الرئيسيةبحث

دار جدي

دار جدي
المؤلف: بدر شاكر السياب


مطفأة هي النوافذ الكثار

و باب جدّي موصد و بيته انتظار

و أطرق الباب فمن يجيب يفتح ؟

تجيبني الطفولة الشباب منذ صار

تجيبني الجرار جف ماؤها فليس تنضح

بويب غير أنها تذرذر الغبار

مطفأة هي الشموس فيه و النجوم

الحقب الثلاث منذ أن خفقت للحياة

في بيت جدي ازدحمن فيه كالغيوم

تختصر البحار في خدودهن و المياه

فنحن لا نلم بالردى من القبور

فأوجه العجائز

أفصح في الحديث عن مناجل العصور

من القبور فيه و الجنائز

و حين تقفز البيوت من بناتها

و ساكنيها من أغانيها و من شكاتها

نحس كيف يسحق الزمان إذ يدور

    أأشتهيك يا حجارة الجدار يا بلاط يا حديد يا طلاء

    أأشتهي التقاءكن مثلما انتهى إلي فيه ؟

    أم الصّبا صباي و الطفولة اللعوب و الهناء

    وهل بكيت أن تضعضع البناء

    و أقفر الفناء أم بكيت ساكنيه ؟

    أم أنني رأيت في خرابك الفناء

    محدقا إليّ منك من دمي

    مكشرا من الحجار ؟ آه أيّ برعم

    يربّ فيك ؟ برعم الردى غدا أموت

    و لن يظل من قواي ما يظل من خرائب البيوت

    لا أنشق الضياء لا أعضعض الهواء

    لا أعصر النهار أو يمصّني المساء

      كأنّ مقلتي بل كأنني انبعثت ( أورفيوس )

      تمصّه الخرائب الهوى إلى الجحيم

      فيلتقي بمقلتيه ، يلتقي بها بيورديس

      آه يا عروس

      يا توأم الشباب يا زنبقة النعيم

      طريقة ابتناه بالحنين و الغناء

      براعم الخلود فتحت له مغالق الفناء

      و بالغناء يا صباي يا عظام يا رميم

      كسوتك الرواء و الضياء

      طفولتي صباي أين أين كلّ ذاك ؟

      أين حياة لا يحد من طريقها الطويل سور

      كشر عن بوّابة كأعين الشباك

      تفضي إلى القبور

      و الكون بالحياة ينبض : المياه و الصخور

      وذرة الغبار و النمال و الحديد

      و كل لحن كل موسم جديد

      الحرث و البذار و الزهور

      وكل ضاحك فمن فؤاده و كل ناطق فمن فؤاده

      وكل نائح فمن فؤاده و الأرض لا تدور

      و الشمس إذ تغيب تستريح كالصغير في رقاده

      و المرء لا يموت إن لم يفترسه في الظلام ذيب

      أو يختطفه مارد و المرء لا يشيب

      ( فهكذا الشيوخ منذ يولدون

      الشعر الأبيض و العصي و الذوقون )

        و في ليالي الصيف حين ينعس القمر

        و تذبل النجوم في أوائل السحر

        أفيق أجمع الندى من الشجر

        في قدح ليقتل السعال و الهزال

        و في المساء كنت أستحمّ بالنجوم

        عيناي تلقطانهن نجمة فنجمة وراكب الهلال

        سفينة كأن سندباد في ارتحال

        شراعي الغيوم

        و مرفأي المحال

        و أبصر الله على هيئة نخلة كتاج نخلة يبيضّ

        في الظلام

        أحسه يقول : يا بني يا غلام

        و هبتك الحياة و الحنان و النجوم

        وهبتها لمقلتيك و المطر

        للقدمين الغضتين فاشرب الحياة

        وعبّها يحبّك الإله

        أهكذا السنون تذهب

        أهكذا الحياة تنضب ؟

        أحس أنني أذوب أتعب

        أموت كالشجر .