الرئيسيةبحث

زاد المهاجر إلى ربه

زاد المهاجر إلى ربه
  ► فهرس :إسلام ☰  
بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين وعليه نتوكل

قال الشيخ الامام العالم العلامة محمد بن ابي بكر المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وارضاه في كتابه الدي سيره من تبوك ثامن المحرم سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة بعد كلام له سبق : احمد الله بمحامده التي هو لها اهل والصلاة والسلام على خاتم رسله وانبيائه : محمد ﷺ وبعد : فان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب وقد اشتملت هده الاية على جميع مصالح العباد في معاشهم ومعادهم فيما بينهم بعضهم بعضا وفيما بينهم وبين ربهم فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين وهذين الواجبين : واجب بينه وبين الله وواجب بينه وبين الخلق

فاما ما بينه وبين الخلق : من المعاشرة والمعاونه والصحبة فالواجب عليه فيها ان يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم تعاونا على مرضاة الله وطاعته التي هي غاية سعادة العبد وفلاحه ولاسعادة له الا بها وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله واذا افرد كل واحد من الاسمين دخل في مسمى الاخر اما تضمنا واما لزوما ودخوله فيه تضمنا اظهر لان البر جزء مسمى التقوى وكدلك التقوى فانه جزء مسمى البر وكون احدهما لايدخل في الاخر عند الاقتران لايدل على انه لايدخل فيه عند انفراد الاخر و نظير هذا لفظ الايمان والاسلام و الايمان والعمل الصالح و الفقير والمسكين و الفسوق والعصيان و المنكر والفاحشة ونظائره كثيرة وهذه قاعدة جليلة من احاط بها زالت عنه اشكالات كثيرة اشكلت على كثير من الناس البر والتقوى ولنذكر من هذا مثالا واحدا يستدل به على غيره وهو البر والتقوى فان حقيقة البر هو الكمال المطلوب من الشئ والمنافع التي فيه والخير كما يدل عليه اشتقاق هذه اللفظة وتصاريفها في الكلام ومنه البر بالضم لمنافعة وخيره بالاضافة الى سائر الحبوب

ومنه رجل بار وبر وكرام برره والابرار فالبر : كلمة جامعة لجميع انواع الخير والكمال والمطلوب من العبد وفي مقابلته الاثم وفي حديث النواس بن سمعان ان النبي ﷺ قال له جئت تسال عن البر والاثم فالاثم كلمة جامعة للشرور والعيوب التي يذم العبد عليها فيدخل في مسمى البر : الايمان واجزاؤه الظاهرة والباطنة ولا ريب ان التقوى جزء هذا المعنى واكثر ما يعبر عن بر القلب وهو وجود طعم الايمان فيه وحلاوته وما يلزم ذلك من طمانينتة وسلامته وانشراحه

وقوته وفرحه بالايمان فإن للايمان فرحة وحلاوة ولذة في القلب فمن لم يجدها فهو فاقد الايمان او ناقصه وهو من القسم الذين قال الله تعالى فيهم قالت الاعراب امنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم فهؤلاء على اصح القولين مسلمون غير منافقين وليسوا بمؤمنين اذا لم يدخل الايمان في قلوبهم فيباشرها حقيقة وقد جمع الله خصال البر في قوله تعالى ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البرمن امن بالله واليوم الاخر والملائكة والكتاب والنبيين واتى المال على حبه ذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة واتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا والصابرين في الباساء والضراء وحين البأس اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون فاخبر سبحانه ان البر هو الايمان بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر وهذه هي اصول الايمان الخمس التي لاقوام للايمان الا بها وانها الشرائع الظاهرة من اقامة الصلاة وايتاء الزكاة والنفقات الواجبة

وانها الاعمال القلبية التي هي حقائقه من الصبر والوفاء بالعهد فتناولت هده الخصال جميع اقسام الدين حقائقه وشرائعه والاعمال المتعلقة بالجوارح والقلب واصول الايمان الخمس ثم اخبر سبحانه عن هذا انها هي خصال التقوى بعينها فقال اولئك الذين صدقوا واولئك هم المتقون التقوى واما التقوى فحقيقتها العمل بطاعة الله ايمانا واحتسابا امرا ونهيا فيفعل ما امر الله به ايمانا بالامر وتصديقا بوعده ويترك ما نهى الله عنه ايمانا بالنهى وخوفا من وعيده كما قال طلق بن حبيب اذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى قالوا : وما التقوى قال : ان تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجوا ثواب الله وان تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله وهذا احسن ما قيل في حد التقوى فان كل عمل لابد له من مبدا وغاية فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الايمان فيكون الباعث عليه هو الايمان المحض لا العادة ولا الهوى ولا طلب المحمدة والجاه وغير ذلك بل لابد ان يكون مبدؤه محض الايمان وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب

ولهذا كثيرا ما يقرن بين هذين الاصلين في مثل قول النبي ﷺ : من صام رمضان ايمانا واحتسابا و ومن قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا ونظائره فقوله على نور من الله اشارة الى الاصل الاول وهو الايمان الدي هو مصدر العمل والسبب الباعث عليه وقوله ترجو ثواب الله اشارة ان الاصل الثاني وهو الاحتساب وهو الغاية التي لاجلها يوقع العمل ولها يقصد به ولا ريب ان هذا اسم لجميع اصول الايمان وفروعه وان البر داخل في هذا المسمى واما عند اقتران احدهما بالاخر كقوله تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره والغاية المقصودة لنفسها فان البر مطلوب لذاته اذ هو كمال العبد وصلاحه الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم واما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه ولفظها يدل على هذا فانها فعلى ومن وقى يقي وكان اصلها وقوى فقلبوا الواو تاء كما قالوا تراث من الوراثة وتجاه من الوجه وتخمة من الوخمة ونظائرها فلفظها دال على انها من الوقاية فان المتقي قد جعل بينه وبين النار وقاية والوقاية من باب دفع الضر فالتقوى والبر كالعافية والصحة

العلم النافع وهذا باب شريف ينتفع به انتفاعا عظيما في فهم ألفاظ القران ودلالته ومعرفة حدود ما انزل الله على رسوله فانه هو العلم النافع وقد ذم الله تعالى في كتابه من ليس له علم بحدود ما انزل الله على رسوله فإن عدم العلم بذلك مستلزم مفسدتين عظيمتين احداهما ان يدخل في مسمى اللفظ ماليس منه فيحكم له بحكم المراد من اللفظ فيساوي بين ما فرق الله بينهما والثانية ان يخرج من مسمى اللفظ بعض افراده الداخلة تحته فيسلب عنه حكمه فيفرق بين ما جمع الله بينهما والذكي الفطن يتفطن لافرادء هذه القاعدة وامثالها فيرى ان كثيرا من الاختلاف او اكثره انما ينشا من هذا الوضع وتفصيل هذا لايفي به كتاب ضخم ومن هذا لفظ : الخمر فانه اسم شامل لكل مسكر فلا يجوز اخراج بعض المسكرات منه وينفى عنها حكمه وكذلك لفظ : الميسر واخراج بعض انواع القمار منه وكذلك لفظ : النكاح وادخال ماليس بنكاح في مسماه

وكذلك لفظ : الربا واخراج بعض انواعه منه وادخال ماليس بربا فيه وكذلك لفظ : الظلم والعدل والمعروف والمنكر ونظائره اكثر من ان تحصى والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم : هو التعاون على البر والتقوى فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما وعملا فان العبد وحده لايستقل بعلم ذلك ولابالقدرة عليه فاقتضت حكمة الرب سبحانه ان جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعضه معينا بعضه لبعضه ثم قال تعالى ولاتتعاونوا على الاثم والعدوان ووالاثم والعدوان في جانب النهي نظير : البر والتقوى في جانب الامر والفرق بين الاثم والعدوان كالفرق ما بين محرم الجنس ومحرم القدر الاثم : فالاثم ما كان حراما لجنسه والعدوان ماحرم لزيادة في قدر وتعدي ما اباح الله منه فالزنا والخمر والسرقة ونحوها : اثم ونكاح الخامسة واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ونحوه وعدوان

العدوان : فالعدوان : هو تعدي حدود الله التي قال فيها : تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون وقال في موضع اخر تلك حدود الله فلا تقربوها فنهى عن تعديها في اية وعن قربانها في اية وهذا لان حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام ونهاية الشئ تارة تدخل فيه فتكون منه وتارة لاتكون داخلة فيه فتكون لها حكم المقابلة فالاعتبار الاول نهى عن تعديها وبالاعتبار الثاني نهى عن قربانها

فصل : مابين العبد وربه فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس وهو ان تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتقوى علما وعملا واما حاله فيما بينه وبين الله تعالى فهو ايثار طاعته وتجنب معصيته وهو قوله تعالى واتقوا الله فارشدت الاية الى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق وواجبه بينه وبين الحق ولايتم له اداء الواجب الاول إلا بعزل نفسه من الوسط والقيام بذلك لمحض النصيحة والاحسان ورعاية الامر ولايتم له اداء الواجب الثاني الا بعزل الخلق من البين والقيام له بالله اخلاصا ومحبة وعبودية فينبغي التفطن لهذه الدقيقة التي كل خلل يدخل على العبد في اداء هذين الامرين الواجبين انما هو عدم مراعاتها علما وعملا وهذا معنى قول الشيخ عبدالقادر قدس الله روحه كن مع الحق بلا خلق ومع الخلق بلا نفس ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط ولم يزل امره فرطا والمقصود بهذه المقدمة ما بعدها

فصل في الهجرة الى الله ورسوله لما فصل عير السفر واستوطن المسافر دار الغربة وحيل بينه وبين مالوفاته وعوائده المتعلقة بالوطن ولوازمه : احدث له ذلك نظرا فاجل فكره في اهم مايقطع به منازل السفر الى الله وينفق فيه بقية عمره فارشده من بيده الرشد الى ان اهم شئ يقصده انما هو الهجرة الى الله ورسوله فانها فرض عين على كل احد في كل وقت وانه لاانفكاك لاحد عن وجوبها وهي مطلوب الله ومراده من العباد نوعا الهجرة إذ الهجرة هجرتان هجرة بالجسم من بلد الى بلد وهذه احكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها والهجرة الثانية الهجرة بالقلب الى الله ورسوله وهذه هي المقصودة هنا وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية وهي الاصل وهجرة الجسد تابعة لها

مبدا الهجرة ومنتهاها وهي هجرة تتضمن من و الى فيهاجر بقلبه من محبة غير الله الى محبته ومن عبودية غيره الى عبوديته ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه الى خوف الله ورجائه والتوكل عليه ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له الى دعائه وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له وهذا بعينه معنى الفرار اليه قال تعالى ففروا الى الله والتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله اليه الفرار الى الله وتحت من والى في هذا سر عظيم من اسرار التوحيد فان الفراراليه سبحانه يتضمن افراده بالطلب والعبودية ولوازمها فهو متضمن لتوحيد الالهية التي اتفقت عليها دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم اجمعين

الفرار من الله واما الفرار منه اليه فهو متضمن لتوحيد الربوبية واثبات القدر وان كل مافي الكون من المكروه والمحذور الذي يفر منه العبد فانما اوجبته مشيئة الله وحده فانه ماشاء كان ووجب وجوده بمشيئته وما لم يشا لم يكن وامتنع وجوده لعدم مشيئته فادا فر العبد الى الله فانما يفر من شئ الى شئ وجد بمشيئة الله وقدره فهو في الحقيقة فار من الله اليه ومن تصور هذا حق تصوره فهم معنى قوله ﷺ واعوذ بك منك وقوله لاملجا ولا منجى منك الا اليك فانه ليس في الوجود شئ يفر منه ويستعاذ منه ويلتجأ منه الا هو من الله خلقا وابداعا فالفار والمستعيذ : فار مما اوجده قدر الله ومشيئته وخلقه الى ما تقتضيه رحمته وبره ولطفه واحسانه ففي الحقيقة هو هارب من الله اليه ومستعيذ بالله منه

وتصور هذين الامرين بوجب للعبد انقطاع تعلق قلبه عن غيره بالكلية خوفا ورجاء ومحبة فانه ادا علم ان الذي يفر منه ويستعيذ منه انما هو بمشيئة الله وقدرته وخلقه لم يبق في قلبه خوف من غير خالقه وموجده فتضمن ذلك افراد الله وحده بالخوف والحب والرجاء ولو كان فراره مما لم يكن بمشيئة الله ولا قدرته لكان ذلك موجها لخوفه منه مثل من يفر من مخلوق اخر اقدر منه فانه في حال فراره من الاول خائف منه حذرا ان لايكون الثاني يفيده منه بخلاف ما اذا كان الذي يفر اليه هو الذي قضي وقدر وشاء ما يفر منه فانه لايبقى في القلب التفات الى غيره فتفطن الى هذا السر العجيب في قوله اعوذ بك منك و لاملجا ولا منجى منك الا اليك فان الناس قد ذكروا في هذا اقوالا وقل من تعرض منهم لهذه النكته التي هي لب الكلام ومقصوده وبالله التوفيق الهجرة الى الله فتامل كيف عاد الامر كله الى الفرار من الله إليه وهو معنى الهجرة الى الله تعالى ولهذا قال النبي ﷺ المهاجر من هجر ما نهى الله عنه ولهذا يقرن الله سبحانه بين الايمان والهجرة في غير موضع لتلازمهما واقتضاء احدهما للاخر والمقصود : ان الهجرة الى الله تتضمن هجران ما يكرهه واتيان ما يحبه ويرضاه واصلها الحب والبغض فان المهاجر من شئ الى شئ لابد ان

يكون ما هاجر اليه احب مما هاجر منه فيؤثر احب الامرين اليه على الاخر واذا كان نفس العبد وهواه وشيطانه انما يدعوانه الى خلاف مايحبه ويرضاه وقد بلي بهؤلاء الثلاث فلا يزالون يدعونه الى غير مرضاة ربه وداعي الايمان يدعوه الى مرضاة ربه فعليه في كل وقت ان يهاجر الى الله ولا ينفك في هجرته الى الممات

فصل الهجرة بين القوة والضعف وهذه الهجرة تقوي وتضعف بحسب داعي المحبة في قلب العبد فان كان الداعي اقوى كانت هذه الهجرة اقوى واتم واكمل واذا ضعف الداعي ضعفت الهجرة حتى لايكاد يشعربها علما ولايتحرك لها ارادة الهجرة العارضة والذي يقضي منه العجب : ان المرء يوسع الكلام ويفرغ المسائل في الهجرة من دار الكفر الى دار الاسلام وفي الهجرة التي انقطعت بالفتح وهذه هجرة عارضة ربما لاتتعلق به في العمر اصلا الهجرة الدائمة واما هذه الهجرة التي هي واجبة على مدى الانفاس فانه لايحصل فيها علما ولا ارادة وما ذاك الا للاعراض عما خلق له والاشتغال بما لاينجيه وحده عما لاينجيه غيره وهذا حال من عشت بصيرته وضعفت معرفته بمراتب العلوم والاعمال والله المستعان وبالله التوفيق لا اله غيره ولارب سواه

فصل في الهجرة الى رسول الله ﷺ واما الهجرة الى رسول الله ﷺ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه ومحجة سفت عليها السوافي فطمست رسومها وغارت عليها الاعادي فغورت مناهلها وعيونها فسالكها غريب بين العباد فريد بين كل حي وناد بعيد على قرب المكان وحيد على كثرة الجيران مستوحش مما به يستانسون مستانس مما به يستوحشون مقيم اذا ظعنوا ظاعن اذا قطنوا منفرد في طريق طلبة لايقر قراره حتى يظفر به فهو الكائن معهم بجسده البائن منهم بمقصده نامت في طلب الهدى اعينهم وما ليل مطيته بنائم وقعدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مشمر قائم يعيبونه بمخالفة ارائهم ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم واهوائهم قد رجموا فيه الظنون واحدقوا فيه العيون وتربصوا به ريب المنون فتربصوا انا معكم متربصون قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون نحن واياكم نموت فما ... افلح عند الحساب من ندما

والمقصود ان هذه الهجرة النبوية شانها شديد وطريقها على غير المعتاد بعيد بعيد على كسلان او ذي ملالة ... اما على المشتاق فهو قريب ولعمر الله ما هي الا نور يتلالا ولكن انت ظلامة وبدر اضاء مشارق الارض ومغاربها ولكن انت غيمة وقتامة ومنهل عذب صاف وانت كدرة ومبتدا لخير عظيم ولكن ليس عندك خبره فاسمع الآن شان هذه الهجرة والدلالة عليها وحاسب ما بينك وبين الله هل انت من الهاجرين لها او المهاجرين اليها تعريف الهجرة الى الرسول ﷺ فجد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل الايمان ومنزل من منازل القلوب وحادثة من حوادث الاحكام الى معدن الهدى ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى فكل مسالة طلعت عليها شمس رسالته والا فاقذف بها في بحر الظلمات وكل شاهد عدله هذا المزكي والا فعده من اهل الريب والتهمات فهذا حد هذه الهجرة فما للمقيم في مدينة طبعه وعوائده القاطن في دار مرباه ومولده القائل :

انا على طريقة آبائنا سالكون وانا بحبلهم متمسكون وانا على آثارهم مقتدون ولهذه الهجرة التي كلت عليهم واستند في طريقة نجاحه وفلاحه اليهم معتذرا بان رأيهم خير من رايه لنفسه وان ظنونهم وآراءهم اوثق من ظنه وحدسه ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة عن الاخلاد الى ارض البطالة متولدة بين الكسل وزوجه الملالة هجرتان والمقصود : ان هذه الهجرة فرض على كل مسلم وهي مقتضى شهادة ان محمدا رسول الله ﷺ كما ان الهجرة الاولى مقتضى شهادة ان لااله الاالله وعن هاتين الهجرتين يسال كل عبد يوم القيامة وفي البرزخ ويطالب بها في الدنيا ودار البرزخ ودار القرار قال قتاده : كلمتان يسال عنهما الاولون والاخرون : ماذا كنتم تعبدون وماذا اجبتم المرسلين وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين وقد قال تعالى فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما

فاقسم سبحانه باجل مقسم به وهو نفسه تعالى على انه لايثبت لهم الايمان ولايكونون من اهله حتى يحكموا رسول الله ﷺ في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين فإن لفظة ما من صيغ العموم فانها موصلة تقتضي نفي الايمان او يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه حيث لايجدون في انفسهم حرجا وهو الضيق والحصر من حكمه بل يقبلوا حكمه بالانشراح ويقابلوه بالتسليم لا انهم ياخدونه على اغماض ويشربونه على قذى فان هذا مناف للايمان بل لابد ان يكون اخذه بقبول ورضا وانشراح صدر ومتى اراد العبد ان يعلم هذا فلينظر في حاله ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه وغرضه او على خلاف ما قلد فيه اسلافه من المسائل الكبار وما دونها بل الانسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس من كثير من النصوص وبودهم ان لو لم ترد وكم من حرارة في اكبادهم منها وكم من شجى في حلوقهم منها ومن موردها ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله تعالى ويسلموا تسليما فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين وهو التسليم والخضوع له والانقياد لما حكم به طوعا ورضا وتسليما لاقهرا ومصابرة كما يسلم المقهور لمن قهره كرها بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده الذي هو احب شئ اليه يعلم ان سعادته وفلاحه في تسليمه اليه ويعلم بانه اولى به من نفسه وابر به منها واقدر على تخليصها فمتى علم العبد هذا من رسول الله ﷺ واستسلم له وسلم اليه انقادت له كل علة في قلبه ورأى ان لاسعادة له الا بهذا التسليم والانقياذ وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة بل هو امر انشق القلب واستقر في سويدائه لاتفي العبارة بمعناه ولا مطمع في حصوله بالدعوى والاماني وكل يدعى وصلا لليلى ... وليلى لاتقر لهم بذلك الحب بين العلم والحال وفرق بين علم الحب وحال الحب فكثيرا ما بشتبه على العبد علم الشئ بحاله ووجوده وفرق بين المريض العارف بالصحة والاعتدال وهو مثخن بالمرض وبين الصحيح السليم وان لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها وكذلك فرق بين وصف الخوف والعلم به وبين حاله ووجوده

ما في الاية من تاكيد اتباع الرسول وتامل تاكيده سبحانه لهدا المعنى المذكور في الآية بوجوه عديدة من التاكيد : اولها : تصديرها بتضمن المقسم عليه للنفي وهو قوله لايؤمنون وهذا منهج معروف في كلام العرب اذا اقسموا على شئ منفى صدروا جملة القسم باداة نفي مثل هذه الاية ومثل مافي قول الصديق عمر رضي الله عنه لاها الله لايعمد الى اسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه وقول الشاعر : فلا وابيك ابنه العامري ... لايدعى القوم اني افر وقال الاخر فلا والله لايلقي لما بي ... ولا لما بهم ابدا دواء وهذا في كلامهم اكثر من ان يذكر وتامل جمل القسم التي في القران المصدرة بحرف النفي كيف تجد المقسم عليه منفيا ومتضمنا للنفي ولايحزم هذا قوله تعالى فلا اقسم بمواقع النجوم وانه لقسم لو تعلمون عظيم انه لقران كريم

فانه لما كان المقصود بهذا القسم نفي ما قاله الكفار في القران : من انه شعر او كهانه او اساطير الاولين صدر القول باداة النفي ثم اثبت له ما قالوه فتضمنت الاية ان ليس الامر كما يزعمون ولكنه قران كريم ولهذا صرح بالامرين : النفي والاثبات مثل قوله تعالى فلا اقسم بالخنس الجوار الكنس والليل اذا عسعس والصبح اذا تنفس انه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم امين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالافق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم وكذلك قوله لا اقسم بيوم القيامة ولا اقسم بالنفس اللوامة ايحسب الانسان الن نجمع عظامه بلى قادرين على ان نسوي بنانه والمقصود : ان افتتاح هذا القسم باداة النفي يقتضي تقوية المقسم عليه وتاكيده وشدة انتقائه وثانيها : تاكيده بنفس القسم وثالثها : تاكيده بالمقسم به وهو اقسامه بنفسه لا بشئ من مخلوقاته وهو سبحانه يقسم بنفسه تارة وبمخلوقاته تارة ورابعها : تاكيده بانتفاء الحرج وهو وجود التسليم

وخامسها : تاكيد الفعل بالمصدر وما هذا التاكيد الا لشدة الحاجة الى هذا الامر العظيم وانه مما يعتني به ويقرر في نفوس العباد بما هو من ابلغ انواع التقرير حب الرسول وقال تعالى النبي اولى بالمؤمنين من انفسهم وهو دليل على ان من لم يكن الرسول اولى به من نفسه فليس من المؤمنين وهذه الاولوية تتضمن امورا منها : ان يكون احب الى العبد من نفسه لان الاولوية اصلها الحب ونفس العبد احب له من غيره ومع هذا يجب ان يكون الرسول اولى به منها واحب اليه منها فبذلك يحصل له اسم الايمان ويلزم من هذه الاولوية والمحبة كمال الانقياد والطاعة والرضا والتسليم وسائر لوازم المحبة من الرضا بحكمه والتسليم لامره وايثاره على ما سواه ومنها ان لايكون للعبد حكم على نفسه اصلا بل الحكم على نفسه للرسول ﷺ يحكم عليها اعظم من حكم السيد على عبده او الوالد على ولده فليس له في نفسه تصرف قط الا ما تصرف فيه الرسول الذي هو اولى به منها فيا عجبا كيف تحصل هذه الاولوية لعبد قد عزل ما جاء به الرسول ﷺ عن منصب التحكيم ورضي بحكم غيره واطمان اليه اعظم

من اطمئنانه الى الرسول ﷺ وزعم ان الهدى لايلتقي من مشكاته وانما يتلقى من دلالة العقول وان الذي جاء به لايفيد اليقين الى غير ذلك من الاقوال التي تتضمن الاعراض عنه وعما جاء به والحوالة في العلم النافع الى غيره ذلك هو الضلال البعيد ولا سبيل الى ثبوت هده الاولوية الا بعزل كل ماسواه وتوليته في كل شئ وعرض ما قاله كل احد سواه على ماجاء به فان شهد له بالصحة قبله وان شهد له بالبطلان رده وان لم تتبين شهادته له لابصحة ولا ببطلان جعله بمنزلة احاديث اهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الامرين اولى به فمن سلك هذه الطريقة استقام له سفر الهجرة واستقام له علمه وعمله واقبلت وجوه الحق اليه من كل جهة ادعياء المحبة ومن العجب ان يدعي حصول هذه الاولوية والمحبة التامة من كان سعيه واجتهاده ونصبه في الاشتغال باقوال غيره وتقريرها والغضب والمحبة لها والرضا بها والتحاكم اليها وعرض ما قاله الرسول عليها فان وافقها قبله وان خالفها التمس وجوه الحيل وبالغ في رده ليا واعراضا

الاعراض عن الرسول كما قال تعالى وان تلووا اوتعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا وقد اشتملت هده الاية على اسرار عظيمة يجب التنبيه على بعضها لشدة الحاجة اليها قال تعالى يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم او الوالدين والاقربين ان يكن غنيا او فقيرا فالله اولى بهما فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا فامر سبحانه بالقيام بالقسط وهو العدل في هذه الاية وهذا امر بالقيام به في حق كل احد عدوا كان او وليا واحق ما قام له العبد بقصد الاقوال والاراء والمذاهب اذ هي متعلقة بامر الله وخبره فالقيام فيها بالهوى والمعصية مضاد لامر الله مناف لما بعث به رسوله والقيام فيها بالقسط وظيفة خلفاء الرسول في امته وامنائه بين اتباعه ولايستحق اسم الامانة الا من قام فيها بالعدل المحض نصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولعباده

واولئك هم الوارثون حقا لامن يجعل اصحابه ونحلته ومذهبه معيارا على الحق وميزانا له يعادي من خالفه ويوالي من وافقه بمجرد موافقته ومخالفته فأين هذا من القيام بالقسط الذي فرضه الله على كل احد وهو في هدا الباب اعظم فرضا واكبر وجوبا شهداء الله ثم قال شهداء الله الشاهد هو المخبر فان اخبر بحق فهو شاهد عدل مقبول وان اخبر بباطل فهو شاهد زور وامر تعالى ان يكون شهيدا له مع القيام بالقسط وهذا يتضمن ان تكون الشهادة بالقسط وان تكون لله لا لغيره وقال في الاية الاخرى كونوا قوامين لله شهداء بالقسط فتضمنت الآيتان امورا اربعة احدهما : القيام بالقسط الثاني : ان يكون لله الثالث : الشهادة بالقسط الرابع : ان تكون لله

واحتضنت آية النساء بالقسط والشهادة لله وآية المائدة بالقيام لله والشهادة بالقسط لسر عجيب من اسرار القران ليس هذا موضع ذكره ثم قال تعالى ولو على انفسكم او الوالدين او الاقربين فامر سبحانه ان يقام بالقسط ويشهد على كل احد ولو كان احب الناس الى العبد فيقوم بالقسط على نفسه ووالديه الذين هما اصله واقاربه الذين هم اخص به والصديق من سائر الناس فان كان ما في العبد من محبة لنفسه ولوالديه واقربيه يمنعه من القيام عليهم بالحق ولاسيما اذا كان الحق لمن يبغضه ويعاديه قبلهم فانه لا يقوم به في هذا الحال الا من كان الله ورسوله احب اليه من كل ما سواهما وهذا يمتحن به العبد ايمانه فيعرف منزلة الايمان من قلبه ومحله منه وعكس هذا عدل العبد في اعدائه ومن يجفوه فانه لاينبغي ان يحمله بغضه لهم ان يحيف عليهم كما لا ينبغي ان يحمله حبه لنفسه ووالديه واقاربه على ان يترك القيام عليهم بالقسط فلا يدخله ذلك البغض في باطل ولا يقصر به هذا الحب عن الحق كما قال السلف : العادل هو الذي ذا غضب لم يدخله غضبه في باطل واذا رضي لم يخرجه رضاه عن الحق اشتملت الايتان على هذين الحكمين وهما القيام بالقسط والشهادة به على الاولياء والاعداء ثم قال تعالى ان يكن غنيا وفقيرا فالله اولى بهما منكم

هو ربهما ومولاهما وهما عبيده كما انكم عبيده فلا تحابوا غنيا لغناه ولا فقيرا لفقره فان الله اولى بهما منكم وقد يقال فيه معنى اخر احسن من هذا وهو انهم ربما خافوا من القيام بالقسط واداء الشهادة على الغني والفقير اما الغني فخوفا على ماله واما الفقير فلا عدامه وانه لاشئ له فتتساهل النفوس في القيام عليه بالحق فقيل لهم : والله اولى بالغني والفقير منكم اعلم بهذا وارحم بهذا فلا تتركوا اداء الحق والشهادة على غني ولا فقير ثم قال تعالى فلا تتبعوا الهوى ان تعدلوا نهاهم عن اتباع الهوى الحامل على ترك العدل وقوله تعالى ان تعدلوا منصوب الموضع لانه مفعول لاجله وتقديره عند البصريين كراهية ان تعدلوا او حذر ان تعدلوا فيكون اتباعكم للهوى كراهية العدل او فرارا منه وعلى قول الكوفيين التقدير ان لا تعدلوا وقول البصريين احسن واظهر اللي والاعراض ثم قال تعالى وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ذكر سبحانه السببين الموجبين لكتمان الحق محذرا منهما ومتوعدا عليهما

احدهما : اللي والاخر : الاعراض فإن الحق اذا ظهرت حجته ولم يجد من يروم دفعها طريقا الى دفعها اعرض عنها وامسك عن ذكرها فكان شيطانا اخرس وتارة يلويها ويحرفها اللي مثال الفتل وهو التحريف وهو نوعان : لي في اللفظ ولي في المعنى فاللي في اللفظ ان يلفظ بها على وجه لايستلزم الحق اما بزيادة لفظه اونقصانها او ابدالها بغيرها ولي في كيفية ادائها وايهام السامع لفظا وارادة غيره كما كان اليهود يلوون السنتهم بالسلام على النبي ﷺ وغيره فهذا احد نوعي اللي والنوع الثاني منه : لي المعنى وهو تحريفه وتاويل اللفظ على خلاف مراد المتكلم وبجهالة مالم يرده أو يسقط منه لبعض المراد به ونحو هذا من لي المعاني فقال تعالى : وان تلووا او تعرضوا فان الله كان بما تعملون خبيرا ولما كان الشاهد مطالبا باداء الشهادة على وجهها فلا يكتمها ولا يغيرها كان الاعراض نظير الكتمان

واللي نظير تغييرها وتبديلها فتأمل ما تحت هذه الاية من كنوز العلم والمقصود : ان الواجب الذي لايتم الايمان بل لايحصل مسمى الايمان الابه مقابلة النصوص بالتلقي والقبول والاظهار لها ودعوة الخلق اليها ولا تقابل بالاعتراض تارة وباللي اخرى الخيرة لله وقال تعالى وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من امرهم فدل هذا على انه إذا ثبت لله ورسوله في كل مسالة من المسائل حكم طلبي او خبري فانه ليس لاحد ان يتخير لنفسه غير ذلك الحكم فيذهب اليه وان ذلك ليس لمؤمن ولامؤمنة اصلا فدل على ان ذلك مناف للايمان

موقف الائمة من السنة وقد حكى الشافعي رضي الله تعالى عنه اجماع الصحابة والتابعين ومن بعدهم على ان من استبانت له سنة رسول الله ﷺ لم يكن له ان يدعها لقول احد ولم يسترب احد من ائمة الاسلام في صحة ماقاله الشافعي رضي الله تعالى عنه فان الحجة الواجب اتباعها على الخلق كافة انما هو قول المعصوم الذي لاينطق عن الهوى واما اقوال غيره فغايتها ان تكون سائغة الاتباع فضلا عن ان يعارض بها النصوص وتقدم عليها عياذا بالله من الخذلان وقال تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول واحذروا فان توليتم فاعلموا انما على رسولنا البلاغ المبين فاخبر سبحانه ان الهداية في طاعة الرسول لا في غيرها فانه معلق بالشرط فينتفي بانتفائه وليس هذا من باب دلالة المفهوم كما يغلط فيه كثير من الناس ويظن انه محتاج في تقريره الدلالة منه لاتقرير كون المفهوم حجة بل هذا من الاحكام التي ترتبت على شروط وعلقت فلا وجود لها بدون شروطها اذ ما علق على الشرط فهو عدم عند عدمه والا لم يكن شرطا له

اذا ثبت هذا : فالاية نص على انتفاء الهداية عند عدم طاعته وفي اعادة الفعل في قوله تعالى : واطيعوا الله واطيعوا الرسول دون الاكتفاء بالفعل الاول سر لطيف وفائدة جليلة سنذكرها عن قريب ان شاء الله تعالى وقوله تعالى فإن تولوا فانما عليه ما حمل الفعل للمخاطبين واصله فان تتولوا فحذفت احدى التاءين تخفيفا والمعنى : انه قد حمل اداء الرسالة وتبليغها وحملتم طاعته والانقياد له والتسليم كما ذكره البخاري في صحيحة عن الزهري قال : من الله البيان وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم فان تركتم انتم ما حملتموه من الايمان والطاعة فعليكم لا عليه فانه لم يحمل ايمانكم وانما حمل تبليغكم وانما حمل اداء الرسالة اليكم وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول الا البلاغ المبين ليس عليه هداهم وتوفيقهم وقال تعالى يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر ذلك خير واحسن تاويلا

النداء بالايمان فامر سبحانه بطاعته وطاعة رسوله وافتتح الاية بالنداء باسم الايمان المشعر بان المطلوب منهم من موجبات الاسم الذي نودوا به وخوطبوا به كما يقال : يا من انعم الله عليه واغناه من فضله احسن كما احسن الله اليك : ويا ايها العالم علم الناس ما ينفعهم ويا ايها الحاكم احكم بالحق ونظائره ولهذا كثيرا ما يقع الخطاب في القران بالشرائع كقوله تعالى ياايها الذين امنوا كتب عليكم الصيام يا ايها الذين امنوا اذا نودي للصلاة يا ايها الذين امنوا اوفوا بالعقود ففي هذا اشارة الى انكم إن كنتم مؤمنين فالايمان يقتضي منكم كذا وكذا فانه من موجبات الايمان وتمامه

ثم قال تعالى : يا ايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول واولي الامر منكم فقرن بين طاعة الله والرسول وطاعة اولي الامر وسلط عليهما عاملا واحدا وقد كان ربما يسبق الى الوهم ان الامر يقتضي عكس هذا فانه من يطع الرسول فقد اطاع الله ولكن الواقع هنا في الاية المناسب وتحته سر لطيف وهو دلالته على ان ما يأمر به رسوله يجب طاعته فيه وان لم يكن مامورا به بعينه في القران طاعة الرسول مفردة ومقرونة فلا يتوهم متوهم ان ما يامر به الرسول ان لم يكن في القران والا فلا تجب طاعته فيه كما قال النبي ﷺ يوشك رجل شبعان متكئ على اريكته ياتيه الامر من امري فيقول بيننا وبينكم كتاب الله تعالى ما وجدنا فيه من شئ اتبعناه الا واني اوتيت الكتاب ومثله معه \ ح \ طاعة اولي الامر اما اولو الامر فلا تجب طاعة احدهم الا اذا اندرجت تحت طاعة الرسول لاطاعة مفردة مستقلة كما صح عن النبي ﷺ انه قال على المرء السمع والطاعة فيما احب وكره مالم يؤمر بمعصية الله تعالى فادا امر بمعصية الله تعالى فلا سمع ولا طاعة \ ح \

فتامل كيف اقتضت اعادة هذا المعنى قوله تعالى : فردوه الى الله والرسول ولم يقل والى الرسول فان الرد الى القران رد الى الله والرسول فما حكم به الله تعالى هو بعينه حكم رسوله وما يحكم به الرسول ﷺ هو بعينه حكم الله فادا رددتم الى الله ما تنازعتم فيه يعني كتابة فقد رددتموه الى رسوله وكذلك اذا رددتموه الى رسوله فقد رددتموه الى الله وهذا من اسرار القران من هم اولو الامر : وقد اختلفت الرواية عن الامام احمد رحمه الله تعالى في اولي الامر وعنه فيهم رحمه الله تعالى روايتان : احداهما : انهم العلماء والثانية : انهم الامراء والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الاية والصحيح انها متناولة للصنفين جميعا فإن العلماء والامراء ولاة الامر الذي بعث الله به رسوله فان العلماء ولاته حفظا وبيانا وذبا عنه وردا على من الحد فيه وزاغ عنه وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين فيالها من وكالة اوجبت طاعتهم والانتهاء الى امرهم وكون الناس تبعا لهم

والامراء ولانه قياما وعناية وجهادا والزاما للناس به واخذهم على يد من خرج عنه وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الانساني تبع لهما ورعية ثم قال تعالى فان تنازعتم في شئ فردوه الى الله والرسول ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وهذا دليل قاطع على انه يجب رد موارد النزاع في كل ما تنازع فيه الناس من الدين كله الى الله ورسوله لا الى احد غير الله ورسوله فمن احال الرد على غيرهما فقد ضاد امر الله ومن دعا عند النزاع الى حكم غير الله ورسوله فقد دعا بدعوى الجاهلية فلا يدخل العبد في الايمان حتى يرد كل ما تنازع فيه المتنازعون الى الله ورسوله ولهذا قال الله تعالى ان كنتم تؤمنون بالله واليوم الاخر وهذا مما ذكرنا انفا انه شرط ينتفي المشروط بانتفائه فدل على ان من حكم غير الله ورسوله في موارد مقتضى النزاع كان خارجا من مقتضى الايمان بالله واليوم الاخر وحسبك بهذه الاية العاصمة القاصمة بيانا وشفاء فانها قاصمة لظهور المخالفين لها عاصمة للمتمسكين بها الممتثلين ما امرت به قال الله تعالى ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وان الله لسميع عليم

وقد اتفق السلف والخلف على ان الرد الى الله هو الرد الى كتابه والرد الى الرسول هو الرد اليه في حياته والرد الى سنته بعد وفاته سعادة الدارين ثم قال تعالى : ذلك خيرا واحسن تاويلا أي هذا الذي امرتكم به من طاعتي وطاعة رسولي واولياء الامر ورد ما تنازعتم فيه الى والى رسولي خير لكم في معاشكم ومعادكم وهو سعادتكم في الدارين فهو خير لكم واحسن عاقبة فدل هذا على ان طاعة الله ورسوله وتحكيم الله ورسوله هو سبب السعادة عاجلا واجلا ومن تدبر العالم والشرور الواقعة فيه علم ان كل شر في العالم سببه مخالفة الرسول والخروج عن طاعته وكل خير في العالم فانه بسبب طاعة الرسول وكذلك شرور الاخرة والامها وعذابها انما هو من موجبات مخالفة الرسول ومقتضياتها فعاد شر الدنيا والاخرة الى مخالفة الرسول وما يترتب عليه فلو ان الناس اطاعوا الرسول حق طاعته لم يكن في الارض شر قط وهذا كما انه معلوم في الشرور العامة والمصائب الواقعة في الارض فكذلك هوفي الشر والالم والغم الذي يصيب العبد في نفسه فانما هو بسبب مخالفة الرسول ولان طاعته هي الحصن الذي من دخله كان من الامنين والكهف الدي من لجأ إليه كان من الناجين

فعلم ان شرور الدنيا والاخرة انما هو الجهل بما جاء به الرسول ﷺ والخروج عنه وهذا برهان قاطع على انه لا نجاة للعبد ولاسعادة الا بالاجتهاد في معرفة ما جاء به الرسول ﷺ علما والقيام به عملا كمال السعادة وكمال هذه السعادة بامرين اخرين احدهما : دعوة الخلق اليه والثاني صبره واجتهاده على تلك الدعوة الكمال الانساني فانحصر الكمال الانساني على هذه المراتب الاربعة احدهما : العلم بماجاء به الرسول ﷺ والثانية : العمل به والثالثة : نشره في الناس ودعوتهم اليه والرابعة : صبره وجهاده في ادائه وتنفيذه ومن تطلعت همته الى معرفة ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم واراد اتباعهم فهذه طريقهم حقا : فان شئت وصل القوم فاسلك سبيلهم ... فقد وضحت للسالكين عيانا

وقال تعالى لرسوله ﷺ : قل ان ضللت فانما اضل على نفسي وان اهتديت فما يوحي الى ربي انه سميع قريب فهذا نص صريح في ان هدى الرسول ﷺ انما يحصل بالوحي فيا عجبا كيف يحصل الهدى لغيره من الاراء والعقول المختلفة والاقوال المضطربة ولكن من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا فاي ضلال اعظم من ضلال من زعم ان الهداية لاتحصل بالوحي ثم يحيل فيها على عقل فلان وراي فلتان وقول زيد وعمرو ولقد عظمت نعمة الله على عبد عافاه من هذه البلية العظمى والمصيبة الكبرى والحمد لله رب العالمين وقال تعالى المص كتاب انزل اليك فلايكن في صدرك حرج منه لتندر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما انزل اليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه اولياء قليلا ما تذكرون فامر سبحانه باتباع ما انزل على رسوله ونهي عن اتباع غيره فما هو الا اتباع المنزل واتباع اولياء من دونه فانه لم يجعل بينهما واسطة فكل من لا يتبع الوحي فانما يتبع الباطل واتبع اولياء من دون الله وهذا بحمد الله ظاهر لا خفاء به وقال تعالى ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتا ليتني لم اتخد فلانا خليلا لقد اضلني عن الذكر بعد اذ جاءني وكان الشيطان للانسان خذولا

فكل من اتخذ غير الرسول يترك لاقواله وارائه ما جاء به الرسول ﷺ فانه قائل هذه المقالة لا محالة ولهذا هذا الخليل كنى عنه باسم فلان اذ لكل متبع اولياء من دون الله فلان وفلان فهذا حال الخليلين المتخالين على خلاف طاعة الرسول ﷺ ومآل تلك الخلة الى العداوة واللعنة كما قال الله تعالى الاخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين وقد ذكر حال هؤلاء الاتباع وحال من تبعوهم في غير موضع من كتابه كقوله تعالى يوم تقلب وجوههم في النار يقولون ياليتنا اطعنا الله واطعنا الرسول وقالوا ربنا انا اطعنا سادتنا وكبراءنا فاضلونا السبيلا ربنا اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا تمنى القوم طاعة الله ورسوله حين لا ينفعهم ذلك واعتذروا بانهم اطاعوا كبراءهم ورؤساءهم واعترفوا بانهم لاعذر لهم في ذلك وانهم اطاعوا السادات والكبراء وعصوا الرسول وآلت تلك الطاعة والموالاة الى قولهم ربنا اتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا وفي بعض هذا عبرة للعاقل وموعظة شافية وبالله التوفيق وقال تعالى : فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا او كذب باياته

اولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى اذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا اينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين قال ادخلوا في امم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار كلما دخلت امة لعنت اختها حتى اذا اداركوا فيها جميعا قالت اخراهم لاولاهم ربنا هؤلاء اضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لاتعلمون وقالت اولاهم لاخراهم : فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون فليتدبر العاقل هذه الايات ومااشتملت عليه من العبر الصنفان والمبطلان وقوله تعالى فمن اظلم ممن افترى على الله كذبا اوكذب باياته ذكر الصنفين المبطلين احدهما : منشئ الباطل والفرية وواضعها وداعي الناس اليها والثاني : مكذب بالحق فالاول : كفره بالافتراء وانشاء الباطل والثاني : كفره بجحود الحق وهذان النوعان يعرضان لكل مبطل فان انضاف الى ذلك دعوته الى باطلة وصد الناس عن الحق استحق تضعيف العذاب لكفره وشره ولهذا قال تعالى الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون

فلما كفروا وصدوا عباده عن سبيله عذبهم عذابين : عذابا بكفرهم وعذابا بصدهم عن سبيله وحيث يذكر الكفر المجرد لايعدد العذاب كقوله تعالى : والكافرين لهم عذاب اليم وقوله تعالى اولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب يعني ينالهم ما كتب لهم في الدنيا من الحياة والرزق وغير ذلك حتى اذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا اينما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا زالوا وفارقوا وبطلت تلك الدعوة وشهدوا على انفسهم انهم كانوا كافرين قال ادخلوا في امم قد خلت من قبلكم من الجن والانس في النار ادخلوا في جملة هذه الامم كلما دخلت امة لعنت اختها حتى اذا اداركوا فيها جميعا قالت اخراهم لاولاهم كل امة متاخرة لاسلافها ربنا هؤلاء اضلونا فاتهم عذابا ضعفا من النار ضاعفه عليهم بما اضلونا وصدونا عن طاعة رسلك قال الله تعالى لكل ضعف من الاتباع والمتبوعين بحسب ضلالة وكفره ولكن لاتعلمون لاتعلم كل طائفة بما فيه اختها من العذاب المضاعف وقالت اولاهم لاخراهم فما كان لكم علينا من فضل فانكم جئتم بعدنا فارسلت فيكم الرسل وبينوا لكم الحق وحذروكم من ضلالنا

ونهوكم عن اتباعنا وتقليدنا فابيتم الا اتباعنا وتقليدنا وترك الحق الذي اتتكم به الرسل فاي فضل كان لكم علينا وقد ضللتم كما ضللنا وتركتم الحق كما تركنا فضللتم انتم بنا كما ضللنا نحن بقوم اخرين فاي فضل كان لكم علينا فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون فلله ما اشفاها من موعظة وما ابلغها من نصيحة لو صادفت من القلوب حياة فان هذه الاية وامثالها مما يذكر قلوب السائرين الى الله واما اهل البطالة فليس عندهم من ذلك خبر

فصل معركة الاتباع والمتبوعين فهذا حكم الاتباع والمتبوعين المشركين في الضلالة واما الاتباع المخالفون لمتبوعيهم العادلون عن طريقتهم الذين يزعمون انهم لهم تبع وليسوا متبعين لطريقتهم فهم المذكورون في قوله تعالى : اذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا وراوا العذاب وتقطعت بهم الاسباب وقال الذين اتبعوا لو ان لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا كذلك يريهم الله اعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار فهؤلاء المتبوعون كانوا على هدى واتباعهم ادعوا انهم كانوا على طريقتهم ومنهاجهم وهم مخالفون لهم سالكون غير طريقتهم يزعمون انهم يحبونهم وان محبتهم لهم تنفعهم مع مخالفتهم فيتبرءون منهم يوم القيامة فانهم اتخدوهم اولياء من دون الله وظنوا ان هذا الاتخاذ ينفعهم وهذه حال كل من اتخد من دون الله ورسوله وليجة و اولياء يوالي لهم ويعادي لهم ويرضى لهم ويغضب لهم فان اعماله كلها باطلة يراها يوم القيامة حسرات عليه مع كثرتها وشدة تعبه فيها ونصبه اذ لم يجرد موالاته ومعاداته ومحبته وبغضه وانتصاره وايثاره لله ورسوله فابطل الله تعالى ذلك العمل كله وقطع تلك الاسباب فينقطع يوم القيامة كل وصلة ووسيلة ومودة وموالاة كانت لغير الله تعالى ولا يبقى الا السبب

الواصل بين العبد وربه وهو حظه من الهجرة اليه والى رسوله وتجريد عبادته له وحده ولوازمها من الحب والبغض والعطاء والمنع والموالاة والمعاداة والتقريب والابعاد وتجريده متابعة رسوله وترك اقوال غيره وترك ما خالف ما جاء به والاعراض عنه وعدم الاعتناء به وتجريد متابعته تجريدا محضا بريئا من شوائب الالتفات الى غيره فضلا عن الشركة بينه وبين غيره فضلا عن تقديم قول غيره عليه فهذا هو السبب الذي لاينقطع بصاحبه وهذه هي النسبة التي بين العبد وبين ربه وهي نسبة العبودية المحضة وهي آخيته التي يحول ما يحول ثم اليها مرجعة نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ... ما الحب الا للحبيب الاول كم منزل في الارض يالفه الفتى ... وحنينه ابدا لاول منزل وهذه هي النسبة التي تنفع العبد فلا ينفعه غيرها في الدور الثلاثة اعني دار الدنيا ودار البرزخ ودار الفرار فلا قوام له ولاعيش ولا نعيم ولافلاح الا بهذه النسبة وهي السبب الواصل بين العبد وبين الله ولقد احسن القائل :

اذا تقطع حبل الوصل بينهم ... فللمحبين حبل غير منقطع وان تصدع شمل القوم بينهم ... فللمحبين شمل غير متصدع والمقصود ان الله سبحانه يقطع يوم القيامة الاسباب والعلق والوصلات التي كانت بين الخلق في الدنيا كلها ولا يبقى الا السبب والوصلة التي بين العبد وبين الله فقط وهو سبب العبودية المحضة التي لاوجود لها ولا تحقيق بتجريد متابعة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم اذ هذه العبودية انما جاءت على السنتهم وما عرفت الا بهم ولا سبيل اليها الا بمتابعتهم وقد قال تعالى وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا فهذه هي اعماله التي كانت في الدنيا على غير سنة رسله وطريقتهم ولغير وجهه يجعلها الله هباءا منثورا ولا ينتفع منها صاحبها بشئ اصلا وهذا من اعظم الحسرات على العبد يوم القيامة ان يرى سعيه كله ضائعا لم ينتفع منه بشئ وهو احوج ما كان العامل الى عمله وقد سعد اهل السعي النافع بسعيهم

فصل الاتباع السعداء فهدا حكم اتباع الاشقياء فاما اتباع السعداء فنوعان : اتباع لهم حكم الاستقلال وهم الذين قال الله تعالى فيهم : والسابقون الاولون من المهاجرين والانصار والذين اتبعوهم باحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه فهؤلاء هم السعداء الذين ثبت لهم رضا الله عنهم وهم اصحاب رسول الله ﷺ وكل من تبعهم باحسان الى يوم القيامة ولا يختص ذلك بالقرن الذين راوهم فقط وانما خص التابعين بمن راوا الصحابة تخصيصا عرفيا ليتميزوا به عمن بعدهم فقيل : التابعون مطلقا لذلك القرن فقط والا فكل من سلك سبيلهم فهو من التابعين لهم باحسان وهو ممن رضي الله عنهم ورضوا عنه الاحسان في التبعية وقيد سبحانه هذه التبعية بانها تبعية باحسان ليست مطلقة فتحصل بمجرد النية والاتباع في شئ والمخالفة في غيره ولكن تبعية مصاحبة الاحسانوان الباء ها هنا للمصاحبة

والاحسان والمتابعة شرط في حصول رضاء الله عنهم وجناته وقد قال تعالى هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم اياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وان كانوا من قبل لفي ضلال مبين وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم فالاولون : هم الذين ادركوا رسول الله ﷺ وصحبوه والاخرون : هم الذين لم يلحقوهم وهم كل من بعدهم على منهاجهم الى يوم القيامة فيكون التاخر وعدم اللحاق في الفضل والرتبة بل هم دونهم فيكون عدم اللحاق في الرتبة والقولان كالمتلازمين فان من بعدهم لا يلحقون بهم لافي الفضل ولا في الزمان فهؤلاء الصنفان هم السعداء واما من لم يقبل هدى الله الدي بعث به رسوله ولم يرفع به راسا فهو من الصنف الثالث وهم مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا وقد ذكر النبي ﷺ اقسام الخلائق بالنسبة الى دعوته وما بعث به من الهدى في قوله ﷺ مثل ما بعثني الله به من الهدىو العلم كمثل غيث اصاب ارضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فانبتت الكلا والعشب الكثير وكانت منها اجادب امسكت الماء فسقى الناس وزرعوا واصاب طائفة اخرى انما هي قيعان لاتمسك ماء ولاتنبت

كلا فذلك مثل من فقه في الدين فنفعه ما بعثني الله به و مثل من لم يرفع بذلك راسا ولم يقبل هدى الله الذي ارسلت به \ ح \ الغيث والعلم فشبه ﷺ العلم الذي جاء به بالغيث لان كلا منهما سبب الحياة فالغيث سبب حياة الابدان والعلم سبب حياة القلوب وشبه القلوب بالاودية كما في قوله تعالى انزل من السماء ماءا فسالت اودية بقدرها الارض والغيث وكما ان الارضين ثلاثة بالنسبة الى قبول الغيث احداها : ارض زكية قابلة للشراب والنبات فاذا اصابها الغيث ارتوت ومنه يثمر النبت من كل زوج بهيج فذلك مثل القلب الزكي الذكي فهو يقبل العلم بذكائه فيثمر فيه وجوه الحكم ودين الحق بزكائه فهو قابل للعلم مثمر لموجبه وفقهه واسرار معادنه والثانية : ارض صلبة قابلة لثبوت ما فيها وحفظه فهذه تنفع الناس لورودها والسقي منها والازدراع وهو مثل القلب الحافظ للعلم الذي يحفظه كما سمعه فلا تصرف فيه ولا استنبط بل للحفظ المجرد فهو يؤدي كما سمع وهو من القسم الذي قال

النبي ﷺ : فرب حامل فقه الى من هو افقه ورب حامل فقه غير فقيه \ ح \ فالاول : كمثل الغني التاجر الخبير بوجوه المكاسب والتجارات فهو يكسب بماله ماشاء والثاني : مثل الغني الذي لا خبرة له بوجوه الربح والمكسب ولكنه حافظ لما لا يحسن التصرف والتقلب فيه والارض الثالثة : ارض قاع وهو المستوى الذي لايقبل النبات ولايمسك ماء فلو اصابها من المطر ما اصابها لم تنتفع منه بشئ فهذا مثل القلب الذي لايقبل العلم والفقه والدراية وانما هو بمنزلة الارض البوار التي لا تنبت ولاتحفظ وهو مثل الفقير الذي لا مال له ولايحسن يمسك مالا فالاول : عالم معلم وداع الى الله على بصيرة فهذا من ورثة الرسل والثاني : حافظ مؤد لما سمعه فهذا يحمل لغيره ما يتجر به المحمول اليه ويستثمر والثالث : لاهذا ولاهذا فهو الذي لم يقبل هدى الله ولم يرفع به راسا فاستوعب هذا الحديث اقسام الخلق في الدعوة النبوية ومنازلهم منها قسمان قسم سعيد وقسم شقي

فصل في اطفال المؤمنين واما النوع الثاني من الاتباع : فهم اتباع المؤمنين من ذريتهم الذين لم يثبت لهم حكم التكليف في دار الدنيا وانما هم مع ابائهم تبع لهم وقال الله تعالى فيهم والذين امنوا واتبعتهم ذريتهم بايمان الحقنا بهم ذريتهم وما التناهم من عملهم من شئ اخبر سبحانه انه الحق الذرية بآبائهم في الجنة كما اتبعهم اياهم في الايمان ولما كان الذرية لاعمل لهم يستحقون به تلك الدرجات قال تعالى : وما التناهم من عملهم من شئ والضمير عائد الى الذين امنوا أي وما نقصناهم من عملهم بل رفعنا ذريتهم الى درجتهم مع توفيتهم اجور اعمالهم فليست منزلتهم منزلة من لم يكن له عمل بل وفيناهم اجورهم فالحقنا بهم ذريتهم فوق ما يستحقون من اعمالهم ثم لما كان هذا الالحاق في الثواب والدرجات فضلا من الله فربما

وقع في الوهم ان الحاق الذرية ايضا حاصل لهم في حكم العدل فلما اكتسبوا سيئات اوجبت عقوبة كان كل عامل رهينا بكسبه لا يتعلق بغيره شئ فالالحاق المذكور انما هو في الفضل والثواب لا في العدل والعقاب وهذا نوع من اسرار القران وكنوزه التي يختص الله بفهمها من شاء فقد تضمنت هذه الاية اقسام الخلائق كلهم : اشقيائهم و سعدائهم السعداء المتبوعين والاتباعوالاشقياء المتبوعين والاتباع فعلى العاقل الناصح لنفسه ان ينظر في أي الاقسام هو و لا يغتر بالعادة ويخلد الى البطالة فان كان من قسم سعيد انتقل الى ما هو فوقه وبذل جهده والله ولي التوفيق والنجاح وان كان من قسم شقي انتقل منه الى القسم السعيد في زمن الامكان قبل ان يقول ياليتني اتخدت مع الرسول سبيلا

فصل في سفر الهجرة والمقصود بهذا ان من اعظم التعاون على البر والتقوى والتعاون على سفر الهجرة الى الله والرسول باليد واللسان والقلب والمساعدة والنصيحة تعليما وارشادا ومودة ومن كان هكذا مع عباد الله فكل خير اليه اسرع واقبل الله اليه بقلوب عباده وفتح على قلبه ابواب العلم ويسره لليسرى ومن كان بالضد فبالضد زاد المسافر فإن قلت : قد اشرت الى سفر عظيم وامر جسيم فما زاد هذا السفر وما طريقه وما مركبه قلت زاده العلم الموروث من خاتم الانبياء ﷺ ولا زاد له سواه فمن لم يحصل هذا الزاد فلا يخرج من بيته وليقعد مع الخالفين فرفقاء المتخلف البطالون اكثر من ان يحصوا فله اسوة بهم ولن ينفعه هذا التاسي يوم الحسرة شيئا كما قال تعالى : ولن ينفعكم اليوم اذ ظلمتم انكم في العذاب مشتركون فقطع الله سبحانه انتفاعهم بتاسي بعضهم

ببعض في العذاب فان مصائب الدنيا اذا عمت صارت مسلاة وتأسي بعض المصابين ببعض كما قالت الخنساء ولولا كثرة الباكين حولي ... على اخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل اخي ولكن ... اسلي النفس عنه بالتاسي فهذا الروح الحاصل من التاسي معدوم بين المشتركين في العذاب يوم القيامة طريق السفر واما طريقه : فهو بذل الجهد واستفراغ الوسع فلا ينال بالمني ولن يدرك بالهوينا وانما هو كما قيل فخض غمرات الموت واسم الى العلا ... لكي تدرك العز الرفيع الدائم فلا خير في نفس تخاف من الردى ... ولاهمة تصبو الى لوم لائم ولا سبيل الى ركوب هذا الظهر الا بامرين : احدهما : ان لايصبو في الحق الى لوم لائم فان اللوم يصيب الفارس فيصرعه عن فرسه ويجعله صريعا في الارض والثاني : ان تهون عليه نفسه في الله فيقدم حينئذ ولا يخاف الاهوال فمتى خافت النفس تاخرت و احجمت واخلدت الى الارض ولا يتم له هذان

الامران الا بالصبر فمن صبر قليلا صارت تلك الاهوال ريحا رخاء في حقه تحمله بنفسها الى مطلوبه فبينما هو يخاف منها اذ صارت اعظم اعوانه وخدمه وهذا امر لا يعرفه الا من دخل فيه مركب المسافر واما مركبه فصدق اللجأ الى الله والانقطاع اليه بكليته وتحقيق الافتقار اليه بكل وجه والضراعة اليه وصدق التوكل والاستعانة به والانطراح بين يديه انطراح المسلوم المكسور الفارغ الذي لاشئ عنده فهو يتطلع الى قيمه ووليمة ان يجده ويلم شعثه و يمده من فضله و يستره فهذا الذي يرجي له ان يتولى الله هدايته وان يكشف له ما خفي على غيره من طريق هذه الهجرة ومنازلها

فصل في التدبر والتفكر في الاء الله ورأس الامر وعموده في ذلك انما هو دوام التفكر وتدبر ايات الله حيث تستولي على الفكر وتشغل القلب فاذا صارت معاني القران مكان الخواطر من قلبه وجلس على كرسيه وصار له التصرف وصار هو الامير المطاع امره فحينئذ يستقيم له سيره ويتضح له الطريق وتراه ساكنا وهو يباري الريح وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي اتقن كل شئ انه خبير مما تفعلون

فصل في افلا يتدبرون القران فان قلت : انك قد اشرت الى مقام عظيم فافتح لي بابه واكشف لي حجابه وكيف تدبر القران وتفهمه والاشراف على عجائبه وكنوزه وهذه تفاسير الائمة بايدينا فهل في البيان غير ما ذكروه قلت : ساضرب لك امثالا تحتذي عليها وتجعلها اماما لك في هذا المقصد قال الله تعالى : هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين اذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تاكلون فاوجس منهم خيفة قالوا لا تخف وبشروه بغلام عليم فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها وقالت عجوز عقيم قالوا : كذلك قال ربك انه هو الحكيم العليم فعهدى بك اذا قرات هذه الاية وتطلعت الى معناها وتدبرتها فانما تطلع منها على ان الملائكة اتوا ابراهيم في صورة الاضياف ياكلون ويشربون وبشروه بغلام عليم وانما امراته عجبت من ذلك فاخبرتها الملائكة ان الله قال ذلك ولم يتجاوز تدبرك غير ذلك

فاسمع الان بعض ما في هذه الايات من انواع الاسرار وكم قد تضمنت من الثناء على ابراهيم وكيف جمعت الضيافة وحقوقها وما تضمنت من الرد على اهل الباطل من الفلاسفة والمعطلة وكيف تضمنت علما عظيما من اعلام النبوة وكيف تضمنت جميع صفات الكمال التي ردها الى العلم والحكمة وكيف اشارت الى دليل امكان المعاد بالطف اشارة واوضحها ثم افصحت وقوعه وكيف تضمنت الاخبار عن عدل الرب وانتقامه من الامم المكذبة وتضمنت ذكر الاسلام والايمان والفرق بينهما وتضمنت بقاء ايات الرب الدالة على توحيده وصدق رسله وعلى اليوم الاخر وتضمنت انه لا ينتفع بهذا كله الا من في قلبه خوف من عذاب الاخرة وهم المؤمنون بها واما من لا يخاف الاخرة ولا يؤمن بها فلا ينتفع بتلك الايات فاسمع الان بعض تفاصيل هذه الجملة قال الله تعالى هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين افتتح سبحانه القصة بصيغة موضوعة للاستفهام وليس المراد بها حقيقة

الاستفهام ولهذا قال بعض الناس : ان هل في مثل هذا الموضع بمعنى قد التي تقتضي التحقيق ولكن في ورود الكلام في مثل هذا بصيغة الاستفهام سر لطيف ومعنى بديع فإن المتكلم اذا اراد ان يخبر المخاطب بامر عجيب ينبغي الاعتناء به واحضار الذهن له صدر له الكلام باداة الاستفهام لتنبيه سمعه وذهنه للمخبر به فتارة يصدره بالا وتارة يصدره بهل فقول هل علمت ما كان من كيت وكيت اما مذكرا به واما واعظا له مخوفا واما منبها على عظمه ما يخبر به واما مقررا له فقوله تعالى هل اتاك حديث موسى و هل اتاك نبا الخصم وهل اتاك حديث الغاشية و هل اتاك حديث ضيف ابراهيم المكرمين متضمن لتعظيم هذه القصص والتنبيه على تدبرها ومعرفتها ما تضمنته ففيه امر اخر وهو التنبيه على ان اتيان هذا اليك علم من اعلام النبوة فانه من الغيب الذي لاتعمله انت ولا قومك فهل اتاك من غير اعلامنا وارسالنا وتعريفنا ام لم ياتك الا من قبلنا فانظر ظهور هذا الكلام بصيغة الاستفهام وتامل عظم موقعة من

جميع موارده يشهد انه من الفصاحة في ذروتها العليا وقوله ضيف ابراهيم المكرمين متضمن لثنائه على خليله ابراهيم فان في المكرمين قولين احدهما : اكرام ابراهيم لهم ففيه مدح ابراهيم باكرام الضيف والثاني : انهم مكرمون عنذ الله كقوله تعالى بل عباد مكرمون وهو متضمن ايضا لتعظيم خليله ومدحه اذ جعل ملائكته المكرمين اضيافا له فعلى كلا التقديرين فيه مدح لابراهيم وقوله فقالوا سلاما قال سلام متضمن بمدح اخر لابراهيم حيث رد عليهم السلام احسن مما حيوه به فان تحيتهم باسم منصوب متضمن لجملة فعلية تقديره : سلمنا عليك سلاما وتحية ابراهيم لهم باسم مرفوع متضمن لجملة اسمية تقديره سلام دائم او ثابث او مستقر عليكم ولا ريب ان الجملة الاسمية تقتضي الثبوت واللزوم والفعلية تقتضي التجدد والحدوث فكانت تحية ابراهيم اكمل واحسن ثم قال قوم منكرون وفي هذا من حسن مخاطبة الضيف والتذمم منه وجهان في المدح احداهما : انه حذف المبتدا والتقدير : انتم قوم منكرون فتذمم منهم ولم يواجههم بهذا الخطاب لما فيه من الاستيحاش

وكان النبي ﷺ لايواجه احدا بما يكرهه بل يقول وما بال اقوام يقولون كذا ويفعلون كذا الثاني قوله قوم منكرون فحذف فاعل الانكار وهو الذي كان انكرهم كما قال في موضع اخر نكرهم ولاريب ان قوله منكرون الطف من ان يقول انكرتم وقوله فراغ الى اهله فجاء بعجل سمين فقربه اليهم قال الا تاكلون متضمن وجوها من المدح واداب الضيافة واكرام الضيف منها قوله فراغ الى اهله والروغان الذهاب بسرعة واختفاء وهو يتضمن المبادرة الى إكرام الضيف والاختفاء يتضمن ترك تخجيله والا يعرض للحياء وهذا بخلاف من يتثاقل ويتبارد على ضيفه ثم يبرز بمراى منه ويحل صرة النفقة ويزن ما ياخذ ويتناول الاناء بمراى منه ونحو ذلك مما يتضمن تخجيل الضيف وحياءه فلفظة راغ تنفي هذين الامرين وفي قوله تعالى الى اهله مدح اخر لما فيه من الاشعار ان كرامة الضيف معدة حاصلة عند اهله وانه لايحتاج ان يستقرض من جيرانه ولا يذهب الى غير اهله اذ قرى الضيف حاصل عندهم وقوله : فجاء بعجل سمين يتضمن ثلاثة انواع من المدح احدها : خدمة ضيفه بنفسه فانه لم يرسل به وانما جاء به بنفسه الثاني : انه جاءهم بحيوان تام لم ياتهم ببعضه ليتخيروا من اطيب لحمه ما شاءوا

الثالث : انه سمين ليس بهمزول وهذا من نفائس الاموال ولد البقر السمين فانهم يعجبون به فمن كرمه هان عليه ذبحه واحضاره وقوله اليهم متضمن المدح وادابا اخرى وهو احضار الطعام الى بين يدي الضيف بخلاف من يهيئ الطعام في موضع ثم يقيم ضيفه فيورده عليه وقوله الا تأكلون فيه مدح واداب اخر فانه عرض عليهم الاكل بقوله الا تأكلوا وهذه صيغة عرض مؤذنة بالتلطف بخلاف من يقول : ضعوا ايديكم في الطعام كلوا تقدموا ونحو هذا وقوله فاوجس منهم خيفة لانه لما رآهم لا ياكلون من طعامه اضمر منهم خوفا ان يكون معهم شر فان الضيف ادا اكل من طعام رب المنزل اطمان اليه وانس به فلما علموا منه ذلك قالوا لاتخف وبشروه بغلام عليم وهذا الغلام اسحق لا اسماعيل لان امراته عجبت من ذلك فقالت : عجوز عقيم لايولد لمثلي فاني لي بالولد واما اسماعيل فانه من سريته هاجر وكان بكره واول ولده وقد بين سبحانه هذا في سورة هود في قوله تعالى فبشرناها باسحاق ومن وراء اسحاق يعقوب وهذه هي القصة نفسها وقوله تعالى فاقبلت امراته في صرة فصكت وجهها فيه بيان ضعف عقل المرأة وعدم ثباتها اذ بادرت الى الندبة فصكت الوجه عند هذا الاخبار

وقوله عجوز عقيم فيه حسن ادب المراة عند خطاب الرجال واقتصارها من الكلام على ما يتادى به الحاجة فانها حذفت المبتدا ولم تقل انا عجوز عقيم واقتصرت على ذكر السبب الدال على عدم الولادة لم تذكر غيره واما في سورة هود فذكرت السبب المانع منها ومن ابراهيم وصرحت بالعجب وقوله تعالى قالوا كذلك قال ربك متضمن لاثبات صفة القول له وقوله انه هو الحكيم العليم متضمن لاثبات صفة الحكمة والعلم اللذين هما مصدر الخلق والامر فجميع ما خلقه سبحانه صادر عن علمه وحكمته وكذلك امره وشرعه مصدره عن علمه وحكمته والعلم والحكمة متضمنان لجميع صفات الكمال فالعلم يتضمن الحياة و لوازم كمالها من القيومية والقدرة والبقاء والسمع والبصر وسائر الصفات التي يستلزمها العلم التام والحكمة تتضمن كمال الارادة والعدل والرحمة والاحسان والجود والبر ووضع الاشياء في مواضعها على احسن وجوهها ويتضمن ارسال واثبات الثواب والعقاب كل هذا العلم من اسمه الحكيم كما هي طريقة القران في الاستدلال على هذه المطالب العظيمة بصفة الحكمة والانكار على من يزعم انه خلق الخلق عبثا وسدى وباطلا فحينئذ صفة حكمته تتضمن الشرع والقدر والثواب

والعقاب ولهذا كان اصح القولين ان المعاد يعلم بالعقل وان السمع ورد بتفصيل ما يدل العقل على اثباته ومن تامل طريقة القران وجدها دالة على ذلك وانه سبحانه يضرب لهم الامثال المعقولة التي تدل على امكان المعاد تارة ووقوعه اخرى فيذكر ادلة القدرة الدالة على امكان المعاد وادلة الحكمة المستلزمة لوقوعه ومن تامل ادلة المعاد في القران وجدها كذلك مغنية بحمد الله عن غيرها كافية شافية موصلة الى المطلوب بسرعة متضمنة للجواب عن الشبه العارضة لكثير من الناس وان ساعد التوفيق كتبت في ذلك سفرا كبيرا لما رايت في الادلة التي ارشد اليها القران من الشقاء والهدى وسرعة الانصاف وحسن البيان والتنبيه على مواضع الشبه والجواب عنها بما ينثلج له الصدر ويكثر معه اليقين بخلاف غيره من الادلة فانها على العكس من ذلك وليس هذا موضع التفصيل والمقصود ان صدور الخلق والامر عن علم الرب وحكمته واختصت هذه القصة بذكر هذين الاسمين لاقتضائهما لتعجب النفوس من تولد مولود بين ابوين لايولد لمثلهما عادة وخفاء العلم بسبب هذا الايلاد وكون الحكمة اقتضت جريان هذه الولادة على غير العادة المعروفة فذكر في الاية اسم العلم والحكمة المتضمن لعلمه سبحانه بسبب هذا الخلق وغايته وحكمته في وضعه موضعه من غير اخلال بموجب الحكمة

ثم ذكر سبحانه وتعالى قصة الملائكة في ارسالهم لهلاك قوم لوط وارسال الحجارة المسومة عليهم وفي هذا ما يتضمن تصديق رسله واهلاك المكذبين لهم والدلالة على المعاد والثواب والعقاب لوقوعه عيانا في هذا العالم وهذا من اعظم الادلة الدالة على صدق رسله لصحة ما اخبروا به عن ربهم ثم قال تعالى : فاخرجنا من كان فيها من المؤمنون فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ففرق بين الاسلام والايمان هنا لسر اقتضاه الكلام فان الاخراج هنا عبارة عن النجاة فهو اخراج نجاة من العذاب و لاريب ان هذا مختص بالمؤمنين المتبعين للرسل ظاهرا وباطنا وقوله تعالى فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين لما كان الموجودون من المخرجين اوقع اسم الاسلام عليهم لان امراة لوط كانت من اهل هذا البيت وهي مسلمة في الظاهر فكانت في البيت الموجودين لافي القوم الناجيين وقد اخبر سبحانه عن خيانة امراة لوط وخيانتها انها كانت تدل قومها على اضيافه وقلبها معهم وليست خيانة فاحشة فكانت من اهل البيت المسلمين ظاهرا وليست من المؤمنين الناجيين ومن وضع دلالة القران والفاظه مواضعها تبين له من اسراره وحكمة ما يبهر العقول ويعلم انه تنزيل من حكيم حميد وبهذا خرج الجواب عن السؤال المشهور وهو : ان الاسلام اعم من

الايمان فكيف استثناء الاعم من الاخص وقاعدة الاستثناء تقتضي العكس وتبين ان المسلمين المستثنين مما وقع عليه فعل الوجود والمؤمنين غير مستثنين منه بل هم المخرجون الناجون وقوله تعالى وتركنا فيها اية للذين يخافون العذاب الاليم فيه دليل على ان آيات الله سبحانه وعجائبه التي فعلها في هذا العالم وابقى آثارها دالة عليه وعلى صدق رسله انما ينتفع بها من يؤمن بالمعاد ويخشى عذاب الله تعالى كما قال الله تعالى في موضع آخر ان في ذلك لآية لمن خاف عذاب الاخرة وقال تعالى : سيذكر من يخشى فان من لايؤمن بالآخرة غايته ان يقول : هؤلاء قوم اصابهم الدهر كما اصاب غيرهم ولا زال الدهر فيه الشقاوة والسعادة و اما من آمن بالآخرة واشفق منها فهو الذي ينتفع بالآيات والمواعظ والمقصود بهذا انما هو التنبيه والتمثيل على تفاوت الافهام في معرفة القرآن واستنباط اسراره وآثار كنوزه ويعتبر بهذا غيره والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء

فصل الرفيق والطريق والمقصود ان القلب لما تحول لهذا السفر طلب رفيقا يانس به في السفر فلا يجد الا معارضا مناقضا او لائما بالتأنيب مصرحا او فارغا من هذه الحركة معرضا وليت كل ما ترى هكذا فلقد احسن اليك من خلال وطريقك ولم يطرح شره عليك كما قال القائل انا لفي زمن ترك القبيح به ... من اكثر الناس احسان واجمال فإدا كان هذا المعروف من الناس فالمطلوب في هذا الزمان المعاونة على هذا السفر بالاعراض وترك اللائمة والاعتراض الا ما عسى ان يقع نادرا فيكون غنيمة باردرة لا قيمة لها ولا ينبغي ان لا يتوقف العبد في سيره على هذه الغنيمة بل يسير و لو وحيدا غريبا فانفراد العبد في طريق طلبة دليل على صدق المحبة ومن نظر في هذه الكلمات التي تضمنتها هذه الورقات علم انها من اهم ما يحصل به التعاون على البر والتقوى وسفر الهجرة الى الله ورسوله وهو الذي قصد سطرها بكتابتها وجعلها هديته المعجلة السابقة الى اصحابه ورفقائه في طلب العلم وشهد الله وكفى بالله شهيدا ولو توافي احدا منهم لقابلها بالقبول ولبادر

الى تفهمها وعدها من افضل ما اهدى صاحب الى صاحبه فإن غير هذا من جريانات الركب الخيرية وان تطلعت النفوس اليها ففائدتها قليلة وهي في غاية الرخص لكثرة جالبها وانما الهدية النافعة كلمة يهديها الرجل الى اخيه المسلم الموتى الاحياء والاحياء الموتى ومن اراد هذا السفر فعليه بمرافقة الاموات الذين هم في العالم احياء فانه يبلغ بمرافقتهم الى مقصده وليحذر من مرافقة الاحياء الذين هم في الناس اموات فإنهم يقطعون عليه طريقه فليس لهذا السالك انفع من تلك المرافقة واوفق له من هذه المفارقة فقد قال بعض السلف : شتان بين اقوام موتى تحيا القلوب بذكرهم وبين اقوام احياء تموت القلوب بمخالطتهم فما على العبد اضر من عشائره وابناء جنسه فنظره قاصر وهمته واقفة عند التشبه بهم ومباهاتهم والسلوك اين سلكوا حتى لو دخلوا جحر ضب لاحب ان يدخله معهم فمتى صرف همته عن صحبتهم الى صحبة من اشباحهم مفقودة ومحاسنهم وآثارهم الجميلة في العالم موجودة استحدث بذلك همة اخرى وعملا آخر وصار بين الناس غريبا وان كان فيهم مشهورا ونسيبا ولكنه

غريب محبوب يرى ما الناس فيه و لا يرون ما هو فيه يقيم لهم المعاذير ما استطاع ويحضهم بجهده و طاقته سائرا فيهم بعينين عين ناظرة الى الامر والنهى بها يأمرهم وينهاهم ويواليهم ويعاديهم ويؤدي لهم الحقوق و يستوفيها عليهم وعين ناظرة الى القضاء والقدر بها يرحمهم ويدعو لهم و يستغفر لهم ويلتمس وجوه المعاذير فيما لا يخل بامر و لا يعود بنقض شرع وقد وسعهم بسطته ورحمته ولينه ومعذرته وقفا عند قوله تعالى خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين متدبرا لما تضمنته هذه الآية من حسن المعاشرة مع الخلق واداء حق الله فيهم والسلامة من شرهم فلو اخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم وشفتهم فان العفو ما عفى من اخلاقهم وسمحت به طبائعهم ووسعهم بذلة من اموالهم و اخلاقهم فهذا ما منهم اليه واما ما يكون منه اليهم فأمرهم بالمعروف وهو ما تشهد به العقول وتعرف حسنة وهو ما امر الله به و اما ما يتقي به اذى جاهلهم فالاعراض عنه وترك الانتقام لنفسه والاقتصار لها فأي كمال للعبد وراء هذا واي معاشرة وسياسة لهذا العالم احسن من هذه المعاشرة والسياسة فلو فكر الرجل في كل شر يلحقه من العالم اعني الشر الحقيقي الذي لا يوجب له الرفعة والزلفى من الله وجد سببه الاخلال بهذه الثلاث او بعضها والا فمع القيام بها فكل ما يحصل له من الناس

فهو خير له وان شرا في الظاهر فانه يتولد من الامر بالمعروف ولا يتولد منه الا خيرا وان ورد في حالة شر واذى كما قال الله تعالى ان الذين جاءوا بالافك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم وقال تعالى لنبيه ﷺ فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الامر فإذا عزمت فتوكل على الله وقد تضمنت هذه الكلمات مراعاة حق الله وحق الخلق فإنهم اما يسيئوا في حق الله وفي حق رسوله فإن اساءوا في حقك فقابل ذلك بعفوك عنهم وان اساءوا في حقي فاسألني اغفر لهم واستجلب قلوبهم واستخرج ما عندهم من الراي بمشاورتهم فإن ذلك احرى في استجلاب طاعتهم وبذل النصيحة فاذا عزمت فلا استشارة بعد ذلك بل توكل وامض لما عزمت عليه من امرك فإن الله يحب المتوكلين فهذا وامثاله من الاخلاق التي ادب الله بها رسوله وقال تعالى فيه وانك لعلى خلق عظيم قالت عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن وهذا لايتم الا بثلاثة اشياء احدها : ان يكون العود طيبا فاما ان كانت الطبيعة جافية غليظة يابسة عسر عليها مزاولة ذلك علما وارادة وعملا بخلاف الطبيعة المنقادة اللينة السلسة القياد فانها مستعدة انما تريد الحرث والبذر الثاني : ان تكون النفس قوية غالبة قاهرة لدواعي البطالة والغي والهوى فان هذه الامور تنافي الكمال فان لم تقو النفس على قهرها و الا لم تزل مغلوبة مقهورة الثالث : علم شاف بحقائق الاشياء وتنزيلها منازلها يميز بين الشحم والورم والزجاجة والجوهرة فإذا اجتمعت فيه هذه الخصال الثلاث وساعد التوفيق فهو القسم الذي سبقت لهم من ربهم الحسنى وتمت لهم العناية والله سبحانه وتعالى اعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا ابدا الى يوم الدين والحمد لله رب العالمين