قدم عبد الله بن الزبير على عثمان بن عفان بفتح إفريقية، فأخبره مشافهة وقص عليه كيف كانت الوقعة، فأعجب عثمان ما سمع منه، فقال له: يا بنيّ، أتقوم بمثل هذا الكلام على الناس؟ فقال: يا أمير المؤمنين، أنا أهيب لك مني لهم! فقام عثمان في الناس خطيبا، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الله قد فتح عليكم إفريقية، وهذا عبد الله بن الزبير يخبركم خبرها إن شاء الله، وكان عبد الله بن الزبير إلى جانب المنبر، فقام خطيبا، وكان أول من خطب إلى جانب المنبر، فقال: الحمد لله الذي ألفّ بين قلوبنا وجعلنا متحابين بعد البغضة، الذي لا تجحد نعماؤه، ولا يزول ملكه؛ له الحمد كما حمد نفسه، وكما هو أهله، انتخب محمدا صلّى الله عليه وسلم فاختاره بعلمه، وائتمنه على وحيه، واختار له من الناس أعوانا قذف في قلوبهم تصديقه ومحبّته، فآمنوا به وعزّزوه ووقّروه وجاهدوا في الله حق جهاده، فاستشهد في الله منهم من استشهد على المنهاج الواضح، والبيع الرابح، وبقي منهم من بقي، لا تأخذهم في الله لومة لائم. أيها الناس، رحمكم الله! إنا خرجنا للوجه الذي علمتم، فكنا مع وال حافظ، حفظ وصية أمير المؤمنين، كان يسير بنا الأبردين، ويخفض بنا في الظهائر، ويتخذ الليل جملا، يعجل الرّحلة من المنزل الجدب، ويطيل اللبث في المنزل الخصب، فلم نزل على أحسن حالة نعرفها من ربنا، حتى انتهينا إلى إفريقية، فنزلنا منها حيث يسمعون صهيل الخيل، ورغاء الإبل، وقعقعة السلاح فأقمنا أياما نجمّ كراعنا ونصلح سلاحنا؛ ثم دعوناهم إلى الإسلام والدخول فيه، فأبعدوا منه، فسألناهم الجزية عن صغار أو الصلح، فكانت هذه أبعد؛ فأقمنا عليهم ثلاث عشرة ليلة، نتأنّاهم وتختلف رسلنا إليهم، فلما يئس منهم، قام خطيبا فحمد الله وأثنى عليه، وذكر فضل الجهاد وما لصاحبه إذا صبر واحتسب، ثم نهضنا إلى عدونا وقاتلناهم أشدّ القتال يومنا ذلك، وصبر فيه الفريقان، فكانت بيننا وبينهم قتلى كثيرة، واستشهد الله فيهم رجالا من المسلمين، فبتنا وباتوا وللمسلمين دويّ بالقرآن كدويّ النحل، وبات المشركون في خمورهم وملاعبهم؛ فلما أصبحنا أخذنا مصافنا التي كنا عليها بالأمس، فزحف بعضنا على بعض، فأفرغ الله علينا صبره وأنزل علينا نصره، ففتحناها من آخر النهار، فأصبنا غنائم كثيرة، وفيئا واسعا، بلغ فيه الخمس خمسمائة ألف؛ فصفق عليها مروان بن الحكم، فتركت المسلمين قد قرت أعينهم وأغناهم النفل، وأنا رسولهم إلى أمير المؤمنين أبشّره وإياكم بما فتح الله من البلاد، وأذلّ من الشّرك؛ فاحمدوا الله عباد الله على آلائه وما أحل بأعدائه من بأسه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين. ثم سكت فنهض إليه أبوه الزبير فقبل بين عينيه وقال: ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم. يا بنّي: ما زلت تنطق بلسان أبي بكر حتى صمتّ.