بعين رأسه، وأنها قالت لمسروق حين سألها: هل رأى محمد ربه ؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت، ثم قالت: من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب. ثم قال: وقال جماعة بقول عائشة رضي الله عنها، وهو المشهور عن ابن مسعود و أبي هريرة واختلف عنه، وقال بإنكار هذا وامتناع رؤيته في الدنيا جماعة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه ﷺ رآه بعينه، وروى عطاء عنه: أنه رآه بقلبه. ثم ذكر أقوالاً وفوائد، ثم قال: وأما وجوبه لنبينا ﷺ والقول بأنه رآه بعينه فليس فيه قاطع ولا نص، والمعول فيه على آيتي النجم، والتنازع فيهما مأثور، والاحتمال لهما ممكن، وهذا القول الذي قاله القاضي عياض رحمه الله هو الحق، فإن الرؤية في الدنيا ممكنة، إذ لو لم تكن ممكنة، لما سألها موسى عليه السلام، لكن لم يرد نص بأنه ﷺ رأى ربه بعين رأسه، بل ورد ما يدل على نفي الرؤية، [399]، عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله ﷺ هل رأيت ربك ؟ فقال: نور أنى أراه. و في رواية: رأيت نوراً.
وقد روى مسلم أيضاً عن أبي موس الاشعري رضي الله عنه أنه قال: قام فينا رسول الله ﷺ بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، ( وفي رواية: النار )، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. فيكون - والله أعلم - معنى قوله لأبي ذر رأيت نوراً: أنه رأى الحجاب، ومعنى قوله نور أنى أراه. النور الذي هو الحجاب يمنع من رؤيته، فأنى أراه ؟ أي فكيف أراه والنور حجاب بيني وبينه يمنعني من رؤيته ؟ فهذا صريح في نفي الرؤية. والله أعلم.
وحكى عثمان بن سعيد الدارمي اتفاق الصحابة على ذلك، ونحن إلى تقرير رؤيته لجبريل أحوج منا إلى تقرير رؤيته لربه تعالى، وإن كانت رؤية الرب تعالى أعظم وأعلى، فإن النبوة لا يتوقف ثبوتها عليها البتة.
وقوله: بغير إحاطة ولا كيفية - هذا لكمال عظمته وبهائه، سبحانه وتعالى، لا تدركه الأبصار ولا تحيط به، كما يعلم ولا يحاط به علماً. قال تعالى: { لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ } [400] وقال تعالى: { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [401].
وقوله: وتفسيره على ما أراد الله وعلمه، إلى أن قال: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا. أي كما فعلت المعتزلة بنصوص الكتاب والسنة في الرؤية، وذلك تحريف لكلام الله وكلام رسوله عن مواضعه. فالتأويل الصحيح هو الذي يوافق ما جاءت به السنة، والفاسد المخالف له. فكل تأويل لم يدل عليه دليل من السياق، ولا معه قرينة تقتضيه، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره، حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ، فإن الله أنزل كلامه بياناً وهدىً، فإذا أراد به خلاف ظاهره، ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد، لم يكن بياناً ولا هدىً. فالتأويل إخبار بمراد المتكلم، لا إنشاء.
وفي هذا الموضع يغلط كثير من الناس، فإن المقصود فهم مراد المتكلم بكلامه، فإذا قيل: معنى اللفظ كذا وكذا، كان إخباراً بالذي عنى المتكلم، فإن لم يكن الخبر مطابقاً كان كذباً على المتكلم، ويعرف مراد المتكلم بطرق متعددة: منها: أن يصرح بإرادة ذلك المعنى. ومنها: أن يستعمل اللفظ الذي له معنى ظاهر بالوضع، ولا يبين بقرينة تصحب الكلام أنه لم يرد ذلك المعنى، فكيف إذا حف بكلامه ما يدل على أنه إنما أراد حقيقته وما وضع له، كقوله: { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً } [402]. و إنكم ترون ربكم عياناً كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب. فهذا مما يقطع به السامع له بمراد المتكلم، فإذا أخبر عن مراده بما دل عليه حقيقة لفظه الذي وضع له مع القرائن المؤكدة، كان صادقاً في إخباره. وأما إذا تأول الكلام بما لا يدل عليه ولا اقترن به ما يدل عليه، فإخباره بأن هذا مراده كذب عليه، وهو تأويل بالرأي، وتوهم بالهوى.
وحقيقة الأمر: أن قول القائل: نحمله على كذا، أو: نتأوله بكذا، إنما هو من باب دفع دلالة اللفظ عما وضع له، فإن منازعه لما احتج عليه به ولم يمكنه دفع وروده، دفع معناه، وقال: أحمله على خلاف ظاهره.
فإن قيل: بل للحمل معنى آخر، لم تذكروه، وهو: أن اللفظ لما استحال أن يراد به حقيقته وظاهره، ولا يمكن تعطيله، استدللنا بوروده وعدم إرادة ظاهره على أن مجازه هو المراد، فحملناه عليه دلالة لا ابتداء.
قيل: فهذا المعنى هو الإخبار عن المتكلم أنه أراده، وهو إما صدق وإما كذب، كما تقدم، ومن الممتنع أن يريد خلاف حقيقته وظاهره ولا يبين للسامع المعنى الذي أراده، بل يعرف بكلامه ما يؤكد إرادة الحقيقة، ونحن لا نمنع أن المتكلم قد يريد بكلامه خلاف ظاهره، إذا قصد التعمية على السامع حيث يسوغ ذلك، ولكن المنكر أن يريد بكلامه خلاف حقيقته وظاهره إذا قصد البيان والإيضاح وإفهام مراده ! كيف والمتكلم يؤكد كلامه بما ينفي المجاز، ويكرره غير مرة، ويضرب له الامثال.
وقوله: فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ﷺ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه. أي: سلم لنصوص الكتاب والسنة، ولم يعترض عليها بالشكوك والشبه والتأويلات الفاسدة، أو بقوله: العقل يشهد بضد ما دل عليه النقل ! والعقل أصل النقل ! ! فإذا عارضه قدمنا العقل ! ! وهذا لا يكون قط. لكن إذا جاء ما يوهم مثل ذلك: فان كان النقل صحيحا فذلك الذي يدعى أنه معقول إنما هو مجهول، ولو حقق النظر لظهر ذلك.
وإن كان النقل غير صحيح فلا يصلح للمعارضة، فلا يتصور أن يتعارض عقل صريح ونقل صحيح أبداً. ويعارض كلام من يقول ذلك بنظيره، فيقال: اذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم النقل، لأن الجمع بين المدلولين جمع بين النقيضين، ورفعهما رفع النقيضين، وتقديم العقل ممتنع، لأن العقل قد دل على صحة السمع ووجوب قبول ما أخبر به الرسول ﷺ، فلو أبطلنا النقل لكنا قد أبطلنا دلالة العقل، ولو أبطلنا دلالة العقل لم يصلح أن يكون معارضا للنقل، لأن ما ليس بدليل لا يصلح لمعارضة شيء من الاشياء، فكان تقديم العقل موجبا عدم تقديمه، فلا يجوز تقديمه. وهذا بين واضح، فإن العقل هو الذي دل على صدق السمع وصحته، وأن خبره مطابق لمخبره، فإن جاز أن تكون الدلالة باطلة لبطلان النقل لزم أن لا يكون العقل دليلًا صحيحاً، وإذا لم يكن دليلاً صحيحاً لم يجز أن يتبع بحال، فضلاً عن أن يقدم، فصار تقديم العقل على النقل قدحاً في العقل.
فالواجب كمال التسليم للرسول ﷺ، والإنقياد لأمره، وتلقي خبره بالقبول والتصديق، دون أن نعارضه بخيال باطل نسميه معقولاً، أو نحمله شبهة أو شكاً، أو نقدم عليه آراء الرجال وزبالة أذهانهم، فنوحده بالتحكيم والتسليم والإنقياد والإذعان، كما نوحد المرسل بالعبادة والخصوع والذل والإنابة والتوكل.
فهما توحيدان، لا نجاة للعبد من عذاب الله إلا بهما: توحيد المرسل، وتوحيد متابعة الرسول، فلا نحاكم الى غيره، ولا نرضى بحكم غيره، ولا نوقف تنفيذ أمره وتصديق خبره على عرضه على قول شيخه وإمامه وذوي مذهبه وطائفته ومن يعظمه، فإن أذنوا له نفذه وقبل خبره، وإلا فإن طلب السلامة فوضه إليهم وأعرض عن أمره وخبره، وإلا حرفه عن مواضعه، وسمى تحريفه تأويلاً وحملاً، فقال: نؤوله ونحمله. فلأن يلقى العبد ربه بكل ذنب - ما خلا الإشراك بالله - خير له من أن يلقاه بهذه الحال. بل إذا بلغه الحديث الصحيح يعد نفسه كأنه سمعه من رسول الله ﷺ، فهل يسوغ أن يؤخر قبوله والعمل به حتى يعرضه على رأي فلان وكلامه ومذهبه ؟ ! بل كان الفرض المبادرة إلى امتثاله، من غير التفات إلى سواه، ولا يستشكل قوله لمخالفته رأي فلان، بل يستشكل الآراء لقوله، ولا يعارض نصه بقياس، بل نهدر الأقيسة، ونتلقى نصوصه، ولا نحرف كلامه عن حقيقته، لخيال يسميه أصحابه معقولا، نعم هو مجهول، وعن الصواب معزول ! ولا يوفق قبول قوله على موافقة فلان دون فلان، كائناً من كان.
قال الإمام أحمد: حدثنا أنس بن عياض، حدثنا أبو حازم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لقد جلست أنا وأخي مجلساً ما أحب أن لي به حمر النعم، أقبلت أنا وأخي، وإذا مشيخة من أصحاب رسول الله ﷺ جلوس عند باب من أبوابه، فكرهنا أن نفرق بينهم، فجلسنا حجرة، إذ ذكروا آية من القران، فتماروا فيها، حتى ارتفعت أصواتهم، فخرج رسول الله ﷺ مغضباً، قد احمر وجهه، يرميهم بالتراب، ويقول: مهلًا يا قوم ! بهذا أهلكت الأمم من قبلكم، باختلافهم على أنبيائهم، وضربهم الكتب بعضها ببعض، إن القرآن لم ينزل يكذب بعضه بعضاً، بل يصدق بعضه بعضاً، فما عرفتم منه فاعملوا به، وما جهلتم منه فردوه الى عالمه.
ولا شك أن الله قد حرم القول عليه بغير علم، قال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَالا تَعْلَمُونَ } [403] وقال تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ } [404].
فعلى العبد أن يجعل ما بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه هو الحق الذي يجب اتباعه، فيصدق بأنه حق وصدق، وما سواه من كلام سائر الناس يعرضه عليه، فإن وافقه فهو حق، وإن خالفه فهو باطل، وان لم يعلم: هل خالفه أو وافقه - يكون ذلك الكلام مجملاً لا يعرف مراد صاحبه، أوقد عرف مراده لكن لم يعرف هل جاء الرسول بتصديقه أو بتكذيبه - فإنه يمسك عنه، ولا يتكلم إلا بعلم، والعلم ما قام عليه الدليل، والنافع منه ما جاء به الرسول، وقد يكون علم من غير الرسول، لكن في الأمور الدنيوية، مثل الطب والحساب والفلاحة، وأما الأمور الإلهية والمعارف الدينية، فهذه العلم فيها ما أخذ عن الرسول لا غير.
قوله: (ولا تثبت قدم الإسلام الا على ظهر التسليم والاستسلام)
ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام [405]
شرح: هذا من باب الاستعارة، اذ القدم الحسي لا تثبت إلا على ظهر شيء. أي لا يثبت إسلام من لم يسلم لنصوص الوحيين، وينقاد إليها، ولا يعترض عليها ولا يعارضها برأيه ومعقوله وقياسه. روى البخاري عن الإمام محمد بن شهاب الزهري رحمه الله أنه قال: من الله الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التسليم. وهذا كلام جامع نافع.
وما أحسن المثل المضروب للنقل مع العقل، وهو: أن العقل مع النقل كالعامي المقلد مع العالم المجتهد، بل هو دون ذلك بكثير، فإن العامي يمكنه أن يصير عالماً، ولا يمكن العالم أن يصير نبياً رسولاً، فإذا عرف العامي المقلد عالماً، فدل عليه عامياً آخر. ثم اختلف المفتي والدال، فإن المستفتي يجب عليه قبول قول المفتي، دون الدال، فلو قال الدال: الصواب معي دون المفتي، لأني أنا الأصل في علمك بأنك مفت، فإذا قدمت قوله على قولي قدحت في الأصل الذي به عرف أنه مفت، فلزم القدح في فرعه ! فيقول له المستفتي: أنت لما شهدت له بأنه مفت، ودللت عليه، شهدت له بوجوب تقليده دونك، فموافقتي لك في هذا العلم المعين، لا تستلزم موافقتك في كل مسألة، وخطؤك فيما خالفت فيه المفتي الذي هو أعلم منك، لا يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت، هذا مع علمه أن ذلك المفتي قد يخطىء.
والعاقل يعلم أن الرسول معصوم في خبره عن الله تعالى، لا يجوز عليه الخطأ، فيجب عليه التسليم له والإنقياد لأمره، وقد علمنا بالإضطرار من دين الإسلام أن الرجل لو قال للرسول: هذا القرآن الذي تلقيه علينا، والحكمة التي جئتنا بها، قد تضمن كل منهما أشياء كثيرة تناقض ما علمناه بعقولنا، ونحن إنما علمنا صدقك بعقولنا، فلو قبلنا جميع ما تقوله مع أن عقولنا تناقض ذلك لكان قدحاً في ما علمنا به صدقك، فنحن نعتقد موجب العقول الناقضة لما ظهر من كلامك، وكلامك نعرض عنه، لا نتلقى منه هدياً ولا علماً، لم يكن مثل هذا الرجل مؤمناً بما جاء به الرسول، ولم يرض منه الرسول بهذا، بل يعلم أن هذا لو ساغ لأمكن كل أحد أن يؤمن بشيء مما جاء به الرسول، إذ العقول متفاوتة، والشبهات كثيرة، والشياطين لا تزال تلقي الوسواس في النفوس، فيمكن كل أحد أن يقول مثل هذا في كل ما أخبر به الرسول وما أمر به ! ! وقد قال تعالى: { وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ } [406]، وقال: { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [407] وقال: { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } [408]، { قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ } [409]، { حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ } [410]، { تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ } [411]، { مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [412]، { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [413].
ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. فأمر الإيمان بالله واليوم الآخر: إما أن يكون الرسول تكلم فيه بما يدل على الحق أم لا ؟ الثاني باطل، وإن كان قد تكلم بما يدل على الحق بألفاظ مجملة محتملة، فما بلغ البلاغ المبين، وقد شهد له خير القرون بالبلاغ، وأشهد الله عليهم في الموقف الأعظم، فمن يدعي أنه في أصول الدين لم يبلغ البلاغ المبين، فقد افترى عليه ﷺ.
قوله: (فمن رام علم ما حظر عنه علمه)
فمن رام علم ما حظر عنه علمه، ولم يقنع بالتسليم فهمه، حجبه مرامه عن خالص التوحيد، وصافي المعرفة، وصحيح الإيمان
شرح: هذا تقرير للكلام الأول، وزيادة تحذير أن يتكلم في أصول الدين - بل وفي غيرها- بغير علم. وقال تعالى: { وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [414] وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيد، كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِير } [415]، وقال تعالى: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ، ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ } [416] وقال تعالى: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } [417] وقال تعالى: { إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى } [418]. إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى.
وعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا: { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً } [419]. [420].
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله ﷺ: إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم. [421].
ولا شك أن من لم يسلم للرسول نقص توحيده، فإنه يقول برأيه وهواه، ويقلد ذا رأي وهوى بغير هدى من الله، فينقص من توحيده بقدر خروجه عما جاء به الرسول، فإنه قد اتخذه في ذلك إلهاً غير الله.
قال تعالى: { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ } [422]. أي: عبد ما تهواه نفسه. وإنما دخل الفساد في العالم من ثلاث فرق، كما قال عبد الله بن المبارك رحمه الله عليه:
رأيت الذنوب تميت القلوب | وقد يورث الذل إدمانها |
وترك الذنوب حياة القلوب | وخير لنفسك عصيانها |
وهل أفسد الدين إلا الملوك | وأحبار سوء ورهبانها |
فالملوك الجائرة يعترضون على الشريعة بالسياسات الجائرة، ويعارضونها بها، ويقدمونها على حكم الله ورسوله. وأحبار السوء، وهم العلماء الخارجون عن الشريعة بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك. والرهبان وهم جهال المتصوفة، المعترضون على حقائق الإيمان والشرع، بالأذواق والمواجيد والخيالات والكشوفات الباطلة الشيطانية، المتضمنة شرع دين لم يأذن به الله، وإبطال دينه الذي شرعه على لسان نبيه ﷺ، والتعوض عن حقائق الإيمان بخدع الشيطان وحظوظ النفس. فقال الأولون: إذا تعارضت السياسة والشرع قدمنا السياسة ! وقال الآخرون: إذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل ! وقال أصحاب الذوق إذا تعارض الذوق والكشف، وظاهر الشرع قدمنا الذوق والكشف.
ومن كلام أبي حامد الغزالي رحمه الله في كتابه الذي سماه إحياء علوم الدين وهومن أجل كتبه، أو أجلها: فإن قلت: فعلم الجدل والكلام مذموم كعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب اليه ؟ فاعلم أن للناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف. فمن قائل: أنه بدعة وحرام، وأن العبد أن يلقى الله بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام. ومن قائل: إنه فرض، إما على الكفاية، وإما على الأعيان، وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات، فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله. قال: وإلى التحريم ذهب الشافعي و مالك و أحمد بن حنبل و سفيان وجميع أئمة الحديث من السلف وساق الألفاظ عن هؤلاء. قال: وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. لا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه، قالوا: ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لما يتولد منه من الشر. وكذلك قال ﷺ: هلك المتنطعون. أي المتعمقون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان أهم ما يأمر به رسول الله ﷺ ويعلم طريقه ويثني على أربابه. ثم ذكر بقية استدلالهم، ثم ذكر استدلال الفريق الآخر. إلى أن قال: فإن قلت: فما المختار عندك ؟ فأجاب بالتفصيل، فقال: فيه منفعة، وفيه مضرة: فهو في وقت الانتفاع حلال أو مندوب أو واجب، كما يقتضيه الحال. وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام. قال: فأما مضرته، فإثارة الشبهات، وتحريف العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء، ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الأشخاص. فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة، وتثبيتها في صدورهم، بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل. قال: وأما منفعته، فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيئتها، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف، ولعل التخبيط والتضليل أكثر من الكشف والتعريف. قال: وهذا إذا سمعته من محدث أوحشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا، فاسمع هذا ممن خبر الكلام، ثم قاله بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين، وجاوز ذلك الى التعمق في علوم أخر سوى نوع الكلام، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور، ولكن على الندور. انتهى ما نقلته عن الغزالي رحمه الله.
وكلام مثله في ذلك حجة بالغة، والسلف لم يكرهوه لمجرد كونه اصطلاحاً جديدا على معان صحيحة، كالإصطلاح على ألفاظ العلوم الصحيحة، ولا كرهوا أيضاً الدلالة على الحق والمحاجة لأهل الباطل، بل كرهوه لاشتماله على أمور كاذبة مخالفة للحق.
ومن ذلك: مخالفتها للكتاب والسنة وما فيه من علوم صحيحة، فقد وعروا الطريق إلى تحصيلها، وأطالوا الكلام في إثباتها مع قلة نفعها، فهي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقى. وأحسن ما عندهم فهو في القرآن أصح تقريراً، وأحسن تفسيراً، فليس عندهم إلا التكلف والتطويل والتعقيد.
كما قيل:
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت | كتب التناظر لا المغني ولا العمد |
يحللون بـزعم منهـم عـــقدا | وبالذي وضعـوه زادت العـقد |
فهم يزعمون أنهم يدفعون بالذي وضعوه، الشبه والشكوك، والفاضل الذي يعلم أن الشبه والشكوك زادت بذلك.
ومن المحال أن لا يحصل الشفاء والهدى والعلم واليقين من كتاب الله وكلام رسوله، ويحصل من كلام هؤلاء المتحيرين. بل الواجب أن يجعل ما قاله الله ورسوله هو الأصل، ويتدبر معناه ويعقله، ويعرف برهانه ودليله العقلي والخبري السمعي، ويعرف دلالته على هذا وهذا، ويجعل أقوال الناس التي توافقه وتخالفه متشابهة مجملة، فيقال لأصحابها: هذه الألفاظ تحتمل كذا وكذا، فإن أرادوا بها ما يوافق خبر الرسول قبل، وإن أرادوا بها ما يخالفه رد.
وهذا مثل لفظ المركب والجسم والتحيز والجوهر والجهة والحيز والعرض، ونحو ذلك. فإن هذه الألفاظ لم تأت في الكتاب والسنة بالمعنى الذي يريده أهل الاصطلاح، بل ولا في اللغة، بل هم يخصون بالتعبير بها عن معان لم يعبر غيرهم عنها بها، فتفسر تلك المعاني بعبارات أخر، وينظر ما دل عليه القرآن من الأدلة العقلية والسمعية، وإذا وقع الاستفسار والتفصيل تبين الحق من الباطل.
مثال ذلك، في التركيب. فقد صار له معان:
أحدها. التركيب من متباينين فأكثر. ويسمى: تركيب مزج، كتركيب الحيوان من الطبائع الأربع والأعضاء ونحو ذلك، وهذا المعنى منفي عن الله سبحانه وتعالى، ولا يلزم من وصف الله تعالى بالعلو نحوه من صفات الكمال، أن يكون مركباً بهذا المعنى المذكور.
والثاني: تركيب الجوار، كمصراعي الباب ونحو ذلك، ولا يلزم أيضاً من ثبوت صفاته تعالى إثبات هذا التركيب.
الثالث: التركيب من الأجزاء المتماثلة، وتسمى: الجواهر المفردة.
الرابع: التركيب من الهيولى والصورة، كالخاتم مثلا، هيولاه: الفضة، وصورته معروفة. وأهل الكلام قالوا: إن الجسم يكون مركباً من الجواهر المفردة، ولهم كلام في ذلك يطول، ولا فائدة فيه، وهو أنه: هل يمكن التركيب من جزئين، أو من أربعة، أو ستة، أو ثمانية، أو ستة عشر ؟ وليس هذا التركيب لازماً لثبوت صفاته تعالى وعلوه على خلقه. والحق أن الجسم غير مركب من هذه الأشياء، وإنما قولهم مجرد دعوى، وهذا مبسوط في موضعه.
الخامس: التركيب من الذات والصفات، هم سموه تركيباً لينفوا به صفات الرب تعالى، وهذا اصطلاح منهم لا يعرف في اللغة، ولا في استعمال الشارع، فلسنا نوافقهم على هذه التسمة ولا كرامة. ولئن سموا إثبات الصفات تركيباً -: فنقول لهم: العبرة للمعاني لا للألفاظ، سموه ما شئتم، ولا يترتب على التسمية بدون المعنى حكم ! فلو اصطلح على تسمية اللبن خمراً، لم يحرم بهذه التسمية.
السادس: التركيب من الماهية ووجودها، وهذا يفرضه الذهن أنهما غيران، وأما في الخارج، هل يمكن ذات مجردة عن وجودها، ووجودها مجرد عنها ؟ هذا محال. فترى أهل الكلام يقولون: هل ذات الرب وجوده أم غير وجوده ؟ ولهم في ذلك خبط كثير. وأمثلهم طريقة رأي الوقف والشك في ذلك. وكم يزول بالاستفسار والتفصيل كثير من الأضاليل والأباطيل.
وسبب الإضلال الإعراض عن تدبر كلام الله وكلام رسوله، والإشتغال بكلام اليونان والآراء المختلفة. وإنما سمي هؤلاء: أهل الكلام، لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً، وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد، وهو ما يضربونه من القياس لإيضاح ما علم بالحس، وإن كان هذا القياس وأمثاله ينتفع به في موضع آخر، ومع من ينكر الحس. وكل من قال برأيه وذوقه وسياسته - مع وجود النص، أو عارض النص بالمعقول - فقد ضاهى إبليس، حيث لم يسلم لأمر ربه، بل قال: (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين)[423]، وقال تعالى: ( من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظاً)[424]، وقال تعالى: (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)، [425]، وقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً)[426]، أقسم سبحانه بنفسه أنهم لا يؤمنون حتى يحكموا نبيه ويرضوا بحكمه ويسلموا.
قوله: (فيتذبذب بين الكفر والإيمان)
فيتذبذب بين الكفر والإيمان، والتصديق والتكذيب، والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً، شكاً، لا مؤمناً مصدقاً، ولا جاحداً مكذباً
شرح: يتذبذب: يضطرب ويتردد. وهذه الحالة التي وصفها الشيخ رحمه الله حال كل من عدل عن الكتاب والسنة إلى علم الكلام المذموم، أو أراد أن يجمع بينه وبين الكتاب والسنة، وعند التعارض يتأول النص ويرده إلى الرأي والآراء المختلفة، فيؤول أمره إلى الحيرة والضلال والشك، كما قال ابن رشد الحفيد، وهو من أعلم الناس بمذاهب الفلاسفة ومقالاتهم، في كتابه تهافت التهافت: ومن الذي قال في الإلهيات شيئا يعتد به ؟.
وكذلك الآمدي، أفضل أهل زمانه، واقف في المسائل الكبار حائر.
وكذلك الغزالي رحمه الله، انتهى آخر أمره إلى الوقف والحيرة في المسائل الكلامية، ثم أعرض عن تلك الطرق وأقبل على أحاديث الرسول ﷺ، فمات وصحيح الإمام البخاري على صدره. وكذلك أبو عبد الله محمد بن عمر الرازي، قال في كتابه الذي صنفه: أقسام اللذات:
نهاية إقدام العقول عقال | وغاية سعي العالمين ضلال |
وأرواحنا في وحشة من جسومنا | وحاصـل دنيانا أذى ووبال |
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا | سوى أن جمعنا فيه: قيل وقالوا |
فكم قد رأينا من رجال ودولة | فبادوا جميعا مسرعين وزالوا |
وكم مــن جبال قد علت شرفاتها | رجال، فزالوا والجبال جبال |
لقد تأملت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً، ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [427] { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ } [428].
وأقرأ في النفي: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [429] { وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [430]. ثم قال: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
وكذلك قال الشيخ أبو عبد الله محمد بن عبد الكريم الشهرستاني، إنه لم يجد عند الفلاسفة والمتكلمين إلا الحيرة والندم، حيث قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها | وسيرت طرفي بين تلك المعالم |
فلم أر إلا واضعاً كف حـــــائر | عـلى ذقن أو قارعاً سن نادم |
وكذلك قال أبو المعالي الجويني: يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي إلى ما بلغ ما اشتغلت به.
وقال عند موته: لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن فإن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا ذا أموت على عقيدة أمي، أو قال: على عقيدة عجائز نيسابور.
وكذلك قال شمس الدين الخسروشاهي، وكان من أجل تلامذة فخر الدين الرازي، لبعض الفضلاء، وقد دخل عليه يوماً، فقال: ما تعتقده ؟ قال: ما يعتقده المسلمون، فقال: وأنت منشرح الصدر لذلك مستيقن به ؟ أو كما قال، فقال: نعم، فقال: أشكر الله على هذه النعمة، لكني والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، والله ما أدري ما أعتقد، وبكى حتى أخضل لحيته. و لابن أبي الحديد. الفاضل المشهور بالعراق:
فيك يا أغلوطة الفكـــــــر | حار أمري وانقضى عمري |
سافرت فيك العقـــــــــول | فما ربحت إلا أذى السفــر |
فلحى الله الأولى زعموا | أنك المعروف بالنظـــــــــر |
كذبوا إن الذي ذكـــــروا | خارج عن قوة البشـــــــــر |
وقال الخوفجي عند موته: ما عرفت مما حصلته شيئاً سوى أن الممكن يفتقر إلى المرجح، ثم قال: الإفتقار وصف سلبي، أموت وما عرفت شيئاً.
وقال آخر: أضطجع على فراشي وأضع اللحفة على وجهي، وأقابل بين حجج هؤلاء وهؤلاء حتى يطلع الفجر، ولم يترجح عندي منها شيء.
ومن يصل إلى مثل هذه الحال إن لم يتداركه الله برحمته وإلا تزندق، كما قال أبو يوسف: من طلب الدين بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب.
وقال الشافعي رحمه الله: حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في القبائل والعشائر، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على الكلام. وقال: لقد اطلعت من أهل الكلام على شيء ماظننت مسلماً يقوله، ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه -ما خلا الشرك بالله - خير له من أن يبتلى بالكلام. انتهى.
وتجد أحد هؤلاء عند الموت يرجع إلى مذهب العجائز، فيقر بما أقروا به ويعرض عن تلك الدقائق المخالفة لذلك، التي كان يقطع بها، ثم تبين له فسادها، أو لم يتبين له صحتها، فيكونون في نهاياتهم - إذا سلموا من العذاب - بمنزلة أتباع أهل العلم من الصبيان والنساء والأعراب.
والدواء النافع لمثل هذا المرض، ما كان طبيب القلوب صلوات الله وسلامه عليه يقوله - إذا قام من الليل يفتتح الصلاة -: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم. [431].
توجه ﷺ إلى ربه بربوبية جبرائيل وميكائيل وإسرافيل أن يهديه لما اختلف فيه من الحق بإذنه، إذ حياة القلب بالهداية.
وقد وكل الله سبحانه هؤلاء الثلاثة بالحياة: فجبرائيل موكل بالوحي الذي هو سبب حياة القلوب، وميكائيل بالقطر الذي هو سبب حياة الأبدان وسائر الحيوان، وإسرافيل بالنفخ في الصور الذي هو سبب حياة العالم وعود الأرواح إلى أجسادها.
فالتوسل الى الله سبحانه بربوبية هذه الأرواح العظيمة الموكلة بالحياة، له تأثير عظيم في حصول المطلوب. والله المستعان.
قوله: (ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم، أو تأولها بفهم)
ولا يصح الإيمان بالرؤية لأهل دار السلام لمن اعتبرها منهم بوهم أو تأولها بفهم إذ كان تأويل الرؤية -وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية- بترك التأويل ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين، ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه.
شرح: يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على المعتزلة ومن يقول بقولهم في نفي الرؤية، وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته. فإن النبي ﷺ قال: إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر، الحديث: أدخل كاف التشبيه على ما المصدرية أو الموصولة بترون التي تتأول مع صلتها الى المصدر الذي هو الرؤية، فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي. وهذا بين واضح في أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها، ودفع الإحتمالات عنها. وماذا بعد هذا البيان وهذا الإيضاح ؟ ! فإذا سلط التأويل على مثل هذا النص، كيف يستدل بنص من النصوص ؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه: إنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر؟! ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ } [432].
ونحو ذلك مما استعمل فيه رأى التي من أفعال القلوب ! ! ولا شك أن ترى تارة تكون بصرية، وتارة تكون قلبية، وتارة تكون من رؤيا الحلم، وغير ذلك، ولكن ما يخلو الكلام من قرينة تخلص أحد معانيه من الباقي. وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني لكان مجملاً ملغزاً، لا مبيناً موضحاً. وأي بيان وقرينة فوق قوله: ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب ؟ فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر، أو برؤية القلب ؟ وهل يخفى مثل هذا إلا على من أعمى الله قلبه ؟
فإن قالوا: ألجأنا إلى هذا التأويل، حكم العقل بأن رؤيته تعالى محال لا يتصور إمكانها !
فالجواب: أن هذه دعوى منكم، خالفكم فيها أكثر العقلاء، وليس في العقل ما يحيلها، بل لو عرض على العقل موجود قائم بنفسه لا يمكن رؤيته لحكم بأن هذا محال.
وقوله: لمن اعتبرها منهم بوهم، أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا، فيتوهم تشبيهاً، ثم بعد هذا التوهم - إن أثبت ما توهمه من الوصف - فهو مشبه، وإن نفى الرؤية من أصلها لأجل ذلك التوهم - فهو جاحد معطل. بل الواجب دفع ذلك الوهم وحده، ولا يعم بنفيه الحق والباطل، فينفيهما رداً على من أثبت الباطل، بل الواجب رد الباطل وإثبات الحق.
وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله: ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه فإن هؤلاء المعتزلة يزعمون أنهم ينزهون الله بهذا النفي ! وهل يكون التنزيه بنفي صفة الكمال ؟ فإن نفي الرؤية ليس بصفة كمال، إذ المعدوم لا يرى، وإنما الكمال في إثبات الرؤية ونفي إدراك الرائي له إدراك إحاطة، كما في العلم، فإن نفي العلم به ليس بكمال، وإنما الكمال في إثبات العلم ونفي الإحاطة به علماً. فهو سبحانه لا يحاط به رؤية، كما لا يحاط به علماً.
وقوله: أو تأولها بفهم أي ادعى أنه فهم لها تأويلاً يخالف ظاهرها، وما يفهمه كل عربي من معناها، فإنه قد صار اصطلاح المتأخرين في معنى التأويل: أنه صرف اللفظ عن ظاهره، وبهذا تسلط المحرفون على النصوص، وقالوا: نحن نتأول ما يخالف قولنا، فسموا التحريف: تأويلاً، تزيينا له وزخرفة ليقبل، وقد ذم الله الذين زخرفوا الباطل، قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً } [433]. والعبرة للمعاني لا للألفاظ. فكم من باطل قد أقيم عليه دليل مزخرف عورض به دليل الحق. وكلامه هنا نظير قوله فيما تقدم: لا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا، ولا متوهمين بأهوائنا.
ثم أكد هذا المعنى بقوله: إذا كان تأويل الرؤية - وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية -: بترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين. ومراده ترك التأويل الذي يسمونه تأويلاً، وهو تحريف. ولكن الشيخ رحمه الله تأدب وجادل بالتي هي أحسن، كما أمر الله تعالى بقوله: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [434]. وليس مراده ترك كل ما يسمى تأويلاً، ولا ترك شيئاً من الظواهر لبعض الناس لدليل راجح من الكتاب والسنة. وإنما مراده ترك التأويلات الفاسدة المبتدعة، المخالفة لمذهب السلف، التي يدل الكتاب والسنة على فسادها، وترك القول على الله بلا علم.
فمن التأويلات الفاسدة، تأويل أدلة الرؤية، وأدلة العلو، وأنه لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً !
ثم قد صار لفظ التأويل مستعملاً في غير معناه الأصلي.
فالتأويل في كتاب الله وسنة رسوله: هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. فتأويل الخبر: هو عن المخبر به، وتأويل الأمر: نفس الفعل المأمور به. كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يقول في ركوعه: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي يتأول القرآن. وقال تعالى: { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقّ } [435]، ومنه تأويل الرؤيا، وتأويل العمل، كقوله: { هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ } [436] وقوله: { وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيث } [437] وقوله: { ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } [438] وقوله: { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [439] إلى قوله: { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً } [440]، فمن ينكر وقوع مثل هذا التأويل، والعلم بما تعلق بالأمر والنهي منه ؟ وأما ما كان خبراً، كالإخبار عن الله واليوم الآخر، فهذا قد لا يعلم تأويله، الذي هو حقيقته، إذ كانت لا تعلم بمجرد الإخبار، فإن المخبر إن لم يكن قد تصور المخبر به، أو ما يعرفه قبل ذلك - لم يعرف حقيقته، التي هي تأويله، بمجرد الإخبار. وهذا هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله. لكن لا يلزم من نفي العلم بالتأويل نفي العلم بالمعنى الذي قصد المخاطب إفهام المخاطب إياه، فما في القرآن آية إلا وقد أمر الله بتدبرها، وما أنزل آية إلا وهو يحب أن يعلم ما عنى بها، وان كان من تأويله ما لا يعلمه إلا الله. فهذا معنى التأويل في الكتاب والسنة وكلام السلف، وسواء كان هذا التأويل موافقاً للظاهر أو مخالفاً له.
والتأويل في كلام كثير من المفسرين، كابن جرير ونحوه، يريدون به تفسير الكلام وبيان معناه، سواء وافق ظاهره أو خالف، وهذا اصطلاح معروف. وهذا التأويل كالتفسير، يحمد حقه، ويرد باطله - وقوله تعالى: { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } الآية[441]، الآية - فيها قراءتان. قراءة من يقف على قوله ( إلا الله )، وقراءة من لا يقف عندها، وكلتا القراءتين حق.
ويراد بالأولى المتشابه في نفسه الذي استأثر الله بعلم تأويله. ويراد بالثانية المتشابه الإضافي الذي يعرف الراسخون تفسيره، وهو تأويله. ولا يريد من وقف على قوله ( إلا الله ) أن يكون التأويل بمعنى التفسير للمعنى، فإن لازم هذا أن يكون الله أنزل على رسوله كلاماً لا يعلم معناه جميع الأمة ولا الرسول، ويكون الراسخون في العلم لا حظ لهم في معرفة معناها سوى قولهم: { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا } [442].
وهذا القدر يقوله غير الراسخ في العلم من المؤمنين، والراسخون في العلم يجب امتيازهم عن عوام المؤمنين في ذلك.
وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله.
ولقد صدق رضي الله عنه، فإن النبي ﷺ دعا له وقال: اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل. [443].
ودعاؤه ﷺ لا يرد. قال مجاهد: عرضت المصحف على ابن عباس، من أوله إلى آخره، أقفه عند كل آية وأسله عنها. وقد تواترت النقول عنه أنه تكلم في جميع معاني القرآن، ولم يقل عن آية إنها من المتشابه الذي لا يعلم أحد تأويله إلا الله.
وقول الأصحاب رحمهم الله في الأصول: المتشابه: الحروف المقطعة في أوائل السور، ويروى هذا عن ابن عباس. مع أن هذه الحروف قد تكلم في معناها أكثر الناس، فإن كان معناها معروفاً، فقد عرف معنى المتشابه، وإن لم يكن معروفاً، وهي المتشابه، كان ما سواها معلوم المعنى، وهذا المطلوب.
وأيضا فإن الله قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } [444]. وهذه الحروف ليست آيات عند جمهور العادين.
والتأويل في كلام المتأخرين من الفقهاء والمتكلمين: هو صرف اللفظ عن الإحتمال الراجح إلى الإحتمال المرجوح لدلالة توجب ذلك. وهذا هو التأويل الذي تنازع الناس فيه في كثير من الأمور الخبرية والطلبية. فالتأويل الصحيح منه: الذي يوافق ما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما خالف ذلك فهو التأويل الفاسد، وهذا مبسوط في موضعه.
وذكر في التبصرة أن نصير بن يحيى البلخي روى عن عمرو بن إسماعيل بن حماد بن أبي يحيى بن محمد بن الحسن رحمهم الله: أنه سئل عن الآيات والأخبار التي فيها من صفات الله تعالى ما يؤدي ظاهره إلى التشبيه ؟ فقال: نمرها كما جاءت، ونؤمن بها، ولا نقول: كيف وكيف. ويجب أن يعلم أن المعنى الفاسد الكفري ليس هو ظاهر النص ولا مقتضاه، وأن من فهم ذلك منه فهو لقصور فهمه ونقص علمه، وإذا كان قد قيل في قول بعض الناس:
وكم من عائب قولاً صحيحاً | وآفته من الفهم السقيم |
وقيل:
علي نحت القوافي من معادنها | وما علي إذا لم تفهم البقر |
كيف يقال في قول الله، الذي هو أصدق الكلام وأحسن الحديث، وهو الكتاب الذي { أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [445].
إن حقيقة قولهم إن ظاهر القرآن. والحديث هو الضلال، وإنه ليس فيه بيان ما يصلح من الإعتقاد، ولا فيه بيان التوحيد والتنزيه ؟ ! هذا حقيقة قول المتأولين. والحق أن ما دل عليه القرآن فهو حق، وما كان باطلاً لم يدل عليه. والمنازعون يدعون دلالته على الباطل الذي يتعين صرفه !
فيقال لهم: هذا الباب الذي فتحتموه، وإن كنتم تزعمون أنكم تنتصرون به على إخوانكم المؤمنين في مواضع قليلة خفية -: فقد فتحتم عليكم باباً لأنواع المشركين والمبتدعين، لا تقدرون على سده، فإنكم إذا سوغتم صرف القرآن عن دلالته المفهومة بغير دليل شرعي، فما الضابط فيما يسوغ تأويله وما لا يسوغ ؟ فإن قلتم: ما دل القاطع العقلي على استحالته تأولناه، وإلا أقررناه ! قيل لكم: وبأي عقل نزن القاطع العقلي ؟ فإن القرمطي الباطني يزعم قيام القواطع على بطلان ظواهر الشرع ! ويزعم الفيلسوف قيام القواطع على بطلان حشر الأجساد ! ويزعم المعتزلي قيام القواطع على امتناع رؤية الله تعالى، وعلى امتناع قيام عالم أو كلام أو رحمة به تعالى ! !
وباب التأويلات التي يدعي أصحابها وجوبها بالمعقولات أعظم من أن تنحصر في هذا المقام، ويلزم حينئذ محذوران عظيمان:
أحدهما: أن لا نقر بشيء من معاني الكتاب والسنة حتى نبحث قبل ذلك بحوثاً طويلة عريضة في إمكان ذلك بالعقل ! وكل طائفة من المختلفين في الكتاب يدعون أن العقل يدل على ما ذهبوا إليه، فيؤول الأمر الى الحيرة المحذورة.
الثاني: أن القلوب تتخلى عن الجزم بشيء تعتقده مما أخبر به الرسول. اذ لا يوثق بأن الظاهر هو المراد، والتأويلات مضطربة، فيلزم عزل الكتاب والسنة عن الدلالة والإرشاد إلى ما أنبأ الله به العباد، وخاصة النبي هي الأنباء، والقرآن هو النبأ العظيم. ولهذا نجد أهل التأويل إنما يذكرون نصوص الكتاب والسنة للإعتضاد لا للإعتماد، إن وافقت ما ادعوا أن العقل دل عليه قبلوه، وإن خالفته أولوه ! وهذا فتح باب الزندقة، نسأل الله العافية.
قوله: (ومن لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه)
شرح: النفي والتشبيه مرضان من أمراض القلوب، فإن أمراض القلوب نوعان: مرض شبهة، ومرض شهوة، وكلاهما مذكور في القرآن، قال الله تعالى: { فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } [446]، فهذا مرض الشهوة، وقال تعالى: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً } [447] وقال تعالى: { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ } [448]. فهذا مرض الشبهة، وهو أردأ من مرض الشهوة، إذ مرض الشهوة يرجى له الشفاء بقضاء الشهوة، ومرض الشبهة لا شفاء له إن لم يتداركه الله برحمته. والشبهة التي في مسألة الصفات نفيها وتشبيهها، وشبه النفي أردأ من شبه التشبيه، فإن شبه النفي رد وتكذيب لما جاء به الرسول ﷺ، وشبه التشبيه غلو مجاوزة للحد فيما جاء به الرسول ﷺ. وتشبيه الله بخلقه كفر فإن الله تعالى يقول: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [449]، ونفي الصفات كفر، فان الله تعالى يقول: وهو السميع البصير. وهذا أصل نوعي التشبيه، فإن التشبيه نوعان: تشبيه الخالق بالمخلوق، وهذا الذي يتعب أهل الكلام في رده وإبطاله، وأهله في الناس أقل من النوع الثاني، الذين هم أهل تشبيه المخلوق بالخالق، كعباد المشايخ، وعزير، والشمس والقمر، والأصنام، والملائكة، والنار، والماء، والعجل، والقبور، والجن، وغير ذلك. وهؤلاء هم الذين أرسلت لهم الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
قوله: (فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية)
فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية، منعوت بنعوت الفردانية، ليس في معناه أحد من البرية
شرح: يشير الشيخ رحمه الله إلى تنزيه الرب تعالى بالذي هو وصفه كما وصف نفسه نفياً وإثباتاً. وكلام الشيخ مأخوذ من معنى سورة الإخلاص. فقوله: موصوف بصفات الوحدانية. مأخوذ من قوله تعالى: { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ } [450].
وقوله: منعوت بنعوت الفردانية. من قوله تعالى: { اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } [451].
وقوله: ليس في معناه أحد من البرية من قوله تعالى: ولم يكن له كفواً أحد. وهو أيضاً مؤكد لما تقدم من إثبات الصفات ونفي التشبيه. والوصف والنعت مترادفان، وقيل: متقاربان. فالوصف للذات، والنعت للفعل، وكذلك الوحدانية والفردانية. وقيل في الفرق بينهما: إن الوحدانية للذات، والفردانية للصفات، فهو تعالى موحد في ذاته، منفرد بصفاته.
وهذا المعنى حق ولم ينازع فيه أحد، ولكن في اللفظ نوع تكرير. وللشيخ نظير هذا التكرير في مواضع من العقيدة، وهو بالخطب والأدعية أشبه منه بالعقائد، والتسجيع بالخطب أليق. و ليس كمثله شيء. أكمل في التنزيه من قوله: ليس في معناه أحد من البرية.
قوله: ( وتعالى عن الحدود والغايات)
وتعالى عن الحدود والغايات، والأركان والأعضاء والأدوات، لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات [452]
شرح: أذكر بين يدي الكلام على عبارة الشيخ رحمه الله مقدمة، وهي: أن الناس في إطلاق مثل هذه الألفاظ ثلاثة أقوال: فطائفة تنفيها، وطائفة تثبتها، وطائفة تفصل، وهم المتبعون للسلف، فلا يطلقون نفيها ولا إثباتها الا إذا تبين، ما أثبت بها فهو ثابت، وما نفي بها فهو منفي. لأن المتأخرين قد صارت هذه الألفاظ في اصطلاحهم فيها إجمال وإبهام، كغيرها من الألفاظ الإصطلاحية، فليس كلهم يستعملها في نفس معناها اللغوي. ولهذا كان النفاة ينفون بها حقاً وباطلاً، ويذكرون عن مثبتها ما لا يقولون به، وبعض المثبتين لها يدخل لها معنى باطلاً، مخالفاً لقول السلف، ولما دل عليه الكتاب والميزان. ولم يرد نص من الكتاب ولا من السنة بنفيها ولا إثباتها، وليس لنا أن نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه ولا وصفه به رسوله نفياً ولا إثباتاً، وإنما نحن متبعون لا مبتدعون.
فالواجب أن ينظر في هذا الباب، أعني باب الصفات، فما أثبته الله ورسوله أثبتناه، وما نفاه الله ورسوله نفيناه. والألفاظ التي ورد بها النص يعتصم بها في الإثبات والنفي، فنثبت ما أثبته الله ورسوله من الألفاظ والمعاني. وأما الألفاظ التي لم يرد نفيها ولا اثباتها فلا تطلق حتى ينظر في مقصود قائلها: فإن كان معنى صحيحاً قبل، لكن ينبغي التعبير عنه بألفاظ النصوص، دون الألفاظ المجملة، إلا عند الحاجة، مع قرائن تبين المراد، والحاجة مثل أن يكون الخطاب مع من لا يتم المقصود معه إن لم يخاطب بها، ونحو ذلك.
والشيخ رحمه الله أراد الرد بهذا الكلام على المشبهة، كداود الجواربي وأمثاله القائلين: إن الله جسم، وانه جثة وأعضاء وغير ذلك ! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. فالمعنى الذي أراده الشيخ رحمه الله من النفي الذي ذكره هنا حق، لكن حدث بعده من أدخل في عموم نفيه حقاً وباطلاً، فيحتاج إلى بيان ذلك. وهو: أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حداً، وأنهم لا يحدون شيئاً من صفاته. قال أبو داود الطيالسيى: كان سفيان و شعبة و حماد بن زيد و حماد بن سلمة و شريك و أبو عوانة - لا يحدون ولا يشبهون ولا يمثلون، يروون الحديث ولا يقولون: كيف ؟ وإذا سئلوا قالوا بالأثر. وسيأتي في كلام الشيخ: وقد أعجز خلقه عن الإحاطة به. فعلم أن مراده أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحدة، لأن المعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم. سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف رنبا ؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه، قيل: بحد ؟ قال: بحد، انتهى. ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلاً، فإنه ليس وراء نفيه إلا نفي وجود الرب ونفي حقيقته. وأما الحد بمعنى العلم والقول، وهو أن يحده العباد، فهذا منتف بلا منازعة بين أهل السنة. قال أبو القاسم القشيري في رسالته: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، سمعت أبا منصور بن عبد الله، سمعت أبا الحسن العنبري، سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول، وقد سئل عن ذات الله فقال: ذات الله موصوفة بالعلم، غير مدركة بالإحاطة، ولا مرئية بالأبصار في دار الدنيا، وهي موجودة بحقائق الإيمان، من غير حد ولا إحاطة ولا حلول، وتراه العيون في العقبى، ظاهراً في ملكه وقدرته، وقد حجب الخلق عن معرفة كنه ذاته، ودلهم عليه بآياته، فالقلوب تعرفه، والعيون لا تدركه، ينظر إليه المؤمن بالأبصار، من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.
وأما لفظ الأركان والأعضاء والأدوات - فيستدل بها النفاة على نفي بعض الصفات الثابتة بالأدلة القطعية، كاليد والوجه. قال أبو حنيفة رضي الله عنه في الفقه الأكبر: له يد ووجه ونفس، كما ذكر تعالى في القرآن من ذكر اليد والوجه والنفس، فهو له صفة بلا كيف، ولا يقال: أن يده قدرته ونعمته، لأن فيه إبطال الصفة، انتهى. وهذا الذي قاله الإمام رضي الله عنه، ثابت بالأدلة القاطعة: قال تعالى: { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي } [453].
{ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } [454] وقال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ } [455]، { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ } [456] وقال تعالى: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } [457] وقال تعالى: { كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ } [458] وقال تعالى: { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } [459] وقال تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ } [460]
وقال ﷺ في حديث الشفاعة لما يأتي الناسُ آدم فيقولون له: ( خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ) الحديث. ولا يصح تأويل من قال: إن المراد باليد: القدرة، فإن قوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [461].
لا يصح أن يكون معناه بقدرتي مع تثنية اليد، ولو صح ذلك لقال إبليس: وأنا أيضاً خلقتني بقدرتك، فلا فضل له علي بذلك. فإبليس -مع كفره - كان أعرف بربه من الجهمية. ولا دليل لهم في قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } [462] لأنه تعالى جمع الأيدي لما أضافها إلى ضمير الجمع، ليتناسب الجمعان اللفظيان، للدلالة على الملك والعظمة. ولم يقل "أيديَّ" مضاف إلى ضمير المفرد ولا "يدينا" بتثنية اليد مضافة إلى ضمير الجمع فلم يكن قوله: { مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا } [463] نظير قوله: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ } [464].
وقال النبي ﷺ عن ربه عز وجل: حجابه النور، ولو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ولكن لا يقال لهذه الصفات إنها أعضاء، أو جوارح، أو أدوات، أو أركان، لأن الركن جزء الماهية، والله تعالى هو الأحد الصمد، لا يتجزأ، سبحانه وتعالى، والأعضاء فيها معنى التفريق والتعضية، تعالى الله عن ذلك، ومن هذا المعنى قوله تعالى: { الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ } [465]. والجوارح فيها معنى الإكتساب والإنتفاع. وكذلك الأدوات هي الآلات التي ينتفع بها في جلب المنفعة ودفع المضرة. وكل هذه المعاني منتفية عن الله تعالى، ولهذا لم يرد ذكرها في صفات الله تعالى. فالألفاظ الشرعية صحيحة المعاني، سالمة من الإحتمالات الفاسدة، فكذلك يجب أن لا يعدل عن الألفاظ الشرعية نفياً ولا إثباتاً، لئلا يثبت معنى فاسد، أو ينفى معنى صحيح. وكل هذه الألفاظ المجملة عرضة للمحق والمبطل.
وأما لفظ الجهة، فقد يراد به ما هو موجود، وقد يراد به ما هو معدوم، ومن المعلوم أنه لا موجود إلا الخالق والمخلوق،، فإذا أريد بالجهة أمر موجود غير الله تعالى كان مخلوقاً، والله تعالى لا يحصره شيء، ولا يحيط به شيء من المخلوقات، تعالى الله عن ذلك. وإن أريد بالجهة أمر عدمي، وهو ما فوق العالم، فليس هناك إلا الله وحده. فإذا قيل: إنه في جهة بهذا الاعتبار، فهو صحيح، ومعناه: أنه فوق العالم حيث انتهت المخلوقات فهو فوق الجميع، عال عليه. ونفاة لفظ الجهة الذين يريدون بذلك نفي العلو، يذكرون من أدلتهم: أن الجهات كلها مخلوقة، وأنه كان قبل الجهات، وأن من قال إنه في جهة يلزمه القول بقدم شيء من العالم، وأنه كان مستغنياً عن الجهة ثم صار فيها. وهذه الألفاظ ونحوها إنما تدل على أنه ليس في شيء من المخلوقات، سواء سمي جهة أو لم يسم، وهذا حق. ولكن الجهة ليست أمراً وجودياً، بل أمر اعتباري، ولا شك أن الجهات لا نهاية لها، وما لا يوجد فيما لا نهاية له فليس بموجود.
وقول الشيخ رحمه الله: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات. - هو حق، باعتبار أنه لا يحيط به شيء من مخلوقاته، بل هو محيط بكل شيء وفوقه. وهذا المعنى هو الذي أراده الشيخ رحمه الله، لما يأتي في كلامه: أنه تعالى محيط بكل شيء وفوقه. فإذا جمع بين كلاميه، وهو قوليه: لا تحويه الجهات الست كسائر المبتدعات، وقوله: محيط بكل شيء وفوقه - علم أن مراده أن الله تعالى لا يحويه شيء، ولا يحيط به شيء، كما يكون لغيره من المخلوقات، وأنه تعالى هو المحيط بكل شيء، العالي عن كل شيء.
لكن بقي في كلامه شيئان: أن إطلاق مثل هذا اللفظ - مع ما فيه من الإجمال والإحتمال - كان تركه أولى، وإلا تسلط عليه، وألزم بالتناقض في إثبات الإحاطة والفوقية ونفي جهة العلو، وإن أجيب عنه بما تقدم، من أنه إنما نفى أن يحويه شيء من مخلوقاته، فالإعتصام بالألفاظ الشرعية أولى.
الثاني: أن قوله: كسائر المبتدعات - يفهم منه أنه ما من مبتدع إلا وهو محوي ! ! وفي هذا نظر. فإنه إن أراد أنه محوي بأمر وجودي، فممنوع، فإن العالم ليس في عالم آخر، وإلا لزم التسلسل، وان أراد أمراً عدمياً، فليس كل مبتدع في العدم، بل منها ما هو داخل في غيره، كالسماوات والأرض في الكرسي، ونحو ذلك، ومنها ما هو منتهى المخلوقات، كالعرش. فسطح العالم ليس في غيره من المخلوقات، قطعاً للتسلسل، كما تقدم.
ويمكن أن يجاب عن هذا الإشكال: بأن سائر بمعنى البقية، لا بمعنى الجميع، وهذا أصل معناها، ومنه السؤر، وهو ما يبقيه الشارب في الإناء. فيكون مراده غالب المخلوقات، لا جميعها، إذ السائر على الغالب أدل منه على الجميع، فيكون المعنى: أن الله تعالى غير محوي - كما يكون أكثر المخلوقات محوياً، بل هو غير محوي - بشيء، تعالى الله عن ذلك.
ولا نظن بالشيخ رحمه الله أنه ممن يقول إن الله تعالى ليس داخل العالم ولا خارجه بنفي التعيينين، كما ظنه بعض الشارحين، بل مراده: أن الله تعالى منزه عن أن يحيط به شيء من مخلوقاته، وأن يكون مفتقراً إلى شيء منها، العرش أو غيره.
وفي ثبوت هذا الكلام عن الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه نظر، فإن أضداده قد شنعوا عليه بأشياء أهون منه، فلو سمعوا مثل هذا الكلام لشاع عنهم تشنيعهم عليه به، وقد نقل أبو مطيع البلخي عنه إثبات العلو، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وظاهر هذا الكلام يقتضي نفيه، ولم يرد بمثله كتاب ولا سنة، فلذلك قلت: إن في ثبوته عن الإمام نظراً، وان الأولى التوقف في إطلاقه، فإن الكلام بمثله خطر، بخلاف الكلام بما ورد عن الشارع، كالإستواء والنزول ونحو ذلك.
ومن ظن من الجهال أنه إذا نزل الى سماء الدنيا كما أخبر الصادق ﷺ - يكون العرش فوقه، ويكون محصوراً بين طبقتين من العالم ! فقوله مخالف لإجماع السلف، مخالف للكتاب والسنة.
وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني: سمعت الأستاذ أبا منصور بن حماد - بعد روايته حديث النزول - يقول: سئل أبو حنيفة رضي الله عنه ؟ فقال: ينزل بلا كيف. انتهى.
وإنما توقف من توقف في نفي ذلك، لضعف علمه بمعاني الكتاب والسنة وأقوال السلف، ولذلك ينكر بعضهم أن يكون فوق العرش، بل يقول: لا مباين، ولا مجانب، لا داخل العالم ولا خارجه، فيصفونه بصفة العدم والممتنع، ولا يصفونه بما وصف به نفسه من العلو والإستواء على العرش، ويقول بعضهم: بحلوله في كل موجود، أو يقول: هو وجود كل موجود ونحو ذلك، تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً.
وسيأتي لإثبات صفة العلو لله تعالى زيادة بيان، عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله: محيط بكل شيء وفوقه، إن شاء الله تعالى.
قوله: ( والمعراج حق)
والمعراج حق وقد أسري بالنبي ﷺ وعرج بشخصه في اليقظة إلى السماء، ثم إلى حيث شاء الله من العلا، وأكرمه الله بما شاء، وأوحى إليه ما أوحى ما كذب الفؤاد ما رأى [466]، فﷺ في الآخرة والأولى.
شرح: المعراج: مفعال، من العروج، أي الآلة التي يعرج فيها، أي يصعد، وهو بمنزلة السلم، لكن لايعلم كيف هو، وحكمه كحكم غيره من المغيبات، نؤمن به ولا نشتغل بكيفيته.
وقوله: وقد أسري بالنبي ﷺ وعرج بشخصه في اليقظة - اختلف الناس في الإسراء.
فقيل: كان الإسراء بروحه ولم يفقد جسده، نقله ابن إسحاق عن عائشة و معاوية رضي الله عنهما، ونقل عن الحسن البصري نحوه. لكن ينبغي أن يعرف الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناماً، وبين أن يقال: كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم. فعائشة ومعاوية رضي الله عنهما لم يقولا: كان مناماً، وإنما قالا: أسري بروحه ولم يفقد جسده، وفرق ما بين الأمرين: أن ما يراه النائم قد يكون أمثالاً مضروبة للمعلوم في الصورة المحسوسة، فيرى كأنه قد عرج إلى السماء، وذهب به إلى مكة، وروحه لم تصعد ولم تذهب، وانما ملك الرؤيا ضرب له المثال. فما أراد أن الإسراء مناماً، وإنما أراد أن الروح ذاتها أسري بها، ففارقت الجسد ثم عادت اليه، ويجعلان هذا من خصائصه، فإن غيره لا تنال ذات روحه الصعود الكامل إلى السماء إلا بعد الموت.
وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة، ومرة مناماً. وأصحاب هذا القول كأنهم أرادوا الجمع بين حديث شريك وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات. وكذلك منهم من قال: بل كان مرتين، مرة قبل الوحي، ومرة بعده. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل الوحي، ومرتين بعده. وكلما اشتبه عليهم لفظ زادوا مرة، للتوفيق ! ! وهذا يفعله ضعفاء أهل الحديث، وإلا فالذي عليه أئمة النقل: أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة، بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل: بسنة وشهرين، ذكره ابن عبد البر.
قال شمس الدين ابن القيم: يا عجباً لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مراراً ! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة يفرض عليهم الصلوات خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمساً، فيقول: أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي، ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها إلى خمس ؟ ! وقد غلط الحفاظ شريكاً في ألفاظ من حديث الإسراء، و مسلم أورد المسند منه، ثم قال: فقدم وأخر وزاد ونقص. ولم يسرد الحديث. وأجاد رحمه الله. انتهى كلام الشيخ شمس الدين رحمه الله.
وكان من حديث الإسراء: أنه ﷺ أسري بجسده في اليقظة، على الصحيح، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، راكباً على البراق، صحبة جبرائيل عليه السلام، فنزل هناك، صلى بالأنبياء إماماً، وربط البراق بحلقة باب المسجد.
وقد قيل: انه نزل بيت لحم وصلى فيه، ولا يصح عنه ذلك البتة. ثم عرج من بيت المقدس تلك الليلة إلى السماء الدنيا، فاستفتح له جبرائيل، ففتح لهما، فرأى هناك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السلام، وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الثانية. فاستفتح له، فرأى فيها يحيى ابن زكريا وعيسى ابن مريم، فلقيهما، فسلم عليهما، فردا عليه السلام، ورحبا به، وأقرا بنبوته ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فرأى فيها يوسف، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فرأى فيها إدريس، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فرأى فيها هارون بن عمران، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم عرج إلى السماء السادسة، فلقي فيها موسى فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك ؟ قال: أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي، ثم عرج إلى السماء السابعة، فلقي فيها إبراهيم، فسلم عليه ورحب به وأقر بنبوته، ثم رفع إلى سدرة المنتهى، ثم رفع له البيت المعمور، ثم عرج به إلى الجبار، جل جلاله وتقدست أسماؤه، فدنا منه حتى كان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى، وفرض عليه خمسين صلاة، فرجع حتى مر على موسى، فقال: بم أمرت ؟ قال ؟ بخمسين صلاة، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فالتفت إلى جبرائيل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار: أن نعم، إن شئت، فعلا به جبرائيل حتى أتى به إلى الجبار تبارك وتعالى وهو في مكانه - [467] وفي بعض الطرق - فوضع عنه عشراً، ثم نزل حتى مر بموسى، فأخبره، فقال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يتردد بين موسى وبين الله تبارك وتعالى، حتى جعلها خمساً، فأمره موسى بالرجوع وسؤال التخفيف، فقال: قد استحييت من ربي، ولكن أرضى وأسلم، فلما نفذ، نادى مناد: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي.
وقد تقدم ذكر اختلاف الصحابة في رؤيته ﷺ ربه عز وجل بعين رأسه، وأن الصحيح أنه رآه بقلبه، ولم يره بعين رأسه، وقوله: { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } [468] { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى } [469]، صح عن النبي ﷺ أن هذا المرئي جبرائيل، رآه مرتين على صورته التي خلق عليها.
وأما قوله تعالى في سورة النجم: { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [470] فهو غير الدنو والتدلي المذكورين في قصة الإسراء، فإن الذي في سورة النجم هو دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود رضي الله عنهما فإنه قال: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى } [471]. فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى، وأما الدنو والتدلي الذي في حديث الإسراء، فذلك صريح في أنه دنو الرب تعالى وتدليه. وأما الذي في سورة النجم: أنه رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى، فهذا هو جبرائيل، رآه مرتين، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى.
ومما يدل على أن الإسراء بجسده في اليقظة، قوله تعالى: { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى } [472]. والعبد عبارة عن مجموع الجسد والروح، كما أن الإنسان إسم لمجموع الجسد والروح، هذا هو المعروف عند الإطلاق، وهو الصحيح. فيكون الإسراء بهذا المجموع، ولا يمتنع ذلك عقلاً، ولو جاز استبعاد صعود البشر لجاز استبعاد نزول الملائكة، وذلك يؤدي إلى إنكار النبوة وهو كفر.
فإن قيل: فما الحكمة في الإسراء الى بيت المقدس أولاً ؟ فالجواب - والله أعلم -: أن ذلك كان إظهاراً لصدق دعوى الرسول ﷺ المعراج حين سألته قريش عن نعت بيت المقدس فنعته لهم وأخبرهم عن غيرهم التي مر عليها في طريقه، ولو كان عروجه إلى السماء من مكة لما حصل ذلك، إذ لا يمكن اطلاعهم على ما في السماء لو أخبرهم عنه، وقد اطلعوا على بيت المقدس، فأخبرهم بنعته.
وفي حديث المعراج دليل على ثبوت صفة العلو لله تعالى من وجوه، لمن تدبره، وبالله التوفيق.
قوله: ( والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق )
والحوض - الذي أكرمه الله تعالى به غياثاً لأمته - حق [473]
شرح: الأحاديث الواردة في ذكر الحوض تبلغ حد التواتر، رواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابياً، ولقد استقصى طرقها شيخنا الشيخ عماد الدين ابن كثير، تغمده الله برحمته، في آخر تاريخه الكبير، المسمى بـ البداية والنهاية.
فمنها: ما رواه البخاري رحمه الله تعالى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: إن قدر حوضي كما بين أيلة إلى صنعاء من اليمن، وأن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء. وعنه أيضاً عن النبي ﷺ قال: ليردن علي ناس من أصحابي، حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني، فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك. [474].
وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك، قال: أغفى رسول الله ﷺ إغفاة، فرفع رأسه مبتسماً، إما قال لهم، وإما قالوا له: لم ضحكت ؟ فقال رسول الله ﷺ: إنه أنزلت عين آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ } [475]، حتى ختمها، ثم قال لهم: هل تدرون ما الكوثر ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هو نهر أعطانيه ربي عز وجل في الجنة، عليه خير كثير، ترد عليه أمتي يوم القيامة، آنيته عدد الكواكب، يختلج العبد منهم، فأقول: يا رب إنه من أمتي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. ورواه مسلم، ولفظه: هو نهر وعدنيه ربي، عليه خير كثير، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة، والباقي مثله. ومعنى ذلك أنه يشخب فيه ميزابان من ذلك الكوثر إلى الحوض، والحوض في العرصات قبل الصراط، لأنه يختلج عنه، ويمنع منه، أقوام قد ارتدوا على أعقابهم، ومثل هؤلاء لا يجاوزون الصراط.
وروى البخاري و مسلم عن جندب بن عبد الله البجلي، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: أنا فرطكم على الحوض. والفرط: الذي يسبق إلى الماء.
وروى البخاري عن سهل بن سعد الأنصاري، قال: قال رسول الله ﷺ: إني فرطكم على الحوض، من مر علي شرب، ومن شرب لم يظمأ أبداً، ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم.
قال أبو حازم: فسمعني النعمان ابن أبي عياش فقال: هكذا سمعت من سهل ؟ فقلت: نعم. فقال: أشهد على أبي سعيد الخدري، سمعته وهو يزيد: فأقول: إنهم من أمتي فقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فقال: سحقاً سحقاً لمن غير بعدي. سحقاً: أي بعداً.
والذي يتخلص من الأحاديث الواردة في صفة الحوض: أنه حوض عظيم، ومورد كريم، يمد من شراب الجنة، من نهر الكوثر، الذي هو أشد بياضاً من اللبن، وأبرد من الثلج، وأحلى من العسل، وأطيب ريحاً من المسك، وهو في غاية الإتساع، عرضه وطوله سواء، كل زاوية من زواياه مسيرة شهر.
وفي بعض الأحاديث: أنه كلما شرب منه وهو في زيادة واتساع، وأنه ينبت في خلاله من المسك والرضراض من اللؤلؤ وقضبان الذهب، ويثمر ألوان الجواهر، فسبحان الخالق الذي لا يعجزه شيء. وقد ورد في أحاديث: أن لكل نبي حوضاً، وأن حوض نبينا ﷺ أعظمها وأحلاها وأكثرها وارداً. جعلنا الله منهم بفضله وكرمه.
قال العلامة أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في التذكرة: واختلف في الميزان والحوض: أيهما يكون قبل الآخر؟ فقيل: الميزان، وقيل: الحوض. قال أبو الحسن القابسي: والصحيح أن الحوض قبل. قال القرطبي: والمعنى يقتضيه، فإن الناس يخرجون عطاشاً من قبورهم، كما تقدم فيقدم قبل الميزان والصراط. قال أبو حامد الغزالي رحمه الله، في كتاب كشف علم الآخرة: حكى بعض السلف من أهل التصنيف، أن الحوض يورد بعد الصراط، وهو غلط من قائله.
قال القرطبي: هو كما قال، ثم قال القرطبي: ولا يخطر ببالك أنه في هذه الأرض، بل في الأرض المبدلة، أرض بيضاء كالفضة، لم يسفك فيها دم، ولم يظلم على ظهرها أحد قط، تظهر لنزول الجبار جل جلاله لفصل القضاء. انتهى.
فقاتل الله المنكرين لوجود الحوض، وأخلق بهم أن يحال بينهم وبين وروده يوم العطش الأكبر.
قوله: (والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار)
والشفاعة التي ادخرها لهم حق، كما روي في الأخبار [476]
شرح: الشفاعة أنواع: منها ما هو متفق عليه بين الأمة، ومنها ما خالف فيه المعتزلة ونحوهم من أهل البدع.
النوع الأول: الشفاعة الأولى، وهي العظمى، الخاصة بنبينا ﷺ من بين سائر إخوانه من الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين. في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة، رضي الله عنهم أجمعين، أحاديث الشفاعة.
منها: عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: أتى رسول الله ﷺ بلحم، فدفع إليه منها الذراع، وكانت تعجبه، فنهس منها نهسة، ثم قال: أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون لم ذلك ؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيقول بعض الناس لبعض: ألا ترون إلى ما أنتم فيه ؟ ألا ترون الى ما قد بلغكم ؟ ألا تنظرون من يشفع لكم الى ربكم ؟ فيقول بعض الناس لبعض: أبوكم آدم، فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم، أنت أبو البشر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح، فيأتون نوحاً، فيقولون: يا نوح، أنت أول الرسل إلى أهل الأرض، وسماك الله عبداً شكوراً، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول نوح: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه كانت لي دعوة دعوت بها على قومي، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى إبراهيم، فيأتون ابراهيم، فيقولون: يا إبراهيم، أنت نبي الله وخليله من أهل الأرض، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وذكر كذباته، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فيأتون موسى: فيقولون: يا موسى، أنت رسول الله، اصطفاك الله برسالاته وبتكليمه على الناس، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم موسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني قتلت نفساً لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فيأتون عيسى، فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، قال: هكذا هو، وكلمت الناس في المهد، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فيقول لهم عيسى: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، ولم يذكر له ذنباً، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد ﷺ، فيأتوني، فيقولون: يا محمد، أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، غفر الله لك ذنبك، ما تقدم منه وما تأخر، فاشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟ ألا ترى ما قد بلغنا ؟ فأقوم، فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، سل تعطه، اشفع تشفع، فأقول: يا رب إمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، يا رب أمتي أمتي، فيقول: أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده، لما بين مصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر، أو كما بين مكة وبصرى. [477]، [478].
والعجب كل العجب، من إيراد الأئمة لهذا الحديث من أكثر طرقه، لا يذكرون أمر الشفاعة الأولى، في مأتى الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، كما ورد هذا في حديث الصور، فإنه المقصود في هذا المقام، ومقتضى سياق أول الحديث، فإن الناس إنما يستشفعون إلى آدم فمن بعده من الأنبياء في أن يفصل بين الناس ويستريحوا من مقامهم، كما دلت عليه سياقاته من سائر طرقه، فإذا وصلوا الى الجزاء إنما يذكرون الشفاعة في عصاة الأمة وإخراجهم من النار. وكان مقصود السلف - في الإقتصار على هذا المقدار من الحديث - هو الرد على الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، الذين أنكروا خروج أحد من النار بعد دخولها، فيذكرون هذا القدر من الحديث الذي فيه النص الصريح في الرد عليهم، فيما ذهبوا إليه من البدعة المخالفة للأحاديث. وقد جاء التصريح بذلك في حديث الصور، ولولا خوف الإطالة لسقته بطوله، لكن من مضمونه: أنهم يأتون آدم ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم يأتون رسول الله محمداً ﷺ، فيذهب فيسجد تحت العرش في مكان يقال له: الفحص، فيقول الله: ما شأنك ؟ وهو أعلم، قال رسول الله ﷺ، فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني، في خلقك، فاقض بينهم، فيقول سبحانه وتعالى: شفعتك، أنا آتيكم فأقضي بينهم، قال: فأرجع فأقف مع الناس، ثم ذكر انشقاق السموات، وتنزل الملائكة في الغمام، ثم يجيء الرب سبحانه وتعالى لفصل القضاء، والكروبيون والملائكة المقربون يسبحون بأنواع التسبيح، قال: فيضع الله كرسيه حيث شاء من أرضه، ثم يقول: إني أنصت لكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا أسمع أقوالكم، وأرى أعمالكم، فأنصتوا إلي، فإنما هي أعمالكم وصحفكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه، إلى أن قال: فإذا أفضى أهل الجنة الى الجنة، قالوا: من يشفع لنا الى ربنا فندخل الجنة ؟ فيقولون: من أحق بذلك من أبيكم، إنه خلقه الله بيده، ونفخ فيه روحه، وكلمه قبلاً، فيأتون آدم، فيطلبون ذلك إليه، وذكر نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، ثم محمد ﷺ.. إلى أن قال: قال رسول الله ﷺ: فآتي الجنة، فآخذ بحلقة الباب، ثم استفتح، فيفتح لي، فأحيا ويرحب بي، فإذا دخلت الجنة فنظرت إلى ربي عز وجل خررت له ساجداً، فيأذن لي من حمده وتمجيده بشيء ما أذن به لأحد من خلقه، ثم يقول الله لي: ارفع يا محمد، واشفع تشفع، وسل تعطه، فإذا رفعت رأسي، قال الله - وهو أعلم -: ما شأنك ؟ فأقول: يا رب، وعدتني الشفاعة، فشفعني في أهل الجنة يدخلون الجنة، فيقول الله عز وجل: قد شفعتك، وأذنت لهم في دخول الجنة... الحديث. [479].
النوع الثاني والثالث من الشفاعة: شفاعته ﷺ في أقوام قد تساوت حسناتهم وسيئاتهم، فيشفع فيهم ليدخلوا الجنة، وفي أقوام آخرين قد أمر بهم إلى النار، أن لا يدخلونها.
النوع الرابع: شفاعته ﷺ في رفع درجات من يدخل الجنة فيها فوق ما كان يقتضيه ثواب أعمالهم. وقد وافقت المعتزلة هذه الشفاعة خاصة، وخالفوا فيما عداها من المقامات، مع تواتر الأحاديث فيها.
النوع الخامس: الشفاعة في أقوام أن يدخلوا الجنة بغير حساب، ويحسن أن يستشهد لهذا النوع بحديث عكاشة بن محصن، حين دعا له رسول الله ﷺ أن يجعله من السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب، [480].
النوع السادس: الشفاعة في تخفيف العذاب عمن يستحقه، كشفاعته في عمه أبي طالب أن يخفف عنه عذابه. ثم قال القرطبي في التذكرة بعد ذكر هذا النوع: فإن قيل: فقد قال تعالى: { فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ } [481]. قيل له: لا تنفعه في الخروج من النار، كما تنفع عصاة الموحدين، الذين يخرجون منها ويدخلون الجنة.
النوع السابع: شفاعته أن يؤذن لجميع المؤمنين في دخول الجنة، كما تقدم. وفي صحيح مسلم عن أنس رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: أنا أول شفيع في الجنة.
النوع الثامن: شفاعته في أهل الكبائر من أمته، ممن دخل النار، فيخرجون منها، وقد تواترت بهذا النوع الأحاديث. وقد خفي علم ذلك على الخوارج والمعتزلة، فخالفوا في ذلك، جهلاً منهم بصحة الأحاديث، وعناداً ممن علم ذلك واستمر على بدعته. وهذه الشفاعة تشاركه فيها الملائكة والنبيون والمؤمنون أيضاً. وهذه الشفاعة تتكرر منه ﷺ أربع مرات. ومن أحاديث هذا النوع، حديث أنس ابن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي. [482].
وروى البخاري رحمه الله في كتاب التوحيد: حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي، قال: اجتمعنا، ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه، يسأله لنا عن حديث الشفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى، فاستأذنا، فأذن لنا وهو قاعد على فراشه، فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أول من حديث الشفاعة، فقال: يا أبا حمزة، هؤلاء إخوانك من أهل البصرة، جاؤوك يسألونك عن حديث الشفاعة، فقال: حدثنا محمد ﷺ، قال: إذا كان يوم القيامة، ماج الناس بعضهم في بعض، فيأتون آدم، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها ولكن عليكم بإبراهيم، فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى، فإنه كليم الله، فيأتون موسى، فيقول: لست لها، لكن عليكم بعيسى، فإنه روح الله وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بمحمد ﷺ، فيأتوني، فأقول: أنا لها، فأستأذن علي ربي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها، لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، واشفع تشفع، وسل تعط، فأقول: يا رب أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج منها من كان بما قلبه مثقال ذرة أو خردلة من إيمان، فأنطلق فأفعل، ثم أعود بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع لك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أمتي أمتي، فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان، فأخرجه من النار، فأنطلق فأفعل. قال: فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا لو مررنا بالحسن، وهو متوار في منزل أبي خليفة، فحدثناه بما حدثنا به أنس بن مالك، فأتيناه، فسلمنا عليه، فأذن لنا، فقلنا له: يا أبا سعيد، جئناك من عندك أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدثنا في الشفاعة، فقال: هيه ؟ فحدثاه بالحديث، فانتهى الى هذا الموضع، فقال: هيه ؟ فقلنا لم يزد لنا على هذا، فقال: لقد حدثني وهو جميع، منذ عشرين سنة، فما أدري، أنسي أم كره أن تتكلوا ؟ فقلنا: يا أبا سعيد، فحدثنا، فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً ! ما ذكرته إلا وأنا أريد أن أحدثكم، حدثني كما حدثكم به، قال: ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً، فيقال: يا محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب، أئذن لي فيمن قال: لا إله إلا الله، فيقول: وعزتي وجلالي، وكبريائي وعظمتي، لأخرجن منها من قال: لا إله إلا الله. وهكذا [483].
وروى الحافظ أبو يعلى عن عثمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء. وفي الصحيح من حديث أبي سعيد رضي الله عنه مرفوعاً، قال: فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين، فيقبض قبضة من النار، فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيرا قط، الحديث.
ثم إن الناس في الشفاعة على ثلاثة أقوال: فالمشركون والنصارى والمبتدعون من الغلاة في المشايخ وغيرهم: يجعلون شفاعة من يعظمونه عند الله كالشفاعة المعروفة في الدنيا.
والمعتزلة والخوارج أنكروا شفاعة نبينا ﷺ وغيره في أهل الكبائر.
وأما أهل السنة والجماعة، فيقرون بشفاعة نبينا صﷺ في أهل الكبائر، وشفاعة غيره، لكن لا يشفع أحد حتى يأذن الله له ويحد له حداً، كما في الحديث الصحيح، حديث الشفاعة: إنهم يأتون آدم، ثم نوحاً، ثم إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى، فيقول لهم عيسى عليه السلام: اذهبوا إلى محمد، فإنه عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيأتوني، فأذهب، فإذا رأيت ربي خررت له ساجداً، فأحمد ربي بمحامد يفتحها علي، لا أحسنها الآن، فيقول: أي محمد، ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع، فأقول: ربي: أمتي، فيحد لي حداً، فأدخلهم الجنة، ثم أنطلق فأسجد، فيحد لي حداً ذكرها ثلاث مرات.
وأما الاستشفاع بالنبي ﷺ وغيره في الدنيا إلى الله تعالى في الدعاء، ففيه تفصيل: فإن الداعي تارة يقول: بحق نبيك أو بحق فلان، يقسم على الله بأحد من مخلوقاته، فهذا محذور من وجهين: أحدهما: أنه أقسم بغير الله. والثاني: اعتقاده أن لأحد على الله حقاً. ولا يجوز الحلف بغير الله، وليس لأحد على الله حق إلا ما أحقه على نفسه، كقوله تعالى: { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } [484].
وكذلك ما ثبت في الصحيحين من ﷺ لمعاذ رضي الله عنه، وهو رديفه: يا معاذ، أتدري ما حق الله على عباده ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقه عليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: حقهم عليه أن لا يعذبهم. فهذا حق وجب بكلماته التامة ووعده الصادق، لا أن العبد نفسه مستحق على الله شيئاً كما يكون للمخلوق على المخلوق، فإن الله هو المنعم على العباد بكل خير، وحقهم الواجب بوعده هو أن لا يعذبهم، وترك تعذيبهم معنى لا يصلح أن يقسم به، ولا أن يسأل بسببه ويتوسل به، لأن السبب هو ما نصبه الله سبباً.
وكذلك الحديث الذي في المسند من حديث أبي سعيد عن النبي ﷺ، في قول الماشي الى الصلاة: أسألك بحق ممشاي هذا، وبحق السائلين عليك، فهذا حق السائلين، هو أوجبه على نفسه، فهو الذي أحق للسائلين أن يجيبهم، وللعابدين أن يثيبهم، ولقد أحسن القائل:
ما للعباد عليه حق واجــــب | كلا، ولا سعي لديه ضائع |
إن عذبوا فبعدله، أو نعموا | فبفضله وهو الكريم السامع |
فإن قيل: فأي فرق بين قول الداعي: بحق السائلين عليك وبين قوله: بحق نبيك أو نحو ذلك ؟ فالجواب: أن معنى قوله: بحق السائلين عليك أنك وعدت السائلين بالإجابة، وأنا من جملة السائلين، فأجب دعائي، بخلاف قوله: بحق فلان - فإن فلاناً وإن كان له حق على الله بوعده الصادق - فلا مناسبة بين ذلك وبين إجابة دعاء هذا السائل. فكأنه يقول: لكون فلان من عبادك الصالحين أجب دعاي ! وأي مناسبة في هذا وأي ملازمة ؟ وإنما هذا من الاعتداء في الدعاء ! وقد قال تعالى: { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ } [485].
وهذا ونحوه من الأدعية المبتدعة، ولم ينقل عن النبي ﷺ، ولا عن الصحابة، ولا عن التابعين، ولا عن أحد من الأئمة رضي الله عنهم، وإنما يوجد مثل هذا في الحروز والهياكل التي يكتب بها الجهال والطرقية.
والدعاء من أفضل العبادات، والعبادات مبناها على السنة والإتباع، لا على الهوى والإبتداع.
وإن كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضاً، لأن الإقسام بالمخلوق لا يجوز، فكيف على الخالق ؟! وقد قال ﷺ: من حلف بغير الله فقد أشرك. ولهذا قال أبو حنيفة وصاحباه رضي الله عنهم: يكره أن يقول الداعي: أسألك بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام، والمشعر الحرام، ونحو ذلك حتى كره أبو حنيفة و محمد رضي الله عنهما أن يقول الرجل: اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك، ولم يكرهه أبو يوسف رحمه الله لما بلغه الأثر فيه. وتارة يقول: بجاه فلان عندك، يقول: نتوسل إليك بأنبيائك ورسلك وأوليائك. ومراده أن فلاناً عندك ذو وجاهة وشرف ومنزلة فأجب دعاءنا.
وهذا أيضاً محذور، فإنه لو كان هذا هو التوسل الذي كان الصحابة يفعلونه في حياة النبي ﷺ لفعلوه بعد موته، وإنما كانوا يتوسلون في حياته بدعائه، يطلبون منه أن يدعو لهم، وهم يؤمنون على دعائه، كما في الاستسقاء وغيره. فلما مات ﷺ قال عمر رضي الله عنه - لما خرجوا يستسقون -: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل اليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا. معناه بدعائه هو ربه وشفاعته وسؤاله، ليس المراد أنا نقسم عليك به، أو نسألك بجاهه عندك، إذ لو كان ذلك مراداً لكان جاه النبي ﷺ أعظم وأعظم من جاه العباس.
وتارة يقول: باتباعي لرسولك ومحبتي له وإيماني به وسائر أنبيائك ورسلك وتصديقي لهم، ونحو ذلك. فهذا من أحسن ما يكون في الدعاء والتوسل والاستشفاع.
فلفظ التوسل بالشخص والتوجه به فيه إجمال، غلط بسببه من لم يفهم معناه: فإن أريد به التسبب به لكونه داعياً وشافعاً، وهذا في حياته يكون، أو لكون الداعي محباً له، مطيعاً لأمره، مقتدياً به، وذلك أهل للمحبة والطاعة والإقتداء، فيكون التوسل إما بدعاء الوسيلة وشفاعته، وإما بمحبة السائل واتباعه، أو يراد به الاقسام به والتوسل بذاته، فهذا الثاني هو الذي كرهوه ونهوا عنه.
وكذلك السؤال بالشيء، قد يراد به التسبب به، لكونه سبباً في حصول المطلوب، وقد يراد به الإقسام به.
ومن الأول: حديث الثلاثة الذين أووا إلى الغار، وهو حديث مشهور في الصحيحين وغيرهما، فإن الصخرة انطبقت عليهم، فتوسلوا إلى الله بذكر أعمالهم الصالحة الخالصة، وكل واحد منهم يقول: فإن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون.
فهؤلاء: دعوا الله بصالح الأعمال، لأن الأعمال الصالحة هي أعظم ما يتوسل به العبد إلى الله، ويتوجه به إليه، ويسأله به، لأنه وعد أن يستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله.
فالحاصل أن الشفاعة عند الله ليست كالشفاعة عند البشر، فإن الشفيع عند البشر كما أنه شافع للطالب شفعة في الطلب، بمعنى أنه صار شفعاً فيه بعد أن كان وتراً، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، وبشفاعته صار فاعلاً للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب منه، والله تعالى وتر، لا يشفعه أحد، فلا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه، فلا شريك له بوجه. فسيد الشفعاء يوم القيامة إذا سجد وحمد الله تعالى فقال له الله: ارفع رأسك، وقل يسمع، واسأل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً فيدخلهم الجنة، فالأمر كله لله.
{ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ } [486] وقال تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ } [487] وقال تعالى: { أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ } [488]، فإذا كان لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول شفاعته، كما قال ﷺ: اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء.
وفي الصحيح: أن النبي ﷺ قال: يا بني عبد مناف، لا أملك لكم من الله شيئاً، يا صفية يا عمة رسول الله ﷺ لا أملك لك من الله شيئاً، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله شيئا.
وفي الصحيح أيضاً عن النبي ﷺ: لا ألفين أحدكم يأتي يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء، أو شاة لها يعار، أو رقاع تخفق، فيقول: أغثني أغثني، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله من شيء. فإذا كان سيد الخلق وأفضل الشفعاء يقول لأخص الناس به: لا أملك لكم من الله من شيء فما الظن بغيره ؟ وإذا دعاه الداعي، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة، لم يكن هذا هو المؤثر فيه كما يؤثر المخلوق في المخلوق، فإنه سبحانه وتعالى هو الذي جعل هذا يدعو ويشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن الله خالق كل شيء.
قوله: ( والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق )
والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق [489]
شرح: قال تعالى: { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [490]. أخبر سبحانه أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو. وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام، وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وإلى أصحاب الشمال، وفي بعضها الإشهاد عليهم بأن الله ربهم:
فمنها: ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ، قال: إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كلمهم قبلاً، قال: { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا } [491]. إلى قوله: المبطلون. [492].
وروى الإمام أحمد أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أنه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله ﷺ سئل عنها، فقال: إن الله خلق آدم عليه السلام، ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية، قال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون. ثم مسح ظهره، فاستخرج منه ذرية قال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون فقال رجل: يا رسول الله، ففيم العمل ؟ قال رسول الله ﷺ: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة، حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة، فيدخل به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار، حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار. [493].
وروى الترمذي عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله ﷺ: لما خلق الله آدم مسح على ظهره، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصاً من نور، ثم عرضهم على آدم، فقال: أي رب، من هؤلاء ؟ قال: هؤلاء ذريتك، فرأى رجلاً منهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: أي رب، من هذا ؟ قال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له: داود، قال: رب، كم عمره ؟ قال: ستون سنة، قال: أي رب، زده من عمري أربعين سنة، فلما انقضى عمر آدم، جاء ملك الموت، قال: أو لم يبق من عمري أربعون سنة ؟ قال: أو لم تعطها ابنك داود ؟ قال فجحد ! فجحدت ذريته، ونسي آدم، فنسيت ذريته، وخطىء آدم، فخطئت ذريته. [494].
وروى الإمام أحمد أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي ﷺ، قال: يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء، أكنت مفتدياً به ؟ قال: فيقول: نعم، قال: فيقول: قد أردت منك أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي شيئاً. [495].
وذكر أحاديث أخرى أيضاً كلها دالة على أن الله استخرج ذرية آدم من صلبه، وميز بين أهل النار وأهل الجنة. ومن هنا قال من قال: إن الأرواح مخلوقة قبل الأجساد. وهذه الآثار لا تدل على سبق الأرواح الأجساد سبقاً مستقراً ثابتاً، وغايتها أن تدل على أن باريها وفاطرها سبحانه صور النسمة وقدر خلقها وأجلها وعملها، واستخرج تلك الصور من مادتها، ثم أعادها إليها، وقدر خروج كل فرد من أفرادها في وقته المقدر له، ولا يدل على أنها خلقت خلقاً مستقراً واستمرت موجودة ناطقة كلها في موضع واحد ثم يرسل منها إلى الأبدان جملة بعد جملة، كما قاله ابن حزم. فهذا لا تدل الآثار عليه. نعم، الرب سبحانه يخلق منها جملة بعد جملة، كما قاله على الوجه الذي سبق به التقدير أولاً، فيجيء الخلق الخارجي مطابقاً للتقدير السابق، كشأنه سبحانه في جمع مخلوقاته، فإنه قدر لها أقداراً وآجالاً، وصفات وهيآت، ثم أبرزها إلى الوجود مطابقة لذلك التقدير السابق.
فالآثار المروية في ذلك إنما تدل على القدر السابق، وبعضها يدل على أنه سبحانه استخرج أمثالهم وصورهم وميز أهل السعادة من أهل الشقاوة. وأما الإشهاد عليهم هناك، فإنما هو في حديثين موقوفين على ابن عباس و عمر رضي الله عنهم. ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف: إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرتهم على التوحيد، كما تقدم كلام المفسرين على هذه الآية الكريمة في حديث أبي هريرة رضي الله عنه. ومعنى قوله ( شهدنا ): أي قالوا: بلى شهدنا أنك ربنا.
وهذا قول ابن عباس و أبي بن كعب. وقال ابن عباس أيضاً: أشهد بعضهم على بعض. وقيل: ( شهدنا ) من قول الملائكة، والوقف على قوله ( بلى ). وهذا قول مجاهد و الضحاك وقال السدي أيضاً: هو خبر من الله تعالى عن نفسه وملائكته أنهم شهدوا على إقرار بني آدم. والأول أظهر، وما عداه احتمال لا دليل عليه، وانما يشهد ظاهر الآية للأول.
واعلم أن من المفسرين من لم يذكر سوى القول بأن الله استخرج ذرية آدم من ظهره وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم، كالثعلبي و البغوي وغيرهما. ومنهم من لم يذكره، بل ذكر أنه نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها الله فيهم، كالزمخشري وغيره، ومنهم من ذكر القولين، كالواحدي و الرازي و القرطبي وغيرهم، لكن نسب الرازي القول الأول إلى أهل السنة، والثاني إلى المعتزلة.
ولا ريب أن الآية لا تدل على القول الأول، أعني أن الأخذ كان من ظهر آدم، وإنما فيها أن الأخذ من ظهور بني آدم، وإنما ذكر الأخذ من ظهر آدم والإشهاد عليهم هناك في بعض الأحاديث، وفي بعضها الأخذ والقضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار، كما في حديث عمر رضي الله عنه، وفي بعضها الأخذ وإراء آدم إياهم من غير قضاء ولا إشهاد، كما في حديث أبي هريرة. والذي فيه الإشهاد - على الصفة التي قالها أهل القول الأول - موقوف على ابن عباس و عمر، وتكلم فيه أهل الحديث، ولم يخرجه أحد من أهل الصحيح غير الحاكم في المستدرك على الصحيحين و الحاكم معروف التساهل رحمه الله.
والذي فيه القضاء بأن بعضهم إلى الجنة وبعضهم إلى النار دليل على مسألة القدر. وذلك شواهده كثيرة، ولا نزاع فيه بين أهل السنة، وإنما يخالف فيه القدرية المبطلون المبتدعون.
وأما الأول: فالنزاع فيه بين أهل السنة من السلف والخلف، ولولا ما التزمته من الاختصار لبسطت الأحاديث الواردة في ذلك، وما قيل من الكلام عليها، وما ذكر فيها من المعاني المعقولة ودلالة ألفاظ الآية الكريمة.
قال القرطبي: وهذه الآية مشكلة، وقد تكلم العلماء في تأويلها، فنذكر ما ذكروه من ذلك، حسب ما وقفنا عليه. فقال قوم: معنى الآية: أن الله أخرج من ظهر بني آدم بعضهم من بعض، ومعنى { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [496]. دلهم على توحيده، لأن كل بالغ يعلم ضرورة أن له رباً واحداً سبحانه وتعالى قال: فقام ذلك مقام الإشهاد عليهم، كما قال تعالى في السماوات والأرض: { قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [497]، ذهب إلى هذا القفال و أطنب. وقيل: أنه سبحانه وتعالى أخرج الأرواح قبل خلق الأجساد، وأنه جعل فيها من المعرفة ما علمت به ما خاطبها. ثم ذكر القرطبي بعد ذلك الأحاديث الواردة في ذلك، إلى آخر كلامه.
وأقوى ما يشهد لصحة القول الأول: حديث أنس المخرج في الصحيحين ! الذي فيه: قد أردت منك ما هو أهون من ذلك، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي. ولكن قد روي من طريق أخرى: قد سألتك أقل من ذلك وأيسر فلم تفعل، فيرد الى النار. وليس فيه: في ظهر آدم. وليس في الرواية الأولى إخراجهم من ظهر آدم على الصفة التي ذكرها أصحاب القول الأول.
بل القول الأول متضمن لأمرين عجيبين: أحدهما: كون الناس تكلموا حينئذ وأقروا بالإيمان وأنه بهذا تقوم الحجة عليهم يوم القيامة.
والثاني: أن الآية دلت على ذلك، والآية لا تدل عليه لوجوه:
أحدها: أنه قال: { مِنْ بَنِي آدَمَ } [498]، ولم يقل: من آدم.
الثاني: أنه قال: من ظهورهم، ولم يقل: من ظهره، وهذا بدل بعض، أو بدل اشتمال، وهو أحسن.
الثالث: أنه قال: ذرياتهم ولم يقل: ذريته.
الرابع: أنه قال: { وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } [499]، ولا بد أن يكون الشاهد ذاكراً لما شهد به، وهو إنما يذكر شهادته بعد خروجه إلى هذه الدار- كما تأتي الإشارة إلى ذلك - لا يذكر شهادة قبله.
الخامس: أنه سبحانه أخبر أن حكمة هذا الإشهاد إقامة للحجة عليهم، لئلا يقولوا يوم القيامة: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [500]، والحجة إنما قامت عليهم بالرسل والفطرة التي فطروا عليها، كما قال تعالى: { رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً } [501].
السادس: تذكيرهم بذلك، لئلا يقولوا يوم القيامة: { إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ } [502]، ومعلوم أنهم غافلون عن الإخراج لهم من صلب آدم كلهم وإشهادهم جميعاً ذلك الوقت، فهذا لا يذكره أحد منهم.
السابع: قوله تعالى: { أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ } [503]، فذكر حكمتين في هذا الإشهاد: لئلا يدعوا الغفلة، أو يدعوا التقليد، فالغافل لا شعور له، والمقلد متبع في تقليده لغيره. ولا تترتب هاتان الحكمتان إلا على ما قامت به الحجة من الرسل والفطرة.
الثامن: قوله: { أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ } [504]، أي توعدهم بجحودهم وشركهم لما قالوا ذلك، وهو سبحانه إنما يهلكهم بمخالفة رسله وتكذيبهم، وقد أخبر سبحانه أنه لم يكن ليهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، وإنما يهلكهم بعد الإعذار والإنذار بإرسال الرسل.
التاسع: أنه سبحانه أشهد كل واحد على نفسه أنه ربه وخالقه، واحتج عليه بهذا في غير موضع من كتابه، كقوله: { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } [505]، فهذه هي الحجة التي أشهدهم على أنفسهم بمضمونها، وذكرتهم بها رسله، بقولهم: { أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض } [506].
العاشر: أنه جعل هذا آية، وهي الدلالة الواضحة البينة المستلزمة لمدلولها، وهذا شأن آيات الرب تعالى، فقال تعالى: { وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [507]، وإنما ذلك بالفطرة التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، فما من مولود إلا يولد على الفطرة، لا يولد مولود على غير هذه الفطرة، هذا أمر مفروغ منه، لا تبديل ولا تغيير. وقد تقدمت الإشارة إلى هذا. والله أعلم.
وقد تفطن لهذا ابن عطية وغيره، ولكن هابوا مخالفة ظاهر تلك الأحاديث التي فيها التصريح بأن الله أخرجهم وأشهدهم على أنفسهم ثم أعادهم. وكذلك حكى القولين الشيخ أبو منصور الماتريدي في شرح التأويلات ورجح القول الثاني، وتكلم عليه ومال إليه.
ولا شك أن الإقرار بالربوبية أمر فطري، والشرك حادث طارىء، والأبناء تقلدوه عن الآباء، فإذا احتجوا يوم القيامة بأن الآباء أشركوا ونحن جرينا على عادتهم كما يجري الناس على عادة آبائهم في المطاعم والملابس والمساكن، يقال لهم: أنتم كنتم معترفين بالصانع، مقرين بأن الله ربكم لا شريك له، وقد شهدتم بذلك على أنفسكم، فإن شهادة المرء على نفسه هي إقراره بالشيء ليس إلا، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ } [508].
وليس المراد أن يقول: أشهد على نفسي بكذا، بل من أقر بشيء فقد شهد على نفسه به، فلم عدلتم عن هذه المعرفة والإقرار الذي شهدتم به على أنفسكم إلى الشرك ؟ بل عدلتم عن المعلوم المتيقن إلى ما لا يعلم له حقيقة، تقليداً لمن لا حجة معه، بخلاف اتباعهم في العادات الدنيوية، فإن تلك لم يكن عندكم ما يعلم به فسادها، وفيه مصلحة لكم، بخلاف الشرك، فإنه كان عندكم من المعرفة والشهادة على أنفسكم ما يبين فساده وعدولكم فيه عن الصواب.
فإن الدين الذي يأخذه الصبي عن أبويه هو: دين التربيه والعادة، وهو لأجل مصلحة الدنيا، فإن الطفل لا بد له من كافل، وأحق الناس به أبواه، ولهذا جاءت الشريعة بأن الطفل مع أبويه على دينهما في أحكام الدنيا الظاهرة، وهذا الدين لا يعاقبه الله عليه - على الصحيح -حتى يبلغ ويعقل وتقوم عليه الحجة، وحينئذ فعليه أن يتبع: دين العلم والعقل، وهو الذي يعلم بعقله هو أنه دين صحيح، فإن كان آباؤه مهتدين، كيوسف الصديق مع آبائه، قال: { وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوب } [509]، وقال ليعقوب بنوه: { نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاق } [510]، وإن كان الآباء مخالفين الرسل، كان عليه أن يتبع الرسل، كما قال تعالى: { وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا } [511]، الآية.
فمن اتبع دين آبائه بغير بصيرة وعلم، بل يعدل عن الحق المعلوم إليه، فهذا اتبع هواه، كما قال تعالى: { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ } [512].
وهذه حال كثير من الناس من الذين ولدوا على الإسلام، يتبع أحدهم أباه فيما كان عليه من اعتقاد ومذهب، وإن كان خطأ ليس هو فيه على بصيرة، بل هو من مسلمة الدار، لا مسلمة الإختيار، وهذا إذا قيل له في قبره: من ربك ؟ قال ؟ هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته.
فليتأمل اللبيب هذا المحل، ولينصح نفسه، وليقم معه، ولينظر من أي الفريقين هو ؟ والله الموفق، فإن توحيد الربوبية لا يحتاج إلى دليل، فإنه مركوز في الفطر. وأقرب ما ينظر فيه المرء أمر نفسه لما كان نطفة، وقد خرج من بين الصلب والترائب والترائب: عظام الصدر، ثم صارت تلك النطفة في قرار مكين، في ظلمات ثلاث، وانقطع عنها تدبير الأبوين وسائر الخلائق، ولو كانت موضوعة على لوح أو طبق، واجتمع حكماء العالم على أن يصوروا منها شيئاً لم يقدروا. ومحال توهم عمل الطبائع فيها، لأنها موات عاجزة، ولا توصف بحياة، ولن يتأتى من الموات فعل وتدبير، فإذا تفكر في ذلك وانتقال هذه النطفة من حال الى حال، علم بذلك توحيد الربوبية، فانتقل منه إلى توحيد الإلهية. فإنه إذا علم بالعقل أن له ربا أوجده، كيف يليق به أن يعبد غيره ؟ وكلما تفكر وتدبر ازداد يقيناً وتوحيداً، والله الموفق، لا رب غيره، ولا إله سواه.
قوله: (وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار)
وقد علم الله تعالى فيما لم يزل عدد من يدخل الجنة، وعدد من يدخل النار، جملة واحدة، فلا يزداد في ذلك العدد ولا ينقص منه. وكذلك أفعالهم فيما علم منهم أن يفعلوه[513]
شرح: قال الله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [514] { وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } [515] فالله تعالى موصوف بأنه بكل شيء عليم أزلا وأبداً، لم يتقدم علمه بالأشياء جهالة { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [516].
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: كنا في جنازة في بقيع الغرقد، فأتانا رسول الله ﷺ، فقعد وقعدنا حوله، ومعه مخصرة، فنكس رأسه فجعل ينكت بمخصرته ثم قال: ما من نفس منفوسة إلا وقد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة، قال: فقال رجل: يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل ؟
فقال: من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة. ثم قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، أما أهل السعادة فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ: { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى } [517])، [518].
قوله: (وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم)
وكل ميسر لما خلق له [519]، والأعمال بالخواتيم[520]، والسعيد من سعد بقضاء الله، والشقي من شقي بقضاء الله [521]
شرح: تقدم حديث علي رضي الله عنه وقوله ﷺ: اعملوا فكل ميسر لما خلق له، وعن زهير عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم ؟ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، أم فيما يستقبل ؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير، قال: ففيم العمل ؟ قال زهير: ثم تكلم أبو الزبير بشيء لم أفهمه، فسألت. ما قال ؟ فقال: اعملوا فكل ميسر. [522].
وعن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه، أن رسول الله ﷺ قال: إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، [523] وزاد البخاري: وإنما الأعمال بالخواتيم.
وفي الصحيحين أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: حدثنا رسول الله ﷺ - وهو الصادق المصدوق -: إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، فوالذي لا إله غيره، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة، وكذلك الآثار عن السلف. قال أبو عمر بن عبد البر في التمهيد: قد أكثر الناس من تخريج الآثار في هذا الباب، وأكثر المتكلمون من الكلام فيه، وأهل السنة مجتمعون على الإيمان بهذه الآثار واعتقادها وترك المجادلة فيها، وبالله العصمة والتوفيق.
وقوله: (وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه)
وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: { لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [524] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب؛ كان من الكافرين.
ش: أصل القدر سر الله في خلقه، وهو كونه أوجد وأفنى، وأفقر وأغنى، وأمات وأحيا، وأضل وهدى. قال علي كرم الله وجهه ورضي الله عنه: القدر سر الله فلا نكشفه. والنزاع بين الناس في مسألة القدر مشهور.
والذي عليه أهل السنة والجماعة: أن كل شيء بقضاء الله وقدره، وأن الله تعالى خالق أفعال العباد.
قال تعالى: { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [525] وقال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [526].
وأن الله تعالى يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ولا يرضاه ولا يحبه، فيشاؤه كوناً، ولا يرضاه ديناً.
وخالف في ذلك القدرية والمعتزلة، وزعموا: أن الله شاء الإيمان من الكافر، ولكن الكافر شاء الكفر، فردوا إلى هذا لئلا يقولوا: شاء الكفر من الكافر وعذبه عليه ! ولكن صاروا: كالمستجير من الرمضاء بالنار!. فإنهم هربوا من شياء فوقعوا فيما هو شر منه ! فإنه يلزم أن مشيئة الكافر غلبت مشيئة الله تعالى، فإن الله قد شاء الإيمان منه - على قولهم - والكافر شاء الكفر، فوقعت مشيئة الكافر دون مشيئة الله تعالى! ! وهذا من أقبح الاعتقاد، وهو قول لا دليل عليه، بل هو مخالف للدليل.
روى اللالكائي، من حديث بقية عن الأوزاعي، حدثنا العلاء بن الحجاج، عن محمد بن عبيد المكي: عن ابن عباس قال: قيل لابن عباس: إن رجلاً قدم علينا يكذب بالقدر، فقال: دلوني عليه، وهو يومئذ قد عمى، فقالوا له: ما تصنع به ؟ فقال: والذي نفسي بيده، لئن استمكنت منه لأعضن أنفه حتى أقطعه، ولئن وقعت رقبته بيدي لأدقنها، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: كأني بنساء بني فهر يطفن بالخرزج، تصطفق ألياتهن مشركات، هذا أول شرك في الإسلام، والذي نفسي بيده لينتهين بهم سوء رأيهم حتى يخرجوا الله من أن يقدر الخير، كما أخرجوه من أن يقدر الشر. قوله: وهذا أول شرك في الإسلام. إلى آخره، من كلام ابن عباس.
وهذا يوافق قوله: القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده. وروى عمرو بن الهيثم قال: خرجنا في سفينة، وصحبنا فيها قدري ومجوسي، فقال القدري للمجوسي: أسلم، قال المجوسي: حتى يريد الله فقال القدري: إن الله يريد ولكن الشيطان لا يريد ! قال المجوسي: أراد الله وأراد الشيطان، فكان ما أراد الشيطان ! هذا شيطان قوي ! ! وفي رواية أنه قال: فأنا مع أقواهما ! !. ووقف أعرابي على حلقة فيها عمرو بن عبيد، فقال: يا هؤلاء إن ناقتي سرقت فادعوا الله أن يردها علي، فقال عمرو بن عبيد: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقته فسرقت، فارددها عليه ! فقال الأعرابي: لا حاجة لي في دعائك ! قال: ولم ؟ قال: أخاف - كما أراد أن لا تسرق فسرقت - أن يريد ردها فلا ترد ! !. وقال رجل لأبي عصام القسطلاني: أرأيت إن منعني الهدى وأوردني الضلال ثم عذبني، أيكون منصفا ؟ فقال له أبو عصام: إن يكن الهدى شيئاً هو له فله أن يعطيه من يشاء ويمنعه من يشاء.
وأما الأدلة من الكتاب والسنة: فقد قال تعالى: { وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [527] وقال تعالى: { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [528] وقال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } [529] وقال تعالى: { وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } [530] وقال تعالى: { مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [531] وقال تعالى: { فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ } [532].
ومنشأ الضلال: من التسوية بين: المشيئة، والإرادة، وبين: المحبة، والرضى، فسوى الجبرية والقدرية، ثم اختلفوا، فقالت الجبرية: الكون كله بقضائه وقدره، فيكون محبوباً مرضياً. وقالت القدرية النفاة: ليست المعاصي محبوبة لله ولا مرضية له، فليست مقدرة ولا مقضية، فهي خارجة عن مشيئته وخلقه.
وقد دل على الفرق بين: المشيئة، والمحبة. الكتاب والسنة والفطرة الصحيحة. أما نصوص المشيئة والإرادة من الكتاب، فقد تقدم ذكر بعضها. وأما نصوص المحبة والرضى، فقال تعالى: { وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [533]، { لا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ } [534] وقال تعالى عقيب ما نهى عنه من الشرك والظلم والفواحش والكبر: { كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } [535].
وفي الصحيح عن النبي ﷺ: إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال. وفي المسند: إن الله يحب أن يؤخذ برخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته. وكان من دعائه: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. فتأمل ذكر استعاذته بصفة الرضى من صفة السخط، وبفعل المعافاة من فعل العقوبة. فالأول: الصفة، والثاني: أثرها المرتب عليها، ثم ربط ذلك كله بذاته سبحانه، وأن ذلك كله راجع إليه وحده لا إلى غيره، فما أعوذ منه واقع بمشيئتك وإرادتك، وما أعوذ به من رضاك ومعافاتك هو بمشيئتك وإرادتك، إن شئت أن ترضى عن عبدك وتعافيه، وإن شئت أن تغضب عليه وتعاقبه، فإعاذتي مما أكره ومنعه أن يحل بي، هي بمشيئتك أيضاً، فالمحبوب والمكروه كله بقضائك ومشيئتك، فعياذي بك منك، وعياذي بحولك وقوتك ورحمتك مما يكون بحولك وقولك وعدلك وحكمتك، فلا أستعيذ بغيرك من غيرك ولا أستعيذ بك من شيء صادر عن غير مشيئتك، بل هو منك. فلا يعلم ما في هذه الكلمات من التوحيد والمعارف والعبودية، إلا الراسخون في العلم بالله ومعرفته ومعرفة عبوديته.
فإن قيل: كيف يريد الله أمراً ولا يرضاه ولا يحبه ؟ وكيف يشاؤه ويكونه ؟ وكيف يجمع إرادته له وبغضه وكراهته ؟ قيل: هذا السؤال هو الذي افترق الناس لأجله فرقاً، وتباينت طرقهم وأقوالهم. فاعلم أن المراد نوعان: مراد لنفسه، ومراد لغيره.
فالمراد لنفسه، مطلوب محبوب لذاته وما فيه من الخير، فهو مراد إرادة الغايات والمقاصد. والمراد لغيره، قد لا يكون مقصوداً لما يريد، ولا فيه مصلحة له بالنظر إلى ذاته، وإن كان وسيلة إلى مقصوده ومراده، فهو مكروه له من حيث نفسه وذاته، مراد له من حيث قضاؤه وايصاله إلى مراده. فيجتمع فيه الأمران: بغضه، وإرادته. ولا يتنافيان، لاختلاف متعلقهما.
وهذا كالدواء الكريه، إذا علم المتناول له أن فيه شفاءه، وقطع العضو المتأكل، اذا علم أن في قطعه بقاء جسده، وكقطع المسافة الشاقة، اذا علم أنها توصل إلى مراده ومحبوبه. بل العاقل يكتفي في إيثار هذا المكروه وإرادته بالظن الغالب، وإن خفيت عنه عاقبته، فكيف ممن لا يخفى عليه خافية.
فهو سبحانه يكره الشيء، ولا ينافي ذلك إرادته لأجل غيره، وكونه سبباً إلى أمر هو أحب إليه من فوقه. من ذلك: أنه خلق إبليس، الذي هو مادة لفساد الأديان والأعمال والإعتقادات والإرادات، وهو سبب لشقاوة كثير من العباد، وعملهم بما يغضب الرب سبحانه تبارك وتعالى وهو الساعي في وقوع خلاف ما يحبه الله ويرضاه.
ومع هذا فهو وسيلة إلى محاب كثيرة للرب تعالى ترتبت على خلقه، ووجودها أحب إليه من عدمها. منها: أنه يظهر للعباد قدرة الرب تعالى على خلق المتضادات المتقابلات، فخلق هذا الذات، التي هي أخبث الذوات وشرها، وهي سبب كل شر، في مقابلة ذات جبرائيل، التي هي من أشرف الذوات وأطهرها وأزكاها، وهي مادة كل خير، فتبارك خالق هذا وهذا. كما ظهرت قدرته في خلق الليل والنهار، والدواء والداء، والحياة والموت، والحسن والقبيح، والخير والشر.
وذلك أدل دليل على كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه، فإنه خلق هذه المتضادات، وقابلها بعضها ببعض، وجعلها محال تصرفه وتدبيره. فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته وكمال تصرفه وتدبير ملكه. ومنها: ظهور آثار أسمائه القهرية، مثل: القهار، والمنتقم، والعدل، والضار، والشديد العقاب، والسريع العقاب، وذي البطش الشديد، والخافض، والمذل. فإن هذه الأسماء والأفعال كمال، لا بد من وجود متعلقها، ولو كان الجن والإنس على طبيعة الملائكة لم يظهر أثر هذه الأسماء. ومنها: ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده، فلولا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد.
وقد أشار النبي ﷺ الى هذا بقوله: لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ويستغفرون فيغفر لهم. ومنها: ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة، فإنه الحكيم الخبير، الذي يضع الأشياء مواضعها، وينزلها منازلها اللائقة بها، فلا يضع الشيء في غير موضعه، ولا ينزله غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته.
فهو أعلم حيث يجعل رسالاته، وأعلم بمن يصلح لقبولها ويشكره على انتهائها إليه، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة، لتعطلت حكم كثيرة، ولفاتت مصالح عديدة، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب، وهذا كالشمس والمطر والرياح، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر. ومنها: حصول العبودية المتنوعة التي لولا خلق إبليس لما حصلت، فإن عبودية الجهاد من أحب أنواع العبودية إليه سبحانه.
ولو كان الناس كلهم مؤمنين لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالات لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعبودية الصبر ومخالفة الهوى وإيثار محاب الله تعالى، وعبودية التوبة والاستغفار، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ويعصمه من كيده وأذاه. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها.
فإن قيل: فهل كان يمكن وجود تلك الحكم بدون هذه الأسباب ؟
فهذا سوال فاسد! وهو فرض وجود الملزوم بدون لازمه، كفرض وجود الابن بدون الأب. والحركة بدون المتحرك، والتوبة بدون التائب.
فإن قيل: فإذا كانت هذه الأسباب مرادة لما تفضي إليه من الحكم، فهل تكون مرضية محبوبة من هذا الوجه، أم هي مسخوطة من جميع الوجوه ؟ هذا السؤال يرد على وجهين: أحدهما: من جهة الرب تعالى، وهل يكون محباً لها من جهة إفضالها إلى محبوبه، وإن كان يبغضها لذاتها ؟ والثاني: من جهة العبد، وهو أنه هل يسوغ له الرضى بها من تلك الجهة أيضاً ؟ فهذا سؤال له شأن.
فاعلم أن الشر كله يرجع الى العدم، أعني عدم الخير وأسبابه المفضية إليه، وهو من هذه الجهة شر، وأما من جهة وجوده المحض فلا شر فيه. مثاله: أن النفوس الشريرة وجودها خير من حيث هي موجودة، وإنما حصل لها الشر بقطع مادة الخير عنها، فإنها خلقت في الأصل متحركة، فإن أعينت بالعلم وإلهام الخير تحركت به، وإن تركت تحركت بطبعها إلى خلافه.
وحركتها من حيث هي حركة: خير، وإنما تكون شراً بالإضافة، لا من حيث هي حركة، والشر كله ظلم، وهو وضع الشيء في غير محله، فلو وضع في موضعه لم يكن شراً، فعلم أن جهة الشر فيه نسبية إضافية. ولهذا كانت العقوبات الموضوعة في محالها خيراً في نفسها، وإن كانت شراً بالنسبة إلى المحل الذي حلت به، لما أحدثت فيه من الألم الذي كانت الطبيعة قابلة لضده من اللذة مستعدة له، فصار ذلك الألم شراً بالنسبة إليها، وهو خير بالنسبة إلى الفاعل حيث وضعه في موضعه، فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات، فإن حكمته تأبى ذلك.
فلا يكون في جناب الحق تعالى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه، لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال، فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه، بل كل ما إليه فخير، والشر إنما حصل لعدم هذه الإضافة والنسبة إليه، فلو كان إليه لم يكن شراً، فتأمله. فانقطاع نسبته إليه هو الذي صيره شراً.
فإن قيل: لم تنقطع نسبته إليه خلقاً ومشيئة ؟ قيل: هو من هذه الجهة ليس بشر، فإن وجوده هو المنسوب إليه، وهو من هذه الجهة ليس بشر، والشر الذي فيه من عدم إمداده بالخير وأسبابه، والعدم ليس بشيء، حتى ينسب إلى من بيده الخير.
فإن أردت مزيد إيضاح لذلك، فاعلم أن أسباب الخير ثلاثة: الإيجاد، والإعداد، والإمداد. فإيجاد هذا خير، وهو الى الله، وكذلك إعداده وإمداده، فإن لم يحدث فيه إعداد ولا إمداد حصل فيه الشر بسبب هذا العدم الذي ليس إلى الفاعل، وإنما إليه ضده.
فإن قيل: هلا أمده إذا أوجده ؟ قيل: ما اقتضت الحكمة إيجاده وإمداده، وإنما اقتضت إيجاده وترك إمداده. فإيجاده خير، والشر وقع من عدم إمداده.
فإن قيل: فهلا أمد الموجودات كلها ؟ فهذا سؤال فاسد، يظن مورده أن التسوية بين الموجودات أبلغ في الحكمة ! وهذا عين الجهل ! بل الحكمة في هذا التفاوت العظيم الذي بين الأشياء، وليس في خلق كل نوع منها تفاوت، فكل نوع منها ليس في خلقه تفاوت، والتفاوت إنما وقع لأمور عدمية لم يتعلق بها الخلق، وإلا فليس في الخلق من تفاوت. فإن اعتاص عليك هذا، ولم تفهمه حق الفهم، فراجع قول القائل:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه | وجاوزه إلى ما تستطيع |
فإن قيل: كيف يرضى لعبده شيئاً ولا يعينه عليه ؟ قيل: لأن إعانته عليه قد تستلزم فوات محبوب له أعظم من حصول تلك الطاعة التي رضيها له، وقد يكون وقوع تلك الطاعة منه يتضمن مفسدة هي أكره إليه سبحانه من محبته لتلك الطاعة. وقد أشار تعالى إلى ذلك في قوله: { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ } [536] - الآيتين.
فأخبر سبحانه أنه كره انبعاثهم إلى الغزو مع رسوله، وهو طاعة، فلما كرهه منهم ثبطهم عنه، ثم ذكر سبحانه بعض المفاسد التي تترتب على خروجهم مع رسوله، فقال: { لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا } [537] أي: فساداً وشراً، { وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ } [538]، أي: سعوا بينكم بالفساد والشر، { يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } [539]، أي قابلون منهم مستجيبون لهم، فيتولد من سعي هؤلاء وقبول هؤلاء من الشر ما هو أعظم من مصلحة خروجهم، فاقتضت الحكمة والرحمة أن أقعدهم عنه. فاجعل هذا المثال أصلاً، وقس عليه.
وأما الوجه الثاني، وهو الذي من جهة العبد: فهو أيضا ممكن، بل واقع. فإن العبد يسخط الفسوق والمعاصي ويكرهها، من حيث هي فعل العبد، واقعة بكسبه وإرادته واختياره، ويرضى بعلم الله وكتابه ومشيئه وإرادته وأمره الكوني، فيرضى بما من الله ويسخط ما هو منه. فهذا مسلك طائفة من أهل العرفان. وطائفة أخرى كرهتها مطلقاً، وقولهم يرجع إلى هذا القول، لأن إطلاقهم الكراهة لا يريدون به شموله لعلم الرب وكتابه ومشيئته. وسر المسألة: أن الذي إلى الرب منها غير مكروه، والذي إلى العبد مكروه.
فإن قيل: ليس إلى العبد شيء منها. قيل: هذا هو الجبر الباطل الذي لا يمكن صاحبه التخلص من هذا المقام الضيق، والقدري المنكر أقرب إلى التخلص منه من الجبري. وأهل السنة، المتوسطون بين القدرية والجبرية أسعد بالتخلص من الفريقين.
فإن قيل: كيف يتأتى الندم والتوبه مع شهود الحكمة في التقدير، ومع شهود القيومية والمشيئة النافذة ؟ قيل: هذا هو الذي أوقع من عميت بصيرته في شهود الأمر على غير ما هو عليه، فرأى تلك الأفعال طاعات، لموافقته فيها المشيئة والقدر، وقال: إن عصيت أمره فقد أطعت إرادته ! وفي ذلك قيل:
أصبحت منفعلاً لما يختاره | مني، ففعلي كله طاعات ! |
وهؤلاء أعمى الخلق بصائر، وأجهلهم بالله وأحكامه الدينية والكونية، فإن الطاعة هي موافقة الأمر الديني الشرعي، لا موافقة القدر والمشيئة، ولو كان موافقة القدر طاعة لكان إبليس من أعظم المطيعين له، ولكان قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وقوم فرعون - كلهم مطيعين ! وهذا غاية الجهل، لكن إذا شهد العبد عجز نفسه، ونفوذ الأقدار فيه، وكمال فقره إلى ربه، وعدم استغنائه عن عصمته وحفظه طرفة عين: كان بالله في هذه الحال لا بنفسه، فوقوع الذنب منه لا يتأتى في هذه الحال البتة، فإن عليه حصناً حصيناً، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، فلا يتصور منه الذنب في هذه الحال، فإذا حجب عن هذا المشهد وبقي بنفسه، استولى عليه حكم النفس، فهنالك نصبت عليه الشباك والإشراك، وأرسلت عليه الصيادون، فاذا انقشع عنه ضباب ذلك الوجود الطبعي، فهنالك يحضره الندم والتوبة والإنابة، فإنه كان في المعصية محجوباً بنفسه عن ربه، فلما فارق ذلك الوجود صار في وجود آخر، فبقي بربه لا بنفسه.
فإن قيل: إذا كان الكفر بقضاء الله وقدره، ونحن مأمورون أن نرضى بقضاء الله، فكيف ننكره ونكرهه ؟!
فالجواب: أن يقال أولاً: نحن غير مأمورين بالرضى بكل ما يقضيه الله ويقدره، ولم يرد بذلك كتاب ولا سنة، بل من المقضي ما يرضى به، ومنه مايسخط ويمقت، كما لا يرضى به القاضي لأقضيته سبحانه، بل من القضاء ما يسخط، كما أن من الأعيان المقضية ما يغضب عليه ويمقت ويلعن ويذم.
ويقال ثانياً: هنا أمران: قضاء الله، وهو فعل قائم بذات الله تعالى. ومفضي: وهو المفعول المنفصل عنه. فالقضاء كله خير وعدل وحكمة، نرضى به كله. والمقضي قسمان: منه مايرضى به، ومنه ما لايرضى به.
ويقال ثالثاً: القضاء له وجهان:
أحدهما: تعلقه بالرب تعالى ونسبته إليه، فمن هذا الوجه يرضى به.
والوجه الثاني: تعلقه بالعبد ونسبته إليه، فمن هذا الوجه ينقسم إلى ما يرضى به وإلى ما لا يرضى به. مثال ذلك: قتل النفس، له اعتباران: فمن حيث قدره الله وقضاه وكتبه وشاءه وجعله أجلاً للمقتول ونهاية لعمره - يرضى به، ومن حيث صدر من القتل وباشره وكسبه وأقدم عليه باختياره وعصى الله بفعله - نسخطه ولانرضى به.
وقوله: والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان. آخره - التعمق: هو المبالغة في طلب الشيء.
والمعنى: أن المبالغة في طلب القدر والغوص في الكلام فيه ذريعة الخذلان.
الذريعة: الوسيلة. والذريعة والدرجة والسلم - متقاربة المعنى، وكذلك الخذلان والحرمان والطغيان متقاربة المعنى أيضاً. لكن الخذلان في مقابلة الظفر. والطغيان في مقابلة الإستقامة.
وقوله: فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة. عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء ناس من أصحاب النبي ﷺ إلى رسول الله ﷺ، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ؟ قال: وقد وجدتموه ؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان. [540]، الإشارة بقوله: ذلك صريح الإيمان إلى تعاظم أن يتكلموا به.
ولمسلم أيضاً عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: سئل رسول الله ﷺ عن الوسوسة ؟ فقال: تلك محض الإيمان.
فهو بمعنى حديث أبي هريرة، فإن وسوسة النفس أو مدافعة وسواسها بمنزلة المحادثة الكائنة بين اثنين، فمدافعة الوسوسة الشيطانية واستعظامها صريح الإيمان ومحض الإيمان.
هذه طريقة الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان. ثم خلف من بعدهم خلف، سودوا الأوراق بتلك الوساسوس، التي هي شكوك وشبه، بل سودوا الاوراق بتلك الوساوس، التي هي شكوك وشبه، بل وسودوا القلوب، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ولذلك أطنب الشيخ رحمه الله في ذم الخوض في الكلام في القدر والفحص عنه.
وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله ﷺ: أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم. وقال الإمام أحمد حدثنا أبو معاوية حدثنا داود ابن أبي هند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم والناس يتكلمون في القدر، قال: فكأنما تفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب، قال: فقال لهم: ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ؟ بهذا هلك من كان قبلكم. قال: فما غبطت نفسي بمجلس فيه رسول الله لم أشهده، بما غبطت نفسي بذلك المجلس، أني لم أشهده. [541].
وقال تعالى: { فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا } [542] الخلاق: النصيب، قال تعالى: { وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ } [543]، أي استمتعتم بنصيبكم كما استمتع الذين من قبلكم بنصيبهم وخضتم كالذي خاضوا، أي كالخوض الذي خاضوه، أو كالفوج أو الصنف أو الجيل الذي خاضوا. وجمع سبحانه بين الاستمتاع بالخلاق وبين الخوض، لأن فساد الدين إما في العمل وإما في الاعتقاد، فالأول من جهة الشهوات، والثاني من جهة الشبهات.
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي ﷺ قال: لتأخذن أمتي مأخذ القرون قبلها شبراً بشبر، وذراعاً بذراع، قالوا: فارس والروم ؟ قال: فمن الناس إلا أولئك.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: ليأتين على أمتي ما أتى على بني اسرائيل حذو النعل بالنعل، حتى إن كان منهم من أتى أمه علانية كان من أمتي من يصنع ذلك، وإن بني اسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة. قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي. [544].
وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة أو اثنتين وسبعين فرقة، والنصارى مثل ذلك، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة. [545].
وعن معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله ﷺ: إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على اثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة. يعني: الأهواء، كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة.
وأكبر المسائل التي وقع فيها الخلاف بين الأمة: مسألة القدر. وقد اتسع الكلام فيها غاية الإتساع.
وقوله: فمن سأل: لم فعل ؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين.
اعلم أن مبنى العبودية والإيمان بالله وكتبه ورسله - على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع. ولهذا لم يحك الله سبحانه عن أمة نبي صدقت بنبيها وآمنت بما جاء به، أنها سألته عن تفاصيل الحكمة فيما أمرها به ونهاها عنه وبلغها عن ربها، ولو فعلت ذلك لما كانت مؤمنة بنبيها، بل انقادت وسلمت وأذعنت، وما عرفت من الحكمه عرفته، وما خفي عنها لم تتوقف في انقيادها وتسليمها على معرفته، ولا جعلت ذلك من شأنها، وكان رسولها أعظم عندها من أن تسأله عن ذلك، كما في الإنجيل: يا بني اسرائيل لا تقولوا: لم أمر ربنا ؟ ولكن قولوا: بم أمر ربنا، ولهذا كان سلف هذه الأمة، التي هي أكمل الأمم عقولاً ومعارف وعلوماً - لا تسأل نبيها: لم أمر الله بكذا ؟ ولم نهى عن كذا ؟ ولم قدر كذا ؟ ولم فعل كذا ؟ لعلمهم أن ذلك مضاد للإيمان والإستسلام، وأن قدم الإسلام لا تثبت إلا على درجة التسليم. فأول مراتب تعظيم الأمر التصديق به، ثم العزم الجازم على امتثاله، ثم المسارعة إليه والمبادرة به، والحذر عن القواطع والموانع، ثم بذل الجهد والنصح في الإتيان به على أكمل الوجوه، ثم فعله لكونه مأموراً، بحيت لا يتوقف الإتيان به على معرفة حكمته - فإن ظهرت له فعله وإلا عطله، فإن هذا ينافي الانقياد، ويقدح في الإمتثال.
قال القرطبي ناقلاً عن ابن عبد البر: فمن سأل مستفهماً راغباً في العلم ونفي الجهل عن نفسه، باحثاً عن معنى يجب الوقوف في الديانة عليه. فلا بأس به، فشفاء العي السؤال. ومن سأل متعنتاً غير متفقه ولا متعلم، فهو الذي لا يحل قليل سؤاله ولا كثيره.
قال ابن العربي: الذي ينبغي للعالم أن يشتغل به هو بسط الأدلة، وإيضاح سبل النظرة، وتحصيل مقدمات الإجتهاد، وإعداد الآلة المعينة على الإستمداد. قال: فإذا عرضت نازلة، أتيت من بابها، ونشدت من مظانها، والله يفتح وجه الصواب فيها. انتهى.
وقال ﷺ: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه. [546].
ولا شك في تكفير من رد حكم الكتاب، ولكن من تأول حكم الكتاب لشبهة عرضت له، بين له الصواب ليرجع إليه، فالله سبحانه وتعالى لا يسأل عما يفعل، لكمال حكمته ورحمته وعدله، لا لمجرد قهره وقدرته، كما يقول جهم وأتباعه.
وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قول الشيخ: ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله.
قوله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى)
فهذا [547] جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود.
شرح: الإشارة بقوله: فهذا. إلى ما تقدم ذكره، مما يجب اعتقاده والعمل به، مما جاءت به الشريعة. وقوله: وهي درجة الراسخين في العلم. أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلاً، نفياً وإثباتاً. ويعني بالعلم المفقود: علم القدر الذي طواه الله عن أنامه، ونهاهم عن مرامه. ويعني بالعلم الموجود: علم الشريعة، أصولها وفروعها، فمن أنكر شيئاً مما جاء به الرسول كان من الكافرين، ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين.
قال تعالى: { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } [548] الآية، وقال تعالى: { إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [549].
ولا يلزم من خفاء حكمة الله علينا عدمها، ولا من جهلنا انتفاء حكمته. ألا ترى أن خفاء حكمة الله علينا في خلق الحيات والعقارب والفأر والحشرات، التي لا يعلم منها إلا المضرة: لم ينف أن يكون الله تعالى خالقاً لها، ولا يلزم أن لا يكون فيها حكمة خفيت علينا، لأن عدم العلم لا يكون علما بالمعدوم.
قوله: ( ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم )
ونؤمن باللوح [550] والقلم [551]، وبجميع ما فيه قد رقم
شرح: قال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } [552].
وروى الحافظ أبو القاسم الطبراني بسنده إلى النبي ﷺ أنه قال: إن الله خلق لوحاً محفوظاً، من درة بيضاء، صفحاتها ياقوتة حمراء، قلمه نور وكتابه نور، لله فيه كل يوم ستون وثلاثمئة لحظة، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ستين وثلاثمائة نظرة، يخلق ويرزق ويميت ويحيي، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاؤه.
اللوح المذكور هو الذي كتب الله مقادير الخلائق فيه، والقلم المذكور هو الذي خلقه الله وكتب به في اللوح المذكور المقادير، [553]، عن عبادة بن الصامت، قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب، وماذا أكتب ؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
واختلف العلماء: هل القلم أول المخلوقات، أو العرش ؟ على قولين، ذكرهما الحافظ أبو العلاء الهمداني، أصحهما: أن العرش قبل القلم، لما ثبت في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو، قال: قال رسول الله ﷺ: كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وعرشه على الماء. فهذا صريح أن التقدير وقع بعد خلق العرش، والتقدير وقع عند أول خلق القلم، بحديث عبادة هذا. ولا يخلو قوله: أول ما خلق الله القلم، إلخ - إما أن يكون جملة أو جملتين.
فإن كان جملة، وهو الصحيح، كان معناه: أنه عند أول خلقه قال له: اكتب، كما في اللفظ: أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب بنصب أول و القلم، وإن كان جملتين، وهو مروي برفع أول و القلم، فيتعين حمله على أنه أول المخلوقات من هذا العالم، فيتفق الحديثان، إذ حديث عبد الله بن عمرو صريح في أن العرش سابق على التقدير، والتقدير مقارن لخلق القلم. وفي اللفظ الآخر: لما خلق الله القلم قال له: اكتب، فهذا القلم أول الأقلام وأفضلها وأجلها.
وقد قال غير واحد من أهل التفسير: إنه القلم الذي أقسم الله به في قوله تعالى: { ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [554].
والقلم الثاني: قلم الوحي: وهو الذي يكتب به وحي الله إلى أنبيائه ورسله، وأصحاب هذا القلم هم: الحكام على العالم. والأقلام كلها خدم لأقلامهم.
وقد رفع النبي ﷺ لله ليلة أسري به إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، فهذه الأقلام هي التي تكتب ما يوحيه الله تبارك وتعالى من الأمور التي يدبرها، أمر العالم العلوي والسفلي.
قوله: ( فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن)
فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائنا لم يقدروا عليه جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة [555]
شرح: تقدم حديث جابر عن رسول الله ﷺ، قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم، فقال: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم، أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير ؟ أم فيما استقبل ؟ قال: لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير. وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كنت خلف رسول الله ﷺ يوماً، فقال: يا غلام ألا أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فسأل الله، واذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف. [556].
وفي رواية غير الترمذي: احفظ الله تجده أمامك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، واعلم أن ما أخطأك لم لكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً.
وقد جاءت الأقلام في هذه الأحاديت وغيرها مجموعة، فدل ذلك على أن للمقادير أقلاماً غير القلم الأول، الذي تقدم ذكره مع اللوح المحفوظ.
والذي دلت عليه السنة أن الأقلام أربعة، وهذا التقسيم غير التقسيم المقدم ذكره:
القلم الأول: العام الشامل لجميع المخلوقات، وهو الذي تقدم ذكره مع اللوح.
القلم الثاني: خبر خلق آدم، وهو قلم عام أيضاً، لكن لبني آدم، ورد في هذا آيات تدل على أن الله قدر أعمال بني آدم وأرزاقهم وآجالهم وسعادتهم، عقيب خلق أبيهم.
القلم الثالث: حين يرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد. كما ورد ذلك في الأحاديث الصحيحة.
القلم الرابع: الموضوع على العبد عند بلوغه، الذي بأيدي الكرام الكاتبين، الذين يكتبون ما يفعله بنو آدم، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة.
واذا علم العبد أن كلاً من عند الله، فالواجب إفراده سبحانه بالخشية والتقوى. قال تعالى: { فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ } [557].. { وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ } [558]... { وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ } [559]... { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ } [560]... { هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ } [561].
ونظائر هذا المعنى في القرآن كثيرة. ولا بد لكل عبد أن يتقي أشياء، فإنه لا يعيش وحده، ولو كان ملكاً مطاعاً فلا بد أن يتقي أشياء يراعي بها رعيته. فحينئذ فلا بد لكل إنسان أن يتقي، فإن لم يتق الله اتقى المخلوق، والخلق لا يتفق حبهم كلهم وبغضهم، بل الذي يريده هذا يبغضه هذا، فلا يمكن إرضاؤهم كلهم، كما قال الشافعي رضي الله عنه: رضى الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه فلا تعانه. فإرضاء الخلق لا مقدور ولا مأمور، وإرضاء الخالق مقدور ومأمور.
وأيضاً فالمخلوق لا يغني عنه من الله شيئاً، فإذا اتقى العبد ربه كفاه مؤنة الناس. كما كتبت عائشة الى معاوية، روي مرفوعاً، وروي موقوفاً عليها: من أرضى الله بسخط الناس، رضي الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله، عاد حامده من الناس له ذاماً.
فمن أرضى الله كفاه مؤنة الناس ورضي عنه، ثم فيما بعد يرضون، إذ العاقبة للتقوى، ويحبه الله فيحبه الناس. كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إذا أحب الله العبد نادى: يا جبرائيل، إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبرائيل، ثم ينادي جبرائيل في السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وقال في البغض مثل ذلك. فقد بين أنه لا بد لكل مخلوق من أن يتقي إما المخلوق، وإما الخالق. وتقوى المخلوق ضررها راجح على نفعها من وجوه كثيرة، وتقوى الله هي التي يحصل بها سعادة الدنيا والآخرة، فهو سبحانه أهل التقوى، وهو أيضاً أهل المغفرة، فإنه هو الذي يغفر الذنوب، لا يقدر مخلوق على أن يغفر الذنوب ويجير من عذابها غيره، وهو الذي يجير ولا يجار عليه. قال بعض السلف: ما احتاج تقي قط، لقوله تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } [562]، فقد ضمن الله للمتقين أن يجعل لهم مخرجاً مما يضيق على الناس، وأن يرزقهم من حيث لا يحتسبون، فإذا لم يحصل ذلك دل على أن في التقوى خللاً، فليستغفر الله وليتب إليه، ثم قال تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [563]، أي فهو كافيه، لا يحوجه إلى غيره.
وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب، وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب ! وهذا فاسد، فإن الاكتساب: منه فرض، ومنه مستحب، ومنه مباح، ومنه مكروه، ومنه حرام، كما قد عرف في موضعه. وقد كان النبي ﷺ أفضل المتوكلين، يلبس لأمة الحرب، ويمشي في الأسواق للاكتساب، حتى قال الكافرون: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } [564].
ولهذا تجد كثيراً ممن يرى الاكتساب ينافي التوكل يرزقون على يد من يعطيهم، إما صدقة، وإما هدية، وقد يكون ذلك من مكاس، أو والي شرطة، أو نحو ذلك، وهذا مبسوط في موضعه، لا يسعه هذا المختصر. وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأقوال التي في تفسير قوله تعالى: { يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } [565].
وأما قوله تعالى: { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } [566] فقال البغوي. قال مقاتل: نزلت في اليهود حين قالوا: إن الله لا يقضي يوم السبت ! قال المفسرون: من شأنه أنه يحيي ويميت، ويرزق، ويعز قوماً ويذل آخرين، ويشفي مريضاً، ويفك عانياً، ويفرج مكروباً، ويجيب داعياً، ويعطي سائلاً، ويغفر ذنباً، إلى ما لا يحصى من أفعاله وإحداثه في خلقه ما يشاء.
قوله: (وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه)
وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه [567].
شرح: هذا بناء على ما تقدم من أن المقدور كائن لا محالة، ولقد أحسن القائل حيث يقول:
ما قضى الله كائن لا محاله | والشقي الجهول من لام حاله |
والقائل الآخر:
اقنع بما ترزق ياذا الفتى | فليس ينسى ربنا نمله |
إن أقبل الدهر فقم قائمـــاً | وإن تولى مدبراً نم له |
قوله: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه)
وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه فقدر ذلك تقديرا محكما مبرما ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته كما قال تعالى في كتابه: ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا ) [568] وقال تعالى: ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) [569].
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيما وأحضر للنظر فيه قلبا سقيما لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سرا كتيما وعاد بما قال فيه أفاكا أثيما.
شرح: هذا بناء على ما تقدم من أن الله تعالى قد سبق علمه بالكائنات، وأنه قدر مقاديرها قبل خلقها، كما قال ﷺ: قدر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وعرشه على الماء. فيعلم أن الله قد علم أن الأشياء تصير موجودة لأوقاتها، على ما اقتضته حكمته البالغة فكانت كما علم.
فإن حصول المخلوقات على ما فيها من غرائب الحكم لا يتصور إلا من عالم قد سبق علمه على إيجادها. قال تعالى: { أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ } [570].
وأنكر غلاة المعتزلة أن الله كان عالماً في الأزل، وقالوا: إن الله تعالى لا يعلم أفعال العباد حتى يفعلوا ! تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا، وإن أنكروا كفروا.
فإن الله تعالى يعلم أن هذا مستطيع يفعل ما استطاعه فيثيبه، وهذا مستطيع لا يفعل ما استطاعه فيعذبه، فإنما يعذبه لأنه لا يفعل مع القدرة، وقد علم الله ذلك منه، ومن لا يستطيع لا يأمره ولا يعذبه على ما لم يستطعه.
وإذا قيل: فيلزم أن يكون العبد قادراً على تغيير عالم الله، لأن الله علم أنه لا يفعل، فإذا قدر على الفعل قدر على تغيير علم الله ؟ قيل: هذه مغالطة، وذلك أن مجرد مقدرته على الفعل لا تستلزم تغيير العلم، وإنما يظن من يظن تغيير العلم إذا وقع الفعل، ولو وقع الفعل لكان المعلوم وقوعه لا عدم وقوعه، فيمتنع أن يحصل وقوع الفعل مع علم الله بعدم وقوعه، بل إن وقع كان الله قد علم أنه يقع، وإن لم يقع كان الله قد علم أنه لا يقع. ونحن لا نعلم علم الله إلا بما يظهر، وعلم الله مطابق للواقع، فيمتنع أن يقع شيء يستلزم تغيير العلم، بل أي شيء وقع كان هو المعلوم، والعبد الذي لم يفعل لم يأت بما يغير العلم، بل هو قادر على فعل لم يقع، ولو وقع لكان الله قد علم أنه يقع، لا أنه لا يقع.
وإذا قيل: فمن عدم وقوعه يعلم الله أنه لا يقع، فلو قدر العبد على وقوعه قدر على تغيير العلم ؟ قيل: ليس الأمر كذلك، بل العبد يقدر على وقوعه وهو لم يوقعه، ولو أوقعه لم يكن المعلوم إلا وقوعه، فمقدور العبد إذا وقع لم يكن المعلوم إلا وقوعه.
وهؤلاء فرضوا وقوعه مع العلم بعدم وقوعه ! وهو فرض محال. وذلك بمنزلة من يقول: افرض وقوعه مع عدم وقوعه ! وهو جمع بين النقيضين.
فإن قيل: فإذا كان وقوعه مع علم الرب عدم وقوعه محالاً لم يكن مقدوراً ؟ قيل: لفظ المحال مجمل، وهذا ليس محالاً لعدم استطاعته له ولا لعجزه عنه ولا لامتناعه في نفسه، بل هو ممكن مقدور مستطاع، ولكن إذا وقع كان الله عالماً بأنه سيقع، وإذا لم يقع كان عالماً بأنه لا يقع، فإذا فرض وقوعه مع انتفاء لازم الوقوع صار محالاً من جهة إثبات الملزوم بدون لازمه.
وكل الأشياء بهذا الاعتبار هي محال ! مما يلزم هؤلاء: أن لا يبقى أحد قادراً على شيء، لا الرب، ولا الخلق، فإن الرب إذا علم من نفسه أنه سيفعل كذا لا يلزم من علمه ذلك انتفاء قدرته على تركه، وكذلك إذا علم من نفسه أنه لا يفعله لا يلزم منه انتفاء قدرته على فعله، فكذلك ما قدره من أفعال عباده. والله تعالى أعلم.
قوله:(وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والإعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته)
وذلك من عقد الإيمان، وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال تعالى في كتابه: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [571] وقال تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا } [572].
شرح : الإشارة إلى ما تقدم من الإيمان بالقدر وسبق علمه بالكائنات قبل خلقها .
قال ﷺ في جواب السائل عن الإيمان : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره .
وقال ﷺ في آخر الحديث : يا عمر أتدري من السائل ؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه جبرائيل ، أتاكم يعلمكم دينكم . [573] .
وقوله : والإقرار بتوحيد الله وربوبيته ، أي لا يتم التوحيد والإقرار بالربوبية إلا بالإيمان بصفاته تعالى ، فإن من زعم خالقاً غير الله فقد أشرك ، فكيف بمن يزعم أن كل أحد يخلق فعله ؟ ! ولهذا كانت القدرية مجوس هذه الأمة ، وأحاديثهم في السنن .
وروى أبو داود عن ابن عمر ، عن النبي ﷺ ، قال : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم .
وروى أبو داود أيضاً عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : لكل أمة مجوس ، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ، ومن مرض منهم فلا تعودوهم ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال .
وروى أبو داود أيضاً عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ ، قال : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم .
وروى الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : صنفان من بني آدم ليس لهم في الإسلام نصيب : المرجئة والقدرية . لكن كل أحاديث القدرية المروعة ضعيفة .
وإنما يصح الموقوف منها : فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : القدر نظام التوحيد ، فمن وحد الله وكذب بالقدر نقض تكذيبه توحيده . وهذا لأن الإيمان بالقدر يتضمن الايمان بعلم الله القديم وما أظهر من علمه الذي لا يحاط به وكتابة مقادير الخلائق .
وقد ضل في هذا الموضع خلائق من المشركين والصابئين والفلاسفة وغيرهم ، ممن ينكر علمه بالجزئيات أو بغير ذلك ، فإن ذلك كله مما يدخل في التكذيب بالقدر . وأما قدرة الله على كل شيء فهو الذي يكذب به القدرية جملة ، حيث جعلوه لم يخلق أفعال العباد ، فأخرجوها عن قدرته وخلقه .
والقدر ، الذي لا ريب في دلالة الكتاب والسنة والإجماع عليه ، وأن الذي جحدوه هم القدرية المحضة بلا نزاع : هو ما قدره الله من مقادير العباد . وعامة ما يوجد من كلام الصحابة والأئمة في ذم القدرية يعني به هؤلاء ، كقول ابن عمر رضي الله عنهما ، لما قيل له : يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف : أخبرهم أني منهم بريء وأنهم مني براء .
والقدر، الذي هو التقدير المطابق للعلم : يتضمن أصولاً عظيمة :
أحدها : أنه عالم بالأمور المقدرة قبل كونها، فيثبت علمه القديم ، وفي ذلك الرد على من ينكر علمه القديم .
الثاني : أن التقدير يتضمن مقادير المخلوقات ، ومقاديرها هي صفاتها المعينة المختصة بها ، فإن الله قد جعل لكل شيء قدراً ، قال تعالى: { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } [574] . فالخلق يتضمن التقدير ، تقدير الشيء في نفسه ، بأن يجعل له قدراً ، وتقديره قبل وجوده . فإذا كان قد كتب لكل مخلوق قدره الذي يخصه في كميته وكيفيته ، كان ذلك أبلغ في العلم بالأمور الجزئية المعينة ، خلافاً لمن أنكر ذلك وقال : إنه يعلم الكليات دون الجزئيات ! فالقدر يتضمن العلم القديم والعلم بالجزئيات .
الثالث : أنه يتضمن أنه أخبر بذلك وأظهره قبل وجود المخلوقات إخباراً مفصلاً ، فيقضي أنه يمكن أن يعلم العباد الأمور قبل وجودها علماً مفصلاً ، فيدل ذلك بطريق التنبيه على أن الخالق أولى بهذا العلم ، فإنه كان يعلم عباده بذلك فكيف لا يعلمه هو ؟!
الرابع : أنه يتضمن أنه مختار لما يفعله ، محدث له بمشيئته وإرادته ، ليس لازما لذاته .
الخامس : أنه يدل على حدوث هذا المقدور ، وأنه كان بعد أن لم يكن ، فإنه يقدره ثم يخلقه .
قوله:(فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً)
فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً ، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً ، لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً ، وعاد بما قال فيه أفكاً أثيماً
شرح : اعلم أن القلب له حياة وموت ، ومرض وشفاء ، وذلك أعظم مما للبدن . قال تعالى: { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا } [575] . أي كان ميتاً بالكفر فأحييناه بالإيمان . فالقلب الصحيح الحي إذا عرض عليه الباطل والقبائح نفر منها بطبعه وأبغضها ولم يلتفت إليها ، بخلاف القلب الميت ، فإنه لا يفرق بين الحسن والقبيح ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : هلك من لم يكن له قلب يعرف به المعروف والمنكر . وكذلك القلب المريض بالشهوة ، فإنه لضعفه يميل إلى ما يعرض له من ذلك بحسب قوة المرض وضعفه .
ومرض القلب نوعان ، كما تقدم : مرض شهوة ، ومرض شبهة ، وأردؤها مرض الشبهة ، وأردأ الشبه ما كان من أمر القدر. وقد يمرض القلب ويشتد مرضه ولا يشعر به صاحبه ، لاشتغاله وانصرافه عن معرفة صحته وأسبابها ، بل قد يموت وصاحبه لا يشعر بموته ، وعلامة ذلك أنه لا تؤلمه جراحات القبائح ، ولا يوجعه جهله بالحق وعقائده الباطلة . فإن القلب إذا كان فيه حياة تألم بورود القبيح عليه ، وتألم بأهله بالحق بحسب حياته . ما لجرح بميت إيلام وقد يشعر بمرضه ، ولكن يشتد عليه تحمل مرارة الدواء والصبر عليها ، فيؤثر بقاء ألمه على مشقة الدواء فإن دواءه في مخالفة الهوى ، وذلك أصعب شيء على النفس ، وليس له أنفع منه ، وتارة يوطن نفسه على الصبر ، ثم ينفسخ عزمه ولا يستمر معه ، لضعف علمه وبصيرته وصبره ، كمن دخل في طريق مخوف مفض إلى غاية الأمن ، وهو يعلم أنه إن صبر عليه انقضى في الخوف وأعقبه الأمن ، فهو محتاج إلى قوة صبر وقوة يقين بما يصير إليه ، ومتى ضعف صبره ويقينه رجع من الطريق ولم يتحمل مشقتها ، ولا سيما إن عدم الرفيق واستوحش من الوحدة وجعل يقول : أين ذهب الناس فلي أسوة بهم ! وهذه حال أكثر الخلق ، وهي التي أهلكتهم . فالصابر الصادق لا يستوحش من قلة الرفيق ولا من فقده ، إذا استشعر قلبه مرافقة الرعيل الأول ، { الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً } [576] .
وما أحسن ما قال أبو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المعروف بأبي شامة - في كتاب الحوادث والبدع - : حيث جاء الأمر بلزوم الجماعة ، فالمراد لزوم الحق واتباعه ، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيراً ، لأن الحق هو الذي كانت عليه الجماعة الأولى من عهد النبي ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم ، ولا ننظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم .
وعن الحسن البصري رحمه الله أنه قال : السنة - والذي لا إله إلا هو- بين الغالي والجافي ، فاصبروا عليها رحمكم الله ، فإن أهل السنة كانوا أقل الناس فيما مضى ، وهم أقل الناس فيما بقي ، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم ، ولا مع أهل البدع في بدعتهم ، وصبروا على سنتهم حتى لقوا ربهم ، فكذلك فكونوا .
وعلامة مرض القلب عدوله عن الأغذية النافعة الموافقة ، إلى الأغذية الضارة ، وعدوله عن دوائه النافع ، إلى دوائه الضار .
فههنا أربعة أشياء : غذاء نافع ، ودواء شاف ، وغذاء ضار ، ودواء مهلك .
فالقلب الصحيح يؤثر النافع الشافي ، على الضار المؤذي ، والقلب المريض بضد ذلك . وأنفع الأغذية غذاء الإيمان ، وأنفع الأدوية دواء القرآن ، وكل منهما فيه الغذاء والدواء ، فمن طلب الشفاء في غير الكتاب والسنة فهو من أجهل الجاهلين وأضل الضالين ،
فإن الله تعالى يقول: { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ } [577] وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } [578] و(من) في قوله (من القرآن) لبيان الجنس، لا للتبعيض، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [579].
فالقرآن هو الشفاء التام من جميع الأدواء القلبية والبدنية ، وأدواء الدنيا والآخرة ، وما كل أحد يؤهل للاستشفاء به . وإذا أحسن العليل التداوي به ، ووضعه على دائه بصدق وإيمان وقبول تام واعتقاد جازم واستيفاء شروطه : لم يقاوم الداء أبداً . وكيف تقاوم الأدواء كلام رب الأرض والسماء ، الذي لو نزل على الجبال لصدعها ، أو على الأرض لقطعها ؟! فما من مرض من أمراض القلوب والأبدان إلا وفي القرآن سبيل الدلالة على دوائه وسببه والحمية منه ، لمن رزقه الله فهما في كتابه .
وقوله : لقد التمس بوهمه في فحص الغيب سراً كتيماً . أي طلب بوهمه في البحث عن الغيب سراً مكتوماً ، إذا القدر سر الله في خلقه ، فهو يروم ببحثه الإطلاع على الغيب ، وقد قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُول} [580] إلى آخر السورة، وقوله: (وعاد بما قال فيه) أي: في القدر، (أفاكاً) كذاباً، (أثيماً) أي: مأثوماً.
وقوله : ( والعرش والكرسي حق )
شرح : كما بين تعالى في كتابه ، قال تعالى: { ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ } [581]... { رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ } [582]... { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [583]... { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } [584] في غير ما آية من القرآن: { لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [585] ... { اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } [586]... { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } [587]... { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [588]... { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [589] .
وفي دعاء الكرب المروي في الصحيح : لا إله إلا الله العظيم الحليم ، لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا الله رب السموات ورب الأرض رب العرش الكريم . وروى الإمام أحمد في حديث الأوعال عن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : هل تدرون كم بين السماء والأرض ؟ قال : قلنا الله ورسوله أعلم ، قال : بينهما مسيرة خمسمائة سنة ، ومن كل سماء إلى سماء مسيرة خمسمائة سنة ، وكثف كل سماء مسيرة خمسمائة ، وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك ثمانية أوعال ، بين ركبهن وأظلافهن - كما بين السماء والأرض ، ثم فوق ذلك العرش بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض ، والله فوق ذلك ، ليس يخفى عليه من أعمال بني آدم شيء . [590] .
وروى أبو داود وغيره ، بسنده إلى رسول الله ﷺ ، من حديث الأطيط ، أنه ﷺ قال : إن عرشه على سمواته لهكذا ، وقال بأصابعه ، مثل القبة . الحديث ، وفي صحيح البخاري عن رسول الله ﷺ أنه قال : إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس ، فإنه أوسط الجنة ، وفوقه عرش الرحمن . يروى وفوقه بالنصب على الظرفية ، وبالرفع على الابتداء ، أي : وسقفه .
وذهب طائفة من أهل الكلام إلى أن العرش فلك مستدير من جميع جوانبه محيط بالعالم من كل جهة ، وربما سموه : الفلك الأطلس ، والفلك التاسع ! وهذا ليس بصحيح ، لأنه قد ثبت في الشرع أن له قوائم تحمله الملائكة ، كما قال ﷺ : فإن الناس يصعقون ، فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش ، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور .
والعرش في اللغة : عبارة عن السرير الذي للملك ، كما قال تعالى عن بلقيس : { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } [591] . وليس هو فلكاً ، ولا تفهم منه العرب ذلك ، والقرآن إنما نزل بلغة العرب ، فهو : سرير ذو قوائم تحمله الملائكة ، وهو كالقبة على العالم ، وهو سقف المخلوقات . فمن شعر أمية ابن أبي الصلت :
مجدوا الله فهو للمجد أهـل | ربنــــا في السماء أمسى كبيراً |
بالناء العالي الذي بهر النا | س وسوى فوق السماء سريراً |
شرجعاً لا يناله بصر العــ | ـين ترى حوله المــــلائك صوراً |
الصور هنا : جمع : أصور ، وهو : المائل العنق لنظره إلى العلو . والشرجع : هو العالي المنيف . والسرير : هو العرش في اللغة . ومن شعر عبد الله ابن رواحة رضي الله عنه ، الذي عرض به عن القراءة لامرأته حين اتهمته بجاريته :
شهدت بأن وعد الله حـــــــق | وأن النار مثوى الكافرينا |
وأن العرش فوق الماء طاف | وفوق العرش رب العالمينا |
وتحمله ملائكة شــــــداد | مــــلائكة الإله مسومينا |
ذكره ابن عبد البر وغيره من الأئمة ، وروى أبو داود عن النبي ﷺ أنه قال : أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله عز وجل من حملة العرش ، إن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام . ورواه ابن أبي حاتم ولفظه : ثخفق الطير سبعمائة عام .
وأما من حرف كلام الله ، وجعل العرش عبارة عن الملك ، كيف يصنع بقوله تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [592] وقوله: { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ } [593] . أيقول : ويحمل ملكه يومئذ ثمانية ؟! وكان ملكه على الماء ! ويكون موسى عليه السلام آخذاً من قوائم الملك ؟! هل يقول هذا عاقل يدري ما يقول ؟ !
وأما الكرسي فقال تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } [594] . وقد قيل : هو العرش ، والصحيح أنه غيره ، نقل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وغيره .
روى ابن أبي شيبة في كتاب صفة العرش ، و الحاكم في مستدركه ، وقال : إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } [595] ، أنه قال : الكرسي موضع القدمين ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله تعالى . وقد روي مرفوعاً ، والصواب أنه موقوف على ابن عباس .
وقال السدي : السماوات والأرض في جوف الكرسي بين يدي العرش . وقال ابن جرير : قال أبو ذر رضي الله عنه : سمعت رسول الله ﷺ يقول : ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض . وقيل : كرسيه علمه ، وينسب الى ابن عباس والمحفوظ عنه ما رواه ابن أبي شيبة ، كما تقدم .
ومن قال غير ذلك فليس له دليل إلا مجرد الظن . والظاهر أنه من جراب الكلام المذموم ، كما قيل في العرش . وإنما هو- كما قال غير واحد من السلف : بين يدي العرش كالمرقاة إليه .
قوله:(وهو مستغن عن العرش وما دونه)
وهو مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الاحاطة خلقه
شرح : أما قوله : وهو مستغن عن العرش وما دونه . فقال تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [596] وقال تعالى : {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [597] . وإنما قال الشيخ رحمه الله هذا الكلام هنا ، لأنه لما ذكر العرش والكرسي ، ذكر بعد ذلك غناه سبحانه عن العرش وما دون العرش ، ليبين أن خلقه العرش لاستوائه عليه ، ليس لحاجته إليه ، بل له في ذلك حكمة اقتضته ، وكون العالي فوق السافل ، لا يلزم أن يكون السافل حاوياً للعالي ، محيطاً به ، حاملاً له ، ولا أن يكون الأعلى مفتقراً إليه .
فانظر إلى السماء ، كيف هي فوق الأرض وليست مفتقرة إليها ؟ فالرب تعالى أعظم شأناً وأجل من أن يلزم من علوه ذلك ، بل لوازم علوه من خصائصه ، وهي حمله بقدرته للسافل ، وفقر السافل ، وغناه هو سبحانه عن السافل ، وإحاطته عز وجل به ، فهو فوق العرش مع حمله بقدرته للعرش وحملته ، وغناه عن العرش ، وفقر العرش إليه ، وإحاطته بالعرش ، وعدم إحاطة العرش به ، وحصره للعرش ، وعدم حصر العرش له . وهذه اللوازم منتفية عن المخلوق .
ونفاة العلو ، أهل التعطيل ، لو فصلوا بهذا التفصيل ، لهدوا إلى سواء السبيل ، وعلموا مطابقة العقل للتنزيل ، ولسلكوا خلف الدليل ، ولكن فارقوا الدليل ، فضلوا عن سواء السبيل . والأمر في ذلك كما قال الإمام مالك رحمه الله ، لما سئل عن قوله تعالى : {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [598] وغيرها : كيف استوى ؟
فقال الاستواء معلوم والكيف مجهول . ويروى هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي ﷺ .
وأما قوله : محيط بكل شيء وفوقه ، وفي بعض النسخ : محيط بكل شيء فوقه ، بحذف الواو من قوله : فوقه ، والنسخة الأولى هي الصحيحة ، ومعناها : أنه ، تعالى محيط بكل شيء وفوق كل شيء .
ومعنى الثانية : أنه محيط بكل شيء فوق العرش . وهذه - والله أعلم - إما أن يكون أسقطها بعض النساخ سهواً ، ثم استنسخ بعض الناس من تلك النسخة ، أو أن بعض المحرفين الضالين أسقطها قصداً للفساد ، وإنكار لصفة الفوقية ! وإلا فقد قام الدليل على أن العرش فوق المخلوقات وليس فوقه شيء من المخلوقات ، فلا يبقى لقوله : محيط - بمعنى : محيط بكل شيء فوق العرش ، والحالة هذه : معنى ! إذ ليس فوق العرش من المخلوقات ما يحيط به ، فتعين ثبوت الواو . ويكون المعنى : أنه سبحانه محيط بكل شيء ، وفوق كل شيء .
أما كونه محيطاً بكل شيء ، فقال تعالى: { وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ } [599]... { أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ } [600]، { وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا } [601] .
وليس المراد من إحاطته بخلقه أنه كالفلك ، وأن المخلوقات داخل ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً . وإنما المراد : إحاطة عظمته . وسعة علمه وقدرته ، وأنها بالنسبة إلى عظمته كخردلة .
كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في يد الرحمن - إلا كخردلة في يد أحدكم .
ومن المعلوم - ولله المثل الأعلى - أن الواحد منا إذا كان عنده خردلة ، إن شاء قبضها وأحاط قبضته بها ، وإن شاء جعلها تحته ، وهو في الحالين مباين لها ، عال عليها فوقها من جميع الوجوه ، فكيف بالعظيم الذي لا يحيط بعظمته وصف واصف . فلو شاء لقبض السماوات والأرض اليوم ، وفعل بها كما يفعل بها يوم القيامة ، فإنه لا يتجدد به إذ ذاك قدرة ليس عليها الآن ، فكيف يستبعد العقل مع ذلك أنه يدنو سبحانه من بعض أجزاء العالم وهو على عرشه فوق سماواته ؟ أو يدني إليه من يشاء من خلقه ؟ فمن نفى ذلك لم يقدره حق قدره .
وفي حديث أبي رزين المشهور الذي رواه عن النبي ﷺ في رؤية الرب تعالى : فقال له أبو زرين : كيف يسعنا -يا رسول الله - وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال : سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر، آية من آيات الله ، كلكم يراه مخلياً به ، والله أكبر من ذلك ، وإذا أفل تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء . فهذا يزيل كل إشكال ، ويبطل كل خيال .
وأما كونه فوق المخلوقات ، فقال تعالى: { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [602]، { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ } [603] . وقال ﷺ في حديث الأوعال المتقدم ذكره : والعرش فوق ذلك ، والله فوق ذلك كله .
وقد أنشد عبد الله بن رواحة شعره المذكور بين يدي النبي ﷺ ، وأقره على ما قال : وضحك منه .
وكذا أنشده حسان بن ثابت رضي الله عنه قوله :
شهدت بإذن الله أن محمداً رسول | الذي فوق السماوات من عل |
وأن أبا يحيى ويحيى كلاهما | لــــه عمل من ربـه مـتقبل |
وأن الذي عادى اليهود ابن مريم | رسول أتى من عند ذي العرش مرسل |
وأنا أخا الأحقاف إذ قام فيهم | يجاهد في ذات الإله ويعدل |
فقال النبي ﷺ : وأنا أشهد .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ، أنه قال : لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرشرح : أن رحمتي سبقت غضبي وفي رواية : تغلب غضبي [604] .
وروى ابن ماجه عن جابر يرفعه ، قال : بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور، فرفعوا إليه رؤوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى: { سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [605] . فينظر إليهم ، وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه .
وروى مسلم عن النبي ﷺ ، في تفسير قوله تعالى: { هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [606] بقوله: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء) والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: { فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ } [607] ، أي يعلوه . فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته ، واسمان لعلوه وقربه .
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن جده ، قال : أتى رسول الله ﷺ أعرابي ، فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس [608] ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ، فإنا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك ، فقال رسول الله ﷺ : ويحك ! أتدري ما تقول ؟ وسبح رسول الله ﷺ ، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، ثم قال : ويحك ! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ، شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك ! أتدري ما الله ؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق سماواته ، وقال بأصابعه ! مثل القبة عليه ، وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب . وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة ، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ، فقال النبي ﷺ : لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات . [609] .
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها ، أنها كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ ، وتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله من فوق سبع سماوات .
وعن عمر رضي الله عنه : أنه مر بعجوز فاستوقفته ، فوقف معها يحدثها ، فقال رجل : يا أمير المؤمنين ، حبست الناس بسبب هذه العجوز ؟ فقال : ويلك ! أتدري من هذه ؟ أمرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التي أنزل الله فيها . { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ } [610]). [611] .
وروى عكرمة عن ابن عباس ، في قوله : { ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } [612] ، قال : ولم يستطع أن يقول من فوقهم ، لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم .
ومن سمع أحاديث الرسول ﷺ وكلام السلف ، وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر . ولا ريب أن الله سبحانه لما خلق لم يخلقهم في ذاته المقدسة ، تعالى الله عن ذلك ، فإنه الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ، فتعين أنه خلقهم خارجاً عن ذاته ، ولو لم يتصف سبحانه بفوقية الذات ، مع أنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم ، لكان متصفاً بضد ذلك ، لأن القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده ، وضد الفوقية : السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ، لأنه مستقر إبليس وأتباعه وجنوده .
فإن قيل : لا نسلم أنه قابل للفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها . قيل : لو لم يكن قابلاً للعلو والفوقية لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه ، غير مخالط للعالم ، وأنه موجود في الخارج ، ليس وجوده ذهنياً فقط ، بل وجوده خارج الأذهان قطعاً ، وقد علم العقلاء كلهم بالضرورة أن ما كان وجوده كذلك فهو : إما داخل العالم وإما خارج عنه ، وإنكار ذلك إنكار ما هو أجلى وأظهر من الأمور البديهيات الضرورية بلا ريب ، فلا يستدل على ذلك بدليل إلا كان العلم بالمباينة أظهر منه ، وأوضح وأبين . وإذا كان صفة العلو والفوقية صفة كمال ، لا نقص فيه ، ولا يستلزم نقصاً ، ولا يوجب محذوراً ، ولا يخالف كتاباً ولا سنة ولا إجماعاً ، فنفي حقيقته يكون عين الباطل والمحال الذي لا تأتي به شريعة أصلاً . فكيف إذا كان لا يمكن الإقرار بوجوده وتصديق رسله ، والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله - : إلا بذلك ؟ فكيف إذا انضم إلى ذلك شهادة العقول السليمة ، والفطر المستقيمة ، والنصوص الواردة المتنوعة المحكمة على علو الله على خلقه ، وكونه فوق عباده ، التي تقرب من عشرين نوعاً :
أحدها : التصريح بالفوقية مقروناً بأداة : من ، المعينة للفوقية بالذات ، كقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [613].
الثاني: ذكرها مجردة عن الأداة؛ كقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [614].
الثالث: التصريح بالعروج إليه؛ نحو: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [615]، وقوله ﷺ: (فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم).
الرابع: التصريح بالصعود إليه؛ كقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [616].
الخامس: التصريح برفعه بعض المخلوقات إليه؛ كقوله تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [617]. وقوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [618].
السادس: التصريح بالعلو المطلق الدال على جميع مراتب العلو ذاتاً، وقدراً، وشرفاً؛ كقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [619].. {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [620].. {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [621]
السابع : التصريح بتنزيل الكتاب منه ، كقوله تعالى: { تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [622].. { تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } [623].. { تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } [624].. { تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [625].. { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ } [626] { حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } [627]]</ref>
الثامن: التصريح باختصاص بعض المخلوقات بأنها عنده، وأن بعضها أقرب إليه من بعض، كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [628]. {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [629] . ففرق بين من له عموماً وبين من عنده من ملائكته وعبيده خصوصاً . وقول النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه الرب تعالى على نفسه : أنه عنده فوق العرش .
التاسع : التصريح بأنه تعالى في السماء ، وهذا عند المفسرين من أهل السنة على أحد وجهين : إما أن تكون في بمعنى على ، وإما أن يراد بالسماء العلو ، لا يختلفون في ذلك ، ولا يجوز الحمل على غيره .
العاشر : التصريح بالاستواء مقروناً بأداة على مختصاً بالعرش ، الذي هو أعلى المخلوقات ، مصاحباً في الأكثر لأداة : ثم الدالة على الترتيب والمهلة .
الحادي عشر : التصريح برفع الأيدي إلى الله تعالى ، كقوله ﷺ : إن الله يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً . والقول بأن العلو قبلة الدعاء فقط - باطل بالضرورة والفطرة ، وهذا يجده من نفسه كل داع ، كما يأتي إن شاء الله تعالى .
الثاني عشر : التصريح بنزوله كل ليلة إلى سماء الدنيا ، والنزول المعقول عند جميع الأمم إنما يكون من علو إلى سفل .
الثالث عشر : الإشارة إليه حساً إلى العلو ، كما أشار إليه من هو أعلم بربه وبما يجب له ويمتنع عليه من جميع البشر ، لما كان بالمجمع الأعظم الذي لم يجتمع لأحد مثله ، في اليوم الأعظم ، في المكان الأعظم ، قال لهم : أنتم مسؤولون عني ، فماذا أنتم قائلون ؟ قالوا . نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فرفع أصبعه الكريمة إلى السماء رافعاً لها إلى من هو فوقها وفوق كل شيء ، قائلاً : اللهم أشهد . فكأنا نشاهد تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله ، وذلك اللسان الكريم وهو يقول لمن رفع أصبعه إليه : اللهم أشهد ، ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين ، وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح أمته غاية النصيحة ، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين ، وحذلقة المتحذلقين ! والحمد لله رب العالمين .
الرابع عشر : التصريح بلفظ : الأين كقول أعلم الخلق به ، وأنصحهم لأمته ، وأفصحهم بياناً عن المعنى الصحيح ، بلفظ لا يوهم باطلاً بوجه : أين الله ، في غير موضع .
الخامس عشر : شهادته ﷺ لمن قال إن ربه في السماء - بالإيمان .
السادس عشر : إخباره تعالى عن فرعون أنه رام الصعود إلى السماء ، ليطلع إلى إله موسى فيكذبه فيما أخبره من أنه سبحانه فوق السماوات ، فقال : { يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا } [630] . فمن نفى العلو من الجهمية فهو فرعوني ، ومن أثبته فهو موسوي محمدي .
السابع عشر : إخباره ﷺ : أنه تردد بين موسى عليه السلام وبين ربه ليلة المعراج بسبب تخفيف الصلاة ، فيصعد إلى ربه ثم يعود إلى موسى عدة مرار .
الثامن عشر : النصوص الدالة على رؤية أهل الجنة له تعالى ، من الكتاب والسنة ، وإخبار النبي ﷺ أنهم يرونه كرؤية الشمس والقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب ، فلا يرونه إلا من فوقهم ، كما قال ﷺ : بينا أهل الجنة في نعيمهم ، إذ سطع لهم نور، فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة ، سلام عليكم ، ثم قرأ قوله تعالى : { سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ } [631] . ثم يتوارى عنهم ، وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم [632] .
ولا يتم إنكار الفوقية إلا بإنكار الرؤية . ولهذا طرد الجهمية الشقين ، وصدق أهل السنة بالأمرين معاً ، وأقروا بهما ، وصار من أثبت الرؤية ونفى العلو مذبذباً بين ذلك ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ! وهذه الأنواع من الأدلة لو بسطت أفرادها لبلغت نحو ألف دليل ، فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله ! وهيهات له بجواب صحيح عن بعض ذلك ! وكلام السلف في إثبات صفة العلو كثير جداً : فمنه : ما روى شيخ الإسلام أبو اسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده إلى مطيع البلخي : أنه سأل أبا حنيفة عمن قال : لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ؟ فقال : قد كفر ، لأن الله يقول : {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [633] وعرشه فوق سبع سماواته ، قلت : فإن قال : إنه على العرش ، ولكن يقول : لا أدري العرش في السماء أم في الأرض ؟ قال : هو كافر، لأنه أنكر أنه في السماء ، فمن أنكر أنه في السماء فقد كفر . وزاد غيره : لأن الله في أعلى عليين ، وهو يدعى من أعلى ، لا من أسفل . انتهى .
ولا يلتفت إلى من أنكر ذلك ممن ينتسب إلى مذهب أبي حنيفة ، فقد انتسب إليه طوائف معتزلة وغيرهم ، مخالفون له في كثير من اعتقاداته . وقد ينتسب إلى مالك و الشافعي و أحمد من يخالفهم في بعض اعتقاداتهم . وقصة أبي يوسف في استتابة بشر المريسي ، لما أنكر أن يكون الله عز وجل فوق العرش - : مشهورة . [634] .
ومن تأول فوق ، بأنه خير من عباده وأفضل منهم ، وأنه خير من العرش وأفضل منه ، كما يقال : الأمير فوق الوزير ، والدينار فوق الدرهم - : فذلك مما تنفر عنه العقول السليمة ، وتشمئز منه القلوب الصحيحة ! فإن قول القائل ابتداء : الله خير من عباده ، وخير من عرشه : من جنس قوله : الثلج بارد ، والنار حارة ، والشمس أضوأ من السراج ، والسماء أعلى من سقف الدار ، والجبل أثقل من الحصى ، ورسول الله أفضل من فلان اليهودي ، والسماء فوق الأرض ! ! وليس في ذلك تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، بل هو من أرذل الكلام وأسمجه وأهجنه ! فكيف يليق بكلام الله ، الذي لو اجتمع الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لما أتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ؟! بل في ذلك تنقص ، كما قيل في المثل السائر :
ألم تر أن السيف ينقص قدره | إذا قيل إن السيف أمضى من العصا |
ولو قال قائل : الجوهر فوق قشر البصل وقشرالسمك ! لضحك منه العقلاء ، للتفاوت الذي بينهما ، فإن التفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم . بخلاف ما إذا كان المقام يقتضي ذلك ، بأن كان احتجاجاً على مبطل ، كما في قول يوسف الصديق عليه السلام : { أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ } [635] وقوله تعالى: { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } [636].. { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [637] .
وإنما يثبت هذا المعنى من الفوقية في ضمن ثبوت الفوقية المطلقة من كل وجه ، فله سبحانه وتعالى فوقية القهر ، وفوقية القدر ، وفوقية الذات . ومن أثبت البعض ونفى البعض فقد تنقص ، وعلوه تعالى مطلق من كل الوجوه .
فإن قالوا ، بل علو المكانة لا المكان ؟ فالمكانة : تأنيث المكان ، والمنزلة : تأنيث المنزل ، فلفظ المكانة والمنزلة تستعمل في المكانات النفسانية والروحانية ، كما يستعمل لفظ المكان والمنزل في الأمكنة الجسمانية ، فإذا قيل : لك في قلوبنا منزلة ، ومنزلة فلان في قلوبنا وفي نفوسنا أعظم من منزلة فلان ، كما جاء في الأثر : إذا أحب أحدكم أن يعرف كيف منزلته عند الله ، فلينظر كيف منزلة الله في قلبه ، فإن الله ينزل العبد من نفسه حيث أنزله العبد من قلبه . فقوله : منزلة الله في قلبه : هو ما يكون في قلبه من معرفة الله ومحبته وتعظيمه وغير ذلك ، فإذا عرف أن المكانة والمنزلة : تأنيث المكان والمنزل ، والمؤنث فرع على المذكر في اللفظ والمعنى ، وتابع له ، فعلو المثل الذي يكون في الذهن يتبع علو الحقيقة ، إذا كان مطابقاً كان حقاً ، وإلا باطلاً .
فإن قيل : المراد علوه في القلوب ، وأنه أعلى في القلوب من كل شيء . قيل : وكذلك هو ، وهذا العلو مطابق لعلوه في نفسه على كل شيء ، فإن لم يكن عالياً بنفسه على كل شيء ، كان علو ، في القلوب غير مطابق ، كمن جعل ما ليس بأعلى أعلى .
وعلوه سبحانه وتعالى كما هو ثابت بالسمع ، ثابت بالعقل والفطرة ، أما ثبوته بالعقل فمن وجوه :
أحدها : العلم البديهي القاطع بأن كل موجودين ، إما أن يكون أحدهما سارياً في الآخر قائماً به كالصفات ، وإما أن يكون قائماً بنفسه بائناً من الآخر .
الثاني : أنه لما خلق العالم ، فإما أن يكون خلقه في ذاته أو خارجاً عن ذاته ، والأول باطل :
أما أولاً : فبالاتفاق ، وأما ثانياً : فلأنه يلزم أن يكون محلاً للخسائس والقاذورات تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
والثاني يقتضي كون العلم واقعاً خارج ذاته ، فيكون منفصلاً ، فتعينت المباينة ، لأن القول بأنه غير متصل بالعالم وغير منفصل عنه - غير معقول .
الثالث : أن كونه تعالى لا داخل العالم ولا خارجه - : يقتضي نفي وجوده بالكلية ، لأنه غير معقول : فيكون موجوداً إما داخله وإما خارجه . والأول باطل فتعين الثاني ، فلزمت المباينة .
وأما ثبوته بالفطرة ، فإن الخلق جميعاً بطباعهم وقلوبهم السليمة يرفعون أيديهم عند الدعاء ، ويقصدون جهة العلو بقلوبهم عند التضرع إلى الله تعالى . وذكر محمد بن طاهر المقدسي أن الشيخ أبا جعفر الهمداني حضر مجلس الأستاذ أبي المعالي الجويني المعروف بإمام الحرمين ، وهو يتكلم في نفي صفة العلو ، ويقول : كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان ! فقال الشيخ أبو جعفر : أخبرنا يا أستاذ عن هذه الضرورة التي نجدها في قلوبنا ؟ فإنه ما قال عارف قط : يا الله ، إلا وجد في قلبه ضرورة طلب العلو ، لا يلتفت يمنة ولا يسرة ، فكيف ندفع بهذه الضرورة عن أنفسنا ؟ قال : فلطم أبو المعالي على رأسه ونزل ! وأظنه قال : وبكى ! وقال : حيرني الهمداني حيرني ! أراد الشيخ : أن هذا أمر فطر الله عليه عباده ، من غير أن يتلقوه من المرسلين ، يجدون في قلوبهم طلباً ضرورياً يتوجه إلى الله ويطلبه في العلو .
وقد اعترض على الدليل العقلي بإنكار بداهته ، لأنه أنكره جمهور العقلاء ، فلو كان بديهياً لما كان مختلفاً فيه بين العقلاء ، بل هو قضية وهمية خيالية ؟ والجواب عن هذا الاعتراض مبسوط في موضعه ، ولكن أشير إليه هنا إشارة مختصرة ، وهو أن يقال : إن العقل إن قبل قولكم فهو لقولنا أقبل ، وإن رد العقل قولنا فهو لقولكم أعظم فإن كان قولنا باطلاً في العقل ، فقولكم أبطل ، وإن كان قولكم حقاً مقبولاً في العقل ، فقولنا أولى أن يكون مقبولاً في العقل . فإن دعوى الضرورة مشتركة ، فإنا نقول : نعلم بالضرورة بطلان قولكم ، وأنتم تقولون كذلك ، فإذا قلتم : تلك الضرورة التي تحكم ببطلان قولنا هي من حكم الوهم لا من حكم العقل ؟ قابلناكم بنظير قولكم ، وعامة فطر الناس ، - ليسوا منكم ولا منا - موافقون لنا على هذا ، فإن كان حكم فطر بني آدم مقبولاً ترجحنا عليكم ، وإن كان مردوداً غير مقبول بطل قولكم بالكلية ، فإنكم إنما بنيتم قولكم على ما تدعون أنه مقدمات معلومة بالفطرة الآدمية ، وبطلت عقلياتنا أيضاً ، وكان السمع الذي جاءت به الأنبياء معنا لا معكم ، فنحن مختصون بالسمع دونكم ، والعقل مشترك بيننا وبينكم .
فإن قلتم : أكثر العقلاء يقولون بقولنا ؟ قيل : ليس الأمر كذلك ، فإن الذين يصرحون بأن صانع العالم شيء موجود ليس فوق العالم ، وأنه لا مباين للعالم ولا حال في العالم - : طائفة من النظار ، وأول من عرف عنه ذلك في الإسلام جهم ابن صفوان وأتباعه .
واعترض على الدليل الفطري : أن ذلك إنما لكون السماء قبلة للدعاء ، كما أن الكعبة قبلة للصلاة ، ثم هو منقوض بوضع الجبهة على الأرض مع أنه ليس في جهة الأرض ؟ وأجيب على هذا الإعتراض من وجوه :
أحدها : أن قولكم : إن السماء قبلة للدعاء - لم يقله أحد من سلف الأمة ، ولا أنزل الله به من سلطان ، وهذا من الأمور الشرعية الدينية ، فلا يجوز أن يخفى على جميع سلف الأمة وعلمائها .
الثاني : أن قبلة الدعاء هي قبلة الصلاة ، فإنه يستحث للداعي أن يستقبل القبلة، وكان النبي ﷺ يستقبل القبلة في دعائه في مواطن كثيرة ، فمن قال إن للدعاء قبلة غير قبلة الصلاة ، أو أن له قبلتين : إحداهما الكعبة والأخرى السماء - : فقد ابتدع في الدين ، وخالف جماعة المسلمين .
الثالث : أن القبلة : هي ما يستقبله العابد بوجهه ، كما تستقبل الكعبة في الصلاة والدعاء ، والذكر والذبح ، وكما يوجه المحتضر والمدفون ، ولذلك سميت وجهة . والإستقبال خلاف الإستدبار، فالإستقبال بالوجه ، والإستدبار بالدبر، فأما ما حاذاه الإنسان برأسه أو يديه أو جنبه فهذا لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازاً ، فلو كانت السماء قبلة الدعاء لكان المشروع أن يوجه الداعي وجهه إليها ، وهذا لم يشرع ، والموضع الذي ترفع اليد إليه لا يسمى قبلة ، لا حقيقة ولا مجازاً ، ولأن القبلة في الدعاء أمر شرعي تنبع فيه الشرائع ، ولم تأمر الرسل أن الداعي يستقل السماء بوجهه ، بل نهواً عن ذلك .
ومعلوم أن التوجه بالقلب ، واللجأ والطلب الذي يجده الداعي من نفسه أمر فطري ، يفعله المسلم والكافر والعالم والجاهل ، وأكثر ما يفعله المضطر والمستغيث بالله ، كما فطر على أنه إذا مسه الضر يدعو الله ، مع أن أمر القبلة مما يقبل النسخ والتحويل ، كما تحولت القبلة من الصخرة إلى الكعبة . وأمر التوجه في الدعاء إلى الجهة العلوية مركوز في الفطر، والمستقبل للكعبة يعلم أن الله تعالى ليس هناك ، بخلاف الداعي ، فإنه يتوجه إلى ربه وخالقه ، ويرجو الرحمة أن تنزل من عنده .
وأما النقض بوضع الجبهة فما أفسده من نقض ، فإن واضع الجبهة إنما قصده الخضوع لمن فوقه بالذل له ، لا أن يميل إليه إذ هو تحته ! هذا لا يخطر في قلب ساجد . لكن يحكى عن بشر المريسي أنه سمع وهو يقول في سجوده : سبحان ربي الأسفل ! ! تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً .
وإن من أفضى به النفي إلى هذه الحال حري أن يتزندق ، إن لم يتداركه الله برحمته ، وبعيد من مثله الصلاح ، قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [638]. وقال تعالى : { فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [639] . فمن لم يطلب الإهتداء من مظانه يعاقب بالحرمان . نسأل الله العفو والعافية .
وقوله : وقد أعجز عن الإحاطة خلقه - أي لا يحيطون به علماً ولا رؤية ، ولا غير ذلك من وجوه الإحاطة ، بل هو سبحانه محيط بكل شيء ، ولا يحيط به شيء .
قوله:(ونقول: ان الله اتخذ إبراهيم خليلاً ،وكلم الله موسى تكليماً)
ونقول: ان الله اتخذ إبراهيم خليلاً ،وكلم الله موسى تكليماً ، إيماناً وتصديقاً وتسليماً
شرح : قال تعالى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [640]، وقال تعالى : {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [641] . الخلة : كمال المحبة .
وأنكرت الجهمية حقيقة المحبة من الجانبين ، زعماً منهم أن المحبة لا تكون إلا لمناسبة بين المحب والمحبوب ، وأنه لا مناسبة بين القديم والمحدث توجب المحبة ! وكذلك أنكروا حقيقة التكليم ، كما تقدم ، وكان أول من ابتدع هذا في الإسلام هو الجعد بن درهم ، في أوائل المائة الثانية فضحى به خالد بن عبد الله القسري أمير العراق والمشرق بواسط ، خطب الناس يوم الأضحى فقال : أيها الناس ضحوا ، تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ، ولم يكلم موسى تكليماً ، ثم نزل فذبحه . وكان ذلك بفتوى أهل زمانه من علماء التابعين رضي الله عنهم ، فجزاه الله عن الدين وأهله خيراً .
وأخذ هذا المذهب عن الجعد - الجهم بن صفوان ، فأظهره وناظر عليه ، وإليه أضيف قول : الجهمية . فقتله مسلم بن أحوز أمير خراسان بها ، ثم انتقل ذلك إلى المعتزلة أتباع عمرو بن عبيد ، وظهر قولهم في أثناء خلافة المأمون ، حتى امتحن أئمة الإسلام ، ودعوهم إلى الموافقة لهم على ذلك . وأصل هذا مأخوذ عن المشركين والصابئة ، وهم ينكرون أن يكون إبراهيم خليلاً وموسى كليماً ، لأن الخلة هي كمال المحبة المستغرقة للمحب ، كما قيل :
قد تخللت مسلك الروح مني | ولذا سمي الخليل خليلاً |
ولكن محبته وخلته كما يليق به تعالى ، كسائرصفاته . ويشهد لما دلت عليه الآية الكريمة ما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي ﷺ قال : لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، ولكن صاحبكم خليل الله ، يعني نفسه .
وفي رواية : إني أبرأ إلى كل خليل من خلته ، ولو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً . وفي رواية : إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً .
فبين ﷺ أنه لا يصلح له أن يتخذ من المخلوقين خليلاً ، وأنه لو أمكن ذلك لكان أحق الناس به أبو بكر الصديق . مع أنه ﷺ قد وصف نفسه بأنه يحب أشخاصاً ، كقوله لمعاذ : والله إني لأحبك . وكذلك قوله للأنصار . وكان زيد بن حارثة حب رسول الله ﷺ ، وابنه أسامة حبه . وأمثال ذلك . وقال له عمرو بن العاص : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، قال : فمن الرجال ؟ قال : أبوها . فعلم أن الخلة أخص من مطلق المحبة ، والمحبوب بها لكمالها يكون محباً لذاته ، لا لشيء آخر، إذ المحبوب لغيره هو مؤخر في الحب عن ذلك الغير ، ومن كمالها لا تقبل الشركة ولا المزاحمة ، لتخللها المحبة ، ففيها كمال التوحيد وكمال الحب . ولذلك لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكان إبراهيم قد سأل ربه أن يهب له ولداً صالحاً ، فوهب له اسماعيل ، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه ، فغار الخليل على قلب خليله أن يكون فيه مكان لغيره ، فامتحنه به بذبحه ، ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده ، فلما استسلم لأمر ربه ، وعزم على فعله ، فظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثاراً لمحبة خليله على محبته ، نسخ الله ذلك عنه ، وفداه بالذبح العظيم ، لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أمر ، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح نفسه مفسدة ، فنسخ في حقه ، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في أتباعه إلى يوم القيامة . وكما أن منزلة الخلة الثابتة لإبراهيم صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا ﷺ كما تقدم ، كذلك منزلة التكليم الثابتة لموسى صلوات الله عليه قد شاركه فيها نبينا ﷺ ، كما ثبت ذلك في حديث الإسراء .
وهنا سؤال مشهور ، وهو : أن النبي ﷺ أفضل من إبراهيم ﷺ ، فكيف طلب له من الصلاة مثل ما لإبراهيم ، مع أن المشبه به أصله أن يكون فوق المشبه ؟ وكيف الجمع بين هذين الأمرين المتنافيين ؟ وقد أجاب عنه العلماء بأجوبة عديدة ، يضيق هذا المكان عن بسطها . وأحسنها : أن آل إبراهيم فيهم الأنبياء الذين ليس في آل محمد مثلهم ، فإذا طلب للنبي ﷺ ولآله من الصلاة مثل ما لإبراهيم وآله وفيهم الأنبياء ، حصل لآل محمد ما يليق بهم لأنهم لا يبلغون مراتب الأنبياء ، وتبقى الزيادة التي للأنبياء وفيهم إبراهيم لمحمد ﷺ ، فيحصل له من المزية ما لم يحصل لغيره . وأحسن من هذا : أن النبي ﷺ من آل ابراهيم ، بل هو أفضل آل ابراهيم ، فيكون قولنا : كما صليت على آل ابراهيم - متناولاً الصلاة عليه وعلى سائر النبيين من ذرية إبراهيم وهو متناول لإبراهيم أيضاً . كما في قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [642]، فإبراهيم وعمران دخلا في آل إبراهيم وآل عمران، وكما في قوله تعالى: { إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ } [643]. فإن لوطاً داخل في آل لوط، وكما في قوله تعالى: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ } [644]. وقوله: { أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ } [645] فإن فرعون داخل في آل فرعون . ولهذا والله أعلم ، أكثر روايات حديث الصلاة على النبي ﷺ إنما فيها كما صليت على آل إبراهيم . وفي كثير منها : كما صليت على إبراهيم ولم يرد : كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إلا في قليل من الروايات ومما ذلك إلا لأن في قوله : كما صليت على إبراهيم ، يدخل آله تبعاً .
وفي قوله : كما صليت على آل إبراهيم ، هو داخل آل إبراهيم . وكذلك لما جاء أبو أوفى رضي الله عنه بصدقة إلى النبي ﷺ دعا له النبي ﷺ وقال : اللهم صل على آل أبي أوفى . ولما كان بيت إبراهيم عليه السلام أشرف بيوت العالم على الإطلاق ، خصهم الله بخصائص : منها : أنه جعل فيه النبوة والكتاب ، فلم يأت بعد إبراهيم نبي إلا من أهل بيته . ومنها : أنه سبحانه جملهم أئمة يهدون بأمره إلى يوم القيامة ، فكل من دخل الجنة من أولياء الله بعدهم فإنما دخل من طريقهم وبدعوتهم . ومنها : أنه سبحانه اتخذ منهم الخليلين ، كما تقدم ذكره . ومنها : أنه جعل صاحب هذا البيت إماماً للناس . قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [646] . ومنها : أنه أجرى على يديه بناء بيته الذي جعله قياماً للناس ومثابة للناس وأمناً ، وجعله قبلة لهم وحجاً ، فكان ظهور هذا البيت في الأكرمين . ومنها : أنه أمر عباده أن يصلوا على أهل البيت . إلى غير ذلك من الخصائص .
قوله:(ونؤمن بالملائكة والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين)
ونؤمن بالملائكة والنبيين ،والكتب المنزلة على المرسلين ، ونشهد أنهم كانوا على الحق المبين
شرح : هذه الأمور من أركان الإيمان . قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [647] الآيات، وقال تعالى : {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [648] الآية؛ فجعل الله سبحانه وتعالى الإيمان هو الإيمان بهذه الجملة، وسمى من آمن بهذه الجملة مؤمنين، كما جعل الكافرين من كفر بهذه الجملة. بقوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [649] .
وقال ﷺ ، في الحديث المتفق على صحته ، حديث جبرائيل وسؤاله للنبي ﷺ عن الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتؤمن بالقدر خيره وشره . فهذه الأصول التي اتفقت عليها الأنبياء والرسل صلوات الله عليهم وسلامه ، ولم يؤمن بها حقيقة الإيمان إلا أتباع الرسل .
وأما أعداؤهم ومن سلك سبيلهم من الفلاسفة وأهل البدع ، فهم متفاوتون في جحدها وإنكارها ، وأعظم الناس لها إنكاراً الفلاسفة المسمون عند من يعظمهم بالحكماء ، فإن من علم حقيقة قولهم علم أنهم لم يؤمنوا بالله ولا رسله ولا كتبه ولا ملائكته ولا باليوم الآخر ، فإن مذهبهم أن الله سبحانه موجود لا ماهية له ولا حقيقة ، فلا يعلم الجزئيات بأعيانها ، وكل موجود في الخارج فهو جزئي ، ولا يفعل عندهم بقدرته ومشيئته ، وإنما العالم عندهم لازم له أزلاً وأبداً ، وإن سموه مفعولاً له فمصانعة ومصالحة للمسلمين في اللفظ ، وليس عندهم بمفعول ولا مخلوق ولا مقدور عليه ، وينفون عنه سمعه وبصره وسائر صفاته ! فهذا إيمانهم بالله .
وأما كتبه عندهم ، فإنهم لا يصفونه بالكلام ، فلا يكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، والقرآن عندهم فيض فاض من العقل الفعال على قلب بشر زاكي النفس طاهر ، متميز عن النوع الإنساني بثلاث خصائص : قوة الإدراك وسرعته ، لينال من العلم أعظم ما يناله غيره ! وقوة النفس ، ليؤثر بها في هيولى العالم يقلب صورة إلى صورة ! وقوة التخييل ، ليخيل بها القوى العقلية في أشكال محسوسة ، وهي الملائكة عندهم ! وليس في الخارج ذات منفصلة تصعد وتنزل وتذهب وتجيء وترى وتخاطب الرسول ، وإنما ذلك عندهم أمور ذهنية لا وجود لها في الأعيان .
وأما اليوم الآخر ، فهم أشد الناس تكذيباً وإنكاراً له في الأعيان ، وعندهم أن هذا العالم لا يخرب ، ولا تنشق السماوات ولا تنفطر ، ولا تنكدر النجوم ولا تكور الشمس والقمر ، ولا يقوم الناس من قبورهم ويبعثون إلى جنة ونار ! كل هذا عندهم أمثال مضروبة لتفهيم العوام ، لا حقيقة لها في الخارج ، كما يفهم منها أتباع الرسل . فهذا إيمان هذه الطائفة - الذليلة الحقيرة - بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . وهذه هي أصول الدين الخمسة .
وقد أبدلتها المعتزلة بأصولهم الخمسة التي هدموا بها كثيراً من الدين : فإنهم بنوا أصل دينهم على الجسم والعرض ، الذي هو الموصوف والصفة عندهم ، واحتجوا بالصفات التي هي الأعراض ، على حدوث الموصوف الذي هو الجسم ، وتكلموا في التوحيد على هذا الأصل ، فنفوا عن الله كل صفة ، تشبيهاً بالصفات الموجودة في الموصوفات التي هي الأجسام ، ثم تكلموا بعد ذلك في أفعاله التي هي القدر، وسموا ذلك العدل ، ثم تكلموا في النبوة والشرائع والأمر والنهي والوعد والوعيد ، وهي مسائل الأسماء والأحكام ، التي هي المنزلة بين المنزلتين ، ومسألة إنقاذ الوعيد ، ثم تكلموا في إلزام الغير بذلك ، الذي هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وضمنوه جواز الخروج على الأئمة بالقتال . فهذه أصولهم الخمسة ، التي وضعوها بإزاء أصول الدين الخمسة التي بعث بها الرسول .
والرافضة المتأخرون ، جعلوا الأصول أربعة : التوحيد ، والعدل ، والنبوة ، والإمامة .
وأصول أهل السنة والجماعة تابعة لما جاء به الرسول . وأصل الدين : الإيمان بما جاء به الرسول ، كما تقدم بيان ذلك ، ولهذا كانت الآيتان من آخر سورة البقرة - لما تضمنتا هذا الأصل - : لهما شأن عظيم ليس لغيرهما ، ففي الصحيحين عن أبي مسعود عقبة بن عمرو ، عن النبي ﷺ ، قال : من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه . وفي صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : بينا جبرائيل قاعد عند النبي ﷺ سمع نقيضاً من فوقه ، فرفع رأسه ، فقال : هذا باب من السماء فتح اليوم ، لم يفتح قط إلا اليوم ، فنزل منه ملك ، فقال : هذا ملك نزل إلى الارض ، لم ينزل قط إلا اليوم ، فسلم ، وقال : أبشر بنورين أوتيتهما ، لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ بحرف منهما إلا أوتيته .
وقال أبو طالب المكي : أركان الإيمان سبعة ، يعني هذه الخمسة ، والإيمان بالقدر ، والايمان بالجنة والنار . وهذا حق ، والأدلة عليه ثابتة محكمة قطعية . وقد تقدمت الإشارة إلى دليل التوحيد والرسالة .
وأما الملائكة فهم الموكلون بالسماوات والأرض ، فكل حركة في العالم فهي ناشئة عن الملائكة ، كما قال تعالى: { فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا } [650].. { فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } [651] . وهم الملائكة عند أهل الإيمان وأتباع الرسل ، وأما المكذبون بالرسل المنكرون للصانع فيقولون : هي النجوم .
وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة ، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات ، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة ، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة ، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها ، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته ، ووكل بالموت ملائكة ، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة ، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها ، ووكل بالشمس والقمر ملائكة ، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة ، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة .
فالملائكة أعظم جنود الله ومنهم : المرسلات عرفاً و الناشرات نشراً و الفارقات فرقاً و الملقيات ذكراً ومنهم : النازعات غرقاً و الناشطات نشطاً و السابحات سبحاً و فالسابقات سبقاً ومنهم : الصافات صفاً * فالزاجرات زجراً * فالتاليات ذكراً . ومعنى جمع التأنيث في ذلك كله : الفرق والطوائف والجماعات ، التي مفردها : فرقة و طائفة و جماعة ، ومنهم ملائكة الرحمة ، وملائكة العذاب ، وملائكة قد وكلوا بحمل العرش ، وملائكة قد وكلوا بعمارة السماوات بالصلاة والتسبيح والتقدير ، إلى غير ذلك من أصناف الملائكة التي لا يحصيها إلا الله .
ولفظ الملك يشعر بأنه رسول منفذ لأمر مرسله ، فليس لهم من الأمر شيء ، بل الأمر كله للواحد القهار، وهم ينفذون أمره: { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [652].. { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [653].
فهم عباد له مكرمون، منهم الصافون، ومنهم المسبحون، ليس منهم إلا له مقام معلوم لا يتخطاه، وهو على عمل قد أمر به، لا يقصر عنه ولا يتعداه، وأعلاهم الذين عنده: { لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ * يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ } [654].
ورؤساؤهم الأملاك الثلاثة : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، الموكلون بالحياة ، فجبرائيل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأرض والنبات والحيوان ، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به حياة الخلق بعد مماتهم . فهم رسل الله في خلقه وأمره ، وسفراؤه بينه وبين عباده ، ينزلون الأمر من عنده في أقطار العالم ، ويصعدون إليه بالأمر ، قد أطت السماوات بهم ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وملك قائم أو راكع أو ساجد لله ، ويدخل البيت المعمور منهم كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم . والقرآن مملوء بذكر الملائكة وأصنافهم ومراتبهم ، فتارة يقرن الله تعالى اسمه باسمهم ، وصلاته بصلاتهم ، ويضيفهم إليه في مواضع التشريف ، وتارة يذكر حفهم بالعرش وحملهم له ، ومراتبهم من الدنو ، وتارة يصفهم بالإكرام والكرم ، والتقريب والعلو والطهارة والقوة والإخلاص . قال تعالى: { كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ } [655].. { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ } [656].. { هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ } [657].. { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا } [658].. { وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } [659].. { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ } [660].. { إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ } [661] .. { فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ } [662].. { كِرَامًا كَاتِبِينَ } [663].. { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [664].. { يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ } [665].. { لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى } [666]، وكذلك الأحاديث النبوية طافحة بذكرهم؛ فلهذا كان الإيمان بالملائكة أحد الأصول الخمسة التي هي أركان الإيمان .
وقد تكلم الناس في المفاضلة بين الملائكة وصالحي البشر ، وينسب إلى أهل السنة تفضيل صالحي البشر والأنبياء فقط على الملائكة ، وإلى المعتزلة تفضيل الملائكة . وأتباع الأشعري على قولين : منهم من يفضل الأنبياء والأولياء ، ومنهم من يقف ولا يقطع في ذلك قولاً . وحكي عن بعضهم ميلهم إلى تفضيل الملائكة . وحكي ذلك عن غيرهم من أهل السنة وبعض الصوفية . وقالت الشيعة : إن جميع الأئمة أفضل من جميع الملائكة .
ومن الناس من فصل تفصيلاً آخر. ولم يقل أحد ممن له قول يؤثر إن الملائكة أفضل من بعض الأنبياء دون بعض . وكنت ترددت في الكلام على هذه المسألة ، لقلة ثمرتها ، وأنها قريب مما لا يعني ، و من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه .
والشيخ رحمه الله لم يتعرض إلى هذه المسألة بنفي ولا إثبات ، ولعله يكون قد ترك الكلام فيها قصداً ، فإن الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه وقف في الجواب عنها على ما ذكره في مآل الفتاوى ، فإنه ذكر مسائل لم يقطع أبو حنيفة فيها بجواب ، وعد منها : التفضيل بين الملائكة والأنبياء .
وهذا هو الحق ، فإن الواجب علينا الإيمان بالملائكة والنبيين ، وليس علينا أن نعتقد أي الفريقين أفضل ، فإن هذا لو كان من الواجب لبين لنا نصاً. وقد قال تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [667]، { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } [668] .
وفي الصحيح : (إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء - رحمة بكم غير نسيان - فلا تسألوا عنها) .
فالسكوت عن الكلام في هذه المسألة نفياً وإثباتاً والحالة هذه أولى . ولا يقال : إن هذه المسألة نظير غيرها من المسائل المستنبطة من الكتاب والسنة ، لأن الأدلة هنا متكافئة ، على ما أشير اليه ، إن شاء الله تعالى . وحملني على بسط الكلام هنا : أن بعض الجاهلين يسيئون الأدب بقولهم : كان الملك خادماً للنبي ﷺ ! أو : أن بعض الملائكة خدام بني آدم ! ! يعنون الملائكة الموكلين بالبشر ، ونحو ذلك من الألفاظ المخالفة للشرع ، المجانبة للأدب .
والتفضيل إذا كان على وجه التنقص أو الحمية والعصبية للجنس - : لا شك في رده ، وليس هذه المسألة نظير المفاضلة بين الأنبياء، فإن تك قد وجد فيها نص ، وهو قوله تعالى: { تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ } [669] وقوله تعالى: { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ } [670] . وقد تقدم الكلام في ذلك عند قول الشيخ : وسيد المرسلين ، يعني النبي ﷺ .
والمعتبر رجحان الدليل ، ولا يهجر القول لأن بعض أهل الأهواء وافق عليه ، بعد أن تكون المسألة مختلفاً فيها بين أهل السنة . وقد كان أبو حنيفة رضي الله عنه يقول أولا بتفضيل الملائكة على البشر ، ثم قال بعكسه ، والظاهر أن القول بالتوقف أحد أقواله . والأدلة في هذه المسألة من الجانبين إنما تدل على الفضل ، لا على الأفضلية ، ولا نزاع في ذلك . وللشيخ تاج الدين الفزاري رحمه الله مصنف سماه الإشارة في البشارة في تفضيل البشر على الملك ، قال في آخره : اعلم أن هذه المسألة من بدع علم الكلام ، التي لم يتكلم فيها الصدر الأول من الأمة ، ولا من بعدهم من أعلام الأئمة ، ولا يتوقف عليها أصل من أصول العقائد ، ولا يتعلق بها من الأمور الدينية كبير من المقاصد . ولهذا خلا عنها طائفة من مصنفات هذا الشأن ، وامتنع من الكلام فيها جماعة من الأعيان ، وكل متكلم فيها من علماء الظاهر بعلمه ، لم يخل كلامه عن ضعف واضطراب . انتهى والله الموفق للصواب .
فما استدل به على تفضيل الأنبياء على الملائكة : أن الله أمر الملائكة أن يسجدوا لآدم ، وذلك دليل على تفضيله عليهم ، ولذلك امتنع إبليس واستكبر وقال: { أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [671] .
قال الآخرون : إن سجود الملائكة كان امتثالاً لأمر ربهم ، وعبادة وانقياداً وطاعة له ، وتكريماً لآدم وتعظيماً ، ولا يلزم من ذلك الأفضلية ، كما لم يلزم من سجود يعقوب لابنه عليهما السلام تفضيل ابنه عليه ، ولا تفضيل الكعبة على بني آدم بسجودهم إليها امتثالاً لأمر ربهم . وأما امتناع إبليس ، فإنه عارض النص برأيه وقياسه الفاسد بأنه خير منه ، وهذه المقدمة الصغرى ، والكبرى محذوفة ، تقديرها : والفاضل لا يسجد للمفضول ! وكلتا المقدمتين فاسدة :
أما الأولى : فإن التراب يفوق النار في أكثر صفاته ، ولهذا خان إبليس عنصره ، فأبى واستكبر ، فإن من صفات النار طلب العلو والخفة والطيش والرعونة ، وإفساد ما تصل اليه ومحقه وإهلاكه وإحراقه ، ونفع آدم عنصره ، في التوبة والاستكانة ، والانقياد والاستسلام لأمر الله ، والاعتراف وطلب المغفرة ، فإن من صفات التراب الثبات والسكون والرصانة ، والتواضع والخضوع والخشوع والتذلل ، وما دنا منه ينبت ويزكو ، وينمي ويبارك فيه ، ضد النار.
وأما المقدمة الثانية ، وهي : أن الفاضل لا يسجد المفضول - : فباطلة ، فإن السجود طاعة لله وامتثال لأمره ، ولو أمر الله عباده أن يسجدوا لحجر لوجب عليهم الامتثال والمبادره ، ولا يدل ذلك على أن المسجود له أفضل من الساجد ، وإن كان فيه تكريمه وتعظيمه ، وإنما يدل على فضله . قالوا : وقد يكون قوله : { هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } [672]، ، بعد طرده لامتناعه عن السجود له ، لا قبله ، لينتفي الاستدلال به .
ومنه : أن الملائكة لهم عقول وليست لهم شهوات ، والأنبياء لهم عقول وشهوات ، فلما نهوا أنفسهم عن الهوى ، ومنعوها عما تميل إليه الطباع ، كانوا بذلك أفضل .
وقال الآخرون : يجوز أن يقع من الملائكة من مداومة الطاعة وتحمل العبادة وترك الونى والفتور فيها - : ما يفي بتجنب الأنبياء شهواتهم ، مع طول مدة عبادة الملائكة .
ومنه : أن الله تعالى جعل الملائكة رسلاً الى الأنبياء ، وسفراء بينه وبينهم . وهذا الكلام قد اعتل به من قال : إن الملائكة أفضل ، واستدلالتهم به أقوى، فإن الأنبياء المرسلين ، إن ثبت تفضيلهم على المرسل إليهم بالرسالة ، ثبت تفضيل الرسل من الملائكة إليهم عليهم ، فإن الرسول الملكي يكون رسولاً الى الرسول البشري .
ومنه : قوله تعالى : { وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا } [673] ، الآيات .
قال الآخرون : وهذا دليل على الفضل لا على التفضيل ، وآدم والملائكة لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، وليس الخضر أفضل من موسى ، بكونه عالم ما لم يعلمه موسى ، وقد سافر موسى وفتاه في طلب العلم إلى الخضر ، وتزود لذلك ، وطلب موسى منه العلم صريحاً ، وقال له الخضر : إنك على علم من علم الله ، الى آخر كلامه . ولا الهدهد أفضل من سليمان عليه السلام ، بكونه أحاط بما لم يحط به سليمان عليه السلام علماً .
ومنه : قوله تعالى : { مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [674] .
قال الآخرون : هذا دليل الفضل لا الأفضلية ، وإلا لزم تفضيله على محمد ﷺ . فإن قلتم : هو من ذريته ؟ فمن ذريته البر والفاجر ، بل يوم القيامة إذا قيل لآدم : ابعث من ذريتك بعثاً إلى النار ، يبعث من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار ، وواحداً الى الجنة . فما بال هذا التفضيل سرى إلى هذا الواحد من الألف فقط .
ومنه : قول عبد الله بن سلام رضي الله عنه : ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من محمد ﷺ ، الحديث ، فالشأن في ثبوته وإن صح عنه فالشأن في ثبوته في نفسه ، فإنه يحتمل أن يكون من الإسرائيليات .
ومنه : حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : إن الملائكة قالت : يا ربنا ، أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبح بحمدك ، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ؟ قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له : كن فكان . [675] .
وأخرجه عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل عن عروة بن رويم ، أنه قال : أخبرني الأنصاري ، عن النبي ﷺ أن الملائكة قالوا ، الحديث ، وفيه : وينامون ويستريحون ، فقال الله تعالى : لا ، فأعادوا القول ثلاث مرات ، كل ذلك يقول : لا . والشأن في ثبوتهما ، فإن في سنديهما مقالاً ، وفي متنهما شيئاً ، فكيف يظن بالملائكة الإعتراض على الله مرات عديدة ؟ وقد أخبر الله تعالى عنهم أنهم { لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [676] ؟ وهل يظن بهم أنهم متبرمون بأحوالهم ، متشوفون الى ما سواها من شهوات بني آدم ؟ والنوم أخو الموت ، فكيف يغبطونهم به ؟ وكيف يظن بهم أنهم يغبطونهم باللهو ، وهو من الباطل ؟ قالوا : بل الأمر بالعكس ، فإن إبليس إنما وسوس إلى آدم ودلاه بغرور ، إذ أطمعه في أن يكون ملكاً بقوله : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ } [677].
فدل أن أفضلية الملك أمر معلوم مستقر في الفطرة، يشهد لذلك قوله تعالى، حكاية عن النسوة اللاتي قطعن أيديهن عند رؤية يوسف: { وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ } [678]. وقال تعالى : { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [679] .
قال الأولون : إن هذا إنما كان لما هو مركوز في النفس : أن الملائكة خلق جميل عظيم ، مقتدر على الأفعال الهائلة ، خصوصاً العرب ، فإن الملائكة كانوا في نفوسهم من العظمة بحيث قالوا إن الملائكة بنات الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً .
ومنه قوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ } [680]. قال الآخرون: قد يذكر "العالمون" ولا يقصد به العموم المطلق، بل في كل مكان بحسبه، كما في قوله تعالى: { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا } [681].. { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } [682].. { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ } [683].. { وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ } [684]. ومنه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ } [685] .
والبرية : مشتقة من البرء ، بمعنى الخلق ، فثبت أن صالحي البشر خير الخلق . قال الآخرون : إنما صاروا خير البرية لكونهم آمنوا وعملوا الصالحات ، والملائكة في هذا الوصف أكمل ، فإنهم لا يسأمون ولا يفترون ، فلا يلزم أن يكونوا خيراً من الملائكة . هذا على قراءة من قرأ البريئة ، بالهمز وعلى قراءة من قرأ بالياء ، إن قلنا : إنها مخففة من الهمزة ، وإن قلنا : إنها نسبة إلى البرى وهو التراب ، كما قاله الفراء فيما نقله عنه الجوهري في الصحاح - : يكون المعنى : أنهم خير من خلق من التراب ، فلا عموم فيها ، إذ الغير من خلق من التراب .
قال الأولون : إنما تكلمنا في تفضيل صالحي البشر إذا كملوا ، ووصلوا إلى غايتهم وأقصى نهايتهم ، وذلك إنما يكون إذا دخلوا الجنة ، ونالوا الزلفى ، وسكنوا الدرجات العلى ، وحباهم الرحمن بمزيد قربه ، وتجلى لهم ليستمتعوا بالنظر إلى وجهه الكريم .
وقال الآخرون : الشأن في أنهم هل صاروا إلى حالة يفوقون فيها الملائكة أو يساوونهم فيها ؟ فإن كان قد ثبت لهم أنهم يصيرون إلى حال يفوقون فيها الملائكة سلم المدعى ، وإلا فلا .
ومما استدل به على تفضيل الملائكة على البشر : قوله تعالى: { لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ } [686] .
وقد ثبت من طريق اللغة أن مثل هذا الكلام يدل على أن المعطوف أفضل من المعطوف عليه ، لأنه لا يجوز أن يقال . لن يستنكف الوزير أن يكون خادماً للملك ، ولا الشرطي أو الحارس ! وإنما يقال : لن يستنكف الشرطي أن يكون خادماً للملك ولا الوزير . ففي مثل هذا التركيب يترقى من الأدنى إلى الأعلى ، فإذا ثبت تفضيلهم على عيسى عليه السلام ثبت في حق غيره ، إذ لم يقل أحد إنهم أفضل من بعض الأنبياء دون بعض . أجاب الآخرون بأجوبة ، أحسنها ، أو من أحسنها : أنه لا نزاع في فضل قوة الملك وقدرته وشدته وعظم خلقه ، وفي العبودية خضوع وذل وانقياد ، وعيسى عليه السلام لا يستنكف عنها ولا من هو أقدر منه وأقوى وأعظم خلقاً ، ولا يلزم من مثل هذا التركيب الأفضلية المطلقة من كل وجه .
ومنه قوله تعالى: { قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [687]. ومثل هذا يقال بمعنى: إني لو قلت ذلك، لادعيت فوق منزلتي، ولست ممن يدعي ذلك.
أجاب الآخرون: أن الكفار كانوا قد قالوا: { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ } [688] . فأمر أن يقول لهم : إني بشر مثلكم أحتاج الى ما يحتاج إليه البشر من الاكتساب والأكل والشرب ، لست من الملائكة الذين لم يجعل الله لهم حاجة إلى الطعام والشراب ، فلا يلزم حينئذ الأفضلية المطلقة .
ومنه ما روى مسلم بإسناده ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : المؤمن القوي خير وأحب الى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير . ومعلوم أن قوة البشر لا تداني قوة الملك ولا تقاربها .
قال الآخرون . الظاهر أن المراد المؤمن من البشر- والله أعلم - فلا تدخل الملائكة في هذا العموم .
ومنه ما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ أنه قال فيما يروي عن ربه عز وجل ، قال : يقول الله تعالى : أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم ، الحديث . وهذا نص في الأفضلية .
قال الآخرون : يحتمل أن يكون المراد خيراً منه للمذكور لا الخيرة المطلقة .
ومنه ما رواه إمام الأئمة محمد بن خزيمة ، بسنده في كتاب التوحيد عن أنس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : بينا أنا جالس إذ جاء جبرائيل ، فوكز بين كتفي ، فقمت إلى شجرة مثل وكري الطير ، فقعد في إحداها ، وقعدت في الأخرى ، فسمت وارتفعت حتى سدت الخافقين ، وأنا أقلب بصري ، ولو شئت أن أمس السماء مسست ، فنظرت إلى جبرائيل كأنه حلس لاطىء، فعرفت فضل علمه بالله علي ، الحديث . قال الآخرون : في سنده مقال فلا نسلم الإحتجاج به إلا بعد ثبوته .
وحاصل الكلام : أن هذه المسألة من فضول المسائل . ولهذا لم يتعرض لها كثير من أهل الأصول ، وتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الجواب عنها ، كما تقدم . والله أعلم بالصواب .
وأما الأنبياء والمرسلون ، فعلينا الإيمان بمن سمى الله تعالى في كتابه من رسله ، والإيمان بأن الله تعالى أرسل رسلاً سواهم وأنبياء ، لا يعلم أسماءهم وعددهم إلا الله تعالى الذي أرسلهم . فعلينا الإيمان بهم جملة لأنه لم يأت في عددهم نص . وقد قال تعالى: { وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } [689]. وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } [690]. وعلينا الإيمان بأنهم بلّغوا جميع ما أرسلوا به على ما أمرهم الله به، وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه، قال تعالى: { فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [691]، وقال تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [692]، وقال تعالى : { وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [693]، وقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ } [694] .
وأما أولو العزم من الرسل . فقد قيل فيهم أقوال أحسنها : ما نقله البغوي وغيره عن ابن عباس و قتادة : أنهم نوح ، وإبراهيم ، وموسى ، وعيسى ومحمد ، صلوات الله وسلامه عليهم . قال : وهم المذكورون في قوله تعالى: { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } [695]. وفي قوله تعالى: { شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } [696].
وأما الإيمان بمحمد ﷺ ، فتصديقه واتباع ما جاء به من الشرائع إجمالاً وتفصيلاً .
وأما الإيمان بالكتب المنزلة على المرسلين ، فنؤمن بما سمى الله تعالى منها في كتابه ، من التوراة والإنجيل والزبور ، ونؤمن بأن لله تعالى سوى ذلك كتباً أنزلها على أنبيائه ، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الله تعالى .
وأما الإيمان بالقرآن ، فالإقرار به ، واتباع ما فيه ، وذلك أمر زائد على الإيمان بغيره من الكتب . فعلينا الإيمان بأن الكتب المنزلة على رسل الله أتتهم من عند الله ، وأنها حق وهدى ونور وبيان وشفاء .
قال تعالى: { قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا } [697] إلى قوله: { وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ } [698].. { الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } [699] إلى قوله: { وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ } [700].. { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ } [701].. { أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا } [702]
إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تكلم بها، وأنها نزلت من عنده، وفي ذلك إثبات صفة الكلام والعلو، وقال تعالى : { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ } [703].. { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [704].. { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ } [705].. { يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ } [706].. { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ } [707] .. { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا } [708]، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن .
قوله:(ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين)
ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي ﷺ معترفين ، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين
شرح : قال رسول الله ﷺ : من صلى صلاتنا ، واستقبل قبلتنا ، وأكل ذبيحتنا ، فهو المسلم ، له ما لنا وعليه ما علينا .
ويشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى أن الإسلام والإيمان واحد ، وأن المسلم لا يخرج من الإسلام بارتكاب الذنب ما لم يستحله .
والمراد بقوله : أهل قبلتنا ، من يدعي الإسلام ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء ، أو من أهل المعاصي ، ما لم يكذب بشيء مما جاء به الرسول ﷺ .
وسيأتي الكلام على هذين المعنيين عند قول الشيخ : ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله . وعند قوله : والإسلام والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء .
قوله : ( ولا نخوض في الله ، ولا نماري في دين الله )
شرح : يشير الشيخ رحمه الله إلى الكف عن كلام المتكلمين الباطل ، وذم علمهم ، فإنهم يتكلمون في الإله بغير علم وغير سلطان أتاهم .
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [709] .
وعن أبي حنيفة رحمه الله ، أنه قال : لا ينبغي لأحد أن ينطق في ذات بشيء ، بل يصفه بما وصف به نفسه .
وقال بعضهم : الحق سبحانه يقول : من ألزمته القيام مع أسمائي وصفاتي ألزمته الأدب ، ومن كشفت له حقيقة ذاتي ألزمته العطب ، فاختر الأدب أو العطب . ويشهد لهذا : أنه سبحانه لما كشف للجبل عن ذاته ساخ الجبل وتدكدك ولم يثبت على عظمة الذات .
قال الشبلي : الانبساط بالقول مع الحق ترك الأدب .
وقوله : ولا نماري في دين الله . معناه : لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم ، التماساً لامترائهم وميلهم ، لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل ، وتلبيس الحق ، وإفساد دين الاسلام .
قوله:(ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين)
ولا نجادل في القرآن ، ونشهد أنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فعلمه سيد المرسلين محمداً ﷺ . وهو كلام الله تعالى ، لا يساويه شيء من كلام المخلوقين ، ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين
شرح : فقوله ولا نجادل في القرآن ، يحتمل أنه أراد : أنا لا نقول فيه كما قال أهل الزيغ واختلفوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق ، بل نقول : إنه كلام رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، إلى آخر كلامه .
ويحتمل أنه أراد : أنا لا نجادل في القراءة الثابتة ، بل نقرؤه بكل ما ثبت وصح . وكل من المعنيين حق . ويشهد بصحة المعنى
الثاني ، ما روي عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ، أنه قال : سمعت رجلاً قرأ آية سمعت رسول الله ﷺ يقرأ خلافها ، فأخذت بيده ، فانطلقت به إلى رسول الله ﷺ ، فذكرت ذلك له ، فعرفت في وجهه الكراهة ، وقال : كلاكما محسن ، لا تختلفوا ، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا رواه مسلم نهى رسول الله ﷺ عن الاختلاف الذي فيه جحد كل واحد من المختلفين ما مع صاحبه من الحق ، لأن كلا القارئين كان محسناً فيما قرأه ، وعلل ذلك بأن من كان قبلنا اختلفوا فهلكوا .
ولهذا قال حذيفة رضي الله عنه ، لعثمان رضي الله عنه : أدرك هذه الأمة لا تختلف كما اختلفت الأمم قبلهم . فجمع الناس على حرف واحد اجتماعاً سائغاً . وهم معصومون أن يجتمعوا على ضلالة ، ولم يكن في ذلك ترك لواجب ، ولا فعل لمحظور ، إذ كانت قراءة القرآن على سبعة أحرف جائزة لا واجبة ، رخصة من الله تعالى ، وقد جعل الإختيار إليهم في أي حرف اختاروه . كما أن ترتيب السور لم يكن واجباً عليهم منصوصاً .
ولهذا كان ترتيب مصحف عبد الله على غير ترتيب المصحف العثماني ، وكذلك مصحف غيره . وأما ترتيب آيات السور فهو ترتيب منصوص عليه ، فلم يكن لهم أن يقدموا آية على آية ، بخلاف السور .
فلما رأى الصحابة أن الأمة تفترق وتختلف وتتقاتل إن لم تجتمع على حرف واحد - جمعهم الصحابة عليه . هذا قول جمهور السلف من العلماء والقراء .
قاله ابن جرير وغيره : منهم من يقول : إن الترخص في الأحرف السبعة كان في أول الإسلام ، لما في المحافظة على حرف واحد من المشقة عليهم أولاً ، فلما تذللت ألسنتهم بالقراءة ، وكان اتفاقهم على حرف واحد يسيراً عليهم ، وهو أوفق لهم - : أجمعوا على الحرف الذي كان في العرضة الأخيرة .
وذهب طوائف من الفقهاء وأهل الكلام إلى أن المصحف يشتمل على الأحرف السبعة لأنه لا يجوز أن يهمل شيء من الأحرف السبعة .
وقد اتفقوا على نقل المصحف العثماني . وترك ما سواه . وقد تقدمت الإشارة إلى الجواب ، وهو : أن ذلك كان جائزاً لا واجباً ، أو أنه صار منسوخاً .
وأما من قال عن ابن مسعود إنه كان يجوز القراءة بالمعنى ! فقد كذب عليه ، وإنما قال : قد نظرت إلى القرأة فرأيت قراءتهم متقاربة ، وإنما هو كقول أحدكم : هلم ، وأقبل ، وتعال ، فاقرؤوا كما علمتم . أو كما قال . والله تعالى قد أمرنا أن لا نجادل أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ، فكيف بمناظرة أهل القبلة ؟ فإن أهل القبلة من حيث الجملة خير من أهل الكتاب ، فلا يجوز أن يناظر من لم يظلم منهم إلا بالتي هي أحسن ، وليس إذا أخطأ يقال : إنه كافر ، قبل أن تقام عليه الحجة التي حكم الرسول بكفر من تركها .
والله تعالى قد عفا لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان . ولهذا ذم السلف أهل الأهواء ، وذكروا أن آخر أمرهم السيف . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وعذاباً .
وقوله : ونشهد أنه كلام رب العالمين ، قد تقدم الكلام على هذا المعنى عند قوله : وإن القرآن كلام الله منه بدا بلا كيفية قولاً .
وقوله : نزل به الروح الأمين ، هو جبرائيل عليه السلام ، سمي روحاً لأنه حامل الوحي الذي به حياة القلوب إلى الرسل من البشر صلوات الله عليهم أجمعين ، وهو أمين حق أمين ، صلوات الله عليه . قال تعالى: { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ } [710] وقال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [711] وهذا وصف جبريل، بخلاف قوله تعالى: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } [712] ، الآيات . فإن الرسول هنا هو محمد ﷺ .
وقوله : فعلمه سيد المرسلين ، تصريح بتعليم جبرائيل إياه ، إبطالاً لتوهم القرامطة وغيرهم أنه تصوره في نفسه إلهاماً .
وقوله : ولا نقول بخلقه ، ولا نخالف جماعة المسلمين ، تنبيه على أن من قال بخلق القرآن فقد خالف جماعة المسلمين ، فإن سلف الأمة كلهم متفقون على أنه كلام الله بالحقيقة غيرمخلوق ، بل قوله : ولا نخالف جماعة المسلمين ، مجرى على إطلاقه . أنا لا نخالف جماعة المسلمين في جميع ما اتفقوا عليه فإن خلافهم زيغ وضلال وبدعة .
قوله: ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله
ولا نكفرأحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله ، ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله
شرح : أراد بأهل القبلة الذين تقدم ذكرهم في قوله : ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ، ما داعموا بما جاء به النبي ﷺ معترفين ، وله بكل ما قال وأخبر مصدقين ، يشير الشيخ رحمه الله بهذا الكلام إلى الرد على الخوارج القائلين بالتكفير بكل ذنب .
واعلم - رحمك الله وإيانا - أن باب التكفير وعدم التكفير ، باب عظمت الفتنة والمحنة فيه ، وكثر فيه الإفتراق ، وتشتت فيه الأهواء والآراء ، وتعارضت فيه دلائلهم . فالناس فيه ، في جنس تكفير أهل المقالات والعقائد الفاسدة، المخالفة للحق الذي بعث الله به رسوله في نفس الأمر، أو المخالفة لذلك في اعتقادهم ، على طرفين ووسط ، من جنس الاختلاف في تكفير أهل الكبائر العملية .
فطائفة تقول : لا نكفر من أهل القبلة أحداً ، فتنفي التكفير نفياً عاماً ، مع العلم بأن في أهل القبلة المنافقين ، الذين فيهم من هو أكفر من اليهود والنصارى بالكتاب والسنة والإجماع ، وفيهم من قد يظهر بعض ذلك حيث يمكنهم ، وهم يتظاهرون بالشهادتين . وأيضاً : فلا خلاف بين المسلمين أن الرجل لو أظهر إنكار الواجبات الظاهرة المتواتره ، والمحرمات الظاهرة المتواترة ، ونحو ذلك ، فإنه يستتاب ، فإن تاب ، وإلا قتل كافراً مرتداً . والنفاق والردة مظنتها البدع والفجور، كما ذكره الخلال في كتاب السنة ، بسنده إلى محمد بن سيرين ، أنه قال : إن أسرع الناس ردة أهل الأهواء ، وكان يرى هذه الآية نزلت فيهم : { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } [713] .
ولهذا امتنع كثير من الأئمة عن إطلاق القول بأنا لا نكفر أحداً بذنب ، بل يقال : لا نكفرهم بكل ذنب ، كما تفعله الخوارج . وفرق بين النفي العام ونفي العموم . والواجب إنما هو نفي العموم ، مناقضة لقول الخوارج الذين يكفرون بكل ذنب .
ولهذا - والله أعلم - قيده الشيخ رحمه الله بقوله : ما لم يستحله . وفي قوله : ما لم يستحله إشارة إلى أن مراده من هذا النفي العام لكل ذنب من الذنوب العملية لا العلمية . وفيه إشكال فإن الشارع لم يكتف من المكلف في العمليات بمجرد العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل ، وليس العمل مقصوراً على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح ، وأعمال الجوارح تبع . إلا أن يضمن قوله : يستحله بمعنى : يعتقده ، أو نحو ذلك .
وقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله . . . إلى آخر كلامه ، رد على المرجئة ، فإنهم يقولون : لا يضر مع الإيمان ذنب ، كما لا ينفع مع الكفر طاعة . فهؤلاء في طرف ، والخوارج في طرف ، فإنهم يقولون نكفر المسلم بكل ذنب ، أو بكل ذنب كبير ، وكذلك المعتزلة الذين يقولون يحبط إيمانه كله بالكبيرة ، فلا يبقى معه شيء من الإيمان.
لكن الخوارج يقولون : يخرج من الإيمان ويدخل في الكفر ! والمعتزلة يقولون : يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ، وهذه المنزلة بين المنزلتين ! ! وبقولهم بخروجه من الإيمان أوجبوا له الخلود في النار! وطوائف من أهل الكلام والفقه والحديث لا يقولون ذلك في الأعمال ، لكن في الاعتقادات البدعية ، وإن كان صاحبها متأولاً ، فيقولون : يكفر كل من قال هذا القول ، لا يفرقون بين المجتهد المخطىء وغيره ، أو يقولون : يكفر كل مبتدع .
وهؤلاء يدخل عليهم في هذا الإثبات العام أمور عظيمة ، فثان النصوص المتواترة قد دلت على أنه يخرج من النار من في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، ونصوص الوعد التي يحتج بها هؤلاء تعارض نصوص الوعيد التي يحتج بها أولئك . والكلام في الوعيد مبسوط في موضعه .
وسيأتي بعضه عند الكلام على قول الشيخ : وأهل الكبائر في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون .
والمقصود هنا : أن البدع هي من هذا الجنس ، فإن الرجل يكون مؤمناً باطناً وظاهراً ، لكن تأول تأويلاً أخطأ فيه ، إما مجتهداً وإما مفرطاً مذنباً ، فلا يقال . إن إيمانه حبط لمجرد ذلك ، إلا أن يدل على ذلك دليل شرعي ، بل هذا من جنس قول الخوارج والمعتزلة ، ولا نقول : لا يكفر ، بل العدل هو الوسط ، وهو : أن الأقوال الباطلة المبتدعة المحرمة المتضمنة نفي ما أثبته الرسول ، أو إثبات ما نفاه ، أو الأمر بما نهى عنه ، أو النهي عما أمر به - : يقال فيها الحق ، ويثبت لها الوعيد الذي دلت عليه النصوص ، ويبين أنها كفر ، ويقال : من قالها فهو كافر ، ونحو ذلك ، كما يذكر من الوعيد في الظلم في النفس والأموال ، وكما قد قال كثير من أهل السنة المشاهير بتكفير من قال بخلق القرآن وأن الله لا يرى في الآخرة ولا يعلم الأشياء قبل وقوعها .
وعن أبي يوسف رحمه الله ، أنه قال : ناظرت أبا حنيفة رحمه الله مدة ، حتى اتفق رأيي ورأيه : أن من قال بخلق القرآن فهو كافر .
وأما الشخص المعين ، إذا قيل : هل تشهدون أنه من أهل الوعيد وأنه كافر ؟ فهذا لا نشهد عليه إلا بأمر تجوز معه الشهادة ، فإنه من أعظم البغي أن يشهد على معين أن الله لا يغفر له ولا يرحمه بل يخلده في النار ، فإن هذا حكم الكافر بعد الموت .
ولهذا ذكر أبو داود في سننه في كتاب الأدب : باب النهي عن البغي ، وذكر فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين ، فكان أحدهما يذنب ، والآخر مجتهد في العبادة ، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب ، فيقول : أقصر ، فوجده يوماً على ذنب ، فقال له : أقصر . فقال : خلني وربي ، أبعثت علي رقيباً ؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الله الجنة فقبض أرواحهما ، فاجتمعا عند رب العالمين ، فقال لهذا المجتهد : أكنت بي عالماً ؟ أو كنت على ما في يدي قادراً ؟ وقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : اذهبوا به إلى النار .
قال أبو هريرة : والذي نفسي بيده ، لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته . [714] .
ولأن الشخص المعين يمكن أن يكون مجتهداً مخطئاً مغفوراً له ، ويمكن أن يكون ممن لم يبلغه ما وراء ذلك من النصوص ، ويمكن أن يكون له إيمان عظيم وحسنات أوجبت له رحمة الله ، كما غفر للذي قال : إذا مت فاسحقوني ثم اذروني ، ثم غفر الله له لخشيته وكان يظن أن الله لا يقدر على جمعه وإعادته ، أو شك في ذلك . لكن هذا التوقف في أمر الآخرة لا يمنعنا أن عاقبته في الدنيا ، لمنع بدعته ، وأن نستتيبه ، فإن تاب وإلا قتلناه .
ثم إذا كان القول في نفسه كفراً قيل : إنه كفر والقائل له يكفر بشروط وانتفاء موانع ، ولا يكون ذلك إلا إذا صار منافقاً زنديقاً .
فلا يتصور أن يكفر أحد من أهل القبلة المظهرين الإسلام إلا من يكون مناففاً زنديقاً . وكتاب الله يبين ذلك ، فإن الله صنف الخلق فيه ثلاثة أصناف : صنف : كفار من المشركين ومن أهل الكتاب ، وهم الذين لا يقرون بالشهادتين .
وصنف : المؤمنون باطناً وظاهراً . وصنف أقروا به ظاهراً لا باطناً . وهذه الأقسام الثلاثة مذكورة في أول سورة البقرة . وكل من ثبت أنه كافر في نفس الأمر وكان مقراً بالشهادتين . فإنه لا يكون إلا زنديقاً ، والزنديق هو المنافق .
وهنا يظهر غلط الطرفين ، فإنه من كفر كل من قال القول المبتدع في الباطن ، يلزمه أن يكفر أقواماً ليسوا في الباطن منافقين ، بل هم في الباطن يحبون الله ورسوله ويؤمنون بالله ورسوله وإن كانوا مذنبين ، كما ثبت في صحيح البخاري ، عن أسلم مولى عمر رضي الله عنه ، عن عمر : «أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه: عبد الله، وكان يلقب: حمارا، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جلده من الشراب، فأتي به يوما، فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه! ما أكثر ما يؤتى به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمت، إنه يحب الله ورسوله» [715] وهذا أمر متيقن به في طوائف كثيرة وأئمة في العلم والدين ، وفيهم بعض مقالات الجهمية أو المرجئة أو القدرية أو الشيعة أو الخوارج .
ولكن الأئمة في العلم والدين لا يكونون قائمين بجملة تلك البدعة ، بل بفرع منها .
ولهذا انتحل أهل هذه الأهواء لطوائف من السلف المشاهير . فمن عيوب أهل البدع تكفير بعضهم بعضاً ، ومن ممادح أهل العلم أنهم يخطئون ولا يكفرون .
ولكن بقي هنا إشكال يرد على كلام الشيخ رحمه الله، وهو : أن الشارع قد سمى بعض الذنوب كفراً ، قال الله : {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} [716] .
وقال ﷺ : سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر . [717] .
وقال ﷺ : لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض . وإذا قال الرجل لأخيه : يا كافر - فقد باء بها أحدهما . [718] .
وقال ﷺ : أربع من كن فيه كان منافقا خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها . إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر . [719] .
وقال ﷺ : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن ، والتوبة معروضة بعد .
وقال ﷺ : بين المسلم وبين الكفر ترك الصلاة . [720] .
وقال ﷺ : من أتى كاهناً فصدقه ، أو أتى امرأة في دبرها ، فقد كفر بما أنزل على محمد .
وقال ﷺ : من حلف بغير الله فقد كفر . [721] .
وقال ﷺ : ثنتان في أمتي بهم كفر : الطعن في الأنساب ، والنياحة على الميت . ونظائر ذلك كثيرة .
والجواب : أن أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية ، كما قالت أن الخوارج ، إذ لو كفر كفراً ينقل عن الملة لكان مرتداً يقتل على كل حال ، ولا يقبل عفو ولي القصاص ، ولا تجري الحدود في الزنا والسرقة وشرب الخمر ! وهذا القول معلوم بطلانه وفساده بالضرورة من دين الإسلام .
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام ، ولا يدخل في الكفر ، ولا يستحق الخلود مع الكافرين ، كما قالت المعتزلة .
فإن قولهم باطل أيضاً ، إذ قد جعل الله مرتكب الكبيرة من المؤمنين ، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى} ، الى أن قال : {فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف} [722] .
فلم يخرج القاتل من الذين آمنوا ، وجعله أخاً لولي القصاص ، والمراد أخوة الدين بلا ريب .
وقال تعالى : {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} ، الى أن قال : {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم} [723] . ونصوص الكتاب والسنة والإجماع تدل على أن الزاني والسارق والقاذف لا يقتل ، بل يقام عليه الحد ، فدل على أنه ليس بمرتد .
وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : من كانت عنده لأخيه اليوم مظلمة من عرض أو شيء فليتحلله منه اليوم ، قبل أن لا يكون درهم ولا دينار ، إن كان له عمل صالح أحذ منه بقدر مظلمته ، وإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فطرحت عليه ، ثم ألقي في النار . [724] .
فثبت أن الظالم يكون له حسنات يستوفي المظلوم منها حقه . وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : ما تعدون المفلس فيكم ؟ قالوا : المفلس فينا من لا له درهم ولا دينار ، قال : المفلس من يأتي يوم القيامة وله حسنات أمثال الجبال ، فيأتي وقد شتم هذا ، وأخذ مال هذا ، وسفك دم هذا ، وقذف هذا ، وضرب هذا ، فيقتص هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ، ثم طرح في النار . [725] .
وقد قال تعالى : {إن الحسنات يذهبن السيئات} [726] . فدل ذلك على أنه في حال إساءته يعمل حسنات تمحو سيئاته . وهذا مبسوط في موضعه .
والمعتزلة موافقون للخوارج هنا في حكم الآخرة ، فإنهم وافقوهم على أن مرتكب الكبيرة مخلد في النار ، لكن قالت الخوارج . نسميه كافراً ، وقالت المعتزلة : نسميه فاسقاً ، فالخلاف بينهم لفظي فقط . وأهل السنة أيضاً متفقون على أنه يستحق الوعيد المرتب على ذلك الذنب ، كما وردت به النصوص . لا كما يقوله المرجئة من أنه لا يضر مع الإيمان ذنب ، ولا ينفع مع الكفر طاعة ! وإذا اجتمعت نصوص الوعد التي استدلت بها المرجئة ، ونصوص الوعيد التي استدلت بها الخوارج والمعتزلة - : تبينت لك فساد القولين ! ولا فائدة في كلام هؤلاء سوى أنك تستفيد من كلام كل طائفة فساد مذهب الطائفة الأخرى .
ثم بعد هذا الاتفاق تبين أن أهل السنة اختلفوا خلافاً لفظياً ، لا يترتب عليه فساد ، وهو : أنه هل يكون الكفر على مراتب ، كفراً دون كفر ؟ كما اختلفوا : هل يكون الإيمان على مراتب ، إيماناً دون إيمان ؟ وهذا اختلاف نشأ من اختلافهم في مسمى الإيمان : هل هو قول وعمل يزيد وينقص ، أم لا ؟ بعد اتفاقهم على أن من سماه الله تعالى ورسوله كافراً نسميه كافراً ، إذ من الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافراً ، ويسمي رسوله من تقدم ذكره كافراً - ولا نطلق عليهما اسم الكفر .
ولكن من قال : إن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، قال : هو كفر عملي لا اعتقادي ، والكفر عنده على مراتب ، كفر دون كفر ، كالإيمان عنده .
ومن قال : إن الإيمان هو التصديق ، ولا يدخل العمل في مسمى الإيمان ، والكفر هو الجحود ، ولا يزيدان ولا ينقصان ، قال : هو كفر مجازي غير حقيقي ، إذ الكفر الحقيقي هو الذي ينقل عن الملة .
وكذلك يقول في تسمية بعض الأعمال بالإيمان ، كقوله تعالى : {وما كان الله ليضيع إيمانكم} [727] ، أي صلاتكم إلى بيت المقدس ، إنها سميت إيماناً مجازاً ، لتوقف صحتها عن الإيمان ، أو لدلالتها على الإيمان ، إذ هي دالة على كون مؤديها مؤمناً .
ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا صلى صلاتنا . فليس بين فقهاء الأمة نزاع في أصحاب الذنوب ، إذا كانوا مقرين باطناً وظاهراً بما جاء به الرسول وما تواترعنهم أنهم من أهل الوعيد .
ولكن الأقوال المنحرفة قول من يقول بتخليدهم في النار ، كالخوارج والمعتزلة . ولكن أراد ما في ذلك التعصب على من يضادهم ، وإلزامه لمن يخالف قوله بما لا يلزمه ، والتشنيع عليه ! واذا كنا مأمورين بالعدل في مجادلة الكافرين ، وأن يجادلوا بالتي هي أحسن ، فكيف لا يعدل بعضنا على بعض في مثل هذا الخلاف ؟! قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى} [728] .
وهنا أمر يجب أن يتفطن له ، وهو : أن الحكم بغير ما أنزل الله قد يكون كفراً ينقل عن الملة ، وقد يكون معصية : كبيرة أو صغيرة ، ويكون كفراً : إما مجازياً ، وإما كفراً أصغر ، على القولين المذكورين .
وذلك بحسب حال الحاكم : فإنه إن اعتقد أن الحكم بما أنزل الله غير واجب ، وأنه مخير فيه ، أو استهان به مع تيقنه أنه حكم الله - : فهذا كفر أكبر . وإن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل الله ، وعلمه في هذه الواقعة ، وعدل عنه مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة ، فهذا عاص ، ويسمى كافراً كفراً مجازياً ، أو كفراً أصغر . وإن جهل حكم الله فيها ، مع بذل جهده واستفراغ وسعه في معرفة الحكم وأخطأه ، فهذا مخطىء ، له أجر على اجتهاده ، وخطؤه مغفور .
وأراد الشيخ رحمه الله بقوله : ولا نقول لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله - مخالفة المرجئة . وشبهتهم كانت قد وقعت لبعض الأولين ، فاتفق الصحابة على قتلهم إن لم يتوبوا من ذلك . فإن قدامة بن عبد الله [729] شرب الخمر بعد تحريمها هو وطائفة ، وتأولوا قوله تعالى : {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات} [730] .
فلما ذكروا ذلك لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ، اتفق هو و علي بن أبي طالب وسائر الصحابة على أنهم إن اعترفوا بالتحريم جلدوا ، وإن أصروا على استحلالها قتلوا .
وقال عمر لقدامة : أخطأت استك الحفرة ، أما إنك لو اتقيت وآمنت وعملت الصالحات لم تشرب الخمر . وذلك أن هذه الآية نزلت بسبب أن الله سبحانه لما حرم الخمر ، وكان تحريمها بعد وقعة أحد ، قال بعض الصحابة : فكيف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربون الخمر ؟ فأنزل الله هذه الآية . بين فيها أن من طعم الشيء في الحال التي لم يحرم فيها فلا جناح عليه إذا كان من المؤمنين المتقين المصلحين ، كما كان من أمر استقبال بيت المقدس . ثم إن أولئك الذين فعلوا ذلك ندموا وعلموا أنهم أخطأوا وأيسوا من التوبة .
فكتب عمر إلى قدامة يقول له :{ حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم * غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب } [731] . ما أدري أي ذنبيك أعظم ؟ استحلالك المحرم أولاً ؟ أم يأسك من رحمة الله ثانياً ؟ وهذا الذي اتفق عليه الصحابة هو متفق عليه بين أئمة الإسلام .
قوله: ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته
ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة برحمته ولا نأمن عليهم ، ولا نشهد لهم بالجنة ، ونستغفر لمسيئهم ، ونخاف عليهم ، ولا نقنطهم
ش : وعلى المؤمن أن يعتقد هذا الذي قاله الشيخ رحمه الله في حق نفسه وفي حق غيره . قال تعالى : أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا . وقال تعالى : فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين . وقال تعالى : وإياي فاتقون . وإياي فارهبون . فلا تخشوهم واخشوني . ومدح أهل الخوف ، فقال تعالى : إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون * والذين هم بآيات ربهم يؤمنون . إلى قوله : أولئك يسارعون في الخيرات وهم لها سابقون . وفي المسند و الترمذي عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : قلت : يا رسول الله ، الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة ، هو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق ؟ قال : لا ، يا ابنة الصديق ، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه . قال الحسن رضي الله عنه : عملوا - والله - بالطاعات ، واجتهدوا فيها ، وخافوا أن ترد عليهم ، إن المؤمن جمع إحساناً وخشيةً ، والمنافق جمع إساءة وأمناً . انتهى . وقد قال تعالى : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم . فتأمل كيف جعل رجاءهم مع إيمانهم بهذه الطاعات ؟ فالرجاء إنما يكون مع الإتيان بالأسباب التي اقتضتها حكمة الله تعالى ، شرعة وقدرته وثوابه وكرامته . ولو أن رجلاً له أرض يؤمل أن يعود عليه من مغلها ما ينفعه ، فأهملها ولم يحرثها ولم يبذرها ، ورجا أنه يأتي من مغلها مثل ما يأتي من حرث وزرع وتعاهد الأرض - : لعده الناس من أسفه السفهاء ! وكذا لو رجا وحسن ظنه أن يجيئه ولد من غير جماع ! أو يصبر أعلم أهل زمانه من غير طلب العلم وحرص تام ! وأمثال ذلك . فكذلك من حسن ظنه وقوي رجاؤه في الفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، من غير طاعة ولا تقرب إلى الله تعالى بامتثال أوامره واجتناب نواهيه . ومما ينبغي أن يعلم أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه أموراً : أحدها : محبة ما يرجوه . الثاني : خوفه من فواته . الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان . وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك ، فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر . فكل راج خائف ، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير ، مخافة الفوات . وقال تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . فالمشرك لا ترجى له المغفرة ، لأن الله نفى عنه المغفرة ، وما سواه من الذنوب في مشيئة الله ، إن الله غفر له ، وإن شاء عذبه . وفي معجم الطبراني : الدواوين عند الله يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان لا يغفر الله منه شيئاً ، وهو الشرك بالله ، ثم قرأ : إن الله لا يغفر أن يشرك به . وديوان لا يترك الله منه شيئاً ، مظالم العباد بعضهم بعضاً . وديوان لا يعبأ الله به ، وهو ظلم العبد نفسه بينه وبين ربه .
وقد اختلفت عبارات العلماء في الفرق بين الكبائر والصغائر ، وستأتي الإشارة الى ذلك عند قول الشيخ رحمه الله : وأهل الكبائر من أمة محمد في النار لا يخلدون . ولكن ثم أمر ينبغي التفطن له ، وهو : أن الكبيرة قد يقترن بها من الحياء والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر ، وقد يقرن بالصغيرة من قلة الحياء وعدم المبالاة وترك الخوف والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر . وهذا أمر مرجعه إلى ما يقوم بالقلب ، وهو قدر زائد على مجرد الفعل ، والإنسان يعرف ذلك من نفسه وغيره .
وأيضاً : فإنه قد يعفى لصاحب الإحسان العظيم ما لا يعفى لغيره ، فإن فاعل السيئات يسقط عنه عقوبة جهنم بنحو عشرة أسباب ، عرفت بالاستقراء من الكتاب والسنة : السبب الأول : التوبة ، قال تعالى : إلا من تاب . إلا الذين تابوا وغيرها . والتوبة النصوح ، وهي الخالصة ، لا يختص بها ذنب دون ذنب ، لكن هل تتوقف صحتها على أن تكون عامة ؟ حتى لو تاب من ذنب وأصر على آخر لا تقبل ؟ والصحيح أنها تقبل . وهل يجب الإسلام ما قبله من الشرك وغيره من الذنوب وإن لم يتب منها ؟ أم لا بد مع الإسلام من التوبة من غير الشرك ؟ حتى لو أسلم وهو مصر على الزنا وشرب الخمر مثلا ، هل يؤاخذ بما كان منه في كفره من الزنا وشرب الخمر ؟ أم لا بد أن يتوب من ذلك الذنب مع إسلامه ؟ أو يتوب توبة عامة من كل ذنب ؟ وهذا هو الأصح : أنه لا بد من التوبة مع الإسلام ، وكون التوبة سبباً لغفران الذنوب وعدم المؤاخذة بها - مما لا خلاف فيه بين الأمة . وليس شيء يكون سبباً لغفران جميع الذنوب إلا التوبة ، قال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم ، وهذا لمن تاب ، ولهذا قال : لا تقنطوا ، وقال بعدها : وأنيبوا إلى ربكم الآية . السبب الثاني : الاستغفار ، قال تعالى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . لكن الاستغفار تارة يذكر وحده ، وتارة يقرن بالتوبة ، فإن ذكره وحده دخلت معه التوبة ، كما إذا ذكرت التوبة وحدها شملت الاستغفار . فالتوبة تتضمن الاستغفار ، والاستغفار يتضمن التوبة ، وكل واحد منهما يدخل في مسمى الآخر عند الإطلاق ، وأما عند اقتران إحدى اللفظتين بالأخرى ، فالاستغفار : طلب وقاية شر ما مضى ، والتوبة : الرجوع وطلب وقاية شر ما يخافه في المستقبل من سيئات أعماله . ونظير هذا : الفقير والمسكين ، إذا ذكر أحد اللفظين شمل الآخر ، وإذا ذكرا معا كان لكل منهما معنى . قال تعالى : إطعام عشرة مساكين . فإطعام ستين مسكيناً . وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم . لا خلاف أن كل واحد من الاسمين في هذه الآيات لما أفرد شمل المقل والمعدم ، ولما قرن أحدهما بالآخر في قوله تعالى : إنما الصدقات للفقراء والمساكين الآية - : كان المراد بأحدهما المقل ، والآخر المعدم ، على خلاف فيه . وكذلك : الإثم والعدوان ، والبر والتقوى ، والفسوق والعصيان . ويقرب من هذا المعنى : الكفر والنفاق ، فإن الكفر أعم ، فإذا ذكر الكفر شمل النفاق ، وإن ذكرا معا كان لكل منهما معنى . وكذلك الإيمان والإسلام ، على ما يأتي الكلام فيه ، إن شاء الله تعالى . السبب الثالث : الحسنات : فإن الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها ، فالويل لمن لاغلبت آحاده عشراته وقال تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات . وقال ﷺ . وأتبع السيئة الحسنة تمحها . السبب الرابع : المصائب الدنيوية ، قال ﷺ : ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ، ولا غم ولا هم ولا حزن ، حتى الشوكة يشاكها - إلا كفر بها من خطاياه . وفي المسند : أنه لما نزل قوله تعالى : من يعمل سوءاً يجز به - قال أبو بكر : يا رسول الله ، نزلت قاصمة الظهر ، وأينا لم يعمل سوءً ؟ فقال : يا أبا بكر ، ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست يصيبك اللأواء ؟ فذلك ما تجزون به .
فالمصائب نفسها مكفرة ، وبالصبر عليها يثاب العبد ، وبالسخط يأثم . والصبر والسخط أمر آخر غير المصيبة ، فالمصيبة من فعل الله لا من فعل العبد ، وهي جزاء من الله للعبد على ذنبه ، ويكفر ذنبه بها ، وإنما يثاب المرء ويأثم على فعله ، والصبر والسخط من فعله ، وإن كان الأجر قد يحصل بغير عمل من العبد ، بل هدية من الغير ، أو فضلاً من الله من غير سبب ، قال تعالى : ويؤت من لدنه أجراً عظيماً . فنفس المرض جزاء وكفارة لما تقدم . وكثيراً ما يفهم من الأجر غفران الذنوب ، وليس ذلك مدلوله ، وإنما يكون من لازمه . السبب الخامس : عذاب القبر . وسيأتي الكلام عليه ، إن شاء الله تعالى . السبب السادس : دعاء المؤمنين واستغفارهم في الحياة وبعد الممات . السبب السابع : ما يهدى إليه بعد الموت ، من ثواب صدقة أو قراءة أو حج ، ونحو ذلك ، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى . السبب الثامن : أهوال يوم القيامة وشدائده . السبب التاسع : ما ثبت في الصحيحين : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة . السبب العاشر : شفاعة الشافعين ، كما تقدم عند ذكر الشفاعة وأقسامها . السبب الحادي عشر : عفو أرحم الراحمين من غير شفاعة ، كما قال تعالى : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء . فإن كان ممن لم يشأ الله أن يغفر له لعظم جرمه ، فلا بد من دخوله إلى الكير ، ليخلص طيب إيمانه من خبث معاصيه ، فلا يبقى في النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، بل من قال : لا إله إلا الله ، كما تقدم من حديث أنس رضي الله عنه . وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع القطع لأحد معين من الأمة ، غير من شهد له الرسول ﷺ بالجنة ، ولكن نرجو للمحسنين ، ونخاف عليهم .
قوله: والأمن والإياس ينقلان عن ملة الاسلام ،وسبيل الحق بينهما لأهل القبلة
ش : يجب أن يكون العبد خائفاً راجياً ، فإن الخوف المحمود الصادق : ما حال بين صاحبه وبين محارم الله ، فإذا تجاوز ذلك خيف منه اليأس والقنوط . والرجاء المحمود : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله ، فهو راج لثوابه ، أو رجل أذنب ذنباً ثم تاب منه إلى الله ، فهو راج لمغفرته . قال الله تعالى : إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم . أما إذا كان الرجل متمادياً في التفريط والخطايا ، يرجو رحمة الله بلا عمل ، فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب . قال : أبو علي الروذباري رحمه الله : الخوف والرجاء كجناحي الطائر ، إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه ، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص ، وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت . وقد مدح الله أهل الخوف والرجاء بقوله : أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه الآية . وقال : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً الآية . فالرجاء يستلزم الخوف ، ولولا ذلك لكان أمناً ، والخوف يستلزم الرجاء ، ولولا ذلك لكان قنوطاً ويأساً . وكل أحد إذا خفته هربت منه ، إلا الله تعالى ، فإنك إذا خفته هربت إليه ، فالخائف هارب من ربه إلى ربه . وقال صاحب منازل السائرين رحمه الله : الرجاء أضعف منازل المريد . وفي كلامه نظر ، بل الرجاء والخوف على الوجه المذكور من أشرف منازل المريد . وفي الصحيح عن النبي ﷺ : يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي . فليظن بي ما شاء وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول قبل موته بثلاث : لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ، ولهذا قيل : إن العبد ينبغي أن يكون رجاؤه في مرضه أرجح من خوفه ، بخلاف زمن الصحة ، فإنه يكون خوفه أرجح من رجائه . وقال بعضهم : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ، وروي : ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجىء ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد . ولقد أحسن محمود الوراق في قوله :
لو قد رأيت الصغير من عمل الخـ ير ثواباً عجبت من كبره
أو قد رأيت الحقير من عمل الشـ ر جزاءً أشفقت من حذره
قوله: ولا يخرج العبد من الإيمان إلا بجحود ما أدخله فيه
ش : يشير الشيخ إلى الرد على الخوارج والمعتزلة في قوله بخروجه من الإيمان بارتكاب الكبيرة . وفيه تقرير لما قال أولاً : لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ، ما لم يستحله . وتقدم الكلام على هذا المعنى .
قوله: والإيمان : هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
وجميع ما صح عن رسول الله ﷺ من الشرع والبيان كله حق . والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى
ش : اختلف الناس فيما يقع عليه اسم الإيمان ، اختلافاً كثيراً : فذهب مالك و الشافعي و أحمد و الأوزاعي و إسحق بن راهويه وسائر أهل الحديث وأهل المدينة رحمهم الله وأهل الظاهر وجماعة من المتكلمين : إلى أنه تصديق بالجنان ، وإقرار باللسان ، وعمل بالأركان . وذهب كثير من أصحابنا إلى ما ذكره الطحاوي رحمه الله : أنه الإقرار باللسان ، والتصديق بالجنان . ومنهم من يقول : إن الإقرار باللسان ركن زائد ليس بأصلي ، وإلى هذا ذهب أبو منصور الماتريدي رحمه الله ، ويروى عن أبي حنيفة رضي الله عنه . وذهب الكرامية إلى أن الإيمان هو الإقرار باللسان فقط ! فالمنافقون عندهم مؤمنون كاملو الإيمان ، ولكنهم يقولون بأنهم يستحقون الوعيد الذي أوعدهم الله به ! وقولهم ظاهر الفساد . وذهب الجهم بن صفوان وأبو الحسن الصالحي أحد رؤساء القدرية - إلى أن الإيمان هو المعرفة بالقلب ! وهذا القول أظهر فساداً مما قبله ! فإن لازمه أن فرعون وقومه كانوا مؤمنين ، فإنهم عرفوا صدق موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام ، ولم يؤمنوا بهما ، ولهذا قال موسى لفرعون : لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر . وقال تعالى : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين . وأهل الكتاب كانوا يعرفون النبي ﷺ كما يعرفون أبناءهم ، ولم يكونوا مؤمنين به ، بل كافرين به ، معادين له ، وكذلك أبو طالب عنده يكون مؤمناً ، فإنه قال :
ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا
بل إبليس يكون عند الجهم مؤمناً كامل الإيمان ! فإنه لم يجهل ربه ، بل هو عارف به ، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال : رب بما أغويتني . قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين . والكفر عند الجهم هو الجهل بالرب تعالى ، ولا أحد أجهل منه بربه ! فإنه جعله الوجود المطلق ، وسلب عنه جميع صفاته ، ولا جهل أكبر من هذا ، فيكون كافراً بشهادته على نفسه ! وبين هذه المذاهب مذاهب أخر ، بتفاصيل وقيود ، أعرضت عن ذكرها اختصاراً ، ذكر هذه المذاهب أبو المعين النسفي في تبصرة الأدلة وغيره .
وحاصل الكل يرجع إلى أن الإيمان : إما أن يكون ما يقوم بالقلب واللسان وسائر الجوارح ، كما ذهب إليه جمهور السلف من الأئمة الثلاثة وغيرهم رحمهم الله ، كما تقدم ، أو بالقلب واللسان دون الجوارح ، كما ذكره الطحاوي عن أبي حنيفه وأصحابه رحمهم الله . أو باللسان وحده ، كما تقدم ذكره عن الكرامية . أو بالقلب وحده ، وهو إما المعرفة ، كما قاله الجهم ، أو التصديق كما قاله أبو منصور الماتريدي رحمه الله . وفساد قول الكرامية والجهم بن صفوان ظاهر .
والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة - اختلاف صوري . فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب ، أو جزءاً من الإيمان ، مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان ، بل هو في مشيئة الله ، إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه - : نزاع لفظي ، لا يترتب عليه فساد اعتقاد . والقائلون بتكفير تارك الصلاة ، ضموا إلى هذا الأصل أدلة أخرى . وإلا فقد نفى النبي ﷺ الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ، ولم يوجب ذلك زوال اسم الإيمان عنهم بالكلية ، اتفاقاً . ولا خلاف بين أهل السنة أن الله تعالى أراد من العباد القول والعمل ، وأعني بالقول : التصديق بالقلب والإقرار باللسان ، وهذا الذي يعنى به عند إطلاق قولهم : الإيمان قول وعمل . لكن هذا المطلوب من العباد : هل يشمله اسم الإيمان ؟ أم الإيمان أحدهما ، وهو القول وحده ، والعمل مغاير له لا يشمله اسم الإيمان عند إفراده بالذكر ، وإن أطلق عليهما كان مجازاً ؟ هذا محل النزاع .
وقد أجمعوا على أنه لو صدق بقلبه وأقر بلسانه ، وامتنع عن العمل بجوارحه - : أنه عاص لله ورسوله ، مستحق للوعيد ، لكن فيمن يقول : إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان من قال : لما كان الإيمان شيئاً واحداً فإيماني كإيمان أبي بكر الصديق و عمر رضي الله عنهما ! بل قال : كإيمان الأنبياء والمرسلين وجبرائيل وميكائيل عليهم السلام ! ! وهذا غلو منه . فإن الكفر مع الإيمان كالعمى مع البصر ، ولا شك أن البصراء يختلفون في قوة البصر وضعفه ، فمنهم الأخفش والأعشى ، ومن يرى الخط الثخين ، دون الدقيق إلا بزجاجة ونحوها ، ومن يرى عن قرب زائد على العادة ، وآخر بضده .
ولهذا - والله أعلم - قال الشيخ رحمه الله : وأهله في أصله سواء ، يشير إلى أن التساوي إنما هو في أصله ، ولا يلزم منه التساوي من كل وجه ، بل تفاوت درجات نور لا إله إلا الله في قلوب أهلها لا يحصيها إلا الله تعالى : فمن الناس من نور لا إله إلا الله في قلبه كالشمس ، ومنهم من نورها في قلبه كالكوكب الدري ، وآخر كالمشعل العظيم ، وآخر كالسراج المضيىء ، وآخر كالسراج الضعيف . ولهذا تظهر الأنوار يوم القيامة بأيمانهم وبين أيديهم على هذا المقدار ، بحسب ما في قلوبهم من نور الإيمان والتوحيد علماً وعملاً ، وكلما اشتد نور هذه الكلمة وعظم أحرق من الشبهات والشهوات بحسب قوته ، بحيث إنه ربما وصل إلى حال لا يصادف شهوة ولا شبهة ولا ذنباً إلا أحرقه ، وهذه حال الصادق في توحيده ، فسماء إيمانه قد حرس بالرجوم من كل سارق . ومن عرف هذا عرف معنى قول النبي ﷺ : إن الله حرم على النار من قال : لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ، وقوله : لا يدخل النار من قال . لا إله إلا الله ، وما جاء من هذا النوع من الأحاديث التي أشكلت على كثير من الناس ، حتى ظنها بعضهم منسوخة ، وظنها بعضهم قبل ورود الأوامر والنواهي ، وحملها بعضهم على نار المشركين والكفار ، وأول بعضهم الدخول بالخلود ، ونحو ذلك . والشارع صلوات الله وسلامه عليه لم يجعل ذلك حاصلاً بمجرد قول اللسان فقط ، فإن هذا من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام ، فإن المنافقين يقولونها بألسنتهم ، وهم تحت الجاحدين في الدرك الأسفل من النار ، فإن الأعمال لا تتفاضل بصورها وعددها ، وإنما تتفاضل بتفاضل ما في القلوب . وتأمل حديث البطاقة التي توضع في كفة ، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً ، كل سجل منها مد البصر ، فتثقل البطاقة ، وتطيش السجلات ، فلا يعذب صاحبها . ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة ، وكثير منهم يدخل النار . وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان ، التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية ، وحملته وهو في تلك الحال أن جعل ينوء بصدره وهو يعالج سكرات الموت وتأمل ما قام بقلب البغي من الإيمان ، حيث نزعت موقها وسقت الكلب من الركية ، فغفر لها . وهكذا العقل أيضاً ، فإنه يقبل التفاضل ، وأهله في أصله سواء ، مستوون في أنهم عقلاء غير مجانين ، وبعضهم أعقل من بعض . وكذلك الإيجاب والتحريم ، فيكون إيجاب دون إيجاب ، وتحريم دون تحريم . هذا هو الصحيح ، وإن كان بعضهم قد طرد ذلك في العقل والوجوب .
وأما زيادة الإيمان من جهة الإجمال والتفصيل - : فمعلوم أنه لا يجب في أول الأمر ما وجب بعد نزول القرآن كله ، ولا يجب على كل أحد من الإيمان المفصل مما أخبر به الرسول ما يجب على من بلغه خبره ، كما في حق النجاشي وأمثاله . وأما الزيادة بالعمل والتصديق ، المستلزم لعمل القلب والجوارح - : فهو أكمل من التصديق الذي لا يستلزمه ، فالعلم الذي يعمل به صاحبه أكمل من العلم الذي لا يعمل به ، فإذا لم يحصل اللازم دل على ضعف الملزوم . ولهذا قال النبي ﷺ : ليس المخبر كالمعاين وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح ، فلما رآهم قد عبدوه ألقاها ، وليس ذلك لشك موسى في خبر الله ، لكن المخبر، وإن جزم بصدق المخبر ، فقد لا يتصور المخبر به نفسه ، كما يتصوره إذا عاينه ، كما قال إبراهيم الخليل صلوات الله على نبينا محمد وعليه : رب أرني كيف تحيي الموتى قال : أولم تؤمن قال : بلى ولكن ليطمئن قلبي . وأيضاً : فمن وجب عليه الحج والزكاة مثلاً ، يجب عليه من الإيمان أن يعلم ما أمر به ، ويؤمن بأن الله أوجب عليه ما لا يجب على غيره الإيمان به إلا مجملاً ، وهذا يجب عليه فيه الإيمان المفصل . وكذلك الرجل أول ما يسلم ، إنما يجب عليه الإقرار المجمل ، ثم إذا جاء وقت الصلاة كان عليه أن يؤمن بوجوبها ويؤديها ، فلم يتساو الناس فيما أمروا به من الإيمان . ولا شك أن من قال بقلبه التصديق الجازم ، الذي لا يقوى على معارضته شهوة ولا شبهة - : لا تقع معه معصية ، ولولا ما حصل له من الشهوة والشبهة أو إحداهما لما عصى ، بل يشتغل قلبه ذلك الوقت بما يواقعه من المعصية ، فيغيب عنه التصديق والوعيد فيعصي . ولهذا - والله أعلم - قال ﷺ : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، الحديث . فهو حين يزني يغيب عنه تصديقه بحرمة الزنا ، وإن بقي أصل التصديق في قلبه ، ثم يعاوده . فإن المتقين كما وصفهم الله بقوله : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون . قال ليث عن مجاهد : هو الرجل يهم بالذنب فيذكر الله فيدعه . والشهوة والغضب مبدأ السيئات ، فإذا أبصر رجع . ثم قال تعالى : وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون ، أي : وإخوان الشياطين تمدهم الشياطين في الغي ثم لا يقصرون . قال ابن عباس : لا الإنس تقصر عن السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم . فإذا لم يبصر بقي قلبه في عمى ، والشيطان يمده في غيه ، وإن كان التصديق في قلبه لم يكذب ، فذلك النور والإبصار ، وتلك الخشية والخوف تخرج من قلبه . وهذا كما أن الإنسان يغمض عينه فلا يرى ، وإن لم يكن أعمى ، فكذلك القلب ، بما يغشاه من رين الذنوب ، لا يبصر الحق وإن لم يكن أعمى كعمى الكافر . وجاء هذا المعنى مرفوعاً إلى النبي ﷺ : أنه قال : إذا زنا العبد نزع منه الإيمان ، فإذا تاب أعيد إليه .
إذا كان النزاع في هذه المسألة بين أهل السنة نزاعاً لفظياً ، فلا محذور فيه ، سوى ما يحصل من عدوان إحدى الطائفتين على الأخرى والإفتراق بسبب ذلك ، وأن يصير ذلك ذريعة إلى بدع أهل الكلام المذموم من أهل الإرجاء ونحوهم ، وإلى ظهور الفسق والمعاصي ، بأن يقول : أنا مؤمن مسلم حقاً كامل الإيمان والإسلام ولي من أولياء الله ! فلا يبالي بما يكون منه من المعاصي . وبهذا المعنى قالت المرجئة : لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله ! وهذا باطل قطعاً . فالإمام أبو حنيفة رضي الله عنه نظر إلى حقيقة الإيمان لغة مع أدلة من كلام الشارع . وبقية الأئمة رحمهم الله نظروا إلى حقيقته في عرف الشارع ، فإن الشارع ضم إلى التصديق أوصافاً وشرائط ، كما في الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك .
فمن أدلة الأصحاب لأبي حنيفة رحمه الله : أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق ، قال تعالى خبراً عن إخوة يوسف : وما أنت بمؤمن لنا ، أي بمصدق لنا ، ومنهم من ادعى إجماع أهل اللغة على ذلك . ثم هذا المعنى اللغوي ، وهو التصديق بالقلب ، هو الواجب على العبد حقاً لله ، وهو أن يصدق الرسول ﷺ فيما جاء به من عند الله ، فمن صدق الرسول فيما جاء به من عند الله فهو مؤمن فيما بينه وبين الله تعالى ، والإقرار شرط إجراء أحكام الإسلام في الدنيا . هذا على أحد القولين ، كما تقدم ، ولأنه ضد الكفر ، وهو التكذيب والجحود ، وهما يكونان بالقلب ، فكذا ما يضادهما . وقوله : إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ، يدل على أن القلب هو موضع الإيمان ، لا اللسان ، ولأنه لو كان مركباً من قول وعمل ، لزال كله بزوال جزئه ، ولأن العمل قد عطف على الإيمان ، والعطف يقتضي المغايرة ، قال تعالى : آمنوا وعملوا الصالحات وغيرها ، في مواضع من القرآن .
وقد اعترض على استدلالهم بأن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق - بمنع الترادف بين التصديق والإيمان ، وهب أن الأمر يصح في موضع ، فلم قلتم إنه يوجب الترادف مطلقاً ؟ وكذلك اعترض على دعوى الترادف بين الإسلام والإيمان . ومما يدل على عدم الترادف : أنه يقال للمخبر إذا صدق : صدقه ، ولا يقال ، آمنه ، ولا آمن به ، بل يقال : آمن له ، كما قال تعالى : فآمن له لوط . فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف . وقال تعالى : يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين ، ففرق بين المعدى بالباء والمعدى باللام ، فالأول يقال للمخبر به ، والثاني للمخبر . ولا يرد كونه يجوز أن يقال : ما أنت بمصدق لنا ، لأن دخول اللام لتقوية العامل ، كما إذا تقدم المعمول ، أو كان العامل إسم فاعل ، أو مصدراً ، على ما عرف في موضعه . فالحاصل أنه لا يقال : قد آمنته ، ولا صدقت له ، إنما يقال . آمنت له ، كما يقال : أقررت له . فكان تفسيره بأقررت - أقرب من تفسيره بصدقت ، مع الفرق بينهما ، لأن الفرق بينهما ثابت في المعنى ، فإن كل مخبر عن مشاهد أو غيب ، يقال له في اللغة : صدقت ، كما يقال له : كذبت . فمن قال : السماء فوقنا ، قيل له : صدقت . وأما لفظ الإيمان فلا يستعمل إلا في الخبر عن الغائب ، فيقال لمن قال : طلعت الشمس - : صدقناه ، ولا يقال : آمنا له ، فإن فيه أصل معنى الأمن ، و الإئتمان إنما يكون في الخبر عن الغائب ، فالأمر الغائب هو الذي يؤتمن عليه المخبر . ولهذا لم يأت في القرآن وغيره لفظ آمن له - إلا في هذا النوع . ولأنه لم يقابل لفظ الإيمان قط بالتكذيب كما يقابل لفظ التصديق ، وإنما يقابل بالكفر ، والكفر لا يختص بالتكذيب ، بل لو قال : أنا أعلم أنك صادق ولكن لا أتبعك ، بل أعاديك وأبغضك وأخالفك - : لكان كفراً أعظم ، فعلم أن الايمان ليس التصديق فقط ، ولا الكفر التكذيب فقط ، بل إذا كان الكفر يكون تكذيباً ، ويكون مخالفة ومعاداة بلا تكذيب . فكذلك الإيمان ، يكون تصديقاً وموافقة وانقياداً ، ولا يكفي مجرد التصديق ، فيكون الإسلام جزء مسمى الإيمان . ولو سلم الترادف ، فالتصديق يكون بالأفعال أيضاً . كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : العينان تزنيان ، وزناهما النظر ، والأذن تزني ، وزناها السمع إلى أن قال : والفرج يصدق ذلك ويكذبه . وقال الحسن البصري رحمه الله : ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني ، ولكنه ما وقر في الصدور وصدقته الأعمال . ولو كان تصديقاً فهو تصديق مخصوص ، كما في الصلاة ونحوها كما قد تقدم ، وليس هذا نقلاً للفظ ولا تغييراً له ، فإن الله لم يأمرنا بإيمان مطلق ، بل بإيمان خاص ، وصفه وبينه . فالتصديق الذي هو الإيمان ، أدنى أحواله أن يكون نوعاً من التصديق العام ، فلا يكون مطابقاً له في العموم والخصوص ، من غير تغير اللسان ولا قلبه ، بل يكون الإيمان في كلام الشارع مؤلفاً من العام والخاص ، كالإنسان الموصوف بأنه حيوان ناطق . ولأن التصديق التام القائم بالقلب مستلزم لما وجب من أعمال القلب والجوارح ، فإن هذه من لوازم الإيمان التام ، وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم . ونقول : إن هذه لوازم تدخل في مسمى اللفظ تارة ، وتخرج عنه أخرى ، أو إن اللفظ باق على معناه في اللغة ، ولئن الشارع زاد فيه أحكاماً ، أو أن يكون الشارع استعمله في معناه المجازي ، فهو حقيقة شرعية ، مجاز لغوي ، أو أن يكون قد نقله الشارع . وهذه الأقوال لمن سلك هذا الطريق .
وقالوا : إن الرسول قد وافقنا على معاني الإيمان ، وعلمنا من مراده علما ضرورياً أن من قيل إنه صدق ولم يتكلم بلسانه بالإيمان ، مع قدرته على ذلك ، ولا صلى ، ولا صام ، ولا أحب الله ورسوله ، ولا خاف الله بل كان مبغضاً للرسول ، معادياً له يقاتله - : أن هذا ليس بمؤمن . كما علمنا أنه رتب الفوز والفلاح على التكلم بالشهادتين مع الإخلاص والعمل بمقتضاهما . فقد قال ﷺ : الإيمان بضع وسبعون شعبة ، أعلاها قول : لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق . وقال أيضاً ﷺ : الحياء شعبة من الإيمان . وقال ايضاً ﷺ : أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً .
وقال أيضاً ﷺ : البذاذة من الايمان . فإذا كان الإيمان أصلاً له شعب متعددة ، وكل شعبة منها تسمى : إيماناً ، فالصلاة من الإيمان ، وكذلك الزكاة والصوم والحج ، والأعمال الباطنة ، كالحياء والتوكل والخشية من اللة والإنابة إليه ، حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة الأذى عن الطريق ، فإنه من شعب الايمان . وهذه الشعب ، منها ما يزول الإيمان بزوالها إجماعاً ، كشعبة الشهادتين ، ومنها ما لا يزول بزوالها إجماعاً ، كترك إماطة الأذى على الطريق ، وبينهما شعب متفاوتة تفاوتاً عظيماً ، منها ما يقرب من شعبة الشهادة ، ومنها ما يقرب من شعبة إماطة الأذى . وكما أن شعب الإيمان إيمان ، فكذا شعب الكفر كفر، فالحكم بما أنزل الله - مثلاً من شعب الإيمان ، والحكم بغير ما أنزل الله كفر . وقد قال ﷺ : من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم . وفي لفظ : ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل . وروى الترمذي عن رسول الله ﷺ أنه قال : من أحب لله ، وأبغض لله ، وأعطى لله ، ومنع لله - : فقد استكمل الإيمان . ومعناه - والله أعلم - أن الحب والبغض أصل حركة القلب ، وبذل المال ومنعه هو كمال ذلك ، فإن المال آخر المتعلقات بالنفس ، والبدن متوسط بين القلب والمال ، فمن كان أول أمره وآخره كله لله ، كان الله إلهه في كل شيء ، فلم يكن فيه شيء من الشرك ، وهو إرادة غير الله وقصده ورجاؤه ، فيكون مستكملاً الإيمان . إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على قوة الإيمان وضعفه بحسب العمل .
وسيأتي في كلام الشيخ رحمه الله في شأن الصحابة رضي الله عنهم : وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان . فسمى حب الصحابة إيماناً ، وبغضهم كفراً .
وما أعجب ما أجاب به أبو المعين النسفي وغيره ، عن استدلالتهم بحديث شعب الإيمان المذكور ، وهو : أن الراوي قال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، فقد شهد الراوي بفعله نفسه حيث شك فقال : بضع وستون أو بضع وسبعون ، ولا يظن برسول الله ﷺ الشك في ذلك ! وأن هذا الحديث مخالف للكتاب .
فطعن فيه بغفلة الراوي ومخالفته الكتاب . فانظر إلى هذا الطعن ما أعجبه ! فإن تردد الراوي بين الستين والسبعين لا يلزم منه عدم ضبطه ، مع أن البخاري رحمه الله إنما رواه : بضع وستون من غير شك . وأما الطعن بمخالفة الكتاب ، فأين في الكتاب ما يدل على خلافه ؟! وإنما فيه ما يدل على وفاقه ، وإنما هذا الطعن من ثمرة شؤم التقليد والتعصب .
وقالوا أيضاً : وهنا أصل آخر ، وهو : أن القول قسمان : قول القلب وهو الإعتقاد ، وقون اللسان وهو التكلم بكلمة الإسلام . والعمل قسمان : عمل القلب ، وهو نيته وإخلاصه ، وعمل الجوارح . فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله ، وإذا زال تصديق القلب لم ينفع بقية الأخر ، فإن تصديق القلب شرط في اعتبارها وكونها نافعة ، وإذا بقي تصديق القلب وزال الباقي فهذا موضع المعركة ! !
ولا شك أنه يلزم من عدم طاعة الجوارح عدم طاعة القلب ، إذا لو أطاع القلب وانقاد ، لأطاعت الجوارح وانقادت ، ويلزم من عدم طاعة القلب وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة . قال ﷺ : إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد ، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب . فمن صلح قلبه صلح جسده قطعاً ، بخلاف العكس . وأما كونه يلزم من زوال جزئه زوال كله ، فإن أريد أن الهيئة الاجتماعية لم تبق مجتمعة كما كانت ، فمسلم ، ولكن لا يلزم من زوال بعضها زوال سائر الأجزاء ، فيزول عنه الكمال فقط .
تابع قوله: والإيمان: هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
وجميع ما صح عن رسول الله ﷺ من الشرع والبيان كله حق . والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى .
والأدلة على زيادة الإيمان ونقصانه من الكتاب والسنة والآثار السلفية كثيرة جداً : منها : قوله تعالى : وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً . ويزيد الله الذين اهتدوا هدى . ويزداد الذين آمنوا إيماناً . هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم . الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . وكيف يقال في هذه الآية والتي قبلها إن الزياده باعتبار زيادة المؤمن به ؟ فهل في قول الناس : قد جمعوا لكم فاخشوهم زيادة مشروع ؟ وهل في إنزال السكينة على قلوب المؤمنين زيادة مشروع ؟ وإنما أنزل الله السكينة في قلوب المؤمنين مرجعهم الحديبية ليزدادوا طمأنينة ويقيناً ، ويؤيد ذلك قوله تعالى : هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان . وقال تعالى : وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون . وأما ما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي رحمه الله ، في تفسيره عند هذه الآية ، فقال : حدثنا محمد بن الفضل و أبو القاسم الساباذي ، قالا : حدثنا فارس بن مردويه ، قال : حدثنا محمد بن الفضل العابد ، قال : حدثنا يحيي بن عيسى ، قال : حدثنا أبو مطيع ، عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم ، عن أبي هريرة ، قال : جاء وفد ثقيف إلى رسول الله ﷺ ، فقالوا : يا رسول الله، الإيمان يزيد وينقص ؟ فقال : لا الإيمان مكمل في القلب ، زيادته كفر ، ونقصانه شرك . فقد سئل شيخنا عماد الدين ابن كثير رحمه الله عن هذا الحديث ؟ فأجاب : بأن الإسناد من أبي ليث إلى أبي مطيع مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة . وأما أبو مطيع ، فهو : الحكم بن عبدالله بن مسلمة البلخي ، ضعفه أحمد بن حنبل ، و يحيى بن معين ، و عمرو بن علي الفلاس ، و البخاري ، و أبو داود ، و النسائي ، و أبو حاتم الرازي ، و أبو حاتم محمد بن حبان البستي ، و العقيلي ، و ابن عدي ، و الدار قطني ، وغيرهم . وأما أبو المهزم ، الراوي عن أبي هريرة ، وقد تصحف على الكتاب ، واسمه : يزيد بن سفيان ، فقد ضعفه أيضاً ، غير واحد ، وتركه شعبة بن الحجاج ، وقال النسائي : متروك ، وقد اتهمه شعبة بالوضع ، حيث قال : لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً !
وقد وصف النبي ﷺ النساء بنقصان العقل والدين . وقال ﷺ : لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين . والمراد نفي الكمال ، ونظائره كثيرة ، وحديث شعب الإيمان ، وحديث الشفاعة ، وأنه يخرج من النار من في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان ، فكيف يقال بعد هذا : إن إيمان أهل السماوات والأرض سواء؟ ! وإنما التفاضل بينهم بمعان أخر غير الإيمان ؟ ! وكلام الصحابة رضي الله عنهم في هذا المعنى كثير أيضاً . منه : قول أبي الدرداء رضي الله عنه : من فقه العبد أن يتعاهد إيمانه وما نقص منه ، ومن فقه العبد أن يعلم أيزداد هو أم ينتقص ، وكان عمر رضي الله عنه يقول لأصحابه : هلموا نزدد إيماناً ، فيذكرون الله تعالى عز وجل . وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول في دعائه : اللهم زدنا إيماناً ويقيناً وفقهاً . وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول لرجل : اجلس بنا نؤمن ساعة . ومثله عن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه . وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال : ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان : إنصاف من نفسه ، والإنفاق من إقتار ، وبذل السلام للعالم ذكره البخاري رحمه الله في صحيحه . وفي هذا المقدار كفاية وبالله التوفيق .
وأما كون عطف العمل على الإيمان يقتضي المغايرة ، فلا يكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان - : فلا شك أن الإيمان تارة يذكر مطلقاً عن العمل عن الإسلام ، وتارة يقرن بالعمل الصالح ، وتارة يقرن بالإسلام . فالمطلق مستلزم للأعمال ، قال تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم الآية . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية . ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء . وقال ﷺ : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، الحديث . لا تؤمنوا حتى تحابوا . من غشنا فليس منا . من حمل علينا السلاح فليس منا . وما أبعد قول من قال : إن معنى قوله : فليس منا - أي فليس مثلنا ! فليت شعري فمن لم يغش يكون مثل النبي ﷺ وأصحابه .
أما إذا عطف عليه العمل الصالح ، فاعلم أن عطف الشيء على الشيء يقتضي المغايرة بين المعطوف والمعطوف عليه مع الاشتراك في الحكم الذي ذكر لهما ، والمغايرة على مراتب : أعلاها : أن يكونا متباينين ، ليس أحدهما هو الآخر ، ولا جزءاً منه ، ولا بينهما تلازم ، كقوله تعالى : خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور . وأنزل التوراة والإنجيل . وهذا هو الغالب ، ويليه : أن يكون بينهما تلازم ، كقوله تعالى : ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون . وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول . الثالث : عطف بعض الشيء عليه ، كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى . من كان عدوا لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال ، وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك . وفي مثل هذا وجهان : أحدهما : أن يكون داخلاً في الأول ، فيكون مذكوراً مرتين . والثاني : أن عطفه عليه يقتضي أنه ليس داخلاً فيه هنا ، وإن كان داخلاً فيه منفرداً ، كما قيل مثل ذلك في لفظ الفقراء والمساكين ونحوهما ، تتنوع دلالته بالإفراد والإقتران . الرابع : عطف الشيء على الشيء لاختلاف الصفتين ، كقوله تعالى : غافر الذنب وقابل التوب . وقد جاء في الشعر العطف لاختلاف اللفظ فقط ، كقوله :
فألفى قولها كذباً وميناً
ومن الناس من زعم أن في القرآن من ذلك قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً . والكلام على ذلك معروف في موضعه .
فإذا كان العطف في الكلام يكون على هذه الوجوه ، نظرنا في كلام الشارع : كيف ورد فيه الإيمان فوجدناه إذا أطلق يراد به ما يراد بلفظ البر، والتقوى ، والدين ، ودين الإسلام . ذكر في أسباب النزول أنهم سألوا عن الإيمان ؟ فأنزل الله هذه الآية : ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب الآيات . قال محمد بن نصر : حدثنا إسحق بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن يزيد المقرىء ، و الملائي ، قالا : حدثنا المسعودي ، عن القاسم ، قال : جاء رجل إلى أبي ذر رضي الله عنه ، فسأله عن الإيمان ؟ فقرأ : ليس البر أن تولوا وجوهكم إلى آخر الآية ، فقال الرجل : ليس عن هذا سألتك ، فقال : جاء رجل الى النبي ﷺ فسأله عن الذي سألتني عنه ، فقرأ عليه الذي قرأت عليك ، فقال له الذي قلت لي ، فلما أبى أن يرضى ، قال : إن المؤمن الذي إذا عمل الحسنه سرته ورجا ثوابها ، وإذا عمل السيئة ساءته وخاف عقابها . وكذلك أجاب جماعة من السلف بهذا الجواب . وفي الصحيح قوله لوفد عبد القيس : آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ماالإيمان بالله ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم . ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في مواضع أنه لا بد من إيمان القلب ، فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان . وأي دليل على أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان فوق هذا الدليل ؟ فإنه فسر الإيمان بالأعمال ولم يذكر التصديق ، للعلم بأن هذه الأعمال لا تفيد مع الجحود . وفي المسند عن أنس ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : الإسلام علانية ، والإيمان في القلب . وفي هذا الحديث دليل على المغايرة بين الإسلام والإيمان . ويؤيده قوله في حديث سؤالات جبريل ، في معنى الإسلام والإيمان .، وقد قال فيه النبي ﷺ : هذا جبرائيل أتاكم يعلمكم دينكم . فجعل الدين هو الإسلام والإيمان والإحسان ، فتبين أن ديننا يجمع الثلاثة . لكن هو درجات ثلاثة : فمسلم ، ثم مؤمن ، ثم محسن . والمراد بالإيمان ما ذكر مع الإسلام قطعاً ، كما أنه أريد بالإحسان ما ذكر مع الإيمان والإسلام ، لا أن الإحسان يكون مجرداً عن الإيمان . هذا محال . وهذا كما قال تعالى : ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله . والمقتصد والسابق كلاهما يدخل الجنة بلا عقوبة ، بخلاف الظالم لنفسه ، فإنه معرض للوعيد . وهكذا من أتى بالإسلام الظاهر مع التصديق بالقلب ، لكن لم يقم بما يجب عليه من الإيمان الباطن فإنه معرض للوعيد . فأما الإحسان فهو أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله ، والإيمان أعم من جهة نفسه وأخص من جهة أهله من الإسلام . فالإحسان يدخل فيه الإيمان ، والإيمان يدخل فيه الإسلام ، والمحسنون أخص من المؤمنين ، والمؤمنون أخص من المسلمين . وهذا كالرسالة والنبوة ، فالنبوة داخلة في الرسالة ، والرسالة أعم من جهة نفسها وأخص من جهة أهلها ، فكل رسول نبي ، ولا ينعكس .
وقد صار الناس في مسمى الاسلام على ثلاثة أقوال : فطائفة جعلت الإسلام هو الكلمة ، وطائفة أجابوا بما أجاب به النبي ﷺ حين سئل عن الإسلام والإيمان ، حيث فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة . وطائفة جعلوا الإسلام مرادفاً للإيمان ، وجعلوا معنى قول الرسول ﷺ : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصلاة ، الحديث - : شعائر الإسلام . والأصل عدم التقدير، مع أنهم قالوا : إن الإيمان هو التصديق بالقلب ، ثم قالوا الإسلام والإيمان لشيء واحد ، فيكون الإسلام هو التصديق ! وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة ، وإنما هو الانقياد والطاعة ، وقد قال النبي ﷺ : اللهم لك أسلمت وبك آمنت . وفسر الإسلام بالأعمال الظاهرة ، والإيمان بالإيمان بالأصول الخمسة . فليس لنا إذا جمعنا بينهم أن نجيب بغير ما أجاب النبي ﷺ . وأما إذا أفرد اسم الإيمان فانه يتضمن الإسلام ، وإذا أفرد الإسلام فقد يكون مع الإسلام مؤمناً بلا نزاع ، وهذا هو الواجب ، وهل يكون مسلماً ولا يقال له مؤمن ؟ وقد تقدم الكلام فيه .
وكذلك هل يستلزم الإسلام الإيمان ؟ فيه النزاع المذكور . وإنما وعد الله بالجنة في القرآن وبالنجاة من النار باسم الإيمان ، كما قال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون . وقال تعالى : سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله وأما اسم الإسلام مجرداً فما علق به في القرآن دخول الجنة ، لكنه فرضه وأخبر أنه دينه الذي لا يقبل من أحد سواه ، وبه بعث النبيين ، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه .
فالحاصل أن حالة اقتران الإسلام بالإيمان غير حاله إفراد أحدهما عن الآخر ، فمثل الإسلام من الإيمان ، كمثل الشهادتين إحداهما من الأخرى ، فشهادة الرسالة غير شهاده الوحدانية ، فهما شيئان في الأعيان وإحداهما مرتبطه بالأخرى في المعنى والحكم ، كشيء واحد . كذلك الإسلام والإيمان ، لا إيمان لمن لا إسلام له ، ولا إسلام لمن لا إيمان له ، إذ لا يخل المؤمن من إسلام به يتحقق إيمانه ، ولا يخلو المسلم من إيمان به صح إسلامه . ونظائر ذلك في كلام الله ورسوله وفي كلام الناس كثيرة ، أعني في الإفراد والإقتران ، منها : لفظ الكفر والنفاق ، فالكفر إذا ذكر مفرداً في وعيد الآخرة دخل فيه المنافقون ، كقوله تعالى : ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين . ونظائره كثيرة . وإذا قرن بينهما كان الكافر من أظهر كفره ، والمنافق من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه . وكذلك لفظ البر والتقوى ، ولفظ الإثم والعدوان ، ولفظ التوبة والإستغفار ، ولفظ الفقير والمسكين ، وأمثال ذلك .
ويشهد للفرق بين الإسلام والإيمان ، قوله تعالى : قالت الأعراب آمنا . قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا إلى آخر السورة . وقد اعترض على هذا بأن معنى الآية : قولوا أسلمنا : انقدنا بظواهرنا ، فهم منافقون في الحقيقة ، وهذا أحد قولي المفسرين في هذه الآية الكريمة . وأجيب بالقول الآخر، ورجح ، وهو أنهم ليسوا بمؤمنين كاملي الإيمان ، لا أنهم منافقون ، كما نفى الإيمان عن القاتل ، والزاني ، والسارق ، ومن لا أمانة له . ويؤيد هذا سياق الآية ، فإن السورة من أولها إلى هنا في النهي عن المعاصي ، وأحكام بعض العصاة ، ونحو ذلك ، وليس فيها ذكر المنافقين . ثم قال بعد ذلك : وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً ، ولو كانوا منافقين ما نفعتهم الطاعة ، ثم قال : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية ، يعني - والله أعلم - أن المؤمنين الكاملي الإيمان ، هم هؤلاء ، لا أنتم ، بل أنتم منتف عنكم الإيمان الكامل . يؤيد هذا : أنه أمرهم ، أو أذن لهم ، أن يقولوا : أسلمنا ، والمنافق لا يقال له ذلك ، ولو كانوا منافقين لنفى عنهم الإسلام ، كما نفى عنهم الإيمان ، ونهاهم أن يمنوا بإسلامهم ، فأثبت لهم إسلاماً ، ونهاهم أن يمنوا به على رسوله ، ولو لم يكن إسلاماً صحيحاً لقال : لم تسلموا ، بل أنتم كاذبون ، كما كذبهم في قولهم : نشهد إنك لرسول الله . والله أعلم بالصواب .
وينتفي بعد هذا التقدير والتفصيل دعوى الترادف ، وتشنيع من ألزم بأن الإسلام لو كان هو الأمور الظاهرة لكان ينبغي أن لا يقابل بذلك ، ولا يقبل إيمان المخلص ! وهذا ظاهر الفساد ، فإنه قد تقدم تنظير الإيمان والإسلام بالشهادتين وغيرهما ، وأن حالة الاقتران غير حالة الانفراد . فانظر إلى كلمة الشهادة ، فإن النبي ﷺ قال : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، الحديث ، فلو قالوا : لا إله إلا الله ، وأنكروا الرسالة - : ما كانوا يستحقون العصمة ، بل لا بد أن يقولوا : لا إله إلا الله قائمين بحقها ، ولا يكون قائما بـ لا إله إلا الله حق القيام ، إلا من صدق بالرسالة ، وكذا من شهد أن محمداً رسول الله ، لا يكون قائما بهذه الشهادة حق القيام ، إلا من صدق هذا الرسول في كل ما جاء به . فتضمنت التوحيد وإذا ضممت شهادة أن لا إله إلا الله إلى شهادة أن محمداً رسول الله - كان المراد من شهادة أن لا إله إلا الله ثبات التوحيد ، ومن شهادة أن محمداً رسول الله إثبات الرسالة . كذلك الإسلام والإيمان : إذا قرن أحدهما بالآخر ، كما في قوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات . وقوله ﷺ : اللهم لك أسلمت وبك آمنت - : كان المراد من أحدهما غير المراد من الآخر . وكما قال ﷺ : الإسلام علانية ، والإيمان في القلب . وإذا انفرد أحدهما شمل معنى الآخر وحكمه ، وكما في الفقير والمسكين ونظائره ، فإن لفظي الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا ، فهل يقال في قوله تعالى : إطعام عشرة مساكين - أنه يعطى المقل دون المعدم ، أو بالعكس ؟ وكذا في قوله تعالى : وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم .
ويندفع أيضاً تشنيع من قال : ما حكم من آمن ولم يسلم ؟ أو أسلم ولم يؤمن ؟ في الدنيا والآخرة ؟ فمن يثبت لأحدهما حكماً ليس بثابت للآخر ظهر بطلان قوله ! ويقال له في مقابلة تشنيعه : أنت تقول : المسلم هو المؤمن ، والله تعالى يقول : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات فجعلهما غيرين ، وقد قيل لرسول الله ﷺ : مالك عن فلان والله إني لأراه مؤمناً ؟ قال : أو مسلما ، قالها ثلاثاً ، فأثبت له الإسلام وتوقف في اسم الإيمان ، فمن قال : هما - كان مخالفاً ، والواجب رد موارد النزاع إلى الله ورسوله . وقد يتراءى في بعض النصوص معارضة ، ولا معارضة بحمد الله تعالى ، ولكن الشأن في التوفيق ، وبالله التوفيق .
تابع أيضا قوله: والإيمان: هو الإقرار باللسان ،والتصديق بالجنان
وجميع ما صح عن رسول الله ﷺ من الشرع والبيان كله حق . والإيمان واحد ، وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ، ومخالفة الهوى، وملازمة الأولى .
وأما الاحتجاج بقوله تعالى : فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين - على ترادف الإسلام والإيمان ، فلا حجة فيه ، لأن البيت المخرج كانوا متصفين بالإسلام والإيمان ، ولا يلزم من الاتصاف بهما ترادفهما .
والظاهر أن هذه المعارضات لم تثبت عن أبي حنيفة رضي الله عنه ، وإنما هي من الأصحاب ، فإن غالبها ساقط لا يرتضيه أبو حنيفة ! وقد حكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وأن حماد بن زيد لما روي له حديث : أي الإسلام أفضل الى آخره ، قال له : ألا تراه يقول : أي الإسلام أفضل ، قال : الإيمان ، ثم جعل الهجرة والجهاد من الإيمان ؟ فسكت أبو حنيفة ، فقال بعض أصحابه : ألا تجيبه يا أبا حنيفة ؟ قال : بما أجيبه ؟ وهو يحدثني بهذا عن رسول الله ﷺ .
ومن ثمرات هذا الاختلاف : مسألة الاستثناء في الإيمان ، وهو أن يقول أي الرجل : أنا مؤمن إن شاء الله . والناس فيه على ثلاثة أقوال : طرفان ووسط ، منهم من يوجبه ، ومنهم من يحرمه ، ومنهم من يجيزه باعتبار ويمنعه باعتبار ، وهذا أصح الأقوال .
أما من يوجبه فلهم مأخذان : أحدهما : أن الإيمان هو ما مات الإنسان عليه ، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً أو كافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه ، وما قبل ذلك لا عبرة به ، قالوا : والإيمان الذي يعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً - : ليس بإيمان ، كالصلاة التي أفسدها صاحبها قبل الكمال ، والصيام الذي في صاحبه قبل الغروب ، وهذا مأخذ كثير من الكلابية وغيرهم ، وعند هؤلاء أن الله يحب في الأزل من كان كافراً إذا علم منه أنه يموت مؤمناً ، فالصحابة ما زالوا مجوبين قبل إسلامهم ، وإبليس ومن ارتد عن دينه ما زال الله يبغضه وإن كان لم يكفر بعد ! وليس هذا قول السلف ، ولا كان يقول بهذا من يستثنى من السلف في إيمانه ، وهو فاسد ، فإن الله تعالى قال : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ، فأخبر أنهم يحبهم إن اتبعوا الرسول ، فاتباع الرسول شرط المحبة ، والمشروط يتأخر عن الشرط ، وغير ذلك من الأدلة . ثم صار إلى هذا القول طائفة غلوا فيه ، حتى صار الرجل منهم يستثني في الأعمال الصالحة ، يقول : صليت إن شاء الله ! ونحو ذلك ، يعني القبول . ثم صار كثير منهم يستثنون في كل شيء ، فيقول أحدهم : هذا ثوب إن شاء الله ! هذا حبل إن شاء الله ! فإذا قيل لهم : هذا لا شك فيه ؟ يقولون : نعم ، لكن إذا شاء الله أن يغيره غيره ! ! المأخذ الثاني : أن الإيمان المطلق يتضمن فعل ما أمر الله به عبده كله ، وترك ما نهاه عنه كله ، فإذا قال الرجل : أنا مؤمن ، بهذا الاعتبار- : فقد شهد لنفسه أنه من الأبرار المتقين ، القائمين بجميع ما أمروا به ، وترك كل ما نهوا عنه ، فيكون من أولياء الله المقربين ! وهذا مع تزكية الإنسان لنفسه ، ولو كانت هذه الشهادة صحيحة ، لكان ينبغي أن يشهد لنفسه بالجنة إن مات على هذه الحال . وهذا مأخذ عامة السلف الذين كانوا يستثنون ، وإن جوزوا ترك الاستثناء ، بمعنى آخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى . ويحتجون أيضاً بجواز الاستثناء فيما لا شك فيه ، كما قال تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين . وقال ﷺ حين وقف على المقابر : وإنا إن شاء الله بكم لاحقون . وقال أيضاً : إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله . ونظائر هذا .
وأما من يحرمه ، فكل من جعل الإيمان شيئاً واحداً ، فيقول : أنا أعلم أني مؤمن ، كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين ، فقولي : أنا مؤمن ، كقولي : أنا مسلم ، فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه ، وسموا الذين يستثنون في إيمانهم الشكاكة . وأجابوا عن الاستثناء الذي في قوله تعالى : لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين - بأنه يعود إلى الأمن والخوف ، فأما الدخول فلا شك فيه ! وقيل : لتدخلن جميعكم أو بعضكم ، لأنه علم أن بعضهم يموت ! وفي كلا الجوابين نظر : فإنهم وقعوا فيما فروا منه ، فأما الأمن والخوف فقد أخبر أنهم يدخلون آمنين ، مع علمه بذلك ، فلا شك في الدخول ، ولا في الأمن ، ولا في دخول الجميع أو البعض ، فإن الله قد علم من يدخل فلا شك فيه أيضاً ، فكان قول : إن شاء الله هنا تحقيقاً للدخول ، كما يقول الرجل فيما عزم على شيء أن يفعله لا محالة : والله لأفعلن كذا إن شاء الله ، لا يقولها لشك في إرادته وعزمه ، ولكن إنما لا يحنث الحالف في مثل هذه اليمين لأنه لا يجزم بحصول مراده . وأجيب بجواب آخر لا بأس به ، وهو : أنه قال ذلك تعليماً لنا كيف نستثني إذا أخبرنا عن مستقبل . وفي كون هذا المعنى مراداً من النص - نظر فإنه ما سيق الكلام إلا أن يكون مراداً من إشارة النص . وأجاب الزمخشري بجوابين آخرين باطلين ، وهما : أن يكون الملك قد قاله ، فأثبت قرآناً ! أو أن الرسول قاله ! ! فعند هذا المسكين يكون من القرآن ما هو غير كلام الله ! فيدخل في وعيد من قال : إن هذا إلا قول البشر . نسأل الله العافية .
وأما من يجوز الاستثناء وتركه ، فهم أسعد بالدليل من الفريقين ، وخير الأمور أوسطها : فإن أراد المستثني الشك في أصل إيمانه منه من الاستثناء ، وهذا مما لا خلاف فيه . وإن أراد أنه مؤمن من المؤمنين الذين وصفهم الله في قوله : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون * الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ، وفي قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون . فالاستثناء حينئذ جائز . وكذلك من استثنى وأراد عدم علمه بالعاقبة ، وكذلك من استثنى تعليقاً للأمر بمشيئة الله ، لا شكاً في إيمانه . وهذا القول في القوة كما ترى .
قوله : وجميع ما صح عن رسول الله ﷺ من الشرع والبيان كله حق . يشير الشيخ رحمه الله بذلك إلى الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والرافضة ، القائلين بأن الأخبار قسمان : متواتر وآحاد ، فالمتواتر - وإن كان قطعي السند - لكنه غير قطعي الدلالة ، فإن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ! ! ولهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات ! قالوا : والآحاد لا تفيد العلم ، ولا يحتج بها من جهة طريقها ، ولا من جهة متنها ! فسدوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته وأفعاله من جهة الرسول ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ، ومقدمات خيالية ، سموها قواطع علقية ، وبراهين يقينية ! ! وهي في التحقيق كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور . ومن العجب أنهم قدموها على نصوص الوحي ، وعزلوا لأجلها النصوص ، فأقفرت قلوبهم من الاهتداء بالنصوص ، ولم يظفروا بالعقول الصحيحة المؤيدة بالفطرة السليمة والنصوص النبوية . ولو حكموا نصوص الوحي لفازوا بالمعقول الصحيح ، الموافق للفطرة السليمة .
بل كل فريق من أرباب البدع يعرض النصوص على بدعته ، وما ظنه معقولاً : فما وافقه قال : إنه محكم ، وقبله واحتج به !! وما خالفه قال : إنه متشابه ، ثم رده ، وسمى رده تفويضاً ! أو حرفه ، وسمى تحريفه تأويلاً ! ! فلذلك اشتد إنكار أهل السنة عليهم .
وطريق أهل السنة : أن لا يعدلوا عن النص الصحيح ، ولا يعارضوه بمعقول ، ولا قول فلان ، كما أشار إليه الشيخ رحمه الله . وكما قال البخاري رحمه الله : سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي رحمه الله ، فأتاه رجل فسأله عن مسألة ، فقال قضى فيها رسول الله ﷺ كذا وكذا ، فقال رجل للشافعي : ما تقول أنت ؟ ! فقال : سبحان الله ! تراني في كنيسة ! تراني في بيعة ! تراني على وسطي زنار ؟! أقول لك : قضى رسول الله ﷺ ، وأنت تقول : ما تقول أنت ؟! ونظائر ذلك في كلام السلف كثير . وقال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .
وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول ، عملاً به وتصديقاً له - : يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة ، وهو أحد قسمي المتواتر . ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع ، كخبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنما الأعمال بالنيات ، وخبر ابن عمر رضي الله عنهما : نهى عن بيع الولاء وهبته ، وخبر أبي هريرة : لاتنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، وكقوله : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وأمثال ذلك . وهو نظير خبر الذي أتى مسجد قباء وأخبر أن القبلة تحولت الى الكعبة ، فاستداروا إليها .
وكان رسول الله ﷺ يرسل رسله آحاداً ، ويرسل كتبه مع الآحاد ، ولم يكن المرسل إليهم يقولون لا نقبله لأنه خبر واحد ! وقد قال تعالى : هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله . فلا بد أن يحفظ الله حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه وبيناته .
ولهذا فضح الله من كذب على رسوله في حياته وبعد وفاته ، وبين حاله للناس . قال سفيان بن عيينة : ما ستر الله أحداً يكذب في الحديث . وقال عبد الله بن المبارك : لو هم رجل في البحر أن يكذب في الحديث ، لأصبح والناس يقولون : فلان كذاب . وخبر الواحد وإن كان يحتمل الصدق والكذب - ولكن التفريق بين صحيح الأخبار وسقيمها لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته مشتغلاً بالحديث ، والبحث عن سير الرواة ، ليقف على أحوالهم وأقوالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وكانوا بحيث لو قتلوا لم يسامحوا أحداً في كلمة يتقولها على رسول الله ﷺ ، ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك . وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما نقل إليهم ، فهم ترك الإسلام وعصابة الإيمان ، وهم نقاد الأخبار ، وصيارفة الأحاديث . فإذا وقف المرء على هذا من شأنهم ، وعرف حالهم ، وخبر صدقهم وورعهم وأمانتهم - : ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه . ومن له عقل ومعرفة يعلم أن أهل الحديث لهم من العلم بأحوال نبيهم وسيرته وأخباره ، ما ليس لغيرهم به شعور ، فضلاً أن يكون معلوماً لهم أو مظنوناً . كما أن النجاة عندهم من أخبار سيبويه والخليل وأقوالهما ما ليس عند غيرهم ، وعند الأطباء من كلام بقراط وجالينوس ما ليس عند غيرهم ، وكل ذي صنعة هو أخبر بها من غيره ، فلو سألت البقال عن أمر العطر ، أو العطار عن البز ، ونحو ذلك ! ! لعد ذلك جهلاً كبيراً .
ولكن النفاة قد جعلوا قوله تعالى : ليس كمثله شيء : مستنداً لهم في رد الأحاديث الصحيحة ، فكلما جاءهم حديث يخالف قواعدهم وآراءهم ، وما وضعته خواطرهم وأفكارهم - ردوه بـ ليس كمثله شيء ، تلبيساً منهم وتدليساً على من هو أعمى قلباً منهم ، وتحريفاً لمعنى الآي عن مواضعه . ففهموا من أخبار الصفات ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أئمة الإسلام ، أنه يقتضي إثباتها التمثيل بما للمخلوقين ! ثم استدلوا على بطلان ذلك بـ ليس كمثله شيء تحريفاً للنصين ! ! ويصنفون الكتب ، ويقولون : هذا أصول دين الإسلام الذي أمر الله به وجاء من عنده ، ويقرؤون كثيراً من القرآن ويخوضون معناه إلى الله تعالى ، من غير تدبر لمعناه الذي بينه الرسول ، وأخبر أنه معناه الذي أراده الله . وقد ذم الله تعالى أهل الكتاب الأول على هذه الصفات الثلاث ، وقص ذلك علينا من خبرهم لنعتبر وننزجر عن مثل طريقتهم . فقال تعالى : أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، إلى أن قال : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون . والأماني : التلاوة المجردة ، ثم قال تعالى : فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون . فذمهم على نسبة ما كتبوه إلى الله ، وعلى اكتسابهم بذلك ، فكلا الوصفين ذميم : أن ينسب إلى الله ما ليس من عنده ، وأن يأخذ بذلك عوضاً من الدنيا مالاً أو رياسة . نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الزلل ، في القول والعمل ، بمنه وكرمه .
ويشير الشيخ رحمه الله بقوله : من الشرع والبيان . إلى أن ما صح عن النبي ﷺ نوعان : شرع ابتدائي ، وبيان لما شرعه الله في كتابه العزيز ، وجميع ذلك حق واجب الإتباع . وقوله : وأهله في أصله سواء ، والتفاضل بينهم بالحقيقة ومخالفة الهوى ، وملازمة الأولى . وفي بعض النسخ : بالخشية والتقى بدل قوله : بالحقيقة . ففي العبارة الأولى يشير إلى أن الكل مشتركون في أصل التصديق ، ولكن التصديق يكون بعضه أقوى من بعض وأثبت ، كما تقدم نظيره بقوة البصر وضعفه . وفي العبارة الأخرى يشير إلى أن التفاوت بين المؤمنين بأعمال القلوب ، وأما التصديق فلا تفاوت فيه . والمعنى الأول أظهر قوة ، والله أعلم بالصواب .
قوله : والمؤمنون كلهم أولياء الرحمن
ش : قال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون الآية . الولي : من الولاية بفتح الواو ، التي هي ضد العداوة . وقد قرأ حمزة : ما لكم من ولايتهم من شيء ، بكسرالواو، والباقون بفتحها . وقيل : هما لغتان . وقيل : بالفتح النصرة ، وبالكسر الإمارة . قال الزجاج : وجاز الكسر ، لأن في تولي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل ، وكل ما كان كذلك مكسور، مثل : الخياطة ونحوها . فالمؤمنون أولياء الله ، والله تعالى وليهم ، قال الله تعالى : الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات الآيه . وقال تعالى : ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم . والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض الآية . وقال تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض إلى آخر السورة . وقال تعالى : إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون * ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون . فهذه النصوص كلها ثبت فيها موالاة المؤمنين بعضهم لبعض ، وأنهم أولياء الله ، وأن الله وليهم ومولاهم . فالله يتولى عباده المؤمنين ، فيحبهم ويحبونه ، ويرضى عنهم ويرضون عنه ، ومن عادى له وليا فقد بارزه بالمحاربة . وهذه الولاية من رحمته وإحسانه ، ليست كولاية المخلوق للمخلوق لحاجة إليه ، قال تعالى : وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيراً . فالله تعالى ليس له ولي من الذل ، بل لله العزة جميعاً ، خلاف الملوك وغيرهم ممن يتولاه لذله وحاجته إلى ولي ينصره .
والولاية أيضاً نظير الإيمان ، فيكون مراد الشيخ : أن أهلها في أصلها سواء ، وتكون كاملة وناقصة : فالكاملة تكون للمؤمنين المتقين ، كما قال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، فـ الذين آمنوا وكانوا يتقون - منصوب على أنه صفة أولياء الله ، أو بدل منه ، أو بإضمار أمدح ، أو مرفوع بإضمار هم ، أو خبر ثان لـ إن ، وأجيز فيه الجر، بدلاً من ضمير عليهم . وعلى هذه الوجوه كلها فالولاية لمن كان من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهم أهل الوعد المذكور في الآيات الثلاث . وهي عبارة عن موافقة الولي الحميد في محابه ومساخطه ، ليست بكثرة صوم ولا صلاة ، ولا تملق ولا رياضة . وقيل : الذين آمنوا مبتدأ ، والخبر : لهم البشرى ، وهو بعيد ، لقطع الجملة عما قبلها ، وانتثار نظم الآية .
ويجتمع في المؤمن ولاية من وجه ، وعداوة من وجه ، كما قد يكون فيه كفر وإيمان ، وشرك وتوحيد ، وتقوى وفجور ، ونفاق وإيمان . وإن كان في هذا الأصل نزاع لفظي بين أهل السنة ، ونزاع معنوي بينهم وبين أهل البدع ، كما تقدم في الإيمان . ولكن موافقة الشارع في اللفظ والمعنى - أولى من موافقته في المعنى وحده ، قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . وقال تعالى : قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ، الآية . وقد تقدم الكلام على هذه الآية ، وأنهم ليسوا منافقين على أصح القولين . وقال ﷺ : أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا حدث كذب ، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف ، وإذا خاصم فجر . وفي رواية وإذا ائتمن خان بدل : وإذا وعد أخلف . أخرجاه في الصحيحين . وحديث : شعب الإيمان تقدم . وقوله ﷺ : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . فعلم أن من كان معه من الإيمان أقل القليل لم يخلد في النار ، وإن كان معه كثير من النفاق ، فهو يعذب في النار على قدر ما معه من ذلك ، ثم يخرج من النار . فالطاعات من شعب الإيمان ، والمعاصي من شعب الكفر ، وإن كان رأس شعب الكفر الجحود ، ورأس شعب الإيمان التصديق . وأما ما يروى مرفوعاً إلى النبي ﷺ أنه قال : ما من جماعة اجتمعت إلا وفيهم ولي لله ، لا هم يدرون به ، ولا هو يدري بنفسه - : فلا أصل له ، وهو كلام باطل ، فإن الجماعة قد يكونون كفاراً ، وقد يكونون فساقاً يموتون على الفسق . وأما أولياء الله الكاملون فهم الموصوفون في قوله تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة الآية . والتقوى هي المذكورة في قوله تعالى : ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، الى قوله : أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون . وهم قسمان : مقتصدون ، ومقربون . فالمقتصدون : الذين يتقربون إلى الله بالفرائض من أعمال القلوب والجوارح . والسابقون : الذين يتقربون إلى الله بالنوافل بعد الفرائض . كما في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : يقول الله تعالى : من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما أفترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل ، حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته . والولي : خلاف العدو ، وهو مشتق من الولاء وهو الدنو والتقرب ، فولي الله : هو من والى الله بموافقته محبوباته ، والتقرب إليه بمرضاته ، وهؤلاء كما قال الله تعالى فيهم : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب . قال أبو ذر رضي الله عنه : لما نزلت الآية ، قال النبي ﷺ : يا أبا ذر ، لو عمل الناس بهذه الآية لكفتهم ، فالمتقون يجعل الله لهم مخرجاً مما ضاق على الناس ، ويرزقهم من حيث لا يحتسبون ، فيدفع الله عنهم المضار ، ويجلب لهم المنافع ، ويعطيهم الله أشياء يطول شرحها ، من المكاشفات والتأثيرات .
قوله : وأكرمهم عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن
ش : أراد أكرم المؤمنين هو الأطوع لله والأتبع للقرآن ، وهو الأتقى ، والاتقى هو الأكرم ، قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . وفي السنن عن النبي ﷺ أنه قال : لا فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على أبيض - : إلا بالتقوى ، الناس من آدم ، وآدم من تراب . وبهذا الدليل يظهر ضعف تنازعهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر ، وترجيح أحدهما على الآخر ، وأن التحقيق أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى ، وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق ، فالمسألة فاسدة في نفسها . فإن التفضل عند الله بالتقوى وحقائق الإيمان ، لا بفقر ولا غنى . ولهذا - والله أعلم - قال عمر رضي الله عنه : الغنى والفقر مطيتان ، لا أبالي أيهما ركبت . والفقر والغنى ابتلاء من الله تعالى لعبده ، كما قال تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن الآية . فإن استويا ، الفقير الصابر والغني الشاكر- في التقوى ، استويا في الدرجة ، وإن فضل أحدهما فيها فهو الأفضل عند الله ، فإن الفقر والغنى لا يوزنان ، وإنما يوزن الصبر والشكر . ومنهم من أحال المسألة من وجه آخر : وهو أن الإيمان نصف صبر ونصف شكر ، فكل منهما لا بد له من صبر وشكر. وإنما أخذ الناس فرعاً من الصبر وفرعاً من الشكر ، وأخذوا في الترجيح ، فجردوا غنياً منفقاً متصدقاً باذلاً ماله في وجوب القرب شاكراً لله عليه ، وفقيراً متفرغاً لطاعة الله ولأداء العبادات صابراً على فقره . وحينئذ يقال : إن أكملهما أطوعهما وأتبعهما ، فإن تساويا تساوت درجتهما . والله أعلم . ولو صح التجريد ، لصح أن يقال : أيما أفضل معافى شاكر ، أو مريض صابر ، أو مطاع شاكر ، أو مهان صابر ، أو آمن شاكر ، أو خائف صابر ؟ ونحو ذلك .
قوله: والايمان : هو الايمان بالله
والايمان : هو الايمان بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، والقدر، خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى
ش : تقدم أن هذه الخصال هي أصول الدين ، وبها أجاب النبي ﷺ في حديث جبرائيل المشهور المتفق على صحته ، حين جاء إلى النبي ﷺ على صورة رجل إعرابي ، وسأله عن الإسلام ؟ فقال : أن تشهد لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت إن استطعت اليه سبيلا . وسأله عن الإيمان ؟ فقال : أن تؤمن بالله ، وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر، خيره وشره . وسأله عن الإحسان ؟ فقال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك . وقد ثبت كذلك في الصحيح عنه ﷺ : أنه كان يقرأ في ركعتي الفجر تارة بسورتي الإخلاص : قل يا أيها الكافرون ، و قل هو الله أحد الاخلاص . وتارة بآيتي الإيمان والإسلام : التي في سورة البقرة : قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا الآية ، والتي في آل عمران : قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، الآية . و فسر ﷺ الإيمان في حديث وفد عبد القيس ، المتفق على صحته ، حيث قال لهم : آمركم بالإيمان بالله وحده ، أتدرون ما الإيمان بالله وحده ؟ شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم . ومعلوم أنه لم يرد أن هذه الأعمال تكون إيماناً بالله بدون إيمان القلب ، لما قد أخبر في غير موضع أنه لا بد من إيمان القلب . فعلم أن هذه مع إيمان القلب هو الإيمان ، وقد تقدم الكلام على هذا .
والكتاب والسنة مملوءان بما يدل على أن الرجل لا يثبت له حكم الإيمان إلا بالعمل مع التصديق ، وهذا أكثر من معنى الصلاة والزكاة ، فإن تلك إنما فسرتها السنة ، والإيمان بين معناه الكتاب والسنة . فمن الكتاب قوله تعالى : إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ، الآية . وقوله تعالى : إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا الآية . وقوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ، فنفي الإيمان حتى توجد هذه الغاية - : دل على أن هذه الغاية فرض على الناس ، فمن تركها كان من أهل الوعيد و لم يكن قد أتى بالإيمان الواجب ، الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب . ولا يقال إن بين تفسير النبي ﷺ الإيمان في حديث جبرائيل وتفسيره إياه في حديث وفد عبد القيس معارضة ، لأنه فسر الإيمان في حديث جبرائيل بعد تفسير الإسلام ، فكان المعنى أنه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر مع الأعمال التي ذكرها في تفسير الإسلام ، كما أن الإحسان متضمن للإيمان الذي قدم تفسيره قبل ذكره . بخلاف حديث وفد عبد القيس ، لأنه فسره ابتداء ، لم يتقدم قبله تفسير الإسلام . ولكن هذا الجواب لا يتأتى على ما ذكره الشيخ رحمه الله من تفسير الإيمان ، فحديث وفد عبد القيس مشكل عليه .
ومما يسأل عنه : أنه إذا كان ما أوجبه الله من الأعمال الظاهرة أكثر من الخصال الخمس التي أجاب بها النبي ﷺ في حديث جبرائيل المذكور، فلم قال إن الإسلام هذه الخصال الخمس ؟ وقد أجاب بعض الناس بأن هذه أظهر شعائر الاسلام وأعظمها ، وبقيامه بها يتم استسلامه ، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده . والتحقيق : أن النبي ﷺ ذكر الدين الذي هو استسلام العبد لربه مطلقاً ، الذي يجب لله على عباده محضه على الأعيان ، فيجب على كل من كان قادراً عليه ، ليعبد الله مخلصاً له الدين ، وهذه هي الخمس ، وما سوى ذلك فإنما يجب بأسباب مصالح ، فلا يعلم وجوبها جميع الناس ، بل إما أن يكون فرضاً على الكفاية كالجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر، وما يتبع ذلك من إمارة ، وحكم ، وفتيا ، وإقراء ، وتحديث ، وغير ذلك . وأما ما يجب بسبب حق الآدميين ، فيختص به من وجب له وعليه ، وقد يسقط بإسقاطه ، من قضاء بإسقاطه ، من قضاء الديون ، ورد الأمانات والغصوب ، والإنصاف من المظالم ، من الدماء والأموال والإعراض ، وحقوق الزوجة والأولاد ، وصلة الأرحام ، ونحو ذلك ، فإن الواجب من ذلك على زيد غير الواجب على عمرو . بخلاف صوم رمضان وحج البيت والصلوات الخمس والزكاة ، فإن الزكاة وإن كانت حقاً مالياً فإنها واجبة لله ، والأصناف الثمانية مصارفها ، ولهذا وجبت فيها النية ، ولم يجز أن يفعلها الغير بلا إذنه ، ولم تطلب من الكفار ، وحقوق العباد لا يشترط لها النية ، ولو أداها غيره عنه بغير إذنه برئت ذمته ، ويطالب بها الكفار . وما يجب حقاً لله تعالى ، كالكفارات ، هو بسبب من العبد ، وفيها معنى العقوبة ، ولهذا كان التكليف شرطاً في الزكاة ، فلا تجب على الصغير والمجنون عند أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله تعالى ، على ما عرف في موضعه .
وقوله : والقدر خيره وشره ، وحلوه ومره ، من الله تعالى - تقدم قوله ﷺ في حديث جبرائيل : وتؤمن بالقدر خيره وشره ، وقال تعالى : قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا . وقال تعالى : إن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك الآية .
فإن قيل : فكيف الجمع بين قوله : كل من عند الله ، وبين قوله : فمن نفسك ؟ ، قيل : قوله : كل من عند الله : الخصب والجدب ، والنصر والهزيمة ، كلها من عند الله ، وقوله : فمن نفسك : أي ما أصابك من سيئة من الله فبذنب نفسك عقوبة لك ، كما قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم . يدل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه قرأ : وما أصابك من سيئة فمن نفسك ، ولو أنا كتبنا عليهم . والمراد بالحسنة هنا النعمة ، وبالسيئة البلية ، في أصح الأقوال . وقد قيل : الحسنة الطاعة ، والسيئة المعصية . و قيل : الحسنة ما أصابه يوم بدر ، والسيئة ما أصابه يوم أحد . والقول الأول شامل لمعنى القول الثالث . والمعنى الثاني ليس مراداً دون الأول قطعاً ، ولكن لا منافاة بين أن تكون سيئة العمل وسيئة الجزاء من نفسه ، مع أن الجميع مقدر ، فإن المعصية الثانية قد تكون عقوبة الأولى ، فتكون من سيئات الجزاء ، مع أنها من سيئات العمل ، والحسنة الثانية قد تكون من ثواب الأولى ، كما دل على ذلك الكتاب والسنة . وليس للقدرية أن يحتجوا بقوله تعالى : فمن نفسك ، فإنهم يقولون : إن فعل العبد -حسنة كان أو سيئة - فهو منه لا من الله ! والقرآن قد فرق بينهما ، وهم لا يفرقون ، ولأنه قال تعالى : كل من عند الله ، فجعل الحسنات من عند الله ، كما جعل السيئات من عند الله ، وهم لا يقولون بذلك في الأعمال ، بل في الجزاء . وقوله بعد هذا : ما أصابك من حسنة و من سيئة ، مثل قوله : وإن تصبهم حسنة و إن تصبهم سيئة . وفرق سبحانه وتعالى بين الحسنات التي هي النعم ، وبين السيئات التي هي المصائب ، فجعل هذه من الله ، وهذه من نفس الإنسان ، لأن الحسنة مضافة إلى الله ، إذ هو أحسن بها من كل وجه ، فما من وجه من أوجهها إلا وهو يقتضي الإضافة إليه ، وأما السيئة ، فهو إنما يخلقها لحكمة ، وهي باعتبار تلك الحكمة من إحسانه ، فإن الرب لا يفعل سيئة قط ، بل فعله كله حسن وخير .
ولهذا كان النبي ﷺ يقول في الاستفتاح : والخير كله بيديك ، والشر ليس إليك . أي : فإنك لا تخلق شراً محضاً ، بل كل ما يخلقه ففيه حكمة ، هو باعتبارها خير، ولكن قد يكون فيه شر لبعض الناس ، فهذا شر جزئي إضافي ، فأما شر كلي ، أو شر مطلق - : فالرب سبحانه وتعالى منزه عنه . وهذا هو الشر الذي ليس إليه ، ولهذا لا يضاف الشر إليه مفرداً قط ، بل إما أن يدخل في عموم المخلوقات ، كقوله تعالى : الله خالق كل شيء ، كل من عند الله ، وإما أن يضاف إلى السبب ، كقوله : من شر ما خلق ، وإما أن يحذف فاعله ، كقول الجن : وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً ، وليس إذا خلق ما يتأذى به بعض الحيوان لا يكون فيه حكمة ، بل لله من الرحمة والحكمة لا يقدر قدره إلا الله تعالى ، وليس إذا وقع في المخلوقات ما هو شر جزئي بالإضافة - يكون شراً كلياً عاماً ، بل الأمور العامة الكلية لا تكون إلا خيراً أو مصلحة للعباد ، كالمطر العام ، وكإرسال رسول عام . وهذا مما يقتضي أنه لا يجوز أن يؤيد كذاباً عليه بالمعجزات التي أيد بها الصادقين ، فإن هذا شر عام للناس ، يضلهم ، فيفسد عليهم دينهم ودنياهم وأخراهم . وليس هذا كالملك الظالم و العدو ، فإن الملك الظالم لا بد أن يدفع الله به من الشر أكثر من ظلمه ، وقد قيل : ستون سنة بإمام ظالم خير من ليلة واحدة بلا إمام ، وإذا قدر كثرة ظلمه ، فذاك خير في الدين ، كالمصائب ، تكون كفارة لذنوبهم ، ويثابون على الصبر عليه ، ويرجعون فيه إلى الله ، ويستغفرونه ويتوبون إليه ، وكذلك ما يسلط عليهم من العدو . ولهذا قد يمكن الله كثيراً من الملوك الظالمين مدة ، وأما المتنبئون الكذابون فلا يطيل تمكينهم ، بل لا بد أن يهلكهم ، لأن فسادهم عام في الدين والدنيا والآخرة ، قال تعالى : ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين .
وفي قوله : فمن نفسك - من الفوائد : أن العبد لا يطمئن إلى نفسه ولا يسكن إليها ، فإن الشر كامن فيها ، لا يجيء إلا منها ، ولا يشتغل بملام الناس ولا ذمهم إذا أساؤوا إليه ، فإن ذلك من السيئات التي أصابته ، وهي إنما أصابته بذنوبه ، فيرجع إلى الذنوب ، ويستعيذ بالله من شر نفسه وسيئات عمله ، ويسأل الله أن يعينه على طاعته . فبذلك يحصل له كل خير ، ويندفع عنه كل شر .
ولهذا كان أنفع الدعاء وأعظمه وأحكمه دعاء الفاتحة : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . فإنه إذا هداه هذا الصراط أعانه على طاعته وترك معصيته ، فلم يصبه شر ، لا في الدنيا ولا في الآخرة . لكن الذنوب هي لوازم نفس الإنسان ، وهو محتاج إلى الهدى كل لحظة ، وهو إلى الهدى أحوج منه إلى الطعام والشراب . ليس كما يقوله بعض المفسرين : إنه قد هداه ! فلماذا يسأل الهدى ؟ ! وإن المراد التثبيت ، أو مزيد الهداية ! بل العبد محتاج إلى أن يعلمه الله ما يفعله من تفاصيل أحواله ، وإلى ما يتركه من تفاصيل الأمور، في كل يوم ، وإلى أن يلهمه أن يعمل ذلك . فإنه لا يكفي مجرد علمه إن لم يجعله مريداً للعمل بما يعلمه ، وإلا كان العلم حجة عليه ، ولم يكن مهتدياً . ومحتاج إلى أن يجعله قادراً عل العمل بتلك الإرادة الصالحة ، فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم ، وما لا نريد فعله تهاوناً وكسلاً مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه ، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك ، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر. ونحن محتاجون إلى الهداية التامة ، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤاله سؤال تثبيت ، وهي آخر الرتب . وبعد ذلك كله هداية أخرى ، وهي الهداية إلى طريق الجنة في الآخرة . ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدعاء في كل صلاة ، لفرط حاجتهم إليه ، فليسوا إلى شيء أحوج منهم إلى هذا الدعاء . فيجب أن يعلم أن الله بفضل رحمته جعل هذا الدعاء من أعظم الأسباب المقتضية للخير ، المانعة من الشر ، فقد بين القرآن أن السيئات من النفس ، وإن كانت بقدر الله ، وأن الحسنات كلها من الله تعالى . وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يشكر سبحانه ، وأن يستغفره العبد من ذنوبه ، وألا يتوكل إلا عليه وحده ، فلا يأتي بالحسنات إلا هو . فأوجب ذلك توحيده ، والتوكل عليه وحده ، والشكر له وحده ، والإستغفار من الذنوب .
وهذه الأمور كان النبي ﷺ يجمعها في الصلاة ، كما ثبت عنه في الصحيح : أنه كان إذا رفع رأسه من الركوع يقول : ربنا لك الحمد ، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه . ملء السماوات ، وملء الأرض ، وملء ماشئت من شيء بعد ، أهل الثناء والمجد ، أحق ما قاله العبد ، وكلنا لك عبد . فهذا حمد ، وهو شكر لله تعالى ، وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد ، ثم يقول بعد ذلك : لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد . وهذا تحقيق لوحدانيته ، لتوحيد الربوبية ، خلقاً وقدراً ، وبداية ونهاية ، هو المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع ، وتوحيد الإلهية ، شرعاً وأمراً ونهياً ، وإن العباد وإن كانوا يعطون جداً : ملكاً وعظمة وبختاً ورياسة ، في الظاهر ، أو في الباطن ، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة ، فلا ينفع ذا الجد منك الجد ، أي لا ينجيه ولا يخلصه ، ولهذا قال : لاينفعه منك ، ولم يقل ولا ينفعه عندك لأنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك ، لكن قد لا يضره . فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد ، أو تحقيق قوله : إياك نعبد وإياك نستعين ، فإنه لو قدر أن شيئاً من الأسباب يكون مستقلاً بالمطلوب ، وإنما يكون بمشيئة الله وتيسيره - : لكان الواجب أن لا يرجى إلا الله ، ولا يتوكل إلا عليه ، ولا يسأل إلا هو، ولا يستغاث إلا به ، ولا يستعان إلا هو ، فله الحمد وإليه المشتكى ، وهو المستعان ، وبه المستغاث ، ولا حول ولا قوة إلا به . فكيف وليس شيء من الأسباب مستقلاً بمطلوب ، بل لا بد من انضمام أسباب أخر اليه ، ولا بد أيضاً من صرف الموانع والمعارضات عنه ، حتى يحصل المقصود ، فكل سبب فله شريك ، وله ضد ، فإن لم يعاونه شريكه ، ولم ينصرف عنه ضده - : لم يحصل مسببه . والمطر وحده لا ينبت النبات إلا بما ينضم اليه من الهواء والتراب وغير ذلك ، ثم الزرع لا يتم حتى تصرف عنه الآفات المفسدة له ، والطعام والشراب لا يغذي إلا بما جعل في البدن من الأعضاء والقوى ، ومجموع ذلك لا يفيد إن لم تصرف عنه المفسدات .
والمخلوق الذي يعطيك أو ينصرك ، فهو- مع أن الله يجعل فيه الإرادة والقوة والفعل - : فلا يتم ما يفعله إلا بأسباب كثيرة ، خارجة عن قدرته ، تعاونه على مطلوبه ، ولو كان ملكاً مطاعاً ، ولا بد أن يصرف عن الأسباب المتعاونة ما يعارضها ويمانعها ، فلا يتم المطلوب إلا بوجود المقتضي وعدم المانع .
وكل سبب معين فإنما هو جزء من المقتضي ، فليس في الوجود شيء واحد هو مقتض تام ، وإن سمي مقتضياً ، وسمي سائر ما يعينه شروطاً - فهذا نزاع لفظي . وأما أن يكون في المخلوقات علة تامة تستلزم معلولها فهذا باطل .
ومن عرف هذا حق المعرفة انفتح له باب توحيد الله ، وعلم أنه لا يستحق أن يسأل غيره ، فضلاً عن أن يعبد غيره ، ولا يتوكل على غيره ، ولا يرجى غيره .
قوله: ونحن مؤمنون بذلك كله ، لا نفرق بين أحد من رسله
ونحن مؤمنون بذلك كله ، لا نفرق بين أحد من رسله ، ونصدقهم كلهم على ما جاؤوا به
ش : الإشارة بذلك إلى ماتقدم ، مما يجب الإيمان به تفصيلاً ، وقوله : لا نفرق بين أحد من رسله ، إلى آخر كلامه - أي : لا نفرق بينهم بأن نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، بل نؤمن بهم ونصدقهم كلهم ، فإن من آمن ببعض وكفر ببعض ، كافر بالكل . قال تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً * أولئك هم الكافرون حقاً . فإن المعنى الذي لأجله آمن بمن آمن به به منهم - موجود في الذي لم يؤمن به ، وذلك الرسول الذي آمن به قد جاء بتصديق بقية المرسلين ، فإذا لم يؤمن ببعض المرسلين كان كافراً بمن في زعمه أنه مؤمن به ، لأن ذلك الرسول قد جاء بتصديق المرسلين كلهم ، فكان كافراً حقاً ، وهو يظن أنه مؤمن ، فكان من الأخسرين أعمالاً ، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
قوله: وأهل الكبائر من أمة محمد ﷺ في النار لا يخلدون
إذا ماتوا وهم موحدون ، وإن لم يكونوا تائبين ، بعد أن لقوا الله عارفين . وهم في مشيئته وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، كما ذكر عز وجل في كتابه : ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وإن شاء عذبهم في النار بعدله ، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته ، ثم يبعثهم إلى جنته . وذلك بأن الله تعالى تولى أهل معرفته ، ولم يجعلهم في الدارين كأهل نكرته ، الذين خابوا من هدايته ، ولم ينالوا من ولايته . اللهم يا ولي الإسلام وأهله ، ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به .
ش : فقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد ﷺ في النار لا يخلدون ، إذا ماتوا وهم موحدون - رد لقول الخوارج والمعتزلة ، القائلين بتخليد أهل الكبائر في النار . لكن الخوارج تقول بتكفيرهم ، والمعتزلة بخروجهم عن الإيمان ، لا بدخولهم في الكفر ، بل لهم منزلة بين منزلتين ، كما تقدم عند الكلام على قول الشيخ رحمه الله : ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يستحله .
وقوله : وأهل الكبائر من أمة محمد - تخصيصه أمة محمد ، يفهم منه أن أهل الكبائر من أمة غير محمد ﷺ قبل نسخ تلك الشرائع به ، حكمهم مخالف لأهل الكبائر من أمة محمد . وفي ذاك نظر ، فإن النبي ﷺ أخبر أنه : يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان . ولم يخص أمته بذلك ، بل ذكر الإيمان مطلقاً ، فتأمله . وليس في بعض النسخ ذكر الأمة . وقوله : في النار- معمول لقوله : لا يخلدون . وإنما قدمه لأجل السجعة ، لا أن يكون في النار خبر لقوله : وأهل الكبائر ، كما ظنه بعض الشارحين .
واختلف العلماء في الكبائر على أقوال ، فقيل : سبعة ، وقيل : سبعة عشر . وقيل : ما اتفقت الشرائع على تحريمه . وقيل : ما يسد باب المعرفة بالله . وقيل : ذهاب الأموال والأبدان . وقيل : سميت كبائر بالنسبة والإضافة إلى ما دونها . وقيل : لا تعلم أصلاً . أو : أنها أخفيت كليلة القدر . وقيل : إنها إلى السبعين أقرب . وقيل : كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة . وقيل : إنها ما يترتب عليها حد أو توعد عليها بالنار، أو اللعنة ، أو الغضب . وهذا أمثل الأقوال . واختلفت عبارات السلف في تعريف الصغائر : منهم من قال : الصغيرة ما دون الحدين : حد الدنيا وحد الآخرة . ومنهم من قال : كل ذنب لم يختم بلعنة أو غضب أو نار. ومنهم من قال : الصغيرة ما ليس فيها حد في الدنيا ولا وعيد في الآخرة ، والمراد بالوعيد : الوعيد الخاص بالنار أو اللعنة أو الغضب ، فإن الوعيد الخاص في الآخرة كالعقوبة الخاصة في الدنيا ، أعني المقدرة ، فالتعزير في الدنيا نظير الوعيد بغير النار أو اللعنة أو الغضب . وهذا الضابط يسلم من القوادح الواردة على غيره ، فإنه يدخل فيه كل ما ثبت بالنص أنه كبيرة ، كالشرك ، والقتل ، والزنا ، والسحر، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات ، ونحو ذلك ، كالفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وشهادة الزور، وأمثال ذلك .
وترجيح هذا القول من وجوه : أحدها : أنه هو المأثور عن السلف ، كابن عباس ، و ابن عيينة ، و ابن حنبل رضي الله عنهم ، وغيرهم . الثاني : أن الله تعالى قال : إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً . فلا يستحق هذا الوعد الكريم من أوعد بغضب الله ولعنته وناره ، وكذلك من استحق أن يقام عليه الحد لم تكن سيئاته مكفرة عنه باجتناب الكبائر . الثالث : أن هذا الضابط مرجعه إلى ما ذكره الله ورسوله من الذنوب ، فهو حد متلقى من خطاب الشارع . الرابع : أن هذا الضابط يمكن الفرق به بين الكبائر والصغائر، بخلاف تلك الأقوال ، فإن من قال : سبعة ، أو سبعة عشرة ، أو الى السبعين أقرب - : مجرد دعوى . ومن قال : ما اتفقت الشرائع على تحريمه دون ما اختلفت فيه - : يقتضي أن شرب الخمر، والفرار من الزحف ، والتزوج ببعض المحارم ، والمحرم بالرضاعة والصهرية ، ونحو ذلك - ليس من الكبائر! وأن الحبة من مال اليتيم ، والسرقة لها ، والكذبة الواحدة الخفيفة ، ونحو ذلك - : من الكبائر! وهذا فاسد . ومن قال : ما سد باب المعرفة بالله ، أو ذهاب الأموال والأبدان - : يقتضي أن شرب الخمر ، وأكل الخنزير والميتة والدم ، وقذف المحصنات - ليس من الكبائر! وهذا فاسد . ومن قال : إنها سميت كبائر بالنسبة إلى ما دونها ، أو كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة - : يقتضي أن الذنوب في نفسها لا تنقسم إلى صغائر وكبائر! وهذا فاسد ، لأنه خلاف النصوص الدالة على تقسيم الذنوب إلى صغائر وكبائر. ومن قال : إنها لا تعلم أصلاً ، أو إنها مبهمة - : فإنما أخبر عن نفسه أنه لا يعلمها ، فلا يمنع أن يكون قد علمها غيره . والله أعلم .
وقوله : وإن لم يكونوا تائبين - لأن التوبة لا خلاف أنها تمحو الذنوب ، وإنما الخلاف في غير التائب . وقوله : بعد أن لقوا الله تعالى عارفين - لو قال : مؤمنين ، بدل قوله : عارفين ، كان أولى ، لأن من عرف الله ولم يؤمن به فهو كافر . وإنما اكتفى بالمعرفة وحدها الجهم ، وقوله مردود باطل ، كما تقدم . فإن إبليس عارف بربه ، قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين . وكذلك فرعون وأكثر الكافرين . قال تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله . قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون * سيقولون لله . إلى غير ذلك من الآيات الدالة على هذا المعنى . وكأن الشيخ رحمه الله أراد المعرفة الكاملة المستلزمة للإهتداء ، التي يشير اليها أهل الطريقة ، وحاشا أولئك أن يكونوا من أهل الكبائر، بل هم سادة الناس وخاصتهم .
وقوله : وهم في مشيئة الله وحكمه ، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله ، إلى آخر كلامه - فصل الله تعالى بين الشرك وغيره لأن الشرك أكبر الكبائر ، كما قال ﷺ ، وأخبر الله تعالى أن الشرك غير مغفور، وعلق غفران ما دونه بالمشيئة ، والجائز يعلق بالمشيئة دون الممتنع ، ولو كان الكل سواء لما كان للتفصيل معنى . ولأنه علق هذا الغفران بالمشيئة ، وغفران الكبائر والصغائر بعد التوبة مقطوع به ، غير معلق بالمشيئة، كما قال تعالى : قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم .
فوجب أن يكون الغفران المعلق بالمشيئة هو غفران الذنوب سوى الشرك بالله قبل التوبة .
وقوله : ذلك أن الله مولى أهل معرفته - فيه مؤاخذة لطيفة ، كما تقدم . وقوله : اللهم يا ولي الإسلام وأهله مسكناً بالإسلام ، وفي نسخة : ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك به - روى شيخ الإسلام أبو إسماعيل الأنصاري في كتابه الفاروق ، بسنده عن أنس رضي الله عنه ، قال : كان من دعاء رسول الله ﷺ يقول : يا ولي الإسلام وأهله ، مسكني بالإسلام حتى ألقاك عليه . ومناسبة ختم الكلام المتقدم بهذا الدعاء ظاهرة . وبمثل هذا الدعاء دعا يوسف الصديق صلوات الله عليه ، حيث قال : رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين . وبه دعا السحرة الذين كانوا أول من آمن بموسى صلوات الله على نبينا وعليه ، حيث قالوا : ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين . ومن استدل بهاتين الآيتين على جواز تمني الموت فلا دليل له فيه ، فإن الدعاء إنما هو بالموت على الإسلام ، لا بمطلق الموت ، ولا بالموت الآن ، والفرق ظاهر .
قوله: ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة ، وعلى من مات منهم
ش : قال ﷺ : صلوا خلف كل بر وفاجر . رواه مكحول عن أبي هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه الدارقطني ، قال : مكحول لم يلق أبا هريرة . وفي إسناده معاوية بن صالح ، متكلم فيه ، وقد احتج به مسلم في صحيحه . وخرج له الدارقطني أيضاً وأبو داود ، عن مكحول ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : الصلاة واجبة عليكم مع كل مسلم ، براً كان أو فاجراً ، وإن عمل بالكبائر، والجهاد واجب عليكم مع كل أمير ، براً كان أو فاجراً ، وإن عمل الكبائر . وفي صحيح البخاري : أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه كان يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي ، وكذا أنس بن مالك ، وكان الحجاج فاسقاً ظالماً . وفي صحيحه أيضاً ، أن النبي ﷺ قال : يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وأن أخطأوا فلكم وعليهم . وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : صلوا خلف من قال لا إله إلا الله ، وصلوا على من مات من أهل لا إله إلا الله . أخرجه الدارقطني من طرق ، وضعفها .
اعلم ، رحمك الله وإيانا : أنه يجوز للرجل أن يصلي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقاً ، باتفاق الأئمة ، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه ، ولا أن يمتحنه ، فيقول : ماذا تعتقد ؟ ! بل يصلي خلف المستور الحال ، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته ، أو فاسق ظاهر الفسق ، وهو الإمام الراتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه ، كإمام الجمعة والعيدين ، والإمام في صلاة الحج بعرفة ، ونحو ذلك - : فإن المأموم يصلي خلفه ، عند عامة السلف والخلف . ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر ، فهو مبتدع عند أكثر العلماء . والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها ، فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون ، كما كان عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف ، وكذلك أنس رضي الله عنه ، كما تقدم ، وكذلك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وغيره يصلون خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط ، وكان يشرب الخمر ، حتى إنه صلى بهم الصبح مرة أربعاً ، ثم قال : أزيدكم ؟! فقال له ابن مسعود : ما زلنا معك منذ اليوم في زيادة ! ! وفي الصحيح : أن عثمان بن عفان رضي الله عنه لما حصر صلى بالناس شخص ، فسأل سائل عثمان : إنك إمام عامة ، وهذا الذي صلى بالناس إمام فتنة ؟ فقال : يا ابن أخي ، إن الصلاة من أحسن ما يعمل الناس ، فإذا أحسنوا فأحسن معهم ، وإذا أساؤوا فاجتنب إساءتهم .
والفاسق والمبتدع صلاته في نفسها صحيحة ، فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته ، لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه ، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب .
ومن ذلك : أن من أظهر بدعة وفجوراً لا يرتب إماماً للمسلمين ، فإنه يستحق التعزير حتى يتوب ، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسناً ، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه - : فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية ، ولم تفت المأموم جمعة ولا جماعة . وأما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة، فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم . وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور، ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية ، فهنا لا يترك الصلاة خلفه ، بل الصلاة خلفه أفضل ، فإذا أمكن الإنسان أن لا يقدم مظهراً للمنكر في الإمامة ، وجب عليه ذلك ، لكن إذا ولاه غيره ، ولم يمكنه صرفه عن الإمامة ، أو كان لا يتمكن من صرفه عن الإمامة إلا بشر أعظم ضرراً من ضرر ما أظهر من المنكر- : فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ، ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما ، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها ، وتعطيل المفاسد وتقليلها ، بحسب الإمكان . فتفويت الجمع والجماعات أعظم فساداً من الإقتداء فيهما بالإمام الفاجر ، لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجوراً ، فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة .
وأما إذا أمكن فعل الجمعة والجماعة خلف البر ، فهذا أولى من فعلها خلف الفاجر . وحينئذ ، فإذا صلى خلف الفاجر من غير عذر ، فهو موضع اجتهاد العلماء : منهم من قال : يعيد ، ومنهم من قال : يعيد . وموضع بسط ذلك في كتب الفروع .
وأما الإمام إذا نسي أو أخطأ ، ولم يعلم المأموم بحاله ، فلا إعادة على المأموم ، للحديث المتقدم . وقد صلى عمر رضي الله عنه وغيره وهو جنب ناسياً للجنابة . فأعاد الصلاة ، ولم يأمر المأمومين بالإعادة . ولو علم أن إمامه بعد فراغه كان على غير طهارة ، أعاد عند أبي حنيفة ، خلافاً لمالك و الشافعي و أحمد في المشهور عنه . وكذلك لو فعل الإمام ما لا يسوغ عند المأموم . وفيه تفاصيل موضعها كتب الفروع . ولو علم أن إمامه يصلي على غير وضوء ! ! فليس له أن يصلي خلفه ، لأنه لاعب ، وليس بمصل .
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة أن ولي الأمر ، وإمام الصلاة ، والحاكم ، وأمير الحرب ، وعامل الصدقة - : يطاع في مواضع الاجتهاد ، وليس عليه أن يطيع أتباعه في موارد الاجتهاد ، بل عليهم طاعته في ذلك ، وترك رأيهم لرأيه ، فإن مصلحة الجماعة والإئتلاف ، ومفسدة الفرقة والإختلاف ، أعظم من أمر المسائل الجزئية . ولهذا لم يجز للحكام أن ينقض بعضهم حكم بعض . والصواب المقطوع به صحة صلاة بعض هؤلاء خلف بعض . يروى عن أبي يوسف : أنه لما حج مع هارون الرشيد ، فاحتجم الخليفة ، وأفتاه مالك بأنه لا يتوضأ ، وصلى بالناس ، فقيل لأبي يوسف : أصليت خلفه ؟ قال : سبحان الله ! أمير المؤمنين . يريد بذلك أن ترك الصلاة خلف ولاة الأمور من فعل أهل البدع . وحديث أبي هريرة ، الذي رواه البخاري ، أن رسول الله ﷺ قال : يصلون لكم ، فإن أصابوا فلكم ولهم ، وإن أخطأوا فلكم وعليهم - : نص صحيح صريح في أن الإمام إذا أخطأ فخطؤه عليه ، لا على المأموم . والمجتهد غايته أنه أخطأ بترك واجب اعتقد أنه ليس واجباً ، أو فعل محظوراً اعتقد أنه ليس محظوراً . ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يخالف هذا الحديث الصريح الصحيح بعد أن يبلغه ، وهو حجة على من يطلق من الحنفية والشافعية والحنبلية أن الإمام إذا ترك ما يعتقد المأموم وجوبه لم يصح اقتداؤه به ! ! فإن الإجتماع والإئتلاف مما يجب رعايته وترك الخلاف المفضي إلى الفساد .
وقوله : وعلى من مات منهم - أي ونرى الصلاة على من مات من الأبرار والفجار ، وإن كان يستثنى من هذا العموم البغاة وقطاع الطريق ، وكذا قاتل نفسه ، خلافاً لأبي بوسف ، لا الشهيد ، خلافاً لمالك و الشافعي رحمهما الله ، على ما عرف في موضعه . لكن الشيخ إنما ساق هذا لبيان أنا لا نترك الصلاة على من مات من أهل البدع والفجور، لا للعموم الكلي ، ولكن المظهرون للإسلام قسمان : إما مؤمن ، وإما منافق ، فمن علم نفاقه لم تجز الصلاة عليه والإستغفار له ، ومن لم يعلم ذلك منه صلي عليه . فإذا علم شخص نفاق شخص لم يصل هو عليه ، وصلى عليه من لم يعلم نفاقه ، وكان عمر رضي الله عنه لا يصلي على من لم يصل عليه حذيفة ، لأنه كان في غزوة تبوك قد عرف المنافقين ، وقد نهى الله سبحانه وتعالى رسوله ﷺ عن الصلاة على المنافقين ، وأخبر أنه لا يغفر لهم باستغفاره ، وعلل ذلك بكفرهم بالله ورسوله ، فمن كان مؤمناً بالله ورسوله لم ينه عن الصلاة عليه ، ولو كان له من الذنوب الإعتقادية البدعية أو العملية أو الفجورية ما له ، بل قد أمره الله تعالى بالإستغفار للمؤمنين ، فقال تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات . فأمره سبحانه بالتوحيد والاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات ، فالتوحيد أصل الدين ، والاستغفار له وللمؤمنين كما له . فالدعاء لهم بالمغفرة والرحمة وسائر الخيرات ، إما واجب وإما مستحب ، وهو على نوعين : عام وخاص ، أما العام فظاهر، كما في هذه الآية ، وأما الدعاء الخاص ، فالصلاة على الميت ، فما من مؤمن يموت إلا وقد أمر المؤمنون ان يصلوا عليه صلاة الجنازة ، وهم مأمورون في صلاتهم عليه أن يدعوا له ، كما روى أبو داود و ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء .
قوله : ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً
ش : يريد : أنا لا نقول عن أحد معين من أهل القبلة إنه من أهل الجنة أو من أهل النار ، إلا من أخبر الصادق ﷺ أنه من أهل الجنة كالعشرة رضي الله عنهم . وإن كنا نقول : إنه لا بد أن يدخل النار من أهل الكبائر من شاء الله إدخاله النار ، ثم يخرج منها بشفاعة الشافعين ، ولكنا نقف في الشخص المعين ، فلا نشهد له بجنة ولا نار إلا عن علم ، لأن الحقيقة باطنة ، وما مات عليه لا نحيط به ، لكن نرجو للمحسنين ، ونخاف على المسيئين .
وللسلف في الشهادة بالجنة ثلاثة أقوال : أحدها : أن لا يشهد لأحد إلا للأنبياء ، وهذا ينقل عن محمد بن الحنفية ، و الأوزاعي . والثاني : أنه يشهد بالجنة لكل مؤمن جاء فيه النص ، وهذا قول كثير من العلماء وأهل الحديث . والثالث : أنه يشهد بالجنة لهؤلاء ولمن شهد له المؤمنون ، كما في الصحيحين : أنه مر بجنازة ، فأثنوا عليها بخير، فقال ﷺ : وجبت ، ومر بأخرى ، فأثني عليها بشر ، فقال : وجبت . وفي رواية كرر : وجبت ثلاث مرات ، فقال عمر : يا رسول الله ، ما وجبت ؟ فقال رسول الله ﷺ : هذا أثنيتم عليه خيراً وجبت له الجنة ، وهذا أثنيتم عليه شراً وجبت له النار ، أنتم شهداء الله في الأرض . وقال ﷺ : توشكون أن تعلموا أهل الجنة من أهل النار ، قالوا : بم يا رسول الله ؟ قال : بالثناء الحسن والثناء السيء . فأخبر أن ذلك مما يعلم به أهل الجنة وأهل النار .
قوله : ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق
ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق ، مالم يظهر منهم شيء من ذلك ، ونذر سرائرهم الى الله تعالى
ش : لأنا قد أمرنا بالحكم بالظاهر ، ونهينا عن الظن واتباع ما ليس لنا به علم . قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم الآية . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم .
وقال تعالى : ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً .
قوله: ولا نرى السيف على أحد من أمة محمد ﷺ إلا من وجب عليه السيف
ش : في الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة .
قوله: ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا ، وإن جاروا ، ولا ندعوا عليهم ، ولا ننزع يداً من طاعتهم ، ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ، ما لم يأمروا بمعصية ، وندعو لهم بالصلاح والمعافاة
ش : قال تعالى : يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم . وفي الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن يطع الأمير فقد أطاعني ، ومن يعص الأمير فقد عصاني . وعن أبي ذر رضي الله عنه . قال : إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدع الأطراف . وعند البخاري : ولو لحبشي كأن رأسه زبيبة . وفي الصحيحين أيضاً : على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره ، إلا أن يؤمر بمعصية ، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة . وعن حذيفة بن اليمان قال : كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير، وكنت أسأله عن الشر ، مخافة أن يدركني ، فقلت : يا رسول الله ، إنا كنا في جاهلية وشر ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر ؟ قال : نعم ، فقلت : هل بعد ذلك الشر من خير؟ قال : نعم ، وفيه دخن ، قال : قلت : ومادخنه ؟ قال : قوم يسنون بغير سنتي ، ويهدون بغير هدي ، تعرف منهم وتنكر ، فقلت : هل بعد ذلك الخير من شر؟ قال : نعم : دعاة على أبواب جهنم . من أجابهم إليها قذفوه فيها فقلت : يا رسول الله ، صفهم لنا ؟ قال : نعم ، قوم من جلدتنا ، يتكلمون بألستنا ، قلت : يا رسول الله ، فما ترى إذا أدركني ذلك ؟ قال : تلزم جماعة المسلمين ، وإمامهم فقلت : فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام ؟ قال : فاعتزل تلك الفرق كلها ، ولو أن تعض على أصل شجرة ، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك . وعن ابن عباس رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر ، فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات ، فميتته جاهلية . وفي رواية : فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه . وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما . وعن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله ﷺ ، قال : خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، فقلنا : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم بالسيف عند ذلك ؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ألا من ولي عليه وال ، فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يداً من طاعته .
فقد دل الكتاب والسنة على وجوب طاعة أولي الأمر ، ما لم يأمروا بمعصية ، فتأمل قوله تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم - كيف قال : وأطيعوا الرسول ، ولم يقل : وأطيعوا أولي الأمر منكم ؟ لأن أولي الأمر لا يفردون بالطاعة ، بل يطاعون فيما هو طاعة لله ورسوله . وأعاد الفعل مع الرسول لأن من يطع الرسول فقد أطاع الله ، فإن الرسول لا يأمر بغير طاعة الله ، بل هو معصوم في ذلك ، وأما ولي الأمر فقد يأمر بغير طاعة الله ، فلا يطاع إلا فيما هو طاعة لله ورسوله . وأما لزوم طاعتهم وإن جاروا ، فلأنه يترتب على الخروج من طاعتهم من المفاسد أضعاف ما يحصل من جورهم ، بل في الصبرعلى جورهم تكفير السيئات ومضاعفة الأجور ، فإن الله تعالى ما سلطهم علينا إلا لفساد أعمالنا ، والجزاء من جنس العمل ، فعلينا الإجتهاد في الإستغفار والتوبة وإصلاح العمل . قال تعالى : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وقال تعالى : أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم وقال تعالى : ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك . وقال تعالى : وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون . فإذا أراد الرعية أن يتخلصوا من ظلم الأمير الظالم ، فليتركوا الظلم . وعن مالك بن دينار : أنه جاء في بعض كتب الله : أنا الله مالك الملك ، قلوب الملوك بيدي ، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة ، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة ، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ، لكن توبوا أعطفهم عليكم .
قوله : ونتبع السنة والجماعة ، ونجتنب الشذوذ والخلاف والفرقة
ش : السنة : طريقة الرسول ﷺ ، والجماعة : جماعة المسلمين ، وهم الصحابة والتابعون لهم بإحسان إلى يوم الدين . فاتباعهم هدى ، وخلافهم ضلال . قال الله تعالى لنبيه ﷺ : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . وقال : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً . وقال تعالى : قل أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ، فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين . وقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون .
وثبت في السنن الحديث الذي صححه الترمذي ، عن العرباض بن سارية ، قال : وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع ؟ فماذا تعهد إلينا ؟ فقال : أوصيكم بالسمع والطاعة، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة . وقال ﷺ : إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة . وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال ؟ ما أنا عليه وأصحابي فبين ﷺ أن عامة المختلفين هالكون من الجانبين ، إلا أهل السنة والجماعة .
وما أحسن قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، حيث قال : من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة ، أولئك أصحاب محمد ﷺ ، كانوا أفضل هذه الأمة ، أبرها قلوباً ، وأعمقها علماً وأقلها تكلفاً ، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه ، فاعرفوا لهم فضلهم ، واتبعوهم في آثارهم ، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم ، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم . وسيأتي لهذا المعنى زيادة بيان إن شاء الله تعالى ، عند قول الشيخ : ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وعذاباً .
قوله : ونحب أهل العدل والأمانة ، ونبغض أهل الجور والخيانة
شرح : وهذا من كمال الإيمان وتمام العبودية ، فإن العبادة تتضمن كمال المحبة ونهايتها ، وكمال الذل ونهايته . فمحبة رسل الله وأنبيائه وعباده المؤمنين من محبة الله ، وإن كانت المحبة التي لله لا يستحقها غيره ، فغير الله يحب في الله ، لا مع الله ، فإن المحب يحب ما يحب محبوبه ، ويبغض ما يبغض ، ويوالي من يواليه ، ويعادي من يعاديه ، ويرضى لرضائه ، ويغضب لغضبه ، ويأمر بما يأمر به ، وينهى عما ينهى عنه ، فهو موافق لمحبوبه في كل حال . والله تعالى يحب المسحنين ، ويحب المتقين ، ويحب التوابين ، ويحب المتطهرين ، ونحن نحب من أحبه الله . والله لا يحب الخائنين ، ولا يحب المفسدين ، ولا يحب المستكبرين ، ونحن لا نحبهم أيضاً ، ونبغضهم ، موافقة له سبحانه وتعالى . وفي الصحيحين عن النبي ﷺ : ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد أن أنقذه الله منه ، كما يكره أن يلقى في النار . فالمحبة التامة مستلزمة لموافقة المحبوب في محبوبه ومكروهه ، وولايته وعداوته . ومن المعلوم أن من أحب الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه ، ولا بد أن يحب ما يحبه من جهادهم ، كما قال تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص . والحب والبغض بحسب ما فيهم من خصال الخير والشر ، فإن العبد يجتمع فيه سبب الولاية وسبب العداوة ، والحب والبغض ، فيكون محبوباً من وجه ومبغوضاً من وجه ، والحكم للغالب . وكذلك حكم العبد عند الله ، فإن الله قد يحب الشيء من وجه ويكرهه من وجه آخر ، كما قال ﷺ ، فيما يروي عن ربه عز وجل : وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأنا أكره مساءته ، ولا بد له منه . فبين أنه يتردد ، لأن التردد تعارض إرادتين ، وهو سبحانه يحب ما يحب عبده المؤمن ، ويكره ما يكرهه ، وهو يكره الموت فهو يكرهه ، كما قال : وأنا أكره مساءته ، وهو سبحانه قضى بالموت فهو يريد كونه ، فسمى ذلك تردداً ، ثم بين أنه لا بد من وقوع ذلك ، إذ هو يفضيى الى ما أحب منه .
قوله : ونقول : الله أعلم ، فيما اشتبه علينا علمه
شرح : تقدم في كلام الشيخ رحمه الله أنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ﷺ ، ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه . ومن تكلم بغير علم فإنما يتبع هواه ، وقد قال تعالى : ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله . وقال تعالى : ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد * كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير . وقال تعالى : الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار . وقال تعالى : قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون . وقد أمر الله نبيه ﷺ أن يرد علم ما لم يعلم إليه ، فقال تعالى : قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات والأرض . قل ربي أعلم بعدتهم . وقد قال ﷺ ، لما سئل عن أطفال المشركين : الله أعلم بما كانوا عاملين . وقال عمر رضي الله عنه : اتهموا الرأي في الدين ، فلو رأيتني يوم أبي جندل ، فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله ﷺ برأي ، فأجتهد ولا آلو ، وذلك يوم أبي جندل ، والكتاب يكتب ، وقال : اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قال : اكتب باسمك اللهم ، فرضي رسول الله ﷺ، وكتب وأبيت ، فقال : يا عمر تراني قد رضيت وتأبى ؟ . وقال أيضاً رضي الله عنه : السنة ما سنه الله ورسوله ﷺ ، لا تجعلوا خطأ الرأي سنة للأمة . وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ؟ أي أرض تقلني ، وأي سماء تظلني ، إن قلت في آية من كتاب الله برأيي ، أو بما لا أعلم . وذكر الحسن بن علي الحلواني ، حدثنا عارم ، حدثنا حماد بن زيد ، عن سعيد بن أبي صدقة ، عن ابن سيرين قال : لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر ، ولم يكن بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر رضي الله عنه ، وإن أبا بكر نزلت به قضية ، فلم يجد في كتاب الله منها أصلاً ، ولا في السنة أثراً ، فاجتهد برأيه ، ثم قال : هذا رأيي ، فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ، وأستغفر الله .
قوله : ونرى المسح على الخفين ، في السفر والحضر ، كما جاء في الاثر
شرح : تواترت السنة عن رسول الله ﷺ بالمسح على الخفين وبغسل الرجلين ، والرافضة تخالف هذه السنة المتواترة ، فيقال لهم : الذين نقلوا عن النبي ﷺ الوضوء قولاً وفعلاً ، والذين تعلموا الوضوء منه توضؤوا على عهده وهو يراهم ويقرهم ، ونقلوه إلى من بعدهم - : أكثر عدداً من الذين نقلوا لفظ هذه الآية . فإن جميع المسلمين كانوا يتوضؤون على عهده ، ولم يتعلموا الوضوء إلا منه ، فإن هذا العمل لم يكن معهوداً عندهم في الجاهلية ، وهم قد رأوه يتوضأ ما لا يحصي عدده إلا الله تعالى ، ونقلوا عنه ذكر غسل الرجلين في ما شاء الله من الحديث ، حتى نقلوا عنه من غير وجه ، في كتب الصحيح وغيرها ، أنه قال : ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار .
مع أن الفرض إذا كان مسح ظاهر القدم ، كان غسل الجميع كلفة لا تدعو إليها الطباع ، كما تدعو الطباع إلى طلب الرياسة والمال ، فلو جاز الطعن في تواتر صفة الوضوء ، لكان في نقل لفظ آية الوضوء أقرب إلى الجواز ، وإذا قالوا : لفظ الآية ثبت بالتواتر الذي لا يمكن فيه الكذب ولا الخطأ ، فثبوت التواتر في نقل الوضوء عنه أولى وأكمل ، ولفظ الآية لا يخالف ما تواتر من السنة ، فإن المسح كما يطلق ويراد به الإصابة - كذلك يطلق ويراد به الإسالة ، كما تقول العرب : تمسحت للصلاة ، وفي الآية ما يدل على أنه لم يرد بمسح الرجلين المسح الذي هو قسيم الغسل ، بل المسح الذي الغسل قسم منه ، فإنه قال : إلى الكعبين ، ولم يقل : إلى الكعاب ، كما قال : إلى المرافق ، فدل على أنه ليس في كل رجل كعب واحد ، كما في كل يد مرفق واحد ، بل في كل رجل كعبان ، فيكون تعالى قد أمر بالمسح إلى العظمين الناتئين ، وهذا هو الغسل ، فإن من يسمح المسح الخاص يجعل المسح لظهور القدمين ، وجعل الكعبين في الآية غاية يرد قولهم . فدعواهم أن الفرض مسح الرجلين إلى الكعبين ، اللذين هما مجتمع الساق والقدم عند معقد الشراك - مردود بالكتاب والسنة .
وفي الآية قراءتان مشهورتان : النصب والخفض ، وتوجيه إعرابهما مبسوط في موضعه . وقراءة النصب نص في وجوب الغسل ، لأن العطف على المحل إنما يكون إذا كان المعنى واحداً ، كقوله :
فلسنا بالجبال ولا الحديداً
وليس معنى : مسحت برأسي ورجلي - هو معنى : مسحت رأسي ورجلي ، بل ذكر الباء يفيد معنى زائداً على مجرد المسح ، وهو إلصاق شيء من الماء بالرأس ، فتعين العطف على قوله : وأيديكم . فالسنة المتواترة تقضي على ما يفهمه بعض الناس من ظاهر القرآن ، فإن الرسول بين للناس لفظ القرآن ومعناه . كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن : عثمان بن عفان ، و عبد الله بن مسعود ، وغيرهما : أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي ﷺ عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا معناها . وفي ذكر المسح في الرجلين تنبيه على قلة الصب في الرجلين ، فإن السرف يعتاد فيهما كثيراً . والمسألة معروفة ، والكلام عليها في كتب الفروع .
قوله: والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين
والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم ، إلى قيام الساعة ، لايبطلهما شيء ولاينقضهما
شرح : يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الرافضة ، حيث قالوا : لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج الرضى من آل محمد ، وينادي مناد من السماء : اتبعوه ! ! وبطلان هذا القول أظهر من أن يستدل عليه بدليل . وهم شرطوا في الإمام أن يكون معصوماً ، اشتراطاً ، من غير دليل ! بل في صحيح مسلم عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، وتصلون عليهم ويصلون عليكم ، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم ، قال : قلت : يا رسول الله ، أفلا ننابذهم عند ذلك ؟ قال : لا ، ما أقاموا فيكم الصلاة ، ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئاً من معصية الله ، فليكره ما يأتي من معصية الله ، ولا ينزعن يداً من طاعته . وقد تقدم بعض نظائر هذا الحديث في الإمامة . ولم يقل : إن الإمام يجب أن يكون معصوماً .
والرافضة أخسر الناس صفقة في هذه المسألة ، لأنهم جعلوا الإمام المعصوم هو الإمام المعدوم ، الذي لم ينفعهم في دين ولا دنيا ! ! فإنهم يدعون أنه الإمام المنتظر ، محمد بن الحسن العسكري ، الذي دخل السرداب في زعمهم ، سنة ستين ومائتين ، أو قريباً من ذلك بسامرا ! وقد يقيمون هناك دابة ، إما بغلة وإما فرساً ، ليركبها إذا خرج ! ويقيمون هناك في أوقات عينوا فيها من ينادي عليه بالخروج . يا مولانا ، اخرج ! يا مولانا ، اخرج ! ويشهرون السلاح ، ولا أحد هناك يقاتلهم ! إلى غير ذلك من الأمور التي يضحك عليهم منها العقلاء ! !
وقوله : مع أولي الأمر برهم وفاجرهم - لأن الحج والجهاد فرضان يتعلقان بالسفر ، فلا بد من سائس يسوس الناس فيهما ، ويقاوم العدو ، وهذا المعنى كما يحصل بالإمام البر يحصل بالإمام الفاجر .
قوله : ونؤمن بالكرام الكاتبين ، فإن الله قد جعلهم علينا حافظين
شرح : قال تعالى : وإن عليكم لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون .
وقال تعالى : إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد .
وقال تعالى : له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله .
وقال تعالى : أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون .
وقال تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون .
وقال تعالى : إن رسلنا يكتبون ما تمكرون .
وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ، فيصعد إليه الذين كانوا فيكم ، فيسألهم ، والله أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ؟ فيقولون : أتياناهم وهم يصلون ، وفارقناهم وهم يصلون .
وفي الحديث الآخر : إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع ، فاستحيوهم ، وأكرموهم .
جاء في التفسير : إثنان عن اليمين وعن الشمال ، يكتبان الأعمال ، صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه ، وواحد أمامه ، فهو بين أربعة ملاك بالنهار، وأربعة آخرين بالليل ، بدلاً ، حافظان وكاتبان ، وقال عكرمة عن بن عباس : يحفظونه من أمر الله ، قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه .
وروى مسلم والإمام أحمد عن عبد الله ، قال : قال رسول الله ﷺ : ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة ، قالوا : وإياك يا رسول الله ؟ قال : واياي ، لكن الله أعانني عليه فأسلم ، فلا يأمرني إلا بخير . الرواية بفتح الميم من فأسلم ومن رواه فأسلم برفع الميم - فقد حرف لفظه . ومعنى فأسلم ، أي : فاستسلم وانقاد لي ، في أصح القولين ، ولهذا قال : فلا يأمرني إلا بخير ، ومن قال : إن الشيطان صار مؤمناً - فقد حرف معناه ، فإن الشيطان لا يكون مؤمناً . ومعنى : يحفظونه من أمر الله - قيل : حفظهم له من أمر الله ، أي الله أمرهم بذلك ، يشهد لذلك قراءة من قرأ : يحفظونه بأمر الله .
ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل .
وكذلك النية ، لأنها فعل القلب ، فدخلت في عموم يعلمون ما تفعلون . ويشهد لذلك قوله ﷺ : قال الله عز وجل : إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها عليه سيئة ، وإذا هم عبدي بحسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها عشراً .
وقال رسول الله ﷺ : قالت الملائكة : ذاك عبد يريد أن يعمل سيئة ، وهو أبصر به ، فقال : ارقبوه ، فإن عملها فاكتبوها بمثلها ، وإن تركها فاكتبوها له حسنة ، إنما تركها من جرائي خرجاهما في الصحيحين واللفظ لمسلم .
قوله : ونؤمن بملك الموت ، الموكل بقبض أرواح العالمين
ش : قال تعالى : قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون . ولا تعارض هذه الآية قوله : حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون ، وقوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها ، فيمسك التي قضى عليها الموت ، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى - : لأن ملك الموت يتولى قبضها واستخراجها ، ثم يأخذها منه ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب ، ويتولونها بعده ، كل ذلك بإذن الله وقضائه وقدره ، وحكمه وأمره ، فصحت إضافة التوفي إلى كل بحسبه .
وقد اختلف في حقيقة النفس ما هي ؟ وهل هي جزء من أجزاء البدن ؟ أو عرض من أعراضه ؟ أو جسم مساكن له مودع فيه ؟ أو جوهر مجرد ؟ وهل هي الروح أو غيرها ؟ وهل الأمارة ، وهل اللوامة ، والمطمئنة - نفس واحدة ، أم هي ثلاثة أنفس ؟ وهل تموت الروح ، أو الموت للبدن وحده ؟ وهذه المسألة تحتمل مجلداً ، ولكن أشير إلى الكلام عليها مختصراً ، إن شاء الله تعالى :
فقيل : الروح قديمة ، وقد أجمعت الرسل على أنها محدثة مخلوقة مصنوعة مربوبة مدبرة . وهذا معلوم بالضرورة من دينهم ، أن العالم محدث ، ومضى على هذا الصحابة والتابعون ، حتى نبغت نابغة ممن قصر فهمه في الكتاب والسنة ، فزعم أنها قديمة ، واحتج بأنها من أمر الله ، وأمره غير مخلوق ! وبأن الله أضافها إليه بقوله : قل الروح من أمر ربي ، وبقوله : ونفخت فيه من روحي ، كما أضاف إليه علمه وقدرته وسمعه وبصره ويده . وتوقف آخرون . واتفق أهل السنة والجماعة أنها مخلوقة . وممن نقل الإجماع على ذلك : محمد بن نصر المروزي ، و ابن قتيبة وغيرهما . ومن الأدلة على أن الروح مخلوقة ، قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، فهذا عام لا تخصيص فيه بوجه ما ، ولا يدخل في ذلك صفات الله تعالى ، فإنها داخلة في مسمى إسمه . فالله تعالى هو الإله الموصوف بصفات الكمال ، فعلمه وقدرته وحياته وسمعه وبصره وجميع صفاته - داخل في مسمى إسمه فهو سبحانه بذاته وصفاته الخالق ، وما سواه مخلوق ، ومعلوم قطعاً أن الروح ليس هي الله ، ولا صفة من صفاته ، وإنما هي من مصنوعاته . ومنها قوله تعالى : هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً . وقوله تعالى لزكريا : وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً . والإنسان إسم لروحه وجسده ، والخطاب لزكريا ، لروحه وبدنه ، والروح توصف بالوفاة والقبض والإمساك والإرسال ، وهذا شأن المخلوق المحدث . وأما احتجاجهم بقوله : من أمر ربي - فليس المراد هنا بالأمر الطلب ، بل المراد به المأمور ، والمصدر يذكر ويراد به إسم المفعول ، وهذا معلوم مشهور. وأما استدلالهم بإضافتها إليه بقوله : من روحي - فينبغي أن يعلم أن المضاف إلى الله نوعان : صفات لا تقوم بأنفسها ، كالعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر ، فهذه إضافة صفة إلى الموصوف بها ، فعلمه وكلامه وقدرته وحياته صفات له ، وكذا وجهه ويده سبحانه . والثاني : إضافة أعيان منفصلة عنه ، كالبيت والناقة والعبد والرسول والروح ، فهذه إضافة مخلوق إلى خالقه ، لكن إضافة تقتضي تخصيصاً وتشريفاً ، يتميز بها المضاف عن غيره .
واختلف في الروح : هل هي مخلوقة قبل الجسد أم بعده ؟ وقد تقدم عند ذكر الميثاق الإشارة إلى ذلك .
واختلف في الروح : ما هي ؟ قيل : هي جسم ، وقيل : عرض ، وقيل : لا ندري ما الروح ، أجوهر أم عرض ؟ وقيل : ليس الروح شيئاً أكثر من اعتدال الطبائع الأربع ، وقيل : هي الدم الصافي الخالص من الكدرة والعفونات ، وقيل : هي الحرارة الغريزية ، وهي الحياة ، وقيل : هو جوهر بسيط منبث في العالم كله من الحيوان ، على جهة الإعمال له والتدبير، وهي على ما وصفت من الانبساط في العالم ، غير منقسمة الذات والبنية ، وأنها في كل حيوان العالم بمعنى واحد لا غير، وقيل : النفس هي النسيم الداخل والخارج بالتنفس ، وقيل غير ذلك . وللناس في مسمى الإنسان : هل هو الروح فقط ، أو البدن فقط ، أو مجموعهما ، أو كل منهما ؟ وهذه الأقوال الأربعة لهم في كلامه : هل هو اللفظ ، أو المعنى فقط ، أوهما ، أو كل منهما ؟ فالخلاف بينهم في الناطق ونطقه . والحق : أن الإنسان إسم لهما ، وقد يطلق على أحدهما بقرينه ، وكذا الكلام .
والذي يدل عليه الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل : أن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس ، وهو جسم نوراني علوي ، خفيف حي متحرك ، ينفذ في جوهر الأعضاء ، ويسري فيها سريان الماء في الورد ، وسريان الدهن في الزيتون ، والنار في الفحم . فما دامت هذه الأعضاء صالحة لقبول الآثار الفائضة عليها من هذا الجسم اللطيف ، بقي ذلك الجسم اللطيف سارياً في هذه الأعضاء ، وأفادها هذه الآثار ، من الحس والحركة الإرادية ، وإذا فسدت هذه ، بسبب استيلاء الأخلاط الغليظة عليها ، وخرجت عن قبول تلك الآثار ، فارق الروح البدن ، وانفصل إلى عالم الأرواح . والدليل على ذلك قوله تعالى : الله يتوفى الأنفس حين موتها ، الآية . ففيها الإخبار بتوفيها وإمساكها وإرسالها . وقوله تعالى : ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم ، ففيها بسط الملائكة أيديهم لتناولها ، ووصفها بالإخراج والخروج ، والإخبار بعذابها ذلك اليوم ، والإخبار عن مجيئها إلى ربها . وقوله تعالى : وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار، ثم يبعثكم فيه الآية . ففيها الإخبار بتوفي النفس بالليل ، وبعثها إلى أجسادها بالنهار ، وتوفي الملائكة لها عند الموت . وقوله تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي . ففيها وصفها بالرجوع والدخول والرضى . وقال ﷺ : إن الروح إذا قبض تبعه البصر . ففيه وصفه بالقبض ، وأن البصر يراه . وقال ﷺ في حديث بلال : قبض أرواحكم وردها عليكم . وقال ﷺ : نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة . وسيأتي في الكلام على عذاب القبر أدلة كثيرة من خطاب ملك الموت لها ، وأنها تخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، وأنها تصعد ويوجد منها من المؤمن كأطيب ريح ، ومن الكافر كأنتن ريح ، إلى غير ذلك ، من الصفات . وعلى ذلك أجمع السلف ودل العقل ، وليس مع من خالف سوى الظنون الكاذبة ، والشبه الفاسدة ، التي لا يعارض بها ما دل عليه نصوص الوحي والأدلة العقلية .
وأما اختلاف الناس في مسمى النفس والروح : هل هما متغايران ، أو مسماهما واحد ؟ فالتحقيق : أن النفس تطلق على أمور ، وكذلك الروح ، فيتحد مدلولهما تارة ، ويختلف تارة . فالنفس تطلق على الروح ، ولكن غالب ما يسمى نفساً إذا كانت متصلة بالبدن ، وأما إذا أخذت مجردة فتسمية الروح أغلب عليها . ويطلق على الدم ، ففي الحديث : ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء إذا مات فيه . والنفس : العين ، يقال : أصابت فلاناً نفس ، أي عين . والنفس : الذات ، فسلموا على أنفسكم لا تقتلوا أنفسكم ، ونحو ذلك . وأما الروح فلا يطلق على البدن ، لا بانفراده ، ولا مع النفس . وتطلق الروح على القرآن ، وعلى جبرائيل ، وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا . نزل به الروح الأمين . ويطلق الروح على الهواء المتردد في بدن الإنسان أيضاً . وأما ما يؤيد الله به أولياءه ، فهي روح أخرى ، كما قال تعالى : أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه . وكذلك القوى التي في البدن ، فإنها أيضا تسمى أرواحاً ، فيقال : الروح الباصر، والروح السامع ، والروح الشام . ويطلق الروح على أخص من هذا كله ، وهو : قوة المعرفة بالله والإنابة إليه ومحبته وانبعاث الهمة إلى طلبه وإرادته . ونسبة هذا الروح إلى الروح ، كنسبة الروح إلى البدن ، فالعلم روح ، والإحسان روح ، والمحبة روح ، والتوكل روح ، والصدق روح ، والناس متفاوتون في هذه الروح : فمن الناس من تغلب عليه هذه الأرواح فيصير روحانياً ، ومنهم من يفقدها أو أكثرها فيصير أرضياً بهمياً . وقد وقع في كلام كثير من الناس أن لابن آدم ثلاثة أنفس : مطمئنة ، ولوامة ، وأمارة ، قالوا : وإن منهم من تغلب عليه هذه ، ومنهم من تغلب عليه هذه ، كما قال تعالى : يا أيتها النفس المطمئنة . ولا أقسم بالنفس اللوامة . إن النفس لأمارة بالسوء . والتحقيق : أنها نفس واحدة ، لها صفات ، فهي أمارة بالسوء ، فإذا عارضها الإيمان صارت لوامة ، تفعل الذنب ثم تلوم صاحبها ، وتلوم بين الفعل والترك ، فإذا قوي الإيمان صارت مطمئنة . ولهذا قال ﷺ : من سرته حسنته وساءته سيته فهو مؤمن . مع قوله : لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، الحديث .
واختلف الناس : هل تموت الروح أم لا؟ فقالت طائفة : تموت ، لأنها نفس ، وكل نفس ذائقة الموت ، وقد قال تعالى : كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام . وقال تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه . قالوا : وإذا كانت الملائكة تموت ، فالنفوس البشرية أولى بالموت . وقال آخرون : لا تموت الأرواح ، فإنها خلقت للبقاء ، وإنما تموت الأبدان . قالوا : وقد دل على ذلك الأحاديث الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله في أجسادها . والصواب أن يقال : موت النفوس هو مفارقتها لأجسادها وخروجها منها ، فإن أريد بموتها هذا القدر ، فهي ذائقة الموت ، وإن أريد أنها تعدم وتفنى بالكلية ، فهي لا تموت بهذا الإعتبار ، بل هي باقية بعد خلقها في نعيم أو في عذاب ، كما سيأتي إن شاء الله تعالى . وقد أخبر سبحانه أن أهل الجنة لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ، وتلك الموتة هي مفارقة الروح للجسد . وأما قول أهل النار : ربنا أمتنا اثنتين وأحييتنا اثنتين ، وقوله تعالى : كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم فالمراد : أنهم كانوا أمواتاً وهم نطف في أصلاب آبائهم وفي أرحام أمهاتهم ، ثم أحياهم بعد ذلك ، ثم أماتهم ، ثم يحييهم يوم النشور ، وليس في ذلك إماتة أرواحهم قبل يوم القيامة ، وإلا كانت ثلاث موتات . وصعق الأرواح عند النفخ في الصور لا يلزم منه موتها ، فإن الناس يصعقون يوم القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، وليس ذلك بموت . وسيأتي ذكر ذلك ، إن شاء الله تعالى . وكذلك صعق موسى عليه السلام لم يكن موتاً ، والذي يدل عليه أن نفخة الصعق - والله أعلم - موت كل من لم يذق الموت قبلها من الخلائق ، وأما من ذاق الموت ، أو لم يكتب عليه الموت من الحور والولدان وغيرهم ، فلا تدل الآية على أنه يموت موتة ثانية . والله أعلم .
قوله: وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً
وبعذاب القبر لمن كان له أهلاً ، وسؤال منكر ونكير في قبره عن ربه ودينه ونبيه
على ما جاءت به الأخبار عن رسول الله ﷺ ، وعن الصحابة رضوان الله عليهم . والقبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النيران .
ش : قال تعالى : وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وقال تعالى : فذرهم حتى يلاقوا يومهم الذي فيه يصعقون * يوم لا يغني عنهم كيدهم شيئا ولا هم ينصرون * وإن للذين ظلموا عذاباً دون ذلك ولكن أكثرهم لا يعلمون . وهذا يحتمل أن يراد به عذابهم بالقتل وغيره في الدنيا ، وأن يراد به عذابهم في البرزخ ، وهو أظهر ، لأن كثيراً منهم مات ولم يعذب في الدنيا ، أو المراد أعم من ذلك . وعن البراء بن عازب رضي الله عنه ، قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي ﷺ ، فقعد وقعدنا حوله ، كأن على رؤوسنا الطير ، وهو يلحد له ، فقال : أعوذ بالله من عذاب القبر ، ثلاث مرات ، ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، نزلت إليه الملائكة ، كأن على وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، فجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : يا أيتها النفس الطيبة ، اخرجي الى مغفرة من الله ورضوان ، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، قال : فيصعدون بها ، فلا يمرون بها ، يعني على ملأ من الملائكة ، إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان ابن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له ، فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها ، إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله ، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم ، وفيها أعيدهم ، ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان ، فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : ما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره ، قال : ويأتيه رجل حسن الوجه ، حسن الثياب ، طيب الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : يا رب ، أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه ، معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ابن فلان ، بأقبح أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح له ، فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله ﷺ : لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ، فيقول الله عز وجل : اكتبوا كتابه في سجين ، في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً ، ثم قرأ : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه ، هاه ، لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ، فيقول : هاه هاه ، لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب ، فافرشوه من النار ، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ، ويضيق عليه قبره ، حتى تختلف أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب منتن الريح ، فيقول : ابشر بالذي يسؤوك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت ، فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول رب لا تقم الساعة . رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وروى النسائي و ابن ماجة أوله ورواه الحاكم و أبو عوانة الإسفرائيني في صحيحيهما ، و ابن حبان .
وذهب إلى موجب هذا الحديث جميع أهل السنة والحديث ، وله شواهد من الصحيح . فذكر البخاري رحمه الله عن سعيد عن قتادة عن أنس ، أن رسول الله ﷺ قال : إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، إنه ليسمع قرع نعالهم ، فيأتيه ملكان ، قيقعدانه ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل ، محمد ﷺ ؟ فأما المؤمن فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقول له : انظر الى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعداً من الجنة ، فيراهما جميعا . قال قتادة : وروي لنا أنه يفسح له في قبره ، وذكر الحديث . وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن النبي ﷺ مر بقبرين ، فقال : إنهما ليعذبان ، وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ، فدعا بجريدة رطبة ، فشقها نصفين ، وقال : لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا . وفي صحيح أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال : قال النبي ﷺ : إذا قبر أحدكم ، أو الإنسان أتاه ملكان أسودان أزرقان ، يقال لأحدهما المنكر ، وللآخر : النكير ، وذكر الحديث إلخ . .
وقد تواترت الأخبار عن رسول الله ﷺ في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلاً ، وسؤال الملكين ، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به ، ولا تتكلم في كيفيته ، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته ، لكونه لا عهد له به في هذا الدار ، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول ، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول . فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا ، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا . فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق ، متغايرة الأحكام : أحدها : تعلقها به في بطن الأم جنيناً . الثاني : تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض . الثالث : تعلقها به في حال النوم ، فلها به تعلق من وجه ، ومفارقة من وجه . الرابع : تعلقها به في البرزخ ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه فإنها لم تفارقه فراقاً كلياً بحيث لا يبقى لها إليه التفات البتة ، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم ، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه . وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة . الخامس : تعلقها به يوم بعث الأجساد ، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن ، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه ، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتاً ولا نوماً ولا فساداً ، فالنوم أخو الموت . فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة .
وليس السؤال في القبر للروح وحدها ، كما قال ابن حزم وغيره ، وأفسد منه قول من قال : إنه للبدن بلا روح ! والأحاديث الصحيحة ترد القولين . وكذلك عذاب القبر يكون للنفس والبدن جميعاً ، باتفاق أهل السنة والجماعة ، تنعم النفس وتعذب مفردة عن البدن ومتصلة به .
واعلم أن عذاب القبر هو عذاب البرزخ ، فكل من مات وهو مستحق للعذاب ناله نصيبه منه ، قبر أو لم يقبر ، أكلته السباع أو احترق حتى صار رماداً ونسف في الهواء ، أو صلب أو غرق في البحر- وصل إلى روحه وبدنه من العذاب ما يصل إلى المقبور. وما ورد من إجلاسه واختلاف أضلاعه ونحو ذلك - فيجب أن يفهم عن الرسول ﷺ مراده من غير غلو ولا تقصير، فلا يحمل كلامه ما لا يحتمله ، ولا يقصر به عن مراده وما قصده من الهدى والبيان ، فكم حصل بإهمال ذلك والعدول عنه من الضلال والعدول عن الصواب ما لا يعلمه إلا الله . بل سوء الفهم عن الله وروسله أصل كل بدعة وضلالة نشأت في الإسلام ، وهو أصل كل خطأ في الفروع والأصول ، ولا سيما إن أضيف إليه سوء القصد . والله المستعان .
فالحاصل أن الدور ثلاث : دار الدنيا ، ودار البرزخ ، ودار القرار . وقد جعل الله لكل دار أحكاما تخصها ، وركب هذا الإنسان من بدن ونفس ، وجعل أحكام الدنيا على الأبدان ، والأرواح تبع لها ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح ، والأبدان تبع لها ، فإذا جاء يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم - صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد جميعاً . فإذا تأملت هذا المعنى حق التأمل ، ظهر لك أن كون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار مطابق للعقل ، وأنه حق لا مرية فيه ، وبذلك يتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم . ويجب أن يعلم أن النار التي في القبر والنعيم ، ليس من جنس نار الدنيا ولا نعيمها ، وإن كان الله تعالى يحمي عليه التراب والحجارة التي فوقه وتحته حتى يكون أعظم حراً من جمر الدنيا ، ولو مسها أهل الدنيا لم يحسوا بها . بل أعجب من هذا أن الرجلين يدفن أحدهما إلى جنب صاحبه ، وهذا في حفرة من النار، وهذا في روضة من رياض الجنة ، لا يصل من هذا إلى جاره شيء من حر ناره ، ولا من هذا إلى جاره شيء من نعيمه . وقدرة الله أوسع من ذلك وأعجب ، ولكن النفوس مولعة بالتكذيب بما لم تحط به علما . وقد أرانا الله في هذه الدار من عجائب قدرته ما هو أبلغ من هذا بكثير. وإذا شاء الله أن يطلع على ذلك بعض عباده أطلعه وغيبه عن غيره ، ولو اطلع الله على ذلك العباد كلهم لزالت حكمة التكليف والإيمان بالغيب ، ولما تدافن الناس ، كما في الصحيح عنه ﷺ : لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر ما أسمع . ولما كانت هذه الحكمة منتفية في حق البهائم سمعته وأدركته .
وللناس في سؤال منكر ونكير : هل هو خاص بهذه الأمة أم لا ثلاثة أقوال : الثالث التوقف ، وهو قول جماعة، منهم أبو عمر بن عبد البر ، فقال : وفي حديث زيد بن ثابت عن النبي ﷺ ، قال : إن هذه الأمة تبتلى في قبورها - منهم من يرويه تسأل ، وعلى هذا اللفظ يحتمل أن تكون هذه الأمة قد خصت بذلك ، وهذا أمر لا يقطع به ، ويظهر عدم الاختصاص ، والله أعلم . وكذلك اختلف في سؤال الأطفال أيضاً : وهل يدوم عذاب القبر أو ينقطع ؟ جوابه أنه نوعان : منه ما هو دائم ، كما قال تعالى : النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وكذلك في حديث البراء بن عازب في قصة الكافر : ثم يفتح له باب إلى النار فينظر إلى مقعده فيها حتى تقوم الساعة ، رواه الإمام أحمد في بعض طرقه . والنوع الثاني : أنه مدة ثم ينقطع ، وهو عذاب بعض العصاة الذين خفت جرائمهم ، فيعذب بحسب جرمه ، ثم يخفف عنه ، كما تقدم ذكره في الممحصات العشرة .
وقد اختلف في مستقر الأرواح ما بين الموت إلى قيام الساعة : فقيل : أرواح المؤمنين في الجنة ، وأرواح الكافرين في النار ، وقيل : إن أرواح المؤمنين بفناء الجنة على بابها ، يأتيهم من روحها ونعيمها ورزقها . وقيل : على أفنية قبورهم . وقال مالك : بلغني أن الروح مرسلة ، تذهب حيث شاءت . وقالت طائفة : بل أرواح المؤمنين عند الله عز وجل ، ولم يزيدوا على ذلك . وقيل : إن أرواح المؤمنين بالجابية من دمشق ، وأرواح الكافرين ببرهوت بئر بحضرموت ! وقال كعب : أرواح المؤمنين في عليين في السماء السابعة ، وأرواح الكافرين في سجين في الأرض السابعة تحت خد إبليس ! وقيل : أرواح المؤمنين ببئر زمزم ، وأرواح الكافرين ببئر برهوت . وقيل : أرواح المؤمنين عن يمين آدم ، وأرواح الكفار عن شماله . قال ابن حزم وغيره : مستقرها حيث كانت قبل خلق أجسادها . وقال أبو عمر بن عبد البر : أرواح الشهداء في الجنة ، وأرواح عامة المؤمنين على أفنية قبورهم . وعن ابن شهاب أنه قال : بلغني أن أرواح الشهداء كطير خضر معلقة بالعرش ، تغدو وتروح إلى رياض الجنة ، تأتي ربها كل يوم تسلم عليه . وقالت فرقة : مستقرها العدم المحض . وهذا قول من يقول : إن النفس عرض من أعراض البدن ، كحياته وإدراكه ! وقولهم مخالف للكتاب والسنة . وقالت فرقة : مستقرها بعد الموت أبدان أخر تناسب أخلاقها وصفاتها التي اكتسبتها في حال حياتها ، فتصير كل روح إلى بدن حيوان يشاكل تلك الروح ! وهذا قول التناسخية منكري المعاد ، وهو قول خارج عن أهل الاسلام كلهم . ويضيق هذا المختصر عن بسط أدلة هذه الأقوال والكلام عليها .
ويتلخص من أدلتها : أن الأرواح في البرزخ متفاوتة أعظم تفاوت ، فمنها : أرواح في أعلى عليين ، في الملأ الأعلى ، وهي أرواح الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، وهم متفاوتون في منازلهم . ومنها أرواح في حواصل طير خضر ، تسرح في الجنة حيث شاءت ، وهي أرواح بعض الشهداء ، لا كلهم ، بل من الشهداء من تحبس روحه عن دخول الجنة لدين عليه . كما في المسند عن عبد الله بن جحش : أن رجلا جاء الى النبي ﷺ ، فقال : يارسول الله : مالي إن قتلت في سبيل الله ؟ قال : الجنة ، فلما ولى ، قال : إلا الدين ، سارني به جبرائيل آنفا . ومن الأرواح من يكون محبوساً على باب الجنة ، كما في الحديث الذي قال فيه رسول الله ﷺ : رأيت صاحبكم محبوساً على باب الجنة ومنهم من يكون محبوساً في قبره ، ومنهم من يكون في الارض ، ومنها أرواح في تنور الزناة والزواني ، وأرواح في نهر الدم تسبح فيه وتلقم الحجارة ، كل ذلك تشهد له السنة ، والله أعلم . وأما الحياة التي اختص بها الشهيد وامتاز بها عن غيره ، في قوله تعالى : ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وقوله تعالى : ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون - فهي : أن الله تعالى جعل أرواحهم في أجواف طير خضر . كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، أنه قال : قال رسول الله ﷺ : لما أصيب إخوانكم ، يعني يوم أحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، ترد أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب مظلة في ظل العرش ، الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود ، وبمعناه في حديث ابن مسعود ، رواه مسلم . فإنهم لما بذلوا أبدانهم لله عز وجل حتى أتلفها أعداؤه فيه ، أعاضهم منها في البرزخ أبداناً خيراً منها ، تكون فيها إلى يوم القيامة ، ويكون تنعمها بواسطة تلك الأبدان ، أكمل من تنعم الأرواح المجردة عنها . ولهذا كانت نسمة المؤمن في صورة طير ، أو كطير ، ونسمة الشهيد في جوف طير . وتأمل لفظ الحديثين ، ففي الموطأ أن كعب بن مالك كان يحدث أن رسول الله ﷺ ، قال : إن نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعه الله الى جسده يوم يبعثه . فقوله نسمة المؤمن تعم الشهيد وغيره ، ثم خص الشهيد بأن قال : هي في جوف طير خضر ، ومعلوم أنها إذا كانت في جوف طير صدق عليها أنها طير، فتدخل في عموم الحديث الآخر بهذا الإعتبار ، فنصيبهم من النعيم في البرزخ أكمل من نصيب غيرهم من الأموات على فرشهم ، وإن كان الميت أعلى درجة من كثير منهم ، فلهم نعيم يختص به لا يشاركه فيه من هو دونه ، والله أعلم . وحرم الله على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، كما روي في السنن . وأما الشهداء فقد شوهد منهم بعد مدد من دفنه كما هو لم يتغير ، فيحتمل بقاؤه كذلك في تربته إلى يوم محشره ، ويحتمل أنه يبلى مع طول المدة ، والله أعلم . وكأنه - والله أعلم - كلما كانت الشهادة أكمل ، والشهيد أفضل ، كان بقاء جسده أطول .
قوله: ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة
ونؤمن بالبعث وجزاء الأعمال يوم القيامة ، والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب والصراط والميزان
ش : الإيمان بالمعاد مما دل عليه الكتاب والسنة ، والعقل والفطرة السليمة . فأخبر الله سبحانه عنه في كتابه العزيز ، وأقام الدليل عليه ، ورد على منكريه في غالب سور القرآن . وذلك : أن الأنبياء عليهم السلام كلهم متفقون على الإيمان بالله ، فإن الإقرار بالرب عام في بني آدم ، وهو فطري ، كلهم يقر بالرب ، إلا من عاند ، كفرعون ، بخلاف الإيمان باليوم الآخر ، فإن منكريه كثيرون ، ومحمد ﷺ لما كان خاتم الأنبياء ، وكان قد بعث هو والساعة كهاتين ، وكان هو الحاشر المقفي - بين تفضيل الآخرة بياناً لا يوجد في شيء من كتب الأنبياء . ولهذا ظن طائفة من المتفلسفة ونحوهم ، أنه لم يفصح بمعاد الأبدان إلا محمد ﷺ ، وجعلوا هذه حجة لهم في أنه من باب التخييل والخطاب الجمهوري .
والقرآن بين معاد النفس عند الموت ، ومعاد البدن عند القيامة الكبرى في غير موضع . وهؤلاء ينكرون القيامة الكبرى ، وينكرون معاد الأبدان ، ويقول من يقول منهم : إنه لم يخبر به إلا محمد ﷺ على طريق التخييل ! وهذا كذب ، فإن القيامة الكبرى هي معروفة عند الأنبياء ، من آدم إلى نوح ، إلى إبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم عليهم السلام ، وقد أخبر الله بها من حين أهبط آدم ، فقال تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ، قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون . ولما قال إبليس اللعين : رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم . وأما نوح عليه السلام فقال : والله أنبتكم من الأرض نباتاً * ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً . وقال إبراهيم عليه السلام : والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين . إلى آخر القصة . وقال : ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب . وقال : رب أرني كيف تحيي الموتى الآية ، وأما موسى عليه السلام ، فقال الله تعالى لما ناجاه : إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى * فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى . بل مؤمن آل فرعون كان يعلم المعاد ، وإنما آمن بموسى ، قال تعالى حكاية عنه : ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد ، إلى قوله تعالى : يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار ، إلى قوله : أدخلوا آل فرعون أشد العذاب . وقال موسى : واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك . وقد أخبر الله في قصة البقرة : فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون . وقد أخبر الله أنه أرسل الرسل مبشرين ومنذرين ، في آيات من القرآن ، وأخبر عن أهل النار أنهم إذا قال لهم خزنتها : ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا ؟ قالوا : بلى ، ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين . وهذا اعتراف من أصناف الكفار الداخلين جهنم أن الرسل أنذرتهم لقاء يومهم هذا . فجميع الرسل أنذروا بما أنذر به خاتمهم ، من عقوبات المذنبين في الدنيا والآخرة . فعامة سور القرآن التي فيها ذكر الوعد والوعيد ، يذكر ذلك فيها : في الدنيا والآخرة . وأمر نبيه أن يقسم به على المعاد ، فقال : وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم عالم الغيب الآيات . وقال تعالى : ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين . وقال تعالى : زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير . وأخبر عن اقترابها ، فقال : اقتربت الساعة وانشق القمر . اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ، سأل سائل بعذاب واقع * للكافرين ، إلى أن قال : إنهم يرونه بعيداً * ونراه قريباً . وذم المكذبين بالمعاد ، فقال : قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها . ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد . بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعداً عليه حقا ، إلى أن قال : وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين . إن الساعة لآتية لا ريب فيها ولكن أكثر الناس لا يؤمنون . ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيراً . ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا . أولم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض قادر على أن يخلق مثلهم وجعل لهم أجلا لا ريب فيه فأبى الظالمون إلا كفورا . قالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا * قل كونوا حجارة أو حديدا * أو خلقا مما يكبر في صدوركم فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة فسينغضون إليك رؤوسهم ويقولون متى هو قل عسى أن يكون قريبا * يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا .
فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا أولا : أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ، فقيل لهم في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أنه لا خالق لكم ولا رب لكم ، فهلا كنتم خلقاً لا يفنيه الموت ، كالحجارة والحديد وما هو أكبر في صدوركم من ذلك ؟! فإن قلتم : كنا خلقاً على هذه الصفة التي لا تقبل البقاء - فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وبين إعادتكم خلقاً جديداً ؟! وللحجة تقدير آخر ، وهو : لو كنتم من حجارة أو حديد أو خلق أكبر منهما ، فإنه قادر على أن يفنيكم ويحيل ذواتكم ، وينقلها من حال الى حال ، ومن يقدر على التصرف في هذه الأجسام ، مع شدتها وصلابتها ، بالإفناء والإحالة - فما الذي يعجزه فيما دونها ؟ ثم أخبر أنهم يسألون آخراً بقولهم : من يعيدنا اذا استحالت جسومنا وفنيت ؟ فأجابهم بقوله : قل الذي فطركم أول مرة . فلما أخذتهم الحجة ، ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال اخر يتعللون به بعلل المنقطع ، وهو قولهم : متى هو ؟ فأجيبوا بقوله : عسى أن يكون قريبا .
ومن هذا قوله : وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه ، قال : من يحيي العظام وهي رميم ؟ إلى آخر السورة . فلو رام أعلم البشر وأفضحهم وأقدرهم على البيان ، أن يأتي بأحسن من هذه الحجة ، أو بمثلها بألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز ووضح الأدلة وصحة البرهان لما قدر . فإنه سبحانه افتتح هذه الحجة بسؤال أورده ملحد ، اقتضى جواباً ، فكان في قوله : ونسي خلقه ما وفى بالجواب . وأقام الحجة وأزال الشبهة لما أراد سبحانه من تأكيد الحجة وزيادة تقريرها فقال : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ، فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة الأخرى . إذ كل عاقل يعلم ضروريا أن من قدر على هذه قدر على هذه ، وأنه لو كان عاجزاً عن الثانية لكان عن الأولى أعجز وأعجز. ولما كان الخلق يستلزم قدرة الخالق على المخلوق ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله : وهو بكل خلق عليم . فهو عليم بتفاصيل الخلق الأول وجزئياته ، ومواده وصورته ، فكذلك الثاني . فإذا كان تام العلم ، كامل القدرة ، كيف يتعذر عليه أن يحيي العظام وهي رميم ؟ ثم أكد الأمر بحجة قاهرة ، وبرهان ظاهر ، يتضمن جواباً عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام اذا صارت رميماً عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة لا بد أن تكون مادتها وحاملها طبيعة حارة رطبة بما يدل على أمر البعث ، ففيه الدليل والجواب معا، فقال : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون . فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر، الذي هو في غاية الحرارة واليبوسة ، من الشجر الأخضر المتلىء بالرطوبة والبرودة ، فالذي يخرج الشيء من ضده ، وتنقاد له مواد المخلوقات وعناصرها و لا تستعصي عليه هو الذي يفعل ما أنكره الملحد ودفعه ، من إحياء العظام وهي رميم . ثم أكد هذا بأخذ الدلالة من الشيء الأجل الأعظم ، على الأيسر الأصغر ، فإن كل عاقل يعلم أن من قدر على العظيم الجليل فهو على ما دونه بكثير أقدر وأقدر ، فمن قدر على حمل قنطار فهو على حمل أوقية أشد أقتداراً ، فقال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم ؟ فأخبر أن الذي أبدع السماوات والأرض ، على جلالتهما ، وعظم شأنهما ، وكبر أجسامها ، وسعتهما ، وعجيب خلقهما ، أقدر على أن يحيي عظاماً قد صارت رميماً ، فيردها إلى حالتها الأولى . كما قال في موضع آخر : لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون . وقال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم . ثم أكد سبحانه ذلك وبينه ببيان آخر ، وهو أنه ليس فعله بمنزلة غيره ، الذي يفعل بالآلات والكلفة ، والنصب والمشقة ، ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل لا بد معه من آلة ومعين ، بل يكفي في خلقه لما يريد أن يخلقه ويكونه نفس إرادته ، وقوله للمكون : كن ، فإذا هو كائن كما شاءه وأراده . ثم ختم هذه الحجة بإخباره أن ملكوت كل شيء بيده ، فيتصرف فيه بفعله وقوله : وإليه ترجعون . ومن هذا قوله سبحانه : أيحسب الإنسان أن يترك سدى * ألم يك نطفة من مني يمنى * ثم كان علقة فخلق فسوى * فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى * أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى . فاحتج سبحانه على أنه لا يتركه مهملاً عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ، وأن حكمته وقدرته تأبى ذلك أشد الإباء ، كما قال تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون ، إلى آخر السورة . فإن من نقله من النطفة إلى العلقة ، ثم إلى المضغة ، ثم شق سمعه وبصره ، وركب فيه الحواس والقوى ، والعظام والمنافع ، والأعصاب والرباطات التي هي أشده ، وأحكم خلقه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل والصورة ، التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية ؟ أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى ؟ فلا يليق ذلك بحكمته ، ولا تعجز عنه قدرته . فانظر إلى هذا الاحتجاج العجيب ، بالقول الوجيز، الذي لا يكون أوجز منه ، والبيان الجليل ، الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه لقريب ، الذي لا تقع الظنون على أقرب منه .
وكم في القرآن من مثل هذا الاحتجاج ، كما في قوله تعالى : يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ، إلى أن قال : وأن الله يبعث من في القبور . وقوله تعالى : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، إلى أن قال : ثم إنكم يوم القيامة تبعثون . وذكر قصة أصحاب الكهف ، وكيف أبقاهم موتى ثلاثماثة سنة شمسية ، وهي ثلاثمائة وتسع سنين قمرية ، وقال فيها : وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها .
والقائلون بأن الأجسام مركبة من الجواهر المفردة ، لهم في المعاد خبط واضطراب . وهم فيه على قولين : منهم من يقول : تعدم الجواهر ثم تعاد. ومنهم من يقول : تفرق الأجزاء ثم تجمع . فأورد عليهم : الإنسان الذي يأكله حيوان ، وذلك الحيوان أكله إنسان ، فإن أعيدت تلك الأجزاء من هذا ، لم تعد من هذا ؟ وأورد عليهم : أن الإنسان يتحلل دائماً ، فماذا الذي يعاد ؟ أهو الذي كان وقت الموت ؟ فإن قيل بذلك ، لزم أن يعاد على صورة ضعيفة ، وهو خلاف ما جاءت به النصوص ، وإن كان غير ذلك ، فليس بعض الأبدان بأولى من بعض ! فادعى بعضهم أن في الإنسان أجزاء أصلية لا تتحلل ، ولا يكون فيها شيء من ذلك الحيوان الذي أكله الثاني ! والعقلاء يعلمون أن بدن الإنسان نفسه كله يتحلل ، ليس فيه شيء باق ، فصار ما ذكروه في المعاد مما قوى شبهة المتفلسفة في إنكار معاد الأبدان .
والقول الذي عليه السلف وجمهور العقلاء : أن الأجسام تنقلب من حال إلى حال ، فتستحيل تراباً ، ثم ينشئها الله نشأة أخرى ، كما استحال في النشأة الأولى : فإنه كان نطفة ، ثم صار علقة ، ثم صار مضغة ، ثم صار عظاماً ولحماً ، ثم أنشأه خلقاً سوياً . كذلك الإعادة : يعيده الله بعد أن يبلى كله إلا عجب الذنب ، كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب ، منه خلق ابن آدم ، ومنه يركب . وفي حديث آخر : إن السماء تمطر مطراً كمني الرجال ، ينبتون في القبور كما ينبت النبات .
فالنشأتان نوعان تحت جنس ، يتفقان ويتماثلان من وجه ، ويفترقان ويتنوعان من وجه . والمعاد هو الأول بعينه ، وإن كان بين لوازم الإعادة ولوازم البداءة فرق ، فعجب الذنب هو الذي يبقى ، وأما سائره فيستحيل ، فيعاد من المادة التي استحال إليها . ومعلوم أن من رأى شخصاً وهو صغير ، ثم رآه وقد صار شيخاً ، علم أن هذا هو ذاك ، مع أنه دائماً في تحلل واستحالة . وكذلك سائر الحيوان والنبات ، فمن رآى شجرة وهي صغيرة ، ثم رآها كبيرة ، قال : هذه تلك . وليست صفة تلك النشأة الثانية مماثلة لصفة هذه النشأة ، حتى يقال إن الصفات هي المغيرة ، لا سيما أهل الجنة إذا دخلوها فإنهم يدخلونها على صورة آدم ، طوله ستون ذراعاً ، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما ، وروي : أن عرضه سبعة أذرع . وتلك نشأة باقية غير معرضة للآفات ، وهذه النشأة فانية معرضة للآفات .
وقوله : وجزاء الأعمال - قال تعالى : مالك يوم الدين . يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين . والدين : الجزاء ، يقال : كما تدين تدان ، أي كما تجازي تجازى ، وقال تعالى : جزاء بما كانوا يعملون . جزاءً وفاقاً . من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ، من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون * ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار هل تجزون إلا ما كنتم تعملون . من جاء بالحسنة فله خير منها ، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون . وأمثال ذلك . وقال ﷺ ، فيما يروي عن ربه عز وجل ، من حديث أبي ذر الغفاري رضي الله عنه : يا عبادي ، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، ثم أوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه . وسيأتي لذلك زيادة بيان عن قريب ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : والعرض والحساب ، وقراءة الكتاب ، والثواب والعقاب . قال تعالى : فيومئذ وقعت الواقعة * وانشقت السماء فهي يومئذ واهية * والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية * يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية ، إلى آخر السورة . يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه * فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حسابا يسيرا * وينقلب إلى أهله مسرورا * وأما من أوتي كتابه وراء ظهره * فسوف يدعو ثبورا * ويصلى سعيرا * إنه كان في أهله مسرورا * إنه ظن أن لن يحور * بلى إن ربه كان به بصيرا . وعرضوا على ربك صفاً ، لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة . ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا . يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ، إلى آخر السورة . رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده ، إلى قوله : إن الله سريع الحساب . واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون . وروى البخاري رحمه الله في صحيحه ، عن عائشة ، أن النبي ﷺ قال : ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلا هلك ، فقلت : يا رسول الله ، أليس قد قال الله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه * فسوف يحاسب حساباً يسيراً ، فقال رسول الله ﷺ : إنما ذلك العرض ، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عذب . يعني أنه لو ناقش في حسابه لعبيده لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولكنه تعالى يعفو ويصفح . وسيأتي لذلك زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى . وفي الصحيح عن النبي ﷺ ، أنه قال : إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق ، فإذا موسى آخذ بقائمة العرش ، فلا أدري أفاق قبلي ، أم جوزي بصعقة يوم الطور ؟ وهذا صعق في موقف القيامة ، إذا جاء الله لفصل القضاء ، وأشرقت الأرض بنوره ، فحينئذ يصعق الخلائق كلهم . فإن قيل : كيف تصنعون بقوله في الحديث : إن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من تنشق عنه الارض ، فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش ؟ قيل : لا ريب أن هذا اللفظ قد ورد هكذا ، ومنه نشأ الإشكال . ولكنه دخل فيه على الراوي حديثاً في حديث ، فركب بين اللفظين ، فجاء هذان الحديثان هكذا : أحدهما : أن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، كما تقدم ، والثاني : أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ، فدخل على الراوي هذا الحديث في الآخر . وممن نبه على هذا أبو الحجاج المزي ، وبعده الشيخ شمس الدين بن القيم ، وشيخنا الشيخ عماد بن كثير ، رحمهم الله . وكذلك اشتبه على بعض الرواة، فقال : فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل ؟ والمحفوظ الذي تواطأت عليه الروايات الصحيحة هو الأول ، وعليه المعنى الصحيح ، فإن الصعق يوم القيامة لتجلي الله لعباده إذا لفصل القضاء ، فموسى عليه السلام إن كان لم يصعق معهم ، فيكون قد جوزي بصعقة يوم تجلى ربه للجبل فجعله دكاً ، فجعلت صعقة هذا التجلي عوضاً عن صعقة الخلائق لتجلي ربه يوم القيامة . فتأمل هذا المعنى العظيم ولا تهمله . وروى الإمام أحمد ، و الترمذي ، و أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن الحسن ، قال : سمعت أبا موسى الأشعري يقول : قال رسول الله ﷺ : يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات ، فعرضتان جدال ومعاذير ، وعرضة تطاير الصحف ، فمن أوتي كتابه بيمينه ، وحوسب حساباً يسيراً ، دخل الجنة ، ومن أوتي كتابه بشماله ، دخل النار . وقد روى ابن أبي الدنيا عن ابن المبارك : أنه أنشد في ذلك شعراً :
وطارت الصحف في الأيدي منشرة فيها السرائر والأخبار تطلع
فكيف سهوك والأنبـــاء واقعـــة عما قليل ، ولا تدري بما تقـع
أفي الجنان وفوز لا انقـطاع له أم الجحيم فلا تبقي ولا تدع
تهوي بساكنها طوراً وترفعهم إذا رجوا مخرجاً من غمها قمعوا
طال البكاء فلم يرحم تضرعهم فيها ، ولا رقية تغني ولا جزع
لينفع العلم قبل الموت عالمـه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
قوله : والصراط ، أي : وتؤمن بالصراط ، وهو جسر على جهنم ، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم مكان الموقف إلى الظلمة التي دون الصراط ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : إن رسول الله ﷺ سئل : أين الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات ؟ فقال : هم في الظلمة دون الجسر . وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ، ويتخلفون عنهم ، ويسبقهم المؤمنون ، ويحال بينهم بسور يمنعهم من الوصول إليهم . وروى البيهقي بسنده ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : يجمع الله الناس يوم القيامة ، إلى أن قال : فيعطون نورهم على قدر أعمالهم ، وقال : فمنهم من يعطى نوره مثل الجبل بين يديه ، ومنهم من يعطى نوره فوق ذلك ، ومنهم من يعطى نوره مثل النخلة بيمينه ، ومنهم من يعطى دون ذلك بيمينه ، حتى يكون آخر من يعطى نوره على إبهام قدمه ، يضيىء مرة ويطفأ مرة ، إذا أضاء قدم قدمه ، وإذا طفيء قام ، قال : فيمر ويمرون على الصراط ، والصراط كحد السيف ، دحض ، مزلة ، فيقال لهم : امضوا على قدر نوركم ، فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب ، ومنهم من يمر كالريح ، ومنهم من يمر كالطرف ، ومنهم من يمر كشد الرجل ، يرمل رملاً ، فيمرون على قدر أعمالهم ، حتى يمر الذي نوره على إبهام قدمه ، تخر يد ، وتعلق يد ، وتخر رجل ، وتعلق رجل ، وتصيب جوانبه النار ، فيخلصون ، فإذا خلصوا قالوا : الحمد الله الذي نجانا منك بعد أن أراناك ، لقد أعطانا الله ما لم يعط أحد . . . الحديث .
واختلف المفسرون في المراد بالورود المذكور في قوله تعالى : وإن منكم إلا واردها ، ما هو ؟ والأظهر والأقوى أنه المرور الصراط ، قال تعالى : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً . وفي الصحيح أنه ﷺ قال : والذي نفسي بيده ، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة ، قالت حفصة : فقلت : يا رسول الله ، أليس الله يقول : وإن منكم إلا واردها ، فقال : ألم تسمعيه قال : ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً . أشار ﷺ إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله ، بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه ، يقال : نجاه الله منهم . ولهذا قال تعالى : ولما جاء أمرنا نجينا هوداً . ؟ فلما جاء أمرنا نجينا صالحاً . ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً . ولم يكن العذاب أصابهم ، ولكن أصاب غيرهم ، ولولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك . وكذلك حال الوارد في النار ، يمرون فوقها على الصراط ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً . فقد بين ﷺ في حديث جابر المذكور : أن الورود هو الورود على الصراط . وروى الحافظ أبو نصر الوائلي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال ﷺ : علم الناس سنتي وإن كرهوا ذلك ، وإن أحببت أن لا توقف على الصراط طرفة عين حتى تدخل الجنة ، فلا تحدثن في دين الله حدثاً برأيك . أورد القرطبي . وروى أبو بكر بن أحمد بن سليمان النجار ، عن يعلى بن منية ، عن رسول الله ﷺ ، قال : تقول النار للمؤمن يوم القيامة : جز يا مؤمن ، فقد أطفأ نورك لهبي .
وقوله : والميزان ، أي : ونؤمن بالميزان . قال تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة ، فلا تظلم نفس شيئاً وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين . وقال تعالى : فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم في جهنم خالدون . قال القرطبي : قال العلماء : إذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال ، لأن الوزن للجزاء ، فينبغي أن يكون بعد المحاسبة ، فإن المحاسبة لتقرير الأعمال ، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها . قال : وقوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة . يحتمل أن يكون ثم موازين متعددة توزن فيها الأعمال ، ويحتمل أن يكون المراد الموزونات ، فجمع باعتبار تنوع الأعمال الموزونة ، والله أعلم .
والذي دلت عليه السنة : أن ميزان الأعمال له كفتان حسيتان مشاهدتان . روى الإمام أحمد ، من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي ، قال سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ﷺ : إن الله سيختص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً ، كل سجل مد البصر ، ثم يقول له : أتنكر من هذا شيئاً أظلمتك كتبتي الحافظون ؟ قال : لا ، يا رب ، فيقول : ألك عذر أوحسنة ؟ فيبهت الرجل ، فيقول : لا يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة ، لا ظلم اليوم عليك ، فتخرج له بطاقة فيها : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، فيقول أحضروه ، فيقول : يا رب ، وما هذه البطاقة مع هذه السجلات ؟ فيقال : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة ، والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات ، وثقلت البطاقة ، ولا يثقل شيء بسم الله الرحمن الرحيم . وهكذا روى الترمذي ، و ابن ماجه ، و ابن أبي الدنيا ، من حديث الليث ، زاد الترمذي : ولا يثقل مع اسم الله شيء . وفي سياق آخر : توضع الموازين يوم القيامة ، فيؤتى بالرجل فيوضع في كفة وفي هذا السياق فائدة جليلة ، وهي أن العامل يوزن مع عمله ، ويشهد له ما روى البخاري عن أبي هريرة ، عن النبي ﷺ ، قال : أنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة ، لا يزن عند الله جناح بعوضة ، وقال : اقرؤوا إن شئتم : فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً . وروى الإمام أحمد ، عن ابن مسعود : أنه كان يجني سواكاً من الأراك ، وكان دقيق الساقين ، فجعلت الريح تكفؤه ، فضحك القوم منه ، فقال رسول الله ﷺ : مم تضحكون ؟ قالوا : يا نبي الله ، من دقة ساقية ، فقال : والذي نفسي بيده ، لهما أثقل في الميزان من أحد . وقد وردت الأحاديث أيضاً بوزن الأعمال أنفسها ، كما في صحيح مسلم ، عن أبي مالك الأشعري ، قال : قال رسول الله ﷺ : الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان . وفي الصحيح ، وهو خاتمة كتاب البخاري ، قوله ﷺ : كلمتان خفيفتان على اللسان ، حبيبتان إلى الرحمن ، ثقيلتان في الميزان : سبحان الله وبحمده ، سبحان الله العظيم . وروى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ ، قال : يؤتى بابن آدم يوم القيامة ، فيوقف بين كفتي الميزان ، ويوكل به ملك ، فإن ثقل ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خف ميزانه ، نادى الملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً . فلا يلتفت إلى ملحد معاند يقول : الأعمال أعراض لا تقبل الوزن ، وإنما يقبل الوزن الأجسام ! ! فإن الله يقلب الأعراض أجساماً ، كما تقدم ، وكما روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : يؤتى بالموت كبشاً أغر ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال ، يا أهل الجنة ، فيشرئبون وينظرون ، ويقال : يا أهل النار ، فيشرئبون وينظرون ، ويرون أن قد جاء الفرج ، فيذبح ، ويقال : خلود لا موت . ورواه البخاري بمعناه . فثبت وزن الأعمال والعامل وصحائف الأعمال ، وثبت أن الميزان له كفتان . والله تعالى أعلم بما وراء ذلك من الكيفيات .
فعلينا الإيمان بالغيب ، كما أخبرنا الصادق ﷺ ، من غير زيادة ولا نقصان . ويا خيبة من ينفي وضع الموازين القسط ليوم القيامة كما أخبر الشارع ، لخفاء الحكمة عليه ، ويقدح في النصوص بقوله : لا يحتاج إلى الميزان إلا البقال والفوال ! ! وما أحراه بأن يكون من الذين لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً . ولو لم يكن من الحكمة في وزن الأعمال إلا ظهور عدله سبحانه لجميع عباده ، فإنه لا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين . فكيف ووراء ذلك من الحكم ما لا اطلاع لنا عليه . فتأمل قول الملائكة ، لما قال الله لهم : إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال : إني أعلم ما لا تعلمون . وقال تعالى : وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً . وقد تقدم عند ذكر الحوض كلام القرطبي رحمه الله ، أن الحوض قبل الميزان ، والصراط بعد الميزان . ففي الصحيحين : أن المؤمنين إذا عبروا الصراط وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض ، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة . وجعل القرطبي في التذكرة هذه القنطرة صراطاً ثانياً للمؤمنين خاصة ، وليس يسقط منه أحد في النار ، والله تعالى أعلم .
وقوله : والجنة والنار مخلوقتان ، لا تفنيان أبداً ولا تبيدان
فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق ، وخلق لهما أهلاً ، فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه ، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه ، وكل يعمل لما قد فرغ له ، وصائر إلى ما خلق له ، والخير والشر مقدران على العباد .
ش : أما قوله : إن الجنة والنار مخلوقتان ، فاتفق أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن ، ولم يزل أهل السنة على ذلك ، حتى نبغت نابغة من المعتزلة والقدرية ، فأنكرت ذلك ، وقالت : بل ينشئهما الله يوم القيامة ! ! وحملهم على ذلك أصلهم الفاسد الذي وضعوا به شريعة لما يفعله الله ، وأنه ينبغي أن يفعل كذا ، ولا ينبغي له أن يفعل كذا ! ! وقاسوه على خلقه في أفعالهم ، فهم مشبهة في الأفعال ، ودخل التجهم فيهم ، فصاروا مع ذلك معطلة ! وقالوا : خلق الجنة قبل الجراء عبث ! لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة ! ! فردوا من النصوص ما خالف هذه الشريعة الباطلة التي وضعوها للرب تعالى ، وحرفوا النصوص عن مواضعها ، وضللوا وبدعوا من خالف شريعتهم .
فمن نصوص الكتاب : قوله تعالى عن الجنة : أعدت للمتقين . أعدت للذين آمنوا بالله ورسله . وعن النار : أعدت للكافرين . إن جهنم كانت مرصادا * للطاغين مآبا . وقال تعالى : ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى . وقد رأى النبي ﷺ سدرة المنتهى ، ورأى عندها جنة المأوى . كما في الصحيحين ، من حديث أنس رضي الله عنه ، في قصة الإسراء ، وفي آخره : ثم انطلق بي جبرائيل ، حتى أتى سدرة المنتهى ، فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، قال : ثم دخلت الجنة ، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ ، واذا ترابها المسك وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي ، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، يقال : هذا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة . وتقدم حديث البراء بن عازب ، وفيه : ينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها . وتقدم حديث أنس بمعنى حديث البراء . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ ، فذكرت الحديث ، وفيه : وقال رسول الله ﷺ : رأيت في مقامي هذا كل شيء وعدتم به ، حتى لقد رأيتني آخذ قطفاً من الجنة حين رأيتموني تقدمت ولقد رأيت النار يحطم بعضها بعضاً حين رأيتموني تأخرت . وفي الصحيحين ، واللفظ للبخاري ، عن عبد الله ابن عباس ، قال : انخسفت الشمس على عهد رسول الله ﷺ ، فذكر الحديث ، وفيه : فقالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك ، ثم رأيناك تكعكعت ؟ فقال : إني رأيت الجنة ، وتناولت عنقوداً ، ولو أصبته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا ، ورأيت النار ، فلم أر منظراً كاليوم قط أفظع ، ورأيت أكثر أهلها النساء ، قالوا : بم ، يا رسول الله ؟ قال : بكفرهن ، قيل : أيكفرن بالله ؟ قال : يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان ، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر كله ، ثم رأت منك شيئاً ، قالت : ما رأيت خيراً قط ! ! وفي صحيح مسلم من حديث أنس : وايم الذي نفسي بيده ، لو رأيتم ما رأيت ، لضحكتم قليلاً وبكيتم كثيراً . قالوا : وما رأيت يا رسول الله ؟ قال : رأيت الجنة والنار وفي الموطأ والسنن ، من حديث كعب ابن مالك ، قال : قال رسول الله ﷺ : إنما نسمة المؤمن طير تعلق في شجر الجنة ، حتى يرجعها الله إلى جسده يوم القيامة . وهذا صريح في دخول الروح الجنة قبل يوم القيامة . وفي صحيح مسلم و السنن و المسند . من حديث أبي هريرة رضي الله عنهما ، أن رسول الله ﷺ قال : لما خلق الله الجنة والنار ، أرسل جبرائيل إلى الجنة ، فقال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعد الله لأهلها فيها ، فرجع فقال : وعزتك ، لا يسمع بها أحد إلا دخلها ، فأمر بالجنة ، فحفت بالمكاره ، فقال : ارجع فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ، قال : ثم أرسله إلى النار ، قال : اذهب فانظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، قال : فنظر إليها ، فإذا هي يركب بعضها بعضاً ، ثم رجع فقال : وعزتك ، لا يدخلها أحد سمع بها ، فأمر بها فحفت بالشهوات ، ثم قال : اذهب فانظر إلى ما أعددت لأهلها فيها ، فذهب فنظر إليها ، فرجع فقال : وعزتك ، لقد خشيت أن لا ينجو منها أحد إلا دخلها .
ونظائر ذلك في السنة كثيرة .
وأما على قول من قال : إن الجنة الموعود بها هي الجنة التي كان فيها آدم ثم أخرج منها ، فالقول بوجودها الآن ظاهر ، والخلاف في ذلك معروف .
وأما شبهة من قال : إنها لم تخلق بعد ، وهي : أنها لو كانت مخلوقة الآن لوجب اضطراراً أن تفنى يوم القيامة وأن يهلك كل من فيها ويموت ، لقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه . و كل نفس ذائقة الموت ، وقد روى الترمذي في جامعه ، من حديث ابن مسعود رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله ﷺ : لقيت إبراهيم ليلة أسري بي ، فقال : يا محمد ، أقرىء أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة ، عذبة الماء ، وأنها قيعان ، وأن غراسها سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، قال : هذا حديث حسن غريب . وفيه أيضاً من حديث أبي الزبير ، عن جابر ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة ، قال : هذا حديث حسن صحيح ، قالوا : فلو كانت مخلوقة مفروغاً منها لم تكن قيعاناً ، ولم يكن لهذا الغراس معنى . قالوا : وكذا قوله تعالى عن امرأة فرعون أنها قالت : رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة فالجواب : إنكم إن أردتم بقولكم إنها الآن معدومة بمنزلة النفخ في الصور وقيام الناس من القبور ، فهذا باطل ، يرده ما تقدم من الأدلة وأمثالها مما لم يذكر ، وإن أردتم أنها لم يكمل خلق جميع ما أعد الله فيها لأهلها ، وأنها لا يزال الله يحدث فيها شيئاً بعد شيء ، وإذا دخلها المؤمنون أحدث الله فيها عند دخولهم أموراً أخر- فهذا حق لا يمكن رده ، وأدلتكم هذه إنما تدل على هذا القدر . وأما احتجاجكم بقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه ، فأتيتم من سوء فهمكم معنى الآية، واحتجاجكم بها على عدم وجود الجنة والنار الآن - نظير احتجاج إخوانكم على فنائهما وخرابهما وموت أهلهما ! ! فلم توفقوا أنتم لا إخوانكم لفهم معنى الآية ، وإنما وفق لذلك أئمة الاسلام . فمن كلامهم : أن المراد كل شيء مما كتب الله عليه الفناء والهلاك هالك ، والجنة والنار خلقتا للبقاء لا للفناء ، وكذلك العرش ، فإنه سقف الجنة . وقيل : المراد إلا ملكه . وقيل : إلا ما أريد به وجهه . وقيل : إن الله تعالى أنزل : كل من عليها فان ، فقالت الملائكة : هلك أهل الأرض ، وطمعوا في البقاء ، فأخبر تعالى عن أهل السماء والأرض أنهم يموتون ، فقال : كل شيء هالك إلا وجهه ، لأنه حي لا يموت ، فأيقنت الملائكة عند ذلك بالموت . وإنما قالوا ذلك توفيقاً بينها وبين النصوص المحكمة ، الدالة على بقاء الجنة ، وعلى بقاء النار أيضاً ، على ما يذكر عن قريب ، إن شاء الله تعالى .
وقوله : لا تفنيان أبدا ولا تبيدان - هذا قول جمهور الأئمة من السلف والخلف . وقال ببقاء الجنة وبفناء النار جماعة من السلف والخلف ، والقولان مذكوران في كثير من كتب التفسير وغيرها . قال بفناء الجنة والنار الجهم بن صفوان إمام المعطلة ، وليس له سلف قط ، لا من الصحابة ولا من التابعين لهم بإحسان ، ولا من أئمة المسلمين ، ولا من أهل السنة . وأنكره عليه عامة أهل السنة ، وكفروه به ، وصاحوا به وبأتباعه من أقطار الأرض . وهذا قاله لأصله الفاسد الذي اعتقده ، وهو امتناع وجود ما لا يتناهى من الحوادث ! وهو عمدة أهل الكلام المذموم ، التي استدلوا بها على حدوث الأجسام ، وحدوث ما لم يخل من الحوادث ، وجعلوا ذلك عمدتهم في حدوث العالم . فرأى جهم أن ما يمنع من حوادث لا أول لها في الماضي ، يمنعه في المستقبل ! ! فدوام الفعل عنده على الرب في المستقبل ممتنع ، كما هو ممتنع عنده عليه في الماضي! ! وأبو الهذيل العلاف شيخ المعتزلة ، وافقه على هذا الأصل ، لكن قال : إن هذا يقتضي فناء الحركات ، فقال بفناء حركات أهل الجنة والنار ، حتى يصيروا في سكون دائم ، لا يقدر أحد منهم على حركة ! ! وقد تقدم الإشارة إلى اختلاف النار في تسلسل الحوادث في الماضي والمستقبل ، وهي مسألة دوام فاعلية الرب تعالى ، وهو لم يزل رباً قادراً فعالاً لما يريد ، فإنه لم يزل حياً عليماً قديراً . ومن المحال أن يكون الفعل ممتنعا عليه لذاته ، ثم ينقلب فيصير ممكناً لذاته ، من غير تجدد شيء ، وليس للأول حد محدود حتى يصير الفعل ممكناً له عند ذلك الحد، ويكون قبله ممتنعاً عليه . فهذا القول تصوره كاف في الجزم بفساده .
فأما أبدية الجنة ، وأنها لا تفنى ولا تبيد ، فهذا مما يعلم بالضرورة أن الرسول ﷺ أخبر به ، قال تعالى : وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ ، أي غير مقطوع ، ولا ينافي ذلك قوله : إلا ما شاء ربك . واختلف السلف في هذا الإستثناء : فقيل : معناه إلا مدة مكثهم في النار ، وهذا يكون لمن دخل منهم إلى النار ثم أخرج منها ، لا لكلهم . وقيل : إلا مده مقامهم في الموقف . وقيل : إلا مدة مقامهم في القبور والموقف. وقيل : هو استثناء الرب ولا يفعله ، كما تقول : والله لأضربنك إلا أن أرى غير ذلك ، وأنت لا تراه ، بل تجزم بضربه . وقيل : إلا بمعنى الواو ، وهذا على قول بعض النحاة ، وهو ضعيف . وسيبويه يجعل إلا بمعنى لكن ، فيكون الاستثناء منقطعاً ، ورجحه ابن جرير وقال : إن الله تعالى لا خلف لوعده ، وقد وصل الاستثناء بقوله : عطاء غير مجذوذ . قالوا : ونظيره أن تقول : أسكنتك داري حولاً إلا ما شئت ، أي سوى ما شئت ، ولكن ما شئت من الزيادة عليه . وقيل : الاستثناء لإعلامهم ، بأنهم مع خلودهم في مشيئة الله ، لأنهم يخرجون عن مشيئته ، ولا ينافي ذلك عزيمته وجزمه لهم بالخلود ، كما في قوله تعالى : ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلًا ، وقوله تعالى : فإن يشإ الله يختم على قلبك ، وقوله : قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به . ونظائره كثيرة ، يخبر عباده سبحانه أن الأمور كلها بمشيئته ، ما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن . وقيل : إن ما بمعنى من أي : إلا من شاء الله دخوله النار بذنوبه من السعداء . وقيل غير ذلك . وعلى كل تقدير ، فهذا الاستثناء من المتشابه ، وقوله : عطاء غير مجذوذ ، محكم . وكذلك قوله تعالى : إن هذا لرزقنا ما له من نفاد . وقوله : أكلها دائم وظلها . وقوله : وما هم منها بمخرجين . وقد أكد الله خلود أهل الجنة بالتأبيد في عدة مواضع من القرآن ، وأخبر أنهم : لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى ، وهذا الاستثناء منقطع ، وإذا ضممته إلى الإستثناء في قوله تعالى : إلا ما شاء ربك - تبين أن المراد من الآيتين استثناء الوقت الذي لم يكونوا فيه في الجنة من مدة الخلود ، كاستثناء الموتة الأولى من جملة الموت ، فهذه موتة تقدمت على حياتهم الأبدية ، وذلك مفارقة للجنة تقدمت على خلودهم فيها .
والأدلة من السنة على أبدية الجنة ودوامها كثيره : كقوله ﷺ : من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس ويخلد ولا يموت . وقوله : ينادي مناد : يا أهل الجنة ، إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وأن تشبوا فلا تهرموا أبداً ، وأن تحيوا فلا تموتوا أبداً . وتقدم ذكر ذبح الموت بين الجنة والنار ، ويقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار ، خلود فلا موت .
وأما أبدية النار ودوامها ، فللناس في ذلك ثمانية أقوال : أحدها : أن من دخلها لا يخرج منها أبد الآباد ، وهذا قول الخوارج والمعتزلة . والثاني : أن أهلها يعذبون فيها ، ثم تنقلب طبيعتهم وتبقى طبيعة النارية يتلذذون بها لموافقتها لطبعهم ! وهذا قول إمام الاتحادية ابن عربي الطائي ! ! الثالث : أن أهلها يعذبون فيها إلى وقت محدود ، ثم يخرجون منها ، ويخلفهم فيها قوم آخرون ، وهذا القول حكاه اليهود للنبي ﷺ ، وأكذبهم فيه ، وقد أكذبهم الله تعالى ، فقال عز من قائل : وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون * بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون . الرابع : يخرجون منها ، وتبقى على حالها ليس فيها أحد . الخامس : أنها تفنى بنفسها ، لأنها حادثة وما ثبت حدوثه استحال بقاؤه !! وهذا قول الجهم وشيعته ، ولا فرق عنده في ذلك بين الجنة والنار ، كما تقدم . السادس : تفنى حركات أهلها ويصيرون جماداً ، لا يحسون بألم ، وهذا قول أبي الهذيل العلاف كما تقدم . السابع : أن الله يخرج منها من يشاء ، كما ورد في الحديث ، ثم يبقيها شيئاً ، ثم يفنيها ، فإنه جعل لها أمداً تنتهي إليه . الثامن : أن الله تعالى يخرج منها من شاء ، كما ورد في السنة ، ويبقى فيها الكفار، بقاء لا انقضاء له ، كما قال الشيخ رحمه الله . وما عدا هذين القولين الأخيرين ظاهر البطلان .
وهذان القولان لأهل السنة ينظر في أدلتهما . فمن أدلة القول الأول منهما : قوله تعالى : قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم . وقوله تعالى . فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد . ولم يأت بعد هذين الاستثناءين ما أتى بعد الاستثناء المذكور لأهل الجنة ، وهو قوله : عطاء غير مجذوذ . وقوله تعالى : لابثين فيها أحقابا . وهذا القول ، أعني القول بفناء النار دون الجنة - منقول عن عمر ، و ابن مسعود ، و أبي هريرة ، و أبي سعيد ، وغيرهم . وقد روى عبد بن حميد في تفسيره المشهور ، بسنده إلى عمر رضي الله عنه ، أنه قال : لو لبث أهل النار في النار كقدر رمل عالج ، لكان لهم على ذلك وقت يخرجون فيه ، ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى : لابثين فيها أحقاباً . قالوا : والنار موجب غضبه ، والجنة موجب رحمته . وقد قال ﷺ : لما قضى الله الخلق ، كتب كتاباً ، فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي . وفي رواية : تغلب غضبي . رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . قالوا : والله سبحانه يخبر عن العذاب أنه : عذاب يوم عظيم . و أليم . و عقيم . ولم يخبر ولا في موضع واحد عن النعيم أنه نعيم يوم . وقد قال تعالى : عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء . وقال تعالى حكاية عن الملائكة : ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً . فلا بد أن تسع رحمته هؤلاء المعذبين ، فلو بقوا في العذاب لا إلى غاية لم تسعهم رحمته . وقد ثبت في الصحيح تقدير يوم القيامة بخمسين ألف سنة ، والمعذبون فيها متفاوتون في مدة لبثهم في العذاب بحسب جرائمهم ، وليس في حكمة أحكم الحاكيمن ورحمة أرحم الراحمين أن يخلق خلقاً يعذبهم أبد الآباد عذاباً سرمداً لا نهاية له . وأما أنه يخلق خلقاً ينعم عليهم ويحسن إليهم نعيماً سرمداً ، فمن مقتضى الحكمة . والإحسان مراد لذاته ، والانتقام مراد بالعرض . قالوا : وما ورد من الخلود فيها ، والتأبيد ، وعدم الخروج ، وأن عذابها مقيم ، وأنه غرام - : كله حق مسلم ، لا نزاع فيه ، وذلك يقتضي الخلود في دار العذاب ما دامت باقية ، وإنما يخرج منها في حال بقائها أهل التوحيد . ففرق بين من يخرج من الحبس وهو حبس على حاله ، وبين من يبطل حبسه بخراب الحبس وانتقاضه .
ومن أدلة القائلين ببقائها وعدم فنائها : قوله : ولهم عذاب مقيم . لا يفتر عنهم وهم فيه مبلسون . فلن نزيدكم إلا عذاباً . خالدين فيها أبداً . وما هم منها بمخرجين . وما هم بخارجين من النار . لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط . لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها . إن عذابها كان غراماً ، أي مقيماً لازماً . وقد دلت السنة المستفيضة أنه يخرج من النار من قال : لا إله إلا الله : وأحاديث الشفاعة صريحة في خروج عصاة الموحدين من النار، وأن هذا حكم مختص بهم ، فلو خرج الكفار منها لكانوا بمنزلتهم ، ولم يختص الخروج بأهل الإيمان . وبقاء الجنة والنار ليس لذاتهما ، بل بإبقاء الله لهما .
وقوله : وخلق لهما أهلاً - قال تعالى : ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، الآية . وعن عائشة رضي الله عنها ، قالت : دعي رسول الله ﷺ إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى لهذا ، عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل سوءاً ولم يدركه ، فقال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلاً ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم . رواه مسلم و أبو داود و النسائي . وقال تعالى : إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً * إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً . والمراد الهداية العامة ، وأعم منها الهداية المذكورة في قوله تعالى : الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . فالموجودات نوعان : أحدهما مسخر بطبعه ، والثاني متحرك بإرادته فهدى الأول لما سخره له طبيعة ، وهدى الثاني هداية إرادية تابعة لشعوره وعلمه بما ينفعه ويضره . ثم قسم هذا النوع إلى ثلاثة أنواع : نوع لا يريد إلا الخير ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالملائكة ، ونوع لا يريد إلا الشر ولا يتأتى منه إرادة سواه ، كالشياطين ، ونوع يتأتى منه إرادة القسمين ، كالإنسان . ثم جعله ثلاثة أصناف : صنفاً يغلب إيمانه ومعرفته وعقله هواه وشهوته ، فيلتحق بالملائكة . وصنفاً عكسه ، فيلتحق بالشياطين . وصنفاً تغلب شهوته البهيمية عقله ، فيلتحق بالبهائم . والمقصود : أنه سبحانه أعطى الوجودين : العيني والعلمي ، فكما أنه لا موجود إلا بإيجاده ، فلا هداية إلا بتعليمه ، وذلك كله من الأدلة على كمال قدرته ، وثبوت وحدانيته ، وتحقيق ربوبيته ، سبحانه وتعالى .
وقوله : فمن شاء منهم إلى الجنة فضلاً منه ، ومن شاء منهم إلى النار عدلاً منه ، إلخ - مما يجب أن يعلم : أن الله تعالى لا يمنع الثواب إلا إذا منع سببه ، وهو العمل الصالح ، فإنه : من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما . وكذلك لا يعاقب أحداً إلا بعد حصول سبب العقاب ، فإن الله تعالى يقول : وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير . وهو سبحانه المعطي المانع ، لا مانع لما أعطى ، ولا معطي لما منع .
لكن إذا من على الإنسان بالإيمان والعمل الصالح ، فلا يمنعه موجب ذلك أصلاً ، بل يعطيه من الثواب والقرب ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وحيث منعه ذلك فلانتفاء سببه ، وهو العمل الصالح . ولا ريب أنه يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، لكن ذلك كله حكمة منه وعدل ، فمنعه للأسباب التي هي الأعمال الصالحة من حكمته وعدله . وأما المسببات بعد وجود أسبابها ، فلا يمنعها بحال ، إذا لم تكن أسباباً غير صالحة ، إما لفساد في العمل ، وإما لسبب يعارض موجبه ومقتضاه ، فيكون ذلك لعدم المقتضي ، أو لوجود المانع . وإذا كان منعه وعقوبته من عدم الإيمان والعمل الصالح ، وهو لم يعط ذلك ابتلاء وابتداء إلا حكمة منه وعدلاً . فله الحمد في الحالين ، وهو المحمود على كل حال ، كل عطاء منه فضل ، وكل عقوبة منه عدل ، فإن الله تعالى حكيم يضع الأشياء في مواضعها التي تصلح لها ، كما قال تعالى : وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته . وكما قال تعالى : وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين . ونحو ذلك . وسيأتي لذلك زيادة ، إن شاء الله تعالى .
قوله : والاستطاعة التي يجب بها الفعل
والاستطاعة التي يجب بها الفعل ، من نحو التوفيق الذي لا يجوز أن يوصف المخلوق به تكون مع الفعل
وأما الاستطاعة من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات - فهي قبل الفعل ، وبما يتعلق الخطاب ، وهو كما قال تعالى لا يكلف الله نفساً إلا وسعها .
ش : الإستطاعة والطاقة والقدرة والوسع ، ألفاظ متقاربة . وتنقسم الإستطاعة إلى قسمين ، كما ذكره الشيخ رحمه الله ، وهو قول عامة أهل السنة ، وهو الوسط . وقالت القدرية والمعتزلة : لا تكون القدرة إلا قبل الفعل . وقابلهم طائفة من أهل السنة فقالوا لا تكون إلا مع الفعل .
والذي قاله عامة أهل السنة : أن للعبد قدرة هي مناط الأمر والنهي ، وهذه قد تكون قبله ، لا يجب أن تكون معه ، والقدرة التي بها الفعل لا بد أن تكون مع الفعل ، لا يجوز أن يوجد الفعل بقدرة معدومة .
وأما القدرة التي من جهة الصحة والوسع ، والتمكن وسلامة الآلات - فقد تتقدم الأفعال . وهذه القدرة المذكورة في قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا . فأوجب الحج على المستطيع ، فلو لم يستطع إلا من حج لم يكن الحج قد وجب إلا على من حج ، ولم يعاقب أحداً على ترك الحج ! وهذا خلاف المعلوم بالضرورة من دين الإسلام . وكذلك قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم . فأوجب التقوى بحسب الاستطاعة ، فلو كان من لم يتق الله لم يستطع التقوى، لم يكن قد أوجب التقوى إلا على من اتقى ، ولم يعاقب من لم يتق ! وهذا معلوم الفساد. وكذا قوله تعالى : فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكيناً . والمراد منه استطاعة الأسباب والآلات وكذا ما حكاه سبحانه من قول المنافقين : لو استطعنا لخرجنا معكم . وكذبهم في ذلك القول ، ولو كانوا أرادوا الإستطاعة التي هي حقيقة قدرة الفعل - ما كانوا بنفيهم عن أنفسهم كاذبين ، وحيث كذبهم دل على أنهم أرادوا بذلك المرض أو فقد المال ، على ما بين تعالى بقوله : ليس على الضعفاء ولا على المرضى ، إلى أن قال : إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء . وكذلك قوله تعالى : ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم . والمراد : استطاعة الآلات والأسباب . ومن ذلك قول ﷺ لعمران بن حصين : صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب . إنما نفى استطاعة الفعل معها .
وأما ثبوت الإستطاعة التي هي حقيقة القدرة ، فقد ذكروا فيها قوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون . والمراد نفي حقيقة القدرة ، لا نفي الأسباب والآلات ، لأنها كانت ثابتة . وسيأتي لذلك زيادة بيان عند قوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم ، إن شاء الله تعالى . وكذا قول صاحب موسى : إنك لن تستطيع معي صبراً . وقوله : ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبراً . والمراد منه حقيقة قدرة الصبر ، لا أسباب الصبر وآلاته ، فإن تلك كانت ثابتة له ، ألا ترى أنه عاتبه على ذلك ؟ ولا يلام من عدم آلات الفعل وأسبابه على عدم الفعل ، وإنما يلام من امتنع من الفعل لتضييع قدرة الفعل ، لاشتغاله بغير ما أمر به ، أو لعدم شغله إياها بفعل ما أمر به . ومن قال : إن القدرة لا تكون إلا حين الفعل - يقولون : ان القدرة لا تصلح للضدين ، فإن القدرة المقارنة للفعل لا تصلح إلا لذلك الفعل ، وهي مستلزمة له ، لا توجد بدونه . وما قالته القدرية - بناء على أصلهم الفاسد ، وهو إقدار الله للمؤمن والكافر والبر والفاجر سواء ، فلا يقولون إن الله خص المؤمن المطيع بإعانة حصل بها الإيمان ، بل هذا بنفسه رجح الطاعة ، وهذا بنفسه رجح المعصية ! كالوالد الذي أعطى كل واحد من بنيه سيفاً ، فهذا جاهد به في سبيل الله ، وهذا قطع به الطريق - : وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر ، فإنهم متفقون على أن لله على عبده المطيع نعمة دينية ، خصه بها دون الكافر ، وأنه أعانه على الطاعة إعانة لم يعن بها الكافر . كما قال تعالى : ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون ، فالقدرية يقولون : إن هذا التحبيب والتزيين عام في كل الخلق ، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق . والآية تقتضي أن هذا خاص بالمؤمن ، ولهذا قال : أولئك هم الراشدون . والكفار ليسوا راشدين . وقال تعالى : فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون . وأمثال هذه الآية في القرآن كثير ، يبين أن سبحانه هدى هذا وأضل هذا . قال تعالى : من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً . وسيأتي لهذه المسألة زيادة بيان ، إن شاء الله تعالى .
وأيضاً فقول القائل : يرجح بلا مرجح - إن كان لقوله : يرجح ، معنى زائد على الفعل ، فذاك هو السبب المرجح ، وان لم يكن له معنى زائد كان حال الفاعل قبل وجود الفعل كحاله عند الفعل ، ثم الفعل حصل في إحدى الحالتين دون الأخرى بلا مرجح ! وهذا مكابرة للعقل ! ! فلما كان أصل قول القدرية أن فاعل الطاعات وتاركها كلاهما في الإعانة والإقدار سواء - امتنع على أصلهم أن يكون مع الفعل قدرة تخصه ، لأن القدرة التي تخص الفعل لا تكون للتارك ، وإنما تكون للفاعل ، ولا تكون القدرة إلا من الله تعالى . وهم لما رأوا أن القدرة لا بد أن تكون قبل الفعل ، قالوا : لا تكون مع الفعل ، لأن القدرة هي التي يكون بها الفعل والترك ، وحال وجود الفعل يمتنع الترك ، فلهذا قالوا : القدرة لا تكون إلا قبل الفعل ! وهذا باطل مطلقاً ، فإن وجود الأمر مع عدم بعض شروطه الوجودية ممتنع ، بل لا بد أن يكون جميع ما يتوقف عليه الفعل من الأمور الوجودية موجوداً عند الفعل . فنقيض قولهم حق ، وهو : أن الفعل لا بد أن يكون معه قدرة .
لكن صار أهل الإثبات هنا حزبين : حزب قالوا : لا تكون القدرة إلا معه ، ظناً منهم أن القدرة نوع واحد لا يصلح للضدين ، وظناً من بعضهم أن القدرة عرض ، فلا تبقى زمانين ، فيمتنع وجودها قبل الفعل . والصواب : أن القدرة نوعان كما تقدم : نوع مصحح للفعل ، يمكن معه الفعل والترك ، وهذه هي التي يتعلق بها الأمر والنهي ، وهذه تحصل للمطيع والعاصي ، وتكون قبل الفعل ، وهذه تبقى إلى حين الفعل ، إما بنفسها عند من يقول ببقاء الأعراض ، وإما بتجدد أمثالها عند من يقول إن الأعراض لا تبقى زمانين ، وهذه قد تصلح للضدين ، وأمر الله مشروط بهذه الطاقة ، فلا يكلف الله من ليس معه هذه الطاقة ، وضد هذه العجز، كما تقدم . وأيضاً : فالاستطاعة المشروطة في الشرع أخص من الاستطاعة التي يمتنع الفعل مع عدمها ، فإن الاستطاعة الشرعية قد تكون ما يتصور الفعل مع عدمها وإن لم يعجز عنه . فالشارع ييسر على عباده ، ويريد بهم اليسر ولا يريد بهم العسر ، وما جعل عليكم في الدين من حرج ، والمريض قد يستطيع القيام مع زيادة المرض وتأخر برئه ، فهذا في الشرع غير مستطيع ، لأجل حصول الضرر عليه ، وإن كان قد يسمى مستطيعاً . فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل ، بل ينظر إلى لوازم ذلك ، فإن كان الفعل ممكناً بالمفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية ، كالذي يقدر على الحج مع ضرر يلحقه في بدنه أو ماله ، أو يصلي قائماً مع زيادة مرضه ، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته ، ونحو ذلك . فإذا كان الشارع قد اعتبر في المكنة عدم المفسدة الراجحة ، فكيف يكلف مع العجز ؟ ولكن هذه الاستطاعة -مع بقائها إلى حين الفعل لا تكفي في وجود الفعل ، ولو كانت كافية لكان التارك كالفاعل ، بل لا بد من إحداث إعانة أخرى تقارن ، مثل جعل الفاعل مريداً ، فإن الفعل لا يتم إلا بقدرة واردة ، والاستطاعة المقارنة تدخل فيها الإرادة الجازمة ، بخلاف المشروطة في التكليف ، فإنه لا يشترط فيها الإرادة . فالله تعالى يأمر بالفعل من لا يريده ، لكن لا يأمر به من لو أراده لعجز عنه . وهكذا أمر الناس بعضهم لبعض ، فالإنسان يأمر عبده بما لا يريده العبد ، لكن لا يأمره بما يعجز عنه العبد ، وإذا اجتمعت الإرادة الجازمة والقوة التامة ، لزم وجود الفعل . وعلى هذا ينبني تكليف ما لا يطاق ، فإن من قال : القدرة لا تكون إلا مع الفعل -يقول : كل كافر وفاسق قد كلف ما لا يطيق . وما لا يطاق يفسر بشيئين : بما لا يطاق للعجز عنه ، فهذا لم يكلفه الله أحداً ، ويفسر بما لا يطاق للإشتغال بضده ، فهذا هو الذي وقع فيه التكليف ، كما في أمر العباد بعضهم بعضاً ، فإنهم يفرقون بين هذا وهذا ، فلا يأمر السيد عبده الأعمى بنقط المصاحف ! ويأمره إذا كان قاعداً أن يقوم ، ويعلم الفرق بين الأمرين بالضرورة .
قوله : وأفعال العباد هي خلق الله وكسب من العباد
ش : اختلف الناس في أفعال العباد الإختيارية . فزعمت الجبرية ورئيسهم الجهم بن صفوان السمرقندي : أن التدبير في أفعال الخلق كلها لله تعالى ، وهي كلها اضطرارية ، كحركات المرتعش ، والعروق النابضة ، وحركات الأشجار ، وإضافتها إلى الخلق مجاز ! وهي على حسب ما يضاف الشيء إلى محله دون ما يضاف إلى محصله ! وقابلتهم المعتزلة ، فقالوا : إن جميع الأفعال الإختيارية من جميع الحيوانات بخلقها ، لا تعلق لها بخلق الله تعالى . واختلفوا فيما بينهم : أن الله تعالى يقدر على أفعال العباد أم لا ؟!
وقال أهل الحق : أفعال العباد بها صاروا مطيعين وعصاة ، وهي مخلوقة لله تعالى ، والحق سبحانه وتعالى منفرد بخلق المخلوقات ، لا خالق لها سواه . فالجبرية غلوا في إثبات القدر ، فنفوا صنع العبد أصلاً ، كما عملت المشبهة في إثبات الصفات ، فشبهوا . والقدرية نفاة القدر جعلوا العباد خالقين مع الله تعالى . ولهذا كانوا مجوس هذه الأمة ، بل أردأ من المجوس ، من حيث إن المجوس أثبتوا خالقين ، وهم أثبتوا خالقين ! ! وهدى الله المؤمنين أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم . فكل دليل صحيح يقيمه الجبري ، فإنما يدل على أن الله خالق كل شيء ، وأنه على كل شيء قدير ، وأن أفعال العباد من جملة مخلوقاته ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يدل على أن العبد ليس بفاعل في الحقيقة ولا مريد ولا مختار ، وأن حركاته الإختيارية بمنزلة حركة المرتعش وهبوب الرياح وحركات الأشجار . وكل دليل صحيح يقيمه القدري فإنما يدل على أن العبد فاعل لفعله حقيقة ، وأنه مريد له مختار له حقيقة ، وأن إضافته ونسبته إليه إضافة حق ، ولا يدل على أنه غير مقدور لله تعالى وأنه واقع بغير مشيئته وقدرته . فإذا ضممت ما مع كل طائفة منهما من الحق إلى حق الأخرى - فإنما يدل ذلك على ما دل عليه القرآن وسائر كتب الله المنزلة ، من عموم قدرة الله ومشيئته لجميع ما في الكون من الأعيان والافعال ، وأن العباد فاعلون لأفعالهم حقيقة ، وأنهم يستوجبون عليها المدح والذم .
وهذا هو الواقع في نفس الأمر ، فإن أدلة الحق لا تتعارض ، والحق يصدق بعضه بعضاً . ويضيق هذا المختصر عن ذكر أدلة الفريقين ، ولكنها تتكافأ وتتساقط ، ويستفاد من دليل كل فريق بطلان قول الآخر . ولكن أذكر شيئاً مما استدل به كل من الفريقين ، ثم أبين أنه لا يدل على ما استدل عليه من الباطل :
فما استدلت به الجبرية ، قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى . فنفى الله عن نبيه الرمي ، وأثبته لنفسه سبحانه ، فدل على أنه لا صنع للعبد . قالوا : والجزاء غير مرتب على الأعمال ، بدليل قوله ﷺ : لن يدخل أحد الجنة بعمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل .
ومما استدل به القدرية ، قوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين . قالوا : والجزاء مرتب على الأعمال ترتب العوض ، كما قال تعالى : جزاء بما كانوا يعملون . وتلك الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون . ونحو ذلك .
فأما ما استدلت به الجبرية من قوله تعالى : وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى - فهو دليل عليهم ، لأنه تعالى أثبت لرسوله ﷺ رمياً ، بقوله : إذ رميت ، فعلم أن المثبت غير المنفي ، وذلك أن الرمي له ابتداء وانتهاء : فابتداؤه الحذف ، وانتهاؤه الإصابة ، وكل منهما يسمى رمياً ، فالمعنى حينئذ - والله تعالى أعلم : وما أصبت إذ حذفت ولكن الله أصاب . وإلا فطرد قولهم : وما صليت إذ صليت ولكن الله صلى ! وما صمت إذ صمت ! وما زنيت إذ زنيت ! وما سرقت إذ سرقت ! ! وفساد هذا ظاهر .
وأما ترتب الجزاء على الأعمال ، فقد ضلت فيه الجبرية والقدرية ، وهدى الله أهل السنة ، وله الحمد والمنة . فإن الباء التي في النفي غير الباء التي في الإثبات ، فالمنفي في قوله ﷺ : لن يدخل الجنة أحد بعمله - باء العوض ، وهو أن يكون العمل كالثمن لدخول الرجل إلى الجنة ، كما زعمت المعتزلة أن العامل مستحق دخول الجنة على ربه بعمله ! بل ذلك برحمة الله وفضله . والباء التي في قوله تعالى : جزاء بما كانوا يعملون وغيرها ، باء السبب ، أي بسبب عملكم ، والله تعالى هو خالق الأسباب والمسببات ، فرجع الكل إلى محض فضل الله ورحمته .
وأما استدلال المعتزلة بقوله تعالى : فتبارك الله أحسن الخالقين - فمعنى الآية : أحسن المصورين المقدرين . و الخلق يذكر ويراد به التقدير ، وهو المراد هنا ، بدليل قوله تعالى : الله خالق كل شيء ، أي الله خالق كل شيء مخلوق ، فخدلت أفعال العباد في عموم : كل . وما أفسد قولهم في إدخال كلام الله تعالى في عموم : كل ، الذي هو صفة من صفاته ، يستحيل عليه أن يكون مخلوقاً ! وأخرجوا أفعالهم التي هي مخلوقة من عموم : كل ! ! وهل يدخل في عموم : كل إلا ما هو مخلوق ؟ فذاته المقدسة وصفاته غير داخلة في هذا العموم ، ودخل سائر المخلوقات في عمومها . وكذا قوله تعالى : والله خلقكم وما تعملون . ولا نقول إن : ما مصدرية ، أي خلقكم وعملكم - إذ سياق الآية يأباه ، لأن إبراهيم عليه السلام إنما أنكر عليهم عبادة المنحوت ، لا النحت ، والآية تدل على أن المنحوت مخلوق لله تعالى ، وهو ما صار منحوتاً إلا بفعلهم ، فيكون ما هو من آثار فعلهم مخلوقاً لله تعالى ، ولو لم يكن النحت مخلوقاً لله تعالى لم يكن المنحوت مخلوقاً له ، بل الخشب أو الحجر لا غير . وذكر أبو الحسين البصري إمام المتأخرين من المعتزلة : أن العلم بأن العبد يحدث فعله - ضروري . وذكر الرازي أن افتقار الفعل المحدث الممكن إلى مرجح يجب وجوده عنده ويمتنع عنده عدمه - ضروري ، وكلاهما صادق فيما ذكره من العلم الضروري ، ثم ادعاء كل منهما أن هذا العلم الضروري يبطل ما ادعاه الآخر من الضرورة -غير مسلم ، بل كلاهما صادق فيما ادعاه من العلم الضروري ، وإنما وقع غلطه في إنكاره ما مع الآخر من الحق . فإنه لا منافاة بين كون العبد محدثاً لفعله وكون هذا الإحداث وجب وجوده بمشيئة الله تعالى، كما قال تعالى : ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها . فقوله : فألهمها فجورها وتقواها - إثبات للقدر بقوله : فألهمها ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه ، ليعلم أنها هي الفاجرة والمتقية . وقوله بعد ذلك : قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها - إثبات أيضاً لفعل العبد . ونظائر ذلك كثيرة .
وهذه شبهة أخرى من شبه القوم التي فرقتهم ، بل مزقتهم كل ممزق ، وهي : أنهم قالوا ؟ كيف يستقيم الحكم على قولكم بأن الله يعذب المكلفين على ذنوبهم وهو خلقها فيهم ؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو خالقه وفاعله فيهم ؟ وهذا السؤال لم يزل مطروقاً في العالم على ألسنة الناس ، وكل منهم يتكلم في جوابه بحسب علمه ومعرفته ، وعنه تفرقت بهم الطرق : فطائفة أخرجت أفعالهم عن قدرة الله تعالى ، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل ، وسدت باب السؤال . وطائفة أثبتت كسباً لا يعقل ! جعلت الثواب والعقاب عليه . وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ، ومفعول بين فاعلين ! وطائفة التزمت الجبر، وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه ! وهذا السؤال هو الذي أوجب التفرق والاختلاف .
والجواب الصحيح عنه ، أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب الوجودية ، وإن كانت خلقاً لله تعالى ، فهي عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب يكسب الذنب ، ومن عقاب السيئة السيئة بعدها . فالذنوب كالأمراض التي يورث بعضها بعضاً . يبقى أن يقال : فالكلام في الذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب ؟ يقال : هو عقوبة أيضاً على عدم فعل ما خلق له وفطر عليه ، فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على محبته وتأليهه والإنابة اليه ، كما قال تعالى : فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها . فإن لم يفعل ما خلق له وفطر عليه ، من محبة الله وعبوديته ، والإنابة إليه - عوقب على ذلك بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فإنه صادف قلباً خالياً قابلاً للخير والشر ، ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر ، كما قال تعالى : كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين . وقال إبليس : فبعزتك لأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين . وقال الله عز وجل : هذا صراط علي مستقيم * إن عبادي ليس لك عليهم سلطان . والإخلاص : خلوص القلب من تأليه ما سوى الله تعالى وإرادته ومحبته ، فخلص لله ، فلم يتمكن منه الشيطان . وأما إذا صادفه فارغاً من ذلك ، تمكن منه بحسب فراغه ، فيكون جعله مذنباً مسيئاً في هذه الحال عقوبة له على عدم هذا الإخلاص . وهي محض العدل .
فإن قلت : فذلك العدم من خلقه فيه ؟ قيل : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه ، لا يفتقر إلى تعلق التكوين والإحداث به ، فإن عدم الفعل ليس أمراً وجودياً حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو شر محض ، والشر ليس إلى الله سبحانه ، كما قال ﷺ في حديث الاستفتاح : لبيك وسعديك ، والخير كله في يديك ، والشر ليس إليك . وكذا في حديث الشفاعة يوم القيامة ، حين يقول الله له : يا محمد ، فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك . وقد أخبر الله تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين يتولونه والذين هم به مشركون ، فلما تولوه دون الله وأشركوا به معه - عوقبوا على ذلك بتسليطه عليهم ، وكانت هذه الولاية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص . فإلهام البر والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة على خلوه من الاخلاص .
فإن قلت : إن كان هذا الترك أمراً وجودياً عاد السؤال جذعاً ، وإن كان أمراً عدمياً فكيف يعاقب على العدم المحض ؟ قيل : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه ، فهذا قد يقال : إنه أمر وجودي ، وإنما هنا عدم وخلو من أسباب الخير ، وهذا العدم هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها ، والعقوبة على الأمر العدمي هي بفعل السيئات ، لا بالعقوبات التي تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل . فلله فيه عقوبتان : إحداهما : جعله مذنباً خاطئاً ، وهذه عقوبة عدم إخلاصه وإنابته وإقباله على الله ، وهذه العقوبة قد لا يحس بألمها ومضرتها ، لموافقتها شهوته وإرادته ، وهي في الحقيقة من أعظم العقوبات . والثانية : العقوبات المؤلمة بعد فعله للسيئات . وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله تعالى : فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء .
فهذه العقوبة الأولى ، ثم قال : حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة ، فهذه العقوبة الثانية .
فإن قيل : فهل كان يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده - من غير أن يخلق ذلك في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له منيبين له محبين له ؟ أم ذلك محض جعله في قلوبهم وإلقائه فيها ؟ قيل : لا ، بل هو محض منته وفضله ، وهو من أعظم الخير الذي هو بيده ، والخير كله في يديه ، ولا يقدر أحد أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ، ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه .
فإن قيل : فإذا لم يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ، ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم ، عاد السؤال ؟ وكان منعهم منه ظلماً ، ولزمكم القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه بما يشاء ، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ؟ قيل : لا يكون سبحانه بمنعهم من ذلك ظالماً ، وإنما يكون المانع ظالماً إذا منع غيره حقاً لذلك الغير عليه ، وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأوجب على نفسه خلافه . وأما إذا منع غيره ما ليس بحق له ، بل هو محض فضله ومنته عليه - لم يكن ظالماً بمنعه ، فمنع الحق ظلم ، ومنع الفضل والإحسان عدل . وهو سبحانه العدل في منعه ، كما هوالمحسن المنان بعطائه .
فإن قيل : فإذا كان العطاء والتوفيق إحساناً ورحمة ، فهلا كان العمل له والغلبة ، كما أن رحمته تغلب غضبه ؟ قيل : المقصود في هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة - ليس بظلم ، بل هو محض العدل . وهذا سؤال عن الحكمة التي أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ؟ وهلا سوى بين العباد في الفضل ؟ وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على الآخر؟ وقد تولى الله سبحانه الجواب عنه بقوله : ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . وقوله : لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم . ولما سأله اليهود والنصارى عن تخصيص هذه الأمة بأجرين وإعطائهم هم أجراً أجراً ، قال : هل ظلمتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا : لا، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء وليس في الحكمة إطلاع كل فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ، بل إذا كشف الله عن بصيرة العبد ، حتى أبصر طرفاً يسيراً من حكمته في خلقه ، وأمره وثوابه وعقابه ، وتخصيصه وحرمانه ، وتأمل أحوال محال ذلك ، استدل بما علمه على ما لم يعلمه . ولما استشكل أعداؤه المشركون هذا التخصيص ، قالوا : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ؟ قال تعالى مجيباً لهم : أليس الله بأعلم بالشاكرين . فتأمل هذا الجواب ، تر في ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة فتثمر بالشكر ، من المحل الذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها هناك ضائعاً لا يليق بالحكمة ، كما قال تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته .
فإن قيل : إذا حكمتم باستحالة الإيجاد من العبد ، فإذا لا فعل للعبد أصلاً ؟ قيل : العبد فاعل لفعله حقيقة ، وله قدرة حقيقة . قال تعالى : وما تفعلوا من خير يعلمه الله . فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ، وأمثال ذلك . وإذا ثبت كون العبد فاعلاً ، فأفعاله نوعان : نوع يكون منه من غير اقتران قدرته وإرادته ، فيكون صفة له ولا يكون فعلاً ، كحركات المرتعش . ونوع يكون منه مقارناً لإيجاد قدرته واختياره ، فيوصف بكونه صفة وفعلاً وكسباً للعبد ، كالحركات الإختيارية . والله تعالى هو الذي جعل العبد فاعلاً مختاراً ، وهو الذي يقدرعلى ذلك وحده لا شريك له . ولهذا أنكر السلف الجبر ، فإن الجبر لا يكون إلا من عاجز ، فلا يكون إلا مع الإكراه ، يقال : للأب ولاية إجبار البكر الصغيرة على النكاح ، وليس له إجبار الثيب البالغ ، أي : ليس له أن يزوجها مكرهة . والله تعالى لا يوصف بالإجبار بهذا الاعتبار ، لأنه سبحانه خالق الإرادة والمراد ، قادر على أن يجعله مختاراً بخلاف غيره . ولهذا جاء في ألفاظ الشارع . الجبل دون الجبر ، كما قال ﷺ لأشج عبد القبس : إن فيك لخلتين يحبهما الله : الحلم والأناة فقال : أخلقين تخلقت بهما ؟ أم خلقين جبلت عليهما ؟ فقال : بل خلقان جبلت عليهما فقال : الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله تعالى . والله تعالى إنما يعذب عبده على فعله الإختياري . والفرق بين العقاب على الفعل الإختياري وغير الإختياري مستقر في الفطر والعقول .
وإذا قيل : خلق الفعل مع العقوبة عليه ظلم ؟! كان بمنزلة أن يقال . خلق أكل السم ثم حصول الموت به ظلم ! ! فكما أن هذا سبب للموت ، فهذا سبب للعقوبة ، ولا ظلم فيهما .
فالحاصل : أن فعل العبد فعل له حقيقة ، ولكنه مخلوق لله تعالى ، ومفعول لله تعالى ، ليس هو نفس فعل الله . ففرق بين الفعل والمفعول ، والخلق والمخلوق . وإلى هذا المعنى أشار الشيخ رحمه الله بقوله : وأفعال العباد خلق الله وكسب من العباد - أثبت للعباد فعلاً وكسباً ، وأضاف الخلق لله تعالى . والكسب : هو الفعل الذي يعود على فاعله منه نفغ أو ضرر، كما قال تعالى : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .
قوله : ولم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ماكلفهم
وهو تفسير لا حول ولا قوة الا بالله ، نقول : لا حيلة لأحد ، ولا تحول لأحد ، ولا حركة لأحد عن معصية الله ، الا بمعونة الله ، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله والثبات عليها إلا بتوفيق الله ، وكل شيء يجري بمشيئة الله تعالى وعلمه وقضائه وقدره . غلبت مشيئته المشيئات كلها ، وعكست إرادته الإرادات كلها ، وغلب قضاؤه الحيل كلها . يفعل ما في يشاء ، وهو غير ظالم أبداً . لا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
ش : فقوله : لم يكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون -قال تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها . لا نكلف نفساً إلا وسعها . وعند أبي الحسن الأشعري أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً ، ثم تردد أصحابه أنه : هل ورد به الشرع أم لا ؟ واحتج من قال بوروده بأمر أبي لهب بالإيمان ، فإنه تعالى أخبر بأنه لا يؤمن ، وانه سيصلى ناراً ذات لهب ، فكان مأموراً بأن يؤمن بأنه لا يؤمن . وهذا تكليف بالجمع بين الضدين ، وهو محال . والجواب عن هذا بالمنع : فلا نسلم بأنه مأمور بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، والاستطاعة التي بها يقدر على الإيمان كانت حاصلة ، فهو غير عاجز عن تحصيل الإيمان ، فما كلف إلا ما يطيقه كما تقدم في تفسير الاستطاعة . ولا يلزم قوله تعالى للملائكة : نبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . مع عدم علمهم بذلك ، ولا للمصورين يوم القيامة : احيوا ما خلقتم ، وأمثال ذلك - لأنه ليس بتكليف طلب فعل يثاب فاعله ويعاقب تاركه ، بل هو خطاب تعجيز. وكذا لا يلزم دعاء المؤمنين في قوله تعالى : ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، لأن تحميل ما لا يطاق ليس تكليفاً ، بل يجوز أن يحمله جبلاً لا يطيقه فيموت . وقال ابن الأنباري : أي لا تحملنا ما يثقل علينا أداؤه وإن كنا مطيقين له على تجشم وتحمل مكروه ، قال : فخاطب العرب على حسب ما تعقل ، فإن الرجل منهم يقول للرجل يبغضه : ما أطيق النظر إليك ، وهو مطيق لذلك ، لكنه يثقل عليه . ولا يجوز في الحكمة أن يكلفه بحمل جبل بحيث لو فعل يثاب ولو امتنع يعاقب ، كما أخبر سبحانه عن نفسه أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها .
ومنهم من يقول : يجوز تكليف الممتنع عادة ، دون الممتنع لذاته ، لأن ذلك لا يتصور وجوده ، فلا يعقل الأمر به ، بخلاف هذا .
ومنهم من يقول : ما لا يطاق للعجز عنه لا يجوز تكليفه ، بخلاف ما لا يطاق للاشتغال بضده ، فإنه يجوز تكليفه . وهؤلاء موافقون للسلف والأئمة في المعنى ، لكن كونهم جعلوا ما يتركه العبد لا يطاق لكونه تاركاً له مشتغلاً بضده - بدعة في الشرع واللغة . فإن مضمونه أن فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه ! وهم التزموا هذا ، لقولهم : إن الطاقة - التي هي الاستطاعة وهي القدرة - لا تكون إلا مع الفعل ! فقالوا : كل من لم يفعل فعلاً فإنه لا يطيقه ! وهذا خلاف الكتاب والسنة وإجماع السلف ، وخلاف ما عليه عامة العقلاء ، كما تقدمت الإشارة إليه عند ذكر الاستطاعة .
وأما ما لا يكون إلا مقارناً للفعل ، فذلك ليس شرطاً في التكليف ، مع أنه في الحقيقة إنما هناك إرادة الفعل . وقد يحتجون بقوله تعالى : ما كانوا يستطيعون السمع . إنك لن تستطيع معي صبراً . وليس في ذلك إرادة ما سموه استطاعة ، وهو ما لا يكون إلا مع الفعل ، فإن الله ذم هؤلاء على كونهم لا يستطيعون السمع ، ولو أراد بذلك المقارن لكان جميع الخلق لا يستطيعون السمع قبل السمع ! فلم يكن لتخصيص هؤلاء بذلك معنى ، ولكن هؤلاء لبغضهم الحق وثقله عليهم ، إما حسداً لصاحبه ، وإما اتباعاً للهوى - لا يستطيعون السمع . وموسى عليه السلام لا يستطيع الصبر ، لمخالفة ما يراه لظاهر الشرع ، وليس عنده منه علم . وهذه لغة العرب وسائر الأمم ، فمن يبغض غيره يقال : إنه لا يستطيع الإحسان إليه ، ومن يحبه يقال : إنه لا يستطيع عقوبته ، لشدة محبته له ، لا لعجزه عن عقوبته ، فيقال ذلك للمبالغة ، كما تقول : لأضربنه حتى يموت ، والمراد الضرب الشديد . وليس هذا عذراً ، فلو لم يأمر العباد إلا بما يهوونه لفسدت السماوات والأرض ، قال تعالى : ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن .
وقوله : ولا يطيقون إلا ما كلفهم به ، إلى آخر كلامه - أي : ولا يطيقون إلا ما أقدرهم عليه . وهذه الطاقة هي التي من نحو التوفيق ، لا التي من جهة الصحة والوسع والتمكن وسلامة الآلات ، و لا حول ولا قوة إلا بالله - دليل على إثبات القدر . وقد فسرها الشيخ بعدها . ولكن في كلام الشيخ إشكال : فإن التكليف لا يستعمل بمعنى الإقدار ، وإنما يستعمل بمعنى الأمر والنهي ، وهو قد قال : لا يكلفهم إلا ما يطيقون ، ولا يطيقون إلا ما كلفهم . وظاهره أنه يرجع إلى معنى واحد ، ولا يصح ذلك ، لأنهم يطيقون فوق ما كلفم به ، لكنه سبحانه يريد بعباده اليسر والتخفيف ، كما قال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر . وقال تعالى : يريد الله أن يخفف عنكم . وقال تعالى : وما جعل عليكم في الدين من حرج . فلو زاد فيما كلفنا به لأطقناه ، ولكنه تفضل علينا ورحمنا ، وخفف عنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج . ويجاب عن هذا الإشكال بما تقدم : أن المراد الطاقة التي من نحو التوفيق ، لا من جهة التمكن وسلامة الآلات ، ففي العبارة قلق ، فتأمله .
وقوله : وكل شيء يجري بمشيئة الله وعلمه وقضائه وقدره - يريد بقضائه القضاء الكوني لا الشرعي ، فإن القضاء يكون كونياً وشرعياً ، وكذلك الإرادة والأمر والإذن والكتاب والحكم والتحريم والكلمات ، ونحو ذلك . أما القضاء الكوني ، ففي قوله تعالى : فقضاهن سبع سماوات في يومين . والقضاء الديني الشرعي ، في قوله تعالى : وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه . وأما الإرادة الكونية والدينية ، فقد تقدم ذكرها عند قول الشيخ : ولا يكون إلا ما يريد . وأما الأمر الكوني ، ففي قوله تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . وكذا قوله تعالى : وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً ، في أحد الأقوال ، وهو أقواها . والأمر الشرعي ، في قوله تعالى : إن الله يأمر بالعدل والإحسان الآية . وقوله : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها . وأما الإذن الكوني ، ففي قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله . والإذن الشرعي ، في قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله . وأما الكتاب الكوني ، ففي قوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب ، إن ذلك على الله يسير . وقوله تعالى : ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون . والكتاب الشرعي الديني ، في قوله تعالى : وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس . يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام . وأما الحكم الكوني ، ففي قوله تعالى عن ابن يعقوب عليه السلام : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين . وقوله تعالى : قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون . والحكم الشرعي ، في قوله تعالى : أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد . وقال تعالى : ذلكم حكم الله يحكم بينكم . وأما التحريم الكوني ، ففي قوله تعالى : قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض . وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون . والتحريم الشرعي ، في قوله : حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير . و حرمت عليكم أمهاتكم الآية . وأما الكلمات الكونية ، ففي قوله تعالى : وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا . وفي قوله ﷺ : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر .
والكلمات الشرعية الدينية ، في قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن .
وقوله : يفعل ما يشاء ، وهو غير ظالم أبداً - الذي دل عليه القرآن من تنزيه الله نفسه عن ظلم العباد ، يقتضي قولاً وسطاً بين قولي القدرية والجبرية ، فليس ما كان من بني آدم ظلماً وقبيحاً يكون منه ظلماً وقبيحاً ، كما تقوله القدرية والمعتزلة ونحوهم ! فإن ذلك تمثيل لله بخلقه ! وقياس له عليهم ! هو الرب الغني القادر، وهم العباد الفقراء المقهورون . وليس الظلم عبارة عن الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة ، كما يقوله من يقوله من المتكلمين وغيرهم ، يقولون : إنه يمتنع أن يكون في الممكن المقدور ظلم ! بل كان ما كان ممكناً فهو منه - لو فعله - عدل ، إذ الظلم لا يكون إلا من مأمور من غيره منهي ، والله ليس كذلك . فإن قوله تعالى : ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً ، وقوله تعالى : ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد ، وقوله تعالى : وما ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمين ، وقوله تعالى : ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً ، وقوله تعالى : اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب . يدل على نقيض هذا القول .
ومنه قوله الذي رواه عنه رسوله : يا عبادي ، إني حرمت الظلم على نفسي ، وجعلته بينكم محرماً ، فلا تظالموا . فهذا دل على شيئين : أحدهما : أنه حرم على نفسه الظلم ، والممتنع لا يوصف بذلك . الثاني : أنه أخبر أنه حرمه على نفسه ، كما أخبر أنه كتب على نفسه الرحمة ، وهذا يبطل احتجاجهم بأن الظلم لا يكون إلا من مأمور منهي ، والله ليس كذلك . فيقال لهم : هو سبحانه كتب على نفسه الرحمة ، وحرم على نفسه الظلم ، وإنما كتب على نفسه وحرم على نفسه ما هو قادر عليه ، لا ما هو ممتنع عليه .
وأيضاً : فإن قوله : فلا يخاف ظلماً ولا هضماً - قد فسره السلف ، بأن الظلم : أن توضع عليه سيئات غيره ، والهضم : أن ينقص من حسناته ، كما قال تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى .
وأيضاً فإن الإنسان لا يخاف الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة حتى يأمن من ذلك ، وإنما يأمن مما يمكن ، فلما آمنه من الظلم بقوله : فلا يخاف - علم أنه ممكن مقدور عليه . وكذا قوله : لا تختصموا لدي ، إلى قوله : وما أنا بظلام للعبيد - لم يعن بها نفي ما لا يقدر عليه ولا يمكن منه ، وإنما نفى ما هو مقدور عليه ممكن ، وهو أن يجزوا بغير أعمالهم . فعلى قول هؤلاء ليس الله منزهاً عن شيء من الأفعال أصلاً ، ولا مقدساً عن أن يفعله ، بل كل ممكن فإنه لا ينزه عن فعله ، بل فعله حسن ، ولا حقيقة للفعل السوء، بل ذلك ممتنع ، والممتنع لا حقيقة له ! ! والقرآن يدل على نقيض هذا القول ، في مواضع ، نزه الله نفسه فيها عن فعل ما لا يصلح له ولا ينبغي له ، فعلم أنه منزه مقدس عن فعل السوء والفعل المعيب المذموم ، كما أنه منزه مقدس عن وصف السوء والوصف المعيب المذموم . وذلك كقوله تعالى : أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون . فإنه نزه نفسه عن خلق الخلق عبثاً ، وأنكر على من حسب ذلك ، وهذا فعل . وقوله تعالى : أفنجعل المسلمين كالمجرمين . وقوله تعالى : أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار - إنكار منه على من جوز أن يسوي الله بين هذا وهذا . وكذا قوله : أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون - إنكار على من حسب أنه يفعل هذا ، وإخبار أن هذا حكم سيء قبيح ، وهو مما ينزه الرب عنه .
وروى أبو داود ، و الحاكم في المستدرك ، من حديث ابن عباس ، و عبادة بن الصامت ، و زيد بن ثابت ، عن النبي ﷺ : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم . وهذا الحديث مما يحتج به الجبرية ، وأما القدرية فلا يتأتى على أصولهم الفاسدة ! ولهذا قابلوه إما بالتكذيب أو بالتأويل ! ! وأسعد الناس به أهل السنة ، الذين قابلوه بالتصديق ، وعلموا من عظمة الله وجلاله ، قدر نعم الله على خلقه ، وعدم قيام الخلق بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزاً ، وإما جهلاً ، وإما تفريطاً وإضاعة ، وإما تقصيراً في المقدور من الشكر، ولو من بعض الوجوه . فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، وتكون قوة الحب والإنابة ، والتوكل والخشية والمراقبة والخوف والرجاء - : جميعها متوجهة إليه ، ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفاً على محبته وتأليهه ، بل على إفراده بذلك ، واللسان محبوساً على ذكره ، والجوارح وقفاً على طاعته . ولا ريب أذ هذا مقدور في الجملة ، ولكن النفوس تشح به ، وهي في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله تعالى . وأكثر المطيعين تشح به نفسه من وجه ، وإن أتى به من وجه آخر. فأين الذي لا تقع منه إرادة تزاحم مراد الله وما يحبه منه ؟ ومن ذا الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ، ولو في وقت من الأوقات ؟ فلو وضع الرب سبحانه عدله على أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم بعدله ، ولم يكن ظالماً لهم . وغاية ما يقدر، توبة العبد من ذلك واعترافه ، وقبول التوبة محض فضله وإحسانه ، وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالماً ولو قدر أنه تاب منها . لكن أوجب على نفسه - بمقتضى فضله ورحمته - أنه لا يعذب من تاب ، وقد كتب على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد منهم أن ينجو به من النار ، أو يدخل الجنة ، كما قال أطوع الناس لربه ، وأفضلهم عملاً ، وأشدهم تعظيماً لربه وإجلالاً : لن ينجي أحداً منكم عمله ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل وسأله الصديق دعاء يدعو به صلاته ، فقال : قل : اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني ، إنك الغفور الرحيم . فإذا كان هذا حال الصديق ، الذي هو أفضل الناس بعد الأنبياء والمرسلين - فما الظن بسواه ؟ بل إنما صار صديقاً بتوفيته هذا المقام حقه ، الذي يتضمن معرفة ربه ، وحقه وعظمته ، وما ينبغي له ، وما يستحقه على عبده ، ومعرفة تقصيره . فسحقاً وبعداً لمن زعم أن المخلوق يستغني عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ! وليس وراء هذا الجهل بالله وحقه غاية ! ! فإن لم يتسع فهمك لهذا ، فانزل إلى وطأة النعيم ، وما عليها من الحقوق ، ووازن من شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه سبحانه لو عذب أهل سماواته وأرضه ، لعذبهم وهو غير ظالم لهم .
قوله : وفي دعاء الأحياء وصدقاتهم للأموات
ش : اتفق أهل السنة أن الأموات ينتفعون من سعي الأحياء بأمرين : أحدهما : ما تسبب إليه الميت في حياته . والثاني : دعاء المسلمين واستغفارهم له ، والصدقة والحج ، على نزاع فيما يصل إليه من ثواب الحج : فعن محمد بن الحسن : أنه إنما يصل إلى الميت ثواب النفقة ، والحج للحاج . وعند عامة العلماء : ثواب الحج للمحجوج عنه ، وهو الصحيح . واختلف في العبادات البدنية ، كالصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر : فذهب أبو حنيفة و أحمد وجمهور السلف إلى وصولها ، والمشهور من مذهب الشافعي و مالك عدم وصولها . وذهب بعض أهل البدع من أهل الكلام إلى عدم وصول شيء البتة ، لا الدعاء ولا غيره . وقولهم مردود بالكتاب والسنة ، لكنهم استدلوا بالمتشابه من قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . وقوله : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون . قوله : لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت . وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو ولد صالح يدعو له ، أوعلم ينتفع به من بعده . فأخبر أنه إنما ينتفع بما كان تسبب فيه في الحياة ، وما لم يكن تسبب فيه في الحياة فهو منقطع عنه . واستدل المقتصرون على وصول العبادات التي لا تدخلها النيابة بحال ، كالإسلام والصلاة والصوم وقراءة القرآن ، وأنه يختص ثوابها بفاعله لا يتعداه ، كما أنه في الحياة لا يفعله أحد عن أحد ، ولا ينوب فيه عن فاعله غيره - بما روى النسائي بسنده ، عن ابن عباس ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : لا يصلي أحد عن أحد ، ولا يصوم أحد عن أحد ، ولكن يطعم عنه مكان كل يوم مداً من حنطة .
والدليل على انتفاع الميت بغير ما تسبب فيه ، الكتاب والسنة والإجماع والقياس الصحيح . أما الكتاب ، فقال تعالى : والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان . فأثنى عليهم باستغفارهم للمؤمنين قبلهم ، فدل على انتفاعهم باستغفار الأحياء . وقد دل على انتفاع الميت بالدعاء إجماع الأمة على الدعاء له في صلاة الجنازة ، والأدعية التي وردت بها السنة في صلاة الجنازة مستفيضة . وكذا الدعاء له بعد الدفن ، ففي سنن أبي داود ، من حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه ، قال : كان النبي ﷺ إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه فقال : استغفروا لأخيكم ، واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل . وكذلك الدعاء لهم عند زيارة قبورهم ، كما في صحيح مسلم ، من حديث بريدة بن الحصيب ، قال : كان رسول الله ﷺ يعلمهم اذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا : السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، نسأل الله لنا ولكم العافية . وفي صحيح مسلم أيضاً ، عن عائشة رضي الله عنها : سألت النبي ﷺ : كيف تقول إذا استغفرت لأهل القبور ؟ قال : قولي : السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون .
وأما وصول ثواب الصدقة ، ففي الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا أتى النبي ﷺ، فقال : يا رسول الله ، إن أمي افتلتت نفسها ، ولم توص ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، أفلها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : نعم . وفي صحيح البخاري ، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أن سعد بن عبادة توفيت أمه وهو غائب عنها فأتى النبي ﷺ ، فقال : يا رسول الله ، إن أمي توفيت وأنا غائب عنها ، فهل ينفعها إن تصدقت ؟ قال : نعم ، قال : فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عنها . وأمثال ذلك كثيره في السنة .
وأما وصول ثواب الصوم ، ففي الصحيحين ، عن عائشة رضي الله عنها ، أن رسول الله ﷺ قال : من مات وعليه صيام صام عنه وليه . وله نظائر في الصحيح . ولكن أبو حنيفة رحمه الله قال بالإطعام عن الميت دون الصيام عنه ، لحديث ابن عباس المتقدم . والكلام على ذلك معروف في كتب الفروع .
وأما وصول ثواب الحج ، ففي صحيح البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن امرأة من جهينة جاءت الى النبي صص ، فقالت : إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت ، أفأحج عنها ؟ قال : حجي عنها ، أرأيت لو كان على أمك دين ، أكنت قاضيته ؟ اقضوا الله ، فالله أحق بالوفاء . ونظائره أيضاً كثيرة . واجتمع المسلمون على أن قضاء الدين يسقطه من ذمة الميت ، ولو كان من أجنبي ، ومن غير تركته . وقد دل على ذلك حديث أبي قتادة ، حيث ضمن الدينارين عن الميت ، فلما قضاهما قال النبي ﷺ : الآن بردت عليه جلدته . وكل ذلك جار على قواعد الشرع . وهو محض القياس ، فإن الثواب حق العامل ، فإذا وهبه لأخيه المسلم لم يمنع من ذلك ، كما لم يمنع من هبة ماله في حياته ، وإبرائه له منه بعد وفاته . وقد نبه الشارع بوصول ثواب الصوم على وصول ثواب القراءة ونحوها من العبادات البدنية . يوضحه : أن الصوم كف النفس عن المفطرات بالنية ، وقد نص الشارع على وصول ثوابه إلى الميت ، فكيف بالقراءة التي هي عمل ونية ؟!
والجواب عما استدلوا به من قوله تعالى : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى - قد أجاب العلماء بأجوبة : أصحها جوابان :
أحدهما : أن الإنسان بسعيه وحسن عشرته اكتسب الأصدقاء ، وأولد الأولاد ، ونكح الأزواج ، وأسدى الخير وتودد إلى الناس ، فترحموا عليه ، ودعوا له ، وأهدوا له ثواب الطاعات ، فكان ذلك أثر سعيه ، بل دخول المسلم مع جملة المسلمين في عقد الإسلام من أعظم الأسباب في وصول نفع كل من المسلمين إلى صاحبه ، في حياته وبعد مماته ، ودعوة المسلمين تحيط من ورائهم . يوضحه : أن الله تعالى جعل الإيمان سبباً لانتفاع صاحبه بدعاء إخوانه من المؤمنين وسعيهم ، فإذا أتى به فقد سعى في السبب الذي يوصل إليه ذلك .
الثاني ، وهو أقوى منه - : أن القرآن لم ينف انتفاع الرجل بسعي غيره وإنما نفى ملكه لغير سعيه ، وبين الأمرين فرق لا يخفى . فأخبر تعالى أنه لا يملك إلا سعيه ، وأما سعي غيره فهو ملك لساعيه ، فإن شاء أن يبدله لغيره ، وإن شاء أن يبقيه لنفسه .
وقوله سبحانه : ألا تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للإنسان إلا ما سعى . آيتان محكمتان ، مقتضيتان عدل الرب تعالى : فالأولى تقتضي أنه لا يعاقب أحداً بجرم غيره ، ولا يؤاخذه بجريرة غيره ، كما يفعله ملوك الدنيا . والثانية تقتضي أنه لا يفلح إلا بعمله ، لينقطع طمعه من نجاته بعمل آبائه وسلفه ومشايخه ، كما عليه أصحاب الطمع الكاذب ، وهو سبحانه لم يقل لا ينتفع إلا بما سعى .
وكذلك قوله تعالى : لها ما كسبت . وقوله : ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون . على أن سياق هذه الآية يدل على أن المنفي عقوبة العبد بعمل غيره ، فإنه تعالى قال : فاليوم لا تظلم نفس شيئاً ، ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون .
وأما استدلالهم بقوله ﷺ : إذا مات ابن آدم انقطع عمله فاستدلال ساقط ، فإنه لم يقل انقطاع انتفاعه ، وإنما أخبر عن انقطاع عمله . وأما عمل غيره فهو لعامله ، فإن وهبه له وصل إليه ثواب عمل العامل ، لا ثواب عمله هو ، وهذا كالدين يوفيه الإنسان عن غيره ، فتبرأ ذمته ، ولكن ليس له ما وفى به الدين .
وأما تفريق من فرق بين العبادات المالية والبدنية - فقد شرع النبي ﷺ عن الميت ، كما تقدم ، مع أن الصوم لا تجزىء فيه النيابة، وكذلك حديث جابر رضي الله عنه ، قال : صليت مع رسول الله ﷺ عيد الاضحى ، فلما انصرف أتى بكبش فذبحه ، فقال : بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي ، رواه أحمد و أبو داود و الترمذي ، وحديث الكبشين اللذين قال في أحدهما : اللهم هذا عن أمتي جميعاً ، وفي الآخر : اللهم هذا عن محمد وآل محمد ، رواه أحمد . والقربة في الاضحية إراقة الدم ، وقد جعلها لغيره .
وكذلك عبادة الحج بدنية ، وليس المال ركناً فيه ، وإنما هو وسيلة ، ألا ترى أن المكي يجب عليه الحج إذا قدر على المشي إلى عرفات ، من غير شرط المال . وهذا هو الأظهر ، أعني أن الحج غير مركب من مال وبدن ، بل بدني محض ، كما قد نص عليه جماعة من أصحاب أبي حنيفة المتأخرين . وانظر إلى فروض الكفايات : كيف قام فيها البعض عن الباقين ؟ ولأن هذا إهداء ثواب ، وليس من باب النيابة ، كما أن الأجير الخاص ليس له أن يستنيب عنه ، وله أن يعطي أجرته لمن شاء .
وأما استئجار قوم يقرؤون القرآن ويهدونه للميت ! ! فهذا لم يفعله أحد من السلف ولا أمر به أحد من أئمة الدين ، ولا رخص فيه . والاستئجار على نفس التلاوة غير جائز بلا خلاف . وإنما اختلفوا في جواز الاستئجار على التعليم ونحوه ، مما فيه منفعة تصل إلى الغير. والثواب لا يصل إلى الميت إلا إذا كان العمل لله ، وهذا لم يقع عبادة خالصة ، فلا يكون له من ثوابه ما يهدى إلى الموتى ! ! ولهذا لم يقل أحد أنه يكتري من يصوم ويصلي ويهدي ثواب ذلك إلى الميت ، لكن إذا أعطى لمن يقرأ القرآن ويعلمه ويتعلمه معونة لأهل القرآن على ذلك ، كان هذا من جنس الصدقة عنه ، فيجوز . وفي الاختيار : لو أوصى بأن يعطى شيء من ماله لمن يقرأ القرآن على قبره ، فالوصية باطلة ، لأنه في معنى الأجرة ، انتهى . وذكر الزاهدي في الغنية : أنه لو وقف على من يقرأ عند قبره ، فالتعيين باطل .
وأما قراءة القرآن وإهداؤها له تطوعاً بغير أجرة ، فهذا يصل إليه ، كما يصل ثواب الصوم والحج . فإن قيل : هذا لم يكن معروفاً في السلف ، ولا أرشدهم إليه النبي ﷺ ؟ فالجواب : إن كان مورد هذا السؤال معترفا بوصول ثواب الحج والصيام والدعاء ، قيل له : ما الفرق بين ذلك وبين وصول ثواب قراءة القرآن ؟ وليس كون السلف لم يفعلوه حجة في عدم الوصول ، ومن أين لنا هذا النفي العام ؟ فإن قيل : فرسول الله ﷺ أرشدهم إلى الصوم والحج والصدقة دون القراءة ؟ قيل : هو ﷺ لم يبتدئهم بذلك ، بل خرج ذلك منه مخرج الجواب لهم ، فهذا سأله عن الحج عن ميته فأذن له فيه ، وهذا سأله عن الصوم عنه ، فأذن له فيه ، ولم يمنعهم مما سوى ذلك ، وأي فرق بين وصول ثواب الصوم - الذي هو مجرد نية وإمساك - وبين وصول ثواب القراءة والذكر ؟ فإن قيل : ما تقولون في الإهداء إلى رسول ﷺ ؟
قيل : من المتأخرين من استحبه ، ومنهم من رآه بدعة ، لأن الصحابة لم يكونوا يفعلونه ، ولأن النبي ﷺ له مثل أجر كل من عمل خيراً من أمته ، من غير أن ينقص من أجر العامل شيء ، لأنه هو الذي دل أمته على كل خير، وأرشدهم إليه .
ومن قال : إن الميت ينتفع بقراءة القرآن عنده ، باعتبار سماعه كلام الله - فهذا لم يصح عن أحد من الأئمة المشهورين . ولا شك في سماعه ، ولكن انتفاعه بالسماع لا يصح ، فإن ثواب الاستماع مشروط بالحياة ، فإنه عمل اختياري ، وقد انقطع بموته ، بل ربما يتضرر ويتألم ، لكونه لم يمتثل أوامر الله ونواهيه ، أو لكونه لم يزدد من الخير .
واختلف العلماء في قراءة القرآن عند القبور، على ثلاثة أقوال : هل تكره ، أم لا بأس بها وقت الدفن ، وتكره بعده ؟ فمن قال بكراهتها ، كأبي حنيفة و مالك و أحمد في رواية - قالوا : لأنه محدث ، لم ترد به السنة ، والقراءة تشبه الصلاة ، والصلاة عند القبور منهي عنها ، فكذلك القراءة. ومن قال : لا بأس بها ، كمحمد بن الحسن و أحمد في رواية - استدلوا بما نقل عن ابن عمر رضي الله عنه : أنه أوصى أن يقرأ على قبره وقت الدفن بفواتح سورة البقرة وخواتمها . ونقل أيضاً عن بعض المهاجرين قراءة سورة البقرة . ومن قال : لا بأس بها وقت الدفن فقط ، وهو رواية عن أحمد - أخذ بما نقل عن عمر وبعض المهاجرين . وأما بعد ذلك ، كالذين يتناوبون القبر للقراءة عنده - فهذا مكروه ، فإنه لم تأت به السنة ، ولم ينقل عن أحد من السلف مثل ذلك أصلاً . وهذا القول لعله أقوى من غيره ، لما فيه من التوفيق بين الدليلين .
قوله : والله تعالى يستجيب الدعوات ، ويقضي الحاجات
ش : قال تعالى : وقال ربكم ادعوني أستجب لكم . وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان . والذي عليه أكثر الخلق من المسلمين وسائر أهل الملل وغيرهم - : أن الدعاء من أقوى الأسباب في جلب المنافع ودفع المضار ، وقد أخبر تعالى عن الكفار أنهم إذا مسهم الضر في البحر دعوا الله مخلصين له الدين ، وأن الإنسان إذا مسه الضر دعاه لجنبه أو قاعداً أو قائماً . وإجابة الله لدعاء العبد ، مسلماً كان أو كافراً ، وإعطاؤه سؤله - : من جنس رزقه لهم ، ونصره لهم . وهو مما توجبه الربوبية للعبد مطلقاً ، ثم قد يكون ذلك فتنة في حقه ومضرة عليه ، إذ كان كفره وفسوقه يقتضي ذلك . وفي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ﷺ : من لم يسأل الله يغضب عليه . وقد نظم بعضهم هذا المعنى ، فقال :
الرب يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
قال ابن عقيل : قد ندب الله تعالى إلى الدعاء ، وفي ذلك معان : أحدها : الوجود ، فإن ليس بموجود لا يدعى . الثاني : الغنى ، فإن الفقير لا يدعى . الثالث : السمع ، فإن الأصم لا يدعى . الرابع : الكرم ، فإن البخيل لا يدعى . الخامس : الرحمة ، فإن القاسي لا يدعى . السادس : القدرة ، فإن العاجز لا يدعى . ومن يقول بالطبائع يعلم أن النار لا يقال لها : كفي ! ولا النجم يقال له : أصلح مزاجي ! ! لأن هذه عندهم مؤثرة طبعاً لا اختياراً ، فشرع الدعاء وصلاة الاستسقاء ليبين كذب أهل الطبائع .
وذهب قوم من المتفلسفة وغالية المتصوفة الى أن الدعاء لا فائدة فيه ! قالوا : لأن المشيئة الإلهية إن اقتضت وجود المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن لم تقتضه فلا فائدة في الدعاء ! ! وقد يخص بعضهم بذلك خواصن العارفين ! ويجعل الدعاء علة في مقام الخواص ! ! وهذا من غلطات بعض الشيوخ . فكما أنه معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام - فهو معلوم الفساد بالضرورة العقلية ، فإن منفعة الدعاء أمر أنشئت عليه تجارب الأمم ، حتى إن الفلاسفة تقول : ضجيج الأصوات في هياكل العبادات ، بفنون اللغات ، يحلل ما عقدته الأفلاك المؤثرات ! ! هذا وهم مشركون .
وجواب الشبهة بمنع المقدمتين : فإن قولهم عن المشيئة الإلهية : إما أن تقتضيه أولا - فـ ثم قسم ثالث ، وهو : أن تقتضيه بشرط لا تقتضيه مع عدمه ، وقد يكون الدعاء من شرطه ، كما توجب الثواب مع العمل الصالح ، ولا توجبه مع عدمه ، وكما توجب الشبع والري عند الأكل واثرب ، ولا توجبه مع عدمهما ، وحصول الولد بالوطء ، والزرع بالبذر. فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال لا فائدة في الدعاء ، كما لا يقال لا فائدة في الأكل والشرب والبذر وسائر الأسباب . فقول هؤلاء - كما أنه مخالف للشرع ، فهو مخالف للحس والفطرة .
ومما ينبغي أن يعلم ، ما قاله طائفة من العلماء ، وهو : أن الإلتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ! ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب كالكلية قدح في الشرع . ومعنى التوكل والرجاء ، يتألف من وجوب التوحيد والعقل والشرع .
وبيان ذلك : أن الإلتفات إلى السبب هو اعتماد القلب عليه ورجاؤه والإستناد إليه . وليس في المخلوقات ما يستحق هذا ، لأنه ليس بمستقل ، ولا بد له من شركاء وأضداد مع هذا كله ، فإن لم يسخره مسبب الأسباب لم يسخر .
وقولهم : إن اقتضت المشيئة المطلوب فلا حاجة إلى الدعاء ؟ قلنا : بل قد تكون إليه حاجة ، من تحصيل مصلحة أخرى عاجلة وآجلة ، ودفع مضرة أخرى عاجلة وآجلة . وكذلك قولهم : وإن لم تقتضه فلا فائدة فيه ؟ قلنا : بل فيه فوائد عظيمة ، من جلب منافع ، ودفع مضار ، كما نبه عليه النبي ﷺ ، بل ما يعجل للعبد ، من معرفته بربه ، وإقراره به ، وبأنه سميع قريب قدير عليم رحيم ، وإقراره بفقره إليه واضطراره إليه ، وما يتبع ذلك من العلوم العلية والأحوال الزكية ، التي هي من أعظم المطالب . فإن قيل : إذا كان إعطاء الله معللاً بفعل العبد ، كما يفعل من إعطاء المسؤول للسائل ، كان السائل قد أثر في المسؤول حتى أعطاه ؟ ! قلنا : الرب سبحانه هو الذي حرك العبد إلى دعائه ، فهذا الخير منه ، وتمامه عليه . كما قال عمر رضي الله عنه : إني لا أحمل هم الإجابة ، وإنما أحمل هم الدعاء ، ولكن إذا ألهمت الدعاء فإن الإجابة معه . وعلى هذا قوله تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون . فأخبر سبحانه أنه يبتدىء بتدبير الأمر ، ثم يصعد إليه الأمر الذي دبره ، فالله سبحانه هو الذي يقذف في قلب العبد حركة الدعاء ، ويجعلها سبباً للخير الذي يعطيه إياه ، كما في العمل والثواب ، فهو الذي وفق العبد للتوبة ثم قبلها ، وهو الذي وفقه للعمل ثم أثابه ، وهو الذي وفقه للدعاء ثم أجابه ، فما أثر فيه شيء من المخلوقات ، بل هو جعل ما يفعله سبباً لما يفعله . قال مطرف بن عبد الله بن الشخير ، أحد أئمة التابعين : نظرت في هذا الأمر ، فوجدت مبدأه من الله ، وتمامه على الله ، ووجدت ملاك ذلك الدعاء .
وهنا سؤال معروف ، وهو : أن من الناس من قد يسأل الله فلا يعطى شيئاً ، أو يعطى غير ما سأل ؟ وقد أجيب عنه بأجوبة ، فيها ثلاثة أجوبة محققة - :
أحدها : أن الآية لم تتضمن عطية السؤال مطلقاً ، وإنما تضمنت إجابه الداعي ، والداعي أعم من السائل ، وإجابة الداعي أعم من إعطاء السائل . ولهذا قال النبي ﷺ : ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول : من يدعوني فأستجيب له ؟ من يسألني فأعطيه ؟ من يستغفرني فأغفر له ؟ . ففرق بين الداعي والسائل ، وبين الإجابة والإعطاء ، وهو فرق بين العموم والخصوص ، كما أتبع ذلك بالمستغفر ، وهو نوع من السائل ، فذكر العام ثم الخاص ثم الأخص . وإذا علم العباد أنه قريب ، يجيب دعوة الداعي ، علموا قربه منهم ، وتمكنهم من سؤاله - : وعلموا علمه ورحمته وقدرته ، فدعوه دعاء العبادة في حال ، ودعاء المسألة في حال ، وجمعوا بينهما في حال ، إذ الدعاء اسم يجمع العبادة والإستعانة ، وقد فسر قوله . وقال ربكم ادعوني أستجب لكم - بالدعاء ، الذي هو العبادة ، والدعاء الذي هو الطلب . وقوله بعد ذلك : إن الذين يستكبرون عن عبادتي - يؤيد المعنى الأول .
الجواب الثاني : أن إجابة دعاء السؤال أعم من إعطاء عين السؤال ، كما فسره النبي ﷺ فيما رواه مسلم في صحيحه ، أن النبي ﷺ قال : ما من رجل يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه بها إحدى ثلاث خصال . إما أن يعجل له دعوته ، أو يدخر له من الخير مثلها ، أو يصرف عنه من الشر مثلها ، قالوا : يا رسول الله ، إذاً نكثر ، قال : الله أكثر . فقد أخبر الصادق المصدوق أنه لا بد في الدعوة الخالية عن العدوان من إعطاء السؤال معجلاً ، أو مثله من الخير مؤجلاً ، أو يصرف عنه من السوء مثله .
الجواب الثالث : أن الدعاء سبب مقتض لنيل المطلوب ، والسبب له شروط وموانع ، فإذا حصلت شروطه وانتفت موانعه حصل المطلوب ، وإلا فلا يحصل ذلك المطلوب ، بل قد يحصل غيره . وهكذا سائر الكلمات الطيبات ، من الأذكار المأثورة المعلق عليها جلب منافع أو دفع مضار ، فإن الكلمات بمنزلة الآلة في يد الفاعل ، تختلف باختلاف قوته وما يعنيها ، وقد يعارضها مانع من الموانع . ونصوص الوعد والوعيد المتعارضة في الظاهر- : من هذا الباب . وكثيراً ما تجد أدعية دعا بها قوم فاستجيب لهم ، ويكون قد اقترن بالدعاء ضرورة صاحبه وإقباله على الله ، أو حسنة تقدمت منه ، جعل الله سبحانه إجابة دعوته شكر الحسنة ، أو صادف وقت إجابة ، ونحو ذلك - فأجيبت دعوته ، فيظن أن السر في ذلك الدعاء ، فيأخذه مجرداً عن تلك الأمور التي قارنته من ذلك الداعي . وهذا كما إذا استعمل رجل دواء نافعاً في الوقت الذي ينبغي ، فانتفع به ، فظن أخر أن استعمال هذا الدواء بمجرده كاف في حصول المطلوب ، وكان غالطاً . وكذا قد يدعو باضطرار عند قبر ، فيجاب ، فيظن أن السر للقبر ، ولم يدر أن السر للإضطرار وصدق اللجء إلى الله تعالى ، فإذا حصل ذلك في بيت من بيوت الله تعالى كان أفضل وأحب إلى الله تعالى . فالأدعية والتعوذات والرقي بمنزلة السلاح ، والسلاح بضاربه ، لا بحده فقط ، فمتى كان السلاح سلاحاً تاماً والساعد ساعداً قوياً ، والمحل قابلاً ، والمانع مفقوداً - : حصلت به النكاية في العدو ، ومتى تخلف واحد من هذه الثلاثة تخلف التأثير . فإذا كان الدعاء في نفسه غير صالح ، أو الداعي لم يجمع بين قلبه ولسانه في الدعاء ، أو كان ثم مانع من الإجابة - : لم يحصل الأثر .
قوله: ويملك كل شيء ، ولا يملكه شيء
ويملك كل شيء ، ولا يملكه شيء ، ولا غنى عن الله تعالى طرفة عين ، ومن استغنى عن الله طرفة عين ، فقد كفر وصار من أهل الحين
شرح : كلام حق ظاهر لا خفاء فيه . والحين ، بالفتح : الهلاك .
قوله : والله يغضب ويرضى ، لا كأحد من الورى
ش : قال تعالى : رضي الله عنهم . لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . وقال تعالى : من لعنه الله وغضب عليه . وغضب الله عليه ولعنه . وباءوا بغضب من الله . ونظائر ذلك كثيرة . ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب ، والرضى ، والعداوة ، والولاية ، والحب ، والبغض ، ونحو ذلك من الصفات ، التي ورد بها الكتاب والسنة ، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى . كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات ، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله : إذا كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل ، ولزوم التسليم ، وعليه دين المسلمين . وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . وروي أيضاً عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً عليها ، ومرفوعاً إلى النبي ﷺ . وكذلك قال الشيخ رحمه الله فيما تقدم : من لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه . ويأتي في كلامه أن الإسلام بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل . فقول الشيخ رحمه الله : لا كأحد من الورى ، نفى التشبيه . ولا يقال : إن الرضى إرادة الإحسان ، والغضب إرادة الانتقام - فإن هذا نفي للصفة . وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه ، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه ، وينهى عما يسخطه ويكرهه ، ويبغضه ويغضب على فاعله ، وإن كان قد شاءه وأراده . فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده ، ويكره ويسخط لما أراده .
ويقال لمن تأول الغضب والرضى بإرادة الإحسان : لم تأولت ذلك ؟ فلا بد أن يقول : إن الغضب غليان دم القلب ، والرضى الميل والشهوة ، وذلك لا يليق بالله تعالى ! فيقال له : غليان دم القلب في الآدمي أمر ينشأ عن صفة الغضب ، لا أنه الغضب . ويقال له أيضاً : وكذلك الإرادة والمشيئة فينا ، فهي ميل الحي إلى الشيء أو إلى ما يلائمه ويناسبه ، فإن الحي منا لا يريد إلا ما يجلب له منفعة أو يدفع عنه مضرة ، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه ، ويزداد بوجوده ، وينتقص بعدمه . فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفته عنه سواء ، فإن جاز هذا جاز ذاك ، وإن امتنع هذا امتنع ذاك .
فإن قال : الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة ؟ قيل له : فقل : إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد ، وإن كان كل منهما حقيقة . فإذا كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يقال في هذه الصفات ، لم يتعين التأويل ، بل يجب تركه ، لأنك تسلم من التناقض ، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب . فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام ، ولا يكون الموجب للصرف ما دله عليه عقله ، إذ العقول مختلفة ، فكل يقول إن عقله دله على خلاف ما يقوله الآخر !
وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله تعالى ، لامتناع مسمى ذلك في المخلوق ، فإنه لا بد أن يثبت شيئاً لله تعالى على خلاف ما يعهده حتى صفة الوجود ، فإن وجود العبد كما يليق به ، ووجود الباري تعالى كما يليق به ، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم ، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم ، وما سمى به الرب نفسه وسمى به مخلوقاته ، مثل الحي والعليم والقدير ، أو سمى به بعض صفاته ، كالغضب والرضى ، وسمى به بعض صفات عباده - : فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله تعالى ، وأنه حق ثابت موجود ، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق ، ونعقل أن بين المعنيين قدراً مشتركاً ، لكن هذا المعنى لا يوجد في الخارج مشتركاً ، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان ، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً . فيثبت في كل منهما كما يليق به . بل لو قيل : غضب مالك خازن النار وغضب غيره من الملائكة - : لم يجب أن يكون مماثلاً لكيفية غضب الآدميين ، لأن الملائكة ليسوا من الأخلاط الأربعة ، حتى تغلي دماء قلوبهم كما يغلي دم قلب الإنسان عند غضبه . فغضب الله أولى .
وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه ، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحوه ذلك ، وقالوا : إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه ، ليس هو في نفسه متصفاً بشيء من ذلك ! ! وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كلاب ومن وافقه ، فقالوا : لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلاً ، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته ، قديمة أزلية ، فلا يرضى في وقت دون وقت ، ولا يغضب في وقت دون وقت . كما قال في حديث الشفاعة : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ : إن الله تعالى يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب ؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك ، فيقول : ألا أعطيكم أفضل من ذلك ؟ فيقولون : يا رب ، وأي شيء أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضواني ، فلا أسخط عليكم بعده أبداً . فيستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت ، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط ، كما يحل السخط ثم يرض ، لكن هؤلاء أحل عليهم رضواناً لا يتعقبه سخط . وهم قالوا : لا يتكلم إذا شاء ، ولا يضحك إذا شاء ، ولا يغضب إذا شاء ، ولا يرضى إذا شاء ، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة ، أو يجعلوها صفات أخرى ، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته ، إذ لو تعلق بذلك لكان محلاً للحوادث ! ! فنفى هؤلاء الصفات الفعلية الذاتية بهذا الأصل ، كما نفى أولئك الصفات مطلقاً بقولهم ليس محلاً للأعراض . وقد يقال : بل هي أفعال ، ولا تسمى حوادث ، كما سميت تلك صفات ، ولم تسم أعراضاً . وقد تقدمت الإشارة إلى هذا المعنى ، ولكن الشيخ رحمه الله لم يجمع الكلام في الصفات في المختصر في مكان واحد ، وكذلك الكلام في القدر ونحو ذلك ، ولم يعتن فيه بترتيب . وأحسن ما يرتب عليه كتاب أصول الدين ترتيب جواب النبي ﷺ لجبريل عليه السلام ، حين سأله عن الإيمان ، فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، الحديث - فيبدأ بالكلام على التوحيد والصفات وما يتعلق بذلك ، ثم بالكلام على الملائكة ، ثم وثم ، إلى آخره .
وقوله: ونحب أصحاب رسول الله ﷺ
ونحب أصحاب رسول الله ﷺ ، ولا نفرط في حب أحد منهم ، ولا نتبرأ من أحد منهم . ونبغض من يبغضهم ، وبغير الخير يذكرهم . ولا نذكرهم إلا بخير. وحبهم دين وإيمان وإحسان ، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان
ش : يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الروافض والنواصب . وقد أثنى الله تعالى على الصحابة هو ورسوله ، ورضي عنهم ، ووعدهم الحسنى ، كما قال تعالى : والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم . وقال تعالى : محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً ، إلى آخر السورة . وقال تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . وقال تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض . إلى آخر السورة . وقال تعالى : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير . وقال تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون * والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون * والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . وهذه الآيات تتضمن الثناء على المهاجرين والأنصار ، وعلى الذين جاؤوا من بعدهم ، يستغفرون لهم ، ويسألون الله أن لا يجعل في قلوبهم غلاً لهم ، وتتضمن أن هؤلاء هم المستحقون للفيء . فمن كان في قلبه غل للذين آمنوا ولم يستغفر لهم لا يستحق في الفيء نصيباً ، بنص القرآن . وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : كان بين خالد بن الوليد وبين عبد الرحمن بن عوف شيء ، فسبه خالد ، فقال رسول الله ﷺ : لا تسبوا أحداً من أصحابي ، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهباً ، ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه . انفرد مسلم بذكر سب خالد لعبد الرحمن ، دون البخاري . فالنبي ﷺ يقول لخالد ونحوه : لا تسبوا أصحابي ، يعني عبد الرحمن وأمثاله ، لأن عبد الرحمن ونحوه هم السابقون الأولون ، وهم الذين أسلموا من قبل الفتح وقاتلوا ، وهم أهل بيعة الرضوان ، فهم أفضل وأخص بصحبته ممن أسلم بعد بيعة الرضوان ، وهم الذين أسلموا بعد الحديبية ، وبعد مصالحة النبي ﷺ أهل مكة ، ومنهم خالد بن الوليد ، وهؤلاء أسبق ممن تأخر إسلامهم إلى فتح مكة ، وسموا الطلقاء ، منهم أبو سفيان وابناه يزيد و معاوية ، والمقصود أنه نهى من له صحبة آخراً أن يسب من له صحبة أولاً ، لامتيازهم عنهم من الصحبة بما لا يمكن أن يشركوهم فيه ، حتى لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه . فإذا كان هذا حال الذين أسلموا بعد الحديبية ، وإن كان قبل فتح مكة فكيف حال من ليس من الصحابة بحال مع الصحابة ؟ رضي الله عنهم أجمعين .
والسابقون الأولون - من المهاجرين والأنصار - هم الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا ، وأهل بيعة الرضوان كلهم منهم ، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة . وقيل : إن السابقين الأولين من صلى إلى القبلتين ، وهذا ضعيف . فإن الصلاة إلى القبلة المنسوخة ليس بمجردة فضيلة ، لأن النسخ ليس من فعلهم ، ولم يدل على التفضيل به دليل شرعي ، كما دل على التفضيل بالسبق إلى الإنفاق والجهاد والمبايعة التي كانت تحت الشجرة .
وأما ما يروى عن النبي ﷺ أنه قال : أصحابي كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم - فهو حديث ضعيف ، قال البزار : هذا حديث لا يصح عن رسول الله ﷺ ، وليس هو في كتب الحديث المعتمدة .
وفي صحيح مسلم عن جابر ، قال : قيل لعائشة رضي الله عنها : إن ناساً يتناولون أصحاب رسول الله ﷺ حتى أبا بكر و عمر ! فقالت : وما تعجبون من هذا ! انقطع عنهم العمل ، فأحب الله أن لا يقطع عنهم الأجر . وروى ابن بطة بإسناد صحيح ، عن ابن عباس ، أنه قال : لا تسبوا أصحاب محمد ﷺ ، فلمقام أحدهم ساعة يعني مع النبي ﷺ ، خير من عمل أحدكم أربعين سنة . وفي رواية وكيع : خير من عبادة أحدكم عمره . وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين وغيره ، أن رسول الله ﷺ قال : خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، قال عمران : فلا أدري : أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة ، الحديث . وقد ثبت في صحيح مسلم عن جابر ، أن النبي ﷺ قال : لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة - وقال تعالى : لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة الآيات . ولقد صدق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في وصفهم ، حيث قال : إن الله نظر في قلوب العباد ، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد ، فاصطفاه لنفسه ، وابتعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد ، فجعلهم وزراء نبيه ، يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رأوه سيئاً فهو عند الله سيء . وفي رواية : وقد رأى أصحاب محمد جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر . وتقدم قول ابن مسعود : من كان منكم مستناً فليستن بمن قد مات ، إلخ - عند قول الشيخ : ونتبع السنة والجماعة .
فمن أضل ممن يكون في قلبه غل على خيار المؤمنين ، وسادات أولياء الله تعالى بعد النبيين ؟ بل قد فضلهم اليهود والنصارى بخصلة ، قيل لليهود : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب موسى ، وقيل للنصارى : من خير أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب عيسى ، وقيل للرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ قالوا : أصحاب محمد ! ! لم يستثنوا منهم إلا القليل ، وفيمن سبوهم من هو خير ممن استثنوهم بأضعاف مضاعفة .
وقوله : ولا نفرط في حب أحد منهم - أي لا نتجاوز الحد في حب أحد منهم ، كما تفعل الشيعة ، فنكون من المعتدين . قال تعالى : يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم .
وقوله : ولا نتبرأ من أحد منهم - كما فعلت الرافضة ! فعندهم لا ولاء إلا ببراء ، أي لا يتولى أهل البيت حتى يتبرأ من أبي بكر و عمر رضي الله عنهما ! ! وأهل السنة يوالونهم كلهم ، وينزلونهم منازلهم التي يستحقونها ، بالعدل والإنصاف ، لا بالهوى والتعصب . فإن ذلك كله من البغي الذي هو مجاوزة الحد ، كما قال تعالى : فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم . وهذا معنى قول من قال من السلف : الشهادة بدعة ، والبراءة بدعة . يروى ذلك عن جماعة من السلف ، من الصحابة والتابعين ، منهم : أبو سعيد الخدري ، و الحسن البصري ، و إبراهيم النخعي ، و الضحاك ، وغيرهم . ومعنى الشهادة : أن يشهد على معين من المسلمين أنه من أهل النار ، أو أنه كافر ، بدون العلم بما ختم الله له وقوله : وحبهم دين وإيمان وإحسان - لأنه امتثال لأمر الله فيما تقدم من النصوص . وروى الترمذي عن عبد الله بن مغفل ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : الله الله في أصحابي ، لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى ، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه . وتسمية حب الصحابة إيماناً مشكل على الشيخ رحمه الله ، لأن الحب عمل القلب ، وليس هو التصديق ، فيكون العمل داخلاً في مسمى الإيمان . وقد تقدم في كلامه : أن الإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان ، ولم يجعل العمل داخلاً في مسمى الإيمان ، وهذا هو المعروف من مذهب أهل السنة ، إلا أن تكون هذه التسمية مجازاً .
وقوله : وبغضهم كفر ونفاق وطغيان - تقدم الكلام في تكفير أهل البدع ، وهذا الكفر نظير الكفر المذكور في قوله : ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون . وقد تقدم الكلام في ذلك .
قوله: ونثبت الخلافة بعد رسول الله ﷺ أولاً لأبي بكر الصديق
ونثبت الخلافة بعد رسول الله ﷺ أولاً لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، تفضيلاً له وتقديماً على جميع الأمة
ش : اختلف أهل السنة في خلافة الصديق رضي الله عنه : هل كانت بالنص ، أو بالإختيار ؟ فذهب الحسن البصري وجماعة من أهل الحديث إلى أنها ثبتت بالنص الخفي والإشارة ، ومنهم من قال بالنص الجلي . وذهب جماعة من أهل الحديث والمعتزلة والأشعرية إلى أنها ثبتت بالإختيار .
والدليل على إثباتها بالنص أخبار : من ذلك ما أسنده البخاري عن جبير بن مطعم ، قال : أتت امرأة النبي ﷺ ، فأمرها أن ترجع اليه ، قالت : أرأيت إن جئت فلم أجدك ؟ كأنها تريد الموت ، قال : إن لم تجديني فأتي أبا بكر . وذكر له سياق آخر ، وأحاديث أخر . وذلك نص على إمامته . وحديث حذيفة بن اليمان ، قال : قال رسول الله ﷺ : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر . رواه أهل السنن . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها ، قالت : دخل علي رسول الله ﷺ في اليوم الذي بدىء فيه ، فقال : ادعي لى أباك وأخاك ، حتى أكتب لأبي بكر كتاباً ، ثم قال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . وفي رواية : فلا يطمع في هذا الأمر طامع . وفي رواية : قال : ادعي لي عبد الرحمن بن أبي بكر ، لأكتب لأبي بكر كتاباً لا يختلف عليه ، ثم قال . معاذ الله أن يختلف المؤمنون في أبي بكر . وأحاديث تقديمه في الصلاة مشهورة معروفة ، وهو يقول : مروا أبا بكر فليصل بالناس . وقد روجع في ذلك مرة بعد مرة ، فصلى بهم مدة مرض النبي ﷺ . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول : بينا أنا نائم رأيتني على قليب ، عليها دلو ، فنزعت منها ما شاء الله ، ثم أخذها ابن أبي قحافة ، فنزع منها ذنوباً أوذنوبين ، وفي نزعه ضعف ، والله يغفر له ، ثم استحالت غرباً ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقرياً من الناس يفري فريه ، حتى ضرب الناس بعطن . وفي الصحيح أنه ﷺ قال على منبره : لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ، لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت ، إلا خوخة أبي بكر . وفي سنن أبي داود وغيره ، من حديث الأشعث عن الحسن عن أبي بكرة ، أن النبي ﷺ قال ذات يوم : من رأى منكم رؤيا ؟ فقال رجل أنا : رأيت ميزاناً أنزل من السماء ، فوزنت أنت و أبو بكر ، فرجحت أنت بأبي بكر ، ثم وزن عمر و أبو بكر ، فرجح أبو بكر ، ووزن عمر و عثمان ، فرجح عمر ، ثم رفع ، فرأيت الكراهة في وجه النبي ﷺ ، فقال : خلافة نبوة ، ثم يؤتي الله الملك من يشاء .
فبين رسول الله ﷺ ، أن ولاية هؤلاء خلافة نبوة ، ثم بعد ذلك ملك . وليس فيه ذكر علي رضي الله عنه ، لأنه لم يجتمع الناس في زمانه ، بل كانوا مختلفين ، لم ينتظم فيه خلافة النبوة ولا الملك . وروى أبو داود أيضاً عن جابر رضي الله عنه ، أنه كان يحدث ، أن رسول الله ﷺ قال : أري الليلة رجل صالح أن أبا بكر نيط برسول الله ﷺ ، ونيط عمر بأبي بكر ، ونيط عثمان بعمر ، قال جابر : فلما قمنا من عند رسول الله ﷺ ، قلنا : أما الرجل الصالح فرسول الله ﷺ ، وأما المنوط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه . وروى أبو داود أيضاً عن سمرة بن جندب : أن رجلاً قال : يا رسول الله ، رأيت كأن دلوا دلي من السماء ، فجاء أبو بكر فأخذ بعراقيها ، فشرب شرباً ضعيفاً ، ثم جاء عمر فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء عثمان فأخذ بعراقيها فشرب حتى تضلع ، ثم جاء علي فأخذ بعراقيها ، فانتشطت منه ، فانتضح عليه منها شيء . وعن سعيد بن جمهان ، عن سفينة . قال : قال رسول الله ﷺ : خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء . أو الملك .
واحتج من قال لم يستخلف ، بالخبر المأثور ، عن عبد الله بن عمر ، عن عمر رضي الله عنهما ، أنه قال : إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني ، يعني أبا بكر ، وإن لا أستخلف ، فلم يستخلف من هو خير مني ، يعني رسول الله ﷺ ، قال عبد الله : فعرفت أنه حين ذكر رسول الله ﷺ غير مستخلف . وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت من كان رسول الله ﷺ مستخلفاً لو استخلف . والظاهر- والله أعلم - أن المراد أنه لم يستخلف بعهد مكتوب ، ولو كتب عهداً لكتبه لأبي بكر ، بل قد أراد كتابته ثم تركه ، وقال : يأبى الله والمسلمون إلا أبا بكر . فكان هذا أبلغ من مجرد العهد ، فإن النبي ﷺ دل المسلمين على استخلاف أبي بكر ، وأرشدهم إليه بأمور متعددة ، من أقواله وأفعاله ، وأخبر بخلافته إخبار راض بذلك ، حامد له ، وعزم على أن يكتب بذلك عهداً ، ثم علم أن المسلمين يجتمعون عليه ، فترك الكتاب اكتفاء بذلك ، ثم عزم على ذلك في مرضه يوم الخميس ، ثم لما حصل لبعضهم شك : هل ذلك القول من جهة المرض ؟ أو هو قول يجب اتباعه ؟ ترك الكتابة ، اكتفاء بما علم أن الله يختاره والمؤمنون من خلافة أبي بكر . فلو كان التعيين مما يشتبه على الأمة لبينه بياناً قاطعاً للعذر ، لكن لما دلهم دلالات متعددة على أن أبا بكر المتعين ، وفهموا ذلك - حصل المقصود . ولهذا قال عمر رضي الله عنه ، في خطبته التي خطبها بمحضر من المهاجرين والأنصار : أنت خيرنا وسيدنا وأحبنا إلى رسول الله ﷺ ، ولم ينكر ذلك منهم أحد ، ولا قال أحد من الصحابة إن غير أبي بكر من المهاجرين أحق بالخلافة منه ، ولم ينازع أحد في خلافته إلا بعض الأنصار ، طمعاً في أن يكون من الأنصار أمير ومن المهاجرين أمير ، وهذا مما ثبت بالنصوص المتواترة عن النبي ﷺ بطلانه . ثم الأنصار كلهم بايعوا أبا بكر ، إلا سعد بن عبادة ، لكونه هو الذي كان يطلب الولاية . ولم يقل أحد من الصحابة قط أن النبي ﷺه نص على غير أبي بكر ، لا علي ، ولا العباس ، ولا غيرهما ، كما قد قال أهل البدع ! وروى ابن بطة بإسناده أن عمر بن عبد العزيز بعث محمد بن الزبير الحنظلي إلى الحسن ، فقال : هل كان النبي ﷺ استخلف أبا بكر ؟ فقال : أو في شك صاحبك ؟ نعم ، والله الذي لا إله إلا هو استخلفه ، لهو كان أتقى لله من أن يتوثب عليها .
وفي الجملة : فجميع من نقل عنه أنه طلب تولية غير أبي بكر ، لم يذكر حجة شرعية ، ولا ذكر أن غير أبي بكر أفضل منه ، أو أحق بها ، وإنما نشأ من حب قبيلته وقومه فقط ، وهم كانوا يعلمون فضل أبي بكر رضي الله عنه ، وحب رسول الله ﷺ له . ففي الصحيحين ، عن عمرو بن العاص : أن رسول الله ﷺ بعثه على جيش ذات السلاسل ، فأتيته ، فقلت : أي الناس أحب إليك ؟ قال : عائشة ، قلت : من الرجال ؟ قال : أبوها ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر، وعد رجالا . وفيهما أيضاً ، عن أبي الدرداء ، قال : كنت جالساً عند النبي ﷺ ، إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه ، حتى أبدى عن ركبتيه ، فقال النبي ﷺ : أما صاحبكم فقد غامر ، فسلم ، وقال : يا رسول الله ، إنه كان بيني وبين ابن الخطاب شيء فأسرعت إليه ، ثم ندمت ، فسألته أن يغفر لي فأبى علي ، فأقبلت إليك ، فقال : يغفر الله لك يا أبا بكر ، ثلاثاً ، ثم إن عمر ندم ، فأتى منزل أبي بكر ، فسأل : أثم أبو بكر ؟ فقالوا : لا ، فأتى إلى النبي ﷺ ، فسلم عليه ، فجعل وجه النبي ﷺ يسفر ، حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه ، فقال : يا رسول الله ، والله أنا كنت أظلم ، مرتين ، فقال النبي ﷺ : إن الله بعثني إليكم ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدق ، وواساني بنفسه وماله ، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي ؟ مرتين ، فما أوذي بعدها . ومعنى : غامر : غاضب وخاصم . ويضيق هذا المختصر عن ذكر فضائله .
وفي الصحيحين أيضاً ، عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله ﷺ مات و أبو بكر بالسنح - فذكرت الحديث - إلى أن قالت : واجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة ، في سقيفة بني ساعدة ، فقالوا : منا أمير ، ومنكم أمير ! فذهب إليهم أبو بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و أبو عبيدة بن الجراح ، فذهب عمر يتكلم ، فأسكته أبو بكر ، وكان عمر يقول : والله ما أردت بذلك إلا أني قد هيأت في نفسي كلاماً قد أعجلني ، خشيت أن لا يبلغه أبو بكر ! ثم تكلم أبو بكر ، فتكلم أبلغ الناس ، فقال في كلامه : نحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ، فقال حباب ابن المنذر : لا والله لا نفعل ، منا أمير ومنكم أمير . فقال أبو بكر : لا ولكنا الأمراء وأنتم الوزراء . هم أوسط العرب ، وأعزهم أحساباً ، فبايعوا عمر بن الخطاب ، أو أبا عبيدة بن الجراح ، فقال عمر : بل نبايعك ، فأنت سيدنا ، وخيرنا ، وأحبنا إلى رسول الله ﷺ ، فأخذ عمر بيده ، فبايعه ، وبايعه الناس ، فقال قائل : قتلتم سعداً ، فقال عمر : قتله الله . والسنح : العالية ، وهي حديقة بالمدينة معروفة بها .
قوله : ثم لعمر بن الخطاب رضي الله عنه
ش : أي ونثبت الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنه ، لعمر رضي الله عنه . وذلك بتفويض أبي بكر الخلافة إليه ، واتفاق الأمة بعده عليه . وفضائله رضي الله عنه أشهر من أن تنكر ، وأكثر من أن تذكر . فقد روى عن محمد بن الحنفية أنه قال : قلت لأبي : فقلت يا أبت ، من خير الناس بعد رسول الله ﷺ ؟ فقال : يا بني ، أوما تعرف ؟ فقلت ؟ لا ، قال : أبو بكر ، قلت : ثم من ؟ قال : عمر ، وخشيت أن يقول : ثم عثمان ! فقلت : ثم أنت ؟ فقال . ما أنا إلا رجل من المسلمين . وتقدم قوله ﷺ : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر . وفي صحيح مسلم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : وضع عمر على سريره ، فتكنفه الناس يدعون ويثنون ويصلون عليه ، قبل أن يرفع ، وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا برجل قد أخذ بمنكبي من ورائي ، فالتفت إليه ، فإذا هو علي ، فترحم على عمر ، وقال : ما خلفت أحداً أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله ، إن كنت لأظن أن يجعلك الله مع صاحبيك ، وذلك أني كنت كثيراً ما أسمع رسول الله ﷺ يقول : جئت أنا و أبو بكر و عمر ، ودخلت أنا و أبو بكر و عمر ، وخرجت أنا و أبو بكر و عمر ، فإن كنت لأرجو ، أو لأظن أن يجعلك الله معهما . وتقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، في رؤيا رسول الله ﷺ ، ونزعه من القليب ، ثم نزع أبي بكر ، ثم استحالت الدلو غرباً ، فأخذها ابن الخطاب ، فلم أر عبقرياً من الناس ينزع نزع عمر ، حتى ضرب الناس بعطن . وفي الصحيحين ، من حديث سعد بن أبي وقاص : قال : استأذن عمر بن الخطاب على رسول الله ﷺ ، وعنده نساء من قريش ، يكملنه ، عالية أصواتهن - الحديث ، وفيه - فقال رسول الله ﷺ : إيه يا ابن الخطاب ! والذي نفسي بيده ، ما لقيك الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً غير فجك . وفي الصحيحين أيضاً ، عن النبي ﷺ، أنه كان يقول : قد كان في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمتي منهم أحد ، فإن عمر بن الخطاب منهم . قال ابن وهب : تفسير محدثون - ملهمون .
قوله : ثم لعثمان رضي الله عنه
ش : أي وثبت الخلافة بعد عمر لعثمان رضي الله عنهما ، وقد ساق البخاري رحمه الله قصة قتل عمر رضي الله عنه ، وأمر الشورى والمبايعة لعثمان ، في صحيحه ، فأحببت أن أسردها ، كما رواها بسنده : عن عمرو بن ميمون ، قال :
رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن يصاب بأيام بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان و عثمان بن حنيف ، فقال : كيف فعلتما ؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق ؟ قالا : حملناها أمراً هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظر أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق ؟ قالا : لا ، فقال عمر : لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبداً ، قال : فما أتت عليه إلا أربعة حتى أصيب ، قال :
إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب ، وكان إذا مر بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهن خللاً تقدم فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف ، أو النحل ، أو نحو ذلك في الركعة الأولى ، حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبر ، فسمعته يقول : قتلني ، أو أكلني الكلب ، حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين ، لا يمر على أحد يميناً وشمالاً إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين ، طرح عليه برنساً ، فلما ظن العلج أنه مأخوذ ، نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف ، فقدمه ، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد ، فإنهم لا يدرون غير أنهم قد فقدوا صوت عمر ، وهم يقولون : سبحان الله ، سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن صلاة خفيفة ، فلما انصرفوا ، قال : يا ابن عباس انظر من قتلني ؟ فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة ، قال : الصنع ؟ قال : نعم ، قال : قاتله ! لقد أمرت به معروفاً ! الحمد لله الذي لم يجعل منيتي على يد رجل يدعي الإسلام ، قد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقاً ، فقال : إن شئت فعلت ؟ أي : إن شئت قتلنا ؟ قال : كذبت ! بعد ما تكلموا بلسانكم ، وصلوا قبلتكم ، وحجوا حجكم ؟ فاحتمل إلى بيته ، فانطلقنا معه ، وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس عليه ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه ، فخرج من جوفه ، ثم أتى بلبن فشربه ، فخرج من جوفه ، فعرفوا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس يثنون عليه ، وجاء رجل شاب ، فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك ، من صحبة رسول الله ﷺ ، وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة ، قال : وددت أن ذلك كفاف ، لا علي ولا لي ، فلما أدبر إذا إزاره يمس الأرض ، قال : ردوا علي الغلام ، قال : يا ابن أخي ، ارفع ثوبك ، فإنه أنقى لثوبك ، وأتقى لربك ، يا عبد الله بن عمر ، انظر ما علي من الدين ؟ فحسبوه ، فوجدوه ستة وثمانون ألفاً أو نحوه ، قال : إن وفى له مال آل عمر ، فأده من أموالهم ، وإلا فسل في بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم ، فسل في قريش ، ولا تعدهم إلى غيرهم ، فأد عني هذا المال ، انطلق إلى عائشة أم المؤمنين ، فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل : أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميراً ، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه ، فسلم واستأذن ، ثم دخل عليها ، فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه ، فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرن به اليوم على نفسي ، فلما أقبل ، قيل : هذا عبد الله بن عمر قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، قال . ما لديك ؟ قال . الذي تحب يا أمير المؤمنين أذنت ، قال : الحمد لله ، ما كان شيء أهم إلي من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني فردوني إلى مقابر المسلمين ، وجاءت أم المؤمنين حفصة والنساء يسرن معها ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه ، فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال ، فولجت داخلاً لهم ، فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤنين، استخلف ؟ قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط ، الذين توفي رسول الله ﷺ وهو عنهم راض ، فسمى علياً ، و عثمان ، و الزبير ، و طلحة ، و سعداً ، و عبد الرحمن ، وقال : يشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء، كهيئة التعزية له ، فإن أصابت الإمارة سعداً فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله من عجز ولا خيانة ، وقال : أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين ، أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيراً ، الذين تبؤوا الدار والإيمان من قبلهم ، أن يقبل من محسنهم ، ويتجاوز عن مسيئهم . وأوصيه بأهل الأمصار خيراً ، فإنهم ردء الإسلام ، وجباة الأموال ، وغيظ العدو، وأن لا يأخذ منهم إلا فضلهم ، عن رضاهم ، وأوصيه بالأعراب خيراً ، فإنهم أصل العرب ، ومادة الإسلام ، أن يأخذ من حواشي أموالهم ، وأن ترد على فقرائهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله ، أن يوفى لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ، ولا يكلفوا إلا طاقتهم ، فلما قبض خرجنا به ، فانطلقنا نمشي ، فسلم عبد الله بن عمر ، قال : يستأذن عمر بن الخطاب ؟ قالت : أدخلوه ، فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه ، فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، قال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه ؟ والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ، فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي ؟ والله علي أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما ، فقال : لك قرابة من رسول الله ﷺ والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك ، لئن أمرتك لتعدلن ؟ ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ؟ ثم خلا بالآخر ، فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق ، قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه ، فبايع له علي ، وولج أهل الدار فبايعوه .
وعن حميد بن عبد الرحمن : أن المسور بن مخرمة أخبره :
أن الرهط الذين ولاهم عمر اجتمعوا فتشاوروا ، قال لهم عبد الرحمن : لست بالذي أنافسكم عن هذا الأمر ، ولكنكم إن شئتم اخترت لكم منكم ؟ فجعلوا ذلك إلى عبد الرحمن ، فلما ولوا عبد الرحمن أمرهم ، فمال الناس على عبد الرحمن ، حتى ما أرى أحداً من الناس يتبع أولئك الرهط ولا يطأ عقبه ، ومال الناس على عبد الرحمن يشاورونه تلك الليالي ، حتى اذا كانت تلك الليلة التي أصبحنا فيها فبايعنا عثمان ، - قال المسور بن مخرمة - : طرقني عبد الرحمن بعد هجع من الليل ، فضرب الباب حتى استقيظت ، فقال : أراك نائماً ؟ ! فوالله ما اكتحلت هذه الثلاث بكبير نوم ، انطلق فادع لي الزبير و سعداً ، فدعوتهما له ، فشاورهما ثم دعاني ، فقال : ادع لي علياً ، فدعوته ، فناجاه حتى أبهار الليل ، ثم قام علي من عنده وهو على طمع ، وقد كان عبد الرحمن يخشى من علي شيئاً ، ثم قال : ادع لي عثمان ، فدعوته ، فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح ، فلما صلى الناس الصبح ، واجتمع أولئك الرهط عند المنبر، فأرسل إلى من كان حاضراً من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد ، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر ، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ، ثم قال : أما بعد ، يا علي ، إني قد نظرت في أمر الناس ، فلم أرهم يعدلون بعثمان فلا تجعلن على نفسك سبيلاً ، فقال لعثمان : أبايعك على سنة الله و رسوله ﷺ والخليفتين من بعده ، فبايعه عبد الرحمن ، وبايعه الناس والمهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون .
ومن فضائل عثمان رضي الله عنه الخاصة : كونه ختن رسول الله ﷺ على ابنتيه . وفي صحيح مسلم ، عن عائشة ، قالت : كان رسول الله ﷺ مضطجعاً في بيته ، كاشفاً عن فخذيه أو ساقيه ، فاستأذن أبو بكر ، فأذن له وهو على تلك الحال ، فتحدث ، ثم استأذن عمر ، فأذن له وهو كذلك ، فتحدث ، ثم استأذن عثمان ، فجلس رسول الله ﷺ وسوى ثيابه ، فدخل فتحدث ، فلما خرج قالت عائشة : دخل أبو بكر فلم تهتش له ولم تباله ، ثم دخل عمر فلم تهتش ولم تباله ، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك ؟ فقال : ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة . وفي الصحيح : لما كان يوم بيعة الرضوان ، وأن عثمان رضي الله عنه كان قد بعثه النبي ﷺ إلى مكة ، وكانت بيعة الرضوان بعد ما ذهب عثمان إلى مكة ، فقال رسول الله ﷺ بيده اليمنى : هذه يد عثمان ، فضرب بها على يده ، فقال : هذه لعثمان .
قوله : ثم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه
ش : أي : ونثبت الخلافة بعد عثمان لعلي رضي الله عنهما . لما قتل عثمان وبايع الناس عليا صار إماماً حقاً واجب الطاعة ، وهو الخليفة في زمانه خلافة نبوة ، كما دل عليه حديث سفينة المقدم ذكره ، أنه قال : قال رسول الله ﷺ : خلافة النبوة ثلاثون سنة ، ثم يؤتي الله ملكه من يشاء .
وكانت خلافة أبي بكر الصديق سنتين وثلاثة أشهر ، وخلافة عمر عشر سنين ونصفاً ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة ، وخلافة علي أربع سنين وتسعة أشهر، وخلافة الحسن ستة أشهر. وأول ملوك المسلمين معاوية رضي الله عنه ، وهو خير ملوك المسلمين ، لكنه إنما صار إماماً حقاً لما فوض إليه الحسن بن علي رضي الله عنهم الخلافة ، فإن الحسن رضي الله عنه بايعه أهل العراق بعد موت أبيه ، ثم بعد ستة أشهر فوض الأمر إلى معاوية ، فظهر صدق قول النبي ﷺ : إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين . والقصة معروفة في موضعها .
فالخلافة ثبتت لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه بعد عثمان رضي الله عنه ، بمبايعة الصحابة ، سوى معاوية مع أهل الشام . والحق مع علي رضي الله عنه ، فإن عثمان رضي الله عنه لما قتل كثر الكذب والإفتراء على عثمان وعلى من كان بالمدينة من أكابر الصحابة كعلي و طلحة و الزبير ، وعظمت الشبهة عند من لم يعرف الحال ، وقويت الشهوة في نفوس ذوي الأهواء والأغراض ، ممن بعدت داره من أهل الشام ، ويحمي الله عثمان ، أن يظن بالأكابر ظنون سوء ، ويبلغه عنهم أخبار ، منها ما هو كذب ، ومنها ما هو محرف ، ومنها ما لم يعرف وجهه ، وانضم إلى ذلك أهواء أقوام يحبون العلو في الأرض . وكان في عسكر علي رضي الله عنه - من أولئك الطغاة الخوارج ، الذين قتلوا عثمان - من لم يعرف بعينه ، ومن تنتصر له قبيلته ، ومن لم تقم عليه حجة بما فعله ، ومن في قلبه نفاق لم يتمكن من إظهاره كله ، ورأى طلحة و الزبير أنه إن لم ينتصر للشهيد المظلوم ، ويقمع أهل الفساد والعدوان ، وإلا استوجبوا غضب الله وعقابه . فجرت فتنة الجمل على غير اختيار من علي ، ولا من طلحة و الزبير ، وإنما أثارها المفسدون بغير اختيار السابقين ، ثم جرت فتنة صفين لرأي ، وهو أن أهل الشام لم يعدل عليهم ، أو لا يتمكن من العدل عليهم - وهم كافون ، حتى يجتمع أمر الأمة ، وأنهم يخافون طغيان من في العسكر ، كما طغوا على الشهيد المظلوم ، و علي رضي الله عنه هو الخليفة الراشد المهدي الذي تجب طاعته ، ويجب أن يكون الناس مجتمعين عليه ، فاعتقد أن الطاعة والجماعة الواجبتين عليهم تحصل بقتالهم ، بطلب الواجب عليهم ، بما اعتقد أنه يحصل به أداء الواجب ، ولم يعتقد أن التأليف لهم كتأليف المؤلفة قلوبهم على عهد النبي ﷺ والخليفتين من بعده مما يسوغ ، فحمله ما رآه - من أن الدين إقامة الحد عليهم ومنعهم من الإثارة ، دون تأليفهم - : على القتال ، وقعد عن القتال أكثر الأكابر، لما سمعوه من النصوص في الأمر بالقعود في الفتنة ، ولما رأوه من الفتنة التي تربو مفسدتها على مصلحتها . ونقول في الجميع بالحسنى : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم . والفتن التي كانت في أيامه قد صان الله عنها أيدينا ، فنسأل الله أن يصون عنها ألسنتنا ، بمنه وكرمه .
ومن فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : ما في الصحيحين ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلا أنه لا نبي بعدي .
وقال ﷺ يوم خيبر : لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ، ويحبه الله ورسوله ، قال : فتطاولنا لها ، فقال : ادعوا لي علياً ، فأتي به أرمد ، فبصق في عينيه ، ودفع الراية إليه ، ففتح الله عليه . ولما نزلت هذه الآية : فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم - دعا رسول الله ﷺ علياً و فاطمة و حسناً و حسيناً ، فقال : اللهم هؤلاء أهلي .
قوله : وهم الخلفاء الراشدون ، والأئمة المهديون
ش : تقدم الحديث الثابت في السنن ، وصححه الترمذي ، عن العرباض بن سارية ، قال : وعظنا رسول الله ﷺ موعظة بليغة ، ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب ، فقال قائل : يا رسول الله ، كأن هذه موعظة مودع ، فماذا تعهد إلينا ؟ فقال أوصيكم بالسمع والطاعة ، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة . وترتيب الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم أجمعين في الفضل ، كترتيبهم في الخلافة . و لأبي بكر و عمر رضي الله عنهما من المزية : أن النبي ﷺ أمرنا باتباع سنة الخلفاء الراشدين ، ولم يأمرنا في الإقتداء في الأفعال إلا بأبي بكر و عمر ، فقال : اقتدوا باللذين من بعدي : أبي بكر و عمر ، وفرق بين اتباع سنتهم والإقتداء بهم ، فحال أبي بكر و عمر فوق حال عثمان و علي رضي الله عنهم أجمعين . وقد روي عن أبي حنيفة تقديم علي على عثمان ، ولكن ظاهر مذهبه تقديم عثمان على علي . وعلى هذا عامة أهل السنة . وقد تقدم قول عبد الرحمن بن عوف لعلي رضي الله عنهما : إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان . وقال أيوب السختياني من لم يقدم عثمان على علي فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار. وفي الصحيحين عن ابن عمر ، قال : كنا نقول ورسول الله ﷺ حي : أفضل أمة النبي ﷺ بعده - أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان .
قوله: وأن العشرة الذين سماهم رسول الله ﷺ وبشرهم بالجنة
وأن العشرة الذين سماهم رسول الله ﷺ وبشرهم بالجنة ، نشهد لهم بالجنة
على ما شهد لهم رسول الله ﷺ ، وقوله الحق ، وهم . أبو بكر ، و عمر ، و عثمان ، و علي ، و طلحة ، و الزبير ، و سعد ، و سعيد ، و عبد الرحمن بن عوف ، و أبو عبيدة ابن الجراح ، وهو أمين هذه الأمة ، رضي الله عنهم أجمعين .
ش : تقدم ذكر بعض فضائل الخلفاء الأربعة . ومن فضائل الستة الباقين من العشرة رضي الله عنهم أجمعين : ما رواه مسلم : عن عائشة رضي الله عنها : أرق رسول الله ﷺ ذات ليلة ، فقال : ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة ، قالت : وسمعنا صوت السلاح ، فقال النبي ﷺ : من هذا ؟ فقال سعد ابن أبي وقاص : يا رسول الله ، جئت أحرسك - وفي لفظ آخر : وقع في نفسي خوف على رسول الله ﷺ فجئت أحرسه ، فدعا له رسول الله ﷺ ثم نام . وفي الصحيحين : أن رسول الله ﷺ جمع لسعد بن أبي وقاص أبويه يوم أحد ، فقال : ارم ، فداك أبي وأمي . وفي صحيح مسلم ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي ﷺ يوم أحد قد شلت . وفيه أيضاً عن أبي عثمان النهدي ، قال : لم يبق مع رسول الله ﷺ في بعض تلك الأيام التي قاتل فيها النبي ﷺ غير طلحة و سعد . وفي الصحيحين ، واللفظ لمسلم ، عن جابر بن عبد الله قال : ندب رسول الله ﷺ الناس يوم الخندق فانتدب الزبير ، ثم ندبهم ، فانتدب الزبير ، فقال النبي ﷺ : لكل نبي حواري ، وحواري الزبير وفيهما أيضاً عن الزبير رضي الله عنه ، أن النبي ﷺ قال : من يأتي بني قريظة فيأتيني بخبرهم ؟ فانطلقت ، فلما رجعت جمع لي رسول الله ﷺ أبويه ، فقال : فداك أبي وأمي . وفي صحيح مسلم ، عن أنس بن مالك ، قال : قال رسول الله ﷺ : إن لكل أمة أميناً ، وإن أميننا أيتها الأمة : أبو عبيدة بن الجراح . وفي الصحيحين عن حذيفة بن اليمان ، قال . جاء أهل نجران إلى النبي ﷺ ، فقالوا : يا رسول الله ، ابعث إلينا رجلاً أميناً ، فقال : لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين ، قال : فاستشرف لها الناس ، قال : فبعث أبا عبيدة بن الجراح . وعن سعيد بن زيد رضي الله عنه ، قال : أشهد على رسول الله ﷺ أني سمعته يقول : عشرة في الجنة : النبي في الجنة ، و أبو بكر في الجنة ، و طلحة في الجنة ، و عمر في الجنة ، و عثمان في الجنة ، و سعد بن مالك في الجنة ، و عبد الرحمن بن عوف في الجنة ، ولو شئت لسميت العاشر ، قال : فقالوا : من هو ؟ قال : سعيد بن زيد ، وقال . لمشهد رجل منهم مع رسول الله ﷺ ، يغبر منه وجهه ، خير من عمل أحدكم ، ولو عمر عمر نوح . رواه أبو داود ، و ابن ماجه ، و الترمذي وصححه . ورواه الترمذي عن عبد الرحمن بن عوف . وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه ، أن النبي ﷺ قال : أبو بكر في الجنة ، و عمر في الجنة ، و علي في الجنة ، و عثمان في الجنة ، و طلحة في الجنة ، و الزبير بن العوام في الجنة ، و عبد الرحمن ابن عوف في الجنة ، و سعيد بن زيد بن عمرو ابن نفيل في الجنة، و أبو عبيدة بن الجراح في الجنة . رواه الإمام أحمد في مسنده . ورواه أبو بكر بن أبي خيثمة ، وقدم فيه عثمان على علي ، رضي الله عنهما . وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله ﷺ على حراء ، هو و أبو بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير ، فتحركت الصخرة ، فقال رسول الله ﷺ : اهدأ ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد . رواه مسلم و الترمذي وغيرهما . وروي من طرق .
وقد اتفق أهل السنة على تعظيم هؤلاء العشرة وتقديمهم ، لما اشتهر من فضائلهم ومناقبهم . ومن أجهل ممن يكره التكلم بلفظ العشرة ، أو فعل شيء يكون عشر! ! لكونهم يبغضون خيار الصحابة ، وهم العشرة المشهود لهم بالجنة ، وهم يستثنون منهم علياً رضي الله عنه ! فمن العجب : أنهم يوالون لفظ التسعة ! وهم يبغضون التسعة من العشرة ! ويبغضون سائر المهاجرين والأنصار ، من السابقين الأولين ، الذين بايعوا رسول الله تحت الشجرة ، وكانوا ألفاً وأربعمائة ، وقد رضي الله عنهم . كما قال تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة . وثبت في صحيح مسلم ، عن جابر رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ ، أنه قال : لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة . وفي صحيح مسلم أيضاً ، عن جابر : أن غلام حاطب بن أبي بلتعة قال يا رسول الله : ليدخلن حاطب النار ، فقال رسول الله ﷺ : كذبت ، لا يدخلها ، فإنه شهد بدراً والحديبية . والرافضة يتبرؤون من جمهور هؤلاء ، بل يتبرؤون من سائر أصحاب رسول الله ﷺ ، إلا من نفر قليل ، نحو بضعة عشر نفراً ! ! ومعلوم أنه لو فرض في العالم عشرة من أكفر الناس ، لم يهجر هذا الاسم لذلك ، كما أنه سبحانه لما قال : وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون - لم يجب هجر اسم التسعة مطلقاً . بل اسم العشرة قد مدح الله مسماه في مواضع من القرآن : تلك عشرة كاملة . وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر . والفجر* وليال عشر . وكان ﷺ يعتكف العشر الأواخر من رمضان ، وقال في ليلة القدر : التمسوها في العشر الأواخر من رمضان . وقال : ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من أيام العشر . يعني عشر ذي الحجة .
والرافضة توالى بدل العشرة المبشرين بالجنة ، إثني عشر إماماً ، أولهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ويدعون أنه وصي النبي ﷺ ، دعوى مجردة عن الدليل ، ثم الحسن رضي الله عنه ، ثم الحسين رضي الله عنه ، ثم علي بن الحسين زين العابدين ، ثم محمد بن علي الباقر ، ثم جعفر بن محمد الصادق ، ثم موسى بن جعفر الكاظم ، ثم علي بن موسى الرضى ، ثم محمد بن علي الجواد ، ثم علي بن محمد الهادي ، ثم الحسن بن علي العسكري ، ثم محمد بن الحسن ، ويغالون في محبتهم ، ويتجاوزون الحد ! ! ولم يأت ذكر الأئمة الإثني عشر ، إلا على صفة ترد قولهم وتبطله ، وهو ما خرجاه في الصحيحين ، عن جابر بن سمرة ، قال : دخلت مع أبي على النبي ﷺ ، فسمعته يقول : لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم إثنا عشر رجلاً ، ثم تكلم النبي ﷺ بكلمة خفيت علي ، فسألت أبي : ماذا قال النبي ﷺ ؟ قال : كلهم من قريش . وفي لفظ : لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة وفي لفظ : لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى إثني عشر خليفة . وكان الأمر كما قال النبي ﷺ . والإثنا عشر : الخلفاء الراشدون الأربعة ، و معاوية ، وابنه يزيد ، و عبد الملك بن مروان ، وأولاده الأربعة ، وبينهم عمر بن عبد العزيز ، ثم أخذ الأمر في الإنحلال . وعند الرافضة أن أمر الأمة لم يزل في أيام هؤلاء فاسداً منغصاً ، يتولى عليهم الظالمون المعتدون ، بل المنافقون الكافرون ، وأهل الحق أذل من اليهود ! ! وقولهم ظاهر البطلان ، بل لم يزل الإسلام عزيزاً في ازدياد في أيام هؤلاء الإثني عشر .
قوله: ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله ﷺ ، وأزواجه الطاهرات من كل دنس
ومن أحسن القول في أصحاب رسول الله ﷺ ، وأزواجه الطاهرات من كل دنس وذرياته المقدسين من كل رجس ، فقد برىء من النفاق
ش : تقدم بعض ما ورد في الكتاب والسنة من فضائل الصحابة رضي الله عنهم . وفي صحيح مسلم ، عن زيد بن أرقم ، قال : قام فينا رسول الله ﷺ خطيباً ، بماء يدعى : خماً ، بين مكة والمدينة ، فقال : أما بعد ، ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر ، يوشك أن يأتي رسول ربي ، فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين : أولهما كتاب الله ، فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به ، فحث على كتاب الله ورغب فيه ، ثم قال : وأهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي ، ثلاثاً . وخرج البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، قال : ارقبوا محمداً في أهل بيته .
وإنما قال الشيخ رحمه الله : فقد برىء من النفاق - لأن أصل الرفض إنما أحدثه منافق زنديق ، قصده إبطال دين الإسلام ، والقدح في الرسول ﷺ ، كما ذكر ذلك العلماء . فإن عبدالله بن سبأ لما أظهر الإسلام ، أراد أن يفسد دين الإسلام بمكره وخبثه ، كما فعل بولس بدين النصرانية ، فأظهر التنسك ، ثم أظهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، حتى سعى في فتنة عثمان وقتله ، ثم لما قدم علي الكوفة أظهر الغلو في علي والنصر له ، ليتمكن بذلك من أغراضه ، وبلغ ذلك علياً ، فطلب قتله ، فهرب منه إلى قرقيس . وخبره معروف في التاريخ . وتقدم أن من فضله على أبي بكر و عمر جلده جلد المفتري . وبقيت في نفوس المبطلين خمائر بدعة الخوارج ، من الحروريه والشيعة ، ولهذا كان الرفض باب الزندقة ، كما حكاه القاضي أبو بكر ابن الطيب عن الباطنية وكيفية إفسادهم لدين الإسلام ، قال : فقالوا للداعي : يجب عليك إذا وجدت من تدعوه مسلماً أن تجعل التشيع عنده دينك وشعارك ، واجعل المدخل من جهة ظلم السلف لعلي وقتلهم الحسين ، والتبري من تيم وعدي ، وبني أمية وبني العباس ، وقل بالرجعة وأن علياً يعلم الغيب ! يفوض إليه خلق العالم ! ! وما أشبه ذلك من أعاجيب الشيعة وجهلهم ، فاذا أنست من بعض الشيعة عند الدعوة إجابة ورشداً ، أوقفته على مثالب علي وولده ، رضي الله عنهم . انتهى . ولا شك أنه يتطرق من سب الصحابة إلى سب أهل البيت ، ثم إلى سب الرسول ﷺ ، إذ أهل بيته وأصحابه مثل هؤلاء عند الفاعلين الضالين .
قوله: وعلماء السلف من السابقين ،ومن بعدهم من التابعين ،أهل الخير والأثر
وعلماء السلف من السابقين ،ومن بعدهم من التابعين ،أهل الخير والأثر ، وأهل الفقه والنظر - لا يذكرون إلا بالجميل ، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل
ش : قال تعالى : ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً . فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله ورسوله موالاة المؤمنين ، كما نطق به القرآن ، خصوصاً الذين هم ورثة الأنبياء ، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم ، يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر . وقد أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ، إذ كل أمة قبل مبعث محمد ﷺ علماؤها شرارها ، إلا المسلمين ، فإن علماءهم خيارهم ، فإنهم خلفاء الرسول من أمته ، والمحيون لما مات من سنته ، فبهم قام الكتاب وبه قاموا ، وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا ، وكلهم متفقون اتفاقاً يقيناً على وجوب اتباع الرسول ﷺ . ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه - : فلا بد له في تركه من عذر . وجماع الأعذار ثلاثة أصناف :
أحدها : عدم اعتقاده أن النبي ﷺ قاله .
والثاني : عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول .
والثالث : اعتقاده أن ذلك الحكم منسوخ . فلهم الفضل علينا والمنة بالسبق ، وتبليغ ما أرسل به الرسول ﷺ إلينا ، وإيضاح ما كان منه يخفى علينا ، فرضي الله عنهم وأرضاهم . ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم .
قوله: ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام
ولا نفضل أحداً من الأولياء على أحد من الأنبياء عليهم السلام ، ونقول : نبي واحد أفضل من جميع الأولياء
ش : يشير الشيخ رحمه الله إلى الرد على الاتحادية وجهلة المتصوفة ، وإلا فأهل الإستقامة يوصون بمتابعة العلم ومتابعة الشرع . فقد أوجب الله على الخلق كلهم متابعة الرسل ، قال تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك ، إلى أن قال : ويسلموا تسليماً . وقال تعالى : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم . قال أبو عثمان النيسابوري : من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً ، نطق بالحكمة ، ومن أقر الهوى على نفسه ، نطق بالبدعة . وقال بعضهم : ما ترك بعضهم شيئاً من السنة إلا لكبر في نفسه . والأمر كما قال ، فإنه إذا لم يكن متبعاً للأمر الذي جاء به الرسول ، كان يعمل بإرادة نفسه ، فيكون متبعاً لهواه ، بغير هدى من الله ، وهذا غش النفس ، وهو من الكبر ، فإنه شبيه بقول الذين قالوا : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته . وكثير من هؤلاء يظن أنه يصل برياسته واجتهاده في العبادة ، وتصفية نفسه ، إلى ما وصلت إليه الأنبياء من غير اتباع لطريقتهم ! ومنهم من يظن أنه قد صار أفضل من الأنبياء !! ومنهم من يقول إن الأنبياء والرسل إنما يأخذون العلم بالله من مشكاة خاتم الأولياء ! ! ويدعي لنفسه أنه خاتم الأولياء ! ! ويكون ذلك العلم هو حقيقة قول فرعون ، وهو أن هذا الوجود المشهود واجب بنفسه ، ليس له صانع مباين له ، لكن هذا يقول : هو الله ! وفرعون أظهر الإنكار بالكلية ، لكن كان فرعون في الباطن أعرف بالله منهم ، فإنه كان مثبتاً للصانع ، وهؤلاء ظنوا أن الوجود المخلوق هو الوجود الخالق ، كابن عربي وأمثاله ! ! وهو لما رأى أن الشرع الظاهر لا سبيل إلى تغييره - قال : النبوة ختمت ، لكن الولاية لم تختم ! وادعى من الولاية ما هو أعظم من النبوة وما يكون للأنبياء والمرسلين ، وأن الأنبياء مستفيدون منها ! كما قال :
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي !
وهذا قلب للشريعة ، فإن الولاية ثابتة للمؤمنين المتقين ، كما قال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون . والنبوة أخص من الولاية ، والرسالة أخص من النبوة ، كما تقدم التنبيه على ذلك . وقال ابن عربي أيضاً في فصوصه :
ولما مثل النبي ﷺ النبوة بالحائط من اللبن فرآها قد كملت إلا موضع لبنة ، فكان هو ﷺ موضع اللبنة ، غير أنه ﷺ لا يراها ، كما قال : لبنة واحدة ، وأما خاتم الأولياء فلا بد له من هذه الرؤية ، فيرى ما مثله النبي ﷺ ، ويرى نفسه في الحائط في موضع لبنتين ! ! ويرى نفسه تنطبع في موضع اللبنتين ، فتكمل الحائط ! ! والسبب الموجب لكونه يراها لبنتين : أن الحائط لبنة من فضة ولبنة من ذهب ، واللبنة الفضة هي ظاهره وما يتبعه فيه من الأحكام ، كما هو أخذ عن الله في الشرع ما هو في الصورة الظاهرة متبع فيه ، لأنه يرى الأمر على ما هو عليه ، فلا بد أن يراه هكذا ، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن ! فإنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحى إليه إلى الرسول ﷺ ، قال : فإن فهمت ما أشرنا إليه فقد حصل لك العلم النافع ! فمن أكفر ممن ضرب لنفسه المثل بلبنة ذهب ، وللرسل المثل بلبنة فضة ، فيجعل نفسه أعلى وأفضل من الرسل ؟! تلك أمانيهم : إن في صدورهم إلا كبر ما هم ببالغيه . وكيف يخفى كفر من هذا كلامه ؟ وله من الكلام أمثال هذا ، وفيه ما يخفى منه الكفر ، ومنه ما يظهر ، فلهذا يحتاج إلى نقد جيد ، ليظهر زيفه ، فإن من الزغل ما يظهر لكل ناقد ، ومنه ما لا يظهر إلا للناقد الحاذق البصير . وكفر ابن عربي وأمثاله فوق كفر القائلين : لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله . ولكن ابن عربي وأمثاله منافقون زنادقة ، اتحادية في الدرك الأسفل من النار ، والمنافقون يعاملون معاملة المسلمين ، لإظهارهم الإسلام ، كما كان يظهره المنافقون في حياة النبي ﷺ ويبطنون الكفر، وهو يعاملهم معاملة المسلمين لما يظهر منهم . فلو أنه ظهر من أحد منهم ما يبطنه من الكفر ، لأجرى عليه حكم المرتد . ولكن في قبول توبته خلاف ، والصحيح عدم قبولها ، وهي رواية معلى عن أبي حنيفة رضي الله عنه . والله المستعان .
قوله: ونؤمن بما جاء من كراماتهم ، وصح عن الثقات من رواياتهم
ش : فالمعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة ، و كذلك الكرامة في عرف أئمة أهل العلم المتقدمين . ولكن كثير من المتأخرين يفرقون في اللفظ بينهما ، فيجعلون المعجزة للنبي ، والكرامة للولي . وجماعها : الأمر الخارق للعادة . فصفات الكمال ترجع إلى ثلاثة : العلم ، والقدرة ، والغنى . وهذه الثلاثة لا تصلح على الكمال إلا لله وحده ، فإنه الذي أحاط بكل شيء علماً ، وهو على كل شيء قدير ، وهو غني عن العالمين . ولهذا أمر النبي ﷺ أن يتبرأ من دعوى هذه الثلاثة بقوله : قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي . وكذلك قال نوح عليه السلام ، فهذا أول أولي العزم ، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، وهذا خاتم الرسل ، وخاتم أولي العزم ، وكلاهما تبرأ من ذلك ، وهذا لأنهم يطالبونهم تارة بعلم الغيب ، كقوله تعالى : يسألونك عن الساعة أيان مرساها ، وتارة بالتأثير ، كقوله تعالى : وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً الآيات ، وتارة يعيبون عليهم الحاجة البشرية ، كقوله تعالى : وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق الآية . فأمر الرسول أن يخبرهم بأنه لا يملك ذلك ، وإنما ينال من تلك الثلاثة بقدر ما يعطيه الله ، فيعلم ما علمه الله إياه ، ويستغني عما أغناه عنه ، ويقدر على ما أقدر عليه من الأمور المخالفة للعادة المطردة ، أو لعادة أغلب الناس . فجميع المعجزات والكرامات ما تخرج عن هذه الانواع .
ثم الخارق : إن حصل به فائدة مطلوبة في الدين ، كان من الأعمال الصالحة المأمور بها ديناً وشرعاً ، إما واجب أو مستحب ، وإن حصل به أمر مباح ، كان من نعم الله الدنيوية التي تقتضي شكراً ، وإن كان على وجه يتضمن ما هو منهي عنه نهي تحريم أو نهي تنزيه ، كان سبباً للعذاب أو البغض ، كالذي أوتي الآيات فانسلخ منها : بلعام بن باعورا ، لاجتهاد أوتقليد ، أو نقص عقل أوعلم ، أو غلبة حال ، أو عجز أو ضرورة .
فالخارق ثلاثة أنواع : محمود في الدين ، ومذموم ، ومباح . فإن كان المباح فيه منفعة كان نعمة ، وإلا فهو كسائرالمباحات التي لا منفعة فيها . قال أبو علي الجوزجاني : كن طالباً للاستقامة ، لا طالباً للكرامة ، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة ، وربك يطلب منك الاستقامة .
قال الشيخ السهروردي في عوارفه : وهذا أصل كبير في الباب ، فإن كثيراً من المجتهدين المتعبدين سمعوا بالسلف الصالحين المتقدمين ، وما منحوا به من الكرامات وخوارق العادات ، فنفوسهم لا تزال تتطلع إلى شيء من ذلك ، ويحبون أن يرزقوا شيئاً منه ، ولعل أحدهم يبقى منكسر القلب ، متهماً لنفسه في صحة عمله ، حيث لم يحصل له خارق ، ولو علموا بسر ذلك لهان عليهم الأمر ، فيعلم أن الله يفتح على بعض المجاهدين الصادقين من ذلك باباً ، والحكمة فيه أن يزداد بما يرى من خوارق العادات وآثار القدرة - يقيناً ، فيقوى عزمه على الزهد في الدنيا ، والخروج عن دواعي الهوى . فسبيل الصادق مطالبة النفس بالاستقامة ، فهي كل الكرامة .
ولا ريب أن للقلوب من التأثير أعظم مما للأبدان ، لكن إن كانت صالحة كان تأثيرها صالحاً ، وإن كانت فاسدة كان تأثيرها فاسداً . فالأحوال يكون تأثيرها محبوباً لله تعالى تارة ، ومكروهاً لله أخرى .
وقد تكلم الفقهاء في وجوب القود على من يقتل غيره في الباطن . وهؤلاء يشهدون بواطنهم وقلوبهم الأمر الكوني ، ويعدون مجرد خرق العادة لأحدهم أنه كرامة من الله له ، ولا يعلمون أنه في الحقيقة إنما الكرامة لزوم الاستقامة ، وأن الله تعالى لم يكرم عبداً بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه ، وهو طاعته وطاعة رسوله ، وموالاة أوليائه ، ومعاداة أعدائه . وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
وأما ما يبتلي الله به عبده ، من السر بخرق العادة أو بغيرها أو بالضراء - فليس ذلك لأجل كرامة العبد على ربه ولا هوانه عليه ، بل قد سعد بها قوم إذا أطاعوه ، وشقي بها قوم إذا عصوه ، كما قال تعالى : فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا . ولهذا كان الناس في هذه الأمور ثلاثة أقسام :
قسم ترتفع درجتهم بخرق العادة .
قسم يتعرضون بها لعذاب الله .
وقسم يكون في حقهم بمنزلة المباحات ، كما تقدم .
وتنوع الكشف والتأثير باعتبار تنوع كلمات الله. وكلمات الله نوعان : كونية ، ودينية :
فكلماته الكونية هي التي استعاذ بها النبي ﷺ في قوله : أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر . قال تعالى : إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون . وقال تعالى : وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً ، لا مبدل لكلماته . والكون كله داخل تحت هذه الكلمات ، وسائر الخوارق .
والنوع الثاني : الكلمات الدينية ، وهي القرآن وشرع الله الذي بعث به رسوله ، وهي أمره ونهيه وخبره ، وحظ العبد منها العلم بها ، والعمل ، والأمر بما أمر الله به ، كما أن حظ العباد عموماً وخصوصاً العلم بالكونيات والتأثير فيها ، أي بموجبها . فالأولى تدبيرية كونية ، والثانية شرعية دينية . فكشف الأولى العلم بالحوادث الكونية ، وكشف الثانية العلم بالمأمورات الشرعية . وقدرة الأولى التأثير في الكونيات ، إما في نفسه كمشيه على الماء ، وطيرانه في الهواء ، وجلوسه في النار ، وإما في غيره ، بإصحاح وإهلاك ، وإغناء وإفقار . وقدرة الثانية التأثير في الشرعيات ، إما في نفسه بطاعة الله ورسوله والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله باطناً وظاهراً ، وإما في غيره بأن يأمر بطاعة الله ورسوله فيطاع في ذلك طاعة شرعية .
فإذا تقرر ذلك ، فاعلم أن عدم الخوارق علماً وقدرة لا تضر المسلم في دينه ، فمن لم ينكشف له شيء من المغيبات ، ولم يسخر له شيئاً من الكونيات - : لا ينقص ذلك في مرتبته عند الله ، بل قد يكون عدم ذلك أنفع له ، فإنه إن اقترن به الدين وإلا هلك صاحبه في الدنيا والآخرة ، فإن الخارق قد يكون مع الدين ، وقد يكون مع عدمه ، أو فساده ، أو نقصه . فالخوارق النافعة تابعة للدين ، خادمة له ، كما أن الرياسة النافعة هي التابعة للدين ، وكذلك المال النافع ، كما كان السلطان والمال النافع بيد النبي ﷺ و أبي بكر و عمر . فمن جعلها هي المقصودة ، وجعل الدين تابعاً لها ، ووسيلة إليها ، لا لأجل الدين في الأصل - : فهو شبيه بمن يأكل الدنيا بالدين ، وليست حاله كحال من تدين خوف العذاب ، أو رجاء الجنة ، فإن ذلك ما هو مأمور به ، وهو على سبيل نجاة ، وشريعة صحيحة . والعجب أن كثيراً ممن يزعم أن همه قد ارتفع عن أن يكون خوفاً من النار أو طلباً للجنة - يجعل همه بدينه أدنى خارق من خوارق الدنيا ! !
ثم إن الدين إذا صح علماً وعملاً فلا بد أن يوجب خرق العادة ، إذا احتاج إلى ذلك صاحبه . قال تعالى : ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب . وقال تعالى : إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً . وقال تعالى : ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتاً * وإذاً لآتيناهم من لدنا أجراً عظيماً * ولهديناهم صراطاً مستقيماً . وقال تعالى : ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون * الذين آمنوا وكانوا يتقون * لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة . وقال رسول الله ﷺ : اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله ثم قرأ قوله إن في ذلك لآيات للمتوسمين . رواه الترمذي من رواية أبي سعيد الخدري . وقال تعالى ، فيما يرويه عنه رسول الله ﷺ : من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة ، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبد يتقرب إلي بالنوافل ، حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت ، وأكره مساءته ، ولا بد له منه .
فظهر أن الاستقامة حظ الرب ، وطلب الكرامة حظ النفس . وبالله التوفيق .
وقول المعتزلة في إنكار الكرامة : ظاهر البطلان ، فإنه بمنزلة إنكار المحسوسات . وقولهم : لو صحت لأشبهت المعجزة ، فيؤدي إلى التباس النبي ﷺ بالولي ، وذلك لا يجوز! وهذه الدعوى إنما تصح إذا كان الولي يأتي بالخارق ويدعي النبوة ، وهذا لا يقع ، ولو ادعى النبوة لم يكن ولياً ، بل كان متنبئاً كذاباً ، وقد تقدم الكلام في الفرق بين النبي والمتنبىء ، عند قول الشيخ : وأن محمداً عبده المجتبى ونبيه المصطفى .
ومما ينبغي التنبيه عليه ههنا : أن الفراسة ثلاثة أنواع :
إيمانية ، وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده ، وحقيقتها أنها خاطر يهجم ، على القلب ، يثب عليه كوثوب الأسد على الفريسة ، ومنها اشتقاقها ، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان ، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحد فراسة . قال أبو سليمان الداراني رحمه الله : الفراسة مكاشفة النفس ومعاينة الغيب ، وهي من مقامات الإيمان . انتهى .
وفراسة رياضية ، وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي ، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها ، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر ، ولا تدل على إيمان ، ولا على ولاية ، ولا تكشف عن حق نافع ، ولا عن طريق مستقيم ، بل كشفها من جنس فراسة الولاة وأصحاب عبادة الرؤساء والأظناء ونحوهم .
وفراسة خلقية ، وهي التي صنف فيها الأطباء وغيرهم ، واستدلوا بالخلق على الخلق ، لما بينهما من الإرتباط ، الذي اقتضته حكمة الله ، كالإستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ، وبكبره على كبره ، وسعة الصدر على سعة الخلق ، وبضيقه على ضيقه ، وبجمود العينين وكلال نظرهما على بلادة صاحبهما وضعف حرارة قلبه ، ونحو ذلك .
قوله : ونؤمن بأشراط الساعة
من خروج الدجال ، ونزول عيسى ابن مريم عليه السلام من السماء ، ونؤمن بطلوع الشمس من مغربها ، وخروج دابة الأرض من موضعها .
ش : عن عوف بن مالك الأشجعي ، قال : أتيت النبي ﷺ في غزوة تبوك ، وهو في قبة من أدم ، فقال : اعدد ستاً بين يدي الساعة : موتي ، ثم فتح بيت المقدس ، ثم موتان يأخذ فيكم كقعاص الغنم ، ثم استفاضة المال حتى يعطى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً ، ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته ، ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر ، فيغدرون ، فيأتونكم تحت ثمانين غاية ، تحت كل غاية إثنا عشر ألفاً . وروي راية ، بالراء والغين ، وهما بمعنى . رواه البخاري و أبو داود و ابن ماجه و الطبراني . وعن حذيفة بن أسيد ، قال : اطلع النبي ﷺ علينا ونحن نتذاكر الساعة ، فقال : ما تذاكرون ؟ قالوا : نذكر الساعة ، فقال : إنها لن تقوم حتى ترون قبلها عشر آيات ، فذكر : الدخان ، والدجال ، والدابة ، وطلوع الشمس من مغربها ، ونزول عيسى بن مريم ، ويأجوج ومأجوج ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم . رواه مسلم ، وفي الصحيحين ، واللفظ للبخاري ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : ذكر الدجال عند النبي ﷺ ، فقال : إن الله لا يخفى عليكم ، إن الله ليس بأعور ، وأشار بيده إلى عينه ، وإن المسيح الدجال أعور عين اليمنى ، كأن عينة عنبة طافية . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : ما من نبي إلا وأنذر قومه الأعور الدجال ، ألا إنه أعور ، وإن ربكم ليس بأعور ، ومكتوب بين عينيه ك ف ر ، فسره في رواية : أي كافر . وروى البخاري وغيره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله ﷺ : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، حتى تكون السجدة خيراً من الدنيا وما فيها . ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيداً . وأحاديث الدجال ، وعيسى بن مريم عليه السلام ، ينزل من السماء ويقتله ، ويخرج يأجوج ومأجوج في أيامه بعد قتله الدجال ، فيهلكهم الله أجمعين في ليلة واحدة ببركة دعائه عليهم : ويضيق هذا المختصر عن بسطها .
وأما خروج الدابة وطلوع الشمس من المغرب - فقال تعالى : وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون . وقال تعالى : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً قل انتظروا إنا منتظرون . وروى البخاري عند تفسير الآية ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله ﷺ : لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا رآها الناس آمن من عليها ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل . وروى مسلم ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : حفظت من رسول الله ﷺ حديثاً لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله ﷺ يقول : إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيهما ما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على إثرها قريبا . أي أول الآيات التي ليست مألوفة ، وإن كان الدجال ونزول عيسى عليه السلام من السماء قبل ذلك ، وكذلك خروج يأجوج ومأجوج ، كل ذلك أمور مألوفة ، لأنهم بشر ، مشاهدة مثلهم مألوفة ، وأما خروج الدابة بشكل غريب غير مألوف ، ثم مخاطبتها الناس ووسمها إياهم بالإيمان أو الكفر فأمر خارج عن مجاري العادات . وذلك أول الآيات الأرضية ، كما أن طلوع الشمس من مغربها ، على خلاف عادتها المألوفة - أول الآيات السماوية. وقد أفرد الناس في أحاديث أشراط الساعة مصنفات مشهورة ، يضيق على بسطها هذا المختصر .
قوله : ولا نصدق كاهناً ولا عرافاً ، ولا من يدعي شيئاً يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأمة
ش : روى مسلم وإلامام أحمد عن صفية بنت أبي عبيد ، عن بعض أزواج النبي ﷺ ، عن النبي ﷺ ، قال : من أتى عرافاً فسأله عن شيء ، لم يقبل له صلاة أربعين ليلة . وروى الامام أحمد في مسنده ، عن أبي هريرة ، أن النبي ﷺ قال : من أتى عرافاً أو كاهناً ، فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد . والمنجم يدخل في اسم العراف عند بعض العلماء ، وعند بعضهم هو في معناه . فإذا كانت هذه حال السائل ، فكيف بالمسؤول ؟ وفي الصحيحين و مسند الإمام أحمد ، عن عائشة ، قالت : سئل رسول الله ﷺ عن الكهان ؟ فقال : ليسوا بشيء ، فقالوا : يا رسول الله ، إنهم يحدثون أحياناً بالشيء يكون حقاً ؟ فقال رسول الله ﷺ : تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه ، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة . وفي الصحيح عنه ﷺ أنه قال : ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، وحلوان الكاهن خبيث . وحلوانه : الذي تسميه العامة حلاوته . ويدخل في هذا المعنى ما تعاطاه المنجم وصاحب الأزلام التي يستقسم بها ، مثل الخشبة المكتوب عليها ا ب ج د والضارب بالحصى ، والذي يخط في الرمل . وما تعاطاه هؤلاء حرام . وقد حكى الإجماع على تحريمه غير واحد من العلماء ، كالبغوي و القاضي عياض وغيرهما .
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد ، قال : خطبنا رسول ﷺ بالحديبية ، على إثر سماء كانت من الليل ، فقال : أتدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي ، كافر بالكوكب ، وأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي ، مؤمن بالكوكب . وفي صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد ، عن أبي مالك الأشعري أن النبي ﷺ قال : أربع في أمتي من أمر الجاهلية ، لا يتركونهن : الفخر في الأحساب ، والطعن في الأنساب ، والإستسقاء بالنجوم ، والنياحة . والنصوص عن النبي ﷺ وأصحابه وسائر الأئمة ، بالنهي عن ذلك - أكثرمن أن يتسع هذا الموضع لذكرها . وصناعة التنجيم ، التي مضمونها الأحكام والتأثير ، وهو الإستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية أو التمريح بين القرى الفلكية والفوايل الأرضية - : صناعة محرمة بالكتاب والسنة ، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين ، قال تعالى : ولا يفلح الساحر حيث أتى . وقال تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت . قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره : الجبت السحر . وفي صحيح البخاري ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان لأبي بكر غلام يأكل من خراجه ، فجاء يوماً بشيء ، فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام : تدري مم هذا ؟ قال : وما هو ؟ قال : كنت تكهنت لإنسان في الجاهلية ، وما أحسن الكهانة ، إلا أني خدعته ، فلقيني ، فأعطاني بذلك ، فهذا الذي أكلت منه ، فأدخل أبو بكر يده فقاء كل شيء في بطنه .
والواجب على ولي الأمر وكل قادر أن يسعى في إزالة هؤلاء المنجمين والكهان والعرافين وأصحاب الضرب بالرمل والحصى والقرع والقالات ، ومنهم من الجلوس في الحوانيت والطرقات ، أو يدخلوا على الناس في منازلهم لذلك . ويكفي من يعلم تحريم ذلك ولا يسعى في إزالته ، مع قدرته على ذلك - قوله تعالى : كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون . وهؤلاء الملاعين يقولون الإثم ويأكلون السحت ، بإجماع المسلمين . وثبت في السنن عن النبي ﷺ برواية الصديق رضي الله عنه ، أنه قال : إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه .
وهؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال الخارجة عن الكتاب والسنة ، أنواع : نوع منهم : أهل تلبيس وكذب وخداع ، الذين يظهر أحدهم طاعة الجن له ، أو يدعي الحال من أهل المحال ، من المشايخ النصابين ، والفقراء الكاذبين ، والطرقية المكارين ، فهؤلاء يستحقون العقوبة البليغة التي تردعهم وأمثالهم عن الكذب والتلبيس . وقد يكون في هؤلاء من يستحق القتل ، كمن يدعي النبوة بمثل هذه الخزعبلات ، أو يطلب تغيير شيء من الشريعة ، ونحو ذلك . ونوع يتكلم في هذه الأمور على سبيل الجد والحقيقة ، بأنواع السحر . وجمهور العلماء يوجبون قتل الساحر ، كما هو مذهب أبي حنيفة و مالك و أحمد في المنصوص عنه ، وهذا هو المأثور عن الصحابة ، كعمر و ابنه و عثمان وغيرهم . ثم اختلف هؤلاء : هل يستتاب أم لا ؟ وهل يكفر بالسحر ؟ أم يقتل لسعيه في الأرض بالفساد ؟ وقال طائفة : إن قتل بالسحر يقتل ، وإلا عوقب بدون القتل ، إذا لم يكن في قوله وعمله كفر ، وهذا هو المنقول عن الشافعي ، وهو قول في مذهب أحمد .
وقد تنازع العلماء في حقيقة السحر وأنواعه : والأكثرون يقولون : إنه قد يؤثر في موت المسحور ومرضه من غير وصول شيء ظاهر إليه ، وزعم بعضهم أنه مجرد تخييل . واتفقوا كلهم على أن ما كان من جنس دعوة الكواكب السبعة ، أو غيرها ، أو خطابها ، أو السجود لها ، والتقرب إليها بما يناسبها من اللباس والخواتم والبخور ونحو ذلك - فإنه كفر ، وهو من أعظم أبواب الشرك ، فيجب غلقه ، بل سده . وهو من جنس فعل قوم إبراهيم عليه السلام ، ولهذا قال ما حكى الله عنه بقوله : فنظر نظرة في النجوم * فقال إني سقيم . وقال تعالى : فلما جن عليه الليل رأى كوكباً ، الآيات ، إلى قوله تعالى : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون . واتفقوا كلهم أيضاً على أن كل رقية وتعزيم أو قسم ، فيه شرك بالله ، فإنه لا يجوز التكلم به ، وإن أطاعته به الجن أو غيرهم ، وكذلك كل كلام فيه كفر لا يجوز التكلم به ، وكذلك الكلام الذي لا يعرف معناه لا يتكلم به ، لإمكان أن يكون فيه شرك لا يعرف . ولهذا قال النبي ﷺ : لا بأس بالرقى ما لم تكن شركاً . ولا يجوز الاستعاذة بالجن ، فقد ذم الله الكافرين على ذلك ، فقال تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً . قالوا : كان الإنسي إذا نزل بالوادي يقول : أعوذ بعظيم هذا الوادي من سفهائه ، فيبيت في أمن وجوار حتى يصبح ، فزادوهم رهقاً ، يعني الإنس للجن ، باستعاذتهم بهم ، رهقا ، أي إثماً وطغياناً وجراءة وشراً ، وذلك أنهم قالوا : قد سدنا الجن ، والإنس ! فالجن تعاظم في أنفسها وتزداد كفراً إذا عاملتها الإنس بهذه المعاملة . وقد قال تعالى : ويوم يحشرهم جميعا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون . فهؤلاء الذين يزعمون أنهم يدعون الملائكة ويخاطبونهم بهذه العزائم ، وأنها تنزل عليهم - : ضالون ، وإنما تنزل عليهم الشياطين ، وقد قال تعالى : ويوم يحشرهم جميعاً يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أولياؤهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلت لنا قال النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله إن ربك حكيم عليم . فاستمتاع الإنسيى بالجني : في قضاء حوائجه ، وامتثال أوامره ، وإخباره بشيء من المغيبات ، ونحو ذلك ، واستمتاع الجن بالإنس : تعظيمه إياه ، واستعانته به ، واستغاثته وخضوعه له .
ونوع منهم بالأحوال الشيطانية ، والكشوف ومخاطبته رجال الغيب ، وأن لهم خوارق تقتضي أنهم أولياء الله ! وكان من هؤلاء من يعين المشركين على المسلمين ! ويقول : إن الرسول أمره بقتال المسلمين مع المشركين ، لكون المسلمين قد عصوا ! ! وهؤلاء في الحقيقة إخوان المشركين . والناس من أهل العلم فيهم على ثلاثة أحزاب : حزب يكذبون بوجود رجال الغيب ، ولكن قد عاينهم الناس ، وثبت عمن عاينهم أو حدثه الثقات بما رأوه ، وهؤلاء إذا رأوهم وتيقنوا وجودهم خضعوا لهم . وحزب عرفوهم ، ورجعوا الى القدر ، واعتقدوا أن ثم في الباطن طريقاً إلى الله غير طريقة الأنبياء ! وحزب ما أمكنهم أن يجعلوا ولياً خارجاً عن دائرة الرسول ، فقالوا : يكون الرسول هو ممداً للطائفتين . فهؤلاء معظمون للرسول جاهلون بدينه وشرعه ، والحق : أن هؤلاء من أتباع الشياطين ، وأن رجال الغيب هم الجن ، ويسمون رجالاً ، كما قال تعالى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً . وإلا فالإنس يؤنسون ، أي يشهدون ويرون ، وإنما يحتجب الإنسي أحياناً ، لا يكون دائماً محتجباً عن أبصار الإنس ، ومن ظنهم أنهم من الإنس فمن غلطه وجهله . وسبب الضلال فيهم ، وافتراق هذه الاحزاب الثلاثة - عدم الفرقان بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن . ويقول بعض الناس : الفقراء يسلم إليهم حالهم ! وهذا كلام باطل ، بل الواجب عرض أفعالهم وأحوالهم على الشريعة المحمدية ، فما وافقها قبل ! وما خالفها رد ، كما قال النبي ﷺ : من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد . وفي رواية : من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد . فلا طريقة إلا طريقة الرسول ﷺ ، ولا حقيقة إلا حقيقته ، ولا شريعة إلا شريعته ، ولا عقيدة إلا عقيدته ، ولا يصل أحد من الخلق بعده إلى الله وإلى رضوانه وجنته وكرامته إلا بمتابعته باطناً وظاهراً . ومن لم يكن له مصدقاً فيما أخبر ، ملتزماً لطاعته فيما أمر ، في الأمور الباطنة التي في القلوب ، والأعمال الظاهرة التي على الأبدان - : لم يكن مؤمناً ، فضلاً عن أن يكون ولياً لله تعالى ، ولو طار في الهواء ، ومشى على الماء ، وأنفق من الغيب ، وأخرج الذهب من الخشب ، ولو حصل له من الخوارق ماذا عسى أن يحصل ! ! فإنه لا يكون ، مع تركه الفعل المأمور وعزل المحظور - إلا من أهل الأحوال الشيطانية ، المبعدة لصاحبها عن الله تعالى ، المقربة إلى سخطه وعذابه . لكن من ليس يكلف من الأطفال والمجانين ، قد رفع عنهم القلم ، فلا يعاقبون ، وليس لهم من الإيمان بالله والإقرار باطناً وظاهراً ما يكونون به من أولياء الله المقربين ، وحزبه المفلحين ، وجنده الغالبين . لكن يدخلون في الإسلام تبعا لآبائهم ، كما قال تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين .
فمن اعتقد في بعض البله أو المولعين ، مع تركه لمتابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله - أنه من أولياء الله ، ويفضله على متبعي طريقة الرسول ﷺ ، فهو ضال مبتدع ، مخطىء في اعتقاده . فإن ذاك الأبله ، إما أن يكون شيطاناً زنديقاً ، أو زوكارياً متحيلاً ، أو مجنوناً معذوراً ! فكيف يفضل على من هو من أولياء الله ، المتبعين لرسوله ؟! أو يساوى به ؟ ! ولا يقال : يمكن أن يكون هذا متبعاً في الباطن وإن كان تاركاً للاتباع في الظاهر ؟ فإن هذا خطأ أيضاً ، بل الواجب متابعة الرسول ﷺ ظاهراً وباطناً . قال يونس بن عبد الأعلى الصدفي : قلت للشافعي : إن صاحبنا الليث كان يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة ؟ فقال الشافعي : قصر الليث رحمه الله ، بل إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ، ويطير في الهواء ، فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب .
وأما ما يقوله بعض الناس عن رسول الله ﷺ أنه قال : اطلعت على أهل الجنة فرأيت أكثر أهلها البله فهذا لا يصح عن رسول الله ﷺ ، ولا ينبغي نسبته إليه ، فإن الجنة إنما خلقت لأولي الألباب ، الذين أرشدتهم عقولهم وألبابهم إلى الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وقد ذكر الله أهل الجنة بأوصافهم في كتابه ، فلم يذكر في أوصافهم البله ، الذي هو ضعف العقل ، وإنما قال النبي ﷺ : اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء . ولم يقل البله !
والطائفة الملامية ، وهم الذين يفعلون ما يلامون عليه ، ويقولون نحن متبعون في الباطن ، ويقصدون إخفاء المرائين ! ردوا باطلهم بباطل آخر! ! والصراط المستقيم بين ذلك . وكذلك الذين يصعقون عند سماع الأنغام الحسنة ، مبتدعون ضالون ! وليس للإنسان أن يستدعي ما يكون سبب زوال عقله ! ولم يكن في الصحابة والتابعين من يفعل ذلك ، ولو عند سماع القرآن ، بل كانوا كما وصفهم الله تعالى : إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون . وكما قال تعالى : الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد .
وأما الذين ذكرهم العلماء بخير من عقلاء المجانين ، فأولئك كان فيهم خير ، ثم زالت عقولهم . ومن علامة هؤلاء ، أنه إذا حصل في جنونهم نوع من الصحو ، تكلموا بما كان في قلوبهم من الإيمان . ويهتدون بذلك في حال زوال عقلهم . بخلاف من كان قبل جنونه كافراً أو فاسقاً ، لم يكن حدوث جنونه مزيلاً لما ثبت من كفره أو فسقه . وكذلك من جن من المؤمنين المتقين ، يكون محشوراً مع المؤمنين المتقين . وزوال العقل بجنون أو غيره ، سواء سمي صاحبه مولعاً أو متولهاً لا يوجب مزيد حال ، بل حال صاحبه من الإيمان والتقوى يبقى على ما كان عليه من خير وشر ، لا أنه يزيده أو ينقصه ، ولكن جنونه يحرمه الزيادة من الخير ، كما أنه يمنع عقوبته على الشر ، ولا يمحو عنه ما كان عليه قبله .
وما يحصل لبعضهم عند سماع الأنغام المطربة ، من الهذيان ، والتكلم لبعض اللغات المخالفة للسانه المعروف منه ! ! فذلك شيطان يتكلم على لسانه ، كما يتكلم على لسان المصروع ، وذلك كله من الأحوال الشيطانية ! وكيف يكون زوال العقل سبباً أو شرطاً أوتقرباً إلى ولاية الله ، كما يظنه كثير من أهل الضلال ؟! حتى قال قائلهم :
هم معشر حلوا النظام وخرقوا الـ سياج فلا فرض لديهم ولا نفل
مجانين ، إلا أن سر جـنونـهم عزيز على أبوابه يسجد العقل
وهذا كلام ضال ، بل كافر ، يظن أن في الجنون سراً يسجد العقل على بابه ! ! لما رآه من بعض المجانين من نوع مكاشفة ، أو تصرف عجيب خارق للعادة ، ويكون ذلك سبب ما اقترن به من الشياطين ، كما يكون للسحرة والكهان ! فيظن هذا الضال أن كل من خبل أو خرق عادة كان وليا لله ! ! ومن اعتقد هذا فهو كافر ، فقد قال تعالى : هل أنبئكم على من تنزل الشياطين * تنزل على كل أفاك أثيم . فكل من تنزل عليه الشياطين لا بد أن يكون عنده كذب وفجور .
وأما الذين يتعبدون بالرياضات والخلوات ، ويتركون الجمع والجماعات ، فهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، قد طبع الله على قلوبهم . كما قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : من ترك ثلاث جمع تهاوناً من غير عذر ، طبع الله على قلبه . وكل من عدل عن اتباع سنة الرسول ، إن كان عالماً بها فهو مغضوب عليه ، وإلا فهو ضال . ولهذا شرع الله لنا أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم عليهم ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقاً ، غير المغضوب عليهم ولا الضالين .
وأما من يتعلق بقصة موسى مع الخضر عليه السلام ، في تجويز الاستغناء عن الوحي بالعلم اللدني ، الذي يدعيه بعض من عدم التوفيق - : فهو ملحد زنديق . فإن موسى عليه السلام لم يكن مبعوثاً إلى الخضر ، ولم يكن الخضر مأموراً بمتابعته . ولهذا قال له : أنت موسى بني إسرائيل ؟ قال : نعم . ومحمد ﷺ مبعوث إلى جميع الثقلين ، ولو كان موسى وعيسى حيين لكانا من أتباعه ، وإذا نزل عيسى عليه السلام إلى الأرض ، إنما يحكم بشريعة محمد ، فمن ادعى أنه مع محمد ﷺ كالخضر مع موسى ، أو جوز ذلك لأحد من الأمة - : فليجدد إسلامه ، وليشهد شهادة الحق ، فإنه مفارق لدين الإسلام بالكلية ، فضلاً عن أن يكون من أولياء الله ، وإنما هو من أولياء الشيطان . وهذا الموضع مفرق بين زنادقة القوم وأهل الإستقامة ، وحرك تر . وكذا من يقول بأن الكعبة تطوف برجال منهم حيث كانوا ! ! فهلا خرجت الكعبة إلى الحديبية فطافت برسول الله ﷺ حين أحصر عنها ، وهو يود منها نظرة ؟! وهؤلاء لهم شبه بالذين وصفهم الله تعالى حيث يقول : بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة ، إلى آخر السورة .
قوله : ونرى الجماعة حقاً وصواباً ، والفرقة زيغاً وعذاباً
ش : قال الله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا . وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم . وقال تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون . وقال تعالى : ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك . فجعل أهل الرحمة مستثنين من الإختلاف . وقال تعالى : ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد . وقد تقدم قوله ﷺ : إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة ، يعني الأهواء ، كلها في النار إلا واحدة ، وهي الجماعة . وفي رواية : قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : ما أنا عليه وأصحابي . فبين أن عامة المختلفين هالكون إلا أهل السنة والجماعة ، وأن الاختلاف واقع لا محالة وروى الإمام أحمد عن معاذ بن جبل ، أن النبي ﷺ قال : إن الشيطان ذئب الإنسان ، كذئب الغنم ، يأخذ الشاة القاصبة ، والناحية ، فإياكم والشعاب ، وعليكم بالجماعة ، والعامة ، والمسجد . وفي الصحيحين عن النبي ﷺ : أنه قال لما نزل قوله تعالى : قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم ، قال : أعوذ بوجهك أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض - قال : هاتان أهون . فدل على أنه لا بد أن يلبسهم شيعاً ويذيق بعضهم بأس بعض ، مع براءة الرسول من هذه الحال ، وهم فيها في جاهلية . ولهذا قال الزهري : وقعت الفتنة وأصحاب رسول الله ﷺ متوافرون ، فأجمعوا على أن كل دم أو مال أو قرح أصيب بتأويل القرآن - فهو هدر ، أنزلوهم منزلة الجاهلية . وقد روى مالك بإسناده الثابت عن عائشة رضي الله عنها ، أنها كانت تقول : ترك الناس العمل بهذه الآية ، يعني قوله تعالى : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله . فإن المسلمين لما اقتتلوا كان الواجب الإصلاح بينهم كما أمر الله تعالى ، فلما لم يعمل بذلك صارت فتنة وجاهلية ، وهكذا تسلسل النزاع .
والأمور التي تتنازع فيها الأمة ، في الأصول والفروع - إذا لم ترد الى الله والرسول ، لم يتبين فيها الحق ، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم ، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضاً ، ولم يبغ بعضهم على بعض ، كما كان الصحابة في خلافة عمر و عثمان يتنازعون في بعض مسائل الإجتهاد ، فيقر بعضهم بعضاً ، ولا يعتدي ولا يعتدى عليه ، وإن لم يرحموا وقع بينهم الإختلاف المذموم ، فبغى بعضهم على بعض ، إما بالقول ، مثل تكفيره وتفسيقه ، وإما بالفعل ، مثل حبسه وضربه وقتله . والذين امتحنوا الناس بخلق القرآن ، كانوا من هؤلاء، ابتدعوا بدعة ، وكفروا من خالفهم فيها ، واستحلوا منع حقه وعقوبته .
فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول : إما عادلون وإما ظالمون ، فالعادل فيهم : الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ، ولا يظلم غيره ، والظالم : الذي يعتدي على غيره . وأكثرهم إنما يظلمون مع علمهم بأنهم يظلمون ، كما قال تعالى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم . وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل ، أقر بعضهم بعضاً ، كالمقلدين لأئمة العلم ، الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل ، فجعلوا أئمتهم نواباً عن الرسول ، وقالوا : هذا غاية ما قدرنا عليه ، فالعادل منهم لا يظلم الآخر ، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل ، مثل أن يدعي أن قول مقلده هو الصحيح بلا حجة يبديها ، ويذم من خالفه ، مع أنه معذور .
ثم إن أنواع الإفتراق والإختلاف في الأصل قسمان :
إختلاف تنوع ، وإختلاف تضاد .
وإختلاف التنوع على وجوه : منه ما يكون كل واحد من القولين أو الفعلين حقاً مشروعاً ، كما في القراءات التي اختلف فيها الصحابة رضي الله عنهم ، حتى زجرهم النبي ﷺ ، وقال : كلاكما محسن ، ومثله اختلاف الأنواع في صفة الأذان ، والإقامة ، والاستفتاح ، ومحل سجود السهو ، والتشهد ، وصلاة الخوف ، وتكبيرات العيد ، ونحو ذلك ، مما قد شرع جميعه ، وإن كان بعض أنواعه أرجح أو أفضل . ثم تجد لكثير من الأمة في ذلك من الإختلاف ما أوجب اقتتال طوائف منهم على شفع الإقامة وإيتارها ونحو ذلك ! وهذا عين المحرم . وكذا تجد كثيراً منهم في قلبه من الهوى لأحد هذه الأنواع ، والإعراض عن الآخر والنهي عنه - : ما دخل به فيما نهى عنه النبي ﷺ .
ومنه ما يكون كل من القولين هو في المعنى القول الآخر ، لكن العبارتان مختلفتان ، كما قد يختلف كثير من الناس في ألفاظ الحدود ، وصيغ الأدلة ، والتعبير عن المسميات ، ونحو ذلك . ثم الجهل أو الظلم يحمل على حمد إحدى المقالتين وذم الأخرى والاعتداء على قائلها ! ونحو ذلك .
وأما اختلاف التضاد ، فهو القولان المتنافيان ، إما في الأصول ، وإما في الفروع ، عند الجمهور الذين يقولون : المصيب واحد . والخطب في هذا أشد ، لأن القولين يتنافيان ، لكن نجد كثيراً من هؤلاء قد يكون القول الباطل الذي مع منازعه فيه حق ما ، أو معه دليل يقتضي حقاً ما ، فيرد الحق مع الباطل ، حتى يبقى هذا مبطلاً في البعض ، كما كان الأول مبطلاً في الأصل ، وهذا يجري كثيراً لأهل السنة .
وأما أهل البدعة ، فالأمر فيهم ظاهر . ومن جعل الله له هداية ونوراً رأى من هذا ما تبين له منفعة ما جاء في الكتاب والسنة من النهي عن هذا وأشباهه ، وإن كانت القلوب الصحيحة تنكر هذا ، لكن نور على نور .
والإختلاف الأول ، الذي هو اختلاف التنوع ، الذم فيه واقع على من بغى على الآخر فيه . وقد دل القرآن على حمد كل واحدة من الطائفتين في مثل ذلك ، إذا لم يحصل بغي ، كما في قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله . وقد كانوا اختلفوا في قطع الأشجار ، فقطع قوم ، وترك آخرون . وكما في قوله تعالى : وداود وسليمان إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم وكنا لحكمهم شاهدين * ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً ، فخص سليمان بالفهم وأثنى عليهما بالحكم والعلم . وكما في إقرار النبي ﷺ يوم بني قريظة لمن صلى العصر في وقتها ، ولمن أخرها إلى أن وصل إلى بني قريظة . وكما في قوله : إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر .
والإختلاف الثاني ، هو ما حمد فيه إحدى الطائفتين ، وذمت الأخرى ، كما في قوله تعالى : ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر . وقوله تعالى : هذان خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار ، الآيات .
وأكثر الإختلاف الذي يؤول إلى الأهواء بين الأمة - من القسم الأول ، وكذلك إلى سفك الدماء واستباحة الأموال والعداوة والبغضاء . لأن إحدى الطائفتين لا تعترف للأخرى بما معها من الحق ، ولا تنصفها ، بل تزيد على ما مع نفسها من الحق زيادات من الباطل ، والأخرى كذلك . ولذلك جعل الله مصدره البغي في قوله : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم . لأن البغي مجاوزة الحد ، وذكر هذا في غير موضع من القرآن ليكون عبرة لهذه الأمة . وقريب من هذا الباب ما خرجاه في الصحيحين ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال : ذروني ما تركتكم ، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه ، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم . فأمرهم بالإمساك عما لم يؤمروا به ، معللاً بأن سبب هلاك الأولين إنما كان كثرة السؤال ثم الإختلاف على الرسل بالمعصية .
ثم الإختلاف في الكتاب ، من الذين يقرون به - على نوعين : أحدهما اختلاف في تنزيله ، والثاني اختلاف في تأويله . وكلاهما فيه إيمان ببعض دون بعض : فالأول كاختلافهم في تكلم الله بالقرآن وتنزيله ، فطائفة قالت : هذا الكلام حصل بقدرته ومشيئته لكونه مخلوقاً في غيره لم يقم به ، وطائفة قالت : بل هو صفة له قائم بذاته ليس بمخلوق ، لكنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته . وكل من الطائفتين جمعت في كلامها بين حق وباطل ، فآمنت ببعض الحق ، وكذبت بما تقوله الأخرى من الحق ، وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك .
وأما الإختلاف في تأويله ، الذي يتضمن الإيمان ببعضه دون بعض ، فكثير، كما في حديث عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : خرج رسول الله ﷺ على أصحابه ذات يوم وهم يختصمون في القدر ، هذا ينزع بآية وهذا ينزع بآية ، فكأنما فقىء في وجهه حب الرمان ، فقال : أبهذا أمرتم ؟ أم بهذا وكلتم ؟ أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ؟ انظروا ما أمرتم به فاتبعوه ، وما نهيتم عنه فانتهوا . وفي رواية : يا قوم بهذا ضلت الأمم قبلكم ، باختلافهم على أنبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض ، وإن القرآن لم ينزل لتضربوا بعضه ببعض ، ولكن نزل القرآن يصدق بعضه بعضاً ، ما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه فآمنوا به . وفي رواية : فإن الأمم قبلكم لم يلعنوا حتى اختلفوا ، وإن المراء في القرآن كفر . وهو حديث مشهور ، مخرج في المسانيد والسنن . وقد روى أصل الحديث مسلم في صحيحه ، من حديث عبد الله بن رباح الأنصاري ، أن عبد الله بن عمرو قال : هجرت إلى النبي ﷺ يوماً ، فسمع صوات رجلين اختلفا في آية ، فخرج علينا رسول الله ﷺ يعرف في وجهه الغضب ، فقال : إنما هلك من كان قبلكم باختلافهم في الكتاب .
وجميع أهل البدع مختلفون في تأويله ، مؤمنون ببعضه دون بعض ، يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات ، وما يخالفه : إما أن يتأوله تأويلاً يحرفون فيه الكلم عن مواضعه ، وإما أن يقولوا : هذا متشابه لا يعلم أحد معناه ، فيجحدوا ما أنزله من معانيه ! وهو في معنى الكفر بذلك ، لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً . وقال تعالى : ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، أي : إلا تلاوة من غير فهم معناه . وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القران فعمل به ، واشتبه عليه بعضه فوكل علمه إلى الله ، كما أمره النبي ﷺ بقوله : فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه ، فامتثل ما أمر به ﷺ .
قوله : ودين الله في الأرض والسماء واحد ، وهو دين الإسلام
قال الله تعالى : إن الدين عند الله الإسلام . وقال تعالى : ورضيت لكم الإسلام ديناً . وهو بين الغلو و التقصير ، و بين التشبيه والتعطيل ، وبين الجبر والقدر ، وبين الأمن والإياس .
ش : ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي ﷺ أنه قال : إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد . وقوله تعالى : ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه - عام في كل زمان ، ولكن الشرائع تتنوع ، كما قال تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً . فدين الإسلام هو ما شرعه الله سبحانه وتعالى لعباده على ألسنة رسله ، وأصل هذا الدين وفروعه روايته عن الرسل ، وهو ظاهر غاية الظهور، يمكن كل مميز من صغير وكبير ، وفصيح وأعجم ، وذكي وبليد - : أن يدخل فيه بأقصر زمان ، وإنه يقع الخروج منه بأسرع من ذلك ، من إنكار كلمة ، أو تكذيب ، أو معارضة ، أو كذب على الله ، أو ارتياب في قول الله تعالى ، أو رد لما أنزل ، أو شك فيما نفى الله عنه الشك ، أو غير ذلك مما في معناه . فقد دل الكتاب والسنة على ظهور دين الإسلام ، وسهولة تعلمه ، وأنه يتعلمه الوافد ثم يولي في وقته . واختلاف تعليم النبي ﷺ في بعض الألفاظ بحسب من يتعلم ، فإن كان بعيد الوطن ، كضمام بن ثعلبة النجدي ، ووفد عبد القيس ، علمهم ما لم يسعهم جهله ، مع علمه أن دينه سينشر في الآفاق ، ويرسل إليهم من يفقههم في سائر ما يحتاجون اليه ، ومن كان قريب الوطن يمكنه الإتيان كل وقت ، بحيث يتعلم على التدريج ، أو كان قد علم فيه أنه قد عرف ما لا بد منه - أجابه بحسب حاله وحاجته ، على ما تدل قرينة حال السائل ، كقوله : قل آمنت بالله ثم استقم . وأما من شرع ديناً لم يأذن به الله ، فمعلوم أن أصوله المستلزمة له لا يجوز أن تكون منقولة عن النبي ﷺ ولا عن غيره من المرسلين ، إذ هو باطل ، وملزوم الباطل باطل ، كما أن لازم الحق حق .
وقوله : بين الغلو والتقصير- قال تعالى : قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق . وقال تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون . وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها : أن ناساً من أصحاب رسول الله ﷺ سألوا أزواج رسول الله ﷺ عن عمله في السر ؟ فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي ﷺ ، فقال : ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ؟ ! لكني أصوم وأفطر ، وأنام وأقوم ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني . وفي غير الصحيحين : سألوا عن عبادته في السر ، فكأنهم تقالوها . وذكر في سبب نزول الآية الكريمة : عن ابن جريج ، عن عكرمة أن عثمان بن مظعون ، و علي بن أبي طالب ، و ابن مسعود ، و المقداد بن الأسود ، و سالم مولى أبي حذيفة ، رضي الله عنهم في أصحابه - تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس ، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني اسرائيل ، وهموا بالإختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ، يقول : لا تسيروا بغير سنة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس ، وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار ، وما هموا به من الإختصاء ، فلما نزلت فيهم ، بعث النبي ﷺ إليهم ، فقال : إن لأنفسكم عليكم حقاً ، وإن لأعينكم حقاً ، صوموا وأفطرواً ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت .
وقوله : وبين التشبيه والتعطيل - تقدم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يوصف بما وصف به نفسه ، وبما وصفه به رسوله ، من غير تشبيه ، فلا يقال : سمع كسمعنا ، ولا بصر كبصرنا ، ونحوه ، ومن غير تعطيل ، فلا ينفي عنه ما وصف به نفسه ، أو وصفه به أعرف الناس به : رسوله ﷺ ، فإن ذلك تعطيل ، وقد تقدم الكلام في هذا المعنى . ونظير هذا القول قوله : ومن لم يتوق النفي والتشبيه ، زل ولم يصب التنزيه . وهذا المعنى مستفاد من قوله تعالى : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير . فقوله : ليس كمثله شيء - رد على المشبهة ، وقوله : وهو السميع البصير - رد على المعطلة .
وقوله : وبين الجبر والقدر - تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى ، وأن العبد غير مجبور على أفعاله وأقواله ، وأنها ليست بمنزلة حركات المرتعش وحركات الأشجار بالرياح وغيرها ، وليست مخلوقة للعباد ، بل هي فعل العبد وكسبه وخلق الله تعالى .
وقوله : وبين الأمن والإياس - تقدم الكلام أيضاً على هذا المعنى ، وأنه يجب أن يكون العبد خائفاً من عذاب ربه ، راجياً رحمته ، وأن الخوف والرجاء بمنزلة الجناحين للعبد ، في سيره إلى الله تعالى والدار الآخرة .
قوله : فهذا ديننا واعتقادنا ظاهراً وباطناً
ونحن براء إلى الله تعالى من كل من خالف الذي ذكرناه و بيناه ، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على الإيمان ، ويختم لنا به ، ويعصمنا من الأهواء المختلفة ، والآراء المتفرقة ، والمذاهب الردية ، مثل المشبهة ، والمعتزلة ، والجهمية ، والجبرية ، والقدرية ، وغيرهم ، من الذين خالفوا السنة والجماعة ، وحالفوا الضلالة ، ونحن منهم براء ، وهم عندنا ضلال وأردياء . وبالله العصمة والتوفيق .
ش : الإشارة بقوله : فهذا كل ما تقدم من أول الكتاب إلى هنا .
والمشبهة : هم الذين شبهوا الله سبحانه بالخلق في صفاته ، وقولهم عكس قول النصارى ، شبهوا المخلوق - وهو عيسى عليه السلام - بالخالق وجعلوه إلهاً ، وهؤلاء شبهوا الخالق بالمخلوق ، كداود الجواربي وأشباهه .
والمعتزلة : هم عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء الغزال وأصحابهما ، سموا بذلك لما اعتزلوا الجماعة بعد موت الحسن البصري رحمه الله ، في أوائل المائة الثانية ، وكانوا يجلسون معتزلين ، فيقول قتادة وغيره : أولئك المعتزلة ، وقيل : إن واصل بن عطاء هو الذي وضع أصول منه مذهب المعتزلة ، وتابعه عمرو بن عبيد تلميذ الحسن البصري ، فلما كان زمن هارون الرشيد صنف لهم أبو الهذيل كتابين ، وبين مذهبهم ، وبنى مذهبهم على الأصول الخمسة ، التي سموها : العدل ، والتوحيد ، وإنقاذ الوعيد ، والمنزلة بين المنزلتين ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر! ولبسوا فيها الحق بالباطل ، إذ شأن البدع هذا ، اشتمالها على حق وباطل . وهم مشبهة الأفعال ، لأنهم قاسوا أفعال الله تعالى على أفعال عباده ، وجعلوا ما يحسن من العباد يحسن منه ، وما يقبح من العباد يقبح منه ! وقالوا : يجب عليه أن يفعل كذا ، ولا يجوز له أن يفعل كذا ، بمقتضى ذلك القياس الفاسد ! ! فإن السيد من بني آدم لو رأى عبيده تزني بإمائه ولا يمنعهم من ذلك لعد إما مستحسناً للقبيح ، وإما عاجزاً ، فكيف يصح قياس أفعاله سبحانه وتعالى على أفعال عباده ؟ ! والكلام على هذا المعنى مبسوط في موضعه . فأما العدل ، فستروا تحته نفي القدر ، وقالوا : إن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به ، إذ لو خلقه ثم يعذبهم عليه يكون ذلك جوراً ! ! والله تعالى عادل لا يجور . ويلزم على هذا الأصل الفاسد أن الله تعالى يكون في ملكه ما لا يزيده ، فيريد الشيء ولا يكون ، ولازمه وصفه بالعجز ! تعالى الله عن ذلك . وأما التوحيد فستروا تحت القول بخلق القرآن ، إذ لو كان غير مخلوق لزم تعدد القدماء ! ! ويلزمهم على هذا القول الفاسد أن علمه وقدرته وسائر صفاته مخلوقة ، أو التناقض ! وأما الوعيد ، فقالوا : إذا أوعد بعض عبيده وعيداً فلا يجوز أن لا يعذبهم ويخلف وعيده ، لأنه لا يخلف الميعاد ، فلا يعفو عمن يشاء ، ولا يغفر لمن يريد ، عندهم ! ! وأما المنزلة بين المنزلتين ، فعندهم أن من ارتكب كبيرة يخرج من الإيمان ولا يدخل في الكفر ! ! وأما الأمر بالمعروف ، فهو أنهم قالوا : علينا أن نأمر غيرنا بما أمرنا به ، وأن نلزمه بما يلزمنا ، وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وضمنوه أنه يجوز الخروج على الأئمة بالقتال إذا جاروا ! !
وقد تقدم جواب هذه الشبه الخمس في مواضعها . وعندهم أن التوحيد والعدل من الأصول العقلية التي لا يعلم صحة السمع إلا بعدها ، وإذا استدلوا على ذلك بأدلة سمعية ، فإنما يذكرونها للإعتضاد بها ، لا للإعتماد عليها ، فهم يقولون : لا نثبت هذه بالسمع ، بل العلم بها متقدم على العلم بصحة النقل ! فمنهم من لا يذكرها في الأصول ، إذ لا فائدة فيها عندهم ، ومنهم من يذكرها ليبين موافقة السمع للعقل ، ولإيناس الناس بها ، لا للإعتماد عليها ! والقرآن والحديث فيه عندهم بمنزلة الشهود الزائدين على النصاب ! والمدد اللاحق بعسكر مستغن عنهم ! وبمنزلة من يتبع هواه واتفق أن الشرع ما يهواه ! ! كما قال عمر بن عبد العزيز : لا تكن ممن يتبع الحق إذا وافق هواه ، ويخالفه إذا خالف هواه ، فإذا أنت لا تثاب على ما وافقته من الحق ، وتعاقب على ما تركته منه ، لأنك إنما اتبعت هواك في الموضعين . وكما أن الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى ، والعمل يتبع قصد صاحبه وإرادته ، فالإعتقاد القوي يتبع أيضاً علم ذلك وتصديقه ، فإذا كان تابعاً للإيمان كان من الإيمان ، كما أن العمل الصالح إذا كان عن نية صالحة كان صالحاً ، وإلا فلا ، فقول أهل الإيمان التابع لغير الإيمان ، كعمل أهل الصلاح التابع لغير قصد أهل الصلاح . وفي المعتزلة زنادقة كثيرة ، وفيهم من ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً .
والجهمية : هم المنتسبون إلى جهم بن صفوان السمرقندي ، وهو الذي أظهر نفي الصفات والتعطيل ، وهو أخذ ذلك عن الجعد بن درهم ، الذي ضحى به خالد بن عبد الله القسري بواسط ، فإنه خطب الناس في يوم عيد الأضحى ، وقال : أيها الناس ، ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً ، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً ! ثم نزل فذبحه . وكان ذلك بعد استفتاء علماء زمانه ، وهم السلف الصالح رحمهم الله تعالى . وكان جهم بعده بخراسان ، فأظهر مقالته هناك ، وتبعه عليها ناس ، بعد أن ترك الصلاة أربعين يوماً شكاً في ربه ! وكان ذلك لمناظرته قوماً من المشركين ، يقال لهم السمنية ، من فلاسفة الهند ، الذين ينكرون من العلم ما سوى الحسيات ، قالوا له : هذا ربك الذي تعبده ، هل يرى أو يشم أو يذاق أو يلمس ؟ فقال : لا ، فقالوا : هو معدوم !! فبقي أربعين يوماً لا يعبد شيئاً ، ثم لما خلا قلبه من معبود يؤلهه ، نقش الشيطان اعتقاداً نحته فكره ، فقال : إنه الوجود المطلق ! ! ونفى جميع الصفات ، واتصل بالجعد . وقد قيل : إن جعداً كان قد اتصل بالصابئة الفلاسفة من أهل حران ، وأنه أيضاً أخذ شيئاً عن بعض اليهود المحرفين لدينهم ، المتصلين بلبيد بن الأعصم ، الساحر الذي سحر النبي ﷺ . فقتل جهم بخراسان ، قتله سلم بن أحوز ولكن كانت قد فشت مقالته في الناس ، وتقلدها بعده المعتزلة . ولكن كان جهم أدخل في التعطيل منهم ، لأنه ينكر الأسماء حقيقة ، وهم لاينكرون الأسماء بل الصفات . وقد تنازع العلماء في الجهمية : هل هم من الثنتين وسبعين فرقة أم لا ؟ ولهم في ذلك قولان : وممن قال إنهم ليسوا من الثنتين وسبعين فرقة - عبد الله بن المبارك ، و يوسف بن أسباط . وإنما اشتهرت مقالة الجهمية من حين محنة الإمام أحمد بن حنبل وغيره من علماء السنة ، فإنه من إمارة المأمون قووا وكثروا ، فإنه قد أقام بخراسان مدة واجتمع بهم ، ثم كتب بالمحنة من طرسوص سنة ثمان عشرة ومائتين وفيها مات ، وردوا الإمام أحمد إلى الحبس ببغداد إلى سنة عشرين ، وفيها كانت محنته مع المعتصم ومناظرته لهم بالكلام ، فلما رد عليهم ما احتجوا به عليه ، وبين أنه لا حجة لهم في شيء من ذلك ، وأن طلبهم من الناس أن يوافقوهم وامتحانهم إياهم - : جهل وظلم ، وأراد المعتصم إطلاقه ، أشار عليه من أشار بأن المصلحة ضربه ، لئلا تنكسر حرمة الخلافة من بعد مرة ! فلما ضربوه قامت الشناعة في العامة ، وخافوا ، فأطلقوه . وقصته مذكوره في كتب التاريخ . ومما انفرد به جهم : أن الجنة والنار تفنيان ، وأن الإيمان هو المعرفة فقط ، والكفر هو الجهل فقط ، وأنه لا فعل لأحد في الحقيقة إلا لله وحده ، وأن الناس إنما تنسب إليهم أفعالهم على سبيل المجاز ، كما يقال تحركت الشجرة ، ودار الفلك ، وزالت الشمس ! ولقد أحسن القائل :
عجبت لشيطان دعا الناس جهرة إلى النار واشتق اسمه من جهنم
وقد نقل أن أبا حنيفة رحمه الله ، لما سئل عن الكلام في الأعراض والأجسام ؟ فقال : لعن الله عمرو بن عبيد ، هو فتح على الناس الكلام في هذا .
والجبرية : أصل قولهم من جهم بن صفوان ، كما تقدم ، وأن فعل العبد بمنزلة طوله ولونه ! وهم عكس القدرية نفاة القدر ، فإن القدرية إنما نسبوا إلى القدر لنفيهم إياه ، كما سميت المرجئة لنفيهم الإرجاء ، وأنه لا أحد مرجأ لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم . وقد تسمى الجبرية قدرية لأنهم غلوا في إثبات القدر ، وكما يسمى الذين لا يجزمون بشيء من الوعد والوعيد ، بل يغلون في إرجاء كل أمر حتى الأنواع ، فلا يجزمون بثواب من تاب ، كما لا يجزمون بعقوبة من لم يتب ، وكما لا يجزم لمعين . وكانت المرجئة الأولى يرجئون عثمان و علياً ، ولا يشهدون بإيمان ولا كفر ! !
وقد ورد في ذم القدرية أحاديث في السنن : منها ما روى أبو داود في سننه ، من حديث عبد العزيز بن أبي حازم ، عن أبيه ، عن ابن عمر ، عن النبي ﷺ ، قال : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم . وروي في ذم القدرية أحاديث أخر كثيره ، تكلم أهل الحديث في صحة رفعها ، والصحيح أنها موقوفة ، بخلاف الأحاديث الواردة في ذم الخوارج ، فإن فيهم في الصحيح وحده عشرة أحاديث ، أخرج البخاري منها ثلاثة ، وأخرج مسلم سائرها . ولكن مشابهتهم للمجوس ظاهرة ، بل قولهم أرادأ من قول المجوس ، فإن المجوس اعتقدوا وجود خالقين ، والقدرية اعتقدوا خالقين ! !
وهذه البدع المتقابلة حدثت من الفتن المفرقة بين الأمة ، كما ذكر البخاري في صحيحه ، عن سعيد بن المسيب ، قال : وقعت الفتنة الأولى ، يعني مقتل عثمان ، فلم تبق من أصحاب بدر أحداً . ثم وقعت الفتنة الثانية ، فلم تبق من أصحاب الحديبية أحداً . ثم وقعت الثالثة ، فلم ترتفع وللناس طباخ ، أي عقل وقوة . فالخوارج والشيعة حدثوا في الفتنة الأولى ، والقدرية والمرجئة في الفتنة الثانية ، والجهمية ونحوهم بعد الفتنة الثالثة . فصار هؤلاء الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا - يقابلون البدعة بالبدعة ، أولئك غلوا في علي ، وأولئك كفروه ! وأولئك غلوا في الوعيد ، حتى خلدوا بعض المؤمنين ، وأولئك غلوا في الوعيد حتى نفوا بعض الوعيد أعني المرجئة ! وأولئك غلوا في التنزيه حتى نفوا الصفات ، وهؤلاء غلوا في الإثبات ، حتى وقعوا في التشبيه ! وصاروا يبتدعون من الدلائل والمسائل ما ليس بمشروع ، ويعرضون عن الأمر المشروع ، وفيهم من استعان على ذلك بشيء من كتب الأوائل : اليهود والنصارى والمجوس والصابئين ، فثانهم قرؤوا كتبهم ، فصار عندهم من ضلالتهم ما أدخلوه في مسائلهم ودلائلهم ، وغيروه في اللفظ تارة ، وفي المعنى أخرى ! فلبسوا الحق بالباطل ، وكتموا حقاً جاء به نبيهم ، فتفرقوا واختلفوا وتكلموا حينئذ في الجسم والعرض والتجسيم ، نفياً واثباتاً .
وسبب ضلال هذه الفرق وأمثالهم ، عدولهم عن الصراط المستقيم ، الذي أمرنا الله باتباعه ، فقال تعالى : وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . وقال تعالى : قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني فوحد لفظ صراطه و سبيله ، وجمع السبل المخالفة له . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : خط لنا رسول الله ﷺ خطاً ، وقال : هذا سبيل الله ، ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره ، وقال : هذه سبل ، على كل سبيل شيطان يدعو إليه ، ثم قرأ : وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون . ومن ههنا يعلم أن اضطرار العبد إلى سؤال هداية الصراط المستقيم فوق كل ضرورة ، ولهذا شرع الله تعالى في الصلاة قراءة أم القرآن في كل ركعة ، إما فرضاً أو ايجاباً ، على حسب اختلاف العلماء في ذلك ، لاحتياج العبد إلى هذا الدعاء العظيم القدر ، المشتمل على أشرف المطالب وأجلها . فقد أمرنا الله تعالى أن نقول : اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . وقد ثبت عن النبي ﷺ أنه قال : اليهود مغضوب عليهم ، والنصارى ضالون . وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال : لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ، قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى ؟ قال : فمن ؟ ! .
قال طائفة من السلف : من انحرف من العلماء ففيه شبه من اليهود ، ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى . فلهذا تجد أكثر المنحرفين من أهل الكلام ، من المعتزلة ونحوهم - فيه شبه من اليهود ، حتى أن علماء اليهود يقرؤون كتب شيوخ المعتزلة ، ويستحسنون طريقتهم ، وكذا شيوخ المعتزلة يميلون إلى اليهود ويرجحونهم على النصارى . وأكثر المنحرفين من العباد ، من المتصوفة ونحوهم - فيهم شبه من النصارى ، ولهذا يميلون إلى نوع من الرهبانية والحلول والإتحاد ونحو ذلك . وشيوخ هؤلاء يذمون الكلام وأهله ، وشيوخ أولئك يعيبون طريقة هؤلاء ويصنفون في ذم السماع والوجد وكثير من الزهد والعبادة التي أحدثها هؤلاء .
ولفرق الضلال في الوحي طريقتان : طريقة التبديل ، وطريقة التجهيل . أما أهل التبديل فهم نوعان : أهل الوهم والتخييل ، وأهل التحريف والتأويل .
فأهل الوهم والتخييل ، هم الذين يقولون : أن الأنبياء أخبروا عن الله واليوم الآخر والجنة والنار بأمور غير مطابقة للأمر في نفسه ! لكنهم خاطبوهم بما يتخيلون به ويتوهمون به أن الله شيء عظيم كبير ، وأن الأبدان تعاد ، وأن لهم نعيماً محسوساً ، وعقاباً محسوساً ، وإن كان الأمر ليس كذلك ، لأن مصلحة الجمهور في ذلك ، وإن كان كذباً فهو كذب لمصلحة الجمهور! ! وقد وضع ابن سينا وأمثاله قانونهم على هذا الأصل .
وأما أهل التحريف والتأويل ، فهم الذين يقولون : أن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال ما هو الحق في نفس الأمر ، وأن الحق في نفس الأمرهو ما علمناه بعقولنا ! ثم يجتهدون في تأويل هذه الأقوال إلى ما يوافق رأيهم بأنواع التأويلات ! ! ولهذا كان أكثرهم لا يجزمون بالتأويل ، بل يقولون : يجوز أن يراد كذا . وغاية ما معهم إمكان احتمال اللفظ .
وأما أهل التجهيل والتضليل ، الذين حقيقة قولهم : أن الأنبياء وأتباع الأنبياء جاهلون ضالون ، لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات وأقوال الأنبياء ! ويقولون : يجوز أن يكون للنص تأويل لا يعلمه إلا الله ، لا يعلمه جبرائيل ولا محمد ولا غيره من الأنبياء ، فضلاً عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ، وأن محمد ﷺ كان يقرأ : الرحمن على العرش استوى . إليه يصعد الكلم الطيب . ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي - وهو لا يعرف معاني هذه الآيات ! بل معناها الذي دلت عليه لا يعرفه إلا الله تعالى ! ! ويظنون أن هذه طريقة السلف ! !
ثم منهم من يقول : إن المراد بهذا خلاف مدلولها الظاهر المفهوم ، ولا يعرفه أحد ، كما لا يعلم وقت الساعة ! ومنهم من يقول : بل تجري على ظاهرها !! وهؤلاء يشتركون في القول بأن الرسول لم يبين المراد بالنصوص التي يجعلونها مشكلة أو متشابهة ، ولهذا يجعل كل فريق المشكل من نصوصه غير ما يجعله الفريق الآخر مشكلاً ! ثم منهم من يقول : لم يعلم معانيها أيضاً ! ومنهم من يقول : علمها ولم يبينها ، بل أحال في بيانها على الأدلة العقلية ، وعلى من يجتهد في العلم بتأويل تلك النصوص ! ! فهم مشتركون في أن الرسول لم يعلم أو لم يعلم ، بل نحن عرفنا الحق بعقولنا ثم اجتهدنا في حمل كلام الرسول على ما يوافق عقولنا ، وأن الأنبياء وأتباعهم لا يعرفون العقليات ! ! ولا يفهمون السميعات ! ! وكل ذلك ضلال وتضليل عن سواء السبيل .
نسأل الله السلامة والعافية ، من هذه الأقوال الواهية ، المفضية بقائلها إلى الهاوية .
سبحان ربك رب العزة عما يصفون . وسلام على المرسلين . والحمد لله رب العالمين .
هامش
- ↑ [ غافر: 15 ]
- ↑ [ الشورى: 52، 53 ]
- ↑ [ فصلت: 44 ]
- ↑ [ طه: 123-126 ]
- ↑ [ الذي رواه الترمذي وغيره ]
- ↑ [ الصافات: 180-182 ]
- ↑ [ يوسف: 108 ]
- ↑ [ الأنعام: 68 ]
- ↑ [ البقرة: 42 ]
- ↑ [ النساء: 69 ]
- ↑ [ هود: 88 ]
- ↑ [إن نفي الشريك عن الله تعالى لا يتم إلا بنفي ثلاثة أنواع من الشرك: الأول: الشرك في الربوبية وذلك بأن يعتقد أن مع الله خالقا آخر - سبحانه وتعالى - كما هو اعتقاد المجوس القائلين بأن للشر خالقا غير الله سبحانه. وهذا النوع في هذه الأمة قليل والحمد لله وإن كان قريبا منه قول المعتزلة: إن الشر إنما هو من خلق الإنسان وإلى ذلك الإشارة بقوله ﷺ: ( صحيح ) " القدرية مجوس هذه الأمة... " الحديث وهو مخرج في مصادر عدة عندي أشرت إليها في " صحيح الجامع الصغير وزيادته " رقم ( 4318 ) . الثاني: الشرك في الألوهية أو العبودية وهو أن يعبد مع الله غيره من الأنبياء والصالحين كالاستغاثة بهم وندائهم عند الشدائد ونحو ذلك. وهذا مع الأسف في هذه الأمة كثير ويحمل وزره الأكبر أولئك المشايخ الذين يؤيدون هذا النوع من الشرك باسم التوسل " يسمونها بغير اسمها ". الثالث: الشرك في الصفات وذلك بأن يصف بعض خلقه تعالى ببعض الصفات الخاصة به عز وجل كعلم الغيب مثلا وهذا النوع منتشر في كثير من الصوفية. ومن تأثر بهم مثل قول بعضهم في مدحه النبي ﷺ: " فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم ". ومن هنا جاء ضلال بعض الدجالين يزعمون أنهم يرون رسول الله ﷺ اليوم يقظة ويسألونه عما خفي عليهم من بواطن نفوس من يخالطونهم ويريدون تأميرهم في بعض شؤونهم ورسول الله ﷺ ما كان ليعلم مثل ذلك في حال حياته { ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء } [ الأعراف: 188 ] فكيف يعلم ذلك بعد وفاته وانتقاله إلى الرفيق الأعلى؟. هذه الأنواع الثلاثة من الشرك من نفاها عن الله في توحيده إياه فوحده في ذاته وفي عبادته وفي صفاته فهو الموحد الذي تشمله كل الفضائل الخاصة بالموحدين ومن أخل بشيء منه فهو الذي يتوجه إليه مثل قوله تعالى: ( لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين ) [ الزمر: 65 ] فاحفظ هذا فإنه أهم شيء في العقيدة فلا جرم أن المصنف رحمه الله بدأ به ومن شاء التفصيل فعليه بشرح هذا الكتاب وكتب شيوخ الإسلام ابن تيمة وابن القيم وابن عبد الوهاب وغيرهم ممن حذا حذوهم واتبع سبيلهم ( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ) [ الحشر: 10 ]]
- ↑ [ الأعراف: 59 ]
- ↑ [ الأعراف: 65 ]
- ↑ [ الأعراف: 73 ]
- ↑ [ الأعراف: 85 ]
- ↑ [ النحل: 36 ]
- ↑ [ الأنبياء: 25 ]
- ↑ [ إبراهيم: 10 ]
- ↑ [ الإسراء: 102 ]
- ↑ [ النمل: 14 ]
- ↑ [ الشعراء: 24-28 ]
- ↑ [ الأنبياء: 22 ]
- ↑ [ لقمان: 25 ]
- ↑ [ المؤمنون: 84، 85 ]
- ↑ [ نوح: 23 ]
- ↑ [ الزمر: 3 ]
- ↑ [ يونس: 18 ]
- ↑ [ الروم: 36: 30 ]
- ↑ [ إبراهيم: 10 ]
- ↑ [ النمل: 60، 59 ]
- ↑ [ الأنعام: 19 ]
- ↑ [ ص: 5 ]
- ↑ [ النمل: 61 ]
- ↑ [ البقرة: 21 ]
- ↑ [ الأنعام: 46 ]
- ↑ [ المؤمنون: 91 ]
- ↑ [ الأنبياء: 22 ]
- ↑ [ الأعراف: 191 ]
- ↑ [ النحل: 17 ]
- ↑ [ الإسراء: 42 ]
- ↑ [ الإنسان: 29 ]
- ↑ [ الزمر: 3 ]
- ↑ [ آل عمران: 64 ]
- ↑ [ آل عمران: 18، 19 ]
- ↑ [ الزخرف: 86 ]
- ↑ [ الزخرف: 19 ]
- ↑ [ التوبة: 17 ]
- ↑ [ الإسراء: 23 ]
- ↑ [ النحل: 51 ]
- ↑ [ التوبة: 31 ]
- ↑ [ الإسراء: 39 ]
- ↑ [ القصص: 88 ]
- ↑ [ الصافات: 151-154 ]
- ↑ [ القلم: 35، 36 ]
- ↑ [ الزخرف: 2، 1 ]
- ↑ [ يوسف: 1 ]
- ↑ [ الحجر: 1 ]
- ↑ [ آل عمران: 138 ]
- ↑ [ المائدة: 92 ]
- ↑ [ النحل: 44 ]
- ↑ [ المائدة: 3 ]
- ↑ [ الحديد: 25 ]
- ↑ [ النحل: 44، 43 ]
- ↑ [ آل عمران: 183 ]
- ↑ [ آل عمران: 184 ]
- ↑ [ الشورى: 17 ]
- ↑ [ هود: 53 ]
- ↑ [ هود: 54-56 ]
- ↑ [ فصلت: 53 ]
- ↑ [ فصلت: 52 ]
- ↑ [ فصلت: 53 ]
- ↑ [ الحاقة: 44-47 ]
- ↑ [ الحشر: 23 ]
- ↑ [ العنكبوت: 51 ]
- ↑ [ الأنعام: 90 ]
- ↑ [ البقرة: 131، 130 ]
- ↑ [ النساء: 171 ]
- ↑ [ المائدة: 77 ]
- ↑ [ رواه أبو داود ]
- ↑ [هذا أصل من أصول التوحيد وهو أن الله تعالى ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ولكن المبتدعة والمتأولة قد اتخذوه أصلا لإنكار كثير من صفات الله تبارك وتعالى فكلما ضاقت قلوبهم عن الإيمان بصفة من صفاته عز وجل سلطوا عليها معاول التأويل والهدم فأنكروها واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: ( ليس كمثله شيء ) متجاهلين تمام الآية: ( وهو السميع البصير ) [ الشورى: 11 ] فهي قد جمعت بين التنزيه والإثبات فمن أراد السلامة في عقيدته فعليه أن ينزه الله تعالى عن مشابهته للحوادث دون تأويل أو تعطيل وأن يثبت له عز وجل من الصفات كل ما أثبته لنفسه في كتابه أو حديث نبيه دون تمثيل وهذا هو مذهب السلف وعليه المصنف رحمه الله تبعا لأبي حنيفة وسائر الأئمة كما تراه مفصلا في الشرح ( فبهداهم اقتده ) [ الأنعام: 90 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ الأنعام: 95 ]
- ↑ [ الذاريات: 28 ]
- ↑ [ الصافات: 101 ]
- ↑ [ التوبة: 128 ]
- ↑ [ الإنسان: 2 ]
- ↑ [ يوسف: 51 ]
- ↑ [ الكهف: 79 ]
- ↑ [ السجدة: 18 ]
- ↑ [ غافر: 35 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ النساء: 166 ]
- ↑ [ فاطر: 11 ]
- ↑ [ الذاريات: 58 ]
- ↑ [ السجدة: 15 ]
- ↑ [ رواه البخاري ]
- ↑ [ رواه النسائي ]
- ↑ [ الروم: 54 ]
- ↑ [ يوسف: 68 ]
- ↑ [ البلد: 9، 8 ]
- ↑ [ النحل: 78 ]
- ↑ [ يوسف: 111 ]
- ↑ [ البقرة: 20 ]
- ↑ [ الكهف: 45 ]
- ↑ [ فاطر: 44 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ الكهف: 49 ]
- ↑ [ سبأ: 3 ]
- ↑ [ ق: 38 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ الأنعام: 103 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ فاطر: 44 ]
- ↑ [ البقرة: 163 ]
- ↑ [ البقرة: 163 ]
- ↑ [ مريم: 9 ]
- ↑ [ اعلم أنه ليس من أسماء الله تعالى: ( القديم ) وإنما هو من استعمال المتكلمين فإن القديم في لغة العرب التي نزل بها القرآن - هو المتقدم على غيره فيقال: هذا قديم للعتيق وهذا جديد للحديث ولم يستعملوا هذا الاسم إلا في المتقدم على غيره لا فيما لم يسبقه عدم كما قال تعالى: ( حتى عاد كالعرجون القديم ) [ يس: 39 ] والعرجون القديم: الذي يبقى إلى حين وجود العرجون الثاني فإذا وجد الجديد قيل للأول قديم وإن كان مسبوقا بغيره كما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 1 / 245 ) والشارح في " شرحه " لكن أفاد الشيخ ابن مانع هنا فيما نقله عن ابن القيم في " البدائع " أنه يجوز وصفع سبحانه بالقدم بمعنى أنه يخبر عنه بذلك وباب الأخبار أوسع من باب الصفات التوقيفية. قلت: ولعل هذا هو وجه استعمال شيخ الإسلام ابن تيمية هذا الوصف في بعض الأحيان كما سيأتي فيما علقه على الفقرة ( 45 ). ]
- ↑ [ الحديد: 3 ]
- ↑ [ الطور: 35 ]
- ↑ [ الفرقان: 33 ]
- ↑ [ يس: 39 ]
- ↑ [ الأحقاف: 11 ]
- ↑ [ الشعراء: 75، 76 ]
- ↑ [ هود: 98 ]
- ↑ [ الرحمن: 27، 26 ]
- ↑ [ الأنعام: 125 ]
- ↑ [ هود: 34 ]
- ↑ [ البقرة: 253 ]
- ↑ [ البقرة: 185 ]
- ↑ [ النساء: 26 ]
- ↑ [ النساء: 28، 27 ]
- ↑ [ المائدة: 6 ]
- ↑ [ الأحزاب: 33 ]
- ↑ [ القصص: 20 ]
- ↑ [ طه: 110 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ الحشر: 24، 23 ]
- ↑ [ فيه رد لقول المشبهة الذين يشبهون الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى قال عز وجل: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) [ الشورى: 11 ]. وليس المراد نفي الصفات كما يقول أهل البدع فمن كلام أبي حنيفة رحمه الله في " الفقه الأكبر ": لا يشبه شيئا من خلقه ولا يشبهه شيء من خلقه. ثم قال بعد ذلك: وصفاته كلها خلاف صفات المخلوقين يعلم لا كعلمنا ويقدر لا كقدرتنا ويرى لا كرؤيتنا. انتهى. ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ النحل: 60 ]
- ↑ [ الرحمن: 10 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ آل عمران: 1-3 ]
- ↑ [ طه: 111 ]
- ↑ [ الفرقان: 58 ]
- ↑ [ غافر: 65 ]
- ↑ [ العنكبوت: 64 ]
- ↑ [ البقرة: 255 ]
- ↑ [ أي بلا ثقل وكلفة كما في شرح العقيدة الطحاوية ( ص 125 الطبعة الرابعة ) [ الصفحة 122 الطبعة التاسعة ]
- ↑ [ الذاريات: 56-58 ]
- ↑ [ فاطر: 15 ]
- ↑ [ محمد: 38 ]
- ↑ [ الأنعام: 14 ]
- ↑ [ رواه مسلم ]
- ↑ [ الملك: 2 ]
- ↑ [ الأعراف: 54 ]
- ↑ [ آل عمران: 40 ]
- ↑ [ البقرة: 253 ]
- ↑ [ البروج: 15، 16 ]
- ↑ [ لقمان: 27 ]
- ↑ [ الكهف: 109 ]
- ↑ [ البروج: 16، 15 ]
- ↑ [ النحل: 17 ]
- ↑ [ هود: 7 ]
- ↑ [ الأنبياء: 105 ]
- ↑ [ قال الشيخ ابن مانع رحمه الله ( ص 7 ): " يجيء في كلام بعض الناس: وهو على ما يشاء قدير وليس ذلك بصواب بل الصواب ما جاء بالكتاب والسنة: وهو على كل شيء قدير لعموم مشيئته وقدرته تعالى خلافا لأهل الاعتزال الذين يقولون: إن الله سبحانه لم يرد من العبد وقوع المعاصي بل وقعت من العبد بإرادته لا بإرادة الله ولهذا يقول أحد ضلالهم: زعم الجهول ومن يقول بقوله أن المعاصي من قضاء الخالق إن كان حقا ما يقول فلم قضا حد الزنا وقطع كف السارق وقال أبو الخطاب في بيان الحق والصواب: قالوا فأفعال العباد فقلت ما من خالق غير الإله الأمجد قالوا فهل فعل القبيح مراده قلت الإرادة كلها للسيد لو لم يرده وكان كان نقيصة سبحانه عن أن يعجزه الردى وهذه الإرادة التي ذكرها أبو الخطاب في السؤال هي الإرادة الكونية القدرية لا الإرادة الكونية الشرعية. فقير وكل أمر عليه يسير لا يحتاج إلى شيء ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )[ الشورى: 11 ]
- ↑ [ البقرة: 284 ]
- ↑ [ الحج: 1 ]
- ↑ [ يس: 82 ]
- ↑ [ مريم: 9 ]
- ↑ [ الدهر: 1 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ النحل: 60 ]
- ↑ [ الروم: 27 ]
- ↑ [ الروم: 26 ]
- ↑ [ الروم: 27 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ الشورى: 11 ]
- ↑ [ الأعراف: 54 ]
- ↑ [ لملك: 14 ]
- ↑ [ الأنعام: 59، 60 ]
- ↑ [ الفرقان: 2 ]
- ↑ [ القمر: 49 ]
- ↑ [ الأحزاب: 38 ]
- ↑ [ الأعلى: 3، 2 ]
- ↑ [ يونس: 49 ]
- ↑ [ آل عمران: 145 ]
- ↑ [ رواه النسائي ]
- ↑ [ في الصحيحين ]
- ↑ [ فاطر: 11 ]
- ↑ [ الرعد: 38-39 ]
- ↑ [ الرعد: 39 ]
- ↑ [ الرعد: 39 ]
- ↑ [ الرعد: 38 ]
- ↑ [ الرعد: 38-39 ]
- ↑ [ الأنعام: 28 ]
- ↑ [ الأنفال: 23 ]
- ↑ [ الذاريات: 56 ]
- ↑ [ الملك: 2 ]
- ↑ [ يعني أن مشيئته تعالى وإرادته شاملة لكل ما يقع في هذا الكون من خير أو شر وهدى أو ضلال والآيات الدالة على ذلك كثيرة معروفة يمكن مراجعتها في الشرح وغيره... والمقصود بهذه الفقرة الرد على المعتزلة النافين لعموم مشيئته تعالى. لكن يجب أن يعلم أنه لا يلزم من ذلك أن الله تعالى يحب كل ما يقع فالحب غير الإرادة وإلا كان لا فرق عند الله تعالى بين الطائع والعاصي وهذا ما صرح به بعض كبار القائلين بوحدة الوجود من أن كلا من الطائع والعاصي مطيع لله في إرادته ومذهب السلف والفقهاء وأكثر المثبتين للقدر من أهل السنة وغيرهم على التفريق بين الإرادة والمحبة وإلى ذلك أشار صاحب قصيدة " بدء الأمالي " بقوله: مريد الخير والشر القبيح ولكن ليس يرضى بالمحال وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: " ثم قالت القدرية: هو لا يحب الكفر والفسوق والعصيان ولا يريد ذلك فيكون ما لم يشأ ويشاء ما لم يكن ". وقالت طائفة من ( المثبتة ): ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وإذن قد أراد الكفر والفسوق والعصيان ولم يرده دينا أو أراده من الكافر ولم يرده من المؤمن فهو لذلك يحب الكفر والفسوق العصيان ولا يحبه دينا ويحبه من الكافر ولا يحبه من المؤمن. وكلا القولين خطأ مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها فإنهم متفقون على أنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه لا يكون شيء إلا بمشيئته ومجموعه على أنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر وأن الكفار ( يبيتون ما لا يرضى من القول ) ( مجموع الفتاوى ( 6 / 115 - 116 ) وقد شرح ذلك العلامة ابن القيم في " شفاء العليل " ( ص 120 - 134 ) فراجعه فإنه مهم. ) [ النساء: 108] ]
- ↑ [ الإنسان: 30 ]
- ↑ [ التكوير: 29 ]
- ↑ [ الأنعام: 111 ]
- ↑ [ الأنعام: 112 ]
- ↑ [ يونس: 99 ]
- ↑ [ الأنعام: 125 ]
- ↑ [ هود: 34 ]
- ↑ [ الأنعام: 39 ]
- ↑ [ الأنعام: 148 ]
- ↑ [ النحل: 35 ]
- ↑ [ الزخرف: 20 ]
- ↑ [ الحجر: 39 ]
- ↑ [ الأنعام: 148 ]
- ↑ [ غافر: 55 ]
- ↑ [ آل عمران: 120 ]
- ↑ [ الحجر: 39 ]
- ↑ [ هود: 34 ]
- ↑ [ القصص: 56 ]
- ↑ [ السجدة: 13 ]
- ↑ [ المدثر: 31 ]
- ↑ [ الصافات: 57 ]
- ↑ [ الأنعام: 39 ]
- ↑ [ التغابن: 2 ]
- ↑ [ الإخلاص: 4 ]
- ↑ [اعلم أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا وقد ذكروا فروقا بين الرسول والنبي تراها في " تفسير الآلوسي " ( 5 / 449 - 450 ) وغيرها ولعل الأقرب أن الرسول من بعث بشعر جديد والنبي من بعث لتقرير شرع من قبله وهو بالطبع مأمور بتبليغه إذ من المعلوم أن العلماء مأمورون بذلك فهم بذلك أولى كما لا يخفى. ]
- ↑ [ الأنبياء: 26 ]
- ↑ [ الإسراء: 1 ]
- ↑ [ الجن: 19 ]
- ↑ [ النجم: 10 ]
- ↑ [ البقرة: 23 ]
- ↑ [ الشعراء: 221-226 ]
- ↑ [ محمد: 30 ]
- ↑ [ محمد: 30 ]
- ↑ [ آل عمران: 139 ]
- ↑ [ العنكبوت: 2، 1 ]
- ↑ [ الشعراء: 68، 67 ]
- ↑ [ الطور: 30-31 ]
- ↑ [ الشورى: 24 ]
- ↑ [ الأنعام: 91 ]
- ↑ [ آل عمران: 164 ]
- ↑ [ الأنبياء: 107 ]
- ↑ [الأحزاب: 40]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [قال الألباني: هذه العقيدة ثبتت في أحاديث كثيرة مستفيضة تلقتها الأمة بالقبول. وقد ذكر الشارح ( في الصفحة 169 - الطبعة الرابعة) (الطبعة التاسعة الصفحة 159 طبع المكتب الإسلامي ) طائفة منها فلتراجع منه فهي تفيد العلم واليقين فهو ﷺ سيد المرسلين يقينا ومن المؤسف أن أقول: إن هذه العقيدة لا يؤمن بها أولئك الذين يشترطون في الحديث الذي يجب الإيمان به أن يكون متواترا فكيف يؤمن بها من صرح بأن العقيدة لا تؤخذ إلا من القرآن كالشيخ شلتوت وغيره وقد رددت على هؤلاء جميعا من عشرين وجها في رسالتي " وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة والرد على شبه المخالفين " وذكرت في آخرها عشرين مثالا من العقائد الثابتة في الأحاديث الصحيحة يلزمهم جحدها وعدم الإيمان بها وهذه العقيدة واحدة منها فراجعها فإنها مطبوعة وهامة]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [خرجاه في الصحيحين]
- ↑ [الإسراء: 55]
- ↑ [البقرة: 253]
- ↑ [الأنبياء: 87]
- ↑ [الأعراف: 23]
- ↑ [القصص: 16]
- ↑ [القلم: 48]
- ↑ [الأحقاف: 35]
- ↑ [الزمر: 65]
- ↑ [قال الألباني: بل هو خليل رب العالمين فإن الخلة أعلى مرتبة من المحبة وأكمل ولذلك قال ﷺ: " إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا " ولذلك لم يثبت في حديث أنه ﷺ حبيب الله. فتنبه وراجع في الفقرة الآتية ( 52 ) بسطا لهذا في كلام الشارح عليها]
- ↑ [آل عمران: 134]
- ↑ [آل عمران: 76]
- ↑ [البقرة: 222]
- ↑ [الفرقان: 65]
- ↑ [مريم: 96]
- ↑ [قال الألباني: وقد أخبر النبي ﷺ أمته نصحا لهم وتحذيرا في أحاديث كثيرة أنه سيكون بعده دجالون كثيرون وقال في بعضها: " كلهم يزعم أنه نبي وأنا خاتم النبيين لا نبي بعدي " رواه مسلم وغيره ( الأحاديث الصحيحة 1683 ) ومن هؤلاء الدجالين " ميرزا غلام أحمد القادياني " الذي ادعى النبوة وله أتباع منتشرون في الهند وألمانيا وإنكلترا وأمريكا ولهم فيها مساجد يضلون بها المسلمين وكان منهم في سوريا أفراد استأصل الله شأفتهم وقطع دابرهم ولهم عقائد كثيرة غير اعتقادهم بقاء النبوة بعده ﷺ. وسلفهم فيه ابن عربي الصوفي ولهم في ذلك رسالة جمعوا فيها أقواله في تأييد اعتقادهم المذكور. لم يستطع المشايخ الرد عليها لأنها مما قاله ابن عربي مع جزمهم بتكفيرهم ولا مجال لذكر شيء من عقائدهم الآن وهم بلا شك ممن عناهم رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح عنه: " يكون في آخر الزمان دجالون كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم لا يضلونكم ولا يفتنونكم " رواه المؤلف في " مشكل الآثار " ( 4 / 104 ) وهو عند الإمام مسلم ( 1 / 9 ). وإن من أبرز علاماتهم أنهم حين يبدءون بالتحدث عن دعوتهم إنما يبتدئون قبل كل شيء بإثبات موت عيسى عليه الصلاة والسلام فإذا تمكنوا من ذلك بزعمهم انتقلوا إلى مرحلة ثانية وهي ذكر الأحاديث الواردة بنزول عيسى عليه الصلاة والسلام ويتظاهرون بالإيمان بها ثم سرعان ما يتأولونها ما دام أنهم أثبتوا بزعمهم موته بأن المقصود نزول مثيل عيسى وأنه هو غلام أحمد القادياني ولهم ن مثل هذا التأويل الشيء الكثير والكثير جدا مما جعلنا نقطع بأنهم طائفة من الباطنية الملحدة. وسيأتي الإشارة إلى بعض عقائدهم الضالة قريبا إن شاء الله تعالى]
- ↑ [قال الألباني: ومن ضلالات القاديانية إنكارهم ل ( الجن ) كخلق غير الإنس ويتأولون كل الآيات والأحاديث المصرحة بوجودهم ومباينتهم للإنس في الخلق بما يعود إلى أنهم الإنس أنفسهم أو طائفة منهم حتى إبليس نفسه يقولون إنه إنسي شرير فما أضلهم. بسقر حيث قال تعالى ( سأصليه سقر ) المدثر: 26 فلما أوعد الله بسقر لمن قال: ( إن هذا إلا قول البشر ) المدثر: 32 علمنا وأيقنا أنه قول خالق البشر ولا يشبه قول البشر ( نقل هذا الكلام عن المصنف رحمه الله شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى " ( 12 / 507 ) مستشهدا به وقال الشارح ابن أبي العز رحمه الله ( ص 179 الطبعة الرابعة ) الصفحة 168 - 169 الطبعة التاسعة طبع المكتب الإسلامي: " وهذا الذي حكاه الطحاوي رحمه الله هو الحق الذي دلت عليه الأدلة من الكتاب والسنة لمن تدبرهما وشهدت به الفطرة السليمة التي لم تغير بالشبهات والشكوك والآراء الباطلة. وقد افترق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال ": ثم ساقها ومنها الثالث وهو أنه معنى واحد قائم بذات الله هو الأمر والنهي والخبر والاستخبار وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة وهذا قول ابن كلاب ومن وافقه كالأشعري وغيره قال: وسابعها أن كلامه يتضمن معنى قائما بذاته هو ما خلقه في غيره وهذا قول أبي منصور الماتريدي... وتاسعها أنه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم وإن لم يكن الصوت المعين قديما وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة. وقوله: " كلام الله منه بدا بلا كيفية قولا " - رد على المعتزلة وغيرهم. فإن المعتزلة تزعم أن القرآن لم يبد منه كما تقدم حكاية قولهم. وقال الشيخ محمد بن مانع رحمه الله تعالى ( ص 8 ): " القرآن العظيم كلام الله لفظه ومعانيه فلا يقال اللفظ دون المعنى كما هو قول أهل الاعتزال ولا المعنى دون اللفظ كما هو قول الكلابية الضلال ومن تابعهم على باطلهم من أهل الكلام الباطن المذموم فأهل السنة والجماعة يقولون ويعتقدون أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق ألفاظه ومعانيه عين كلام الله سمعه جبريل من الله والنبي سمعه من جبريل والصحابة سمعوه من النبي فهو المكتوب بالمصاحف المحفوظ بالصدور المتلو بالألسنة. قال الحافظ ابن القيم رحمه الله: وكذلك القرآن عين كلامه ال مسموع منه حقيقة ببيان هو قول ربي كله لا بعضه لفظا ومعنى ما هما خلقان تنزيل رب العالمين ووحيه اللفظ والمعنى بلا روغان ". وقال الشارح رحمه الله ( ص 194 - 195 ) 181: " وكلام الطحاوي رحمه الله يرد قول من قال: إنه معنى واحد لا يتصور سماعه منه وأن المسموع المنزل المقروء والمكتوب ليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه. فإن الطحاوي رحمه الله يقول: " كلام الله منه بدا ". وكذلك قال غيره من السلف ويقولون: منه بدا وإليه يعود. وإنما قالوا: منه بدا لأن الجهمية من المعتزلة وغيرهم كانوا يقولون إنه خلق الكلام في محل فبدا الكلام من ذلك المحل. فقال السلف: " منه بدا " أي هو المتكلم به فمنه بدا لا من بعض المخلوقات كما قال تعالى: ( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم ) الزمر: 1 ( ولكن حق القول مني ) السجدة: 13 ( قل نزله روح القدس من ربك الحق ) النحل: 102. ومعنى قولهم: " وإليه يعود ": يرفع من الصدور والمصاحف فلا يبقى في الصدور منه آية ولا في المصاحف. كما جاء ذلك في عده آثار. وقولهم " بلا كيفية ": أي: لا تعرف كيفية تكلمه به " قولا " ليس بالمجاز " وأنزله على رسوله وحيا " أي: أنزله إليه على لسان الملك فسمعه الملك جبرائيل من الله وسمعه الرسول محمد ﷺ من الملك وقرأه على الناس. قال تعالى: ( وقرآنا عربيا لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) الإسراء: 106 وقال تعالى: ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) الشعراء: 193 وفي ذلك إثبات صفة العلو لله تعالى ) ]
- ↑ [الأحقاف: 31]
- ↑ [الأنعام: 130]
- ↑ [الأحقاف: 30]
- ↑ [الرحمن: 22]
- ↑ [سـبأ: 28]
- ↑ [الأعراف: 158]
- ↑ [الأنعام: 19]
- ↑ [النساء: 79]
- ↑ [يونس: 2]
- ↑ [الفرقان: 1]
- ↑ [آل عمران: 20]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [سـبأ: 28]
- ↑ [يونس: 5]
- ↑ [المدثر: 26]
- ↑ [المدثر: 25]
- ↑ [الأعراف: 148]
- ↑ [طه: 89]
- ↑ [يّـس: 65]
- ↑ [فصلت: 21]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [النساء: 164]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [يـس: 58]
- ↑ [رواه ابن ماجه وغيره]
- ↑ [آل عمران: 77]
- ↑ [المؤمنون: 108]
- ↑ [الرعد: 16]
- ↑ [الأعراف: 54]
- ↑ [فصلت: 21]
- ↑ [الأحقاف: 25]
- ↑ [النمل: 23]
- ↑ [الرعد: 16]
- ↑ [الزخرف: 3]
- ↑ [الأنعام: 1]
- ↑ [الانبياء: 31، 30]
- ↑ [النحل: 91]
- ↑ [البقرة: 224]
- ↑ [الحجر: 91]
- ↑ [الإسراء: 29]
- ↑ [الإسراء: 39]
- ↑ [ الزخرف: 19]
- ↑ [الزخرف: 30 ]
- ↑ [القصص: 30]
- ↑ [ القصص: 30]
- ↑ [القصص: 30]
- ↑ [القصص: 30]
- ↑ [النازعات: 24]
- ↑ [الحاقة: 40]
- ↑ [التكوير: 19]
- ↑ [الفاتحة: 2-4]
- ↑ [البقرة: 76]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [الإسراء: 32]
- ↑ [البقرة: 43]
- ↑ [المسد: 1]
- ↑ [الكهف: 109]
- ↑ [لقمان: 27]
- ↑ [الإسراء: 78]
- ↑ [النحل: 98]
- ↑ [الأعراف: 204]
- ↑ [الشعراء: 196]
- ↑ [الأعراف: 156]
- ↑ [الطور: 3]
- ↑ [البروج: 22]
- ↑ [الواقعة: 78]
- ↑ [التوبة: 6]
- ↑ [الزمر: 1]
- ↑ [السجدة: 13]
- ↑ [النحل: 102]
- ↑ [الإسراء: 106]
- ↑ [الشعراء: 193-195]
- ↑ [غافر: 1-2]
- ↑ [الزمر: 1]
- ↑ [فصلت: 2]
- ↑ [فصلت: 42]
- ↑ [الدخان: 3-5]
- ↑ [القصص: 49]
- ↑ [الأنعام: 114]
- ↑ [لنحل: 102]
- ↑ [لرعد: 17]
- ↑ [الزمر: 6]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [البقرة: 30]
- ↑ [البقرة: 34]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [هود: 13]
- ↑ [العنكبوت: 49]
- ↑ [عبس: 14، 13]
- ↑ [النساء: 87]
- ↑ [الإسراء: 88]
- ↑ [هود: 13]
- ↑ [يونس: 38]
- ↑ [البقرة: 1-2]
- ↑ [آل عمران: 1-3]
- ↑ [الأعراف: 1-2]
- ↑ [يونس: 1]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [يونس: 38 ]
- ↑ [القيامة: 22، 23]
- ↑ [اعلم أن الأحاديث الواردة في إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة كثيرة جدا حتى بلغت حد التواتر كما جزم به جمع من الأئمة. منهم الشارح وقد خرج بعضها ثم قال: " وقد روى أحاديث الرؤية نحو ثلاثين صحابيا ". ومن أحاط بها معرفة يقطع بأن الرسول قالها ولولا أني التزمت الاختصار لسقت ما في الباب من الأحاديث ثم قال: " ليس تشبيه رؤية الله تعالى برؤية الشمس والقمر تشبيها لله بل هو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي ولكن فيه دليل على علو الله على خلقه وإلا فهل تعقل رؤية بلا مقابلة ؟ ومن قال: يرى لا في جهة. فليراجع عقله. فإما أن يكون مكابرا لعقله أو في عقله شيء وإلا فإذا قال يرى لا أمام الرائي ولا خلفه ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا فوقه ولا تحته رد عليه كل من سمعه بفطرته السليمة ". قلت: وأما رؤيته تعالى في الدنيا فقد أخبر رسول الله ﷺ في الحديث الصحيح أن أحدا منا لا يراه حتى يموت. رواه مسلم. وأما هو نفسه عليه الصلاة والسلام فلم يرد في إثباتها له ما تقوم به الحجة بل قد صح عنه الإشارة إلى نفيها حين سئل عنها بقوله: " نور أنى أراه " ومع ذلك جزمت السيدة عائشة بنفيها كما في الصحيحين وهذا هو الأصل فينبغي التمسك به ولا متوهمين بأهوائنا فإنه ما سلم في دينه إلا من سلم لله عز وجل ولرسوله ﷺ ورد علم ما اشتبه عليه إلى عالمه]
- ↑ [القيامة: 22، 23]
- ↑ [الحديد: 13 ]
- ↑ [الأعراف: 185]
- ↑ [الأنعام: 99]
- ↑ [القيامة: 22]
- ↑ [ق: 35]
- ↑ [يونس: 26 ]
- ↑ [يونس: 26 ]
- ↑ [المطففين: 15]
- ↑ [المطففين: 15]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [هود: 46]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [الأعراف: 143]
- ↑ [البقرة: 95]
- ↑ [الزخرف: 77 ]
- ↑ [يوسف: 80]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [الشعراء: 62، 61]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين بطوله]
- ↑ [الحديث أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [رواه مسلم وغيره]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [أخرجه البخاري في صحيحه]
- ↑ [عبس: 31]
- ↑ [الأعراف 134]
- ↑ [الأنعام: 8]
- ↑ [الأحزاب: 44]
- ↑ [وهو ما رواه مسلم في صحيحه]
- ↑ [الأنعام: 103]
- ↑ [طه: 110 ]
- ↑ [النساء: 163]
- ↑ [ الأعراف: 33]
- ↑ [الإسراء: 36]
- ↑ [هذه الفقرة مقدمة على الفقرة السابقة في المخطوطات الثلاث وكذا في نسخة شيخنا الطباخ رحمه الله ولعلها أولى. منهم بوهم (أي توهم أن الله تعالى يرى على صفة كذا فيتوهم تشبيها. شرح الطحاوية. ) أو تأولها بفهم (أي ادعى أنه فهم لها تأويلا يخالف ظاهرها وما يفهمه كل عربي عن معناها ) إذ كان تأويل الرؤية وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية بترك التأويل ولزوم التسليم وعليه دين المسلمين (في المخطوطات الثلاث والمطبوعات " المرسلين " ). ومن لم يتوق النفي والتشبيه زل ولم يصب التنزيه (قلت: وذلك لأن نفاة الصفا والرؤية من المعتزلة وغيرهم إنما ينفونها تنزيها لله تعالى بزعمهم عن التشبيه وهذا زلل وزيغ وضلال إذ كيف يكون ذلك تنزيها وهو ينفي عن الله صفات الكمال ومنها الرؤية إذ المعدوم هو الذي لا يرى فالكمال في إثبات الرؤية الثابتة في الكتاب والسنة والمشبهة إنما زلوا لغلوهم في إثبات الصفا وتشبيه الخالق بالمخلوق سبحانه وتعالى. والحق بين هؤلاء وهؤلاء إثبات بدون تشبيه وتنزيه بدون تعطيل. وما أحسن ما قيل: المعطل يعبد عدما والمجسم يعبد صنما ). فإن ربنا جل وعلا موصوف بصفات الوحدانية منعوت بنعوت الفردانية ليس في معناه أحد من البرية ]
- ↑ [النور: 54]
- ↑ [النحل: 35]
- ↑ [ابراهيم: 4]
- ↑ [المائدة: 15]
- ↑ [الزخرف: 1، 2]
- ↑ [يوسف: 1]
- ↑ [يوسف: 111]
- ↑ [النحل: 89]
- ↑ [الإسراء: 36]
- ↑ [الحج: 3-4]
- ↑ [الحج 8-9]
- ↑ [القصص: 50]
- ↑ [النجم: 23]
- ↑ [الزخرف: 58]
- ↑ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن]
- ↑ [خرجاه في الصحيحين]
- ↑ [الجاثـية: 23]
- ↑ [الأعراف: 12]
- ↑ [النساء: 80]
- ↑ [آل عمران: 31]
- ↑ [النساء: 65]
- ↑ [طـه: 5]
- ↑ [فاطر: 10]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [طـه: 110]
- ↑ [خرجه مسلم]
- ↑ [الفيل: 1]
- ↑ [الأنعام: 112]
- ↑ [النحل: 125]
- ↑ [الأعراف: 53]
- ↑ [يوسف: 100]
- ↑ [يوسف: 6]
- ↑ [النساء: 59]
- ↑ [الكهف: 78]
- ↑ [الكهف: 82]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [رواه البخاري وغيره]
- ↑ [آل عمران: 7]
- ↑ [هود: 1]
- ↑ [الأحزاب: 32]
- ↑ [البقرة: 10]
- ↑ [التوبة: 125]
- ↑ [الشورى: 11]
- ↑ [الاخلاص: 2، 1]
- ↑ [الاخلاص: 3، 2]
- ↑ [قال الألباني: مراد المؤلف رحمه الله بهذه الفقرة الرد على طائفتين: الأولى: المجسمة والمشبهة الذين يصفون الله بأن له جسما وجثة وأعضاء وغير ذلك تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. والأخرى: المعطلة الذين ينفون علوه تعالى على خلقه وأنه بائن من خلقه. بل يصرح بعضهم بأنه موجود بذاته في كل الوجود وهذا معناه حلول الله في مخلوقاته. وأنه محاط بالجهات الست المخلوقة وليس فوقها فنفى المؤلف ذلك بهذا الكلام. ولكن قد يستغل ذلك بعض المبتدعة ويتأولونه بما قد يؤدي إلى التعطيل كما بينه الشارح رحمه الله تعالى وقد لخص كلامه الشيخ محمد بن مانع عليه الرحمة فقال ( ص 10 ): " ومراده بذلك الرد على المشبهة ولكن هذه الكلمات مجملة مبهمة وليست من الألفاظ المتعارفة عند أهل السنة والجماعة والرد عليهم بنصوص الكتاب والسنة أحق أولى من ذكر ألفاظ توهم خلاف الصواب. ففي قوله تعالى: ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) رد على المشبهة والمعطلة فلا ينبغي لطالب الحق الالتفات إلى مثل هذه الألفاظ ولا التعويل عليها فإن الله سبحانه موصوف بصفات الكمال منعوت بنعوت العظمة والجلال فهو سبحانه فوق مخلوقاته مستو على عرشه المجيد بذاته بائن من خلقه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا ويأتي يوم القيامة وكل ذلك على حقيقته ولا نؤوله كما لا نؤول اليد بالقدرة والنزول بنزول أمره وغير ذلك من الصفات بل نثبت ذلك إثبات وجود لا إثبات تكييف. وما كان أغنى الإمام المصنف عن مثل هذه الكلمات المجملة الموهمة المخترعة ولو قيل إنها مدسوسة عليه وليست من كلامه لم يكن ذلك عندي ببعيد إحسانا للظن بهذا الإمام وعلى كل حال فالباطل مردود على قائله كائنا من كان ومن قرأ ترجمة المصنف الطحاوي لا سيما في لسان الميزان عرف أنه من أكابر العلماء وأعاظم الرجال وهذا هو الذي حملنا على إحسان الظن فيه في كثير من المواضع التي فيها مجال لناقد ". انتهى كلام ابن مانع رحمه الله ]
- ↑ [صّ: 75]
- ↑ [الزمر: 67]
- ↑ [القصص: 88]
- ↑ [الرحمن: 27]
- ↑ [المائدة: 116]
- ↑ [الأنعام: 54]
- ↑ [طـه: 41]
- ↑ [آل عمران: 28]
- ↑ [صّ: 75]
- ↑ [يّـس: 71]
- ↑ [يّـس: 71]
- ↑ [صّ: 75]
- ↑ [الحجر: 91]
- ↑ [قال الألباني: يعني من آيات ربه الكبرى وأما القول بأنه عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلتئذ بعينه فلم يثبت كما تقدم التنبيه عليه قريبا. ولذلك قال الشارح وغيره: " والصحيح أنه رآه بقلبه ولم يره بعين رأسه " ]
- ↑ [هذا لفظ البخاري في صحيحه]
- ↑ [النجم: 11]
- ↑ [النجم: 13]
- ↑ [النجم: 8]
- ↑ [النجم: 5-8]
- ↑ [الإسراء: 1]
- ↑ [قال الألباني: والأحاديث التي جاء ذكر الحوض فيها كثيرة جدا بلغت مبلغ التواتر كما صرح بذلك جمع من الأئمة ورواها من الصحابة بضع وثلاثون صحابيا وقد استقصى طرقها الحافظ ابن كثير في " النهاية " في آخر تاريخه وعقد لها الحافظ ابن أبي عاصم في " كتاب السنة " سبعة أبواب ( رقم 155 - 161 ) ورقم الأحاديث ( 734 ( كذا أصل الشيخ الألباني والصواب الرقم ( 697 ) - زهير ) - 776 - بتحقيقي ) أشار في آخرها إلى تواترها بقوله: " والأخبار التي ذكرناها في حوض النبي ﷺ توجب العلم... " ]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [الكوثر: 1]
- ↑ [قال الألباني: وهي متواترة أيضا وقد عقد لها ابن أبي عاصم في " السنة " ستة أبواب ( 163 - 168 ) رقم الأحاديث ( 784 - 832 ) وساق طائفة منها الشارح رحمه الله في شرحه تضمنت أن شفاعته ﷺ ثمانية أنواع فليراجع من شاء البحث والتحقيق فإنه هام ]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين بمعناه]
- ↑ [واللفظ للإمام أحمد]
- ↑ [رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره، والطبراني، وأبو يعلى الموصلي، والبيهقي وغيرهم]
- ↑ [والحديث مخرج في الصحيحين]
- ↑ [المدثر: 48]
- ↑ [رواه الإمام أحمد رحمه الله]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [الروم: 47]
- ↑ [الأعراف: 55]
- ↑ [آل عمران: 154]
- ↑ [آل عمران: 128]
- ↑ [الأعراف: 54]
- ↑ [قال الألباني: يشير إلى بعض الأحاديث المصرحة بأن الله تعالى استخرج الذرية من صلب آدم عليه الصلاة والسلام وقد ذكر في الشرح أربعة منها وهي مخرجة في تعليقي عليه وفي " تخريج السنة " ( رقم 195 - 205 ) وقد كنت استثنيت في التعليق المشار إليه ( ص 266 - الطبعة الرابعة شرح العقيدة الطحاوية ص 204) من الصحة مسح الظهر الوارد في حديث عمر وكان ذلك سهوا مني أسأله تعالى أن يغفره لي فقد تنبهت إلى أن له شاهدا حسنا من حديث أبي هريرة وهو مذكور في " الشرح " وآخر من حديث ابن عباس بسند ضعيف خرجته في " السنة " ( 203 ) فاقتضى التنبيه. وسوف نستدرك ذلك في الطبعة الجديدة]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [ورواه النسائي أيضاً، وابن جرير، و ابن أبي حاتم، و الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه]
- ↑ [ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم، و ابن جرير، و ابن حبان في صحيحه]
- ↑ [ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. ورواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه]
- ↑ [وأخرجاه في الصحيحين أيضاً]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [فصلت: 11]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [النساء: 165]
- ↑ [الأعراف: 172]
- ↑ [الأعراف: 173]
- ↑ [الأعراف: 173]
- ↑ [لقمان: 25]
- ↑ [ابراهيم: 10]
- ↑ [الأعراف: 174]
- ↑ [النساء: 135]
- ↑ [يوسف: 38]
- ↑ [البقرة: 133]
- ↑ [العنكبوت: 8]
- ↑ [البقرة: 170]
- ↑ [يشير المؤلف رحمه الله إلى حديث عبد الله بن عمرو قال: خرج علينا رسول الله ﷺ وفي يده كتابان فقال: " أتدرون ما هذان الكتابان ؟ " فقلنا: لا يا رسول الله إلا أن تخبرنا " فقال للذي في يده اليمنى: " هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا ". ثم قال للذي في شماله: " هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدا " فقال أصحابه: ففيم العمل إن كان أمر قد فرغ منه ؟ فقال: سددوا وقاربوا فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل ثم قال رسول الله ﷺ بيده فنبذهما ثم قال: فرغ ربكم من العباد ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) الشورى: 7. أخرجه الترمذي (انظر " صحيح سنن الترمذي - باختصار السند " رقم ( 1740 ) وصححه هو وغيره وهو مخرج في " الصحيحة " ( 848 )]
- ↑ [الأنفال: 75]
- ↑ [الأحزاب: 40]
- ↑ [مريم: 64]
- ↑ [الليل: 5-10]
- ↑ [خرجاه في الصحيحين]
- ↑ [هو قطعة من حديث علي المروي في " الصحيحين " وقد خرجته في " تخريج السنة " برقم ( 171 ). وقد صح أن بعض الصحابة لما سمعوا هذا الحديث منه ﷺ قالوا: إذا نجتهد. وفي رواية: فالآن نجد الآن نجد الآن نجد. انظر " السنة ". ( 161 - 167 ) ففيه رد صريح على الجبرية المتواكلة الذين يفهمون من الحديث خلاف فهم الصحابة فتأمل]
- ↑ [هذا طرف من حديث لسهل بن سعد الساعدي أخرجه أحمد والبخاري وهو مخرج في المصدر السابق ( 216 )]
- ↑ [هذا معنى حديث أخرجه البزار وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعا بلفظ: " الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه ". وسنده صحيح كما بينته في " الروض النضير " ( 1098 ) و" تخريج السنة " ( 188 ). ملك مقرب ولا نبي مرسل والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان فالحذر كل الحذر من ذلك نظرا وفكرا ووسوسة (قلت: وهذا التعمق هو المراد - والله أعلم - بقوله ﷺ: ... وإذا ذكر القدر فأمسكوا ". وهو حديث صحيح روي عن جمع من الصحابة وقد خرجته في " الصحيحة " ( 34 ) ) فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه كما قال الله تعالى في كتابه: ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) الأنبياء: 23 (أي لكمال حكمته ورحمته وعدله لا لمجرد قهره وقدرته كما يقول جهم وأتباعه. كذا في " الشرح " وراجع فيه تحقيق أن مبنى العبودية والإيمان على التسليم وعدم الأسئلة عن تفاصيل الحكمة في الأوامر والنواهي والشرائع فإنه مهم جدا لولا ضيق المجال لنقلته برمته لنفاسته وعزته. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في " مجموع الفتاوى " ( 1 / 148 - 150 ) باختصار بعض الفقرات: " والإيمان بالقدر على درجتين كل درجة تتضمن شيئين: فالدرجة الأولى: الإيمان بأن الله تعالى علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم الذي هو الذي هو موصوف به أزلا وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال. ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق " فأول ما خلق الله القلم قال له (كذا وقع هنا وهو بمعنى رواية " فقال له ". لكن الراجح عندي الرواية الأخرى بلفظ: " ثم قال له " كما كنت حققته في " تخريج شرح الطحاوية " ص 294 - 295 ) 464 - 265 من الطبعة التاسعة طبع المكتب الإسلامي(. وله شاهد عن ابن عباس خرجته في الصحيحة ( 133 ) وقول الشيخ ناصر: " حققته " وهم فإن له التخريج فقط كما ذكر في غير هذا الكتاب وتابع الإصرار على ادعاء تحقيقه لشرح الطحاوية الكبير ): أكتب قال: ما أكتب ؟ قال: أكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال وتعالى: ( ألم تعلم أن الله يعلم ما في السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير ) الحج: 70. وهذا التقدير التابع لعلمه سبحانه يكون في مواضع جملة وتفصيلا فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكا فيؤمر بأربع كلمات. أكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد ونحو ذلك فهذا القدر ينكره غلاة القدرية قديما ومنكره اليوم قليل. وأما الدرجة الثانية: فهو مشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وأنه ما في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشية الله سبحانه لا يكون في ملكه إلا ما يريد وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات. ومع ذلك فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله ونهاهم عن معصيته وهو سبحانه يحب المتقين والمحسنين والمقسطين ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا يحب الكافرين ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء ولا يرضى لعباده الكفر ولا يحب الفساد. والعباد فاعلون حقيقة والله خالق أفعالهم والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر والمصلى والصائم وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم كما قال تعالى: ( لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين ) التكوير: 28 29 وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات حتى سلبوا العبد قدرته واختياره ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها. قلت: ويشير بكلامه الأخير إلى الأشاعرة فإنهم هم الذين غلوا وأنكروا الحكمة على ما فصله ابن القيم في " شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل ". فراجعه فإنه هام جدا. ). فمن سأل لم فعل ؟ فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. ]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [خرجاه في الصحيحين]
- ↑ [الأنبياء: 23]
- ↑ [القمر: 49]
- ↑ [الفرقان: 2]
- ↑ [السجدة: 13]
- ↑ [يونس: 99]
- ↑ [التكوير: 29]
- ↑ [الإنسان: 30]
- ↑ [الأنعام: 39]
- ↑ [الأنعام: 125]
- ↑ [البقرة: 205]
- ↑ [الزمر: 7]
- ↑ [الإسراء: 38]
- ↑ [التوبة: 46]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [التوبة: 47]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [ورواه ابن ماجه أيضاً]
- ↑ [التوبة: 69]
- ↑ [البقرة: 200]
- ↑ [رواه الترمذي]
- ↑ [رواه أبو داود و ابن ماجه و الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]
- ↑ [رواه الترمذي وغيره]
- ↑ [قال الشارح: يشير إلى ما تقدم ذكره مما يجب اعتقاده والعمل به مما جاءت به الشريعة. وقوله: " وهي درجة الراسخين في العلم " أي علم ما جاء به الرسول جملة وتفصيلا نفيا وإثباتا. ويعني بالعلم المفقود علم القدر الذي طواه الله عن أنامه ونهاهم عن مرامه. ويعني بالعلم الموجود علم الشريعة أصولها وفروعها فمن أنكر شيئا مما جاء به الرسول ﷺ كان من الكافرين ومن ادعى علم الغيب كان من الكافرين ]
- ↑ [الجن: 26-27]
- ↑ [لقمان: 34]
- ↑ [قال الألباني: وهو المذكور في قوله تعالى: ( بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ ) البروج: 22 وهو من الغيب الذي يجب الإيمان به ولا يعرف حقيقته إلا الله واعتقاد أن بعض الصالحين يطلعون على ما فيه كفر بالآيات والأحاديث المصرحة بأنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى]
- ↑ [قال الألباني: ذكر الشارح هنا أن العلماء اختلفوا هل القلم أول المخلوقات أو العرش ؟ على قولين لا ثالث لهما وأنا وإن كان الراجح عندي الأول كما كنت صرحت به في تعليقي عليه ( ص 295 ) 264 - 265 فإني أقول الآن: سواء كان الراجح هذا أم ذاك فالاختلاف المذكور يدل بمفهومه على أن العلماء اتفقوا على أن هناك أول مخلوق والقائلون بحوادث لا أول لها مخالفون لهذا الاتفاق لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق وهكذا إلى ما لا أول له كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه فإن قالوا: العرش أول مخلوق كما هو ظاهر كلام الشارح نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها. وإن لم يقولوا بذلك خالفوا الاتفاق فتأمل هذا فإنه مهم. والله الموفق]
- ↑ [البروج: 22]
- ↑ [كما في سنن أبي داود]
- ↑ [القلم: 1]
- ↑ [هذا طرف من حديث ابن عباس المشهور بلفظ: " احفظ الله يحفظك... " الحديث. وهو حديث صحيح كما ذكرت في " التخريج " شرح العقيدة الطحاوية برقم 274 طبع المكتب الإسلامي]
- ↑ [رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]
- ↑ [المائدة: 44]
- ↑ [البقرة: 40]
- ↑ [البقرة: 41]
- ↑ [النور: 52]
- ↑ [المدثر: 56]
- ↑ [الطلاق: 2، 3]
- ↑ [الطلاق: 3]
- ↑ [الفرقان: 7]
- ↑ [الرعد: 39]
- ↑ [الرحمن: 29]
- ↑ [هذا من تمام حديث ابن عباس المشار إليه آنفا في رواية عنه]
- ↑ [ الفرقان: 2 ]
- ↑ [ الأحزاب: 38 ]
- ↑ [الملك: 14]
- ↑ [الفرقان:2]
- ↑ [الأحزاب:38]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [الفرقان:2]
- ↑ [الأنعام:122]
- ↑ [النساء:69]
- ↑ [فصلت:44]
- ↑ [الإسراء:82]
- ↑ [يونس:57]
- ↑ [الجن:26-27]
- ↑ [البروج:15]
- ↑ [غافر:15]
- ↑ [طه:5]
- ↑ [الأعراف:54]
- ↑ [المؤمنون:116]
- ↑ [النمل:26]
- ↑ [غافر:7]
- ↑ [الحاقة:17]
- ↑ [الزمر:75]
- ↑ [ورواه أبو داود و الترمذي و ابن ماجه]
- ↑ [النمل: 23]
- ↑ [الحاقة:17]
- ↑ [هود:7]
- ↑ [البقرة:255]
- ↑ [البقرة:255]
- ↑ [آل عمران:97]
- ↑ [فاطر:15]
- ↑ [الأعراف:54]
- ↑ [البروج:20]
- ↑ [فصلت:54]
- ↑ [النساء:126]
- ↑ [الأنعام:18]
- ↑ [النحل:50]
- ↑ [رواه البخاري وغيره]
- ↑ [يس:58]
- ↑ [الحديد:3]
- ↑ [الكهف:97]
- ↑ [وضاعت العيال]
- ↑ [وهو حديث صحيح ، أخرجه الأموي في مغازيه ، وأصله في الصحيحين]
- ↑ [المجادلة:1]
- ↑ [أخرجه الدارمي]
- ↑ [الأعراف:17]
- ↑ [النحل:50]
- ↑ [الأنعام:61]
- ↑ [المعارج:4]
- ↑ [فاطر:10]
- ↑ [النساء:158]
- ↑ [آل عمران:55]
- ↑ [البقرة:255]
- ↑ [سبأ:23]
- ↑ [الشورى:51]
- ↑ [الزمر:1]
- ↑ [غافر:2]
- ↑ [فصلت:2]
- ↑ [فصلت:42]
- ↑ [النحل:102]
- ↑ [الدخان:1-5]
- ↑ [الأعراف:206]
- ↑ [الأنبياء:19]
- ↑ [غافر:36-37]
- ↑ [يس:58]
- ↑ [رواه الإمام أحمد في المسند ، وغيره ، من حديث جابر رضي الله عنه]
- ↑ [طه:5]
- ↑ [رواها عبد الرحمن بن أبي حاتم وغيره]
- ↑ [يوسف:39]
- ↑ [النمل:59]
- ↑ [طه:73]
- ↑ [الأنعام:110]
- ↑ [الصف:5]
- ↑ [النساء:125]
- ↑ [النساء:164]
- ↑ [آل عمران:33]
- ↑ [القمر:34]
- ↑ [البقرة:49]
- ↑ [غافر:46]
- ↑ [البقرة:124]
- ↑ [البقرة:285]
- ↑ [البقرة:177]
- ↑ [النساء:136]
- ↑ [النازعات:5]
- ↑ [الذاريات:4]
- ↑ [الأنبياء:27-28]
- ↑ [النحل:50]
- ↑ [الأنبياء:19-20]
- ↑ [البقرة:285]
- ↑ [آل عمران:18]
- ↑ [الأحزاب:43]
- ↑ [غافر:7]
- ↑ [الزمر:75]
- ↑ [الأنبياء:26]
- ↑ [الأعراف:206]
- ↑ [فصلت:38]
- ↑ [الانفطار:11]
- ↑ [عبس:16]
- ↑ [المطففين:21]
- ↑ [الصافات:8]
- ↑ [المائدة:3]
- ↑ [مريم:64]
- ↑ [البقرة:253]
- ↑ [الإسراء:55]
- ↑ [الإسراء:62]
- ↑ [الإسراء:62]
- ↑ [البقرة:31]
- ↑ [ص:75]
- ↑ [أخرجه الطبراني]
- ↑ [الأنبياء:27]
- ↑ [الأعراف:20]
- ↑ [يوسف:31]
- ↑ [الأنعام:50]
- ↑ [آل عمران:33]
- ↑ [الفرقان:1]
- ↑ [الحجر:70]
- ↑ [الشعراء:165]
- ↑ [الدخان:32]
- ↑ [البينة:7]
- ↑ [النساء:172]
- ↑ [الأنعام:50]
- ↑ [الفرقان:7]
- ↑ [النساء:164]
- ↑ [غافر:78]
- ↑ [النحل:35]
- ↑ [النحل:82]
- ↑ [النور:54]
- ↑ [التغابن:12]
- ↑ [الأحزاب:7]
- ↑ [الشورى:13]
- ↑ [البقرة:136]
- ↑ [البقرة:136]
- ↑ [آل عمران:1-2]
- ↑ [آل عمران:4]
- ↑ [البقرة:285]
- ↑ [النساء:82]
- ↑ [البقرة:213]
- ↑ [فصلت:41-42]
- ↑ [سبأ:6]
- ↑ [يونس:57]
- ↑ [فصلت:44]
- ↑ [التغابن:8]
- ↑ [النجم:23]
- ↑ [الشعراء:193-195]
- ↑ [التكوير:19-21]
- ↑ [الحاقة:40-41]
- ↑ [الأنعام:68]
- ↑ [وهو حديث حسن]
- ↑ [هو في البخاري 12: 66 - 68 من الفتح. وكان في المطبوعة محرفا، فصححناه من البخاري]
- ↑ [سورة المائدة آية 44]
- ↑ [متفق عليه من حديث ابن مسعود رضي الله عنه]
- ↑ [متفق عليهما من حديث ابن عمر رضي الله عنه]
- ↑ [متفق عليه من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه]
- ↑ [رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه]
- ↑ [رواه الحاكم بهذا اللفظ]
- ↑ [سورة البقرة آية 178]
- ↑ [سورة الحجرات الآيتان 9، 10]
- ↑ [أخرجاه في الصحيحين]
- ↑ [رواه مسلم]
- ↑ [سورة هود آية 114]
- ↑ [سورة البقرة آية 143]
- ↑ [سورة المائدة آية 8]
- ↑ [هكذا ورد في الأصل. والصواب: (قدامة بن مظعون)، كما في سير أعلام النبلاء 1 / 161، والإصابة 3 / 228. ن]
- ↑ [سورة المائدة آية 93]
- ↑ [سورة غافر آية 1- 3]