رسالة النفس
رسالة النفس المؤلف: ابن رشد |
☰ جدول المحتويات
غرض الكتاب
الغرض هاهنا أن نثبت من أقاويل المفسرين في علم النفس، ما نرى أنه أشد مطابقة لما تبين في العلم الطبيعي، وأليق بغرض أرسطر. وقبل ذلك فلنقدم مما تبين في هذا العلم ما يجري مجرى الأصل الموضوع لنفهم جوهر النفس.
فنقول إنه قد تبين في الأولى من السماع. أن جميع الأجسام الكائنة الفاسدة مركبة من هيولى وصورة، وأنه ليس ولا واحد منهما جسماً، وأن كان بمجموعهما يوجد الجسم، وتبين هنالك أن الهيولى الأولى لهذه الأجسام ليست مصورة بالذات ولا موجودة بالفعل، وأن الوجود الذي يخصها إنما هو لها من جهة أنها قوية على قبول الصور، لا على أن القوة جو هرها بل على أن ذلك تابع لجو هرها وظل مصاحب لها، وأن سائر ما يقال عليه من الأجسام الموجودة بالفعل أنها قوية على شيء، فإنما يقال فيها ذلك من جهة المادة. إذ كان ليس يمكن أن يوجد لها القوة من جهة ما هي موجودة بالفعل بالذات وأولاً، فإن الفعل والقوة متناقضان.
وتبين أيضاً هنالك أن هذه المادة الأولى ليس يمكن فيها أن تتعرى عن الصورة لأنها لو عريت منها لكان ما لا يوجد بالفعل موجوداً بالفعل.
وتبين مع هذا في السماء والعالم أن الأجسام التي توجد صورها في المادة الأولى وجوداً أولاً، ولا يمكن أن تتعرى منها المادة هي الأجسام البسيطة الأربعة - النار - والهواء - والماء - والأرض.
وتبين أيضاً في كتاب الكون والفساد من أمر هذه البسائط أنها أسطقسات سائر الأجسام المتشابهة الأجزاء، وأن تولدها عنها إنما يكون على جهة الاختلاط والمزاج.
وأن الفاعل الأقصى لهذا الاختلاط والمزاج على نظام ودور محدود هي الأجرام السماوية.
وتبين أيضاً في الرابعة من الآثار العلوية أن الاختلاط الحقيقي والمزاج في جميع الأجسام المتشابهة الأجزاء التي توجد في الماء والأرض إنما يكون بالطبخ، والطبخ يكون بالحرارة الملائمة لذلك الشيء المنطبخ، وهي الحرارة الغريزية التي تخص موجوداً موجوداً، وأن فصول هذه الأجسام المتشابهة الأجزاء إنما تنسب إلى المزاج فقط.
وأن فاعلها الأقرب هو الحار المازج لها، والأقصى الأجرام السماوية. وبالجملة فتبين هناك أن في الأسطقسات والأجرام السماوية كفاية في وجود هذه الأجسام المتشابهة وإعطاء ما به يتقوم، وذلك أن جميع فصولها منسوبة إلى الكيفيات الأربع.
وتبين بهذا كله في كتاب الحيوان أن أنواع التركيبات ثلاثة: "فأولها" التركيب الذي يكون من وجود الأجسام البسائط في المادة الأولى التي هي غير مصورة بالذات. "والثاني" التركيب الذي يكون عن هذه البسائط وهي الأجسام المتشابهة الأجزاء. "والثالث" تركيب الأعضاء الآلية وهي أتم ما يكون وجوداً في الحيوان الكامل كالقلب والكبد.
وقد توجد على جهة المقايسة والتشبيه في الحيوان الذي ليس بكامل وفي النبات أيضاً كالأصول والأغصان.
وتبين أيضاً في هذا الكتاب أن المكون القريب لهذه الأجسام الآلية ليست حرارة أسطقسية، فإن الحرارة الأسطقسية إنما فعلهما التصليب والتليين، وغير ذلك من الأشياء المنسوبة إلى الأجسام المتشابهة، بل المكون لها هو قوة شبيهة بقوة المهنة والصناعة كما يقول أرسطر، وذلك أيضاً مع حرارة ملائمة للتخليق والتصوير وإعطاء الشكل، وأن معطي هذه الصورة الحرارة وصورتها المزاجية التي بها تفعل في الحيوان المتناسل والنبات المتناسل هو الشخص الذي هو من نوع ذلك المتولد عنه أو مناسب له من جهة ما هو شخص متنفس بتوسط القوة والحرارة الموجودة في البزر والمني. وأما في الحيوان والنبات الذي ليس بمتناسل فمعطيها هو الأجرام السماوية.
وتبين أيضاً مع ذلك انه كما أن هذه الحرارة ملائمة للتصوير والتخليق ليس فيها كفاية في إعطاء الشكل والخلقة دون أن تكون هناك قوة مصورة من جنس النفس الغاذية، كما لا يكون التغذي في الجسم إلا بقوة غاذية، كذلك هذه القوة الغاذية والحسية المتكونة في الحيوان عن مثلها لها فاعل أقصى مفارق وهو المسمى عقلاً، وأن كان المكون القريب للأعضاء الآلية والنفس الحادثة فيها هي هذه القوة فإن الأقرب هي القوة النفسية التي في البزر فإن هذه الأعضاء الآلية ليست توجد إلا متنفسة وأن وجدت غير متنفسة فالوجود لها بضرب من الاشتراك، كما يقال اليد على يد الميت ويد الحي. وتبين أيضاً مع هذا هنالك أن الموضوع القريب لهذه النفوس في الأجسام الآلية هو حرارة مناسبة للحرارة والمكونة، إذ كان لا فرق بينهما إلا أن هذه آلة الحافظة وتلك آلة المكون وهذه هي الحرارة المشاهدة بالحس في الحيوان الكامل في القلب أو ما يناسبه في الحيوان الذي ليس بكامل. وقد توجد هذه الحرارة في كثير من هذه الأنواع كالشائعة فيه وذلك لقرب أعضائها من البسائط كالحال في كثير من الحيوان والنبات والنبات أحرى بذلك، ولذلك متى فصلنا غصناً من أغصان النبات وغرسناه أمكن أن يعيش.
وتبين أيضاً هنالك أن قوى النفس واحدة بالموضوع القريب لها التي هي الحرارة الغريزية كثيرة بالقوة كالحال في التفاحة، فإنها ذات قوى كثيرة باللون والطعم والرائحة، وهي مع ذلك واحدة. إلا أن الفرق بينهما أن هذه أعراض في التفاحة وتلك جواهر في الحرارة. الغريزية، فهذه هي الأمور التي إذا تحفظ بها قدرنا أن نصل إلى معرفة جوهر النفس وما يلحقها على أتم الوجوه وأسهلها، وهي أمور وأن لم يصرح بها أرسطر في أول كتابه فهو ضرورة مصادرة عليها بالقوة على عادته في الإيجاز.
مبدأ المفارقة
ومن هذه الأمور بعينها يمكن أن نقف من أمرها على ما هو اكثر ذلك متشوق من أمرها، وهو هل يمكن فيها أن تفارق أم لا، إلا أنه ينبغي أن يكون عتيداً قبل هذا الفحص على أي جهة يمكن أن توجد صورة مفارقة في الهيولى أن وجدت، وفي أي المواضع والشبل يمكن أن يوقف على ذلك أن كان.
فنقول أن المفارقة إنما تكون أن توجد في أشياء منسوبة إلى الأمور الهيولانية بأن تكون نسبتها إليها لا نسبة الصورة إلى المادة بل تكون لاتصالها بالهيولى اتصالاً ليس في جوهرها. كما يقال في العقل الفعال إنه في المني والبزر، ويقال إن المحرك الأول في المحيط، فإن نسبة الصورة إلى الهيولى هي نسبة لا يمكن فيها أصلاً أن تتصور المفارقة فيها من جهة ما في صورة هيولانية، فإن هذا الوضع يناقض نفسه لأن أحد ما يضع صاحب هذا العلم على أنه بين بنفسه هو أن هذه الصورة الطبيعية بين من أمرها أنها تتقوم بالهيولى، ولذلك كانت حادثة وتابعة في حدوثها للتغير وطبيعته.
وأيضاً فمتى أنزلنا خلاف هذا، أعني أنها أزلية سواء فرضناها منتقلة من موضع إلى موضع أولاً من موضع إلى موضع، وهذا هو احفظ لهذا الوضع، لأنها إذا كانت أزلية فما بالها لا توجد إلا في موضوع، فإنه يلزم عن ذلك محالات كثيرة.
منها أن يكون الموجود يتكون عن موجود بالفعل، لأن المادة إذا كانت غير حادثة والصورة أيضاً غير حادثة فليس هاهنا كون أصلاً، ولا يكون هنالك غناء للمحرك والكون بل لا يكون هنالك فاعل أصلاً.
وأيضاً أن أنزلنا الصورة موجودة قبل وجودها في الهيولى المشار إليها فلا يخلو أن يكون وجودها تغيراً أو تابعاً لتغير أو لا يكون هنالك للصورة مغائرة أصلاً، لكن متى أنزلنا الصورة ليس لها تغير أصلاً ولا وجودها في الهيولى المشار إليها تابع لتغير وكذلك فسادها لزم أن يكون الشيء الواحد بعينه قبل التكون كحاله بغد التكون وقبل الفساد كحاله بعد الفساد، حتى تكون الأضداد موجودة معاً في موضوع واحد، كأنك قلت صورة الماء وصورة النار، وهذا كله خلاف المعقول.
وأن أنزلنا أيضاً حدوثها تغيراً، أعني أنها تتغير عند الحدوث من لا هيولى إلى هيولى أو من هيولى إلى هيولى، كما يقول أصحاب التناسخ لزم ضرورة أن تكون الصورة جسماً ومنقسمة حسب ما تبين من أن كل متغير منقسم.
وإذا كان هذا هكذا فلم يبق أن يكون حدوثها في الهيولى إلا على أن وجودها تابع لتغير على ما يظهر من أمر الصور الكائنة، فإن أحداً ما يتم به. وتتكون صورة الهواء في هيولى الماء إنما هو لوجود الاستحالة المتقدمة في الماء بحدوث صورة الهواء، لكن هذه الصورة من اجل وجودها في متغير لا من جهة أنها متغيرة بذاتها، فكانت ليست بجسم ولا تنقسم. ولذلك ما قيل إنه ليس حركة في الجوهر، وهذا كله قد يظهر في السماع الطبيعي. وأيضاً لو أنزلنا هذه الصورة غير هيولانية لم يكن حدوثها في الشيء يوجب مزيد استعداد لقبول صورة أخرى، ولا كانت بعضها كمالات لبعض، وبعضها موضوعات لبعض على جهة ما نقول أن الغاذية موضوعة للحساسة والحساسة كمال لها، فإن الصورة بما هي صورة ليس فيها من الاستعداد والقوة، إذ كان وجودها الذي يخصها إنما هو لها من جهة الفعل والفعل والقوة متناقضتان، وإنما أمكن أن توجد فيها القوة بضرب من العرض، وذلك لكونها هيولانية، وهذه كلها استظهارات تستعمل مع من ينكر وجود هذا لا على أنها براهين تتبين بها مجهول بمعلوم.
ومن شأن هذا النوع من الأقوال أن يستعمل في علم ما بعد الطبيعة، إذ كانت تلك الصناعة هي الصناعة التي تتكفل نصرة ما تضعه الصنايع الجزئية مبادئ وموضوعات، وإذا كان موضوعاً لصاحب هذا العلم أن اكثر الصور هيولانية وأن ذلك بين من أمرها، فالذي يفحص عنه صاحب هذا العلم إما هو الصورة المشكوك في أمرها هل هي متقومة بالهيولى أم ليست متقومة. والسبيل التي منها يمكن أن تكتسب المقدمات الخاصة المناسبة بهذا النظر في هذا العلم، فهي أن تحصى جميع المحمولات التي تلحق الصور الهيولانية بما هي هيولانية، إذ كان وجودها في الهيولى ليس بنحو واحد على ما ظهر فيما تقدم، وسيظهر في هذا الكتاب.
ثم يتأمل جميعها مثلاً في النفس الناطقة إذ كانت التي يظن بها من بين قوى النفس أنها تفارق، فإن ألفيناها متصفة بواحد منها تبين أنها غير مفارقة، وكذلك تتصفح المحمولات الذاتية التي تخص الصور بما هي، صور لا بما هي صور هيولانية، فإن الفي لها محمول خاص تبين انها مفارقة، كما يقول أرسطو أنه أن وجد للنفس أو لجزء من أجزائها فعل ما يخصها أمكن أن تفارق. فهذه هي الجهة التي يمكن أن ننظر منها في ذلك، فليكن هذا عندنا عتيداً حتى نصل إلى الموضع الذي يمكن فيه أن نفحص من هذا المطلوب. فإن هذا الفحص إنما يترتب في جزء جزء من أجزاء النفس بعد المعرفة بجو هره، إذ كان علم ذات الشيء متقدماً على لواحقه، فلنبدأ من حيث بدا.
تعريف النفس
فنقول إنه يظهر من قرب عما وضع في القول المتقدم أن النفس صورة لجسم طبيعي آلي، وذلك أنه إذا كان كل جسم مركب من مادة وصورة، وكان الذي بهذه الصفة في الحيوان هو النفس والبدن، وكان ظاهراً من أمر النفس أنها ليست بمادة للجسم الطبيعي، فبين أنها صورة ولا الصورة الطبيعية هي كمالات أول للأجسام التي هي صور لها، فبالواجب ما قيل في حد النفس أنها استكمال أول الجسم طبيعي آلي، وإنما قيل أول تحفظاً من الاستكمالات الأخيرة التي هي في الأفعال والانفعالات، فإن مثل هذه استكمالات تابعة للاستكمالات الأول، إذ كانت صادرة عنها إلا أن هذا الحد لما كان مما يظهر انه يقال بتشكيك على جميع قوى النفس، وذلك أن قولنا في الغاذية أنها استكمال غير معنى قولنا ذلك في الحساسة والمتخيلة، وأحرى ما قيل ذلك باشتراك على القوة الناطقة، وكذلك سائر أجزاء الحد لم تكن كفاية في تعرف جو هر كل جزء من أجزائها من هذا الحد على التمام، حتى نعرف ما هذا الاستكمال الموجود في النفس الغاذية وفي واحدة واحدة منها وهذه النفس يظهر بالحس من أفعالها أن أجناسها خمسة: أولها في التقديم بالزمان وهو التقدم الهيولاني والنفس النباتية ثم الحساسة، ثم المتخيلة، ثم الناطقة، ثم النزوعية، وهي كاللاحق لهاتين القوتين، أعني المتخيلة والحساسة، وأن الحساسة خمس قوى: قوة البصر، وقوة السمع، وقوة الشم، وقوة الذوق، وقوة اللمس، وسنبين بآخره أن عددها هذا العدد ضرورة، وأنه لا يمكن أن توجد قوة أخرى من قوى الحس غير هذه وليس هذه القوى يوجد لها التباين من جهة أفعالها فقط، بل ولأن بعضها قد يفارق بعضاً بالموضوع، وذلك أن النباتية قد توجد في النبات دون الحساسة، والحساسة من دون المتخيلة في كثير من الحيوان كالذباب وغيره، وأن كان ليس يوجد الأمر فيها بالعكس، أعني أن توجد الحساسة من دون الغاذية أو المتخيلة من دون الحساسة. والعلة في ذلك أن ما كان منها يجري مجرى الهيولى لبعض لم يكن في ذلك البعض أن يفارق هيولاه وأمكن في تلك القوة التي تتنزل من تلك الأخيرة منزلة الهيولى أن تفارق، لكن لا من جهة ما هي هيولى لشيء بل من جهة ما هي كمال وتمام للشيء الذي هي له تمام. ولذلك لم يمكن في الهيولى الأولى أن تفارق إذ كان ليس فيها صورة بالفعل تكون لها مستعدة لقبول صورة أخرى، وأمكن ذلك في المركب الذي هو من جهة هيولى ومن جهة صورة.
ونحن إنما نبتدئ من هذه القوى بأشدها تقدماً في الزمان كما فعل أرسطر، وهو التقدم الهيولاني والقوة التي هذه صفتها هي النفس الغاذية فلنبدأ من القول فيها.
القول في القوة الغاذية
والقوة تقال بضرب من التشكيك على الملكات والصور حين ليس تفعل كما يقال في النار أنها محرقة بالقوة إذا لم تحضرها المادة الملائمة للإحراق، وعلى القوى المنفعلة كما يقال في الخبر انه دم بالقوة، وفي الدم أنه لحم بالقوة، وذلك إذا لم يحضر المحرك، وطاهر أن هذه القوة الغاذية من جنس القوى الفاعلة، وذلك أن الغذاء لما كان صنفين: أحدهما الذي بالفعل وذلك إذا استحال إلى جوهر المغتذي. والثاني الذي بالقوة، وذلك قبل أن يستحيل إلى جوهر المغتذي، والذي بالقوة كما قيل في غير ما موضع إنما يصير إلى الاستكمال من قبل المحرك الذي بالفعل. إلا أن القوة أيضاً لما كانت صنفين قريبة وبعيدة والقوة البعيدة في الغذاء المحرك لها ضرورة غير النفس الغاذية، كالقوة التي في الأسطقسات أن يكون لحماً. وأما القوة القريبة مثل ما نقول في الخبز انه غذاء بالقوة فالمحرك لها هي النفس العأذية ولذلك هي ضرورة قوة فاعلة.
وقد قيل كيف يكون الفعل والانفعال على العموم في هذه الحركة، وفي غيرها من الحركات في الأولى من الكون والفساد، وقيل هناك أن المنفعل يلزم أن يكون من جهة شبيهاً ومن جهة ضداً فأما أن الانفعال الموجود في الغذاء هو في الجوهر فذلك بين بنفسه. وأما أن هذه القوة الغاذية نفس فذلك بين من أنها صورة لجسم آلي، وهي بالجملة إثما تفعل مما هو جزء عضو آلي. بالقوة جزِء عضو آلي بالفعل، وبين أن مثل هذا التحريك والفعل ليس منسوباً إلى النار. فأما الآلة التي بها تفعل هذه القوة الاغتذاء فهي الحرارة ضرورة، وليس أي حرارة اتفقت بل حرارة ملائمة لهذا الفعل، وهي المسماة الحرارة الغريزية، وذلك أن هذه النفس إنما تفعل كما يظهر من أمرها جزء عضو عضو من أعضاء المتغذي والأعضاء مركبة من الأسطقسات، والمركب من الأسطقسات إنما يصير واحداً على ما تبين بالمزاج، والمزاج إنما يكون بالحرارة كما قيل في الآثار العلوية، فإذن الحرارة هي الآلة الملائمة لهذا الفعل، وليس هذه الحرارة هي النفس كما ظن جالينوس وغيره. فإن فعل الحرارة ليس بمرتب ولا محدود ولا تفعل نحو غاية مقصودة كما يظهر ذلك من أفعال النفس، ولا يصح أن ينسب الترتيب إلى الحرارة إلا بالعرض على ما كان يرى كثير من القدماء.
وهذه الحرارة هي الموضوع القريب الأول لهذه النفس التي تتنزل منها منزلة الهيولى، وذلك شيء بالواجب عرض لكل محرك ليس بجسم وهو في جسم إذا حرك جسماً آخر، أعني انه إنما يكون تحريكه له من جهة ما هو موجود في جسم هو صورة فيه، وإلا لم يمكن فيه أن يحرك الجسم الآخر كالحال في النفس الغاذية، والغذاء في النفس المحركة لجسم الحيوان في المكان على ما سيظهر بعد.
فأما السبب الغائي الذي من اجله وجدت هذه القوة في الحيوان وفي النبات فهو الحفظ. وذلك أن أجساد المتنفسات لطيفة متخلخلة سريعة التحلل، فلو لم تكن فيها قوة شأنها أن يخلف بدل ما تحلل منها أمكن في المتنفس أن يبقى زماناً له طول ما، وإذا كان هذا كله من أمر هذه القوة كما وصفنا فإذن هذه القوة هي التي من شأنها أن تصير بالحار الغريزي، مما هو جزء عضو بالقوة جزء عضو بالفعل، لتحفظ بذلك على المتنفس بقاءه ولذلك كان إخلال فعل هذه القوة موتاً. وهاهنا قوة أخرى منسوبة إلى النبات هي كالكمال والصورة للقوة الغاذية، إذ كانت لا يمكن أن توجد خلوا من الغاذية، ويمكن أن توجد الغاذية خلوا منها وهي القوة النامية، وهذه القوة هي القوة التي من شأنها عندما تولد الغاذية من الغذاء أكثر مما تحلل من الجسم أن تنمي الأعضاء في جميع أجزائها وأقطارها على نسبة واحدة، وهو بين أن هذه القوة مغايرة بالماهية للغاذية. فإن فعل التنمية غير فعلِ الحفظ، فإن هذه القوة قوة فاعلة، فبين مما رسمناها به كذلك أيضاً كونها نفساً.
وأما السبب الغائي الذي من اجله وجدت هذه القوة فإنه لما كانت الأجسام الطبيعية لها أعظام محدودة وكان لا يمكن في الأجسام المتنفسة أن توجد لها من أول الأمر العظم الذي يخصها احتيج إلى هذه القوة، ولذلك إذا ما بلغ الموجود العظم الذي له بالطبع كفت هذه القوة.
وبين مما قبل أيضاً في النفس الغاذية أن آلة هذه القوة هي الحرارة الغريزية، فأما كيف تكون هذه الحركة وبماذا تكون فقد لخص القول في ذلك في كتاب الكون والفساد، وليس هذا الفعل فقط ينسب لهذه النفس، أعني النمو بل وضده وهو الاضمحلال. فإن هذه الحركة أيضاً محدودة مرتبة وذلك أنها إذا عرضت تعرض في كل نقطة وجزء محسوس من أجزاء المضمحل على السواء وليس مثل هذا الاضمحلال ما يمكن أن ينسب إلى ما من خارج فقط.
ولما كانت أيضاً هذه الأجسام المتنفسة منها متناسلة، ومنها غير متناسلة، وكانت المتناسلة هي التي يمكن فيها أن توجد مثلها بالنوع أو شبيهاً بها وذلك بما يوجد عنها من البزور والمني، فإذن هاهنا قوة أخرى تفعل من الغذاء ما شأنه أن يتكون عنه مثل الشخص الذي توجد له هذه القوة.
وبين من هذا أن هذه القوة فاعلة وأنها نفس، وأن آلتها هي الحرارة الغريزية، إذ كان لا فرق بين هذه القوة والقوة الغاذية، إلا أن هذه القوة شأنها أن تفعل مما هو بالقوة شخص من نوعه شخصاً بالفعل، والغاذية إنما تفعل جزء شخص، وإنما جعلت هذه القوة في الأشياء التي هي موجودة فيها لا على جهة الضرورة، كالحال في القوة الغاذية والنامية بل على جهة الأفضل لتكون لهذه الموجودات حظ من البقاء الأزلي بحسب ما يمكن في طباعها. فإن اقرب شيء إلى الوجود الضروري بالشخص هو هذا الوجود، وكانت هذه الموجودات أعطيت من أول الأمر وجودها وقوة تحفظ بها وجودها.
وأما غير المتناسلة فلم تعط إلا وجودها فقط لأنه لم يمكن فيها أكثر من ذلك.
فهاهنا إذن ثلاث قوى: أولها الغاذية هي كالهيولى لهاتين القوتين، أعني النامية، والمولدة. إذ كان قد توجد الغاذية دونهما وليس توجد أن دون الغاذية. أما المولدة فكأنها تمام القوة النامية، ولذلك ما تصرف الطباع الفضلة من الغذاء الذي كان بها النمو عند كمال النمو إلى التوليد فتكون منها البزور والمني، وهذه القوة أعني قوة التوليد قد يمكن أيضاً أن تفارق الغاذية، وذلك في آخر العمر. وأما مفارقة الغاذية فهو موت، فقد تبين من هذا القول ما النفس الغاذية والمنمية والمولدة، وأي آلة آلتها، ولم كان كل واحد منها في الجسم المتنفس فلنقل في القوة التي تتلو هذه في الحيوان وهي قوة الحس.
القول في القوة الحساسة
وهذه القوة بين من أمرها أنها قوة منفعلة، إذ كانت توجد مرة بالقوة ومرة بالفعل، وهذه القوة منها قريبة ومنها بعيدة والبعيدة كالقوة التي في الجنين على أن يحس، والقريبة كقوة النائم والمغمض عينه على أن يحس، وبين مما تقدم أن ما بالقوة من جهة ما هو بالقوة منسوب إلى الهيولى، وأن خروج القوة إلى الفعل تغير أو تابع لتغير، وأن كل متغير فله مغير ومحرك يعطي المتحرك شبيه ما في جوهره. وإذا كان ذلك كذلك فينبغي أن نتعرف من أمر هذه القوة أي وجود وجودها وما المحرك لها وعلى أي جهة تقبل التحريك.
فنقول أما القوة البعيدة وهي التي تكون في الجنين فقد تبين أي وجود وجودها في كتاب الحيوان، والمحرك لها هو ضرورة غير المحرك للقوة القريبة، إذ كان بهذا تكون القوتان اثنين، وقد تبين وجود هذا المحرك في كتاب الحيوان.
وأما المحرك للقوة القريبة فبين من أمره أنه المحسوسات بالفعل، والذي ينبغي هاهنا أن نطلب أي وجود وجود هذه القوة وعلى أي جهة تقبل التحريك عن المحسوسات.
فنقول إنه من البين مما تقدم أن القوة تقال على ثلاثة أضرب: أولاها بالتقديم والتحقيق القوة المنسوبة إلى الهيولى الأولى، إذ كانت الهيولى الأولى إنما الوجود لها من جهة ما هي قوة محضة. ولذلك لم يمكن في مثل هذه القوة أن تفارق بالجنس الصورة التي هي قوية أولاً عليها بل متى تعرت عن الصورة التي فيها تلبست بصورة أخرى من جنسها، كالحال في الماء والنار.
وبالجملة في الأجسام البسائط، ثم من بعد هذه القوة الموجودة في صور هذه الأجسام البسيطة على صور الأجسام المتشابهة الأجزاء، وهذه القوة هي متأخرة عن تلك، إذ كان يمكنِ فيها أن تفارق صورة الشيء الذي هي قوية عليه بالجنس، وهي أيضاً حين تقبل الكمال والفعل ليس تخلع صورتها كل الخلع، كالحال في القوة الموجودة في الأجسام البسيطة، ولذلك لسنا نقول أن صور الأسطقسات موجودة بالقوة في الجسم المتشابه الأجزاء على جهة ما نقول أن الماء بالقوة هواء أو نار بل بنحو متوسط على ما تبين في كتاب الكون والفساد. فكأن هذه القوة الثانية شأنها فعل ما، إذ كان السبب في وجودها القوة الأولى مقترنة بالصورة البسيطة لا القوة وحدها.
ثم تتلو هذه في المرتبة القوة الموجودة في بعض الأجسام المتشابهة الأجزاء كالقوة التي في الحرارة الغريزية مثلاً أو ما يناسبها الموضوعة في النبات والحيوان للنفس الغاذية. م وتفارق هذه القوة القوة التي في صور الأسطقسات على الأجسام المتشابهة الأجزاء أن هذه إذا قبلت ما بالفعل لم يتغير الموضوع لها ضرباً من التغير لا قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كان فساد هذه ليس إلى الضد بل إلى العدم فقط، فكأن هذه القوة قد شابهت الفعل أكثر من تلك، ولذلك ما قبل أن معطي الصورة المزاجية التي بها شان موضوعها أن تقبل هذا الكمال أحد الأمرين: إما نفس في المتناسل من ذوات النفوس. وإما حرارة الكواكب في غير المتناسل لكن هذه القوة إذا وجدت على كمالها في النبات فليس يوجد فيها استعداد لقبول صورة أخرى.
وإما إذا وجدت في الحيوان فإنه يلفي فيها استعداداً لقبول صورة أخرى وهي الصورة المحسوسة، وإنما عرض لها ذلك من جهة اختلاف استعداد موضوعها في النبات والحيوان، إلا من جهة ما هي قوة غاذية. وهذا الاستعداد الذي يوجد في القوة الغاذية لقبول المحسوسات الذي هو الكمال الأول للحس ليس الموضوع القريب له شيئاً غير النفس الغاذية، وهذه القوة وهذا الاستعداد كأنه شيء ما بالفعل إلا انه ليس على كماله الأخير، فإن الحيوان النائم قد يرى أنه ذو نفس حساسة بالفعل.
ولذلك ما يشبه أرسطو هذه القوة بالقوة التي في العالم حين لا يستعمل علمه، لكن ليست هيِ بالقوة من جهة ما هي بالفعل. فإنما هي بالقوة شيئاً ما ليس هو شيئاً ما بالفعل مما هو قوي عليه، بل أن كان شيئاً ما بالفعل فلا من جهة ما هو قوي، إذ كان الفعل والقوة متناقضتين. لكن لما كانت القوة لا تعرى من الفعل لزم أن توجد إما فعل ما غير تام، وإما أن توجد مقترنة بصورة أخرى مغايرة للصورة التي هي قوية عليها من غير أن تكون هي في نفسها شيئاً، وإذا كانت القوة ذات صور فإما أن تكون الصورة التي في الموضوع مضادة للصورة الواردة فتفسد صورة الموضوع عند ورودها إما فساداً تاماً كالحال في صور البسائط، وإما فسادا ما غير محض كالحال في صور البسائط عند حلول صور المتشابهة الأجزاء فيها.
وإما أن لا تكون بينهما مضادة أصلاً ولا مغايرة بل مناسبة تامة، فيبقى الموضوع عند الاستكمال على حاله قبل الاستكمال، بل لا يمكن وجود الاستكمال إلا أن يبقى الموضوع على حاله قبل الاستكمال كالحال في القوة التي في المتعلم على التعلم، وهذه القوة التي هي فعل غير تام ليس يحتاج في وجودها إلى صورة هي موجودة إلا بالعرض، كالحال في النفس الغاذية مع الحسية التي هي الكمال الأول. وبين من هذا أن هذه القوة، أعني الكمال الأول للحس مباينة بالرتبة لتلك القوى التي تقدمت. إذ كان الموضوع لها نفس ما، ولذلك ما كان قبول هذه القوة كمالها الأخير عن المحرك لها ليس من جنس قبول القوى الهيولانية التي عددنا كمالاتها عن المحركين لها. فإن المحرك هنالك إنما يعطي الهيولى صورة شبيهة بالصورة الموجودة فيه وعلى الحال التي توجد فيه، ومثال ذلك أن النار إذا كونت ناراً أخرى وصيرتها بالفعل، فإنما يعطي ذلك الموضوع صورة شبيهة بصورتها ويكون حال وجودها في الهيولى هي هي بعينها حال وجود الصورة الفاعلة في هيولاها.
وأما قوة الحس فليمس الأمر فيها كذلك فإنه ليس موجود اللون مثلاً في هذه القوة هو بعينه وجوده خارج النفس، فإن وجوده في هيولاه خارج النفس وجود هو به منقسم بانقسام الهيولى.
وأما وجوده في القوة الحساسة فليس بمنقسم أصلاً بانقسام هيولاه، ولذلك أمكن أن يستكمل بالجسم الكبير جداً والصغير على حالة واحدة وبموضوع واحد، حتى يكون مثلاً الرطوبة الجليدية على صغرها تقبل نصف كرة الفلك وتؤديه إلى هذه القوة، كما تقبل صورة الجسم الصغير جداً ولو كان هذا الاستكمال منقسماً بانقسام الهيولى لم يكن ذلك فيه.
وأيضاً فإنا نجد هذه الصورة تستكمل بالمتضادين معاً في موضوع واحد، فنحكم عليهما كالقوة المبصرة التي تدرك السواد والبياض معاً. ولذلك يصير للمحسوسات بهذه القوة وجود أشرف مما كان لها في هيولاها خارج النفس. فإن معنى هذا الاستكمال ليس شيئاً غير وجود معنى المحسوسات مجرداً من هيولاه، لكن بوجه ما له نسبة شخصية إلى هيولى بها صار معنى شخصياً. وإلا كان عقلاً على ما سنبين بعد عند القول في القوة الناطقة، وهذا أول مرتبة من مراتب تجرد الصور الهيولانية فيه. فهذه القوة إذن هي القوة التي من شأنها أن يستكمل بمعاني الأمور المحسوسة، أعني القوة الحسية من جهة ما هي معان شخصية.
وبين مما قلنا أن مثل هذه الصورة الحسية كائنة فاسدة، إذ كانت توجد بالقوة تارة وبالفعل تارة، وما بالقوة من جهة ما هو بالقوة فهو حادث ضرورة، إذ كانت القوة هي أخص أسباب الحدوث. وأيضاً لو كانت أزلية لكان مثلاً هذا اللون موجوداً قبل وجوده فتكون الأعراض مفارقة، ولم يكن للمحسوسات غناء في الإدراك حتى كان يكون الإحساس في غيبتها وحضورها بحال واحدة، وهذا كله شنيع. وأيضاً فهي بوجه ما تستعمل آلة جسمانية إذ كان الموضوع الأول لها، أعني النفس الغاذية صورة في مادة ولذلك يلحقها الكلال ولا تتم فعلها إلا بأعضاء محدودة، فإن الإبصار إنما يكون بالعين والسمع بالأذن.
قوى النفس الحساسة
وإذا قلنا ما هي النفس الحساسة بإطلاق فقد ينبغي بعد هذا أن نصير إلى القول في واحدة واحدة من قواها. فنقول أن أقدم هذه القوى وجوداً بالزمان هي قوة اللمس ولذلك قد توجد هذه القوة معراة عن سائر الحواس، كما يوجد ذلك في الإسفنج البحري وغير ذلك مما هو متوسط الوجود بين النبات والحيوان، ولا توجد سائر القوى معراة منها وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه القوة أكثر ضرورية في وجود الحيوان من سائر قوى الحس، إذ لولا هي لكانت ستفسده الأشياء التي من خارج وبخاصة عند النقلة.
ثم من بعد هذه القوة قوة الذوق فإنها أيضاً لمس ما، وأيضاً فإنها القوة التي بها يختار الحيوان الملائم من الغذاء من غير الملائم.
ثم قوة الشم أيضاً إذ كانت هذه القوة أكثر ما يستعملها الحيوان في الاستدلال على الغذاء كالحال في النمل والنحل، وبالجملة فهذه الثلاث القوى هي القوى الضرورية أكثر ذلك في وجود الحيوان.
وأما قوة السمع والإبصار فموجودة في الحيوان من أجل الأفضل لا من اجل الضرورة، ولذلك كان الحيوان المعروف بالخلد لا بصر له.
ويجب قبل أن نشرع في القول في هذه الحواس أن نقدم من أمر المحسوسات ما يتوصل به إلى القول في واحدة واحدة من هذه القوى. فإنا، إنما نسير أكثر ذلك في هذا العلم كما قيل غير ما مرة من الأعرف عندنا إلى الأعرف عند الطباع. فنقول أن الأمور المحسوسة منها قريبة، ومنها بعيدة، والقريبة معدودة فيها بالذات، والبعيدة معدودة فيها بالعرض، والذي بالذات منها ما هي خاصة بحاسة حاسة ومنها مشتركة لأكثر من حاسة واحدة، فالخاصة هي مثل الألوان للبصر، والأصوات للسمع والطعوم للذوق، والرائحة للشم، والحرارة والبرودة للمس، وأما المشتركة لأكثر من خاصة واحدة فالحركة والسكون والعدد والشكل والمقدار.
أما الحركة والعدد فيدركهما جميع
الحواس الخمس
وذلك بين بن أمرهما وأما الشكل والمقدار فمشتركان للبصر واللمس فقط، والغلط إنما يقع أكثر ذلك للحواس في هذه المحسوسات المشتركة كمن يخيل إليه حين يسير في النهر أن الشطوط تتحرك، وأما المحسوسات بالعرض فمثل أن يحس أن هذا حي وهذا ميت، وهذا زيد وهذا عمرو، وهذه المحسوسات الغلط فيها أكثر منه في المشتركة، ولذلك قد يحتاج في تميزها أن يستعمل في ذلك اكثر من حاسة واحدة كما يستعمل ذلك الأطباء فيمن به انطباق العروق، فإنهم قد يقصدونه مرة ومرة يجعلون مرآة عند أنفه ليظهر لهم فيها أثر التنفس.
وإذ قد تبين ما هي المحسوسات الخاصة والمشتركة فلنبدأ أولاً بالقول في القوى التي تخص محسوساً محسوساً من المحسوسات الخاصة ثم نسير ذلك إلى القول في القوة التي محسوساتها مشتركة، وهي المعروفة بالحس المشترك، ولنبدأ على عادتهم من القول في البصر.
القول في قوة البصر
وهذه القوة هي التي من شانها أن تقبل معاني الألوان مجردة عن الهيولى من جهة ما هيِ معان شخصية، وذلك بين مما تقدم إذ كانت تدرك المتضادين معاً كما قلنا.
والذي بقي علينا من أمرها أن نبين كيف يكون هذا القبول وبأي شيء يكون، وبالجملة جميع الأشياء التي تتقوم هذا الإدراك فنقول لما كانت المحسوسات بعضها مماسة للحواس وملاقية لها كمحسوسات اللمس والذوق، وبعضها غير ملاقية ولا مماسة كالبصر والسمع والشم، وكانت المحسوسات هي المحركة للحواس والمخرجة لها من القوة إلى الفعل، والمحرك كما تبين إذا كان محركاً قريباً فإنما يحرك بأن يماس المحرك، وأن كان بعيداً فإنما يحركه بتوسط جسم آخر،، إما واحد وإما أكثر من واحد، وذلك بأن يحرك هو الذي يليه ثم يحرك ذلك الأخر الذي يليه إلى أن ينتهي التحريك إلى الأخير.
وأعني هاهنا بالتحريك التغير على العموم سواء كان في زمان أو لم يكن، كالحال في هذا التغير، فبالواجب ما احتاجت هذه الحواس الثلاث إلى متوسط به يكون قبولها للمحسوسات وليس بأية حالة اتفقت حتى يكون هو المتوسط، بل يلزم ضرورة أن يكون بحال يمكنه بها أن يقبل التحريك عن المحسوسات حتى تؤديه إلى الحواس، وليست هذه الحال شيئاً أكثر من أن يكون في نفسه عادماً لهذه المعاني التي يقبلها عن المحسوسات، حتى يكون لا لون له ولا رائحة وبكون قبوله لها بوجه مناسب لقبول الحاسة، أعني أن لا يكون قبوله هيولانياً بل بضرب من التوسط بين الهيولاني والروحاني، وهذا أيضاً أحد ما اضطر إلى وجود المتوسط، فإن الطبيعة إنما تفعل بتدريج، ولذلك كانت هذه المحسوسات إذا ألقيت على آلة الحس لم تدرك، وهذه حال الماء والهواء اللذين تدرك بتوسطهما هذه المحسوسات. فقد ظهر من هذا القول ضرورة احتياج هذه الثلاث الحواس إلى المتوسط، وبأي صفة ينبغي أن يكون على العموم، وإنه ليس يمكن أن يكون إبصار ولا واحد من هذه الإدراكات بانخلاء على ما كان يرى كثير ممن سلف من القدماء.
وينبغي أن نرجع إلى ما يخص الأبصار فنقول أن الجسم الذي شأنه أن يقبل اللون من جهة ما هو غير ذي لون هو جسم المشف من جهة ما هو مشف، وهذا القبول ضربان: إما قبول هيولاني. كالحال في الألوان في هيولاها، وإما قبول متوسط بين الهيولاني والروحاني كالحال في ارتسام الألوان في الهواء والماء. وهذا النحو من القبول هي الجهة التي بها يخدم هذان الأسطقسان الإبصار فقط. ولهذا السبب بعينه ما كانت آلة هذا الإدراك وهي العين الغالب على أجزائها الماء والهواء، لكن هذه الأجسام المشفة يظهر من أمرها أنها إنما تقبل الألوان حين هي مشفة بالفعل أي مستضيئة، ولذلك لا يمكن أن يبصر في الظلام وإنما تكون مشفة بالفعل عند حضور المضيء. فإذن إنما يتفق الأبصار بهذين الأسطقسين وبالضوء. لكن أما الجهة التي بها تخدم هذان الأسطقسان هذه القوة فقد تبينت وأما على أية جهة يفعل ذلك الضوء فقد ينبغي أن نبين ذلك بعد أن نلخص أولاً كم هي الأجسام المضيئة وما الضوء والمستضيئ.
فنقول أما الأجسام المضيئة بالتقديم فنوعان: الجسم الإلهي والنار، إلا أن ذلك بالذات للجسم الإلهي وبالعرض للنار ولذلك لم تكن مضيئة في مكانها. وقد يقال المضيء أيضاً بتأخير على كل ما من شأنه أن يقبل الضوء من غيره ثم يضيء هو في نفسه. وأحرى ما قبل له مضيء من هذا ما كان بحيث يجعل غيره مرئياً ولم تكن صورة بانعكاس، كالحال في القمر. وأما التي تضيء في نفسها فقط وليست تجعل غير مرئية فكثير من الأصداف التي تضيء بالليل والماء الذي يظهر على المجاذيف.
وليس ما قبل في هذه الأشياء أنها تضيء. من قبل أن لها طبيعة نارية بشيء كما حكى ذلك ثامسطيوس عن المعلم الاسكندر، لأن المضيِء إنما يوجد في الممتزج من جهة ما هو لون ولذلك ليست هذه ألواناً إلا باشتراك الاسم، وسنبين أكثر في كتاب الحس والمحسوس.
وأيضاً فقد يظهر من أمر هذه أنها بخلاف الألوان، إذ كانت إنما تبصره في الظلمة والألوان في الضوء فقط، حتى قيل أن خاصة اللون أن يحرك للمشف بالفعل والأولى بهذه أن يظن أنها تضيء من جهة أنها تقبل الانعكاس لأنها في طبيعة المرئي، وأن كان ليس يمكن أن تضيء غيرها، وعلى هذه الجهة ترى عيون كثيرة من الحيوان تضيء في الظلام، أو نقول أنه يتحلل عنها في الظلام بخار شأنه أن يعرض عنه مثل هذه الرؤية.
والفحص عن هذا ليس بلائق بهذا الموضع، فإن استقصاء القول في هذه الأشياء هو في كتاب الحس والمحسوس.
وأما الضوء فإنه لما كان غير جسم أصلاً بدليل انه مشع بكلية في كلية الأجسام المشفة ويحدث في غير زمان، ولم يمكن فيما هذا شأنه أن يفارق لم يكن الضوء شيئاً غير كمال المشف بما هو مشف. والمستضيئ هو الذي يقبل الضوء، والضوء إنما يفعل الإضاءة في المستضيئ إذا كان منه ذا وضع محدود وقدر محدود.
وهذا بين أن الإضاءة من الكمالات التي ليست منقسمة بانقسام الجسم، ولا حاصلة في زمان، لكن إذا كان هذا كله هكذا فعلى أي جهة ليت شعري يكون للضوء مدخل في تتميم هذا الإدراك.
وذلك يمكن أن يتصور على أحد وجهين: إما أن يكون الضوء هو الذي يعطي الجسم المتوسط الاستعداد الذي به يمكن أن يقبل الألوان فقط حتى تؤديها إلى الحاسة وهو الإشفاف بالفعل حتى يكون اللون إنما يحرك المشف من جهة ما هو مشف بالفعل، وتكون الألوان على هذا موجودة بالفعل في الظلام.
وبالقوة محركة للإبصار على جهة ما نقول في العالم إنه معلم بالقوة إذا لم يكن له متعلم أو تكون الألوان موجودة في الظلام بالقوة الحقيقية، حتى يكون الضوء هو المحرك لها من القوة إلى الفعل. فنقول إنه قد تبين في كتاب الحس والمحسوس أن اللون هو اختلاط الجسم المشف بالفعل، وهو النار مع الجسم الذي لا يمكن فيه أن يستشف وهو الأرض.
وإذا كان كذلك فاللون ضوء ما وهو يستكمل ضرورة على نحو ما بالضوء الذي من خارج وتقوى.
وقد يظهر ذلك من أنا متى نظرنا إلى الألوان الواحدة بعينها في الظل والشمس وعند مرور السحاب عليها وانكشافها رأيناها بألوان مختلفة في الزيادة والنقصان، وذلك مما يدل على أنها تستكمل بالضوء الذي من خارج استكمالاً ما، ولذلك ما قبل أن الضوء هو الفاعل للإبصار.
فقد تبين من هذا القول ما هي هذه القوة وبأي شيء تدرك وكيف تدرك.
وأما القول في مدركها وهي الألوان فأليق المواضع بذلك كتاب الحس والمحسوس
القول في السمع
وهذه القوة هي الِقوة التي شأنها أن تستكمل معاني الآثار الحادثة في الهواء من مقارعة الأجسام بعضها بعضاً المسماة أصواتاً، وهذا كله بين مما تقدم. فإما بأي شيء يكون هذا الإدراك وعما يكون والنحو الذي به يكون فنحن نقول فيه. أما الذي عنه يكون فهي مقارعة الأجسام بعضها بعضاً، لكن ليس عن أي جسم أتفق يحدث الصوت ولا بأي نوع أتفق، بل يحتاج في أن يكون القارع والمقروع كلاهما صلدان، وأن تكون حركة القارع إلى المقروع أسرع من تشذب الهواء. فإنا إذا أدنينا جسماً في غاية الصلابة من جسم آخر في غاية من الصلابة أيضاً برفق وبمهل لم يحدث عن ذلك صحوت له قدر، وكذلك أيضاً أن لم تكن الأجسام القارعة والمقروعة صلدة.
فإما أن لا يحدث صوت أصلاً، فأما أن حدث فبشدة حركة كما يعرض ذلك عن السياط التي يضرب بها، وقد تعين على حدوث الصوت أشكال المقروعات مثل أن تكون مجوفة أو عريضة، وسنبين سبب هذا كله.
وأما ما به يكون هذا الإدراك فهو الماء والهواء، وذلك انه قد تبين أن هذا المحسوس هو ضرورة من المحسوسات التي تدرك بمتوسط إذ كانت غير ملاقية للحاس، إلا أن الجهة التي بها يخدم هذا المتوسط واحداً واحداً من هذه الحواس غير الجهة التي بها يخدم الأخرى، وهي كلها يجتمع في أن هذا المتوسط يخدمها من جهة ما هو عادم للمعاني التي يقبل منها فيؤديها، إذ هذه هي صفة القابل وأن كانت تختلف جهات ذلك.
أما الجهة التي بها تخدم الأبصار فهو الإشفاف، وقد تبين ذلك.
وأما الجهة التي بها تخدم هذا الإدراك الذي هو السمع فهو سرعة في له للحركة والتشكل بها وأن تبقى الحركة فيه، وقد كف المتحرك ويبقى ذلك الشكل الحادث عنها فيه زماناً كالحال التي تعرض للماء عندما يلقى فيه بالحجر، فإن هذه الحال بعينها تعرض للهواء من القرع.
وقد قيل في غير هذا الموضع كيف تكون هذه الحركة في الماء والهواء. ولما كان المتوسط إنما يؤدي القرع بالحركة التي تعرض فيه وكانت كل حركة في زمان كان هذا الإدراك أيضاً في زمان بخلاف ما عليه الأمر في الأبصار. ولذلك ما يسمع الرعد بعد رؤية البرق والسبب الفاعل لهما واحد على ما تبين في الآثار.
فأما العلة التي من أجلها يكون الصوت عن الأجسام الصلدة فلأنها إذا تلافت بسطوحها لم يتطامن بعضها عن بعض فيطفو الهواء عنها بشدة، ولذلك ما كان منها أعرض كان صوته أعظم لأنه يلقى من الهواء أكثر.
وأما ذوات الأشكال المجوفة فالأمر في ذلك بين، وذلك أن الهواء يندفع من جوانبها مراراً كثيرة فيحدث هنالك الصوت طول لبث ومن هذا الجنس هو حدوث الصداء، وذلك أنه ليس شيئاً أكثر من انعكاس الهواء عن الجسم الذي يلقاه حافظاً لذلك الشكل الذي به عن القرع حتى يحرك الهواء المرتب في الأذنين الذي هو الآلة القريبة للسمع كما يقول أرسطو مرة ثانية، ومنزلة هذا الهواء من السمع منزله الرطوبة الجليدية من الإبصار، ويشبه أن يكون الأمر كما يقول ثامسطيوس انه ليس هاهنا قرع إلا ويحدث عنه انعكاس ما، ولولا ذلك لم يسمع الإنسان صوت نفسه، كما أنه ليس تحدث رؤية إلا عن انعكاس الشعاع. ولولا ذلك لم يبصر في الظل، لكن أليق المواضع بذكر هذه اللواحق وتفصيلها هو كتاب الحس والمحسوس. وكذلك أيضاً القول في ماهية التصويت الموجود للحيوان، وبأي شيء وجوده أليق المواضع بذكره هو ذلك الكتاب وكتاب الحيوان، وأن كان يظهر من قرب الفرق بينهما وبين الأصوات التي تحدث عن الأجسام، فإن التصويت وهو المسمى نغمة هو الذي يكون عن الحيوان بما هو حيوان، وذلك إنما يكون عن تخيل ما وشوق وبآلة محدودة وهي آلات التنفس.
والدليل على أن التصويت يحدث عن قرع آلات التنفس الهواء الذي به يكون التنفس إنا لا نقدر أن نتنفس ونصوت معاً، ولكون النغمة لا تحدث إلا عن تخيل لا يسمى السعال نغمة.
فأما الحيوانات التي تصوت وهي غير متنفسة كالحيوان المعروف بصرار الليل أو صرار الهواجر، فإنما يصوت بحرقة. فقد قلنا ما هي هذه القوة وما يدركها وبأي شيء يكون هذا الإدراك وكيف يكون.
القول في الشم
وهذه القوة هي القوة التي من شانها أن تقبل معاني الأمور المشمومة وهي الروائح، وليست فصول الروائح عندنا بينة كفصول الطعوم، وإنما نكاد أن نسميها من فصول الطعوم حتى نقول رائحة حلوة ورائحة طيبة، ولشبه أن تكون هذه الحاسة فينا اضعف منها في كثير من الحيوان كالنسر والنحل وما أشبههما من الحيوان القوي الشم. فأما ما به يكون هذا الإدراك فهما الأسطقسان الخادمان للحاستين المتقدمتين، أعني الماء والهواء، فان الحيتان قد يظهر من أمرها أنها تشم، وذلك أيضاً بين مما تقدم. وأما على أي جهة تخدمان هذه الحاسة فذلك يظهر إذا تبين ما هي الرائحة.
فنقول أن الرائحة إنما توجد لذي الطعم من جهة ما هو ذو طعم، وهو موضوعها الأول الذي هو بمنزلة السطح للون. ولذلك يستدل كثيراً من الرائحة على الطعم وذلك طاهر بالاستقراء.
وقد قيل في كتاب الحس والمحسوس أن الطعم هو اختلاط الجوهر اليابس بالجوهر الرطب بضرب من النضج يعتد به. فإذا كان ذلك كذلك فالرائحة إنما توجد للأجسام من جهة ما هي ممتزجة وليس لكل الممتزجة بل لممتزجات ما، وليس كذلك اللون والصوت. فإن لكل واحد منهما وجوداً في هيولاه ووجوداً في المتوسط.
وأما الرائحة فإنه يلزم أن يكون وجودها في المتوسط هو بعينه وجودها في موضوعها، إذ كانت تابعة ضرورة لذي الطعم والطعم بما هو طعم تابع للممتزج وما هذا شأنه فليس يقبل الماء والهواء قبولاً أولاً أعني بذاته، ولو كان ذلك كذلك لكانت. البسائط ذوات طعوم وذلك محال.
وإذا تقرر هذا فلم يبق وجه يخدم به هذا الإدراك المتوسط إلا بأن يحمل ما يتحلل من المشمومات من الجوهر الهوائي المناسب له حتى توصله حاسة الشم، كما يظهر ذلك بالحس من أمر كثير من ذوات الروائح، أعني إني مما إنما تشم عندما تفرك باليد أو تلقى في النار، وبالجملة عندما يتولد فيها مثل هذا البخار الذي شأنه أن يشم، ولذلك ما يحتاج ذوات الطعوم التي شأنها أن تشم في أن تكون مشمومة بالفعل إلى الحرارة التي من خارج كالمسك وغيره، وبعضها ليس يكتفي بذلك حتى يلقى في النار كالعود الهندي، وبعضها ليس يشم ذلك فيه بحرارة النهار للطافة جوهره بل بحرارة الليل، كالحال في الخيري، وتفصيل هذه في كتاب الحس والمحسوس.
ومن الدليل على أن المشموم من جنس البخار أن المتنفس من الحيوان إنما يشم باستنشاق الهواء وإدخاله، وقد يشهد لذلك أن الرياح تسوق الروائح التي تكون من ناحية جهتها وتعوق التي تأتي مقابلتها. فقد لملنا ما هي هذه القوة وما يدركها وبأي جهة يكون إدراكها.
القول في الذوق
وهذه القوة هي تدرك بها معاني الطعوم وقد تلخص قبل ما هي الطعوم، وهذه القوة كأنها لمس ما إذ كانت إنما تدرك محسوسها بوضعه على آلة الحاسة. ولذلك ما يرى الاسكندر أن هذه القوة ليست تحتاج إلى متوسط على ما سيظهر من أمر اللمس، إلا أنا نجد هذه القوة التي آلتها اللسان إنما تدرك الطعوم بتوسط الرطوبة التي في الفم وبخاصة الأشياء اليابسة، وذلك انه يعرض لمن عدم هذه الرطوبة ألا يدرك الطعوم، وأن أدركها فبعسر. وكذلك يعرض لمن فسدت هذه الرطوبة في فمه بانحرافها نحو مزاج ما أن يجد الطعوم كلها على غير كنهها.
وبالجملة فيظهر أن أحد ما يتقوم به إدراك هذه الحاسة هو هذه الرطوبة، ولذلك جعلت النغانغ دائماً لتوليد هذه الرطوبة وجعل لها فيها مسلكان مفضيان إلى اصل اللسان، فمن هذه الأشياء كلها قد نظن أيضاً أن هذه الحاسة إنما تدرك محسوساتها بمتوسط وهي هذه الرطوبة، وقد صرح بذلك أبو بكر بن الصائغ في كتابه في النفس وثامسطيوس.
وينبغي أن ننظر في ذلك فنقول أن الحاجة إلى المتوسط قد تبين فيما سلف أنها أحد أمرين: إما أن يكون المتوسط هو الذي يؤدي تحريك المحسوس لآلة الحاسة لكون المحسوس غير مماس لها، كالحال في المحسوسات الثلاث التي ير الألوان والأصوات والروائح. وإما أن تكون الضرورة الداعية إلى المتوسط لا في هذه فقط بل في أن يكون وجود الصور المحسوسة فيه بضرب من التوسط بين وجودها الهيولاني المحض وبين وجودها في النفس، كالحال في الألوان.
وإذا كان هذان هما جهتا ضرورة الحاجة إلى المتوسط فبين أن الذوق ليس يحتاج إلى المتوسط بالمعنى الأول، وهو أشهر المعاني الداعية إلى التوسط، إذ كان المحسوس منها بتحرك آلة الحس بمماسة لها.
وأما الجهة الثانية من جهتي الحاجة إلى المتوسط ففي إيجابها لهذه الحاسة موضع نظر، فإنه قد نظن أنه إنما يمكن تصور هذا النحو من المتوسط في لوجود للمحسوسات التي يقبلها المركب والبسيط كالألوان التي يقبلها الهواء بضرب من التوسط بين وجودها الهيولاني وبين وجودها في النفس. وكذلك يشبه أن يكون الأمر في الحركة التي في الهواء والحركة التي هي في نفس القارع والمقروع في حاسة السمع، ولذلك ما نرى الحركتين المتضادتين في الماء عن وقع الحجارة فيه ليس تتعاوق الدوائر الحادثة عنها.
وأما المحسوسات التي يقبلها الجسم المركب فقط، أعني الممتزج فإما أن لا توجد لها الحاجة إلى هذا المعنى من التوسط، وأما أن وجد لها فبجهة أخرى، وكانت حاجة هذه إلى المتوسط مع حاجة تلك مع هذه بضرب من التشكيك. ولذلك الأشبه أن نقول في هذه الرطوبة أنها إنما تعين على هذا الفعل من جهة انه يعرض للمطعومات اليابسة أن تترطب بها بضرب من النضج يعتريها في الفم، ولذلك نجد اللوك والمضغ يعين على درك كثير من المطعومات، وبخاصة التي إنما ندركها بعد لبثها في الفم، والحال في هذه كالحال في بعض المشمومات التي تدرك بالفرك، وكان هذين الصنفين من المطعومات هي محسوسة بالقوة.
وأما المطعومات التي هي رطبة بالفعل فإما أن لا تحتاج إلى هذه الرطوبة في الفم، وأما إن احتاجت فحاجة يسيرة، ولذلك الأولى أن نقول في هذه الرطوبة إنها من بعض آلات الإدراك للذوق من أن نقول إنها متوسطة وأن هذه الحاسة مما تحتاج إلى متوسط. ونطلق القول في ذلك كإطلاقه في البصر والسمع والشم.
ولهذا نرى أن الإسكندر فيما قال أحفظ لوضعه، إذ كان الأشهر من حاسة المتوسط إنما هو أن يكون المحسوس غير ملاق لآلة الحس، وذلك أنه لما كان الأفضل في حفظ بقاء الحيوان أن لا يحس فقط بالمحسوسات التي يماسه بل وبالمحسوسات التي من خارج وعلى بعد منه ليتحرك نحوها أو عنها بالضرورة ما كانت الحاجة في هذه ماسة إلى متوسط.
ولما كانت هذه الآلة إنما تدرك الطعم من جهة ما هو رطب أو مترطب كان ما هو بالقوة شيء ما واجب فيه أن لا يكون بالفعل شيء من ذلك الذي هو قوي عليه كانت آلة هذا الإدراك يابسة.
ولما كانت هذه الرطوبة التي تترطب بها المحسوسات اليابسة حتى تدركها هذه الحاسة هي كالموصل بوجه ما بالواجب ما لزم فيها أن يكون غير ذات طعم في نفسها، وإلا لم تتأدبها الطعوم إلى الحاسة على كنهها كما يعرض ذلك للمرضى، وهذا من فعل هذه الرطوبة أقرب ما تشبه به إلى المتوسط.
ولما كانت هذه الحاسة وحاسة الإبصار يدركان محسوساتهما في موضوعاتهما الأول اشتركتا في إدراك الشكل والمقدار.
وأما حاسة السمع والشم فلما كانت تدرك محسوساتها وقد انفصلت عن موضوعاتها الأول لم يوجد لها هذا المحسوس المشترك والقول في هذه الأشياء على الاستقصاء يستدعي قولاً أبسط من هذا بكثير. لكن قولنا جرى في هذه الأشياء بحسب الأمر الضروري فقط، وأن فسح الله في العمر وجلى هذه الكرب فسنتكلم في هذه الأشياء بقول أبين وأوضح وأشد استقصاء من هذا كله، لكن القدر الذي كتبناه في هذه الأشياء هو الضروري في الكمال الإنساني وبه يحصل أول مراتب الإنسان. وهذا القدر لمن أتفق له الوقوف عليه بحسب زماننا هذا كثير، فقد قلنا ما هي هذه القوة وما آلتها وبأي جهة تدرك محسوساتها.
وأما القول في الطعوم وتفصيلها فأليق المواضع بذلك هو كتاب الحس والمحسوس.
القول في اللمس
وهذه القوة هي القوة التي من شأنها أن تستكمل بمعاني الأمور الملموسة، والملموسات كما قيل في كتاب الكون والفساد إما أول وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة، وإما ثوان وهي المتولدة عن هذه كالصلابة واللين، وهذه القوة لما كانت إنما تدرك هذه الملموسات على نحو ترتيبها في وجودها فهي تدرك الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة أولاً وبالذات، وتدرك الكيفيات الأخر المتولدة عن هذه بتوسط هذه، ولهذه العلة بعينها لزم من تكون هذه القوة تدرك أكثر من تضاد واحد بخلاف ما عليه الأمر في البصر والسمع. وذلك أنه لما كانت إنما تدرك هذه الملموسة على نحو كنهها في وجودها وكانت كل واحدة من هذه الكيفيات تقترن به كيفية أخرى كالحرارة التي تقترن بها اليبوسة والرطوبة كان إدراكها لهذه القوى معاً. وأيضاً فإن القوى المنفعلة فيها، أعني الرطوبة واليبوسة لما كانت كالهيولى للقوى الفاعلة، أعني الحرارة والبرودة والفاعلة لها كالصورة، كان من الواجب أن تكون هذه القوى تدركها معاً. ولو كان إدراك الحرارة والبرودة بقوة واحدة والرطوبة واليبوسة بقوة أخرى لم تدرك ولا واحدة منها هذه المتضادات على كنهها، وليس كذلك الأمر في السمع والبصر. فإن حاسة البصر إنما تدرك تضاداً واحداً وهو الأبيض والأسود من جهة أنه ليس يقترن بذلك تضاد آخر وكذلك الحال في إدراك السمع الثقيل والخفيف، وقد تدرك غير هذه الحاسة أكثر من تضاد واحد، وهو المتضادات الموضوعة لمحسوسها الأول كإدراك السمع الخشن والأملس الذي هو موضوع الصوت، ومثال إدراك البصر البراق ولا براق اللذين موضوعهما الأبيض والأسود.
وبهذه ينحل الشك الذي يظن به أن هذه القوة أكثر من قوة واحدة أن كانت تدرك أكثر من تضاد واحد.
وقد يظهر ذلك أيضاً إذا تبين أن آلة هذه القوة واحدة وذلك أن أحد ما تتعدد به هذه القوى هي آلتها، إذ كنا نرى ضرورة أن القوة الواحدة لها آلة واحدة وأن هذا منعكس. ولذلك ما ينبغي أن نفحص أولاً ما هذه الآلة وهل هي واحد أو كثير، فإنه ليس الأمر في ذلك بيناً كبيانه في الحواس الأخر وإن كان هذا الفحص أليق بكتاب الحيوان.
فنقول إنه مما تبين في ذلك الكتاب أن الأعضاء آلة للنفس وإنها إنما اختلفت خلقها لاختلاف أفعال النفس، حتى تكون العين مثلاً إنما وجدت مركبة من ماء وهواء من أجل الإبصار، وهذا بين في الأعضاء المركبة وهي التي لعس تشبه أجزاؤها بعضها بعضاً.
وأما الأعضاء البسيطة وهي التي أَجزاؤها لشبه بعضها بعضاً فيظهر في كثير منها إنما كونت من أجل المركبة كاليد التي تأتلف من عظام وأوتار وغير ذلك، وقد يظهر أيضاً في بعضها أنها إنما وجب أن تنقسم إلى بسيط ومركب من اجل انقسام قوى النفس، وذلك أن القوى الأربع التي تقدم ذكرها إنما توجد في أعضاء آلية.
وأما حس اللمس فلما كان شائعاً في جميع الجسد ومشتركاً لجميع الأعضاء وجب ضرِورة أن يكون العضو الذي يخصه مشتركاً بسيطا غير آلي. ولما كانت أيضاً هذه القوة ليس يخلو منها حيوان لزم ضرورة أن لا يخلو حيوان من هذا العضو، وليس في الحيوان شيء يرى أنه بهذه الصفة غير اللحم، وذلك انه العضو الذي يرى أنا إذا غمز ناعليه أحسسنا مع أنه مشترك لجميع الحيوان.
ومن هنا ينحل الشك الذي نظن به أن اللحم لعلة ليس بآلة هذه القوة، وأن منزلته منزلة المتوسط، كما يظهر ذلك من قول ثامسطيوس وأرسطر في كتابه في النفس بخلاف قوله في كتاب الحيوان. فإنه كما قيل ليس في وجود اللحم يحس بالأشياء التي تلقاه كفاية في أنه آلة هذا الإدراك، بل لعل الآلة تكون من داخله ويكون هو كالمتوسط. فإنا لو لبسنا الحيوان جلداً ثم غمزنا عليه وجدناه يحس.
وذلك انه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان وما قلناه أيضاً من أن آلة هذه القوة يجب أن تكون بسيطة ومشتركة لجميع الحيوان، وأضيف إلى هذا ما يظفر بالتشريح، وهو أنه ليس يوجد في جسد الحيوان عضو بهذه الصفة يرى أنه يحس غير اللحم تبين باضطرار أن آلة هذا الحس هي اللحم.
فأما الأعصاب التي يرى جالينوس أنها آلة الحس فهي إذا كانت ذات شكل وتجويف محسوس في بعضها، كالحال في العروق، فهي أقرب أن يكون إليه منها أن تكون بسيطة كاللحم. وأيضاً فليست مشتركة لجميع الجسد، ولو كان الأمر كما ظن لما كان يحس بجميع أجزاء اللحم الحيوان، لكن إذا تؤمل الأمر فيها وجد لها مدخل في وجود الحس بوجه ما، وذلك أنا إذا وضعنا ما يظهر بالتشريح من أن كثيراً من الأعضاء إذا اعتل العصب الذي يأتيها أو انقطع عسر حسها.
وأضفنا إلى هذه أن الطبيعة لا تفعل شيئاً باطلاً وإن كان هذه الأعصاب لمكان فعل ما أو انفعال، أعني من أفعال النفس أو انفعالاتها ظهر من مجموع هذا أن العصب له مدخل ما في وجود الحس، وذلك أن استعمال طريقة الارتفاع مجردة في استنباط أفعال هذه الأعضاء. قد تبين في علم المنطق اختلاله على ما من عادة جالينوس أن يستعمل ذلك، وكثير ممن سلف من المشرحين، لكن أن كان ولا بد للعصب "من" مدخل في وجود الحس فعلى أي جهة ليت شعري يكون ذلك. فنقول إنه إذا تحفظ بما تبين في كتاب الحيوان أن الموضوع الأول لهذه القوة ولسائر قوى الحس هي الحرارة الغريزية التي هي في القلب بذاتها وفي سائر الأعضاء بما يصل إليها من الشرايين النابتة من القلب، وأن الدماغ إنما وجد لأجل تعديل هذه الحرارة الغريزية في آلة الحس، وذلك أنه ما كان يمكن أن تدرك هذه القوة الأشياء الخارجة عن الاعتدال إلى الكيفيات المفرطة إلا أن تكون آلتها في غاية من التوسط والاعتدال، حتى تدرك الأطراف الخارجة عنها وهذه حال اللحم، ولذلك كلما كان اللحم اعدل كان أكثر حساً كما نرى ذلك في حس باطن الكف، والعصب بعيد مزاجه من مزاج المتوسط ولذلك كان حسه عسيراً إذ كان بارداً يابساً.
وبهذا تبين أن الدماغ ليس هو ينبوع فذه الحاسة كما اعتقد جالينوس، وإنما هو ينبوع القوى المعتدلة، وإنما احتيج في آلة هذه الحاسة أن تكون معتدلة بين أطراف الكيفيات، لأنه لم يتفق فيها أن يكون خلواً من المحسوسات. التي تدركها ولا موجودة فيها بالقوة المحضة، كما اتفق في آلة الإبصار أن كانت خلوا من الألوان، وكذلك لسائر القوى الأربع. وإنما كان ذلك كذلك لأن هذه الآلة إنما صارت آلة لهذا الإدراك من حيث هي ممتزجة والممتزج لا بد فيه من وجود الكيفيات الأربع.
وأما منفعة هذا التبريد الذي للدماغ في حاسة حاسة فقد فحص عنه في كتاب الحيوان، وإذا وضعنا هذا كله هكذا وأضفنا إلى هذا أن العصب إنما ينبت من الدماغ لأنه شبيه بجوهره، حصل منِ مجموع هذا كله أن اللحم إنما يحس بالحرارة الغريزية التي فيه حساً تاماً.
فأما إذا تعدلت حرارته بالأعصاب الواصلة إليه من الدماغ ويشبه أن تكون هذه الأعصاب إنما هي موجودة في الحيوان الكامل من اجل الأفضل وإلا فالحيوان الضعيف الحرارة كالحيوان المخزز وما أشبهه فإنه لا غناء لوجود هذه الأعصاب فيه، وبخاصة في الحيوان الذي ليس يوجد له من قوى الحس غير هذه القوة كالإسفنج البحري وغير ذلك.
ولذلك نرى كثيراً منِ الحيوانات التي ليست أعضاؤها كثيرة الآلية إذا فصلت تبقى زماناً تتحرك وتحس الأجزاء المقطوعة فيها بخلاف الحال في الحيوان الكثير الأعضاء الآلية، بل يكفي في وجود كثير من هذه الحيوانات وجود القلب والدماغ فقط أو ما تنزل منزلتها. وقد جمح بنا القول عما قصدنا له، إذ كان الفحص عن هذه الأشياء أليق المواضع به كتاب الحيوان، فقد تبين من هذا القول ما آلة هذه القوة، وأما أن هذه القوة ليست تحتاج في إدراكها إلى متوسط فهو بين مما قلناه فيما سلف أن المتوسط إنما احتيج إليه في الحواس لأحد أمرين: أحدهما تكون المحسوسات غير ملاقية لآلة الحس. والثاني لمكان الترقي من الوجود الهيولاني إلى الوجود الروحاني، إذ كانت الطبيعة إنما تصير إلى الأضداد أبداً بمتوسط وهذه القوة من جهة أن محسوساتها إنما تحس بها وهي ملاقية لآلتها، لم تحتج إلى متوسط بهذه الجهة، ومن جهة أيضاً أن آلتها إنما تقبل هذه المحسوسات قبولاً هيولانياً، وذلك أنها تسخن وتبرد ولم تحتج إلى المتوسط بالمعنى الثاني.
فأما ما يراه ثامسطيوس ويعطيه ظاهر كلام الحكيم من أن هذه الحاسة وأن كانت تلقى محسوساتها وتماسها فإنه ليس يمكن أن تتماس وليس بينهما هواء أصلاً، كما ليس يمكن السمك ينعاش في الماء دون أن يكون بينهما ماء، ويجعل هذا حجة على أن هذه الحاسة قد تحتاج بوجه ما إلى المتوسط الذي من خارج، فيشبه أن كان الأمر على هذا ولا بد أن يكون ذلك لاحقاً لحق هذه الحاسة، لا أن ذلك أحد ما يتقوم به هذا الحس. فقد تبين ما هذه القوة وما محسوساتها وأي آلة آلتها وأنها ليست تحتاج إلى متوسط بالجهة التي تحتاج إليها الحواس الأخر.
وقد نرى مع هذا أن هذه القوة تدرك تضاداً آخر ليس منسوباً إلى المتضادات الأربعة، وهو الثقل والخفة، وليس ذلك شيئاً اكثر من أنها تدرك التحريك المضاد للقوة المحركة الموجودة في الحيوان. ولذلك تحس بالكلال والإعياء. وقد يظن أن الثقل والخفة من المحسوسات المشتركة، وذلك إنا قد نحسه بمتوسط إحساساً بالحركة، والحركة كما قيل من المحسوسات المشتركة، لكن من جهة أن سائر الحيوان وأن كانت تدرك الثقل والخفة فكثيراً ما نغلط فيه. إذ كنا نظن بالبطيء الحركة أنه ثقيل وبالسريع الحركة أنه خلاف ذلك، وربما كان الأمر بالعكس، ولذلك قد نرى أنها لها مشتركة. وأما حس اللمس فهو يدرك هذه المتضادة من غير غلط لاحق له في إدراكها، فكان جهة إدراكها له غير الجهة التي يدركها سائر الحواس، ولذلك قد نرى أيضاً انه خاص بها.
وبالجملة ليس يخلو الأمر فيه إما أن يكون من المحسوسات المشتركة لكن يكون مع هذا حاسة اللمس أصدق في تميزه أو يكون من جهة خاصة لهذه الحاسة ومن جهة مشتركاً. فإن الجهة التي بها يدرك أيضاً سائر الحواس الثقل والخفة وقد ندركها من تلك الجهة حاسة اللمس ويعرض لها الغلط فيه كما يعرض لتلك وهي السرعة والبطوء.
وأما الجهة الخاصة التي منها لدرك هذه القوة المتضادة، وهي جهة إحساسها بالميل المحرك فليس يعرض لها فيه غلط أصلاً لكن هذه المضادة، أعني الثقل والخفة لما كانت أيضاً من جهة ما مشتركة للملموسات قد نرى أنه ليس، ينبغي أن نجعل القوة المدركة لها قوة أخرى غير قوة اللمس، حتى تكون قوة سادسة. وأيضاً فإن الآلة التي بها تدرك هذه القوة الحرارة والبرودة والثقل والخفة هي آلة واحدة، وقد قلنا أن أحد ما يكون به القوة واحدة هي أن تكون آلتها واحدة. فأما تفرق الاتصال فليس جنساً آخر من الحس على ما يراه ابن سينا ولا هاهنا محسوسات غير هذه التي عددناها، وإنما تحس هذه القوة، أعني قوة اللمس الأذى اللاحق عن تفرق الاتصال بما يحدث عنه من الحرارة واليبوسة التابعين لحركة الجسم الذي يفرق الاتصال ولذلك كلما كانت الأجسام التي تفعل ذلك ألطف وأقل خشونة كان تفرق الاتصال أقل حساً، وكلما كانت أغلظ وأخشن كان الأمر بالعكس..
وابعد من هذا كله ما يراه جالينوس من أن هذه القوة إنما تدرك محسوساتها الخاصة بها بتوسط إدراكها تفرق الاتصال، فإن التفرق ضد الاتحاد، وهذه هي من المحسوسات المشتركة ونفس التفرق ليس يحدث عنه وجع كما ظنه جالينوس، لكن الأمر في هذا كما قلناه بعكس ما ظن جالينوس، وجالينوس نفسه نجد يسلم هذا المعنى في موضع آخر، وذلك عند شرحه قول أبقراط أنه لو كان الجسم مؤلفاً من أشياء من طبيعة واحدة لما كان يألم عندما يغمز بشيء تفرق أجزاءه، وإذا كان ذلك كذلك فإذن تفرق الاتصال إنما يحس من جهة الاستحالة التي تعرض للمركب المتصل من جهة الجسم المفرق لاتصاله، وذلك من جهة الضدية الموجودة فيه. فقد قلنا ما هذه القوة وما محسوساتها، وبالجملة ما به تتقوم بأوجز ما أمكننا فلنسر إلى القول في الحس المشترك.
القول في الحس المشترك
وهذه القوى الخمس التي عددناها يظهر من أمرها أن لها قوة واحدة مشتركة، وذلك أنه لما كانت هاهنا محسوسات لها مشتركة فهاهنا إذن لها قوة مشتركة بها تدرك المحسوسات المشتركة، سواء كانت مشتركة لجميعها كالحركة والعدد أو لاثنين منها فقط كالشكل والمقدار المدركان بحاسة البصر وحاسة اللمس.
وأيضاً فلما كنا بالحس ندرك التغاير بين المحسوسات الخاصة بحاسة حاسة حتى نقضي مثلاً على هذه التفاحة أنها ذات لون وريح وطعم وأن هذه المحسوسات متغايرة فيها، وجب أن يكون هذا الإدراك لقوة واحدة، وذلك أن القوة التي نقضي على أن هذين المحسوسين متغائرين هي ضرورة قوة واحدة، فإن القول بأن القوة التي بها ندرك التغاير بين شيئين محسوسين ليست بقوة واحدة بمنزلة القول بأني أدرك المخالفة التي بين المحسوس الذي أحسسته أنا والمحسوس الذي أحسسته أنت وأنا لم أحسه وهذا بين بنفسه. وقد يوقف أيضاً على وجود هذه القوة من فعل آخر هاهنا ليس يمكننا أن ننسبه إلى واحد من الحواس الخمس، وذلك أنا نجد كل واحد من هذه الحواس تدرك محسوساتها وتدرك مع هذا أنها تدرك فهي تحس الإحساس، وكان نفس الإحساس هو الموضوع لهذا الإدراك، إذ كانت نسبته إلى هذه القوة نسبة المحسوسات إلى حاسة حاسة، ولذلك لسنا نقدر أن ننسب هذا الفعل إلى حاسة واحدة من الحواس الخمس، وإلا لزم أن تكون المحسوسات أنفسها هي الاحساسات أنفسها، وذلك أن الموضوع مثله للقوة الباصرة إنما هو اللون والموضوع لهذه القوة هو نفس إدراك اللون فلو كان هذا الفعل للقوة الباصرة لكان اللون هو نفس إدراكه وذلك محال، فإذن باضطرار ما يلزم عن هذه الأشياء كلها وجود قوة مشتركة للحواس كلها هي من جهة واحدة أو من جهة كثيرة، أما كثرتها فمن جهة ما تدرك محسوساتها بآلات مختلفة وتتحرك عنها حركات مختلفة، وأما كونها واحدة فلأنها تدرك التغاير بين الإدراكات المختلفة، ولكونها واحدة تدرك الألوان بالعين والأصوات بالأذن، والمشمومات بالأنف، والمذاقات باللسان، والملموسات باللحم، وتدرك جميع هذه بذاتها وتحكم عليها، وكذلك تدرك جميع المحسوسات المشتركة بكل واحدة من هذه الآلات فيدرك العدد مثلاً باللسان والأذن والعين واللحم والأنف، وهي بالجملة واحدة بالموضوع كثيرة بالقول وواحدة بالماهية كثيرة بالآلات، والحال في تصور هذه القوة واحدة من جهة وكثيرة من أخرى، والحال في الخطوط التي تخرج من مركز الدائرة إلى محيطها فإن هذه الخطوط كثيرة بالأطراف التي تنتهي إلى المحيط واحدة بالنقطة التي تجتمع أطرافها عندها وهي المركز، وكذلك هذه الحركات التي تكون عن هذه المحسوسات ير من جهة المحسوسات والآلات كثيرة، وهي من جهة أنها تنتهي إلى قوة واحدة واحدة.
وهذا المثال قد جرت عادة المتكلمين في النفس من أرسطو ومن دونه من المفسرين أن يأخذوه في تفهم وجود هذه القوة، وهو وإن كان من جنس التعليم الذي يؤخذ فيه في تفهم جوهر الشيء بدل الشيء، وذلك إما شبيه كما فعل هاهنا أو غير ذلك وهو التعليم الشعري. فليس ذلك بضار إذا تقدم فعرف جوهر هذه القوة وعلمت الجهة التي بها وقعت المحاكات بينهما، وكان هذا النحو من التعليم إنما يدخل في التعليم البرهاني في الأشياء التي تصعب على الذهن أن يتصورها أولاً بذاتها، فتؤخذ أولاً في تفهيمها بدل جوهر الشيء تلك الأشياء على جهة التوطئة إلى أن ينتقل الذهن من محاكي الشيء إلى الشيء بعينه لأن المقصود من ذلك تصور الشيء بما يحاكيه فقط، كما نفصل ذلك بداية في التعليم الشعري.
فأما جوهر هذه القوة ما هو وأي وجود وجوده فذلك بين مما قلنا في الحس بإطلاق، وذلك إنا قد كنا عرفنا هنالك مرتبة هذه القوة من سائر القوى الهيولانية وعرفنا أن قبولها للمحسوسات ليس قبولاً هيولانياً، وبهذا صح لها أن تدرك المتضادات معاً في أن واحد وبقوة غير منقسمة. فهذا هو القول فيما يخص واحداً واحداً من هذه الحواس الخمس، وكيف يخصها، وفيما يشترك وكيف يشترك.
فأما أنه ليس يمكن أن توجد حاسة سادسة فذلك ظاهر من جهات: أحدها أنه لو كان هاهنا حاسة أخرى غير هذه الخمس لكان هاهنا محسوس آخر وهو بين بالتصفح أن المحسوسات الخاصة هي الخمسة فقط، وذلك أن المحسوسات ضرورة إما أن تكون ألواناً أو أصواتاً أو طعوماً أو روائح أو ملموسات أو ما يتبع هذه ويدرك بتوسطها وير المحسوسات المشتركة، وإذا كان هذا بينا بنفسه ولم يكن هاهنا محسوس آخر فليس هاهنا قوة حسية أخرى.
وأيضاً لو كان هاهنا حاسة أخرى لكانت هاهنا آلة أخرى ومتوسطات آخر أن فرضنا هذه الحاسة غير ملاقية لمحسوسها، وذلك أنه يظهر بالتصفح أنه لم يبق في هذه المتوسطات جهة تخدم بها محسوساً آخر غير الجهات التي سلفت، ولا يمكن أن تدرك بآلة واحدة محسوسين مختلفين. فإن الآلة الواحدة كما قلنا لمحسوس واحد، وإذا كان هذا هكذا ألزم أن وجدت هاهنا حاسة أخرى أن توجد آلة أخرى فقط أن فرضناها ملاقية لمحسوسها أو آلة أخرى ومتوسط أن فرضناها غير ملاقية لمحسوساتها. وإذا كان أيضاً يظهر بالتأمل انه ليس يتأتى هاهنا وجود آلة أخرى ولا هاهنا متوسط آخر فبين أنه ليس يمكن أن توجد هاهنا حاسة أخرى. فأما من أن يظهر إنه لا يمكن أن توجد هاهنا آلة أخرى ولا متوسط آخر تقدم، وذلك أنه ليس يوجد متوسط آخر غير الماء والهواء، وذلك أن الأرض بجساوتها لا يمكن. فيها أن يكون متوسطاً والنار لا يمكن أن يوجد فيها حيوان فضلاً عن أن يكون متوسطاً، وكذلك لا يمكن أيضاً أن توجد آلة أخرى. وذلك أن كل آلة إما أن تكون مركبة من ماء كالعين، وهواء كالحال في الأذنين، أو ممتزجة على غاية الاعتدال من الأسطقسات الأربعة على ما هو عليه اللحم. فإن الآلة بوجه ما يجب أن تكون مناسبة للمتوسط.
وقد يظهر ذلك أيضاً من انه أن وجدت هاهنا حاسة أخرى فتوجد لحيوان آخر غير الإنسان فيوجد للأنقص ما ليس يوجد للأكمل، ولذلك كانت الحواس على القصد الأولى من اجل القوى التي هي كمالات لها وبخاصة النطق على ما سنبين من أمره، وقد تلخص في كتاب الحيوان كيف نسبة الأعضاء التي توجد للحيوان من غير أن توجد هي بأعيانها للإنسان إلى الأعضاء. التي تقوم مقامها في الإنسان، وأن مثل هذه الأعضاء وجودها في الإنسان بوجه اشرف كالخرطوم للفيل، والجناح للطائر فإن اليد في الإنسان أتم فعلاً من هذه واشرف، وقد توجد تتلو هذه القوة، أعني قوة الحس في الحيوان الكامل وهو الذي يتحرك إلى المحسوس بعد غيبته عنه أو يتحرك إليه قبل حضوره قوة أخرى، وهي المدعوة بالتخيل، وينبغي أن نقول فيها.
القول في التخيل
وهذه القوة ينبغيِ أن نفحص من أمرها هاهنا عن أشياء أولها عن وجودها، فإن قوماً ظنوا أنها القوة الحسية بعينها، وقوماً ظنوا بها أنها قوة الظن، وقوم رأوا أنها مركبة منهما، ثم هل هي من القوة التي توجد تارة قوة وتارة فعلاً، وأن كان الأمر كذلك فهي ذات هيولى، فما هي هذه الهيولى وأي مرتبة مرتبتها، وما الموضوع لهذا الاستعداد والقوة، وأيضاً فما المحرك لها والمخرج من القوة إلى الفعل.
فنقول أما أن هذه القوة مغايرة للقوة الحسية فذلك يظهر عن قرب، وذلك انهما وأن اتفقتا في أنهما يدركان المحسوس فهما يختلفان في أن هذه القوة تحكم على المحسوسات بعد غيبتها، ولذلك كانت أتم فعلاً عند سكون فعل الحواس كالحال في النوم، وأما في حال الإحساس فإن هذه القوة يكاد أن لا يظهر لها وجود، وأن ظهر فيعسر ما يفترق من الحس، ومن هذه الجهة نظن أن هذه القوة ليست توجد لكثير جمن الحيوان كالدود والذباب وذوات الأصداف، وذلك إنا نرى هذا الصنف من الحيوان لا يتحرك إلا بحضور المحسوسات، ويشبه أن يكون هذا الصنف، إما أن لا يوجد له تخيلاً أصلاً وأن وجد فغير مفارق للمحسوس، والفحص عن هذا يكون عند النظر في القوة المحركة للحيوان في المكان. وقد تفارق أيضاً هذه القوة قوة الحس،. فإنا كثيراً ما نكذب بهذه القوة ونصدق بقوة الحس، ولا سيما في محسوساتها الخاصة ولذلك ما تسمى المحسوسات الكاذبة تخيلاً.
وأيضاً فقد يمكننا أن نركب بهذه القوة أموراً لم نحس بها بعد بل إنما أحسسناها مفردة فقط كتصورنا غزايل والغول وما أشبه ذلك من الأمور التي ليس لها وجود خارج النفمس، وإنما تفعلها هذه القوة ويشبه أن يكون هذا من فعل هذه القوة خاصاً للإنسان. وسنبين في كتاب الحس والمحسوس الأمور التي بها يباين الإنسان سائر الحيوان في هذه القوى وحيوان حيواناً، والأمور التي فيها تشترك وأيضاً فإن نحس من الأمور الضرورية لنا وليس كذلك التخيل بل لنا أن نتخيل الشيء وأن لا نتخيله، وهذا أحد ما تفارق به هذه القوة قوة الظن. وذلك أن الظن ضروري لنا، وقد تفارقها أيضاً من أن الظن إنما يكون أبداً مع تصديق، وقد يكون تخيل من غير تصديق مثل تخيلنا أشياء لم نعلم بعد صدقها من كذبها وإذا لم تكن هذه القوة ولا واحد من هاتين القوتين، أعني قوة الحس والظن فليس يمكن فيها أن تكون مركبة منهما كما رأى ذلك بعضهم، لأن المركب من الشيء إذا لم يكن على جهة الاختلاط يلزم فيه ضرورة أن، تحفظ خواص ما تركب منه.
وكذلك يظهر هاهنا من قرب أن هذه القوة ليست عقلاً إذ كنا إنما نصدق أكثر ذلك بالمعقولات، ونكذب بهذه القوة. والفرق بين التصور النطقي والتصور الخيالي وأن كان كلاهما يجتمعان في أنا لسنا نصدق بها أو نكذب، أن المتخيلات إنما نتصورها منِ حيث هي شخصية وهيولانية، ولذلك لا يمكن أن نتخيل ألواناً إلا مع عظم وأن كان سيظهر من أمرها أنها أرفع رتب المعاني الشخصية.
وأما تصور العقلي فهو تجريد المعنى الكلي من الهيولى لا من حيث له نسبة شخصية هيولانية في جوهره، بل أن كان ولابد فعلى أن ذلك لاحق من لواحق الكلي، أعني تتعدد بتعدد الأشخاص وأن توجد له نسبة هيولانية، وسيظهر هذا على التمام عند القول في القوة الناطقة.
فأما أن هذه القوة توجد تارة قوة وتارة فعلاً فذلك من أمرها بين، وذلك أنها في فعلها مضطرة أن يتقدمها الحس كما سنبين بعد، والإحساسات كما تبين قبل حادثة، وإذا كان ذلك كذلك فهذه القوة إذن هيولانية بوجه ما وحادثة.
وأما الموضوع لهذه القوة الذي فيه الاستعداد فهو الحس المشترك بدليل أن التخيل إنما يوجد أبداً مع قوة الحس وقد يوجد الحس دون التخيل.
وبالجملة يظهر من أمر القوة الحساسة أنها متقدمة بالطبع على هذه القوة وأن نسبتها إليها نسبة الغاذية إلى الحسية، ونعني بهذا نسبة الاستكمال الأول الذي في القوة الخيالية إلى الاستكمال الأول الذي للقوة الحساسة، وعلى الحقيقة فالموضوع لهذين الإستعدادين، أعني الاستعداد لقبول المحسوسات وقبول المتخيلات هي النفس الغاذية، إذ كان كما تبين من أمر هذه القوة أن الوجود لها من أول الأمر إنما هو من حيث هي فعل، والاستعدادات بما هي استعدادات إنما توجد مقترنة مع ما بالفعل، وليس بعضها موضوعاً لبعض إلا على جهة التشبيه، بمعنى أن بعضها يتقدم في الموضوع وجود بعض، وهكذا ينبغي أن يفهم الأمر في الاستعداد الخيالي مع الاستعداد الحسي، فإنا لسنا نقدر أن نقول أن الاحساسات بالفعل هي الموضوعة لهذا الاستعداد الخيالي على جهة ما نقول أن النفس الغاذية موضوعة للنفس الحسية، إذ تبين أن الاحساسات هي المحركة لهذه القوة التي تستكمل بها، لكن على كل حال فإن من الظاهر أن هذه القوة والاستعداد أكثر روحانية من الاستعداد الحسي، إذ كان حصوله في الرتبة الثانية وبعد حصول الاستعداد الحسي، وكأنه إنما ينسب إلى الهيولى بتوسط القوة الحسية.
وأيضاً فإن هذه القوة انفعالها ليس عن المحسوس بالفعل من خارج النفس بل من الآثار الحاصلة عن المحسوسات في القوة الحسية على ما سنبين بعد وما هذا شأنه فهو أكثر روحانية.
فقد تبين من هذا القول وجود هذه القوة، وأي هيولى هيولاها وما مرتبتها، ولما كان بالقوة، كما قيل في غير ما موضع إنما يصير إلى الفعل بمحرك يخرجه من القوة إلى الفعل، فما المحرك ليت شعري لهذه القوة.
أما المحرك في قوة الحس فالأمر في ذلك بين وهي المحسوسات بالفعل، وأما هذه القوة فلما كان استكمالها إنما هو بالمحسوسات أيضاً بوجه ما، وذلك بعد غيبتها. وكان أيضاً يظهر من أمرها أنها مضطرة في أن توجد على كمالها الأخير إلى المحسوسات، وذلك أنا إنما يمكننا أن نتخيل الشيء بالذات وعلى كنهه بعد أن نحسه فلا يخلو أن يكون المحرك لها أحد أمرين.
أما المحسوسات بالفعل خارج النفس فيكون على هذا الوجه هذه القوة حس ما، وذلك انه ليس يكون فرقاً بينها وبين قوة الحس إلا أن قوة الحس تدرك المحسوسات وهي حاضرة وهذه تتمسك بها بعد غيبتها فقط.
وأما أن يكون المحرك لهذه القوة ليست المحسوسات التي خارج النفس بل الآثار الباقية منها في الحس المشترك فإنه قد يظهر انه تبقى آثار ما من المحسوسات في الحس المشترك بعد غيبتها، ولا سيما المحسوسات القوية. ولذلك متى انصرف عنها إلى ما دونها من المحسوسات بسرعة لم يمكن أن يحسها.
وبالجملة ففي الحس المشترك قوة على التمسك بآثار المحسوسات وحفظها لكن متى أنزلنا نفس التخيل إنما هو في وجود هذه الآثار الباقية في الحس المشترك بعد ذهاب المحسوسات، لا بأن تكون هذه الآثار هي المحركة لقوة التخيل حتى يكون لها في هيولى التخيل وجوداً اكثر روحانية منها في الحس المشترك لزم أن نتخيل معاً أشياء كثيرة مبلغ عددها كمبلغ عدد الأمور التي أحسسناها. وأيضاً فما كان يمكننا أن نتخيل متى شئنا بل كنا نكون في تخيل دائم، وبالجملة كان يكون التخيل لنا من الأمور الضرورية كالحال في المحسوسات، وإذا كان ذلك كذلك فليس السبب إذن في تخيلها وقتاً بعد وقت إلا أنا متى شئنا نظرنا بهذه القوة إلى الآثار الباقية في الحس المشترك ولذلك كان فعل هذه القوة يجود بالسكون ويختل مع حضور المحسوسات، وذلك أن الحس المشترك عندما تحضره المحسوسات بالفعل هو عنها أكثر ذلك متحرك فقط، فإذا غابت عنه عاد هو محرك هذه القوة بالآثار الباقية فيه من المحسوسات، ولذلك كان فعل هذه القوة مع النوم أكثر، فالمحسوسات إذا تحرك الحس المشترك والآثار الحاصلة عنها في الحس المشترك تحرك هذه القوة، أعني قوة التخيل على مثال ما تتحرك الأشياء بعضها عن بعض. إلا أن لهذه القوة في تلك الآثار تركيباً وتفصيلاً، ولذلك كانت فاعلة بوجه منفعلة بآخر.
ومن هنا يظهر أن هذه القوة كما قلنا اكثر روحانية من الحس لكنها مع ذلك من جنس الحس، إذ كان المحرك لها شخصياً والقابل إنما يقبل شبيه ما يعطيه المحرك، والمحرك إنما يعطي شبيه ما في جوهره، وأما المتحرك الذي يوجد عنه الكلي فهو أرفع رتبة من هذا، إذ كان تحريكه غير متناه على ما سنبين بعد.
فأما أن هذه القوة من قوى النفس كائنة فاسدة فهو بين من أنها توجد بالقوة أولاً ثم توجد بالفعل، والقوة كما قلنا غير ما مرة هي أخص أسباب الحدوث، والحادث كما قيل فاسد ضرورة.
وأيضاً فإن استكمالها إنما هو بالآثار الباقية في الحس المشترك عن المحسوسات، وهذه الآثار ضرورة حادثة عن المحسوسات فهي إذن حادثة.
وأيضاً فإن الاستعداد الأول لهذه القوة هو موجود كما قلنا في النفس الغاذية بتوسط الاستكمال الأول للحس، وكلاهما حادثان فالاستكمال الأول إذن لهذه القوة حادث.
فقد تبين من هذا القول وجود هذه الآثار وأي هيولى هيولاها؟ وما مرتبتها؟ وما المحرك لها؟ وتبين مع هذا من أمرها أنها كائنة فاسدة. فأما لم وجدت هذه القوة في الحيوان فذلك من أجل الشوق الذي يكون عنها إذا اقترن إلى هذه القوة الحركة في المكان، وذلك أن بقوة التخيل مقترناً بها الشوق يتحرك الحيوان إلى طلب الملذ وينفر عن الضار، وسنتكلم في هذا على التفصيل عند القول في القوة المحرك للحيوان.
وإذ قد فرغنا من القول في هذه القوة فلنقل في القوة الناطقة، إذ كانت هي التي يظهر من أمرها أنها تلي هذه القوة في المرتبة، وذلك أن الحيوان ليس يمكن أن توجد فيه قوة أرفع من هذه، أعني المتخيلة إلا في الإنسان هي القوة الناطقة.
القول في القوة الناطقة
إنه لما كان العلم بالشيء كما قيل في غير ما موضع إنما يحصل على التمام بأن يتقدم أولاً فيعلم وجود الشيء إن لم يكن بيناً بنفسه ثم يطلب تفهم جوهره وماهيته بالأشياء التي بها قوامه، ثم يطلب بعد ذلك معرفة الأمور التي قوامها بذلك الشيء، وهي اللواحق الذاتية له والأعراض، فقد ينبغي أن نفحص من هذه الأشياء بأعيانها في هذه القوة، فنبتدئ أولاً فنرشد إلى الجهة التي توقع اليقين بوجود هذه القوة ومباينتها لسائر القوى التي تقدمت، ثمٍ نفحص من أمرها هل هي تارة قوة؟ وتارة فعل؟ أم هي فعل دائما على ما يرى كثير من الناس، وأنها إنما تتعطل أفعالها في الصبي لأنها مغمورة بالرطوبة أم بعضها قوة وبعضها فعل. فإن هذا اسم شيء يفحص عنه من أمرها وهو المعنى الذي فيه اختلف القدماء كثيراً.
ومن هاهنا توقف على ما هو اكثر ذلك متشوق من أمرها، أعني هل هي أزلية؟ أم حادثة فاسدة؟ أم هي مركبة من شيء أزلي وحادث؟ وأن كانت تارة قوة وتارة فعلاً فهي ذات هيولى ضرورة، فما هذه الهيولى؟ وما مرتبتها؟ وما الموضوع لهذا الاستعداد والقوة؟ فإن القوة مما لا يفارق، وهل ذلك جسم أو نفس أو عقل؟ وأيضاً ما المحرك لهذه القوة؟ والمخرج لها إلى الفعل؟ وإلى أي مقدار من التحريك ينتهي إليه بالذات؟ فعلى هذا المحرك فيها فإن بذلك نقف على كمالها الأقصى، فإنه من الظاهر أنها ليست فينا هذه القوة أولاً معشر الناس على كمالها الأخير وأنها في تزيد دائم، لكن ليس يمكن أن يمر الأمر فيها إلى غير نهاية. فإن الطباع تأبى ذلك فهذه هي جميع المطالب التي ينبغي أن نفحص عنها من أمر هذه القوة، فإن بمعرفتها تحصل لنا معرفتها على التمام. والأمور التي نأخذها، مقدمات في بيان هذه الأشياء هي أحد أمرين إما نتائج أقيسه قد تبينت فيما سلف من هذا العلم، وإما أمور يقينية بأنفسها هاهنا وإما أن تكون الأقاويل المستعملة في ذلك مؤلفة من هذين الصنفين من المقدمات وسنرشد إلى صنف صنف منها عندما نستعمله.
فنقول إنه من البين مما قيل في مواضع كثيرة أن المعاني المدركة صنفان: إما كلي، وإما شخصي. وأن هذين المعنيينِ في غاية التباين، وذلك أن الكلي هو إدراك المعنى العام مجرداً من الهيولى وإدراك الشخص هو إدراك المعنى في الهيولى. وإذا كان ذلك كذلك فالقوة التي تدرك هذين المعنيين هي ضرورة متباينة، وقد تبين فيما تقدم أن الحس والتخيل إنما يدركان المعاني في الهيولى، وأن لم يقبلاها قبولاً هيولانياً على ما تقدم،،ولذلك لسنا نقدر أن نتخيل اللون مجرداً عن العظم والشكل فضلاً عن أن نحسه، وبالجملة لسنا نقدر أن نتخيل المحسوسات مجردة من الهيولى، وإنما ندركها في هيولى وهي الجهة التي بها تشخصت، وإدراك المعنى الكلي والماهية بخلاف ذلك. فإنا نجرده بالهيولى تجريداً وأكثر ما تبين ذلك في الأمور البعيدة من الهيولى كالخط والنقطة، فهذه القوة إذن التي من شأنها أن تدرك المعنى مجرداً عن الهيولى هي ضرورة قوة أخرى غير القوة التي تقدمت وبين أن فعل هذه القوة ليس هو أن تدرك المعنى مجرداً من الهيولى فقط، بل وأن تركب بعضها إلى بعض وتحكم لبعض على بعض. والفعل الأول من أفعال هذه القوة يسمى تصوراً والثاني تصديقاً. وهو من الظاهر هاهنا أن بالواجب أن قسمت ترى النفس هذا الانقسام لانقسام المعاني المدركة، وأنه ليس يمكن أن توجد هاهنا قوة أخرى للحيوان نافعة في وجوده غير هذه القوى. وذلك أنه لما كانت سلامته إنما هي أن يتحرك عن المحسوسات أو إلى المحسوسات. والمحسوسات إما حاضرة وأما غائبة، فبالواجب ما جعلت له قوة الحس وقوة التخيل فقط. إذ كان ليس هاهنا جهة ما في المحسوس يحتاج الحيوان إلى إدراكه غير هذين المعنيين، ولذلك لم تكن هاهنا قوة أخرى تدرك المعنى المحسوس غير هاتين القوتين أو ما يحدث منهما.
ولما كان أيضاً بعض الحيوان وهو الإنسان ليس يمكن وجوده بهاتين القوتين فقط، بل بأن تكون له قوة يدرك بها المعاني مجردة من الهيولى ويركب بعضها إلى بعض ويستنبط بعضها عن بعض حتى تلتئم عن ذلك صنائع كثيرة هي نافعة في وجوده. وذلك إما من جهة اضطرار فيه وإما من جهة الأفضل بالواجب ما جعل في الإنسان هذه القوة، أعني قوة النطق. ولم تقتصر الطبيعة على هذا فقط، أعني أن تعطيه مبادئ الفكرة المعينة في العمل، بل ويظهر أنها أعطته مبادئ آخر ليست معدة نحو العمل أصلاً، ولا هي نافعة في وجوده المحسوس لا نفعاً ضرورياً ولا من جهة الأفضل، وهي مبادئ العلوم النظرية.
وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجدت هذه القوه من جهة الوجود الأفضل مطلقاً لا الأفضل في وجوده المحسوس، ومن هنا يظهر أن هذه القوة تنقسم أولاً إلى قسمين: أحدهما يسمى العقل العملي والآخر النظري. وكان هذا الانقسام لها عارضاً بالواجب لانقسام مدركاتها، ولذلك أن إحداهما إنما فعلها واستكمالها بمعان صناعية ممكنة. والثانية بمعان ضرورية ليس وجودها إلى اختيارنا.
وإذ قد تبين أن وجود هذه القوة مغايرة لسائر القوى التي عددناها، وتبين أيضاً مع هذا أنها تنقسم قسمين فقد ينبغي أن ننظر بعد ذلك في الأمور المطلوبة التي عددناها في كل واحد منها، وأن كانت أكثرها مشتركة لها. ونبتدئ أولاً بالقول في القوة العملية. فإن الأمر في ذلك أسهل وليس فيه كثير نزاع، وأيضاً فهذه القوة هي القوة المشتركة لجميع الأناسي التي لا يخلو إنسان منها، وإنما يتفاوتون فيها بالأقل والأكثر.
وأما القوة الثانية فيظهر من أمرها أنها إلهية جداً، وأنها إنما توجد في بعض الناس وهم المقصودون بالعناية أولاً في هذا النوع. فنقول: أما أن هذه المعقولات العملية، سواء كانت معقولات قوى أو مهن حادثة وموجودة فينا أولاً بالقوة وثانياً بالفعل، فذلك من أمرها بين، فإنه يظهر عند التأمل أن جل المعقولات. الحاصلة منها إنما تحصل بالتجربة والتجربة إنما تكون بالإحساس أولاً والتخيل ثانياً. وإذا كان ذلك كذلك فهذه المعقولات إذن مضطرة في وجودها إلى الحس والتخيل فهي ضرورة حادثة بحدوثها وفاسدة بفساد التخيل. فأما هل تتنزل الخيالات منزلة الموضوع لهذه القوة أو منزلة المحرك على ما هو عليه الأمر في البقايا التي في الحس المشترك من المحسوسات مع القوة المتخيلة فقد يظهر أن منزلتها منه ليست منزلة الموضوع، وذلك أن المعنى المتخيلِ هو المعنى المعقول نفسه فهو بمنزلة المحرك، إلا أنه ليس كافياً في ذلك. لأن الكلي مباين بالوجود للتخيل ولو كانت الخيالات هي المحركة له فقط لكان ضرورة من نوعها، كالحال في المحسوس والمتخيل. وسنبين هذا أكثر عند القول في العقل النظري. وهنالك نقول في وجود هذا المحرك وما هو وإذا لم تكن الخيالات هي المحركة فقط هذه. وكان أحد ما يتم به إدراك الكلي فهي بجهة ما تشبه الموضوع الكلي. إذ كانت بالاستعداد والقوة الكلي وهو مرتبط بها، وبهذا الاستعداد تباين النفس المتخيلة من الإنسان النفس المتخيلة من الحيوان كما تباين النفس الغاذية في الحيوان النفس الغاذية في النبات بالاستعداد الذي في الغاذية الحيوانية لقبول الحس، وهذا الاستعداد ليس بشيء أصلاً اكثر من التهيؤ لقبول المعقولات بخلاف الأمر في قوة الحس.
وإذا كان هذا كله كما قلنا فظاهر من أمر هذه المعقولات أنها كائنة فاسدة، وهذا مما لم يختلف أحد من المشائين فيه، وذلك أنه يظهر أن هذه الخيالات ليست موضوعة بجهة ما لهذه القوة بل كمال هذه القوة وفعلها إنما هو في أن توجد صوراً خيالية بالفكرة والاستنباط، يلزم عنها وجود الأمور الموضوعة ولو وجدت هذه المعقولات دون النفس المتخيلة لكان وجودها عبثاً وباطلاً، وهذا النوع من الصور الخيالية قد يوجد لكثير من الحيوان كالتسديس الذي يوجد للنحل والحياكة التي توجد للعناكب، لكن الفرق بينهما أنها في الإنسان حاصلة عن الفكر والاستنباط، وهي في الحيوان حاصلة عن الطبع، ولذلك لا توجد متصرفاً فيها بل إنما يدرك منها حيوان حيوان صوراً ما محدودة، وهي الضرورية في بقائه.
ومن هنا ظن قوم أن الحيوان قد يعقل وبهذه القوة يحب الإنسان ويبغض ويعاشر ويصاحب، وبالجملة عنها توجد الفضائل الشكلية. وذلك أن وجود هذه الفضائل ليست شيئاً اكثر من وجود الخيالات التي عنها تتحرك إلى هذه الأفعال على غاية الصواب، وذلك أن يشجع مثلاً في الموضع الذي يحب والوقت الذي يحب وبالمقدار الذي يحب.
وما يوجد من هذه الفضائل في الحيوان كالشجاعة في الأسد والقناعة في الديك، فهي مقولة بنوع من التشكيك مع الفضائل الإنسانية، وذلك أنها طبيعة للحيوان. ولذلك كثيراً ما يفعلها في الموضع الذي لا ينبغي، والعقل الذي يذكره أرسطو في السادسة من نيقوماخيا هو أيضاً منسوب لهذه القوة بوجه ما، فهذا هو القول في العقل العملي.
وأما القول في النظري فهو مما يستدعي بياناً أكثر، وقد اختلف فيه المشاؤون من لدن أفلاطون إلى هلم. ونحن نفحص عن ذلك بحسب طاقتنا وبحسبِ المعونة الواقعة في ذلك ممن تقدم.
فنقول أن أول ما ينبغي أن ننظر فيه من أمر هذه المعقولات النظرية هل هي دائماً فعل أم توجد أولاً بالقوة ثم توجد ثانياً بالفعل، فتكون توجد هيولانية. فإن القول بأن بعضها يوجد دائماً فعلاً وبعضها قوة قول بين السقوط بنفسه. فإن الصور ليست تنقسم بذاتها ولا بعضها موضوعة لبعض ولا يوجد هذا للصور من جهة الهيولى، أعني من جهة ما هي شخصية. وهذا بين عند من ارتاض أدنى ارتياض في هذا العلم.
والسبيل إلى ذلك كما قلنا في أول هذا الكتاب أن ننظر هل اتصالها بنا اتصال شبيه باتصال الأمور المفارقة بالمواد، كما يقال في العقل الفعال إنه يتصل بنا في حين الاستفادة، حتى تكون هذه المعقولات لا فرق بين وجودها لنا منذ الصبي وعند الكهولة في كونها موجودة بالفعل، إلا أنها كانت في الصبي مغمورة بالرطوبة.
الصور الهيولانية
وبالجملة فلا بد أن نقول إنه كانت فينا حالة تعوقنا عن إدراكها، فلما حصل الموضوع القابل لها على استعداده الأخير ظهرت فيه هذه المعقولات وإدراكها، وعلى هذا ليس يحتاج في أن تحصل لنا معقولات إلى محرك من جنسها، أعني أن تكون عقلاً، بل وأن كان ولا بد فبالعرض، مثل أن الذي يزيل الصدأ عن المرآة تكون بوجه ما سبباً لارتسام الصور فيها. ولا يكون أيضاً قولنا فيها إنها موجودة لنا بالقوة منذ الصبى، على معنى القوة الهيولانية، بل بوجه مستعار يشبه المعنى الذي يطلق اسم القوة عليه أصحاب الكمون. أو نقول أن اتصال هذه المعقولات بنا اتصال هيولاني، وهو اتصال الصور بالمواد والوقوف على ذلك يكون من هذه الجهة. وذلك بأن نحصي الأمور الذاتية للصور الهيولانية بما هي هيولانية، ثم نتأمل هل تتصف هذه المعقولات ببعضها أم لا.
فنقول إنه قد ظهر مما تقدم أني للصور الهيولانية مراتب والقوى أيضاً والاستعدادات مرتبة بترتبها. فأول نوع من أنواع الصور الهيولانية هي صور البسائط التي الموضوع لها المادة الأولى، وهي الثقل والخفة، ثم بعد هذه صور الأجسام المتشابهة الأجزاء، ثم النفس الغاذية ثم الحساسة ثم المتخيلة، وكل واحدة من هذه الصور إذا تؤملت وجِد لها أشياء تعمها وتشترك فيها، من جهة. ما هي هيولانية بإطلاق وأشياء تخص واحدة منها أو أكثر من واحدة من جهة ما هي هيولانية ما. فما تخص الصور البسيطة أن الهيولى لا تعرى فيها من إحدى الصورتين المتقابلتين كالبارد والحار والرطب واليابس، ومما تشترك فيه الصور البسيطة والصور المتشابهة الأجزاء أنها منقسمة بانقسام موضوعاتها وحصولها فيها بغير حقيقي، وقد تشاركهما الصور الغاذية في هذين المعنيين، وأن كانت تباينها في نفس وجودها. ولقرب هذه النفس من الصورة المزاجية ظن بها أنها مزاج، وتخص الصور الحسية أنها غير منقسمة بانقسام الهيولى، بالمعنى الذي به تنقسم الصور المزاجية. ولذلك أمكن فيها أن تقبل الكبير والصغير في موضوع واحد على حالة واحدة، وتشترك مع النفس الغاذية في أنها تستعمل آلة آلية، وتخص النفس المتخيلة أنها لا تحتاج في فعلها إلى آلة آلية.
وتعم هذه الصور الهيولانية على مراتبها وتفاوتها من جهة ما هيِ هيولانية مطلقة أمران اثنان: أحدهما أن وجودها إنما يكون تابعاً للتغير بالذات، وذلك إما قريب أو بعيد كالحال في الصور المزاجية وفي النفسانية التي تقدم ذكرها. والثاني أن تكون متعددة بالذات بتعدد الموضوع ومتكثرة بتكثرة. فإن بهاتين، الصفتين يصح عليها معنى الحدوث، وإلا لم يكن هنالك كون أصلاً، وقد أطلنا في من هذا في أول الكتاب. وهذا المعنى من تعدد النفس بتعدد موضوعاتها هو الذي ذهب على القائلين بالتناسخ، فهذه جميع المحمولات الذاتية التي توجد للصور الهيولانية من جهة ما يعم ومن جهة ما يخص. وقد يوجد للصور الهيولانية بما هي هيولانية أمر ثالث وهو أنها مركبة من شيء يجري منها مجرى الصورة، وشيء يجري منها مجرى المادة، ويعم الصور الهيولانية أمر رابع وهو أن المعقول منها غير الموجود. فإذا نحن تأملنا المعقولات وجدنا لها أشياء تخصها كثيرة يظهر بها ظهوراً كثيراً مباينتها بالوجود لسائر الصور النفسانية، ومن هذه الأشياء ظن بها أنها موجودة بالفعل دائماً غير متكونة. فإن كل متكون فاسد إذ كان ذا هيولى. لكن من البين أن هذه الأحوال التي تخصها ليست بكافية في الوقوف على أنها ليست هيولانية دون أحد الأمرين، وذلك إما بأن يلقى جميع الأمور الخاصة بالصور الهيولانية بما هي هيولانية في مسلوبة عنها، وإما أن نقف على أن بعض الأشياء التي تخصها مما تخص الأمور المفارقة. وهذا بين بنفسه لمن زاول صناعة المنطق، ونحن فلنعدد بالأمور الخاصة بهذه المعقولات ونتأمل هل واحد منها مما يخص الأمور المفارقة أم لا، وإن كان ليس بخاص فهل توجد لها مع هذه الأمور العامة للصور الهيولانية بما هي هيولانية ما أم ليس توجد.
الصور المعقولة
فنقول إنه قد يظهر من أمر وجود صور المعقولات للإنسان أنها فيه على نحو مباين لوجود سائر الصور النفسانية فيه، إذ كانت هذه الصور وجودها في موضوعها المشار إليه غير وجودها المعقول، في ذلك أنها واحدة من حيث هي معقولة ومتكثرة من حيث هي شخصية وفي هيولى. وأما صور المعقولات فقد يظن أن وجودها المعقول هو نفس وجودها المشار إليه، وأن كان المعقول منها غير الموجود فعلى جهة هي غير الجهة التي بها نقول في سائر الصور أن الموجود منها غير المعقول، إلا أنه أن كأن المعقول منها غير الموجود على أي وجه كان فهي كاذبة فاسدة، وأن كان المعقول منها هو الموجود فهي ضرورة مفارقة أو فيها شيء يفارق، إلا أنه ليس يلزم من وضعنا أن المعقول يخالف الموجود منها بجهة غير الجهة التي بها يخالف المعقول من سائر الصور الموجودة منها أن تكون مفارقة، إذ كان لم يتبين من هذا القول، أو انه ليس لها نسبة خاصة إلى الهيولى بل أنما تبين من ذلك أنه أن كان لها نسبة فهي غير النسبة التي لتلك الصور، ولعل تلك النسبة تخص بعض الصور الهيولانية.
ومما يباين أيضاً فيه هذه المعقولات سائر الصور النفسانية أن إدراكها غير متناه على ما تبين من أمر الكلي وسائر القوى إدراكها متناه.
وقد ظن أيضاً من هذا أنها غير هيولانية أصلاً، وليس في هذا كفاية في أنها أيضاً مفارقة بالكل، إذ كان التصور للقوة الناطقة غير الحكم والتصديق لكونهما فعلين متباينين، وذلك أن التصور بالعقل إنما هو تجريد الصورة من الهيولى، وإذا تحررت الصورة من الهيولى ارتفعت عنها الكثرة الشخصية، وليس يلزم عن ارتفاع الكثرة الشخصية الهيولانية ارتفاع الكثرة أصلاً. فإنه ممكن أن تبقى هنالك كثرة بوجه ما، لكن من جهة أنها تجرد الصور من كثرة محدودة ولحكم حكماً على كثرة غير متناهية، وقد يجب أن يكون هذا الفعل لقوة غير هيولانية، لأنه أن كان واجباً أن يكون إدراك الصور المفارقة لغير متناه وجب أن يكون إدراك الصور الهيولانية لمتناه وحكمها على متناه. وإذا كان حكم الصور الهيولانية على متناه فما هو حكم على غير، متناه فهو ضرورة غير هيولاني، إذ كان الحكم على الشيء إدراك له أو من قبل طبيعة مدركة له.
فمن هذا يظهر لعمري أن هذه القوة التي فينا غير هيولانية، إلا أنه لم يتبين بعد أن هذا الحكم هو لهذه المعقولات الكلية، بل لعلة لقوة أخرى تتنزل من هذه المعقولات منزلة الصورة.
ومما يخص أيضاً هذا الإدراك العقلي أن الإدراك فيه هو المدرك، ولذلك قبل أن العقل هو المعقول بعينه، والسبب في ذلك أن العقل عندما يجرد صورة الأشياء المعقولة من الهيولى ويقبلها قبولاً هيولانياً يعرض له أن يعقل ذاته، إذا كانت ليست تصير المعقولات في ذاته من حيث هو عاقل بها على نحو مباين لكونها معقولات أشياء خارج النفس. وليس الأمر في الحس كذلك، وإن كان يتشبه بالمحسوسات، فإنه ليس يمكن فيه أن يحس ذاته حتى يكون الحس هو المحسوس، إذ كان إدراكه للمعنى المحسوس إنما هو من حيث يقبله في هيولى. ولذلك يصير المعنى المنتزِع في القوة الحسية مغايراً بالوجود لوجوده في المحسوس، ومقابلاً له على ما شانه أنه يوجد عليه الأمور المتقابلة في باب المضاف.
وبين أن هذا إنما عرض له من جهة أن قبول المعقول لم يكن قبولاً هيولانياً شخصياً، لكن أن كان هاهنا العقل هو المعقول نفسه من جميع الوجوه على مثال على ما يظن به الأمر في المفارقات حتى لا تكون له نسبة إلى الهيولى بوجه من اوجه النسب بها، يتصور أن يكون العاقل غير المعقول بوجه ما كان ضرورة فعلاً دائماً، وبين أن هذا لم يتبين بعد مما وضع هاهنا من مباينة للحس.
ومما يخص هذه المعقولات أيضاً أن إدراكها ليس. يكون بانفعال كالحال في الحس، ولهذا متى أبصرنا محسوساً قوياً ثم انصرفنا عنه لم نقدر في الحين أن نبصر ما هو أضعف والمعقولات بخلاف ذلك.
والسبب في ذلك أن الحس لما كانت تبقى من صور المحسوسات فيه بعد انصرافها عنه آثار ما شبيهة بالصور الهيولانية لم يمكن فيه أن تقبل صورة أخرى حتى تمحى عنه تلك الصورة وتذهب، وهذا أيضاً إنما عرض له من جهة النسبة الشخصية. ومنها أن العقل يتزيد مع الشيخوخة وسائر قوى النفس بخلاف ذلك. وأكثر هذه الأحوال الخاصة بالمعقولات إذا تؤملت ظهر أن السبب في وجودها كون المعقولات عامة النسبة الشخصية التي توجد لسائر قوى النفس، وهي أن لا تكون للمعقول، منها في غاية المقابلة للموجود على ما عليه الأمر في الصور الشخصية، ولهذا متى استعملنا هذه الخواص دلائل لم تفض بنا إلى أكثر من هذه المعرفة. وأما متى أردنا أن نجعلها دلائل على وجود هذه المعقولات فعلاً محضاً ودائماً كنا قد استعملنا في ذلك المطلوب المتأخرات التي ليس يلزم عن وجودها وجود المتقدم، بمنزلة من قال أن الكواكب نار لأنها مضيئة. وذلك أن كل ما هو بالفعل دائماً قد عدم صورة النسبة الشخصية التي توجد لسائر قوى النفس، وليس ينعكس هذا حتى يلزم أن كل ما عدم هذه النسبة فهو موجود بإلفعل، وذلك بين لمن زاول صناعة المنطق.
فإذن الذي غلط من قال من هذه الأشياء بمفارقة المعقولات هو موضع اللاحق.
وإذا كان هذا هكذا وظهر أنه ليس في هذه الأمور الخاصة بالمعقولات ما تبين بها أنها موجودة دائماً فعلاً فلننظر هل تلحقها الأمور الخاصة بالصور الهيولانية بإطلاق أم لا، وقد قلنا أن ذلك شينان: أحدهما أن يكون وجود الصور تابعاً لتغير بالذات وبذلك تكون حادثة، والثاني أن تكون متكثرة بتكثر الموضوعات تكثراً ذاتياً لا تكثراً عرضياً، بل ما يتوهمه أصحاب التناسخ بأي وجه اتفق مات أوجه التكثر.
فنقول إنه إذا تؤمل كيف حصول هذه المعقولات لنا وبحاصة المعقولات التي تلتئم منها المقدمات التجربية ظهر أنا مضطرون في حصولها لها أن نحس أولاً ثم نتخيل، وحينئذ يمكننا أخذ الكلي. ولذلك من فاتته حاسة ما من الحواس فاته معقول ما. فإن الأكمه ليس يدرك معقول اللون أبداً، ولا يمكن فيه إدراكه، وأيضاً فإن من لم يحس أشخاص نوع ما لم يكن عنده معقولة، كالحال عندنا في الفيل. وليس هذا فقط بل يحتاج مع هاتين القوتين إلى قوة الحفظ وتكرر ذلك الإحساس مرة بعد مرة حتى ينقدح لنا الكلي. ولهذا صارت هذه المعقولات إنما تحصل لنا في زمان، وكذلك يشبه أن يكون الحال في الجنس الآخر من المعقولات التي لا ندري متى حصلت ولا كيف حصلت إلا أن تلك لما كانت أشخاصها مدركة لنا من أول الأمر لم نذكر متى اعترتنا فيها هذه الحال التي تعترينا في التجربية، وهذا ظاهر بنفسه. فإن هذه المعقولات ليست جنساً آخر من المعقولات مباين للتجربية، ولذلك ما يجب أن يكون حصولها بجهة واحدة.
وبالجملة فيظهر أن وجود هذه المعقولات تابعة للتغير الموجود في الحس والتخيل تباعداً ذاتياً على جهة ما تتبع الصور الهيولانية التغيرات المتقدمة عليها، وإلا أمكن أن نعقل أشياء كثيرة من غير أن نحسها، فكأن يكون التعلم تذكراً كما يقول أفلاطون.
وذلك أن هذه المعقولات متى فرضناها موجودة بالفعل دائماً، ونحن على الكمال الأخير من الاستعداد لقبولها، وذلك مثلاً في الكهولة، فما بالنا ليت شعري إلا يكون في تصور دائماً وتكون الأشياء كلها لنا معلومة بعلم أولي.
وغاية ما نقول في ذلك متى فأتنا منها معقول ما ثم أدركناه أن إدراكه تذكر لا حصول معرفة، لم تكن قبل بالفعل لنا حتى يكون تعلم الحكمة عبثاً، وهذا كله بين السقوط بنفسه، ولذا كان وجود هذه المعقولات تابعاً لتغير بالذات فهي ضرورة ذات هيولى، وموجودة أولاً بالقوة وثانياً بالفعل، وحادثة فاسدة، إذ كل حادث فاسد على ما تبين في آخر الأولى من السماء والعالم.
وقد يظهر أيضاً أنها متكثرة بتكثر الموضوعات ومتعددة بتعددها، وهو الأمر الأخر الذي تخص الصور الهيولانية بما هي هيولانية من أن هذه المعقولات إنما الوجود لها من حيث نستند إلى موضوعاتها خارج النفس، ولذلك ما كان هنا صادقاً كان له موضوع خارج النفس يستند كلية إلى صورته المتخيلة، وما لم يكن له موضوع كغزايل وعنقا مغرب كان كاذباً بالكون الصور المتخيلة منه كاذبة. وبالجملة فيظهر ظهوراً، أولياً أن بين هذه الكليات وخيالات أشخاصها الجزئية إضافة ما بها صارت الكليات موجودة، إذ كان الكلي إنما الوجود له من حيث هو كلي بما له جزئي، كما أن الأب إنما هو أب من حيث له ابن، واتفق لهما مع أن كانا من المضاف أن كانت أسماؤهما تدل عليهما من حيت هما مضافان، ومن خواص المضافين كما قيل في غير ما موضع أن يوجدا. معاً بالقوة أو بالفعل، ومتى وجد أحدهما وجد الآخر، ومتى فسد أحدهما فسد الآخر، وذلك ظاهر بالتأمل فإن الأب إنما هو أب بالفعل ما كان له ابن موجود، وكذلك الابن بما هو ابن ما كان له أب، وإنما كان يمكن أن لا تستند هذه الكليات إلى موضوعاتها لو كانت موجودة بالفعل خارج النفس، على ما كان يراه أفلاطون، وهو من البين أن هذه الكليات ليس لها وجود خارج النفس مما قلناه، وأن الوجود منها خارج النفس إنما هو أشخاصها فقط.
وقد عدد أرسطو فيما بعد الطبيعة المحالات اللازمة عن هذا الوضع وباستناد هذه الكليات إلى خيالات أشخاصها صارت متكثرة بتكثرها، وصار معقول الإنسان مثلاً عندي غير معقول عند أرسطو. فإن معقولة عندي إنما أشد إلى خيالات أشخاص غير الأشخاص التي استند إلى خيالاتها معقولة عند أرسطو، وباتصال هذه المعقولات بالصور الخيالية اتصالاً ذاتياً يلحقها النسيان لذهاب الصور الخيالية، ويلحقنا نحن عندما نفكر بها الكلال ويختل إدراك من فسد تخيله. وبالجملة فمن هذه الجهة تلحق المعقولات الأمور التي ترى بها أنها هيولانية لا المحاطة التي يزعم من يقول بوجودها فعلاً دائماً، فإن هذا القول إنما شأنه أن يفيد من التصور في إعطاء سبب هذه اللواحق المقدار الذي تفيده الأقاويل الشعرية.
وأيضاً لو أنزلنا هذه الكليات غير متكاثرة بتكثر خيالات أشخاصها المحسوسة للزم عن ذلك أمور شنيعة، منها أن يكون كل معقول حاصل عندي حاصلاً عندك حتى يكون متى تعلمت أنا شيئاً ما تعلمته أنت ومتى نسيته أنا نسيته أنت أيضاً، بل ما كان يكون هاهنا تعلم أصلاً ولا نسيان وكانت تكون علوم أرسطو كلها موجودة بالفعل لم يقرأ كتبه بعد، وهذا كله ظاهر بنفسه والتطويل فيه عناء.
فقد تبين من هذا القول أن هذه المعقولات تابعة لتغير وإنها متكثرة بتكثر موضوعاتها، لكن على غير الجهة التي تتكثر بها الصور الشخصية، وتبين أنها ذات هيولى وإنها حادثة فاسدة لكن من جهة أنها هيولانية ومشار إليها قد يلزم ضرورة أن تكون مركبة من شيء يجري منها مجرى المادة وشيء يجري منها مجرى الصورة. فأما الشيء الذي يجري منها مجرى الصورة فإنه إذا تؤمل ظهر منه أنه غير كاين ولا فاسد وذلك بين بمقدمات.
إحداها: أن كل صورة معقولة فهي إما هيولانية وإما غير هيولانية.
والثانية: أن كل صورة هيولانية فإنما هي معقولات بالفعل إذا عقلت، وإلا فهي معقولة بالقوة.
والثالثة: أن كل صورة غير هيولانية فهي عقل سواء عقلت أو لم تعقل.
والرابعة والخامسة: عكس هاتين المقدمتين، وهي أن كل صورة تكوِن معقولة بأن تعقل فهي هيولانية وأن كل صورة تكون في نفسها عقلاً وإن لم تعقل فهي غير هيولانية.
فإذا تقررت لنا هذه المقدمات وهي بينة من طبيعة العقل والمعقول، قلنا هذه الصورة التي هي صورة المعقولات النظرية واجب أن تكون غير هيولانية، لأنها عقل في نفسها سواء عقلناها نحن أو لم نعقلها. إذ كانت صورة الشيء هبر في وجوده عقل ولو أنزلناها معقولة بالفعل من جهة وبالقوة من جهة يلزم أن يكون هنالك عقل آخر متكون فاسد، وهو الشيء الذي صارت به معقولة بالفعل بعد أن كانت بالقوة، فيعود السؤال أيضاً في هذا العقل هل هو معقول بالفعل من جهة وبالقوة من جهة، فإن فرضناه كذلك لزم أن يكون هنالك عقل ثالث، فيعود السؤال أيضاً في هذا العقل الثالث. ولذلك ما يجب أن يكون المعقول من العقلي الذي بالفعل هو الموجود منه نفسه لا غير الموجود، كالحال في الصور الهيولانية التي هي معقولة بالقوة، وإلا وجدت عقول إنسانية غير متناهية.
فأما أن تصورها ممكن فذلك سيبين من قولنا بعد، فمن هنا يظهر أن في المعقولات جزءاً فانياً وجزءاً باقياً، ولذلك اضطرب نظر الناظرين فيها.
وإذ قد تبين أن في المعقولات جزءاً باقياً وجزءاً فانياً وكان كل كاين له هيولى فلننظر ما جوهر هذه الهيولى وأي رتبة رتبتها. فنقول أما من يضع هذه المعقولات موجودة بالفعل دائمة وأزلية فليس لها هيولى إلا على التشبيه والتجوز، إذ كانت الهيولى هي أخص أسباب الحدوث. وذلك أن معنى الهيولى على هذا الرأي ليس يكون شيئاً أكثر من الاستعداد الحادث الذي به يمكن أن نتصور هذه المعقولات وندركها لا على أن هذا الاستعداد هو أحد ما تتقوم به هذه المعقولات إذن قبلها، كالحال في الاستعداد الهيولاني الحقيقي. ولذلك قد يمكن أن نتصور هذا الاستعداد حادثاً والمعقولات التي تقبلها أزلية على هذه الجهة، وهي الجهة التي ينبغي أن يقول بها كل من يضع هذه المعقولات موجودة دائماً ويتصل بها.
وأما ثامسطيوس وغيره من قدماء المفسرين فهم يضعون هذه القوة التي يسمونها العقل الهيولاني أزلية، ويضعون المعقولات الموجودة فيها كائنة فاسدة لكونها مرتبطة بالصور الخيالية. وأما غيرهم مما نحا نحو ابن سينا وغيره فإنهم يناقضون أنفسهم فيما يضعون وهم لا يشعرون أنهم يناقضون، وذلك أنهم يضعون مع وضعهم أن هذه المعقولات موجودة أزلية أنها حادثة وإنها ذات هيولى أزلية أيضاً.
ولست أدري ما أقول في هذا التناقض فإن ما كان بالقوة ثم وجد بالفعل فهو ضرورة حادث فاسد، اللهم إلا أن يعني بالقوة هاهنا المعنى الذي قلناه فيما تقدم وهو كون المعقولات مغمورة بالرطوبة فينا ومعوقة عن أن نتصورها لا على أنها في ذاتها معدومة اصلاً،، فيكون قولنا فيها إنها ذات هيولى بالمعنى المستعار، لكن نجدهم يرومون أن يلزموها شروط الهيولى الحقيقية وبخاصة ثامسطيوس، وذلك أنه يقول ولما كان كل ما هو بالقوة شيئاً واجباً ألا يكون فيه شيء من الفعل الذي هو قوي عليه، كالحال في الألوان والبصر، فإنه لو كان البصر ذا لون لما أمكن فيه أن تشبه بالألوان ويقبلها، إذ كان يعوقها اللون الخاص فيه. ولذلك زعم يلزم أن لا يكون في العقل الهيولاني شيء من الصور التي توجد فيه بعد بالفعل.
وأنا أقول ليت شعري هذه الهيولى الموجود فيها، هذا الاستعداد لقبول المعقولات هل يزعمون، أنها شيء ما أم لا، ولا بد لهم من ذلك، فإن نفس الإمكان والاستعداد الحادث مما يحتاج ضرورة إلى موضوع كما تلخص في الأولى من السماع، وإذا كانت شيئاً ما في ضرورة فعلاً، إذ الموضوع الذي ليس فيه شيء من الفعل أصلاً هي المادة الأولى، وليس يمكن أن تفرض المادة الأولى هي القابلة لهذه المعقولات. وإذا كانت شيئاً ما بالفعل فهي ضرورة إما جسم وإما نفس وإما عقل، إذ كان سيظهر فيما بعد أنه ليس هاهنا وجود رابع وهو ممتنع أن يكون جسماً مما تقدم من القول في أمر هذه المعقولات، وأن فرضناها نفساً فهي ضرورة كائنة فاسدة، وإذا كانت هي فاسدة فالاستعداد الموجود فيها أحرى بالفساد، وإذا لم يكن جسماً ولا نفساً فهي ضرورة عقل، وهو الذي يظهر من قولهم، لكن أن كانت عقلاً فهي بالفعل موجودة من نوع ما هي قوة عليه وهذا مستحيل، فإن القوة والفعل متناقضان.
وليس ينجي من هذا الإلزام أن نضع بعض هذه الهيولى قوة وبعضها فعلاً، فإن الصورة غير منقسمة الوجود، اللهم إلا بالعرض. أو يضع واضع أن التغير في الجوهر من باب التغير في الكمية وهذا مستحيل، فلذلك ما يلزم من يضع هذه المعقولات أزلية أن لا يضع لها الهيولى. إلا على جهة الاستعارة، فضلاً عن أن يضعها أزلية، ولا يحتاج هاهنا أيضاً إلى إدخال محرك من خارج هو من نوع المتحرك على أنه غيره.
وكأنهم إنما عرض لهم هذا الغلط. لما أرادوا الجمع بين مذهب أفلاطون وأرسطو، وذلك أنهم وجدوا أرسطو يضع أن هاهنا ثلاثة أنواع من العقول، أحدها عقل هيولاني، والثاني الذي بالملكة وهو كمال هذا الهيولاني، والثالث المخرج له من القوة إلى الفعل، وهو العقل الفعال على ما يجري الأمر عليه في سائر الأمور الطبيعية. واعتقدوا مع هذا أن هذه المعقولات أزلية راموا أن يناولوا قول أرسطو ويصرفوه إلى هذه الأمور المتناقضة، ولذلك لما تحفظ الإسكندر بأقاويله ظهر أن رأيه في ذلك مخالف لآرائهم، ونحن فلندع هذا لمن تفرغ للفحص عن مذهب أرسطو في ذلك ونرجع إلى حيث كنا. فنقول إنه إذ قد تبين أن هذه المعقولات حادثة فهنالك ضرورة استعداد يتقدمها، ولما كان الاستعداد مما لا يفارق لزم أن يوجد في موضوع، وليس يمكن أن يكون هذا الموضوع جسماً حسبما تبين من أن هذه المعقولات ليست هيولانية بالوجه الذي به الصور الجسمانية هيولانية، ولا يمكن أيضاً أن يكون عقلاً، إذ كان ما هو بالقوة شيئاً ما فليس فيه شيء ما بالفعل مما هو قوي عليه.
وإذا كان ذلك كذلك فالموضوع لهذا الاستعداد ضرورة هو نفس، وليس يظهر هاهنا شيء اقرب إلى أن يكون الموضوع لهذه المعقولات من بين قوي النفس سوى الصور الخيالية، إذ كان قد تبين أنها إنما توجد مرتبطة بها وأنها توجد بوجودها وتعدم بعدمها.
فإذن الاستعداد الذي في الصور الخيالية لقبول المعقولات هو العقل الهيولاني الأول، والعقل الذي بالملكة هو المعقولات الحاصلة بالفعل فيه إذا صارت، بحيث يتصور بها الإنسان متى شاء، كالحال في المعلم إذ لم يعلم، وهو إنما يحصل بالفعل على تمامه الآخر، وبهذه الحال تحصل العلوم النظرية.
وذلك أن توجد للإنسان الذي بهذه الحال في جميع الصنايع النظرية التمامات الأربعة التي عددت في كمالات الصنايع في كتاب البرهان.
وبهذا الاستعداد الذي توجد للإنسان في الصورة الخيالية تفارق نفسه المتخيلة النفس المتخيلة من الحيوان، كما تفارق النفس الغاذية في النبات الغاذية في الحيوان بالاستعداد الذي فيها لقبول المحسوسات، لكن الفرق بينهما أن الاستعداد الذي في الصور الخيالية لقبول المعقولات هو غير مخالط للصورة الخيالية، لأنه لو كان مخالطاً لما أمكن فيه أن يقبل الصور الخيالية، كما أنه لو كانت الحاسة ذات لون لما أمكن فيها أن يقبل اللون، وهذا هو معنى قولهم إن العقل الهيولاني لو كان ذا صورة مخصوصة لما قبل الصور الخيالية هي أحرى أن تكون محركة له من أن تكون قابلة. فلذلك ما يقول الإسكندر أن العقل الهيولاني هو استعداد فقط مجرد من الصور يريد أنه ليس صورة من الصور شرطاً في قبوله المعقولات، وإنما هي شرط في وجوده فقط لا في قبوله.
ولإشكال هذا المعنى على المفسرين جعلوا العقل الهيولاني جوهراً أزلياً من طبيعة العقل، أي وجوده وجود في القوة حتى تكون نسبته إلى المعقولات نسبة الهيولى إلى الصورة، لكن ما هذا شأنه فليس أن يستكمل به في الكون جسم كائن فاسد، ولا أن يكون المتسكمل به عاقلاً به، أعني الإنسان، إذ هو كائن فاسد لكن يدخل هذا على الإسكندر في تسليمه أن الإنسان يستكمل في آخر كونه بفعل مفارق، ولذلك يستدعي الحكم بين المذهبين قول أبسط من هذا لا يحتمله هذا المختصر، فنرجع إلى حيث كنا.
الصور بالقوة والصور بالفعل
فنقول قد تبين من هذا القول أن هذه المعقولات فيها جزء هيولاني وجزء غير هيولاني، وتبين مع هذا ما هذه الهيولى وما ترتيبها، فلننظر ما المحرك لهذه القوة. فنقول إنه لما كانت هذه المعقولات كما تبين من أمرها توجد أولاً بالقوة ثم ثانياً بالفعل، وكان كل ما هذا شأنه مما قوامه بالطبيعة فله محرك يخرجه من القوة إلى الفعل وجب ضرورة أن يكون الأمر على هذا في هذه المعقولات، فإن القوة ليس يمكن فيها أن تصير إلى الفعل بذاتها، إذ كانت إنما هي عدم الفعل بجهة ما على ما تلخص قبل، ولما كان أيضاً المحرك إنما يعطي المتحرك شبه ما في جوهره وجب أن يكون هذا المحرك عقلاً وأن يكون مع ذلك غير هيولاني أصلاً، وذلك أن العقل الهيولاني يحتاج ضرورة في وجوده إلى أن يكون هاهنا عقل موجود بالفعل دائماً وإلا لم يوجد الهيولاني، وذلك بين مما تقدم من الأصول الطبيِعية، فإن كان ما ليس يحتاج في فعله الخاص إلى الهيولى فليس بهيولاني أصلاً.
ومن هذا يظهر أن هذا العقل الفاعل أشرف من الهيولاني وأنه في نفسه موجود بالفعل عقلاً دائماً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله، وأن العقل فيه هو المعقول من جميع الوجوه، وهذا العقل قد تبين قبل أنه صورة وتبين هاهنا أنه فاعل، ولذلك أمكن أن يظن أن عقله. ممكن لنا بآخرة، أعني من حيث هو صورة لنا، ويكون قد حصل لنا ضرورة معقول أزلي، إذ كان في نفسه عقلاً سواء عقلناه نحن أو لم نعقله، لا إن وجوده عقلاً من جعلنا كالحال في المعقولات الهيولانية، وهذه الحال هي التي تعرف بالاتحاد والاتصال. ويرى الإسكندر أن الذي يعنيه أرسطو بالعقل المستفاد هو العقل الفاعل من جهة ما يوجد له هذا الاتصال بناء، ولذلك ما سمي مستفاداً أي إنا نستفيده، ونحن ننظر في هذا الاتصال هل هو ممكن للإنسان أم لا، فإن آخر ما ينتهي إليه صاحب هذا العلم هو الفحص عن الكمالات الأخيرة الموجودة للأمور الطبيعية بما هي طبيعية ومتغيرة، كما أنه ينتهي بالفحص عن السبب الأقصى لها في التحريك والمتحرك، وهو الفاعل الأقصى والهيولى الأولى.
فنقول أن القوم يعتمدون في ذلك أن العقل النظري لما كان من طبيعة انتزاع الصورة من الموضوع وكان ينتزع الصورة غير المفارقة فهو أحرى أن تنتزع هذه الصورة المفارقة، أعني إذا نظر في هذه المعقولات الحادثة بما هي معقولات، وذلك إذا صارت عقلاً بالفعل وعلى كمالها الأخير، أعني الهيولى وذلك أنه لما لم تصر على كمالها الأخير فهو عقل متكون، وفعل الكائن بما هو كائن ناقص، وإذا تقرر هذا فهذا التصور هو الكمال الأخير للإنسان والغاية المقصودة - وهاهنا انقضى القول في القوة الناطقة.
القول في القوة النزوعية
وهذه القوة بين من أمرها أنها غير القوى التي سلفت وأنها مباينة بوجودها لتلك، وذلك أنا لسنا نقدر أن نقول إنها القوة الحساسة والمتخيلة، لأن كل واحدة من هاتين القوتين قد توجد خلوا من هذه وذلك أنا قد نحس ونتخيل من غير أن ننزع، وإن كان ليس يمكن أن ننزع دون هاتين القوتين، أعني قوة التخيل والجس. ولذلك ما نرى أنها متقدمة لهذه القوة، أعني النزوعية التقدم الذي بالطبع، ولهذا السبب عينه عدم إنبات هذه القوة لما عدم الحس والتخيل ليس هاتان القوتان تتقدم هذه القوة فقط، أعني النزوعية، بل قد توجد القوة الناطقة أيضاً متقدمة لها في المعارف النظرية، وذلك أنا قد ننزع عن التصور الذي يكون بالعقل وقد ننزع أيضاً عن الصورة المتخيلة، بالفكر والروية، وذلك في الأمور العملية. وإذا كان هذا هكذا وكانت هاتان القوتان، أعني قوة الحس والتخيل متقدمة لهذه القوه فلا يخول الأمر في ذلك من أحد شيئين، أما أن تهون هاتان القوتان موضوعة لهذه القوة، أعني قوة النزوع على جهة. ما الهيولى موضوعة للصور، أو يكون الموضوع لها واحداً ويكون وجود قوة النزوع في ذلك الموضوع تابعاً لوجود قوة التخيل أو الحس على جهة ما تتبع اللواحق الأشياء التي هي لها لواحق. هذا إن كان يوجد نزوع دون تخيل بل عن الحس فقط على ما يظهر ذلك في الحيوان غير المتخيل كالذباب والدود. وأما إن كان لا يوجد نزوع دون تخيل ما فالمتقدم بالطبع لهذه القوة إنما هو قوة التخيل فقط، والفحص حينئذ إنما يكون فقط عن نسبة هذه القوة إلى قوة التخيل، هل ذلك نسبة اللاحق أو نسبة الاستكمال.
وإذا تبين كيف نسبتها إلى التخيل تبين ضرورة نسبتها إلى النفس الناطقة. ولذلك ما ينبغي أن نفحص أولاً من أمر هذه القوة عن هذا المعنى، أعني هل يوجد نزوع دون تخيل، وأن لم يوجد فعلى أي حال ينسب إلى التخيل، ثم نفحص بعد ذلك من أمرها هل هي واحدة أو كثيرة، وعلى أي جهة يوجد الحيوان متحركاً عنها الحركة المكانية، هل ذلك على أنها المحرك الأقصى له في هذه الحركة أم هي محركة للحيوان بجهة متحركة بأخرى على جهة مما يوجد المحرك الأوسط، وبالجملة فنفحص عن الأشياء التي بها تلتئم هذه الحركة. وإنما كان الفحص من هذه الحركة في هذا الوضع، إذ كنا نرى أن أخص أسباب هذه الحركة هي هذه القوة، أعني قوة النزوع وأنها وأن كانت إنما تحرك الحيوان بمعاضدة غيرها من القوى فهي السبب الأخص فتحريكه. فإذا وقفنا على هذا كله من أمرها يكون قد حصل لنا العلم بجوهرها على التمام. فنقول إن هذه القوة هي القوة التي بها نزع الحيوان إلى الملائم وينفر عن المؤذي، وذلك من أمرها بين بنفسه، وهذا النزوع أن كان إلى الملذ سمي شوقاً، وإن كان إلى الانتقام سمي غضباً، وإن كان عن رؤية سمي اختياراً وإرادة. فأما أن هذه القوة يتقوم وجودها في الحيوان المتخيل التخيل، وحينئذ يكون النزوع. فذلك مما لا يشك فيه. فأما هل توجد هذه القوة عن الحس مفرداً دون التخيل، وذلك في الحيوان الذي يظن به أنه غير متخيل ففيه موضع نظر، وذلك أنه قد يظن بالحيوان غير المتخيل أنه إنما يتحرك عن الحس فقط،. كان لا يكفي متحركاً إلا بحضور المحسوس، لكن متى سلمنا هذا أعني أن بعض الحيوان لا يتحرك إلا بحضور المحسوس لم يلزم على ذلك أنه تلقي حركة من غير تخيل، لأن الحيوان إنما يتحرك إلا بحضور المحسوس نتخيل معنى فيه هو محسوس بالقوة ليحصل محسوساً بالفعل. ولو كانت حركته من المحسوس مشابهة ما هو محسوس بالفعل لكانت حركته، عبثاً وباطلاً. وإذا كان ذلك كذلك فلا يخلو الحيوان أن تكون حركته نحو ذلك المعنى الموجود بالقوة من جهة ما هو متخيل له، فتكون حركته حيوانية أو تكون حركته نحو ذلك المعنى لا من جهة ما هو متخيل له، فتكون حركته طبيعية لا حيوانية، وهذا ممتنع فباضطرار أن يكون القسم الأخير، أعني أنه إنما يتحرك عن تخيل ما لكنه تخيل غير محصل لا يفارق المحسوس، ومن هنا يظهر أنه ليس يمكن أن تلفي حيوان متحرك عادم للتخيل أصلاً.
وإذا كان ذلك كذلك وتبين أن هذه القوة إنما تلفي أبداً مع التخيل أو النطق، وكان قد تبين من أمر هاتين القوتين أنهما متقدمتان عليها بالطبع، وكان أيضاً من الظاهر. بنفسه أن قوة التخيل ليست نسبتها إلى هذه القوة نسبة الموضوع، إذ كان التخيل إدراكاً والنزوع شيء يتبع الإدراك كما يتبع القطع الحدة، وأحرى بذلك القوة الناطقة، فمن البين أنها تابعة لهما على جهة ما يتبع اللواحق ملحوقاتها، والموضوع ضرورة لهذه القوة هو الحار الغريزي، ويشهد لذلك ما يعتري عند النزوع من الانفعالات الجسمية كحمرة الغضبان وصفرة الوجل، والكون بهذه القوة تابعة لأكثر من قوة واحدة من قوى النفس، نرى أنها متكثرة بتكثر القوى التي هي تابعة لها، وكان النزوع يقال على جميعها بضرب من التوسط بين المشتركة أسماؤها والمتواطئة وهي المشككة، وبخاصة إذا تأملنا ما يدل عليه قولنا نزوع في الحيوان ونزوع في المطلوبات النظرية.
وأما المتشوقات الصناعية فقال بنوع متوسط بين هذين، ولكون هذا الاختلاف الذي بين هذه الأنحاء من النزوع قد يوجد الإنسان متحركاً بها حركات متضادة، فإن النزوع الفكري كثيراً ما يضاد النزوع الحيواني، وذلك بين ما نجده فينا.
وإذ قد تبين من أمر هذه القوة كيف نسبتها إلى قوة التخيل، وبين مع هذا على أي جهة تلفي فيها الكثرة. فقد ينبغي أن نقول على أي جهة توجد عنها الحركة للحيوان، وبكم شيء تلتئم هذه الحركة المكانية.
فنقول إن كل متحرك كما تبين في الأقاويل العامة فله محرك والمحرك منه أول، وهو الذي لا يتحرك أصلاً عندما يحرك ومنه ما يحرك بأن يتحرك، وذلك في جميع الحركات التي تلتئم من أكثر من محرك واحد، وهو من البين أن هذه الحركة التي للحيوان في المكان من الحركات التي تلتئم من أكثر محرك واحد، وأن فيها هذين الجنسين من المحركات، أعني المحرك الذي لا يتحرك أصلاً إلا بالعرض والمحرك الذي يتحرك، وإن المحركين لهذه الحركة التي بها يلتئم وجودها منها أجسام، ومنها قوى نفسانية.
إما الأجسام التي منها تلتئم هذه الحركة فستفحص عنه في كتاب حركات الحيوان المكانية.
وأما القوى فلنفحص عنها في هذا الموضع، وهو من الظاهر أن هذه الحركة إنما توجد للحيوان عن قوتين من قوى النفس، وهي القوى المتخيلة، والقوة النزوعية. وذلك أنه مما يتبين عن قرب ضرورة تقدم هاتين القولين لهذه الحركة، إلا أنه قد يتخيل الشيء وينزع إليه من غير أن يتحرك ولذلك ما يحتاج ضرورة في هذه الحركة إلى وجود نسبة ما بين هاتين القوتين بها يكون الحيوان متحركاً ضرورة، وليس ذلك شيئاً اكثر من كون الصورة المتخيلة محركة للنفس النزوعية، والنزوعية متحركة عنها، وقابلة لها، فإنه عندما يحرك الصورة المتخيلة للنفس تحرك النزوعية الحار الغريزي فيحرك هو سائر أعضاء الحركة. ولذلك متى نحت عن نفس النزوعية عن التحريك أو لم تكف بينهما هذه النسبة كفت الحركة.
وذلك أن النزوع ليس شيئاً اكثر من تشوق حضور الصور المحسوسة من جهة ما نتخيلها، فإذا حصلت هذه الملازمة بين هاتين القوتين من الفعل والقبول تحرك الحيوان ضرورة إلى أن تحصل تلك الصورة المتخيلة محسوسة بالفعل، فإذن الصورة المتخيلة هي المحرك الأقصى في هذه الحركة، والقوة النزوعية متحركة عنها على طريق الإدراك، هي المحرك الأول في المكان ولذلك نسبت إليه هذه الحركة دون النفس المدركة التي هي علة النزوع. والحال التي إذا حصلت في النفس النزوعية حركت الحار الغريزي، وحرك الحار الغريزي الأعضاء هي التي يسميها المفسرون بالإجماع، ولذلك متى وجدت هذه الصورة المتخيلة والنزوع دون هذه الحال لك يكن لها جدوى في تحريك ذلك الحيوان، إذا كانت الصورة الخيالية إنما وجودها من أجل الحركة، وعدم قبول النفس النزوعية للتحريك عن الصورة المتخيلة يسمى مللاً، وبطوء قبولها يسمى كسلاً، كما أن ضده يسمى نشاطاً.
فقد قلنا بماذا تلتئم هذه الحركة وكيف تلتئم ومتى تلتئم وقلنا مع ذلك في وجدود النفس النزوعية وماهيتها.
وهنا انقضى القول في الأقاويل الكلية من علم النفس حسب ما جرت به عادة المشائين.
فأما القول في سائر القوى الجزئية مثل الحفظ والذكر والتذكر وما يلزم عنها من الإدراكات، وبالجملة سائر الإدراكات النفسانية، فالقول فيها في كتاب الحس والمحسوس، والحمد لله حق حمده.