ُكُتب عن الخلفاء الراشدين وكبار القادة والولاة من صحابة النبي عليه السلام كلام كثير باللغات الأوروبية في أثناء الكتابة عن تاريخ الإسلام. ولكن الذي كتب عن الصحابة ممن لم يتولوا الحكم ولا اشتركوا في السياسة العامة — كبلال بن رباح — جدُّ قليل، وبين هذا القليل الذي كتب عن بلال خاصة فصلٌ في اللغة الإنجليزية للأديب القصصي لفكاديو هيرن Lafcadie Hearn الذي عمل حينًا في الصحافة الأمريكية، وقضى زمانًا في جزر الهند الغربية التابعة لفرنسا ثم جال بين بلاد الشرق، واستقر باليابان وبنى فيها بزوجة يابانية ومات هناك سنة 1904، بعد أن قضى حياته الأدبية كلها هائمًا بنفحات الشرق الروحية؛ سواء هبت عليه من بلاد العرب أو من الصين أو اليابان. ولا شك أن ترجمة هذا الفصل إلى العربية ترده إلى اللغة التي هي أحق به وأولى. وتعد مناسبةُ نقله إلى العربية سانحةً كل السنوح في صدد الترجمة لبلال رضي الله عنه برسالة مستقلة به مقصورة عليه. وهو عدا ذلك فصل قيم يفيض بالعطف الإنساني والروح الشعرية والفكاهة الأدبية، ويضيف كثيرًا إلى علمنا بأثر الأذان الإسلامي في نفوس الأدباء الغربيين، ولا سيما الأدباء من طراز هيرن الذين أظمأتهم الحضارة العصرية وتشوقت نفوسهم إلى الري الروحاني من ينابيع أخرى غير ينايع أمريكا وأوروبا. وقد مهد هيرن لفصله عن «المؤذن الأول» بأبيات الشاعر إدوين أرنولد Edwin Arnold التي يقول فيها مخاطبًا العزة الإلهية:
لو أن عابديك اليوم على الأرض طاف بهم طائف من الفناء فجاءة وصمت كل مؤذن يرفع الصوت بالتكبير في سكينة السماء، لما خلت الدنيا بعد هذا من آيات تشهد بوجودك على الأرض وفي أغوار الماء. نعم … ولو ذهبت هذه
وذهبت الأرض معها لبقيت لك آيات في أعالي السماء أعظم وأسمى؛ إذ كل شارقة فوقنا من تلك الشموس التي تشتعل إلى مطلع النهار، وتلك الكواكب التي يعود بها الليل كل مساء — هي يا رب «دراويشك» التي تدور في حلقة الذكر حول عرشك الوضَّاء.
ثم قال هيرن: إن السائح الذي يهجع لأول مرة بين جدران مدينة من مدن الشرق على مقربة من إحدى المنائر على المساجد الجامعة قلما تفوته خشعة الفؤاد لذلك الجمال الوقور الذي ينبعث به دعاء المسلمين إلى الصلاة، وهو لا شك يستوعب في قلبه — إذا كان قد هيأ نفسه للرحلة بالقراءة والمطالعة — كل كلمة من كلمات تلك الدعوة المقدسة، ويتبين مقاطعها وأجزاءها في نغمات المؤذن الرنانة حيثما أرسل الفجر ضياءه المورَّد في سماء مصر أو سورية وفاض بها على النجوم. وإنه ليسمع هذا الصوت أربع مرات أخرى قبل أن يعود إلى المشرق ضياء الصباح: يسمعه تحت وهج الظهيرة اللامعة ويسمعه قبيل غياب الشمس والمغرب يتألق بألوان القرمز والنضار، ويسمعه عقيب ذلك حين تنسرب هذه الألوان الزاهية في صبغة مزدوجة من البرتقال والزمرد، ثم يسمعه آخر الأمر حين تومض من فوقه ملايين المصابيح التي ترصع بها تلك القبة البنفسجية فوق مسجد الله الذي لا يزول، ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنَّعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه — كما فعل جيرار دي نرفال — أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام … عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة، ومنها «لا تأخذه سنة ولا نوم»، فإن كان الترجمان ممن يعون طرفًا من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول — أول من رتل الدعاء إلى الصلاة — كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة — بلال بن رباح — صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم.
أما بلال هذا فكان أسود أفريقيًّا من أبناء الحبشة قد اشتهر بقوة يقينه وهو يتخذ دين الإسلام، وبغيرته على الدعوة النبوية وجمال النغم في ترجيع صوته؛ ذلك الصوت الذي تناوله ومد فيه وكرره كل مؤذن في الإسلام منذ أكثر من ألف ومائتي عام.
وقد رجَّع بلال أذانه قبل أن ترتسم في الذهن صورة المنارة الأولى، وقبل أن يؤثر القوم اختيار المؤذنين من العميان مخافة أن يرمق المؤذن بعينه منظرًا محرمًا وهو يطل من علٍ على سقوف المدينة.واليوم ترتفع إلى السماء منائر لا عداد لها في كل موطن من مواطن الإسلام حتى واحات الصحراء، وقد تقوم على بناء بعضها أيدٍ جاهلة بميزان البناء فيخيل إلى من يراها أنها تتلوى من الوجد، كمئذنة «أوجلة» التي رآها فكتور لارجو Largau في سنة 1877.
أما الكلمات التي يرددها المسلمون في أنحاء عالم الإسلام من حيث تقوم بِنَى القرميد التي ترفع على قبور الصحراء إلى تلك المنائر السحرية الحالمة التي ترتفع على مسجد «أجرا» عند ضريح «تاج محل» بالهند — فهي بنصها وفصها تلك الكلمات التي ترنم بها صوت بلال المكين.
ولا تزال للمؤذن شروط ترعى حتى اليوم ليسمح له بأداء الأذان.
فعليه أن يحفظ القرآن وأن ينزه اسمه وسمعته عن كل سوء، وأن يكون له صوت واضح جهير ولهجة فصيحة ومخارج للحروف صحيحة، ولكن شروط الصوت الحسن التي كانت تطلب من المؤذن في صدر الدعوة المحمدية والمسلمون على ذكر من صوت بلال قد كانت أندر وأصعب مما اكتفي به بعد ذلك. وقد روى الشاعر الفارسي الأشهر مصلح الدين السعدي في كتابه بستان الورد غير نادرة واحدة تدل على آراء أبناء عصره فيما يرجع إلى اختيار المؤذنين وقراء آي الذكر الحكيم.
قال في بعض تلك النوادر: إن مؤذنًا في سنجار تعوَّد أن يؤدي الأذان أداءً صحيحًا ولكن بصوت كريه إلى كل من سمعوه، وكان صاحب المسجد أميرًا عادلًا لا يسيء في عمل من أعماله، فلم يشأ أن يجرح فؤاد المؤذن المسكين، وخاطبه على نحو يرضيه فقال له: يا سيدي. إن لهذا المسجد مؤذنين أقدمين يعطى كل منهم خمسة دنانير. فهل لك في عشرة دنانير تأخذها أنت على أن تترك لهم مهمة الأذان فيه؟ فقبل الرجل عرض الأمير وغادر المدينة إلى حيث شاءت له المقادير.
إلا أنه لم يلبث غير قليل حتى قفل إلى الأمير قائلًا: لقد ظلمتني يا مولاي إذ قد زينت لي أن أترك هذا المسجد من أجل عشرة دنانير. فإنهم قد عرضوا عليَّ عشرين دينارًا حيث كنت على أن أفارقهم فأبيتها … فابتسم الأمير وقال: لا يخدعوك إذن … فإني لأحسبهم معطيك خمسين دينارًا أو يزيد على ذلك إذا أصررت على البقاء هناك!
وفي الكتاب نادرة أخرى لا تقل عن هذه في طرافتها، يزيدنا فهمًا لها أن نذكر أن الأسلوب العربي المأثور في تلاوة القرآن يكاد يعلو على كل أسلوب معروف في التلاوات الدينية. وخلاصة النادرة أن قارئًا من حفاظ الكتاب كان يجوِّد الآيات بصوت غير جيد.فمر به رجل فطن وسأله: كم أجرك على هذه القراءة؟ فقال الحافظ: لا شيء! قال الرجل: وفيم إذن عناؤك هذا؟ قال: حبًّا لله! قال الرجل الفطن: حبًّا لله إذن لا تقرأ يرحمك الله.
وبدأ بلال حياته عبدًا؛ لأنه كان وليد جارية حبشية، ولم يعرف عن نشأته في الطفولة غير النزر اليسير. ومن وصف سير وليام موير إياه يظهر أنه كان فاحم السواد كثيف الشعر وكانت لوجهه ملامح الزنوج، وأنه كان طويلًا أجنأ كأنه الجمل، لا يروق النظر ولكنه شديد الأسر مفتول الجسد متين الأعصاب.
وقد كان لدعوة محمد الأولى أثر عميق في قلوب عبيد مكة؛ لأن هؤلاء القوم الغرباء في ربقة العبودية بين أناس غير أهلهم قد تلقوا ولا ريب دعوة النبي إلى الأبوة العليا التي تكلأ الناس جميعًا كما يتلقى الجريح بلسم الشفاء والحزين سلوة العزاء.
ولعل بلالًا كان أول من دان بالإسلام من بني جلدته، ولذاك قال النبي عنه: إنه أول ثمرة من ثمرات الحبشة، ولعل العبد الصغير قد تلقن من والدته السوداء شيئًا من تلك الخواطر الفجة التي شاعت في الحبشة باسم الديانة المسيحية في القرن الرابع فهيأت ذهنه لقبول وحدانية الإسلام.
وما هو إلا أن بدأت فترة الاضطهاد حتى انصب أشده وأقساه على هؤلاء العبيد. فقد كانت سنة العرب منذ عهد بعيد أن يحمي الرجل ذوي قرباه ولو كلفته حمايته بذل الحياة. فمن سفك دم عربي فهو غير آمن أن يرتد عليه أهله بالثأر وأن يستتبع ذلك حربًا سجالًا بين العشيرتين إلى زمن طويل. ومن ثم كان محمد وصحبه الأحرار يأمنون بعض الأمان على أنفسهم من سطوة التنكيل العنيف. ولم يكن للعبيد مثل هذه الحماية، فتعاورتهم الأيدي بالضرب وتلقوا نذر الموت وذاقوا أمر العذاب معرضين لنيران القيظ في شمس الجزيرة العربية السافعة. فكانت غواية الماء البارد والظل الوارف والطعام الشهي تحت هذا العذاب الذي يضاف إليه عذاب الجوع والظمأ أشد من أن تدفعها عزيمة أولئك المساكين … فما زالوا واحدًا بعد واحد يتفوهون بالعبارات التي كانت تملى عليهم سبًّا لنبيهم ولو خرجت من الشفاه دون القلوب، وجعلوا يقسمون باللات والعزى على صدق ما يقولون، وطالما عاد بعضهم فبكى ندمًا على ما فرط منهم في تلك المحنة النكراء.
ولكن النبي قد استنزل لأولئك المساكين عزاءً وافيًا بما ذكره القرآن عنهم، حيث جاء فيه: ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل:١٠٦–١٠٥].
وقد ظل بلال وحده ثابت القلب واللسان فلم يصبأ ولم ينل من عقيدته ألم الضرب ولا حر الظمأ ولا طول التعريض للشمس على بطاح مكة المتلهبة، وعجزت كل هذه المحن أن تثني عزيمته الحديدية، فلم يكن له من جواب على كل أمر يتلقاه من معذبيه إلا أن يردد قوله: أحد! أحد! مشيرًا إلى واحدانية الله الذي ليس له شريك.
هذه الفترة في حياة بلال أيام دخوله في الإسلام هي التي اختارها الشاعر الفارسي فريد الدين العطار للإشادة بها في كتابه منطق الطير، فقال:
إن بلالًا قد تلقى على جسده الهزيل ضربات العصي من الخشب، والسياط من الجلد، فتمزق إهابه وسال الدم من جراحه، ولم يمسك قطُّ عن توحيد الله الذي لا إله غيره.
واتفق ذات يوم — والحبشي المسكين يتلظى من ألم ذاك العذاب — أن عبر به رجل نحيف البدن صغير القد جميل الملامح واسع الجبين فشهد فيمن يشهدون ثبات بلال وشدة عذابه.
وكان ذاك الرجل النحيف هو التاجر عبد الله بن عثمان أبي قحافة، ويعرف في التاريخ الإسلامي باسم أبي بكر صديق النبي الحميم وزميله في ذلك الكهف الذي تقول الرواية إن العناكب نسجت على مدخله خيوطها لتخفي اللاجئين إليه عمن يتعقبونهما، ويدعى أبو بكر أيضًا بالصديق أي المخلص الوفي، وكان أبا السيدة عائشة التي قدر لها أن تقترن بالنبي وقدر لأبيها أن يخلف النبي على رعاية شأن المسلمين بعد وفاته، وكان إلى ذلك الحين قد أنفق كثيرًا من ثروته التي تبلغ أربعين ألف درهم في شراء العبيد الذين سيموا العذاب على أيدي ساداتهم من أجل دخولهم في دين الإسلام، ومعظمهم رجال مهازيل أو نساء، فكان أبو قحافة يؤاخذه؛ لأنه ينفق ماله في إعتاق النساء والضعفاء ويقول له: هلا أنفقته في إعتاق الأقوياء الذين يشدون أزرك ويدرءون عنك عدوك؟ وكان أبو بكر يجيبه: كلا. يا أبت. إنما أريد بهم وجه الله.
فلما شهد بلالًا في ذلك العذاب لم يطل صبره على رؤيته بتلك الحال وأخذ لتوه يساوم أمية بن خلف وأبي بن خلف في ثمنه فباعاه بعباءة وعشرة دنانير.
وقليلًا ما كان يخطر على بال أحد من شهود تلك الصفقة، أن يومًا من الأيام سيأتي على أمية وابنه يسألان فيه الرحمة من عبدهما الذي ضنا عليه بكل رحمة فلا ينالانها. فما انقضت عشر سنين على ذلك اليوم حتى ظفر بلال بصاحبيه وسنحت فرصته بعد وقعة بدر الحامية، فوقعت عليهما عيناه بين أسرى قريش، وشفى قلبه أن ينظر إليهما وهما يذبحان على مشهد منه؛ لأن الإسلام لا يأمر الذين يدينون به أن يجزوا الشر بالخير. وقد كان بلال في الحقيقة أول عبد قيم أطلقه أبو بكر، فأرسله عتيقًا لوجه الله.
وكان بلال رجلًا قويًّا، فلا يفهم وصفه بالهزال في قصيدة الشاعر الفارسي إلا على معنى الهزال الذي توصف به الطبيعة البشرية بالقياس إلى قوة الروح.
ولم يلبث لسان الكذب والوشاية أن قال قولته في السبب الذي بعث أبا بكر إلى شراء الحبشي المعذب، فزعم من زعم أنه توخى الفائدة ولم يتوخ التقوى والصلاح، وكانت هذه الأكذوبة خليقة أن تسري مسراها في البيئة التي عهدت ذلك التاجر الورع زمانًا وهو الأريب الخبير بتصريف التجارة، ولكن محمدًا كان ينكر ما يلغطون به ويوسع القائلين به تأنيبًا وملامة، وفي ذلك يقول الكتاب من سورة الليل:﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ * وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَىٰ * إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ * فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَاتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَىٰ* فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ * إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ * وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَىٰ * فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّىٰ * لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ * وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ * وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَىٰ * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَىٰ * وَلَسَوْفَ يَرْضَىٰ﴾ [الليل 1–21].
ومن ثم أصبح بلال خادمًا أمينًا لمحمد «عليه السلام»، وكتب له أن يسهم بنصيب في نشر دعوة الإسلام.
وتزعم بعض الروايات أن بلالًا عاد بعد هجرة النبي فوقع في أسر قريش فعذبوه وضاموه، ولكنها رواية لا يوثق بها في رأي المراجع التي تعتبر حجة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وإنما نلتقي ببلال مرة أخرى بعد عتقه في المدينة حيث كان المؤذن الأول بعد الاتفاق على الأذان.ولم يكن الأذان معروفًا في مستهل الدعوة الإسلامية حين كان المؤمنون فئة قليلة تقيم إلى جوار نبيها، وإنما كان الأذان صيحة مسموعة ينادي بها المنادي إلى الصلاة الجامعة.
ثم عرف الأذان بعد بناء مسجد المدينة وتحويل القبلة من بيت المقدس إلى مكة وكعبتها. إلا أن بيت المقدس لم يزل له شأن في المأثورات الإسلامية ولم يزل عزيزًا في قلوب المسلمين.
ألا يذكر الذاكرون من علامات الساعة الكبرى أن عيسى ابن مريم سيقبل عند حلول الساعة إلى مسجد بيت المقدس قبيل صلاة الفجر، فيشرق المسجد بطلعته ويتقدم إلى محراب الإمام فيبهت أولئك الذين يزعمون أنهم من أتباعه حين يعلن بينهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله؟
أما كيف خطرت فكرة الأذان فقد كان ذلك بتوفيق عجيب، وفحواه أن النبي حين فرغ من بناء مسجده — الذي يعد على زهادة بنيانه مثالًا للأسلوب العربي في البناء — تبين على الأثر أن دعوة المسلمين إلى الصلاة على النحو الذي اتبعوا قبل ذلك ليست مما يوائم أحوال المسلمين في ذلك الحين! لأنها خلو من ذلك الجلال الذي لا غنى عنه في إقامة الفرائض العامة والشعائر العلنية.
وخطر للنبي في بداءة الأمر أن يتخذ بوقًا للدعوة إلى الصلاة، ولكنه لم يشأ أن يحول القبلة عن بيت المقدس ثم يتخذ لدعوة الصلاة أداة كان يستخدمها اليهود في بعض الصلوات.
ثم خطر له أن يتخذ للدعوة ناقوسًا يدق في ساعات معلومات، ولكنهم لم يجدوا في المدينة من يصنع الناقوس المطلوب.
وإنه ليوشك أن يتخذ للدعوة ناقورًا من الخشب؛ إذ سنحت فكرة الأذان لبعض الصالحين في رؤيا المنام.
فقد رأى ذلك الرجل الصالح فيما يرى النائم أنه لقي على مقربة من داره — وهو يسري في ضوء القمراء — رجلًا طوالًا في ثياب خضر بيده ناقوس جميل، وبدا له أنه قارب الرجل الطوال يسأله أن يبيعه الناقوس. فتبسم الرجل الطوال وراح يسأله: ولأي شيء تريده؟ فقال له: إنما أشتريه للنبي عليه السلام ليدعو به المسلمين إلى الصلاة.
قال الرجل الطوال، وكأنه يزداد في مقاله طولًا: كلا. بل أخبرك بما هو أصلح وأجدى. فخير من ذاك أن ينادي مناد بالدعاء إلى الصلاة من سقف المسجد كما أصنع. وانطلق في ندائه بصوت رنان عجيب سماوي الجلال يبعث الوجل الأقدس في فؤاد سامعه، وهو يردد ذلك الأذان كما يردد اليوم من شاطئ أفريقية العربي إلى تخوم هندستان:
الله أكبر …
الله أكبر …
أشهد أن لا إله إلا الله …
أشهد أن محمدًا رسول الله …
حي على الصلاة …
حي على الفلاح …
لا إله إلا الله.
فهب من رقاده والنغم العجيب يتردد في أذنيه، وبادر إلى النبي فقص عليه رؤياه، فسمعها منه النبي كما يسمع الرؤيا الصادقة التي تأتي بالهداية من الله، وتذكَّر تلك الهبة الصوتية النادرة التي خص بها مولاه الوفي بلال، فأمره أن ينادي إلى الصلاة بتلك الكلمات التي سمعها المسلم الصالح في منامه، وكان الليل في هزيعه الأخير فوعى المؤذن الأول واجب صناعته الجديدة قبل مطلع الفجر، وما هو إلا أن طلعت بشائر النور الأولى حتى نهض أهل المدينة من نومهم على صوت الحبشي الساحر يردد الأذان من مشرف عالٍ بجوار المسجد. فكان ذلك فاتحة تاريخ المنارة الجميلة التي تتسم بها قبل غيرها ملامح العمارة في المدن الإسلامية، وكان مصعد بلال في تلك الليلة إلى الشرفة المضاءة بنور الكواكب على سقوف المدينة هو أول خطوة على سلم المنارة الباقية قبل ألف ومائتي عام.
في خلال تلك القرون جميعًا لم يعرف الإسلام يومًا واحدًا لم ترتفع فيه صيحة الأذان إلى الله.
ولا تزال نغمات الأذان تعلِّم طريق الساعات لسكان مدائن شتى لا عداد لها. وفي المأثورات أنها ستكون علامةً للساعة التي تقوم فيها القيامة ويظهر فيها المهدي المنتظر — مسيح الديانة الإسلامية — فيعلن الأذان بصوت جهوري يدوي في أنحاء العالم بأسره!
وما برحت دعوات الصلاة تستجاب في العالم الإسلامي بدقة يدهش لها السيَّاح ويعجبون.وقد اشتهرت هذه الدقة عن المسلمين في استجابة داعي الصلاة حتى استخدمت أحيانًا في الإضرار بهم والإغارة عليهم. فاتفق في نيسابور — تلك المدينة المحببة إلى عطار الروح الشاعر المعروف باسم العطار — أن الأذان أعلن لأول مرة غدرًا وختلًا للإيقاع بمن يستجيبون إليه، إذ حدث في السنة الثامنة من القرن السابع أن أغارت على المدينة جموع جنكيزخان، وكان من عادة هذه الجموع التي درجت على الاستئصال والتخريب عادة فريدة بين الأمم في قسوتها وغدرها؛ وهي أن يعودوا إلى المدينة فجأة بعد تخريبها ليعملوا السيف فيمن رجع إليها من أهلها مطمئنًا إلى جلاء العدو عنها أو فيمن يقبلون على الأنقاض المحترقة ليستخرجوا نفائس الأعلاق منها. فلما عادوا إلى نيساوبر على هذا النحو أمر الزعيم المغولي بإقامة الأذان فأقبل إليه بهذه الحيلة كثيرون ممن كانوا يعتصمون بالمخابئ والزوايا المهجورة، وصدق المؤرخ الفارسي حين قال في وصف هذه الجموع:
إنهم يقصدون إلى إبادة نوع الإنسان وفناء العالم ولا يقصدون إلى السيادة أو الغنيمة.
إن جو المأثورات — بما يحفه من الأشعة والهالات — ليرن فيه صوت بلال أبدًا كما رنَّ في الحلم صوت ذلك الغريب في الأكسية الخضر منبعثًا من عالم فردوسي إلهي مسربل بالضياء.
وليس في مقدورنا بعد انقضاء تلك المئات من السنين أن نعرف حقيقة صوت المؤذن الأفريقي، ولا أن نقوِّم مزاياه الموسيقية التي لا شك فيها، ولكننا إذا صح لنا أن نستدل بما قيل في وصفه على طبقته الموسيقية فالأغلب الأقرب إلى الحقيقة أنه كان من طبقة «الباريتون» المعروفة لدينا بالامتداد والغزارة خلافًا للنغمة العربية التي تعرف بشيء من الحدة والنعومة.
ولا يعوزنا السبب لأن نشك في أن أحدًا من المشهورين بين أرباب صناعة الغناء في الجاهلية كان من ذلك العنصر — العربي — الذي وصفه سائح فرنسي فقال: إنه شعب صخاب، وقد أنبأنا الدكتور بيرون Perron في كتابه الممتع عن النساء العربيات الذي نشر بالجزائر سنة 1848 أن معظمهم كان عبيدًا وأن جميع العبيد قبل الدعوة المحمدية كانوا على وجه الإجمال من الحبش أو الزنوج، ولا يبعد أن تكون القينتان المشهورتان باسم جرادتي عاد — ولا يزال لأغانيهما بقية مروية — فتاتين حبشيتين.وتقول الأخبار: إنهما كانتا لعبد الله بن جدعان من سلالة عاد، وإن فترات التاريخ العربي لم تخل من عتقاء أو خلاسين نبغوا في الشعر أو في الفن أو الغناء، ومن هؤلاء الأغربة السود ذلك الأسود الذي نظم إحدى المعلقات ورويت له أغانٍ وأناشيد بين أحسن القصيد، ونعني به عنترة بن شداد.
ومنهم خفاف الشاعر الفارسي ابن عم الخنساء، والشنفرى الذي لم يكن حظه من الشعر بالقليل، وقد شهر الحرب وحده على قبيلة كاملةٍ ثأرًا لحميه الذي قتلوه؛ لأنه ارتضى لبنته زوجًا من غير أكفائها وأقسم لا يهدأن أو يقتل منهم مائة بقتيله. فأصاب تسعة وتسعين منهم ثم أصابوه وقطعوا رأسه وجاء رجل منهم فركله بقدمه العارية فجرح في قدمه وفسد جرحه فمات. فقيل: إن الشنفرى بر بقسمه وهو قتيل.
ويروى عن النبي أنه ود لو شهد عنترة بن شداد، ولعله لم يكن يود ذلك إعجابًا بشعره كما وده لعلمه بجدوى ذلك الفارس الشاعر لدعوته؛ إذ يجنح إليها ويقود لها عتقاء الصحراء جميعًا تحت لواء نبي يبشر بالمساواة.
وطوت روح الإسلام شيئًا فشيئًا قصيد الصحراء الجميل بألوانه الساخنة التي تشبه ألوانها، وحرارته التي تشبه حرارة رمالها ووقدته التي تشبه وقدة سمائها، ولكن الأغربة لم تزل تغني وإن كفت عن نظم المعلقات! ولم يكن بالقليل عدد المغنين السود أو الخلاسيين الذين نبغوا في القرون الثلاثة الأولى بعد ظهور الإسلام، فسعيد بن مذحج الذي صادر الخليفة عبد الملك ماله؛ لأنه فتن أبناء الأشراف بسحر غنائه فأجزلوا له العطايا وضيعوا تراثهم عليه، كان عبدًا من عبيد مكة، وأبو محجن نصيب بن الزنجي لقد لقي الحظوة من أمراء كثيرين وحكام مختلفين منذ أيام عبد الملك إلى أيام هشام. وقد حشا يزيد الثاني فاه درًّا في يوم من الأيام.
وأبو عباد معبد — أمير الغناء في عصره — أطرب ثلاثة من الخلفاء، وغشي على يزيد من الطرب وهو يستمع لغنائه، ومنحه خلفه اثني عشر ألف دينار جائزة واحدة، ومشى في جنازته الوليد الثاني هو وأخوه في ثياب السواد حدادًا عليه، وكان قد مات في قصره.
ويبدو أن سلامة الزرقاء — التي بلغ ثمن القبلة منها أربعين ألف درهم — كانت من سلالة السود، وكانت سلامة القس وحبابة صاحبتها من جواري المدينة المولدات، وتروى قصة من أشجى القصص العربية عن غرام يزيد بحبابة هذه وموته حزنًا عليها.
والأدلة كثيرة على أن أصوات الجواري السود وأساليبهن في الغناء كان لها سحر ملحوظ في نفوس ساداتهن المسلمين، كما يؤخذ من مطالعة أدباء العرب والفرس في بعض الأحيان. وقد قيل: إن إسماعيل بن جامع أعظم المغنين في عصر الإسلام الذهبي أعطى جارية سوداء أربعة دراهم لينقل عنها نغمًا غريبًا سمعها تترنم به وهي تحمل الجرة على رأسها. ثم وضع في ذلك النغم دورًا سمعه الخليفة هارون الرشيد فقال: إنه لم يسمع مثله قط في جماله وابتكاره وأجازه عليه بأربعة آلاف دينار ومنزل نفيس الأثاث والرياش.
ويقص علينا السعدي — الشاعر الفارسي — أنباءً أخرى نعلم منها أن أرباب الغناء من السود قد بقيت لهم منزلتهم في هذا الفن إلى ما بعد صدر الإسلام، ومن تلك الأنباء قصة رواها في كتابه بستان الورد من أحوال الدراويش وكان لها شاهد عيان.
قال:
خرجت إلى الحجاز في رفقة من الشبان الأذكياء، وكانوا يترنمون في الطريق بين حين وحين ببعض الأشعار الصوفية، وكان بيننا رجل من الأتقياء ينكر سلوك الدراويش؛ لأنه يجهل حالهم ولا يعرف نجواهم، فلما بلغنا نخل بني هلال برز لنا من خيام بعض العرب غلام أسود يتغنى بصوت يستنزل الطير من السماء، ونظرت إلى جمل صاحبنا التقي قد أخذه الصوت الساحر فألقى براكبه إلى الأرض وهام في الصحراء، فصحت بالرجل: يا هذا! إن صوت هذا الفتى قد عمل في الحيوان الأعجم ولم يعمل فيك.
وذاك أنه كان من عادات العرب القديمة أن يحفزوا الإبل إلى المسير والصبر على السفر بألحان الحداء، وقد روى جنتيوس Gentius معقبًا على هذه الواقعة في ترجمته لبستان الورد (أمستردام1654) قصة أخرى أعجب من الأولى فقال:
إن مؤلفًا من الثقات نزل بضيافة رجل في الصحراء ضاعت منه جميع إبله، فجاءه عبد زنجي وسأله أن يتشفع له عند مولاه في ذنبه، فلما حضر الطعام أبى المؤلف الضيف أن يمد يده إليه أو يصفح صاحب الدار عن ذنب مولاه. فقال له صاحب الدار: إن هذا العبد خبيث ضيع عليه ماله ورده إلى أسوأ الحال، وقد منحه الله صوتًا جميلًا فأقمته حاديًا لإبلي فأجهدها بسحر حدائه حتَّى قطعت في يوم واحد مسيرة ثلاثة أيام. ولكنها لم تلبث أن نفقت جميعًا ساعة وضعت عنها أحمالها لفرط ما نالها من الإعياء، وقد وجب لك حق الضيف فتقبلت شفاعتك وأعفيت هذا العبد الخبيث من الجزاء.
ومن النوادر التي تروى في هذا المعنى وتدل على شأن الحداة في المشرق: نادرة حكاها جلال الدين في تاريخه حيث قال:
إن المنصور أجاز سالمًا الحادي بنصف درهم؛ لأنه أطربه بحدائه حتى أوشك أن يسقط عن جمله، فقال سالم: لقد حدوت لهشام فأجازني بعشرة آلاف!
فمما لا شك فيه أن المغنين في الجاهلية وفي الصدر الأول من الإسلام كانوا على الأكثر من العبيد والمولدين، وأن هؤلاء العبيد السود كانوا من ذوي الهبات الصوتية العجيبة وبلغوا الرفعة بمهارتهم في الصناعات الموسيقية، فلا داعي للشك في ملكة الغناء عند بلال ولا في قيام المأثورات عن صوته الحسن على أساس صحيح … ويبقى أن ننظر هل هو الذي أبدع لحن الأذان الذي مضى عليه المؤذنون من بعده أو أنه قد أدى الأذان كما أمر به وأوحي إليه.
وعلينا أن نذكر «أولًا» أن العرب الأقدمين مع حساسيتهم الموسيقية لم ترتفع الموسيقى بينهم فوق طبقة التجويد الصوفي إلا في الفرط النادر، وغاية ما بلغوه في هذا الباب يشبه الصدحات الكورسيكية الحديثة بما فيها من الزركشة والترديد على هوى المغني أو على هوى السامعين، فتعاد الكلمة الواحدة مرة بعد مرة بتمويه وتجويد ومد وقصر يطول التكرار فيه حتى ليستغرق إلقاء القطعة الواحدة من النظم بضع ساعات. ولا تزال هذه النزعة في الغناء باقية على حالها بين العرب المحدثين، فقد صدق بيرون Perron حين سأل: أي سائح في مصر لم يسمع كلمة يا ليل تعاد مرة بعد مرة نصف ساعة أو تزيد؟
والأغلب أن الأنغام العربية لم تكن لتزيد في عهد الدعوة المحمدية على ثلاثة أنواع متميزات: وهي ما يسمى بالنغم البسيط ويغنى به في مقام الوقار ومعارض البطولة أو السهولة كغناء الحرب والحداء.
وما يسمى بالنغم المركب وهو يتألف من حركات عدة وترجيعات صوتية كثيرة، وما يسمى بالخفيف وهو يستخف السامع إلى الطرب ويهزه ويحرك أشجانه ويخرجه عن الوقار.
ولما كان بلال عبدًا وكان ولا ريب في بعض أوقاته يسوق الإبل فقد كان على الأرجح يتغنى بالحداء ويعالج النغم البسيط، ولكنه — بسليقته الأفريقية التي طبع عليها أبناء جلدته — ربما وجد من وقته متسعًا لترديد الأصوات المركبة واستطاع من ثم أن يلقي الأذان في ألحانه المعروفة.فلا يخفى أن النغم الذي يسمع في المنام قلما يثبت في الذاكرة، وأن النغم الذي سمعه المسلم الصالح من الطيف الغريب صاحب الثياب الخضر يصعب أن يعلق بذاكرته ويجري على لسانه وهو يقص رؤيته على النبي (صلوات الله عليه).
فلا يبعد إذن أن يكون بلال قد سمع الأذان وصاغ منه اللحن الذي أوحته إليه سليقته الأفريقية الآبدة فأقره النبي عليه كما أقره على ما أضافه بعد ذلك إلى أذان الصبح حيث زاد عليه «الصلاة خير من النوم». ولا جرم يقره محمد على أسلوب ترتيله وهو الذي كان يقربه إليه ويسأله الرأي في مهمات الأمور. وقد كان يؤثره على غيره من المؤذنين، فلم يكن يؤذن لأحد الرجلين اللذين ندبا للأذان بعده أن يدعو إلى الصلاة وبلال قادر على الدعاء إليها.
ولزم بلال النبي عن كثب طوال حياته، فكان يوقظ النبي بعد الأذان أحيانًا بآية من الآيات أو بكلمة من جوامع الحكمة والتقوى. فإذا اجتمع المصلون بالمسجد اتجهت الأنظار نحو الأفريقي الواقف بالصف الأول ليتلوه في حركات الصلاة، فإن من واجب المؤذن بعد إعلان الأذان أن يصحب الإمام بالتكبير والدعاء كما يصنع الشماس مع الأسقف في الصلاة المسيحية.
ولما تعاظمت قوة الإسلام تعاظمت معه مكانة بلال وعُهدت إليه أمور أهم وأكبر من الأذان، فكان خازن بيت النبي وأمينه على المال الذي يصل إلى يديه، وتلقى من النبي مفاتيح الكعبة يوم دخل مكة في موكبه الظافر، وكان هو الذي أقام الأذان على أعلى مكان في تلك البنية التي اشتهرت الآن في أنحاء الكرة الأرضية. وكان هو الداعي إلى الصلاة يوم حضر إلى المدينة ملوك حضرموت للدخول في الإسلام، وكان هو الذي يدعو إلى الصلاة حين يحتشد فرسان الإسلام بالصحراء لقتال عابدي الأوثان.
وتروى عنه أخبار شتى بعد وقعة بدر وفتح خيبر تشف عن بغض شديد لأعداء وليه والمحسن إليه لا حاجة بنا في هذا المقام إلى تفصيلها، وأجمل من هذا أن نذكر للأسود الأمين غيرته على شخص النبي يوم ذهب معه في حجة الوداع فظل يحرص على راحته طوال الطريق ويمشي إلى جانبه مظللًا إياه بستار في يده يحميه وهج الظهيرة، ولعله في تلك الرحلة قد عبر في الوادي المقدس تلك الأماكن التي كان سادات قريش يعذبونه هو في حر شمسها.
ثم توفى محمد «عليه السلام» فسكت الصوت العجيب ودعي مؤذنون آخرون لدعاء المسلمين إلى الصلاة. لأن بلالًا عاهد نفسه ألا يؤذن لإمام بعد نبيه ووليه.ولا نعلم كم من الوقت قضاه بلال في صحبة أبي بكر بالمدينة، ولكنه ولا ريب كان في موضع الرعاية والكرامة بين المسلمين، وكان له من جلالة القدر في أنظارهم ما خوله أن يخطب امرأة عربية حرة لأخيه الأسود، وهي رعاية عظمى بين قوم لا يزالون يفخرون بصحة النسب ويسمون أنفسهم بالأحرار أي الخلَّص من النسب الخليط.
ويؤخذ من بعض الأنباء أن بلالًا قد تولى بعض مهام الدولة بعد الخليفة الأول. فلما أراد الخليفة العادل الصارم في عدله — عمر بن الخطاب — أن يحاسب «سيف الله» خالد بن الوليد على بعض أعماله كان بلال هو الذي نزع عمامة خالد وأوثق يديه أمام جماعة المسلمين بالمسجد وهو يردد مشيئة أمير المؤمنين.
ولكننا لا نسمع بعد هذه القصة عن بلال إلا القليل، حتى وصل عمر إلى الشام فنعلم أنه كان يصحب الجيش وأنه كان قد منح بجوار دمشق قطعة من الأرض واعتزل الحياة العامة كل الاعتزال.
وكان معظم الصحابة قد فارقوا الدنيا، ولحق أبو بكر وخالد بالنبي في رضوان ربه، كما لحق به آخرون ممن جاهدوا معه في معارك الإسلام الأولى. ولم يكن الجيل الجديد على نمط الجيل الذي تقدمه في المعيشة، فزالت أو كادت تزول من حياة العرب تلك البساطة البدوية التي درجت عليها، وظهرت بينهم بدع من الترف الآسيوي لم تكن معهودة فيما مضى، وتدفقت أموال فارس على المدينة كأنها سيل من الذهب حتى دمعت عينا الخليفة عمر وهو ينظر إليها ويخشى منها الفتنة والحسد على رعاياه.
وفي خلال ذلك كانت العقيدة التي تعذَّب بلال من أجلها ودان بها زمنًا وهي لا تتجاوز حي أبي طالب، قد جاوزت البرور والبحار إلى سورية وفلسطين وفارس، وشهدها قبل أن يسلم روحه إلى ذلك الذي لا ينام وهي تسلك سبيلها إلى القارة الأفريقية فتضمها إلى فتوح الإسلام. وبهذا أصبحت دعوته الأولى — دعوة الأذان — مستجابة بين أقوام من المتعبدين من تخوم الهند إلى شواطئ الأطلس، وقرع فرسان الصحراء العربية أبواب كابل … ولعل ولدًا من ذرية بلال قد عاش حتى رأى الدولة تمتد على بقاع الأرض مسيرة مائتي يوم بين المشرق والمغرب. وإن ما بلغته الفتوح الإسلامية — حتى في السنة الثانية عشرة للهجرة — لخليق أن يستجيش في صدر الشيخ الهرم حمية الدين التي عمر بها ما بين جانحيه.
سكت صوت بلال عن ترديد الأذان بعد نبيه ووليه؛ لأنه رأى — في حسبانه التقي — أن الصوت الذي أسمع نبي الله ودعاه إلى بيت الصلاة لا ينبغي أن يسمع بعد فراق مولاه.ولنا أن نتخيله في مأواه بالشام وإنه ليدعى مرارًا إلى ترديد ذلك الدعاء الذي أعلنه لأول مرة تحت قبة السماء المضاءة بمصابيح الكواكب، وإنه ليضطر مرارًا إلى الإباء والاعتذار لأولئك الذين كانوا يجلونه إجلال القديسين وبودهم لو بذلوا أموالهم كلها ليسمعوه.
إلا أنه لما ذهب عمر إلى دمشق توسل إليه رؤساء القوم أن يسأل بلالًا إقامة الأذان تكريمًا لمحضر أمير المؤمنين، فرضي بلال وكان أذانه الأخير.
لقد كانت غيرة فتيان الدين الجديد في تلك الأيام غيرةً يوشك ألا تعرف الحدود، ومن المحقق أن النبأ الذي سرى بينهم مبشرًا باستماعهم إلى أذان بلال قد أذكى في نفوس أهل المدينة الوردية الشذى حميةً مفرحة لا نظن أن العالم المسيحي قد شهد لها مثيلًا في غير أيام الصليبيين.
فلما شاعت البشرى بين أبناء المدينة بسماع صوت المؤذن النبوي لاح للأكثرين ولا شك أن الظفر بسماع هذا الصوت غنيمة مقدسة تكاد تضارع الظفر بسماع صوت النبي عليه السلام … وأنها أفخر أحدوثة في الحياة تروى بعد السنين الطوال للأبناء والحفدة. وقد يكون في المدينة من تلقى النبأ بشعور لا يتجاوز التطلع والاستشراف، ولكن الأكثرين الذين تزاحموا في صمت وخشوع واجفي القلوب مرهفي الآذان لسماع «التكبيرة» المعروفة قد خامرهم ولا ريب شعور أعمق وأقوى من أن يلم به النسيان. وتزكي روايات العيان هذا الاعتقاد؛ لأننا نعلم من تلك الروايات أنهم بعد لهفة الانتظار في تلك اللحظة لم يلبثوا أن سمعوا رنة الصوت الجَهْوري تشق حجاب السكون، وتتعاقب من حنجرة الشيخ الأفريقي بتلك الكلمات المحبوبة الباقية، حتى بكى عمر ومن معه وتحدرت الدموع على وجوه أولئك الأبطال المجاهدين، وارتفع لزفراتهم نشيج عالٍ غطى في المسجد على دعاء الأذان الأخير.
أي فنان موسيقي أو دارس لتاريخ الموسيقي لَيَوَدُّ لو يسمع كيف كان صدى بلال في ذلك الأذان، وأن يسمع الكلمات الخالدات كما كانت تسمع من أول المؤذنين!
ولا حاجة بنا إلى أن نقول: إنها أمنية مستحيلة؛ لأن فن النوتة أو تدوين الأنغام لم يكن معروفًا يومئذ بين العرب ولم تكن لهم وسيلة لنقل الصوت من جيل إلى جيل غير تعليق الذاكرة، فليس في وسعنا أن نجزم كل الجزم بما بقي أو بما تبدل من تلحين بلال للأذان. ولكننا نرجع إلى الظن وقد يغني في هذا الباب. ولدينا من الأسباب ما يكفي لترجيح بقاء الأصوات نيفًا وألف سنة محفوظة في الذاكرة بغير تدوين، ولعلنا نستطيع القول بأن بعضًا من النغمات العبرية بقيت بهذه الوسيلة من أيام سليمان، وليست غيرة العرب على المأثورات الدينية بأقل من غيرة العبريين، فلا جرم تسنح لأنغام الأذان فرصة للبقاء في الذاكرة كالفرصة التي سنحت لأناشيد إسرائيل.
فمن الجائز أن الأذان الحديث فيه على الأقل نغمات مشابهة للنغمات التي ابتدأ بها بلال إذ كانت الكلمات نفسها باقية بغير تبديل.
ولعل مصر التي فتحت وبلال بقيد الحياة — مصر بلد الخلود الذي لا يقبل التبديل — قد حفظت دعوة الصلاة كما كانت ترتل في العشرة الثانية بعد الهجرة المحمدية، وقد سمعت الأذان من مؤذنين سمعوه من بلال.
ويرضينا أن نعتقد أن بلالًا نفسه قد أدى الأذان على نحو يشبه أداءه المسموع في مصر الحديثة كما سجله فيلوتو Villoteau، وهو أنغام تذكر السامع برسوم العمارة العربية وتنقسم إلى أجزاء وأجزاء، مما يقع موقع الغرابة في تأثيره على مسامع الغربيين. وقد كان المؤذن الذي سمعه فيلوتو أقرب إلى التفنن من المؤذن الذي سجل لين Lane نغماته في كتابه عن المصريين المحدثين، فإذا بها تنتهي وفي السمع انتظار لبقية تالية … ولعلنا نؤثر أن يكون تلحين بلال من قبيل ذاك الأذان لما فيه من تجزئة النغم التي يألفها العرب وتشبه تلك الخفايا المستغربة في الأصداء الأفريقية. إلا أن النغم الآخر مع هذا يعبر عن بساطته عن جمال ووقار، ويوحي إلى معنى العبادة الخالدة التي لا نهاية لها والتي هي أبدًا في ابتداء بغير ختام، كما يوحي إلى صلاة معلقة تتصل بما بعدها ولو كانت هي آخر صلاة.