سقاها وحيّا تربها وابلُ القطرِ
سقاها وحيّا تربها وابلُ القطرِ المؤلف: مصطفى لطفي المنفلوطي |
سقاها وحيّا تربها وابلُ القطرِ
وإن أصبحت قفراءَ في مهمةٍ قفرِ
طواها البلى طيَّ الشحيحِ رداءَه
وليس لما يطوى الجديدانِ من نشرِ
مَرابضُ آسادٍ ومأوى أراقِمٍ
تجاوَرُ في قيعانِها الغيلُ بالجُحر
يكادُ يَضلُّ النجمُ في عَرَصاتِها
ويزوَرّ عن ظلمائِها البَدرُ من ذُعرِ
لقد فَعَلت أيدي السوافي بنؤيها
وأحجارها ما يفعل الدهر بالحر
وَقَفتُ بها في وَحشةِ الليل وَقفةً
أثارَ شجاها كامِنُ الوجد في صَدرى
ذكرتُ بها العَهدَ القدِيمَ الذي مضى
ولم يَبقَ منهُ غيرُ بالٍ من الذكر
وعيشاً حَسِبناهُ من الحُسنِ رَوضَةً
كساها الحيا منهُ أفانينَ من زَهر
فأنشَأتُ أبكي والأَسى يتبع الأَسَى
إلى اَن رأَيتُ الصخرَ يَبكي إلى الصخر
وما حيلةُ المَحزُونِ إلا لواعجٌ
تفيضُ بها الأحشاءُ أو عبرَةٌ تَجري
وما أنسَ مِ الأَشياءِ لا أنسَ ليلةً
جَلاها الدُجى قَمراءَ في ساحةِ القَصرِ
كأنَّ النجومَ في أديمِ سمائِها
سَفائِنُ فَوضَى سابحاتٌ على النهر
كأنَّ الثريا في الدُجنةِ طرةٌ
مرصعةُ الأطرافِ باللؤلؤِ النَثرِ
كأن السُّهَا حقٌّ تعرضَ باطلٌ
إليه فألقى دونَه مُسبَلَ السِّترِ
كأن الدجى فحمٌ سَرى في سَوادِه
من الفَجر نارٌ فاستحالَ إلى جَمرِ
كأنَّ نَسيمَ الفَجرِ في الجوِّ خاطرٌ
من الشعر يَجري في فضاءِ من الفكرِ
وفي القَصرِ بين الظلِّ والماءِ غادَةٌ
تَميسُ بلا سُكرٍ وتَنأى بِلا كِبرِ
تُريكَ عيوناً ناطقاتٍ صَوامِتاً
فما شئتَ من خَمرٍ وما شِئتَ من سِحر
لهوتُ بها حتَّى قَضَى الليلُ نَحبَهُ
وأدرجَهُ المِقدارُ في كَفَنِ الفَجرِ
لعمركَ ما راحت بِلُبّى صَبَابةٌ
ولا نازعتني مُهجَتِي سورةُ الخَمرِ
ولا هاجَني وجدٌ ولا رسمُ مَنزلٍ
عَفاءٍ ولكن هكذا سنَّةُ الشِّعرِ
ومَن كان ذَا نفسٍ كنفسي قريحةٍ
من الهمّ لا يُعنى بوصلٍ ولا هجَرِ
كأني ولم أسلخ ثلاثين حِجّةً
ولم يَجرِ يوماً خاطرُ الشيّبِ في شَعري
أخو مائةٍ تَمشي الهُوَينا كأنَّه
إذا ما مشى في السّهلِ في جَبَلٍ وَعر
إذا شابَ قلبُ المرءِ شابَ رجاؤُه
وشابَ هواهُ وهوَ في ضَحوةِ العُمرِ
حَييتُ بآمالي فلمّا كَذَبنَنِي
قنعتُ فلم أحفِل بِقُلٍّ ولا كُثرِ
وأصبحت لا أرجو سِوَى الجَرعةِ التي
أذوقُ إذا ما ذقتها راحةَ القبر
وليسَت حياةُ المرءِ إلا أمانياً
إذا هي ضاعت فالحياة على الإِثر
جزى اللَه عني اليأسَ خيراً فإنه
كفاني ما ألقى من الأملِ المر
وراضَ جماحي للزمان وحُكمِه
بما شاءَ من عدلٍ وما شاءَ من جُور
فما أنا إن ساءَ الزمانُ بساخطٍ
ولا أنا إن سر الزمانُ بِمُغتَر
إذا ما سفيهٌ نالني منه قادِحٌ
من الذمّ لم يُحرِج بموقِفه صَدري
أعودُ إلى نفسي فإن كان صادِقاً
عَتَبتُ على نفسي واصلحت من أمري
وإلا فما ذنبي إلى الناس إن طغى
هواها فما ترضى بخيرٍ ولا شر
أمولاي عذراً إن للهم صرعةً
تطير بسر المرءِ من حيث لا يدري
وإني لأتحيي لقاءَكَ شاكياً
وأنت الذي ألهمتني خلق الصبرِ
وأوردتني من بحرِ علمِكَ مَورِداً
أمنتُ به الكفرانَ في موضعِ الشُّكر
لك القلمُ العضبُ الذي فل غربه
من الشرك ما أعيى على البيض والسمر
إذا جن ليل الشك طلى ظلامه
بفجرٍ من الآيات والحججِ الغُرِّ
لك العزةُ القعساءُ والسؤدد الذي
تخرّ لديهِ هامةُ الأنجمِ الزُّهرِ
وما صاحبُ العرشِ المُدِلِّ بتاجِه
بأعرقَ مَجداً مِنكَ في مَوقِف الفَخر
وكَم بَينَ عَرشٍ من لجينٍ وعَسجدٍ
يُصاغُ وعرشٍ من سناءٍ ومِن ذِكر
وكم بَينَ مَجدِ الدين والعلم والتقى
ومجدِ القصُورِ الشم والعَسكَر المَجرِ
لكَ النائِلُ المعروفُ غيرَ مكدِّرٍ
تُشَيِّعُهُ بَين الطَلاقَةِ والبِشرِ
إذا ابتدرَ الناسُ المكارَمَ نِلتَها
بسابقِ عَزمٍ لا يَملُّ مِنَ الحصرِ
فلا زلتَ مَهدِياً ولا زلتَ هادِياً
تروحُ إلى خَيرٍ وتغدُو إلى بِرّ
ولا زَالَتِ الأَعيادُ تَترَى وفودُها
بما شِئتَ مِن عزٍ وما شئتَ مِن عُمرِ