اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل محمد وعترته
1 - قال الكندي: اعلم، أسعدك الله ، أن أعلى الصناعات الإنسانية درجة ، وأشرفها مرتبة، صناعة الفلسفة، التي حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان. ولا نجد مطلوبا من الحق من غير علة، وعلة كل شيء وثباته الحق، لأن كل ماله إنية له حقيقة، فالحق اضطرارا موجود، إذ الإنيات موجودة.
2 - قال: وإنما نعلم كل معلوم إذا نحن أحطنا بعلم علته، لأن كل علة إما أن تكون عنصرا، وإما صورة، وإما فاعلة، أعني ما منه مبدأ الحركة، وإما متممة، أعني ما من أجله كان الشيء. والمطالب العامة أربعة: هل، وما، وأي، ولم، فهل باحثة عن الانية ، وما فبحث عن الجنس في كل ما له جنس؛ وأي فبحث عن الفصل، وما وأي جميعا عن النوع؛ ولم عن العلة التمامية. وبين أنا متى أحطنا بعلم عنصرها فقد أحطنا بعلم نوعها، وفي علم النوع علم الفصل، فإذا أحطنا بعلم العنصر والصورة والعلة التمامية ، فقد أحطنا بعلم حدها؛ وكل محدود فحقيقته في حده.
3 - قال محمد: اختصار هذا، أنا متى أحطنا بعلم الأصل أحطنا بعلم ما بعده.
4 - وذكر أهل الرياسة فقال: نصبوا كراسيهم المزورة التي نصبوها عن غير استحقاق بل للترؤس والتجارة بالدين، وهم عدماء الدين، لأن من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، ومن تجر بالدين لم يكن له دين، وحق أن يتعرى من الدين من عاند قنية علم الأشياء بحقائقها وسماها وكفرا، لأن في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة ، وجملة علم كل نافع والسبيل إليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الدين الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل صلوات الله عليهم إنما أتت بالإقرار بربوبية الله تعالى وحده، ولزوم القضايا المرتضاة عنده، ورفض الرذائل المضادة للفضائل في ذاتها وعواقبها.
☰ جدول المحتويات
ما في الفن الثاني
5 - الوجود الإنساني وجودان: أحدهما: وجود الحواس الذي هو لجميع الحيوان معنا منذ نشوئه، وهذا الوجود الذي ثبتت صورته في المصور فأداها الحس إلى الحفظ، فتصور وتمثل في النفس، والحس يباشرها بلا زمان ولا مؤونة، والمحسوس كله ذو هيولى فكله ذو جرم. والوجود الثاني أقرب من الطبيعة وأبعد عنا، وهو وجود العقل. وبحق كان الوجود وجودين، إذ الأشياء كلية وجزئية، أعني بالكلية الأجناس لكل الأنواع والأنواع لكل الأجناس، والجزئية للأشخاص أجزاء من النوع، والأنواع أجزاء من الجنس. فالأشخاص الجزئية الهيولانية واقعة تحت الحواس، والأجناس والأنواع لا توجد إلا بقوة من قوى النفس التامة، وتلك القوة هي العقل.
6 - قال محمد: اختصار هذا أن الحواس تجد الأشخاص وأن العقل يجد المعاني.
7 - قال: وكل متمثل نوعي جزئي، وما فوق النوعي لا يتمثل للنفوس، لأن المثل كلها محسوسة، ولكنه مصدق ومحقق، متيقن اضطرارا، كقولك هو لا هو غير صادقتين في شيء بعينه. وهذا وجود للنفس لا يحتاج إلى متوسط ولا مثال له في النفس، لأنه لا لون ولا صوت ولا رائحة ولا طعم ولا ملموس. ومثله لو قال لنا: إن جسم الكل ليس خارجا منه لا خلاء ولا ملاء، وهذا لا يتمثل لأن " لا خلاء ولا ملاء " لم يدركه الحس ولا لحقته النفس ، فيكون له فيها مثال، وإنما هو شيء يجده العقل اضطرارا. فاحفظ، حفظ الله عليك جميع الفضائل، وصانك من جميع الرذائل، هذه المقدمة لتكون لك دليلا قاصدا إلى الحقائق ، فإن بهاتين السبيلين كان الحق من جهة سهلا، ومن جهة عسرا، لأن من طلب تمثيل ما لا يتمثل عشي عنه، كعشا أعين الوطاوط عن درك الأشخاص الواضحة لنا في شعاع الشمس.
8 - قال: والهيولى موضوعة الانفعال فهي متحركة، والطبيعة علة أولية لكل متحرك وساكن.
9 - قال محمد: يقول فالطبيعة فوق الهيولى، والهيولى هو حد التمثيل والإدراك بالحس، فكيف يدرك ما فوقها بالتمثيل لا يدرك إلا بعلته وفي الطبيعة.
10 - قال: وعلم الطبيعة علم كل متحرك، فما فوق الطبيعة من المحدثات أيضا هو لا متحرك لأنه ليس يمكن أن يكون الشيء علة كونه ، فليس علة الحركة حركة، ولا علة المتحرك متحركا، فما فوق الطبيعة ليس متحركا.
وهذا القول صواب، إن شاء الله، لأنه ليس فوق الطبيعة من المحدثات إلا العدم، والله عز وجل فوق الحركات والسكون، لا تأخذه صفة حركة ولا سكون. فهذا صواب من الوجهين.
11 - قال: وقد ينبغي أن لا يطلب في إدراك كل مطلوب الوجود البرهاني، لأنه ليس كل مطلوب عقلي موجودا بالبرهان، لأنه ليس لكل شيء برهان، إذ البرهان بعض الأشياء ، ولو كان للبرهان برهان لكان هذا بلا نهاية ولم يكن لشيء وجود بتة، لأن ما لا ينتهي إلى علم أوائله فليس بمعلوم، فلا يكون علم بتة
12 - قال محمد: هذا كقوله لا ينبغي أن يطلب ما فوق الهيولي بالتمثيل. ونعم ما قال إن شاء الله، لأن البرهان هو النور في نفس اللفظة، فإدراك هو كإدراك البصر نور واضح لا يحتاج إلى برهان. فلو قال قائل: ما البرهان أن هذه السماء وهذه الأرض قيل له: لو أجبناك على ذلك ببرهان طلبت على البرهان برهانا إلى ما لا نهاية له، ولكن هذا برهانه، لأن ما ذهب في إدراك البرهان إلى إدراك الطبيعة وإدراك الحواس نسميه إقناعا.
13 - قال الكندي: فلا ينبغي أن يطلب الإقناع في العلوم الرياضية، بل البرهان، لأنا إن استعملنا الإقناع في العلم الرياضي كانت إحاطتنا به ظنية .
14 - قال محمد: ثم خلط أنواع المطلوبات خلطا ما هو بمحصل لأنه قال: فلا يطلب في العلم الرياضي إقناع، ولا في العلم الالإهي حس ولا تمثيل، ولا في أوائل العلم الطبيعي الجوامع الفكرية ولا في الإقناعية برهان، ولا في أوائل البرهان برهانا.
15 - أوائل العلم الطبيعي هو الهيولاني عنده الآن.
والجوامع الفكرية عنده البرهان. وأوائل البرهان ما فوق الطبيعة والفطرة من أوائل الأمر بلا تعريف.
وكيف يكون هذا محصلا والعلم الالإهي وأوائل الطبيعة واحد في الإدراك لا يتمثل، فهلا جمعهما وقال: حسا ولا تمثيلا؛ وفي الآخر الجوامع الفكرية، والجوامع الفكرية هي المتمثلات، وهو قد قال: كهو لا هو لا يدرك إلا اضطرارا.
16 - قال محمد: صحته عندي أن لا يطلب في العلم الرياضي علم الربوبية؛ وما كان فوق الهيولى إقناعا، ولكن اضطرارا، ولا يطلب في أوائل البرهان، وهو علم الحس، برهان، كما ذكرنا في أمر السماء والأرض.
17 - ثم ذكر حقيقة معنى الأزلية فقال: ينبغي أن نقدم القرائن التي نحتاج إلى استعمالها.
فنقول: إن الأزلي هو الذي لم يجب لشيء هو مطلق، أي بل هو مطلق، فالأزلي لا قبل لهويته، فالأزلي هو لا قوامة هو من غيره ، هو ولا علة له ولا موضوع ولا محمول ولا فاعل له ولا سبب، أعني ما من أجله كان، فلا جنس له، لأنه إن كان له جنس فهو نوع، والنوع مركب من جنسه العام له ولغيره، ومن فصل ليس في غيره، فله موضوع هو الجنس القابل لصورته وصورة غيره، ومحمول هو الصورة الخاصية له دون غيره، فالنوع كله موضوع ومحمول. فالأزلي لا يفسد، لأن الفساد إنما هو تبدل المحمول لا الحامل الأول، فأما الحامل الأول الذي هو الأيس فليس يتبدل، لأن الفاسد ليس تتباين إنيته بتباين إبنيته ، وكل متبدل فإنما يتبدل بضده الأقرب معه في جنس واحد كالحرارة إلى البرودة، لا بالأبعد من المقابلة كالحرارة باليبس أو بالحلاوة أو بالطول، والأضداد المتقاربة هي في جنس واحد، فالفاسد جنس، والأزلي لا جنس له، فهو لا يتبدل ولا ينتقل من نقص إلى تمام، لأن الانتقال استحالة، وهو لا يستحيل. والتام هو الذي ليست له حاله ثانية يكون بها فاضلا، والأزلي لا يمكن أن يكون ناقصا، لأنه لا يمكن أن ينتقل إلى حال يكون بها فاضلا، لأنه لا يمكن أن يستحيل بتة، فالأزلي تام اضطرارا، وإذا كان الأزلي لا جنس له، فما له جنس وأنواع غير أزلي، فالجرم لا أزلي.
18 - قال الموحد: هذا قولنا والرد على من جهل ربه وسماه بغير أسمائه التي سمى بها نفسه، ووصفه بغير صفاته، سبحانه وتعالى عن ذلك، لا نقول في الباري عز وجل كما قال يعقوب بن إسحاق: إنه علة، فنقض توحيده وهدم بناءه وكذب نفسه في المقدمات التي برهنها في بدء أقاويله، وزلت قدمه فهوى، فلا نقول في الباري عز وجل إنه علة لما بعده إذا نحن أردنا كشف العلل والبلوغ إلى حقائقها في ذواتها والإبانة عنها، لأنا نوهم السامع أنه من جهة المعلول وجب أن نسميه بعلة، إذ ليست العلة علة معقولة إلا لمعلول، ولا المعلول معلول إلا لعلة بالقول إلى مضاف اضطرارا، فتوهم إذن السامع أن خالقه مضاف إلى كل معلول بغير إطلاق، تعالى ربنا عن ذلك وتقدس.
19 - والكندي يقولنا بما قلنا بلسانه وينطق به كتابه عنه ويشهد به عليه، فقد كرر القول وبرهنه أنه عز وجل لا يلحقه المضاف ولا ما شاكل المضاف، وإن رام أحد بعد أن يخطئ على نفسه فيسميه بعلة على ألا يكون حينئذ من المضاف في عقله بكل جهده، لم يجد ذلك ولم يقدر أن ينفي عنه الإضافة من بعد أبدا، بل أوجب بذلك التبعيض والنهاية، وكل ما نفى عنه الكندي وغيره إذ سماه علة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، فلذلك لا نقول نحن إنه علة أفعال المعلولات، ولا علة المعلولات، ولا علة العلة، في مطلبنا هذا الذي نريد به قصد الواحد الصمد جل ثناؤه، بل نقول: هو الأحد الأول الصمد مبدع العلل، وهو الذي ابتدع المعلولات لأجل تلك العلل التي سبقت منه، فوجب أن يكون الإبداع من أجلها كائنا تاما متقنا على ما هو عليه من التنضيد والإتقان.
20 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الأول: هل هي غيره بذواتها وغير الإبداع الكائن منها قيل له: نعم، ومن أجل تلك العلل الأول البسيطة الانهمال كانت المهويات المركبة في أنفسها حقائق؛ والعلل الأول هي التي تسمى بالحقيقة عللا، لأنها وضعت لتكون معلولاتها المتهوية منها بفعال فاعلها عز وجل، ولا نقول إن العلل كانت لأجل واضعها المخرج لها من عدم، لأنه الغني عن ذلك والمتعالي عنه عز وجل {ليس كمثله شيء}[1] فهو لا من أجله وجب أن يكون شيء، لأنه هو لا موضوع لشيء يجب، فيقال لذلك الشيء إنه من أجله كان، كما يقال ذلك في العلل الموضوعة، سبحانه وتعالى عن ذلك.
21 - فإن قال قائل: فلولاه لم تكن العلل ولا المعلولات. قيل له: نعم، لولاه لم تكن، ولكن ليس علة لذلك، لأن اسم العلة فيه معنى الضرورة إلى معلولها، وفي المعلول معنى الضرورة إلى علته، لأن العلة موضوعة للمعلول، والمعلول محمول على العلة، فهما مضافان مضطران متصلان غير مفترقين ولا غنيين، لحاجة كل واحد منهما إلى صاحبه. وليست هذه صفة الخالق الأول الذي كان قبل أن يبدع شيئا غنيا عن كل شيء، ثم لم يحل به حال لأنه لا لتأخذه الاستحالة فيعود من غني إلى احتياج، أو من انفراد إلى اتصال، أو من وحدانية إلى تكثر. وفرقان صفته من صفة العلة، أن العلة منساقة إلى معلولها، كما ذكرنا، وهو عز وجل ليس بأولى أن يكون واضعا لها منه بأن لا يكون، سبحانه وتعالى عن أن يكون أولى بالترك، لا بإيجاد معرفته منه لإيجادها. كمثل ما يلزم العلل من ضد هذا القول، بل هو المختار الذي لا يلزمه في أحد المعنيين ولا في شيء منها اضطرار، لا يلزمه فعل شيء ولا يلزمه ترك شيء، كلتا الحالتين معدلتان في اختياره. والعلل الموضوعة ليست بأولى بالترك لمعلولاتها وإعدامها منها إلا بترك ما قد جعل لها في قوتها أن تفعله ويوجد منها، لأنها مضطرة إلى فعل ما جعل فيها فعله.
22 - فالأول الغني المتعال جل جلاله بريء مما يلزم الموضوعات من الضرورة لإيجاد ما لها في القوة إيجاد {ليس كمثله شيء} هو الخالق وما سواه مخلوق وهو المختار وما سواه مضطر، ولذلك لا تلحقه الأسماء المجازية ولا الخفية لحوق اللزوم والتطرد في العقول العالمة به عز وجل، إنما الأسماء والصفات موضوعة على معنى هي له بدائع، لا لتلحقه، كما هي لاحقة الذي هو مركب منها معار جوهرها، لأنا نقول في الصفات: إنها لاحقة المركبات بجوهرها، وإن المركبات مركبات من جوهرها مكسبة إياه، وهذا اللحاق اللاحق الذي لا يلحق بارينا تعالى من صفاته وأسمائه، وإنما هي دلالات دالة للعقول، دالة عليه سبحانه وبحمده الواحد الصمد. ونقول إنها ليست بخالقة ولا نقول مخلوقة، بل هي صفات مجعولة موضوعة، والخلق مركب منها، أعني من جوهرها البسيط. وأقول في الأسماء الصوتية: إنها للصفات مثالات باتفاق المعارف، كائنة ما كانت تلك الأصوات، كانت من صنع الله تعالى أو من صنع الآدميين، وأقول ذلك في الأسماء المرقومة كائنة ما كانت من لون مداد أو غير ذلك.
23 - فإن سأل سائل عن تلك العلل الموصوفة البسيطة السابقة لتهوية المهويات، قيل له: الاسطقصات الأربع الخارجة من عنده التي هي للخلق موضوعة منفعلة، بعد إذ هي لا كائنة ولا موجودة، فهي الاسطقصات الأربع المتهوية المتأيسة في المكان الجامع لها، وهي الطبائع الأربع المتأيسة السابقة للخلق من ربها عز وجل: الأرض والماء والنار والهواء، هي العلل الموضوعات لتهوية جميع المهويات في المكان الجامع.
24 - فإن قال قائل: فهل من علة أوجبت هذه العلل، فكانت العلل لأجلها قيل له: العلل ليست بلا نهاية، لأن هذا الاسم الذي هو لها جامع يحصرها في الحال للذي له صارت عللا، فتقصر إليه ضرورة بلا زيادة دائمة. فإن وجد واجد علة داخلة في الحال سوى ما ذكرنا فليأت على ذلك بسلطان بين: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} [2] بأن سماه علة فأدخله بزعمه في حال العلل التي هو عنها متعال في وجود كل ذي عقل، وهو محدث العلل وواضعها ومدخلها بالاسم والحال، بلا تبديل لها ما دامت كائنة، كما وضعها عليه في البدء، إقامة لدلائل الضرورة فيها، وإبانة لنفسه عنها بالارتفاع عليها سبحانه وبحمده {تعالى} عما يقول المبطلون علوا كبيرا.
25 - ثم يقال له: هل هي علل إلا لأنها بحال هي بد للمعلولات علل موضوعة بذلك البتة، وأن ذلك حال الفاضل لها من كل معلول خرج منها ويكون من أجلها، وأنها ليست بأولى بأنفسها منها بإخراج المعلول بتة فهذا بيان الضرورة فيها إن أقررت، وإن أنكرت جحدت العلل والمعلولات والمتعارف المعقول منها.
26 - فإن قال: سماه علة، عز وجل، لأنه للعل بحالها ما هي لغيرها على مثل سواء، فهذا الكذب الصراح، فليأت عليه بسلطان بين، لأن الحال لا تلزمه ولا تستطيع أن تلحقه صفتها من جهة من الجهات أبدا.
27 - فإن قال: فهل هي للعلل ببعض ما هي لغيرها. قيل له: سبحان الله عن التبعيض والتجزئة، أو أن يكون نفسه لغيره لا لنفسه، فإن ظهر له نفي جميع ذلك عنه، كما هو أهله عز وجل، بالحقيقة الظاهر نورها لكل ذي هدى وإنصاف. فما سبيله إذن إلى أن يسميه علة يجب لإيجابه شيء سواه، كما وجبت أن تكون المعلولات لأجل العلل، وأن تكون العلل لأجل المعلولات الواجبة منها ضرورة، وانعطف بعض الخلق على بعض وانحصر في نفسه بما حده له خالقه، ولم يكن له أن يجاوز الحادث إلى القدم، ولا المحصور إلى المطلق، ولا المخلوق إلى الخالق، إنما نفع اسم من كتب نبوة أو حجة فطرة، فإن أقر بالنبوة فليس هذا الاسم منها، وإن ذهب إلى حجة العقول، فقد ظهر به نفي ذلك عنه سبحانه.
28 - وإن سأل السائل عن حال العلل فقال: وما الحال التي من أجلها صارت عللا، فلا يجب لتلك الحال أن يكون الباري علة المعلول قيل له: الاشتراك في حال العلل، لأن تلك الحال جامعها معا لكون كل معلول يكون من أجلها، كالاشتراك بحالها الجامع لها. فالباري تعالى لا علة، إذ ليس مشتركا معها في الاسم ولا في المعنى، وإذ هي بالفصل بائنه عنه، لأن الفصل غاية لها، وهو لا غاية له عز وجل.
29 - فإن قال: فلم صارت هي عللا سابقة دون أن تكون هي المعلولات المسبوقة قيل له: لأنها بالفصل الأكبر في بسطها أحق من المعلولات، وإذ هي بالفصل الأكبر أحق، وجب لها السبق قبل كل معلول، لأنه محال أن تكون هي في بسطها وعظم أقدارها في الفصل الأصغر الذي هو أحق المعلولات من بعدها، فلأجل صغر الفصل صارت معلولات من غير اضطرارا، ولأجل عظم الفصول العظام صارت عللا لغيرها واستحقت السبق لها، وهو أصغر قدرا منها. ثم هي لا تعود بتلك الفصول العظام إلى أن تكون معلولات لغيرها أبدا إلا أن يكون قبلها ذو فصل أعظم منها. ولو كان قبل كل عظيم أعظم منه، كان هذا بلا غاية. والباري جل وعز لا يقال فيه إنه ذو فصل، أي يناله بذاته، على معنى أن تكون المنفصلات فيه كما هي في العلل، لأن الموضوع في المحدود محدود، والفاصل لذي الغاية ذو غاية، والمحيط بذي النهاية إحاطة الاتصال ذو نهاية، وهو الذي لا غاية له، عز وجل عن ذلك.
30 - فإن قال قائل: ولم كان هذا كذا قيل له: لأنه لم يكن بد من أن يكون صغير وكبير، ليعقل الصغير والكبير، ولا يعقل الصغير إلا بالكبير، ولا الكبير إلا بالصغير، فلما لم يكن بد من أن يعقل وضع على المعنى الذي به يعقل، فكان الكبير أحق بالسبق لكبره وفضله عن الصغير وحمله له، فكان علة له، وتأخر الصغير لصغره إذ حق ذلك له، إذ لا يقوم إلا في حامل قبله يسعه، فالكبير مكان، والصغير متمكن.
31 - فإن قال: ولم لم يكن المعلول بالفصل الأكبر أحق من العلة قيل له: فهذا تكرير بعد الفصل، ولكنا نقول له: لأن الفصل الأكبر فاصل عنه، فالكبير يفصل الصغير، لا الصغير يحيط بالكبير، ولا يعقل المعقول إلا بفصله الأحق به، فالصغير معقول بفصله الأصغر إذا أضيف إلى ما هو أكبر منه، فإن لم يضف إلى ما هو أكبر منه لم يعقل أن فصله صغير أو كبير بتة، وإذا لم يعقل دثر بلا زمان عن المعقول، لأن ما لا يعقل فصله دائر غير قائم، لأن الفصل هو الحق المبين له في العقول، فإن لم يكن الحق فقد بطل ما قارنه الحق، لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال.
32 - واعلم أن الحق الأول الرب الأعلى المحقق للحق، الفاصل لكل شيء مرتفع عن أن يقال بالحق حق، كما حق بالحق غيره، لأنه المحقق للحق الذي حقت به الأشياء، ولو وجب أن يكون المحقق للحق بالحق حق أعني قبل الحق - لوجب أن يكون المكون للكون بالكون تكون، وهذا رأس المحال، وهو الذي أحق الحق الأكبر وأحق به الأشياء، فأثبتها وأبانها به، فمحال أن تكون حقت بالحق حقيقته، بل ويحق عندنا بالحق على معنى الدلالة عليه أنه الحق المبين، لأن كل ما حقت إنيته بشيء، فذلك الشيء قبل إنيته، فافهم.
33 - ومن الزيادة في إيضاح قولنا في العلة والمعلول أنا نقول: إن الباري عز وجل خلق المعلولات على ما هي عليه من الإتقان والإحكام والثبات باضطراره للعلل التي وجبت المعلولات من أجلها واضطراره إياها. وهذا قول صحيح جدا. ألا ترى المركب المعلول المنضد ذا أجزاء لا محالة بعضها مخالف في الطبع لبعض: حار وبارد، ورطب ويابس، وثقيل راسب، وخفيف طاف، ومتوسط بينهما شبيه بالطرفين كليهما، وشديد غاية ضعيف بتة، ومتوسط بينهما قد توسط بين طرفيهما مما يلي الشديد شديد ليس كشدة الأشد، ومما يلي الضعيف ضعيف ليس كضعف الأضعف، فأنت لو طلبت سوى الأربعة بجهدك وجهد غيرك لم تجده بتة في شيء من العالم. فيحق ما قلنا على المعلولات إنها فعل الله تعالى باضطرار العلل لبعضها، لأنا نرى الأربعة في المعلول المركب مبنية بوزن العدل، قائمة بالإتقان لما يجب على ما يجب عند دفع العلل من أماكنها في الفصل المراد للمعلول. فالأثقل الراسب منها تجده في المعلول قد نزل في الحضيض الأسفل حاملا لسواها، كالماء الذي هو في الأسفل من العالم الأكبر، وكذلك هو في العالم الأصغر، وكذلك هو في النبات والحيوان الكلي. والأخف الطافي تجده لا محالة في الأعلى من العالم الأكبر وفي كل شيء سواه. والمتوسط بين الطرفين قائم لا محالة باعتدال موزون، فإن نزل فيه الجزء حامت الأطراف عليه ليعتدل ويسكن، ذلك تقدير العزيز العليم.
34 - فالمعلول فرع لعلته بوصفنا هذا، والعلة أصل لمعلولها، وحركة التأليف لا يمكن أن يكون منها التضاد القائم بينهما، فهي من محرك غيرهما ليس مثلهما لا محالة. فالمعلولات، كما فسرنا، كناية لأجل العلل الأول التي اضطرت إلى فعل معلولها، والعلل الأول الباعثة بما جعل في طبعها لكون كل معلول موضوعات لمنفعلاتها، وليست العلل بعد، إذ هي النهاية من كل شيء، سوى العدم الذي هو اسم ناف لكل شيء من وهم أو لفظ. ومن قال كقول يعقوب بن إسحاق إنها من أجل الباري، تعالى عن ذلك، فالباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، إلا أن الأول لا يكون إلا عن سبب معلوم أنه لا موضوع هو لشيء يكون من أجله انفعال ذلك الشيء، فقد نقض قوله إنه لا موضوع إذن، والباري عز وجل ليس شيء أولى به من شيء، لأن الأولى لا يكون إلا عن سبب متقدم يوجب له أن يكون أولى، فهو مطلق الاختيار عز وجل تام الغنى.
35 - فرأس العلم وقطبه وذروته العليا أن تعلم أنه ليس شيء من المعلولات كائنا إلا لعلة موضوعة، وضعها من تعالى عن أن يكون علة أو معلولها، ولكن كل شيء كان فلعلة موضوعة كان، وجب عند الله عز وجل أن يكون المعلول من أجلها كائنا لأن الله عز وجل تعالى وتقدس وتنزه وارتفع عن أن يضع نفسه ليكون من أجله شيء، لأن الخالق لا يعود مخلوقا والموضوع مخلوق، ولكنه القادر على أن وضع ما من أجله كان كل شيء، فتعالى ذو الكبرياء والعزة والعظمة والجلال عما يقول الملحدون في أسمائه، خطأ وعمدا، علوا كبيرا.
36 - وإنما دخل الغلط على الكندي على ما قال، لأنه نزه الباري زعم - أن يكون خلق الخلق من أجل غيره، فظن أنه إن أوجب ذلك وجب أن ذلك الغير سابق له ومستحق للقبل قبله، فاعجب كيف طمس عليه عقله، فإذا لم يجد صحيحا أن يكون فعل من أجل إنيته ولا من أجل غير قبله، أن يقول فعل من أجل شيء بعده فيصيب، فنعوذ بالله من العمى عن الهدى والضلال عن الحق والزيغ عن الطريق المستقيم.
37 - أرأيت لو قال له قائل قولا مختصرا: يا أيها الكندي المنكشف المبهوت، نحن نقول: إن الباري جل جلاله فعل ما فعل من أجل المفعول، إذ لا يجوز أن يكون مفعوله مفعولا تاما كائنا ذا أفعال وانطلاق وانتفاع إلا بفعل التمام له الذي من أجله كان المفعول وتم، وكان هو من أجل المفعول، إذ لا يكون علة إلا لمعلول، ولا معلول إلا لعلة متشاكلان. وإذ لا يجوز أن يعلمه المفعول إلا وهو منفعل وإرادته أن تعلمه هي علة انفعاله، فللإرادة كان المفعول، وللمفعول كانت الإرادة، ليس لواحد منهما عن صاحبه مخرج. فإن قال: هو إذن من أجل أن يعلمه فعله، قيل له: نعم، من أجل أن يعلمه، وأن يعلمه هي إرادته التي من أجلها فعل، لأن علم المفعول هي الإرادة التي من أجلها قام، فافهم.
38 - وقوله إن الإنية فعلت من أجل إنيتها فباطل محض، لأنه لا يجوز أن يقال على الإنية الواحدة بقول متوسط، إذ لا غاية لها فيدخلها توسط، لأنه لو دخلها توسط كان لها إذن بعض يفعل من أجله هذا قول لا يحمله العقل عن الله عز وجل، تعالى الله عنه، لأنه إن كان فاعلا من أجل ذاته، والذات وحده لا غيرية فيها، فهو لذاته فاعل ما فعل، وذاته قبل ذلك وحدة لا علة فيها، هذا من أشنع المحال والتناقض لمن عقله. وأيضا إن كان فعل من إجل إنيته، فالفعل لازمه ضرورة بما كانت الإنية علة للفعل، لأن العلة والمعلول من المضاف، لأن العلة علة المعلول، والمعلول معلول العلة، لا يجد العقل سوى هذا.
39 - وأيضا إن كانت الإنية فعلت من أجل ذاتها، إذ الفعل ليس ضرورة، فهي فاعلة لبعضها وما سواها معدوم، لأن بعضها علة فعل، وبعضها علة إيجاب فعل، فهذا كله يدخل على الكندي.
40 - وأيضا إن كان الفعل من أجل الإنية، فالفعل لازمه ضرورة، فالفعل إذن لم يزل والإنية متقدمة للفعل، فهي إذن قبل الفعل، فهي إذن أزلية والفعل حادث، والفعل من أجل الإنية، فالفعل إذن لم يزل، فالفعل إذن حادث والفعل لم يزل، هذا خلف، أراد شيئا فكانت الإرادة السابقة علة موضوعة لما يكون، ولا علة لها هي لأنه ليس قبلها مثلها، والعلة والمعلول متشاكلان، فمحال أن يكون لها علة، إذ ليس قبلها شيء يشاكلها فيكون علة لها، فالله تعالى محدثها وباعثها، وهي علة بأن سبقت كل معلول بعدها. هذا عندي أصح من أن يكون من أجل المعلول.
41 - تفسير الإرادة: الإرادة في الفصل الأكبر وهي الحد الأول وهي النهاية القصوى وهي العلة الأولى، فليس للفصل فصل، ولا للحد حد، ولا للنهاية نهاية، ولا للعلة علة. الفصل هو بنفسه فصل، والحد هو بنفسه حد، والنهاية هي بنفسها نهاية، والعلة هي بنفسها علة.
42 - العلة والمعلول من المضاف الذي لا يكون بعضه إلا لبعض، وهو يتسابق بالفعل ليس هو كالمكان والمتمكن؛ المكان والمتمكن والحد والمحدود والفصل والمفصول لا يتسابق بتة، وأما العلة والمعلول فيتسابق بالفصل، وأظن القائلين إنه لا يتسابق هم الدهرية، لأن هذا اللفظ يعضد ضلالهم فيزيدهم ضلالا.
والناقص والتام يتسابقان أيضا، فاحفظ إن شاء الله ما يتسابق مما لا يتسابق وتحفظ منه. وإنما يعنون بقولهم في العلة والمعلول: مضاف لا يتسابق، لأن العلة فيها معنى المعلول مضمر في لفظها، إذ لا يكون علة إلا لمعلول فيها معنى المعلول قائم لا تسبقه، كما المعلول فيه معنى العلة لا يسبقها، لأنه إذا ذكر فذكرها قائم فيه، فهو لا يسبقها بزمان، لغنى في ذكره إذا ذكر ومعناه وصف، وهي تسبق معلولها بالذات كالأب يسبق الابن، والمالك يسبق المملوك 98ظ.
43 - تفسير الفصل الأول: الفصل الأول فصل العدم من الوجود، فهل فصل للمفصول وحد للمحدود، فالمحدود فيه عن العدم، والمفصول فيه من العدم، هو العلم. هي المقادير الأول التي عنها كان الكون كله، هي مثال الكون كله، ولا يمكن أن يكون هذا الفصل الأكبر إلا العدم، والعدم لا يكون علة ولا معلولا. فمن زعم أن العلة التي هي العدم علة، قيل له: مشاكلة لها أو غير مشاكلة فإن قال: مشاكلة، قيل له: فهي إذن العلة الأولى حتى تنتهي إلى علة ليس بعدها علة مشاكلة، فإذا لم يجد أن الخالق والعدم، قيل له: فالخالق ليس مشاكلا للمعلول فيكون علة، والعدم لا يكون علة ولا معلولا، فإلى العلة إذن، فهي إذن ضرورة بنفسها علة لا علة لها، ولغيرها كانت علة، وذلك الغير هو المحدث لها، والأول الذي ليس كمثله شيء.
44 - مسألة الإمكان: نقول قولا لابد للكندي وأهل مذهبه وأشباههم من القول به ضرورة، نقول: إن الفاعل الأول فعل فعلا كان ممكنا أن يكون قبل كونه، فليس يقدر أن ينكر الإمكان لله تعالى في ذلك أحد، لأن الإمكان واجب قبل الفعل لا محالة، فلإمكان الذي ظهر ضرورة بين الفاعل والفعل هو البون الأكبر بين البون بين الفاعل والمفعول، ثم بينه بون آخر دونه في القدر والعظم هو تحته حاجز أيضا للمفعول أن يضاف إلى البون الأعلى، فضلا عن الفاعل الأول، جل وعز، وهذا البون الثاني هو الانفعال الخارج من جهة البون الأعلى الذي هو الإمكان، ولا يجوز أن يكون الإمكان هو الانفعال، كما لا يجوز أن يكون الانفعال هو المفعول التام المقدر المفروغ منه، لأن الانفعال عن إمكان يكون ضرورة، والمفعول القائم عن انفعال يكون ضرورة أيضا متتابعا. هكذا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ يخبر بجميع ذلك لمن لقنه، والحمد لله، وليس لأحد من الملحدين عن هذا بحجة العقل مخرج أبدا ولا محيص.
45 - تفسير الإمكان: فقل الآن للمتشاغل عن نور النبوة التي أبانت الألفاظ مع المعاني بوحي الله تعالى ونوره: فلإمكان هي الإرادة، هي الملك، هي العرش، وهو الغاية القصوى والنهاية العظمى والفصل الأكبر، وهو الحق المحيط بالكل، وهو الأمر الأعلى، والنور الأعظم، والحجاب الأرفع المضروب بين الخالق وخلقه، ثم دونه إلى الخلق حجاب آخر، وهو مكان الانفعال، وهو المثال الكائن من بعد الأمر الأول الجامع لأقدار المكونات كلها، قدر كل ما يكون، وزمام ما قد كان؛ وهو العلم والكرسي القائم تحت عرش الرحمن، فسبحان رب العالمين رب العرش العظيم.
46 - فقل الآن على ترجمة ما قالت حكماء الفترة ولم يفصحوا بالتسمية إذ عدموا نور النبوة: الإمكان هي الإرادة الجامعة لكل مراد من المنفعل والمفعول، والانفعال هو الطبيعة المتحركة تحت الإمكان، فهو مدة خروج الأقدار المفعولة عنه، فهو الزمان، ونهاية حركة الانفعال إلى حد؛ الإمكان الإرادة الجامعة لانفعال المنفعلات، والإمكان نهاية للزمان أي الطبيعة المتحركة للانفعال؛ فالإمكان هو العرش والذي تحته حركة انفعال الزمان، والذي تحت الزمان حركة المفعولات المكونات التامة هي الأوقات والسنون والأيام، والزمان نهاية السنين والأيام، والدهر نهاية الزمان، فالدهر جامع للزمان القائم بحركات الصور التي هي ذات الأقدار الثلاث طول وعرض وعمق - التي هي للجرم، وتلك الحركات التي هي حركات الأجرام هي المفصلة أوقات الانفصال أقدارها أجساما تامة، والدهر الجامع لذلك كله هو البون الأكبر والحد الأعظم والإرادة الدائمة الأبدية لخلود أهل الجنة والنار، وربنا المحمود ذو العرش المجيد الفعال لما يريد، وصلى الله على سيدنا محمد الذي لم يدعنا في ضلال أهل الفترة ولا حيرة أهل الفتنة وسلم.
47 - وقوله: اعلم أن الدهر هو بقاء غاية الإمكان التي يقوم الإمكان بها دائما ما بقيت تلك الغاية ساكنة في حال واحدة أو حركة واحدة لا ضد لها، واعلم أنهما غايتان: إحداهما ساكنة والأخرى متحركة، فالمتحركة تحمل الساكنة، لأنا لا نجوز أن يكون ساكن قبل حركته، لأنه لا يكون قبل حركة إبداعه وكونه ولا قبل حركة انفعاله، فالساكن من حركة فصل، ولم تفصل الحركة من ساكن كأنه يفسر الإرادة الأولى والحادثة هذا الكلام مدخول لأن الذي قال فيه بإمكان لا بد أن يجعله قديما أو محدثا. فإن جعله محدثا زعم أنه لم يكن ممكنا له أن يفعل قبل، فأوجب عارضا فنفى الوحدة. وإن جعله قديما أوجب الدهر قديما شيء آخر، فنفى الوحدة.
48 - فإن تبلد ذهن سامع فازداد بيانا فقال: بين لي كيف امتنع ذلك بوجوب الإمكان والانفعال فصلان عظيمان والإضافة لا تقال إلا على اثنين لا بون بينهما بمكان ولا بزمان، بإجماع من الفلاسفة الذين خطوا لكم الطريق، فالوجود الضروري للفصلين العظيمين قطع الإضافة بين الخالق والمخلوق، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، ومن جهة مائية الإضافة هلكت النصارى بديا، وعن إيجاب الإضافة هلكت الدهرية أيضا والديصانية والمجوس كلها، وعن جهل ذلك هلكت المنانية والمشبهة أيضا، وبجهل الكندي بها هلك في كتابه، فلم يجد علة للخلق إلا الخالق، فسماه غير اسمه، إذ لم يجد إلا الخالق والخلق ولم يعرف الأمر. فوجود الإمكان والانفعال بحجة العقل وضرورته، قيل: كون المعقول الخارج عنها من عدم، وهما الدهر والزمان الكائنان بتعديهما بين المفعول والفاعل الأول، جل ثناؤه، فصل الإضافة، لأنهما ليسا فعلا تاما، بل الفعل التام أعني المفعول كائن لأجلهما ، ولذلك لا يمكن أن يقال: الانفعال والإمكان فعل، إذ الفعل المفعول غيرهما لا محالة، وهما الدهر والزمان المدبران لذلك الفصل بين الفاعل الأول والفعل الكائن القائم المحسوس في مستقره.
49 - فإن قال: وما الذي منع أن يكون الدهر والزمان من المضاف إلى ربهما دون المفعول قيل له: منع من ذلك أنهما مضافان إلى مفعولهما الكائن عنهما، لأن الدهر هو غاية الزمان، أعني غاية مدة حركة الانفعال والمفعول، والزمان مدة انفعال المفعول، فلا يمكن أن يكون الزمان بلا غاية، لأنه لا يكون شيء بلا غاية، ولا يكون مفعول بلا مدة، فالانفعال مدة المفعول، فهما لا يصلان إلى غير ما هما مضافان إليه، بل هما بائنان بالمفعول وزائلان به، والمفعول ثابت بهما وزائل فيهما، دون الوصول منه أو منهما إلى الفاعل الذي لا غاية له. والإضافة أيضا لا تكون إلا لذوي الغايات المتساوية الأبعاد والأوساط، وإلا لم تكن الإضافة بينهما حقيقة أصلا ولا واجبة لهما أبدا. ألا ترى أنه يمتنع أن يكون المفعول مضافا إلى الزمان كله من قبل حدوث كلية المفعول المستقر في الدهر بعد زمانه، المقضي الذي هو انفعاله المخرج له من عدم إلى وجود. والمفعول إنما يكون مضافا إلى الانفعال بأول دقيقة منه، يكون إذن مضافا، والإرادة الأولى المحيطة بالانفعال هي الفصل الجامع الفاصل في الانفعال إلى مثلها من الانفعال في الصغر من الزمان ضرورة، وهكذا تقال الإضافة بينهما قولا صادقا بالتكافؤ بالدقائق، فكيف تجب الإضافة لما لا أبعاد له ولا أوساط إذن
50 - فإن قال: فما منع أن يكون المفعول بدهره وزمانه مضافا إلى الفاعل الأول فلا يتسابق قيل له: الزمان الذي هو انفعال المفعول إلى أن يستقر في دهر لا يتخلق به فيه بعد لتمام انفعاله؛ قد أريناك فصل المفعول من فاعله، لأنه مخرج من عدم إلى وجود، وموجب عليه الحدث، ووجوب الحدث عليه موجب لقدمه خالقه قبله، فإذا وجب التسابق بطلت الإضافة بطل التسابق، فافهمه.
51 - فإن تبلد فقال: فإن كان الانفعال قديما ثم ظهر المفعول حديثا قيل له: الانفعال حركة ما، والحركة بدء ما، وما كان له بدء فله قبل، وما كان له قبل فهو حادث.
فصل وهذه زيادة تبين على من ألحد في أسماء الله فسمى ربه علة
{ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون}
52 - قال الموحد: نحن نقول أن الواحد الأول الذي لا مثل له يقول لأجل إرادته، فيفعل بقوله الذي لا خلف فيه، وهو جل وعز أبدا، إن أراد شيئا قال له:كن فيكون، قوله الحق وله الملك، فقوله الحق وأرادته الحكم الفاصل، جل ربنا وتقدس. فإن أراد ربنا شيئا كان بقوله: كن فيكون كائنا، وإن لم يرد شيئا لم يكن. فنقول: إن الله عز وجل فاعل بالقول، لأجل الإرادة التي سبقت منه قبل الفعل، وهذا بين في القرآن مثل قوله تعالى: {فعال لما يريد}[3]، وهو بالقول فعال، قال تعالى: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون}[4].
ونقول: إنه لو لم يشأ أن تكون منه الإرادة لم تكن، لأنه غير مضطر إلى الإرادة، غير مضطر إلى أن يريد، كيف وهو الأول قبل الإرادة سبحانه الواحد الصمد الفرد الأحد فنقول: لا كائن إلا بقوله، ولا قول يسبق منه إلا بإرادته، وهما يحدثان منه متى ما شاء قضاءهما بلا مانع له عنهما، فإن أراد قولا قال، وإن لم يرد لم يقل، فإذن لا قول يكون منه ولا إرادة إن لم يرد، هو مالك الإرادة ومالك القول، ومالك كل شيء سواه. فلأجل هاتين الصفتين كان المفعول مفعولا بعد أن لم يكن، وهما علتان لكل مفعول، لا علة قبلهما من الله لكون الكائنات سواهما. فلا يقال في الباري جل جلاله إنه علة الأكوان بهذا الاسم الذي لا يحسن ولا يحق أن يسمى به إن أراد مريد قصد الصمد بذلك دون الصفات، أعني دون القول والإرادة، لأن الصفات علل الكائنات جميعا، وهو بوحدانيته غيرهما لا محالة، وهي محضة صمدة كما سمى نفسه، متعال، ووحدانيته قديمة بلا غاية لها، ولكل شيء من القول والإرادة غاية، فليس الله تعالى يسمى علة كما ظن الجاهلون الملحدون في أسمائه، {سيجزون ما كانوا يعملون}[5] لأنه ليست العلة علة معقوله إلا لمعلول يكون المعلول من أجلها ضرورة، أعني بلا أختيار وبلا رجعة عما لها في القوة أن يكون منها، أعني كون معلولها منها كالقول الذي هو للإرادة بالقوة قبل خروجه منها بالفعل لكون الكائنات، وكالكائنات التي هي للقول في القوة مكونة قبل الفعل، وذلك من شأن العلل معقول أبدا عند أهل العلم، أعني لا شيء لها في القوة إلا ولابد أن يكون كائنا بالفعل ضرورة يلزمها طبع العلة مقدور على ذلك اضطرارا.
53 - فالأول المبدع للعلل الذي لا مثل له ليس هو لشيء علة تعالى عن ذلك وارتفع، إذ العلة في العقول الصحيحة هي السبب المطبوع لكون المسبب لا محالة، فالأول جل وعز لا سبب، تعالى عن ذلك، فأنى يكون سببا وهو محدث الأسباب وفاعلها، وأنى يكون علة وهو محدث العلل وواضعها، لا من سبب ولا من علة.
54 - والذين قالوا إنه ليس علة الخلق شيء سوى القول والإرادة والقدرة، وأنه إن كان جميع ذلك لم يزل بلا غاية، فالخلق لم يزل بلا غاية، فهو كما قالوا في كلامهم؛ غير أنهم ضلوا عن المبدع الأول، لأنه ليس علة الخلق إلا الإرادة والقول والقدرة، فأما محدث ذلك فليس علة، ولا لأنه لو لم تزل هذه الصفات لم نزل الكائنات واجبة، لأن العلة فيها إيجاب معلولها، ولكن من لهم بدعواهم أن العلل لم تزل مع الأول الموصوف، وأنها أزلية بلا غاية، وهم لا يأتون عليه بسلطان أبدا، وإذا لم يجدوا به سلطانا ولا برهانا، أليس القول به كفرا وشرا وطغيانا وهذا موضع خلاف النصارى والدهريين، فسبحان الفرد الصمد الذي {ليس كمثله شيء} وهو الأول وحده، وكل شيء سواه حادث بعده، بائن منه، مملوك له {لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد}.
55 - ومن فقه الصفات أن الصفات علل بادية، وهي قبل أن يكون الفعل التام لانفعالات بتركيب المفعول المفعول منها، ولذلك لا يجب أن يقال: هي مفعولة، أعني العلل التي هي الاسطقصات الأربع، لأن المفعول هو المركب، وهي بسيطة لا مركبة. ولا يقال في العلل إنها أفعال الله ما دامت متحركة لا مستقرة، بل هي انفعالات لله تعالى واجبة، ولا يقال في المعلولات إنها انفعالات إذا هي تمت مستقرة. وهكذا تنفصل في الوهم الهوية من لا هوية، لأن الموجب يبعث السالب.
56 - كتب محمد - رحمه الله - في جانب كتاب الكندي صاحب هذا الكتاب لمن فهمه عنه: لاشك فيه أنه غير صحيح الإيمان، غير عالم بربه، غير ذي بصيرة في شيء، لأنه تناقض في كلامه واضطرب اضطرابا يخبر أنه لم يحصل ما يقول.
57 - أول ذلك العلة والمعلول التي كفر فيهما في كتابه في التوحيد هو ما قد جاء بهما كما هنا، فبعد أن أوجب الإيجاب التام الجيد ونفى عن التوحيد كل ما ينغصه من المضاف والنوع والجنس وسائر المقولات، زعم أن الواحد علة ما خلق، والعلة لا تكون إلا جنسا، والعلة لا تكون إلا مضافة، والعلة من كل جهة لا تكون مع الوحدة الصحيحة في قوله وبما أوجب بلسانه، فحسبه بهذا عيا وكفرا وضلالا.
58 - ثم جعل تناقص النبوة في هذا الكتاب بما يدخل عليه، أن جعل ربه علة، دخولا كدخوله عليهم أو أشد، وكذلك الكفر ما نقص ضربا منه نقص أجناسه كلها، وإنما هلك المسكين لأنه بعد أن نفى عن الخالق شبه المخلوق في شيء من صفاته، جعل يطلب خالقه بما يتمثل لعقله كطلب المخلوق سواء سواء. ولو لم يعرف إذا بلغ الحد الذي وقفت الغايات إليه كيف ينفذ إلى إيجاب وجود الخالق بما يخالف وجود المخلوق، وأراد أن يسلك فيها سبيلا واحدا بعد أن أوجب في مبادي كلامه أن سبيل وجودهما مختلف، فلعمري ما أرى الكلام الصحيح الذي قدمه في كتاب " التوحيد " ، والذي يجري في داخل كلامه في هذا الكتاب، إلا ما حفظ من كلام غيره من الأوائل الموحدين: أرسطاطاليس وأفلاطون وأبقراط ومن وحد منهم، حتى إذا رجع إلى محصول نفسه جاء حينئذ بالاختلاط والضلال، فليتق عبد على نفسه، فإن النظر في مثل هذه الكتب لمن يعرف الله معرفة تامة تهلكه وتكفزه وتخسره آخرته وتوجب عليه عذاب الأبد السرمد، وأين من يعرف ربه كانوا إذ كانوا، وقد والله ذهبوا، فإن كان قد بقي منهم في الدنيا واحد أو اثنان فعلمه مخزون في صدورهم مقصور على أنفسهم أو على خاصة يسلك بهم مثل سبيله في طيه عن أهل زمانه، إذ لا يرى مستحقا ولا أمينا ولا لقنا ولا صديقا ولا مريدا صادقا، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
59 - قال الموحد: من المسائل التي هي محالية السؤال، فلا أجوبة لها بالمقابلة لأنك إن قابلت المحال كنت محيلا: لو سأل سائل عن الله عز وجل بإيقاع صفة التمام والكمال مثل ما هو تام كامل، قيل له: أتسأل بصفة المخلوق عن الخالق، تعالى الله عن هذه الصفة كما تعالى عن ضدها، هو فوق ما يأخذه التمام والنقص، عال علوا كبيرا، وهذا المحال من السؤال موجود مثاله في المخلوقات وجودا قريبا ظاهرا، لو قال قائل: الأمير حاجب أو وزير قيل له:منزلته فوق منزلة الحاجب والوزير. فلو قال القائل: اللؤلؤ أخضر هو أو أحمر قيل له: لا ذا ولا ذا. ومثل هذا يرد كثيرا في مواضع مشبهة لا يظهر محالها إلا بالكشف. وكذلك لو سأل سائل، وهي أغمض من التي قبلها: هل يحيط علم الله بذاته أم لا يحيط قيل له: لا تسل عما لا يتناهى بصفة الإحاطة فليس لك جواب، أرأيت لو قلت: أيحيط المحيط بما لا يحاط به ألم يكن محالا كما لو قلت: هل لما لا حد له حد، وهل لما لا نهاية له نهاية، وهل يخلوا الذهب أن يكون أسود أو أخضر قلنا: لا يقع عليه واحدة من هاتين الحالتين، فكذلك بمن سأل عن متقابلين في المخلوقات ليس واحد منهما فيه، نفيا جميعا.
ومن سأل عن الخالق تعالى عز وجل بما يقع على المخلوقات من الصفة، ومن جهة الضد والند، ومن جهة الكم والكيف، كل هذا لا يجاب فيه حتى يسأل غير سؤال المخلوق، كما لا يشبه خلقه في صفة من صفاته، كذلك لا يمكن أن يسأل عنه بصفة من صفات خلقه، فافهم ولا يستخفنك الذين لا يوقنون {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون}[6]، الذين قالوا بالكمون جهلوا المكان والمتمكن، فحسبوا أن المتمكن يكون في المتمكن ولا يكون المتمكن إلا في مكان، والمكان لا يأخذ منه الجسم إلا قدره وحده، فلا يمكن أن يكون جسم آخر معه في مكان لا فضل فيه، والمكان الهواء والأجسام المتمكنات فيه، فبؤسا لهم ما أبلدهم.
60 - قال: أخشى أن يكون هذا الكندي الشقي كان زنديقا، فعمل على أن يوقع غيره فيما وقع هو فيه، ويرى مثله ممن أراد الله تعالى هلاكه أن البراهين تتناقض في إثبات التوحيد، كيف هي وكيف تثبت، وأنها لا تصح إلا بهذه الشرائط. ثم أتبع ذلك بأنه لابد للعالم من علة، وأنه لا علة إلا خالقه، لينقض بذلك الصفة التي هي التوحيد، فيرى أن الوحدة غير موجودة وغير قائمة. فإن كانت هذه بصيرته وإياها قصد، فما أرى في جهنم أسفل درجة منه. وإن لم يكن قصدها، فالشيخ دبرها على لسانه، فهو معه في أسفل السافلين، إذ مكنه الله تعالى من أن أجرى على لسانه الكفر بهذا اللبس من حيله، ليصد عن سبيل الله. وربما ظننت أن طويته قول الدهرية لأنه رجع قوله إلى أن كل شيء معلول وعلة فأثبت العالم ونفى غير ذلك. فلعمري إذ خشيت هذا من كيده إنه ليجب أن يوضع شيء يبين به عليه، ويقابل به ضلاله، لتمحى ظلمته بنور الهدى إن شاء الله. ألا ترى كلامه كله كلام الحيران معرفته بأزمة الكلام من جهة صناعة المنطق، فهو يرد على المنانية والدهرية ويخلط القول صحيحا بمريض، كما كان في قلبه سواء، والله أعلم.
61 - قال: إن الكندي وإن ناظر هؤلاء المبطلين، فقوله ظنين غير مأمون لنقضه على نفسه التوحيد جهارا، إذ أقر أن العلة والمعلول من المضاف، وأن الوحدانية لا يقال عليها بالمضاف، ثم زعم أن ربه علة، فأوجب المضاف، فكأنه تعمد النقض، فنقول: إن رده على المنانية ومناقضته إياهم صحيحة، كما ناقض، إلا مواضع زل فيها. وأصل مناظرته صحيحة ، غير أنه كثر فيما يستغنى فيه بالقليل، إنما هي عقدة واحدة، فلينظر إليها من أراد الحق ويجعلها لنفسه أصلا يغنيه عمن زال عن قوله: {ليس كمثله شيء}. فكل مناظرة تلحقه، وكل مناقضة تدخل عليه من شبه إلهه بشيء من المخلوقات من جهة من الجهات، فجعله جرما أو محدودا أو متناهيا أو أي صفة من صفات المخلوق كانت، دقت أو جلت، دخل عليه سائر الصفات كلها، وناقضته المعاني كلها في السموات والأرض حتى تخرجه عن المثل بكل جهة مقولة ومتوهمة، وإلا فهو مبطل ملحد في الدنيا والآخرة، وصلى الله على سيدنا محمد. كما أن الكندي إذ سمى ربه علة، يدخل عليه كل ما أدخله على المنانية فيسأله عما كان خطأ أو عمدا. تم الكتاب بحمد الله وعونه
62 - من المقلوب قياس أمور خالقنا على قياس أنفسنا فنخر ولا نشعر، وإنما منع الإضافة عدم المشاكلة، هي فصل، لا فصل مسافة مانعة من الإضافة، وإن زاغ المعنى عن هذا إلى توهم المسافة ووضع الكلام عليه، دخل الباطل والزيغ لا محالة، فاشعر إن كنت تشعر.
63 - الإنية والذات: الشيء بعينه.
64 - الأشخاص الجزئية: كل ما تدركه بالحواس الخمس.
65 - والأجناس والأنواع: كل ما يدركه الوهم - وهو العقل وإنما يدرك العقل المعاني والجواهر البسيطة التي هي الأمر.
66 - المركبات: المخلوقات.
67 - والصفات: العلل.
68 - " الحكمة " : هي الفصل الأكبر؛ " رب احكم " أي افصل؛ " حاكم " : فاصل، {وهو خير الفاصلين} أي خير الحاكمين.
69 - العلل التي هي رؤوس بادية أربع: العنصر والصورة والفاعلة والمتممة. فأما العنصر فمثل الذهب والنحاس والفضة؛ وأما الصورة فما صور منها مثل: الأباريق والكؤوس والحلي؛ وأما الفاعلة فمثل الصانع الذي منه ابتدأت الحركة لفعل هذه الأشياء من العنصر؛ وأما المتممة فإنها التي من أجلها فعل الفاعل مفعوله من العنصر، مثل أن يقال: لم عمل الكأس فقيل: عمل لأجل الشرب به، ومثل البيت الذي بناه البناء، فيقال: لم بني البيت قيل: للسكنى فيه، فكأن علة بنيان البيت السكنى الذي لأجله بني البيت، فهذه العلة التمامية التي تم بها المفعول.
70 - ومما يحق على من أراد أن يقضي بالحق ألا يكون معاديا لمن خالفه، بل يجب عليه أن يكون رفيقا محسنا منصفا، ومن إحسانه أن يجيز له مثل الذي يجيز لنفسه من الصواب، والوقوف عند حدود البراهين، وكل حجة بلا برهان خرافة.
71 - العلة العنصرية تنقسم ضربين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل إرادة الباري جل ثناؤه، والجسماني مثل الاسطقصات الأربع. والعلة الصورية تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل الأرواح والملائكة التي قامت من العلة الروحانية العنصرية وهي إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل أجسام بني آدم وأجسام البهائم والنبات التي قامت من العلة العنصرية الجسمانية وهي الأسطقصات الأربع.
والعلة الفاعلة تنقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني فمثل كلمة الباريالتي فصلت الأرواح والملائكة من إرادة الباري، وأما الجسمانية فمثل الطبيعة المتحركة لفعل أجسامنا وأجسام البهائم والنبات من العلة العنصرية التي هي الاسطقصات الأربع.
وأما العلة المتممة فتنقسم قسمين: روحانية وجسمانية، فالجسمانية مثل تحرك الأجسام أجمع، وأما الروحانية فمثل علوم الإلهية وأفراد الوحدة.
72 - قال أفلاطون: الأفعال ثلاثة: فعل اختراعي وطبيعي وصناعي. فأما الاختراعي فهو المخصوص بفعل الباري، وهو تأسيس أيس من ليس. وأما الطبيعي فهو تأسيس أيس من أيس. مع فساد صورة ذلك الشيء وطبيعته إلى صورة أخرى وطبيعة أخرى ، المخصوص بفعل العلل بإذن الله تعالى. وأما الصناعي فهو أيس من أيس بغير فساد صورة ذلك الأيس، وهذا المخصوص بفعل المعلولات بإرادة الباري ومشيئته تعالى.
73 - الجوهر ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فأما الروحاني مثل العقل والنفس، والجسماني مثل الطويل والعريض والعميق.
والعرض ينقسم قسمين: روحاني وجسماني، فالروحاني مثل الحلم والعلم والأدب المحمولة في النفس، وأما الجسماني فمثل السواد والبياض المحمولة على الجسم، فافهم.
74 - قال محمد: قال أفلاطون: كل ما وقعت حركته تحت الزمان محدود معدود، وكل محدود معدود فأوله التفريق، ثم ألفه بعد التفريق، لأن كل شيء له طرفان، والزمان والمكان معا معا، فإذا فني المكان فني معه الزمان لا محالة، والحمد لله رب العالمين.
75 - صفة الله تعالى: الله تعالى نفى صفات البشر عنه، وقد جعل لذلك اعتبارا، وهو المريد المحدد، فإن صفته عدم صفته، فنقول: هو خير مجرد لم ير قبله مثله، كذلك نقول: هو رب {ليس كمثله شيء}.
76 - قال: سألتني أكرمك الله عن قول داود القياسي في الله تعالى: إنه لم يزل متكلما، وأن أكتب إليك بما يوجبه عليه مذهبه فيه، فمذهبه أعزك الله مدخول، ولا أدري من أين أخذه، ولا على أي شيء حمله، ولا معنى له في القرآن، ولا في سنة الرسول ﷺ، ولا يكون الكلام إلا عن سبب وعلة توجب الكلام ولولا العلة لم يكن كلام، ولكن نقول: إنه لم يزل متكلما منذ خلق القلم، ولا يزال إلى يوم القيامة لقوله: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون}[7]. وإنما كان هذا من حيث ابتدأ خلق ما خلق، فلم يتكون شيء من ملكوته كله إلا بهذه الكلمة، وفيها زم قدرته على كل ما خلق، فإنما أوجب كلمته هذه خلق الأشياء كلها لما أراده من المحنة عز وجل.
77 - محمد رحمه الله قال: كلمت رجلا على قول الدهرية فقلت له: هل تعرف شيئا إلا ما يعرفه عقلك، أو عندك شيء آخر تعرف به وتنكر
قال: ما أعرف إلا ما عرفه عقلي.
قلت: فما عرفه العقل فهو المعروف المقر به
قال: نعم.
قلت: فما لم يعرفه العقل إذن فهو المنكر، والمنكر أصل الذي لا برهان عليه
قال: نعم.
قلت: والمنكر باطل
قال: نعم.
قلت له: فهل يعرف العقل شيئا لا نهاية له
قال: لا يعرف العقل إلا ما له نهاية في جسمه.
قلت: فإني أجمع لك كل ما مضى: لا يخلو قولك وقول أصحابك من أن نقول: إن الفلك هو الغاية أو أن فوقه غاية، فإن قلت: هو الغاية قلت لك: فهو متحرك، والحركة لا تكون إلا في مكان، والمكان لا يكون إلا في مكان إلى ما لا نهاية له؛ فالعقل ينكر هذا، وإن قلت: هو في متحرك، فإنه جسم، والجسم لا يكون إلا في جسم إلى ما لا نهاية له. وإن قلت: فوقه غاية، قلت لك: ما تلك الغاية التي فوقه أتشبهه أم لا تشبهه فإن قلت: تشبهه. قلت لك: فهي جسم، فهي إذن في جسم، فرجعت إلى سيرتك الأولى. وإن قلت: لا تشبهه. قلت لك: فإن العقل لا يجد مثالا إلا ما يشاهده، ولم يشاهد إلا الأجسام. فإذا أجبت بشيء تزعم أنك تجد مثاله وهو خلاف المثال أنكره العقل، وما أنكر العقل فهو باطل .
قال: أقول: فوقه شيء يشبهه في الجسم، وليس يدور عليه زمان، لأنه فوق الزمان.
قلت له: فهو جسم أو غير جسم
قال: جسم.
قلت له: قد رجعت إلى الجسم، ولا يكون الجسم إلا في جسم إلى غير نهاية، وهذا باطل.
قال: ليس بجسم ولكنه الدهر.
قلت: وما هو
قال: لا هو الدهر.
قلت: اسم بلا معنى.
قال: اسم له معنى.
قلت: فإني أسمعك تأتي بالاسم فردا.
قال: اسم أشار إلى معنى.
قلت: فصف لي المعنى.
قال : هو الذي تنتهي إليه الحركات
قلت: وما ذلك الذي تنتهي إليه الحركات ما مائيته عن ذلك أسألك.
قال: هو الدهر.
قلت: إن الاسم لا يتوهمه العقل إنما يتوهم المعنى، فما معناه أهو مكان
قال: لا.
قلت: فكيف يكون جسم الفلك في غير مكان ثم قلت: ويحك إنه ينكر عليك هذا القول من جهات كثيرة أن الذي يقول فوق الزمان إن كان متوهما فهو جسم، وإن كان غير متوهم أنكره العقل على أصلك. ولا يخلو شيء من أن يكون زمانا أو مكانا، لأن الزمان لا يكون إلا مع المكان، والمكان لا يسبق الزمان.
فإذا كان زمانا أو مكانا فهو مؤلف متحرك، والمتحرك ذو آخر لأنه ذو نقلة. فإن كان ذا أجزاء فهو مؤلف من تفرقة، والتفرقة نهايته الأولى.
قال: فأقول: إن له نهاية أولى من التفرقة تأتلف.
قلت: وقبل أن تأتلف، ما كان
قال: مفرقا.
قلت: عدما
قال: لا.
قلت: فكان أجزاء متفرقة إذن، والأجزاء أمكنة، فمعها زمان بلا نهاية تأليف.
قال: بل للتأليف نهاية أولى.
قلت: فمن عدم إذن
قال: من عدم.
قلت: في العدم لا شيء، فلا شيء يؤلف شيئا إذن، وهذا ما يحده العقل، لأن الشيء لا يؤلف نفسه، لأنه قبل أن يؤلف نفسه عدم، والعدم لا شيء، ولا شيء لا يكون منه شيء من ذاته، لأنه لا ذات له، إلا أن يكون منشئ ينشئ شيئا من لا شيء، وهو الله رب العالمين.
قال: فلو سامحني أولا في النهاية الأولى، كيف كنت تصنع في آخر الأمر
قلت له: إذا كان لشيء طرف أول لم يكن له بد من طرف ثان، وإلا لم يكن بذي نهاية، والعقل لا يحد ما لا نهاية له ممثلا، ولا يحد ما ليس له طرف ممثلا. فإن كان له طرف، فطرفه الفناء، لأنه منه بدأ وإليه يعود، كما أن كل شيء له طرفان من ضده لا محالة؛ هكذا نجد ونرى في الممتثلات كلها.
قال: فما أراني أجد إلا أحد أمرين: إما مكانا فوق الممثلات يكون جسما فيلزمني فقد النهاية، أو أقول: ليس جسما فينكره العقل.
قلت له: كذلك تجد في قولك.
قال: فما تقول أنت
قلت: أقول: فوق الزمان والمكان خالقهما ومؤلفهما وهو خلافهما وغيرهما من كل جهة، فلا يحيط به العقل من جهة التمثيل ويدركه من جهة الدليل، ومن قولك آخذه، لأنك أنت وكل من يفهم من أصحابك وغيرهم لا يحدون في البدء إلا الزمان والمكان معا، لا يسبق بعضه بعضا، ولا يكون المكان إلا من تأليف، ولا يقوم التأليف إلا من عدم، فمخرجه من عدم هو الله الذي لا إله إلا هو، تعالى الله الأول الخالق. ولا يكون المكان أيضا إلا لمتمسك، فلو كان مثله كان بلا نهاية، غير محدود لا محالة، ولكنه ممسك خلافه من كل جهة، فلذلك الله رب العالمين.
قال : والله ما أجد بعقلي إلا ما تقول، غير أن قوما قالوا: جوهر بسيط.
قلت: يلزمهم في الجوهر البسيط ما لزمك، لأن الجوهر البسيط شيء قالوه لا يتمثل. فإن قالوا إنه لا يتمثل وهو جسم كذبوا وجاءوا بما لا يعرفه العقل. وإن قالوا: هو غير جسم، قلت لهم: هو مقيم الأجسام ومدبر الكل، وليس يشبهه شيء، تعالى الله رب العالمين.
قال: كذلك لعمري يلزمهم ولابد من هذا.
قلت: فاعلم أنه لما نظروا وجدوا بعد المكان والزمان غيرهما، فلما قالوا مثل، بطل عليهم في فكرهم، ولما قالوا خلافه لم يحسنوا الصفة، لأنهم حسبوا أن العقل لا يجد خالقا مرتفعا فوق العقل يدركه بالدليل بلا تمثيل، لأنه لا شبه له ولا ند، ويوجد مخلوقا يتمثل، لأنهم وجدوا له أمثلة وأشباها. فلما أرادوا أن يرفعوه فوق العقل لم يهتدوا إلى الدليل عليه فأنكره. ولما أرادوا أن يتمثلوه وجدوه من المخلوقات بلا نهاية، فأنكروه فوقعوا بين الحيرتين على ثالثة لا يعرفونها، وجعلوها حيلة يختصمون بها في المناظرة، اسما بلا معنى، صفة بلا كيفية، فقالوا: جوهر بسيط، ففروا من الحيرة إلى الضلال، ومن العشى إلى العمى، ومن الحر إلى النار، فنعوذ بالله من العمى ونحمده على الهدى، ونصلي على نبيه محمد ﷺ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين.
فاعلم الآن بما هداك الله موقع الكفر وفظاعته وعظم خطره في الشر والخسران من كل من ألحد في توحيد الله تعالى، وأنه إذا أخذ توحيده ممن ليس يقر بربه ولا خالقه، بأن تعلم أن كل من لم يصح توحيده ويخلص لله فيه حق إخلاصه، وزعم أن ربه غير واحد بوحدانيته الحقيقية من كل جهة، فهو كعابد وثن، لأن العباد إنما يتوجهون إلى عبادة ربهم، ويصفون خالقهم بتصحيح الصفة في العقل، فإذا لم يصب وصف صفة الخالق، فإنما يصيب صفة المخلوق، لأنه ليس إلا الله تعالى خالقا، فمن زال عن صفة خالقه ربه زال إلى صفة خلقه
فإذا قصد بعبادته صفة الخلق، فهو كعابد الوثن، قد تبرأ من الله عز وجل وكفر وجحد نعمته كلها من الدنيا والآخرة، ونسبها إلى غيره، وتعبد ورجا وخاف غير الله، فلم يوجه إلى الله تعالى بشيء من حقوقه، ولا أقر له بشيء من نعمته، ولا أعلق به شيئا من رجائه ولا خوفه، ولا أسند إليه شيئا من دنياه وآخرته، ولا أقر بخالق، ولا أثبت ربا ولا إلها، تعالى الله علوا كبيرا، والحمد لله على الهدى كثيرا حمدا يرضاه ويتقبله، ويوجب الثبات به حتى نلقاه عليه، ويوجب الزلفى لديه والكون في جواره وظل عرشه، برحمته آمين.
فصل
78 - قال محمد رحمه الله:كل مكون معلول، وكل كائن فله علة، وما لا علة له فلا كون له، فالعلة العليا علة العلل وجنس الأجناس وطبيعة كل طبيعة وجنس كل نوع. فالعلة العليا لكل شيء هي مشيئة الله تعالى لكون الأشياء كلها، فهي شاملة عامة، ثم انفصل منها لكل شيء علة خاصة لاصقة بالشيء قريبة منه، والعلة الكبرى فوقها أم لها، لا مقصر لشيء من العلل دونها، لأن منها فصلها، ولا أم لها بعدها لأنها غايتها، فالعلم معرفة العلل، والرسوخ فيه بقدر الرسوخ فيها.
79 - وإن الله عز وجل لما خلق الدنيا دار محنة وبلوى، خلقها أضدادا وأزواجا، لتقع المحنة وتتم الدلالة، فتمام الدلالة بذلك لأنه لا يعرف الشيء بحقيقته إلا من قبل ضده، فبالظلمة يعرف النور، وبالمكروه يعرف المحبوب، وبالشر يعرف الخير، وبالبرد يعرف الحر، وبالتحت يعرف الفوق، وبالظاهر يعرف الباطن، كل واحد منها يعرف بصاحبه، ويهتدى إليه بزوجه وضده، ويهتدى بالأضداد كلها إلى وحدانية الخالق لها.
وأما وقوع المحنة من جهة الأزواج، فإن الله عز وجل جعل الدنيا امتزاجا وانفصالا زوجين أيضا ضدين، ليعرف هذا بهذا. فما فصله الله تعالى بأمره ولم يكن إلى المخلوق لعله قامت حقيقته، وارتفعت الشبهة عنه، كانفصال الأرض من السماء، والماء من الثرى، والنار من الرطوبة، والأجسام بعضها من بعض، وما مرجه وامتحن المخلوق بفصله جعل بين حديه البينين، وهما معظم الشيئين، شبهة مشبهة بالشك واليقين، فالشبهة واقعة بين الحق والباطل، كالغبش بين الظلمة والنور، وكالدكنة بين البياض والسواد، وكالحامض بين الحلو والمر، والسنة بين النوم واليقظة، فكل شيء في الدنيا من المتصل والمنفصل زوجان، والشبه واقع بين حدي المتصل عند وقت الانفصال. فانفرد الله تعالى بالوحدانية وحده، وجعل الأشياء كلها زوجين بعده، والعلم هو معرفة العلل، ومعرفة العلل هي معرفة الحدود، والحدود زوجان: حد إحاطة وحد مقاربة، والشبهة زوجان: أحدهما يقع في حد الإحاطة بأن يشابه أعيان الشيئين، كاشتباه الشبه بالذهب والقزدير بالفضة ونحو ذلك. والثاني في حد المقاربة حيث تقع الشبهة بين المنفصلين، كحد ما بين الجبل والسهل والحلو والمر والقوة والوهن.
فالأزواج والأضداد الجارية في كل موضوع ومخلوق من أمور الدنيا والدين هي علة الاختلاف الكبرى التي من جهتها وجب النظر، ووقعت كلفة التدبر والتثبت والاشتباه. وكل خطأ وقع في بني آدم فمن هذه الجهة يقع، ومن هذا الأصل ينبعث.
80 - وأمثلة العلم أمثلة باطنة مفصولة من الذكر الباطن في الذكر المفصول للإنسان في الباطن، فهي لا ترى إلا بالبصر الباطن، وهو العقل، فتمييز الناظر فيها على قدر حدة بصره، وقوة نور باطن عقله، كما يتميز الناظر في دقائق الأشخاص بحسب قوة بصر عينه وحدة حاسة حدقته ونوره، وقوة البصر الباطن ونوره بحسب بعده من الشهوات التي هي تكدره وتطمس عليه وتحجبه عن الاتصال بمادته، ومادته علم الله الأعلى الذي يمد به من يشاء، فافهم. ومن ارتفع بنظره إلى العلل العليا فأصاب وجه ما طلب، جرى صوابه في كل ما تحت ذلك من العلل، فعظم صوابه. ومن أخطأ في تلك المنزلة العليا، جرى خطأه فيما تحت ذلك فعظم خطأه. ومن أخطأ فيما دون ذلك، فخطأه بقدر درجته من النظر، فافهم.
81 - تكلمت النصارى في الله فأخطأت الوحدانية فكفروا، وتكلمت اليهود في النبوة فأخطأوا فيها فكفروا، لأن الكلام في النبوة هو من الكلام في الصفات العلى. وتكلم الفقهاء في فروع الأحكام، فلم يكن خطأهم كفرا، لبعد الكلام من الأصل. وتكلمت الفرق المبتدعة في الأصول العليا بعد أن اعتصموا بالإقرار بالوحدانية والنبوة، فمنعهم أن يكون كلامهم كفرا اعتصامهم بجملة الإقرار، وارتفعوا في القدر عن الخطأ في فروع الأحكام، ولم يبلغ بهم الخروجعن حد الإسلام لاعتصامهم بعقدة الإقرار، وكان خطأهم كأنه خطأ تأويل، وهو بين الحدين في موقف الشبهة لأنه يقول: أنا مؤمن بما جاء به النبي على ما جاء به، لا أنكر شيئا منه، ولا أخرج نفسي عنه. ثم يتأول فيخرج عنه، وهو يرى أنه يوافقه، وكأنه إنما يطلب موضع الحق منه، فهو خارج من جهة النظر، معتصم من جهة النية والإقرار، فبيان الحكم فيهم غيب، ولله عليهم حجة إن عذب، ولهم وسيلة إلى العفو إن عفا، ونستعصم الله من الخطأ والزيغ في رفيع الأمور وقريبها برحمته.
82 - جملة المختلفين من أمتنا: المرجئة والخوارج والجهمية، من هذه الثلاث طوائف انفصلت الفرق بأجمعها، وأعظم فرقة انفصلت منها حتى صارت كأنها رابعة معها فرقة الشيعة، ولكنها منفصلة من الخوارج، ثم تليها فرقة القدرية الذين جملتهم المعتزلة، وهي منفصلة من الجهمية، وانفصلت المرجئة على كل فرقة فرقة منها، لم يغلب عليها اسم يمحو عنها اسمها الأعظم، كلهم يسمون مرجئة.
فأما المرجئة والخوارج فإنهم يختلفون أن الإيمان روحاني كشيء له طرفان، ابتداء وغاية، ونشوء وكمال، وأنه في ذاته درجات منفصلات ومراتب متفاوتات. فقالت المرجئة: الإيمان هو الإقرار بالله تعالى، فكل من أقر بالله فهو مؤمن في الجنة، فحكموا في الإيمان بأحد طرفيه، وهو أوله ومدخله، فضاهوا اليهود. وقالت الخوارج بالطرف الآخر فقالت: المؤمن من لا ذنب له بتة، وما دون ذلك فكافر في النار فحكموا في الإيمان بأحد الطرفين، وهو طرف الكمال وأعلاه وغايته، وتركوا الحق وسطا، ومشت الطائفتان من جانبيه تعسفا، وركبت الجماعة الوسط، فأصابوا الجادة ولزموا القصد وأم الطريق، والحمد لله.
وأما الجهمية فإنهم تكلموا فيما لم يبح الكلام فيه للعامة، وأرادوا أن يكيفوا علم الله تعالى، فضاهوا النصارى. ونحن لا نتمكن من صفة العلة التي من جهتها أخطأت الجهمية، لأنه من الكلام في الصفات العلي التي لم يبح لنا نبينا ﷺ الكلام فيها ولا يتجاوزها علم القلوب، ولكنا نقصد من ذلك إلى ما نرى أنه يجوز لنا الكلام فيه، فمن لقنه انتفع به، ومن لم يلقنه فقد قدمنا إليه العذر المانع من التفصيل أصل الخطأ في القدر والعلم أن المتكلف له أراد أن يقترن القدر بالعدل، فتنافرا في نظره، وقصر عن كيفية اقترانهما فهمه. فقال قوم فأثبتوا العدل ونفوا القدر، وهم المعتزلة، فضاهوا المجوس، وقال قوم فارتفعوا فوقهم وانحرفوا إلى الكلام في العلم، وهم الجهمية، فضاهوا ضروبا من الكفر كثيرا. وقوم أقروا بعدل الله وقدره مذعنين لما ذكر في كتابه، واقفين عند ما لم يستبين لهم علمه، وهم الجماعة، فثبتوا على إيمانهم ولم ينقضوا عقدة إقرارهم. ومن تكلم من كلا الفريقين في ذلك غوى وهوى، ونعوذ بالله من الضلال بعد الهدى.
وأما المعتزلة فإنهم كالجهنمية، اتقوا في أمر ضاهوا به الدهرية، وذلك أنهم أرادوا أن لا يقروا إلا بما يتمثل في عقولهم وما قصر عنه فهمهم ردوه، وزعموا أن الله لم ينزله، وأن الرسول عليه السلام لم يقله، فحسبوا أن الدين وضع، وأن القضايا قضيت على مقدار الأفهام الخسيسة وفطر القلوب القاسية التي نشأت في عصر الفتنة، والتبست برين الظلمة، وأصغت إلى كدر الشهوات المعشية، فكذبوا من ذلك بفتنة القبر، وحياة الأرواح في البرزخ، وبخلق الجنة والنار، وبحقيقة العرش والكرسي، وغير ذلك من أنباء النبوة. فنعوذ بالله من الجرأة على الله والرد لأمر الله تعالى، ومن جهل المخلوق بقدرته وتخطيه إلى غير حده، وصلى الله على جميع أنبيائه ورسله.
فصل
83 - رسالة اتفاق العدل بالقدر.
قال محمد رحمه الله عليه: أما بعد، فإني أوصيك بتقوى الله فإن العاقبة للتقوى، وأوصيك فيما أردت علمه من جهة القدر والعدل وتصاحبهما بأن تقف حيث وقفت منه، وتؤمن بما عليك أن تؤمن به، وتنتهي إلى ما انتهى سلفك إليه.
فأما قولك: قد نزلت البلية فيه، والتبس بالقلوب داء مخامر منه لا غنى به عن الدواء، وصدى ولابد له من الجلاء، فإني واعظك بمثالك الذي مثلت، وعاطف بك إلى أصلك الذي أصلت:
فاعلم أن من الدواء نفعا عاجلا، ومنه سم قاتل، ومهما قصر عن الحتف بقي له دواء ومداخل، وكذلك الكلام في القدر إذا وقف به على حده ولم يتعد به إلى ما لا يجوز، فهو دواء غير داء. وإذا جووز به الكفاية، وابتغي فيه التطلع من الغاية، فهو داء لا دواء. وسألقي إليك إن شاء الله في ذلك مقدارا يسعني ويسعك وينفعني وينفعك إن وفقت، وبقدر إليك إن جمحت. فمهما شككت فيه أو اشتبه عليك منه، فاعلم أن الله تعالى خلق جميع خلقه على ما سبق في علمه المخطوط في أم الكتاب الذي لا تبديل له، فمضى عليه خلقهم وجرت عليه سائر أمورهم دقيقتها وجليلها، وخيرها وشرها، وعامها وخاصها، وباطنها وظاهرها، ومكروها ومحبوبها، لا يزيغ أحد عما سبق في مقاديره ونفذ من مشيئته، وقضي في أم الكتاب عنده، ولا يعيدوه في لفظة ولا لحظة ولا أصغر من ذلك ولا أكبر في دنيا ولا آخرة، بل جارون على ما علم وكتب وقضى وقدر وشاء وأراد قبل أن يخلق السماوات والأرض، إن ذلك في كتاب، إن ذلك على الله يسير.
ومن قضائه في أم الكتاب أن كتب على نفسه الرحمة، ومن الرحمة العدل والفضل، ومن العدل الفضل أنه لا يظلم الناس شيئا، ولا يكلف فوق طاقته أحدا، وأن له الحجة البالغة، وأن له الحمد في الأولى والآخرة، ولكن الناس أنفسهم يظلمون فمن زعم أنه يخرج من قدر الله في شيء من أمره كائنا ما كان: عمل أو أجل، أو سراء أو ضراء، فقد نقص توحيده وأشرك بربه. ومن ادعى على الله ما لا برهان له به، فزعم أن الضرورة لزمته من قبل ربه، وأنه معذور بذنبه، مكلف فوق وسعه، غير محجوج في معصية الله، فقد كفر وجحد عدله وفضله، ورد كتابه وكذب رسله.
وكلا الفريقين قد جاءته الفتنة المتخوفة التي أنذرها سلفنا خلفهم: أن المرء يسلب إيمانه وهو لا يشعر، ويصبح مؤمنا ويمسي كافرا، ونعوذ بالله من الزيغ بعد الهدى والضلال بعد البيان . ومن سلك الواعظة ولزم الجادة واتبع آثار السلف الراشدين، فآمن بالقدر كله خيره وشره، موقنا بعدل الله تعالى وصدق وعده، وأنه أهل العفو والفضل، وأن ابن أدم أهل الخطأ والذنب، وأن لله الحجة البالغة، ثم لم يكذب بما آمن به من ذلك بلفظ غيره نصا، ولا تعريضا، فقد نجا إن شاء الله ولم يسأله الله عما وراء ذلك.
فقد رأينا من يقر بهذا الإقرار، ثم يعود عليه بلفظ آخر فينقضه نقضا وهو لا يشعر، فأخشى أن يكون سلب إيمانه وهو لا يشعر.
فاجعل - وفقك الله - مع الإيمان بالقدر الإيمان بالعدل غير زائغ عنه بلفظة ولا لحظة، وداو وساوس الشيطان الباطنة بما تشاهده من أحكام الله الظاهرة التي تشهد أن عدله فيها أرفع العدل، وفضله فيها أعظم الفضل، فاستشهد الظاهر على الباطن، والمحكم على المتشابه، وما اتضح لك على ما خفي عليك ليقويك على ذلك ثبات علمك بأن الله ذو القدرة التامة والحكمة البالغة قادر على كل شيء، مالك لكل شيء، لم تلزمه ضرورة في أول تدبيره ولا آخره، ولا لحقه ضيق ولا حرج في عدله وقدره وفي نظامهما ووضعهما وإمضائهما، وأن أحكامه كلها لمن عقل موقعها، وعاين بعين عقله حكمة تطلبها، قائمة على غاية الإتقان والإحسان، لا جور فيها يضاد العدل والخير، ظاهرها كباطنها، وواضحها كغامضها، ومجهولها كمعلومها، لا دخل فيه ولا غاية، وإنما النقص في درك ذلك من بعضها على نظر المخلوق وقصر فهمه لا عليها. من ظن غير ذلك فقد ظن عجزا، وأضمر إلحادا وكفرا.
واعلم فيما تعلم من ذلك أن كل قدرة لمخلوق أو مشيئة أو إرادة فالله مالكها، كما هو خالقها، لم ينفرد المخلوق بحال يملكه، ولا أمر يقدره، ولا قوة يبطش بها، ولا مشيئة ينفذها، أمر الله عز وجل فوق أمره، ويد الله فوق يده، ومشيئته ماضية عليه ولازمة له نافذة فيه: {قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله}[8]، وما كسب ابن آدم من خير وشر فهو عاملة وكاسبه، له النية فيه والمباشرة بفعله.
فاجعل مع الإقرار بلزوم مشيئة الله تعالى لك وفيك، الإقرار بأن الذنب لك ومنك، وانسب إلى الله عز وجل العدل والفضل والإحسان الذي هو أهله، والذي لست ترى عندك من الله غيره، وبؤ على نفسك بالخطأ والزلل واللوم والذنب الذي أنت أهله وجانيه، والذي لست ترى مع نفسك شريكا فيه، ونزه الله تعالى وبرئه مما يعمل الظالمون، سبحانه وتعالى عما يصفون.
ثم اعلم مع ذلك أنه قضي عليك ولك إن عملت خيرا أصبت خيرا، وإن عملت شرا أصبت شرا، وتركك للخير هو من عملك للشر، وعملك للشر هو من تركك للخير، ذلك كله عمل، ولا ينال شيء من الثواب إلا بالعمل، ولا يدرك إلا بالسعي، كالثمرة لا تجتنى إلا من غراس الشجرة. وهكذا قضى الله تعالى أمر الدنيا ودبرها، وأن الاجتهاد وسيلتك، والعمل مبلغك، وأن الله معين المريدين ومؤيد الصالحين ومثبت الصابرين، {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون}[9].
ثم اعلم أن مما قد نزل من فتنة هذا الأمر أن لا أزال أسمع موعوضا يوعظ أو غافلا يذكر، فيلجأ إلى الاعتذار بالقدر، فيتخذه عذرا مانعا، ومخطئاً يخطئ، وآثما يأثم، فيعتذر بالقدر، فيجعله لنفسه براءة من الذنب، كالمقيم لنفسه الحجة والعذر. أفلا تتقي الله يا ابن آدم فتعلم من خاصمت ومن حاددت وعلى من احتججت أما إنك إذا قصدت وطر شهوتك التي سخطها الله تعالى منك راكبا لبعض محارم ربك، فإنك تنهض إليه بأيد أيد وبطش شديد، غير متوهم حينئذ لمانع يمنعك منه، أو حاجز يحجزك عنه، حتى إذا أنت هممت بالخير الذي رضيه الله تعالى منك، تلكأت وتثاقلت وأخلدت إلى الأرض وتربصت، ثم افتعلت الحجج وألقيت: {بل الإنسان على نفسه بصيرة . ولو ألقى معاذيره}[10].
أحين نهضت إلى الشيء فعلمت أن الله خاذلك ومعرض عنك وواكلك إلى نفسك، لم تخف عجزا عنه حتى بلغت غاية ما تريد منه، فلما هممت بالخير فعلمت أن الله تعالى معك ولك ومؤيدك ومثبتك، خفت العجز والنكول وافتعلت المعاذير كذلك لما أخطأت زعمت أن القدر قواك، فإذا هممت بالخير تزعم أن القدر خذلك لم لا تعدل وقد عدل الله عليك ولكنك تتخير على القدر بهواك، فتزعم أن القدر ينهضك إلى الخطأ، وأن القدر يثبطك عن الصواب، فلم لا إذ تكلفت ما ليس عليك وازنت ببصيرتك فقلت: وبالقدر أيضا أثبطك عن الخطأ. وبالقدر أنهض إلى الصواب أو لعلك تزعم أن القدر معك إذا أردت الشر، وليس معك إذا أردت الخير كلا، لئن قلت ذلك، لقد ضللت وكفرت، وما فارقك القدر في حال من حالاتك، ولقد عدل ربك عليك في جميع أوقاتك، وفي قدر الله كنت، وفي قدر الله عز وجل أنت، وفي قدر الله تكون، وإنما عليك أن تعمل ولا تطالب ربك بما تعمل، فاكلف بما كلفت، ودع عنك أن تحاج الله عز وجل، فإنك متى خاصمته خصمت.
فلا تكون أخي ممن يتخذ الإقرار بالقدر سببا للكسل والوهن في العمل، ولا تحسب أن عملك مخرجك من قدر الله الذي قدر لك، ولا أن القدر، كيف تصرفت بك الحال، يزايلك. بل اعلم أن عملك من قدرك، وأن عجزك إن عجزت من قدرك، وأنك في القدر كنت وفي القدر تكون وإليه تصير، كيف تصرفت بك الحال، فمن قدر الله إلى قدر الله، لا زائغا عنه ولا خارجا منه. فارغب وارهب وجد واعمل، فليس تسأل عما قضي عليك، ولكن عما عهد إليك، ولن تجازى إلا بعملك، ولن تحاسب إلا بسعيك، ولن تجد محضرا إلا ما قدمت، ولن ترد إحدى المنزلتين إلا بما كسبت ولا تلزم الشر إذا تركته وفررت إلى الله تعالىمنه، {ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين} [11]، والسلام عليك، وصلى الله على سيدنا محمد.
فصل
84 - قال محمد: أما الروح فليس يخلو من إحدى منزلتين عند القبض: أن يكون يقبض، ثم يرد إلى فناء المضجع، ويكون متصلا إلى أعلى منزلته بقدر ما يجعل له في الأولى والثانية أو حيث كان. فإن جاوز السماء وفتحت له، فهو إن شاء الله ممن يرى الجنة من موضعه ذلك من أعلاه، وكلما قرب إليها كان أبين له وأروح حتى يبلغ إلى منزلة الشهداء الذين يشاهدون الملكوت رؤية مشاهدة ومداخلة في الروضة والفناء والساحة.
وتذكر أن الله لا يسمى ما كان من ابن آدم روحا، وإنما يسمي الروح الملائكة والقرآن ونحو ذلك، لأن الروح الذي في ابن آدم لا يستحق أظن - الثناء حتى يختم له بالسعادة وتسميته روحا فهو ثناء، فإن لم يكن من أهل السعادة سمي نفسا، قال الله تعالى: {الله يتوفى الأنفس حين موتها} [12] فهذا يجمع أنفس المؤمنين والكافرين، " والتي لم تمت في منامها " . أيضا يجمع الطائفتين. وقال في الكفار: {أخرجوا أنفسكم}[13]، ومن العجب أنه لم يقل في الشهداء أرواحا، قال: {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} [14]، وقال رسول الله ﷺ: إنما نسمة المؤمن ولم يقل روحه؛ فلعل هذا الفصل بين أرواح الملائكة صلى الله عليهم وبين هذه الأرواح الأرضية، أو لما الله به أعلم أن الروح تحفظ كل ما فعل ابن آدم، وإنما النسيان آفات من آفات النفس أو الجسد، فإذا كشفت الآفات ذكر الروح كل ما شاهد في الدنيا، ذكره في الآخرة ألا تراه في الدنيا ينسى، ثم يذكر، وهذا دليل بين.
فصل
وأما الروح المرسل إلى مريم، و{يوم يقوم الروح} [15] هذا جبريل. وقوله: {وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا} [16] هذا هو العلم، {وروح منه}[17] هو الروح المنفوخ في عيسى، كالذي نفخ في آدم، وهو قدس لم تتناتجه الأصلاب. كل هذا أصله من الروح الأعلى، إن ألقي في القلوب فهو علم، وإن كان نسيما فهو روح، وإن كان شديد الحركة فهو ريح، وإن كان قويا في القلب مفصلا راسخا فهو يقين، وإن كان حياة للجسم فهو روح للجسم، وأصله كله الروح الأعلى، ثم تختلف أسماؤه باختلاف صفاته وحركاته.
تم الكتاب بعون الله وتوفيقه وصلى الله على سيد الأولين والآخرين محمد وعلى آل محمد وصحابته والتابعين
هامش
- ↑ [الشورى:11]
- ↑ [الأنعام: 144، الأعراف: 37، يونس: 17، الكهف: 15]
- ↑ [سورة البروج: 16]
- ↑ [سورة النحل: 40]
- ↑ [الأعراف: 180]
- ↑ [سورة البقرة: 42]
- ↑ [سورة يس: 82]
- ↑ [سورة يونس: 49]
- ↑ [سورة النحل: 128]
- ↑ [سورة القيامة: 14]
- ↑ [سورة الذاريات: 51]
- ↑ [سورة الزمر: 42]
- ↑ [سورة الأنعام: 93]
- ↑ [سورة آل عمران: 169]
- ↑ [سورة النبأ: 28]
- ↑ [سورة الشورى: 52]
- ↑ [سورة النساء: 171]