الله المسؤول المرجو الإجابة أن يحسن إلى الأخ علاء الدين في الدنيا والآخرة وينفع به ويجعله مباركا أينما كان فإن بركة الرجل تعليمه للخير حيث حل ونصحه لكل من اجتمع به قال الله تعالى إخبارا عن المسيح وجعلني مباركا أين ما كنت أي معلما للخير داعيا إلى الله مذكرا به مرغبا في طاعته فهذا من بركة الرجل ومن خلا من هذا فقد خلا من البركة ومحقت بركة لقائه والاجتماع به بل تمحق بركة من لقيه واجتمع به فإنه يضيع الوقت في الماجريات ويفسد القلب وكل آفة تدخل على العبد فسببها ضياع الوقت وفساد القلب وتعود بضياع حظه من الله ونقصان درجته ومنزلته عنده ولهذا وصى بعض الشيوخ فقال احذروا مخالطة من تضيع مخالطته الوقت وتفسد القلب فإنه متى ضاع الوقت وفسد القلب انفرطت على العبد أموره كلها وكان ممن قال الله فيه ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا
ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا أقل القليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى واتبعوا أهواءهم وصارت أمورهم ومصالحهم فرطا أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصلاحهم واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلا وآجلا. وهؤلاء قد أمر الله سبحانه رسوله ألا يطيعهم فطاعة الرسول لا تتم إلا بعدم طاعة هؤلاء فإنهم إنما يدعون إلى ما يشاكلهم من اتباع الهوى والغفلة عن ذكر الله.
والغفلة عن الله والدار الآخرة متى تزوجت باتباع الهوى تولد ما بينهما كل شر وكثيرا ما يقترن أحدهما بالآخرة ولا يفارقه.
ومن تأمل فساد أحوال العالم عموما وخصوصا وجده ناشئا عن هذين الأصلين فالغفلة تحول بين العبد وبين تصور الحق ومعرفته والعلم به فيكون من الضالين واتباع الهوى يصده عن قصد الحق وإرادته واتباعه فيكون من المغضوب عليهم. وأما المنعم عليهم فهم الذين من الله عليهم بمعرفة الحق علما وبالانقياد إليه وإيثاره على ما سواه عملا وهؤلاء هم الذين على سبيل النجاة ومن سواهم على سبيل الهلاك ولهذا أمرنا الله سبحانه أن نقول كل يوم وليلة عدة مرات اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.
فإن العبد مضطر كل الاضطرار إلى أن يكون عارفا بما ينفعه في معاشه ومعاده وأن يكون مؤثرا مريدا لما ينفعه مجتنبا لما يضره فبمجموع هذين يكون قد هدي إلى الصراط المستقيم فإن فاته معرفة ذلك سلك سبيل الضالين وإن فاته قصده واتباعه سلك سبيل المغضوب عليهم وبهذا يعرف قدر هذا الدعاء العظيم وشدة الحاجة إليه وتوقف سعادة الدنيا والآخرة عليه.
والعبد مفتقر إلى الهداية في كل لحظة ونفس في جميع ما يأتيه ويذره فإنه بين أمور لا ينفك عنها
أحدها أمور قد أتاها على غير وجه الهداية جهلا فهو محتاج إلى أن يطلب الهداية إلى الحق فيها،
أو يكون عارفا بالهداية فيها فأتاها على غير وجهها عمدا فهو محتاج إلى التوبة منها،
أو أمور لم يعرف وجه الهداية فيها علما ولا عملا ففاتته الهداية إلى علمها ومعرفتها وإلى قصدها وإرادتها وعملها،
أو أمور قد هدي إليها من وجه دون وجه فهو محتاج إلى تمام الهداية فيها،
أو أمور قد هدي إلى أصلها دون تفاصيلها فهو محتاج إلى هداية التفصيل،
أو طريق قد هدي أليها وهو محتاج إلى هداية أخرى فيها فالهداية إلى الطريق شيء والهداية في نفس الطريق شيء آخر. ألا ترى أن الرجل يعرف أن طريق البلد الفلاني هو طريق كذا وكذا ولكن لا يحسن أن يسلكه فإن سلوكه يحتاج إلى هداية خاصة في نفس السلوك كالسير في وقت كذا دون وقت كذا وأخذ الماء في مفازة كذا مقدار كذا والنزول في موضع كذا دون كذا، فهذه هداية في نفس السير قد يهملها من هو عارف بأن الطريق هي هذه فيهلك وينقطع عن المقصود. وكذلك أيضا ثم أمور هو محتاج إلى أن يحصل له فيها من الهداية في المستقبل مثل ما حصل له في الماضي
وأمور هو خال عن اعتقاد حق أو باطل فيها فهو محتاج إلى هداية الصواب فيها
وأمور يعتقد أنه فيها على هدى وهو على ضلالة ولا يشعر فهو محتاج إلى انتقاله عن ذلك الاعتقاد بهداية من الله
وأمور قد فعلها على وجه الهداية وهو محتاج إلى أن يهدي غيره إليها ويرشده وينصحه فإهماله ذلك يفوت عليه من الهداية بحسبه كما أن هدايته للغير وتعليمه ونصحه يفتح له باب الهداية فإن الجزاء من جنس العمل فكلما هدى غيره وعلمه هداه الله وعلمه فيصير هاديا مهديا كما في دعاء النبي الذي رواه الترمذي وغيره: « اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين سلما لأوليائك حربا لأعدائك نحب بحبك من أحبك ونعادي بعداوتك من خالفك ».
وقد أثنى الله سبحانه على عباده المؤمنين الذين يسألونه أن يجعلهم أئمة يهتدى بهم فقال تعالى في صفات عباده { والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما } قال ابن عباس: يهتدى بنا في الخير وقال أبو صالح: يقتدى بهدانا وقال مكحول: أئمة في التقوى يقتدي بنا المتقون وقال مجاهد: اجعلنا مؤتمين بالمتقين مقتدين بهم. وأشكل هذا التفسير على من لم يعرف قدر فهم السلف وعمق علمهم وقال يجب أن تكون الآية على هذا القول من باب المقلوب على تقدير واجعل المتقين لنا أئمة ومعاذ الله أن يكون شيء مقلوبا على وجهه وهذا من تمام فهم مجاهد رحمه الله فإنه لا يكون الرجل إماما للمتقين حتى يأتم بالمتقين فنبه مجاهد على هذا الوجه الذي ينالون به هذا المطلوب وهو اقتداؤهم بالسلف المتقين من قبلهم فيجعلهم الله أئمة للمتقين من بعدهم وهذا من أحسن الفهم في القرآن وألطفه ليس من باب القلب في شيء، فمن ائتم بأهل السنة قبله ائتم به من بعده ومن معه.
ووحد سبحانه لفظ إماما ولم يقل واجعلنا للمتقين أئمة فقيل الإمام في الآية جمع آم نحو صاحب وصحاب وهذا قول الأخفش وفيه بعد وليس هو من اللغة المشهورة المستعملة المعروفة حتى يفسر بها كلام الله، وقال آخرون الإمام هنا مصدر لا اسم يقال أم إماما نحو صام صياما وقام قياما أي اجعلنا ذوي إمام وهذا أضعف من الذي قبله، وقال الفراء إنما قال إماما ولم يقل أئمة على نحو قوله إنا رسول رب العالمين ولم يقل رسولا وهو من الواحد المراد به الجمع لقول الشاعر:
يا عاذلاتي لا تردن ملامتي ** إن العواذل ليس لي بأمير
أي ليس لي بأمراء
وهذا أحسن الأقوال غير أنه يحتاج إلى مزيد بيان وهو أن المتقين كلهم على طريق واحد ومعبودهم واحد وأتباع كتاب واحد ونبي واحد وعبيد رب واحد فدينهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ومعبودهم واحد فكأنهم كلهم إمام واحد لمن بعدهم ليسو كالأئمة المختلفين الذين قد اختلفت طرائقهم ومذاهبهم وعقائدهم فالائتمام إنما هو بما هم عليه وهو شيء واحد وهو الإمام في الحقيقة.
فصل
وقد أخبر سبحانه أن هذه الإمامة إنما تنال بالصبر واليقين فقال تعالى { وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون }
فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين
فقيل بالصبر عن الدنيا، وقيل بالصبر على البلاء، وقيل بالصبر عن المناهي.
والصواب أنه بالصبر عن ذلك كله: بالصبر على أداء فرائض الله والصبر عن محارمه والصبر على أقداره.
وجمع سبحانه بين الصبر واليقين إذ هما سعادة العبد وفقدهما يفقده سعادته فإن القلب تطرقه طوارق الشهوات المخالفة لأمر الله وطوارق الشبهات المخالفة لخبره فبالصبر يدفع الشهوات وباليقين يدفع الشبهات فإن الشهوة والشبهة مضادتان للدين من كل وجه فلا ينجو من عذاب الله إلا من دفع شهواته بالصبر وشبهاته باليقين ولهذا أخبر سبحانه عن حبوط أعمال أهل الشهوات والشبهات فقال تعالى { كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا } فهذا الاستمتاع بالخلاق هو استمتاعهم بنصيبهم من الشهوات ثم قال { وخضتم كالذي خاضوا } وهذا هو الخوض بالباطل في دين الله وهو خوض أهل الشبهات ثم قال: { أولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك هم الخاسرون } فعلق سبحانه حبوط الأعمال والخسران باتباع الشهوات الذي هو الاستمتاع بالخلاق وباتباع الشبهات الذي هو الخوض بالباطل.
فصل
وكما أنه سبحانه علق الإمامة في الدين بالصبر واليقين فالآية متضمنة لأصلين آخرين:
أحدهما الدعوة إلى الله وهداية خلقه
الثاني هدايتهم بما أمر به على لسان رسوله لا بمقتضى عقولهم وآرائهم وسياساتهم وأذواقهم وتقليد أسلافهم بغير برهان من الله لأنه قال يهدون بأمرنا.
فهذه أربعة أصول تضمنتها هذه الآية:
أحدها الصبر وهو حبس النفس عن محارم الله وحبسها على فرائضه وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره
الثاني اليقين وهو الإيمان الجازم الثابت الذي لا ريب فيه ولا تردد ولا شك ولا شبهة بخمسة أصول ذكرها سبحانه في قوله تعالى { ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من ءامن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين }... وفي قوله { ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا } وفي قوله { ءامن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل ءامن بالله وملائكته وكتبه ورسله } والإيمان بالله واليوم الآخر داخل في الإيمان بالكتب والرسل.
وجمع بينهما النبي في حديث عمر في قوله: « الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ».
فهذه الأصول الخمس من لم يؤمن بها فليس بمؤمن واليقين أن يقوم الإيمان بها حتى تصير كأنها معاينة للقلب مشاهدة له نسبتها إلى البصيرة كنسبة الشمس والقمر إلى البصر ولهذا قال من قال من السلف: اليقين الإيمان كله.
الثالث هداية الخلق ودعوتهم إلى الله ورسوله. قال تعالى { ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين }، قال الحسن البصري: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، أسلم لله وعمل بطاعته ودعا الخلق إليه. فهذا النوع أفضل أنواع الإنسان وأعلاهم درجة عند الله يوم القيامة وهم ثنية الله سبحانه من الخاسرين. قال تعالى: { والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين ءامنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر } فأقسم سبحانه على خسران نوع الإنسان إلا من كمل نفسه بالإيمان والعمل الصالح وكمل غيره بوصيته له بهما. ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو فكر الناس كلهم في سورة العصر لكفتهم.
ولا يكون من أتباع الرسول على الحقيقة إلا من دعا إلى الله على بصيرة. قال الله تعالى: { قل هذه سبيلي أدعو إلي الله على بصيرة أنا ومن اتبعني }. فقوله أدعو إلى الله تفسير لسبيله التي هو عليها، فسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله فمن لم يدع إلى الله فليس على سبيله.
وقوله على بصيرة، قال ابن الأعرابي البصيرة الثبات في الدين، وقيل البصيرة العبرة كما يقال أليس لك في كذا بصيرة أي عبرة قال الشاعر:
في الذاهبين الأولين ** من القرون لنا بصائر
والتحقيق العبرة ثمرة البصيرة فإذا تبصر اعتبر فمن عدم العبرة فكأنه لا بصيرة له. وأصل اللفظ من الظهور والبيان فالقرآن بصائر أي أدلة وهدى وبيان يقود إلى الحق ويهدي إلى الرشد، ولهذا يقال للطريقة من الدم التي يستدل بها على الرمية بصيرة.
فدلت الآية أيضا على أن من لم يكن على بصيرة فليس من أتباع الرسول وأن أتباعه هم أولو البصائر ولهذا قال { أنا ومن اتبعني } فإن كان المعنى أدعو إلى الله أنا ومن اتبعني ويكون من اتبعني معطوفا على الضمير المرفوع في أدعو وحسن العطف لأجل الفصل فهو دليل على أن أتباع الرسول هم الذين يدعون إلى الله وإلى رسوله، وإن كان معطوفا على الضمير المجرور في سبيلي أي هذه سبيلي وسبيل من اتبعني فكذلك. وعلى التقديرين فسبيله وسبيل أتباعه الدعوة إلى الله.
الأصل الرابع قوله يهدون بأمرنا وفي ذلك دليل على اتباعهم ما أنزل الله على رسوله وهدايتهم به وحده دون غيره من الأقوال والآراء والنحل والمذاهب بل لا يهدون إلا بأمره خاصة. فحصل من هذا أن أئمة الدين الذين يقتدون بهم هم الذين جمعوا بين الصبر واليقين والدعوة إلى الله بالسنة والوحي لا بالآراء وبالبدع فهؤلاء خلفاء الرسول في أمته وهم خاصته وأولياؤه ومن عاداهم أو حاربهم فقد عادى الله سبحانه وآذنه بالحرب.
قال الإمام أحمد رحمه الله في خطبة كتابه في الرد على الجهمية: الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عنان الفتنة فهم يختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين.
فصل
ومما ينبغي الاعتناء به علما ومعرفة وقصدا وإرادة العلم بأن كل إنسان بل كل حيوان إنما يسعى فيما يحصل له اللذة والنعيم وطيب العيش ويندفع به عنه أضداد ذلك وهذا مطلوب صحيح يتضمن ستة أمور:
أحدها معرفة الشيء النافع للعبد الملائم له الذي بحصوله لذته وفرحه وسروره وطيب عيشه
الثاني معرفة الطريق الموصلة إلى ذلك
الثالث سلوك تلك الطريق
الرابع معرفة الضار المؤذي المنافر الذي ينكد عليه حياته
الخامس معرفة الطريق التي إذا سلكها أفضت به إلى ذلك
السادس تجنب سلوكها
فهذه ستة أمور لا تتم لذة العبد وسروره وفرحه وصلاح حاله إلا باستكمالها وما نقص منها عاد بسوء حاله وتنكيد حياته وكل عاقل يسعى في هذه الأمور لكن أكثر الناس غلط في تحصيل هذا المطلوب المحبوب النافع إما في عدم تصوره ومعرفته وإما في عدم معرفته الطريق الموصلة إليه. فهذان غلطان سببهما الجهل ويتخلص منهما بالعلم.
وقد يحصل له العلم بالمطلوب والعلم بطريقه لكن في قلبه إرادات وشهوات تحول بينه وبين قصد هذا المطلوب النافع وسلوك طريقه فكلما أراد ذلك اعترضته تلك الشهوات والإرادات وحالت بينه وبينه وهو لا يمكنه تركها وتقديم هذا المطلوب عليها إلا بأحدأمرين:
إما حب متعلق وإما فرق مزعج، فيكون الله ورسوله والدار الآخرة والجنة ونعيمها أحب إليه من هذه الشهوات ويعلم أنه لا يمكنه الجمع بينهما فيؤثر أعلى المحبوبين على أدناهما، وإما أن يحصل له علم ما يترتب على إيثار هذه الشهوات من المخاوف والآلام التي ألمها أشد ألم فوات هذه الشهوات وأبقى فإذا تمكن من قلبه هذان العلمان أنتجا له إيثار ما ينبغي إيثاره وتقديمه على ما سواه فإن خاصية العقل إيثار أعلى المحبوبين على أدناهما واحتمال أدنى المكروهين ليتخلص به من أعلاهما.
وبهذا الأصل تعرف عقول الناس وتميز بين العاقل وغيره ويظهر تفاوتهم في العقول فأين عقل من آثر لذة عاجلة منغصة منكدة إنما هي كأضغاث أحلام أو كطيف يمتع به من زائره في المنام على لذة هي من أعظم اللذات وفرحة ومسرة هي من أعظم المسرات دائمة لا تزول ولا تفنى ولا تنقطع فباعها بهذه اللذة الفانية المضمحلة التي حشيت بالآلام وإنما حصلت بالآلام وعاقبتها الآلام؟ فلو قايس العاقل بين لذتها وألمها ومضرتها ومنفعتها لاستحيا من نفسه وعقله كيف يسعى في طلبها ويضيع زمانه في اشتغاله بها فضلا عن إيثارها على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
وقد اشترى سبحانه من المؤمنين أنفسهم وجعل ثمنها جنته وأجرى هذا العقد على يد رسوله وخليله وخيرته من خلقه. فسلعة رب السموات والأرض مشتريها والتمتع بالنظر إلى وجهه الكريم وسماع كلامه منه في داره ثمنها ومن جرى العقد على يد رسوله كيف يليق بالعاقل أن يضيعها ويهملها ويبيعها بثمن بخس في دار زائلة مضمحلة فانية وهل هذا إلا من أعظم الغبن وإنما يظهر له هذا الغبن الفاحش يوم التغابن إذا ثقلت موازين المتقين وخفت موازين المبطلين.
فصل
إذا عرفت هذه المقدمة فاللذة التامة والفرح والسرور وطيب العيش والنعيم إنما هو في معرفة الله وتوحيده والأنس به والشوق إلى لقائه واجتماع القلب والهم عليه فإن أنكد العيش عيش من قلبه مشتت وهمه مفرق فليس لقلبه مستقر يستقر عنده ولا حبيب يأوي إليه ويسكن إليه كما أفصح القائل عن ذلك بقوله:
وما ذاق طعم العيش من لم يكن له ** حبيب إليه يطمئن ويسكن
فالعيش الطيب والحياة النافعة وقرة العين في السكون والطمأنينة إلى الحبيب الأول ولو تنقل القلب في المحبوبات كلها لم يسكن ولم يطمئن إلى شيء منها ولم تقر به عينه حتى يطمئن إلى إلهه وربه ووليه الذي ليس له من دونه ولي ولا شفيع ولا غنى له عنه طرفة عين كما قال القائل:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى ** ما الحب إلا للحبيب الأول
كم منزل في الأرض يألفه الفتى ** وحنينه أبدا لأول منزل
فاحرص أن يكون همك واحدا وأن يكون هو الله وحده فهذا غاية سعادة العبد وصاحب هذه الحال في جنة معجلة قبل جنة الآخرة وفي نعيم عاجل كما قال بعض الواجدين: إنه ليمر بالقلب أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب. وقال آخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا. وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها، قيل له وما أطيب ما فيها قال معرفة الله ومحبته والأنس بقربه والشوق إلى لقائه.
وليس في الدنيا نعيم يشبه نعيم أهل الجنة إلا هذا ولهذا قال النبي: « حبب إلي من دنياكم النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة ». فأخبر أنه حبب إليه من الدنيا شيئان النساء والطيب ثم قال وجعلت قرة عيني في الصلاة، وقرة العين فوق المحبة فإنه ليس كل محبوب تقر به العين وإنما تقر العين بأعلى المحبوبات الذي يحب لذاته وليس ذلك إلا الله الذي لا إله إلا هو وكل ما سواه فإنما يحب تبعا لمحبته فيحب لأجله ولا يحب معه فإن الحب معه شرك والحب لأجله توحيد. فالمشرك يتخذ من دون الله أندادا يحبهم كحب الله، والموحد إنما يحب من يحبه لله ويبغض من يبغضه في الله ويفعل ما يفعله لله ويترك ما يتركه لله. ومدار الدين على هذه القواعد الأربعة وهي الحب والبغض ويترتب عليهما الفعل والترك والعطاء والمنع. فمن استكمل أن يكون هذا كله لله استكمل الإيمان وما نقص منها أن يكون لله عاد بنقص إيمان العبد.
والمقصود أن ما تقر به العين أعلى من مجرد ما يحبه فالصلاة قرة عيون المحبين في هذه الدنيا لما فيها من مناجاة من لا تقر العيون ولا تطمئن القلوب ولا تسكن النفوس إلا إليه والتنعم بذكره والتذلل والخضوع له والقرب منه ولا سيما في حال السجود وتلك الحال أقرب ما يكون العبد من ربه فيها ومن هذا قول النبي: « يا بلال أرحنا بالصلاة ». فأعلمَ بذلك أن راحته في الصلاة كما أخبر أن قرة عينه فيها فأين هذا من قول القائل نصلي ونستريح من الصلاة؟ فالمحب راحته وقرة عينه في الصلاة والغافل المعرض ليس له نصيب من ذلك بل الصلاة كبيرة شاقة عليه إذا قام فيها كأنه على الجمر حتى يتخلص منها وأحب الصلاة إليه أعجلها وأسرعها فإنه ليس له قرة عين فيها ولا لقلبه راحة بها والعبد إذا قرت عينه بشيء واستراح قلبه به فأشق ما عليه مفارقته. والمتكلف الفارغ القلب من الله والدار الآخرة المبتلى بمحبة الدنيا أشق ما عليه الصلاة وأكره ما إليه طولها مع تفرغه وصحته وعدم اشتغاله.
ومما ينبغي أن يعلم أن الصلاة التي تقر بها العين ويستريح بها القلب هي التي تجمع ستة مشاهد:
المشهد الأول الإخلاص وهو أن يكون الحامل عليها والداعي إليها رغبة العبد في الله ومحبته له وطلب مرضاته والقرب منه والتودد إليه وامتثال أمره بحيث لا يكون الباعث له عليها حظا من حظوظ الدنيا ألبتة بل يأتي بها ابتغاء وجه ربه الأعلى محبة له وخوفا من عذابه ورجاء لمغفرته وثوابه
المشهد الثاني مشهد الصدق والنصح وهو أن يفرغ قلبه لله فيها ويستفرغ جهده في إقباله فيها على الله وجمع قلبه عليها وإيقاعها على أحسن الوجوه وأكملها ظاهرا وباطنا فإن الصلاة لها ظاهر وباطن فظاهرها الأفعال المشاهدة والأقوال المسموعة وباطنها الخشوع والمراقبة وتفريغ القلب لله والإقبال بكليته على الله فيها بحيث لا يلتفت قلبه عنه إلى غيره فهذا بمنزلة الروح لها والأفعال بمنزلة البدن فإذا خلت من الروح كانت كبدن لا روح فيه. أفلا يستحي العبد أن يواجه سيده بمثل ذلك ولهذا تلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها وتقول ضيعك الله كما ضيعتني. والصلاة التي كمل ظاهرها وباطنها تصعد ولها نور وبرهان كنور الشمس حتى تعرض على الله فيرضاها ويقبلها وتقول حفظك الله كما حفظتني.
فصل
المشهد الثالث مشهد المتابعة والاقتداء وهو أن يحرص كل الحرص على الاقتداء في صلاته بالنبي ويصلي كما كان يصلي ويعرض عما أحدث الناس في الصلاة من الزيادة والنقصان والأوضاع التي لم ينقل عن رسول الله شيء منها ولا عن أحد من أصحابه ولا يقف عند أقوال المرخصين الذين يقفون مع أقل ما يعتقدون وجوبه ويكون غيرهم قد نازعهم في ذلك وأوجب ما أسقطوه ولعل الأحاديث الثابتة والسنة النبوية من جانبه ولا يلتفتون إلى ذلك ويقولون نحن مقلدون لمذهب فلان وهذا لا يخلص عند الله ولا يكون عذرا لمن تخلف عما علمه من السنة عنده فإن الله سبحانه إنما أمر بطاعة رسوله واتباعه وحده ولم يأمر باتباع غيره وإنما يطاع غيره إذا أمر بما أمر به الرسول وكل أحد سوى الرسول فمأخوذ من قوله ومتروك. وقد أقسم الله سبحانه بنفسه الكريمة أنّا لا نؤمن حتى نحكم الرسول فيما شجر بيننا وننقاد لحكمه ونسلم تسليما، فلا ينفعنا تحكيم غيره والانقياد له ولا ينجينا من عذاب الله ولا يقبل منا هذا الجواب إذا سمعنا نداءه سبحانه يوم القيامة { ماذا أجبتم المرسلين } فإنه لا بد أن يسألنا عن ذلك ويطالبنا بالجواب قال تعالى: { فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين } وقال النبي: « أوحي إلي أنكم بي تفتنون وعني تسألون ». يعني المسألة في القبر. فمن انتهت إليه سنة رسول الله وتركها لقول أحد من الناس فسيرد يوم القيامة ويعلم.
فصل
المشهد الرابع مشهد الإحسان وهو مشهد المراقبة وهو أن يعبد الله كأنه يراه وهذا المشهد إنما ينشأ من كمال الإيمان بالله وأسمائه وصفاته حتى كأنه يرى الله سبحانه فوق سمواته مستويا على عرشه يتكلم بأمره ونهيه ويدبر أمر الخليقة فينزل الأمر من عنده ويصعد إليه وتعرض أعمال العباد وأرواحهم عند الموافاة عليه فيشهد ذلك كله بقلبه ويشهد أسماءه وصفاته ويشهد قيوما حيا سميعا بصيرا عزيزا حكيما آمرا ناهيا يحب ويبغض ويرضى ويغضب ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وهو فوق عرشه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا أقوالهم ولا بواطنهم بل يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
ومشهد الإحسان أصل أعمال القلوب كلها فإنه يوجب الحياء و الإجلال والتعظيم والخشية والمحبة والإنابة والتوكل والخضوع لله سبحانه والذل له ويقطع الوسواس وحديث النفس ويجمع القلب والهم على الله.
فحظ العبد من القرب من الله على قدر حظه من مقام الإحسان وبحسبه تتفاوت الصلاة حتى يكون بين صلاة الرجلين من الفضل كما بين السماء والأرض وقيامهما وركوعهما وسجودهما واحد.
فصل
المشهد الخامس مشهد المنة وهو أن يشهد أن المنة لله سبحانه كونه أقامه في هذا المقام وأهله له ووفقه لقيام قلبه وبدنه في خدمته فلولا الله سبحانه لم يكن شيء من ذلك كما كان الصحابة يحدون بين يدي النبي فيقولون
والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
قال الله تعالى { يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين } فالله سبحانه هو الذي جعل المسلم مسلما والمصلي مصليا كما قال الخليل: { ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك } وقال: { رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي } فالمنة لله وحده في أن جعل عبده قائما بطاعته وكان هذا من أعظم نعمه عليه. وقال تعالى: { وما بكم من نعمة فمن الله } وقال { ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون }
وهذا المشهد من أعظم المشاهد وأنفعها للعبد وكلما كان العبد أعظم توحيدا كان حظه من هذا المشهد أتم.
وفيه من الفوائد أنه يحول بين القلب وبين العجب بالعمل ورؤيته فإنه إذا شهد أن الله سبحانه هو المان به الموفق له الهادي إليه شغله شهود ذلك عن رؤيته والإعجاب به وأن يصول به على الناس فيرفع من قلبه فلا يعجب به ومن لسانه فلا يمن به ولا يتكثر به وهذا شأن العمل المرفوع.
ومن فوائده أنه يضيف الحمد إلى وليه ومستحقه فلا يشهد لنفسه حمدا بل يشهده كله لله كما يشهد النعمة كلها منه والفضل كله له والخير كله في يديه وهذا من تمام التوحيد فلا يستقر قدمه في مقام التوحيد إلا بعلم ذلك وشهوده فإذا علمه ورسخ فيه صار له مشهدا وإذا صار لقلبه مشهدا أثمر له من المحبة والأنس بالله والشوق إلى لقائه والتنعم بذكره وطاعته ما لا نسبة بينه وبين أعلى نعيم الدنيا ألبتة. وما للمرء خير في حياته إذا كان قلبه عن هذا مصدودا وطريق الوصول إليه عنه مسدودا بل هو كما قال تعالى { ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون }
فصل
المشهد السادس مشهد التقصير وأن العبد لو اجتهد في القيام بالأمر غاية الاجتهاد وبذل وسعه فهو مقصر وحق الله سبحانه عليه أعظم والذي ينبغي له أن يقابل به من الطاعة والعبودية والخدمة فوق ذلك بكثير وأن عظمته وجلاله سبحانه يقتضي من العبودية ما يليق بها. وإذا كان خدم الملوك وعبيدهم يعاملونهم في خدمتهم بالإجلال لهم والتعظيم والاحترام والتوقير والحياء والمهابة والخشية والنصح بحيث يفرغون قلوبهم وجوارحهم لهم فمالك الملوك ورب السموات والأرض أولى أن يعامل بذلك بل بأضعاف ذلك .
وإذا شهد العبد من نفسه أنه لم يوف ربه في عبوديته حقه ولا قريبا من حقه علم تقصيره ولم يسعه مع ذلك غير الاستغفار والاعتذار من تقصيره وتفريطه وعدم القيام بما ينبغي له من حقه وأنه إلى أن يغفر له العبودية ويعفو عنه فيها أحوج منه إلى أن يطلب منه عليها ثوابا وهو لو وفاها حقها كما ينبغي لكانت مستحقة عليه بمقتضى العبودية فإن عمل العبد وخدمته لسيده مستحق عليه بحكم كونه عبده ومملوكه فلو طلب منه الأجرة على عمله وخدمته لعده الناس أحمق وأخرق هذا وليس هو عبده ولا مملوكه على الحقيقة وهو عبد الله ومملوكه على الحقيقة من كل وجه لله سبحانه. فعمله وخدمته مستحق عليه بحكم كونه عبده فإذا أثابه عليه كان ذلك مجرد فضل ومنة وإحسان إليه لا يستحقه العبد عليه.
ومن ههنا يفهم معنى قول النبي: « لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ».
وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: يخرج للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين ديوان فيه حسناته وديوان فيه سيئاته وديوان النعم التي أنعم الله عليه بها فيقول الرب تعالى لنعمه خذي حقك من حسنات عبدي فيقوم أصغرها فتستنفذ حسناته ثم تقول وعزتك ما استوفيت حقي بعد فإذا أراد الله أن يرحم عبده وهبه نعمه عليه وغفر له سيئاته وضاعف له حسناته. وهذا ثابت عن أنس وهو أدل شيء على كمال علم الصحابة بربهم وحقوقه عليهم كما أنهم أعلم الأمة بنبيهم وسنته ودينه فإن في هذا الأثر من العلم والمعرفة ما لا يدركه إلا أولو البصائر العارفون بالله وأسمائه وصفاته وحقه ومن هنا يفهم قول النبي في الحديث الذي رواه أبو داود والإمام أحمد من حديث زيد بن ثابت وحذيفة وغيرهما: أن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم.
فصل
وملاك هذا الشأن أربعة أمور:
نية صحيحة وقوة عالية يقارنهما رغبة ورهبة.
فهذه الأربعة هي قواعد هذا الشأن ومهما دخل على العبد من النقص في إيمانه وأحواله وظاهره وباطنه فهو من نقصان هذه الأربعة أو نقصان بعضها.
فليتأمل اللبيب هذه الأربعة الأشياء وليجعلها سيره وسلوكه ويبني عليها علومه وأعماله وأقواله وأحواله فما نتج من نتج إلا منها ولا تخلف من تخلف إلا من فقدها.
والله أعلم والله المستعان وعليه التكلان وإليه الرغبة وهو المسؤول بأن يوفقنا وسائر إخواننا من أهل السنة لتحقيقها علما وعملا إنه ولي ذلك والمان به وهو حسبنا ونعم الوكيل.