باب في الاحتياط اعلم أن العرب إذا أرادت المعنى مكنته واحتاطت له. فمن ذلك التوكيد وهو على ضربين: أحدهما تكرير الأول بلفظه. وهو نحو قولك: قام زيد قام زيد وضربت زيداً ضربت وقد قامت الصلاة قد قامت الصلاة والله أكبر الله أكبر وقال: إذا التياز ذو العضلات قلنا إليك إليك ضاق بها ذراعا وقال: وإياك إياك المراء فإنه إلى الشر دعاء وللشر جالب وقال: إن قوماً منهم عمير وأشبا ه عميرٍ ومنهم السفاح لجديرون بالوفاء إذا قا ل أخو النجدة: السلاح السلاح وقال: وقال: أبوك أبوك أربد غير شك أحلك في المخازى حيث حلا يجوز أن يكون من هذا تجعل أبوك الثاني منهما تكريراً للأول وأربد الخبر ويجوز أن يكون أبوك الثاني خبراً عن الأول أي أبوك الرجل المشهور بالدناءة والقلة: وقال: قم قائماً قم قائماً رأيت عبداً نائماً وأمة مراغماً وعشراء رائماً هذا رجل يدعو لابنه وهو صغير وقال: فأين إلى أين النجاء ببغلتي أتاك أتاك اللاحقون احبس احبس وقالوا في قول امرىء القيس: نطعنهم سلكى ومخلوجةً كر كلامين على نابلٍ قولين: أحدهما ما نحن عليه أي تثنية كلامين على ذي النبل إذ قيل له: ارم ارم والآخر: كرك لامين وهما السهمان أي كما ترد السهمين على البراء للسهام إذا أخذتهما لتنظر إليهما ثم رميتهما إليه فوقعا مختلفين: هكذا أحدهما وهكذا الآخر. وهذا الباب كثير جداً. وهو في الجمل والآحاد جميعاً. والثاني تكرير الأول بمعناه. وهو على ضربين: أحدهما للإحاطة والعموم والآخر للتثبيت والتمكين. الأول كقولنا: قام القوم كلهم ورأيتهم أجمعين - ويتبع ذلك من اكتع وأبضع وأبتع وأكتعين وأبضعين وأبتعين ما هو معروف - مررت بهما كليهما. والثاني نحو قولك: قام زيد نفسه ورأيته نفسه. ومن ذلك الاحتياط في التأنيث كقولهم: فرسة وعجوزة. ومنه ناقة لأنهم لو اكتفوا بخلاف مذكرها لها - وهو جمل - لغنوا بذلك. ومنه الاحتياط في إشباع معنى الصفة كقوله: والدهر بالإنسان دوارى أي دوار وقوله: غضف طواها الأمس كلابى أي كلاب وقوله: كان حداءً قراقرياً أي قراقراً. حدثنا أبو علي قال: يقال خطيب مصقع وشاعر مرقع وحداء قراقر ثم أنشدنا وقد يؤكد بالصفة كما تؤكد هي نحو قولهم: أمس الدابر وأمس المدبر وقول الله - عز اسمه - {إِلـهَيْنِ اثْنَيْنِ} وقوله تعالى: {وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} وقوله سبحانه: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}. ومنه قولهم: لم يقم زيد. جاءوا فيه بلفظ المضارع وإن كان معناه المضى. وذلك أن المضارع أسبق رتبة في النفس من الماضي ألا ترى أن أول أحوال الحوادث أن تكون معدومة ثم توجد فيما بعد. فإذا نفى المضارع الذي هو الأصل فما ظنك بالماضي الذي هو الفرع. وكذلك قولهم: إن قمت قمت فيجيء بلفظ الماضي والمعنى معنى المضارع. وذلك أنه أراد الاحتياط للمعنى فجاء بمعنى المضارع المشكوك في وقوعه بلفظ الماضي المقطوع بكونه حتى كأن هذا قد وقع واستقر لا أنه متوقع مترقب. وهذا تفسير أبي علي عن أبي بكر وما أحسنه !. ومنه قوله: قالت بنو عامر خالوا بني أسدٍ يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام أي يا بؤس الحرب فأقحم لام الإضافة تمكيناً واحتياطاً لمعنى الإضافة وكذلك قول الآخر: يا بؤس للحرب التي وضغت أراهط فاستراحوا أي يا بؤس الحرب إلا أن الجر في هذا ونحوه إنما هو اللام الداخلة عليه وإن كانت زائدة. وذلك أن الحرف العامل وإن كان زائداً فإنه لا بد عامل الا ترى إلى قوله: بحسبك في القوم أن يعلموا بأنك فيهم غني مضر فالباء زائدة وهي مع ذا عاملة وكذلك قولهم: قد كان من مطر وقد كان من حديث فخل عنى فمن زائدة وهي جارّة ولا يجوز أن يكون الحرب من قوله: يا بؤس مجرورة بإضافة بؤس إليها واللام معلقة من قبل أن تعليق اسم المضاف والتأول له أسهل من تعليق حرف الجر والتأول له لقوة الاسم وضعف الحرف فأما قوله: لو كنت في خلقاء من رأس شاهقٍ وليس إلى منها النزول سبيل فإن هذا إنما هو فصل بحرف الجر لا تعليق. فإن قلت: فما تقول في قوله: أني جزوا عامراً سوءاً بفعلهم أم كيف يجزونني السوءى من الحسن وجمعه بين أم وكيف فالقول أنهما ليسا لمعنى واحد. وذلك أن أم هنا جردت لمعنى الترك والتحول وجردت من معنى الاستفهام وأفيد ذلك من كيف لا منها. وقد دللنا على ذلك فيما مضى. فإن قيل: فهلا وكدت إحداهما الأخرى كتوكيد اللام لمعنى الإضافة وياءي النسب لمعنى الصفة. قيل: يمنع من ذلك أن كيف لما بنيت واقتصر بها على الاستفهام البتة جرت مجرى الحرف البتة وليس في الكلام اجتماع حرفين لمعنى واحد لأن في ذلك نقضاً لما اعتزم عليه من الاختصار في استعمال الحروف. وليس كذلك يا بؤس للحرب وأحمرى وأشقرى. وذلك أن هنا إنما انضم الحرف إلى الاسم فهما مختلفان فجاز أن يترادفا في موضعهما لاختلاف جنسيهما. فإن قلت: فقد قال: وما إن طبنا جبنٌ ولكن وقال: ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم فجمع بين ما وإن وكلاهما لمعنى النفي وهما - كما ترى - حرفان. قيل: ليست إن من قوله: ما إن يكاد يخليهم لوجهتهم بحرف نفي فيلزم ما رمت إلزامه وإنما هي حرف يؤكد به بمنزلة ما ولا والباء ومن وغير ذلك ألا ترى إلى قولهم في الاستثبات عن زيد من نحو قولك جاءني زيد: أزيد إنيه وفي باب رأيت زيداً: أزيدا إنيه فكما زيدت إن هنا توكيداً مع غير ما فكذلك زيدت مع ما توكيداً. وأما قوله: طعامهم لئن أكلوا معدٌ وما إن لا تحاك لهم ثياب فإن ما وحدها ايضاً للنفي وإن ولا جميعاً للتوكيد ولا ينكر اجتماع حرفين للتوكيد لجملة الكلام. وذلك أنهم قد وكدوا بأكثر من الحرف الواحد في غير هذا. وذلك قولهم: لتقومن ولتقعدن. فاللام والنون جميعاً للتوكيد. وكذلك قول الله - جل وعز - {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} فما والنون جميعاً مؤكدتان. فإما اجتماع الحرفين في قوله: وما إن لا تحاك لهم ثياب وافتراقهما في لتفعلن وإنا ترين فلأنهم أشعروا لجمعهم إياهما في موضع واحد بقوة عنايتهم بتوكيد ما هم عليه لأنهم كما جمعوا بين حرفين لمعنى واحد كذلك أيضاً جعلوا اجتماعهما وتجاورهما تنويهاً وعلماً على قوة العناية بالحال. وكأنهم حذوا ذلك على الشائع الذائع عنهم من احتمال تكرير الأسماء المؤكد بها في نحو أجمع وأكتع وأبضع وأبتع وما يجري مجراه. فلما شاع ذلك وتنوزع في غالب الأمر في الأسماء لم يخلو الحروف من نحوٍ منه إيذاناً بما هم عليه مما اعتزموه ووكدوه. وعليه أيضاً ما جاء عنهم من تكرير الفعل فيه نحو قولهم: اضرب اضرب وقم قم وارم وارم وقوله: أتاك أتاك اللاحقوك احبس احبس فاعرف ذلك فرقاً بين توكيد المعنى الواحد - نحو الأمر والنهي والإضافة - وتوكيد معنى الجملة في امتناع اجتماع حرفين لمعنى واحد وجواز اجتماع حرفين لمعنى جملة الكلام في لتقربن وإما ترين ألا ترى أنك إذا قلت: هل تقومن فهل وحدها للاستفهام وأما النون فلتوكيد جملة الكلام. يدل على أنها لذلك لا لتوكيد معنى الاستفهام وحده وجودك إياها في الأمر نحو اضربن زيداً وفي النهي في لا تضربن زيداً والخبر في لتضربن زيداً والنفي في نحو قلَّما تقومن. فشياعها في جميع هذه المواضع أدل دليل على ما نعتقده: من كونها توكيداً لجملة القول لا لمعنى مفرد منه مخصوص لأنها لو كانت موضوعة له وحده لخصت به ولم تشع في غيره كغيرها من الحروف. فإن قلت: يكون من الحروف ما يصلح من المعاني لأكثر من الواحد نحو: من فإنها تكون تبغيضاً وابتداء ولا تكون نفياً ونهياً وتوكيداً وإن فإنها تكون شرطاً ونفياً وتوكيداً. قيل: هذا إلزام يسقطه تأمله. وذلك أن من ولا وإن ونحو ذلك لم يقتصر بها على معنى واحد لأنها حروف وقعت مشتركة كما وقعت الأسماء مشتركة نحو الصدى فإنه ما يعارض الصوت وهو بدن الميت وهو طائر يخرج فيما يدعون من رأس القتيل إذا لم يؤخذ بثأره. وهو أيضاً الرجل الجيد الرعية للمال في قولهم: هو صدى مالٍ وخائل مالٍ وخال مال وسر سور مال وإزاء مالٍ ونحو ذلك من الشوى ونحوه مما اتفق لفظه واختلف معناه. وكما وقعت الأفعال مشتركة نحو وجدت في الحزن ووجدت في الغضب ووجدت في الغنى ووجدت في الضالة ووجدت بمعنى علمت ونحو ذلك فكذلك جاء نحو هذا في الحروف. وليست كذلك النون لأنها وضعت لتوكيد ما قد أخذ مأخذه واستقر من الكلام بمعانيه المفادة من أسمائه وأفعاله وحروفه. فليست لتوكيد شيء مخصوص من ذلك دون غيره ألا تراها للشيء وضده نحو اذهبن ولا تذهبن والإثبات في لتقومن والنفي في قلما تقومن. فهي إذاً لمعنى واحد وهو التوكيد لا غير. ومن الاحتياط إعادة العامل في العطف والبدل. فالعطف نحو مررت بزيد وبعمرو فهذا أوكد معنى من مررت بزيد وعمرو. والبدل كقولك: مررت بقومك بأكثرهم فهذا أوكد معنى من قولك: مررت بقومك أكثرهم.
باب في فك الصيغ
اعلم أن هذا موضع من العربية لطيف ومغفول عنه وغير مأبوه له. وفيه من لطف االمأخذ وحسن الصنعة ما أذكره لتعجب منه وتأنق له. وذلك أن العرب إذا حذفت من الكلمة حرفاً إما ضرورة أو إيثاراً فإنها تصور تلك الكلمة بعد الحذف منها تصويراً تقبله أمثله كلامها ولا تعافه وتمجه لخروجه عنها سواء كان ذلك الحرف المحذوف أصلاً أم زائداً. فإن كان ما يبقى بعد ذلك الحرف مثالاً تقبله مثلهم أقروه عليه. وإن نافرها وخالف ما عليها أوضاع كلمتها نقض عن تلك الصورة وأصير إلى احتذاء رسومها. فمن ذلك أن تعتزم تحقير نحو منطلق أو تكسيره فلا بد من حذف نونه. فإذا أنت حذفتها بقي لفظه بعد حذفها: مطلق ومثاله مفعل. وهذا وزن ليس في كلامهم فلا بد إذاً من نقله إلى أمثلتهم. ويجب حينئذ أن ينقل في التقدير إلى أقرب المثل منه ليقرب المأخذ ويقل التعسف. فينبغي أن تقدره قد صار بعد حذفه إلى مطلق لأنه أقرب إلى مطلق من غيره ثم حينئذ من بعد تحقره فتقول: مطيلق وتكسره فتقول: مطالق كما تقول في تحقير مكرم وتكسيره: مكيرم ومكارم. فهذا باب قد استقر ووضح فلتغن به عن إطالة القول بإعادة مثله. وسنذكر العلة التي لها ومن أجلها وجب عندنا اعتقاد هذا فيه بإذن الله. فإن كان حذف ما حذف من الكلمة يبقي منها بعده مثالاً مقبولاً لم يكن لك بد في الاعتزام عليه وإقراره على صورته تلك البتة. وذلك كقولك في تحقير حارث على الترخيم: حريث. فهذا لما حذفت ألفه بقي من بعد على حرث فلم يعرض له بتغيير لأنه كنمر وسبط وحذر. فمن مسائل هذا الباب أن تحقر جحنفلاً أو تكسره فلا بد من حذف نونه فيبقى بعد: جحفلٌ فلا بد من إسكان عينه إلى أن يصير: جحفل. ثم بعد ما تقول: جحيفل وجحافل. وإن شئت لم تغير واحتججت بما جاء عنهم من قولهم في عرنتن: عرتن. فهذا وجه. ومنها تحقير سفرجل. فلا بد من حذف لامه فيبقى: سفرج وليس من أمثلتهم فتنقله إلى أقرب ما يجاوره وهو سفرج كجعفر فتقول: سفيرج. وكذلك إن استكرهته على التكسير فقلت: سفارج. فإن كسرت حبنطىً أو حقرته بحذف نونه بقي معك: حبطىً. وهذا مثال لا يكون في الكلام وألفه للإلحاق فلا بد أن تصيره إلى حبطى ليكون كأرطى. ثم تقول: حبيطٍ وحباطٍ كأريطٍ وأراطٍ. فإن حذفت ألفه بقي حبنط وهذا مثال غير معروف لأنه ليس في الكلام فعنل فتنقله أيضاً إلى حبنط ثم تقول: حبينط وحبانط. فإن قلت: ولا في الكلام أيضاً فعنل قيل: هو وإن لم يأت اسماً فقد أتى فعلاً وهو قلنسته فهذا فعنلته. وتقول في تحقير جردحلٍ: جريدح. وكذلك إن استكرهته على التكسير فقلت: جرادح وذلك أنك لما حذفت لامه بقي: جردح وهذا مثال معروف كدرهم وهجرع فلم يعرض للبقية بعد حذف الآخر. فإن حقرت أو كسرت مستخرج حذفت السين والتاء فبقي: مخرج فلم تغيره فتقول: مخيرج ومخارج. فإن سميت رجلاً دراهم ثم حقرته حذفت الألف فبقي: درهم فأقررته على صورته ولم تغيره لأنه مثال قد جاء عنهم وذلك قولهم: جندل وذلذل وخنثر. فتقول: دريهم. ولا تكسره لأنك تعود إلى اللفظ الذي انصرفت عنه. فإن حقرت نحو عذافر فحذفت ألفه لم تعرض لبقيته لأنه يبرد في يدك حينئذ عذفر وهذا قد جاء عنهم نحو علبط وخزخز وعجلط وعكلطٍ ثم تقول: عذيفر وفي تكسيره: عذافر. فإن حقرت نحو قنفخرٍ حذفت نونه ولم تعرض لبقيته لأنه يبقى: قفخر. وهذا نظير دمثرٍ وحبجرٍ فتقول: قفيخر وقفاخر. فإن حقرت نحو عوارض ودواسرٍ حذفت الألف فبقي عورض ودوسر وهذا مثال ليس من كلامهم لأنه فوعل. إلا أنك مع ذلك لا تغيره لأنه هو فواعل وإنما حذفت الألف وهي في تقدير الثبات. ودليل ذلك توالي حركاته كتوالي حركات علبطٍ وبابه فتقول في تحقيره وتكسيره: عُويرض وعَوارض. ومثله هُداهد وهَداهد وقُناقن وقَناقن وجُوالق وجَوالق. فإن حقرت نحو عنتريسٍ أو كسرته حذفت نونه فبقي في التقدير عتريس. وليس في الكلام شيء على فعليل فيجب أن تعدله إلى أقرب الأشياء منه فتصير إلى فعليل: عتريسٍ فتقول: عتيريس وعتاريس. فإن حقرت خنفقيقاً حذفت القاف الأخيرة فيبقى: خنفقي وهذا فنعلي وهو مثال غير معهود فتحذف الياء فيبقى خنفق: فنعل كعنبس وعنسل فتقول فيه: خنيفق وخنافق. وعليه قول الراجز: بني عقيل ماذه الخنافق وليس عنتريس كخنفقيق لأنه رباعي فلا بد من حذف نونه وخنفقيق ثلاثي فإحدى قافية زائدة فلذلك حذفت الثانية وفيه شاهد لقول يونس في أن الثاني من المكرر هو الزائد. والذي يدل على أن العرب إذ حذفت من الكلمة حرفاً راعت حال ما بقي منه فإن كان مما تقبله أمثلتهم أقروه على صورته وإن خالف ذلك مالوا به إلى نحو صورهم قول الشماخ: حذاها من الصيداء نعلاً طراقها حوامي الكراع المؤيدات العشاوز ووجه الدلالة من ذلك أنه تكسير عَشَوزَن فحذف النون لشبهها بالزائد كما حذفت الهمزة في تحقير إسماعيل وإبراهيم لشبهها بالزائد في قولهم: بُريهيم وسُميعيل وإن كانت عندنا أصلاً. فلما حذف النون بقي معه عَشَوز وهذا مثال فَعَول وليس من صور أبنيتهم فعدله إلى عَشوَز وهذا مثال فَعول ليلحق بجدول وقَسور ثم كسره فقال: عشاوِز. والدليل على أنه قد نقله من عَشَوز إلى عَشوز أنه لو كان كسره وهو على ما كان عليه من سكون واوه دون أنت يكون قد حركها لوجب عليه همزها وأن يقال: عشائز لسكون الواو في الواحد كسكونها في عجوز ونحوها. فأما انفتاح ما قبلها في عَشَوزٍ فلا يمنعها الإعلال. وذلك أن سبب همزها في التكسير إنما هو سكونها في الواحد لا غير. فأما اتباعها ما قبلها وغير اتباعها إياه فليس مما يتعلق عليه حال وجوب الهمز أو تركه. فإذا ثبت بهذه المسئلة حال هذا الحرف قياساً وسماعاً جعلته أصلاً في جميع ما يعرض له شيء من هذا التحريف. ويدل عليه أيضاً قولهم في تحقير ألنددٍ أليد ألا ترى أنه لما حذف النون بقي معه ألدد وهذا مثال منكور فلما نبا عنه أماله إلى أقرب الأمثلة منه وهو أفعَل فصار ألدد فلما أفضى إلى ذلك ادغمه فصار ألد لأنه جرى حينئذ مجرى ألد الذي هو مذكر لداء إذ كان صفة وعلى أَفعل فانجذب حينئذ إلى باب أصم من صماء وأيل من يلاء قال: وكوني على الواشين لداء شغبةً كما أنا للواشي ألد شغوب فلذلك قالوا في تحقيره: أليد فادغموه ومنعوه الصرف. وفي هذا بيان ما نحن عليه. فأما قول سيببويه في نحو سفيرج وسفارج: إنه إنما حذف آخره لأن مثال التحقير والتكسير انتهى دونه فوجه آخر من الحجاج. والذي قلناه نحن شاهده العشاوز وأُليد. ومن فك الصيغة أن تريد البناء من أصلٍ ذي زيادة فتلقيها عنه ثم ترتجل البناء منه مجرداً منها. وذلك كأن تبني من ساعدٍ أو كاهل مثل جعفر أو غيره من الأمثلة فتفك عنه زائده وهو الألف فيبقى ك ه ل و س ع د لا عليك على أي صورة بقي بعد حذف زائده - لأنه إنما غرضك البناء من هذه المادة مرتبة من تقديم حروفها وتأخيرها على هذا الوضع - أفَعلا كانت أم فُعلا أم فِعلا أم غير ذلك لأنه على أيها بقي فالبناء منه سَعدَد وكَهلَل. وكذلك إن أردت البناء من منصور مثل قَمَحدُوة قلت: نَصرُّوة. وذلك أنك لما أردت ذلك حذفت ميمه وواوه فبقي معك ن ص ر ولا عليك على أي مثال بقي على ما مضى. ومن ذلك جميع ما كسرته العرب على حذف زائده كقولهم في جمع كَروان: كِروان. وذلك أنك لما حذفت ألفه ونونه بقي معك كَرَو فقلبت واوه ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها طرفاً فصارت كرا ثم كسرت كرا هذا على كِروان كشبث وشِبثان وخرَب وخربان. وعليه قولهم في المثل: أطرق كرا إنما هو عندنا ترخيم كَروان على قولهم: يا حار. وأنشدنا لذي الرمة: من آل أبي موسى ترى الناس حوله كأنهم الكِروان أبصرن بازيا ومنه قول الله سبحانه: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} وهو عند سيبويه تكسير شدة على حذف زائدته. وذلك أنه لما حذف التاء بقي الاسم على شد ثم كسره على أشد فصار كذئب وأذؤب وقطع وأقطع. ونظير شدة وأشد قولهم: نعمة وأنعم وقال أبو عبيدة: هو جمع أشد على حذف الزيادة. قال: وربما استكرهوا على ذلك في الشعر وأنشد بيت عنترة: عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم ألا تراه لما حذف همزة أشد بقي معه شد كما ترى فكسره على أشد فصار كضَب وأضب وصَك وأصُك. ومن فك الصيغة - إلا أن ذلك إلى الزيادة لا إلى النقص - ما حكاه الفراء من قولهم في جمع أتون: أتاتين. فهذا كأنه زاد على عينه عيناً أخرى فصار من فَعُول مخفف العين إلى فعوُّل مشددها فتصوره حينئذ على أتون فقال فيه: أتاتين كسفّود وسفافيد وكلّوب وكلاليب. وكذلك قولهم في تحقير رجل: رويجل فهذا ليس بتحقير رجل لكنه نقله من فَعُل إلى فاعل فصار إلى راجل ثم حينئذ قال في تحقيره: رويجل. وعليه عندي قولهم في جمع دانق: دوانيق. وذلك أنه زاد على فتحة عينه ألفاً فصار دأناق ثم كسره على دوانيق كساباط وسوابيط. ولا يحسن أن يكون زاد حرف اللين على المكسور العين منهما لأنه كان يصير حينئذ إلى دانيق وهذا مثال معدوم عندهم ألا ترى أنه ليس في كلامهم فاعيل. ولك في دانق لغتان: دانَق ودانِق كخاتَم وخاتِم وطابَق وطابِق. وإن شئت قلت: لما كسره فصار إلى دوانق أشبع الكسرة فصار: دوانيق كالصياريف والمطافيل وهذا التغيير المتوهم كثير. وعليه باب جميع ما غيرته الصنعة عن حاله ونقلته من صورة إلى صورة ألا تراك أنك لما أردت الإضافة إلى عدي حذفت ياءه الزائدة بقي معك عديٌ فأبدلت من الكسرة فتحة فصار إلى عدَيٍ ثم أبدلت من يائه ألفاً فصار إلى عَداً ثم وقعت ياء الإضافة من بعد فصار التقدير به إلى عداي ثم احتجت إلى حركة الألف التي هي لام لينكسر ما قبل ياء الإضافة فقلبتها واواً فقلت: عَدَوي. فالواو الآن في عَدَوِي إنما هي بدل من ألف عداي وتلك الألف بدل من ياء عدي وتلك الياء بدل واو عدوت على ما قدمنا كمن حفظ المراتب فاعرف ذلك. ومن فك الصيغة قوله: قد دنا الفصح فالولائد ينظم ن سراعاً أكلة المرجان فهذا جمع إكليل فلما حذفت الهمزة وبقيت الكاف ساكنة فتحت فصار إلى كليل ليكون كدليل ونحوه فعليه جاء أكلة كدليل وأدلة.
باب في كمية الحركات
أما ما في أيدي الناس في ظاهر الأمر فثلاث. وهي الضمة والكسرة والفتحة. ومحصولها على الحقيقة ست. وذلك أن بين كل حركتين حركة. فالتي بين الفتحة والكسرة هي الفتحة قبل الألف الممالة نحو فتحة عين عالم وكاف كاتب. فهذه حركة بين الفتحة والكسرة كما أن الألف التي بعدها بين الألف والياء والتي بين الفتحة والضمة هي التي قبل ألف التفخيم نحو فتحة لام الصلاة والزكاة والحياة. وكذلك ألف قام وعاد. والتي بين الكسرة والضمة ككسرة قاف قيل وسين سير فهذه الكسرة المشمة ضماً. ومثلها الضمة المشمة كسراً كضمة قاف المنقر وضمة عين مذعور وباء ابن بور فهذه ضمة أشربت كسراً كما أنها في قيل وسير كسرة أشربت ضماً. فهما لذلك كالصوت الواحد لكن ليس في كلامهم ضمة مشربة فتحة ولا كسرة مشربة فتحة. فاعرف ذلك. ويدل على أن هذه الحركات معتدات اعتداد سيبويه بألف الإمالة وألف التفخيم حرفين غير الألف المفتوح ما قبلها.
باب في مطل الحركات
وإذا فعلت العرب ذلك أنشأت عن الحركة الحرف من جنسها. فتنشئ بعد الفتحة الألف وبعد الكسرة الياء وبعد الضمة الواو. فالألف المنشأة عن إشباع الفتحة ما أنشدناه أبو علي لابن هرمة يرثي ابنه: من قوله: فأنت من الغوائل حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح أراد: بمنتزح: مفتعَل من النازح. وأنشدنا أيضاً لعنترة: ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرة وقال: أراد ينبع فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفاً. وقال الأصمعي: يقال انباع الشجاع ينباع انبياعاً إذا انخرط بين الصفين ماضياً وأنشد فيه: يطرق حلماً وأناةً معاً ثمت ينباع انبياع الشجاع فهذا انفعل ينفعل انفعالاً والألف فيه عين. وينبغي أن تكون عينه واواً لأنها أقرب معنى من الياء هنا. نعم وقد يمكن عندي أن تكون هذه لغة تولدت. وذلك أنه لما سمع ينباع أشبه في اللفظ ينفعل فجاءوا منه بماض ومصدر كما ذهب أبو بكر فيما حكاه أبو زيد من قولهم: ضفن الرجل يضفن إذا جاء ضيفاً مع الضيف. وذلك أنه لما سمعهم يقولون: ضيفنٌ وكانت فيعل أكثر في الكلام من فعلن توهمه فيعلا فاشتق الفعل منه بعد أن سبق إلى وهمه هذا فيه فقال: ضفن يضفن. فلو سئلت عن مثال ضفن يضفن على هذا القول لقلت إذا مثلته على لفظه: فلن يفلن لأن العين قد حذفت. ولهذا موضع نذكره فيه مع بقية أغلاط العرب. ومن مطل الفتحة عندنا قول الهذلي: بينا تعنقه الكماة وروغه يوما أتيح له جرىء سلفع أي بين أوقات تعنقه ثم أشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفا. وحدثنا أبو على أن أحمد بن يحيى حكى: خذه من حيث وليسا قال: وهو إشباع ليس. وذهب إلى مثل ذلك في قولهم آمين وقال: هو إشباع فتحة الهمزة من أمين. فأما قول أبي العباس: إن آمين بمزلة عاصين فإنما يريد به أن الميم. خفيفة كعين عاصين. وكيف يجوز أن يريد به حقيقة الجمع وقد حكى عن الحسن رحمه الله أنه كان يقول: آمين: اسم من أسماء الله عز وجل. فأين بك من أعتقاد معنى الجمع من هذا التفسير تعالى الله علوا كبيرا. وحكى الفرّاء عنهم: أكلت لحما شاةٍ لحم شاة فمطل الفتحة فأنشأ عنها ألفا. ومن إشباع الكسرة ومطلها ما جاء عنهم من الصياريف والمطافيل والجلاعيد. فأما ياء مطاليق ومطيليق فعوض من النون المحذوفة وليست مطلا. قال أبوالنجم: منها المطافيل وغير المطفل وأجود من ذلك قول الهذلي: جنى النحل في ألبان عوذٍ مطافل وكذلك قول الآخر: . الخضر الجلاعيد وإنما هي الجلاعيد جمع جلعد وهو الشديد. ومن مطل الضمة قوله - فيما أنشدناه وغيره -: وأنني حيث ما يشرى الهوى بصرى من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور يشرى: يحرك ويقلق. ورواه لنا يسرى. وقول الآخر: ممكورة جم العظام غطبول كأن في أنيابها القرنفول فهذه هي الطريق. فما جاء منها قسه عليها.
باب في مطل الحروف
والحروف الممطولة هي الحروف الثلاثة اللينة المصوتة. وهي الألف والياء والواو. اعلم أن هذه الحروف أين وقعت وكيف وجدت بعد أن تكون سواكن يتبعن بعضهن غير مدغمات ففيها امتداد ولين نحو قام وسير به وحوتٍ وكوز وكتاب وسعيد وعجوز. إلا أن الأماكن التي يطول فيها صوتها وتتمكن مدتها ثلاثة. وهي أن تقع بعدها - وهي سواكن توابع لما هو منهن وهو الحركات من جنسهن - الهمزة أو الحرف المشدد أو أن يوقف عليها عند التذكر. فالهمزة نحو كساء ورداء و خطيئة ورزيئة ومقروءة ومخبوءة. وإنما تمكن المد فيهن مع الهمز أن الهمزة حرف نأى نشؤه وتراخى مخرجه فإذا أنت نطقت بهذه الأحرف المصوتة قبله ثم تماديت بهن نحوه طلن وشعن في الصوت فوفين له وزدن في بيانه و مكانه وليس كذلك إذا وقع بعدهن غيرها وغير المشدد ألا تراك إذا قلت: كتاب وحساب وسعيد وعمود وضروب وركوب لم تجدهن لدنات ولا ناعمات ولا وافيات مستطيلات كما تجدهن كذلك إذا تلاهن وأما سبب نعمتهن ووفائهن وتماديهن إذا وقع المشدد بعدهن فلأنهن - كما ترى - سواكن وأول المثلين مع التشديد ساكن فيجفو عليهم أن يتلقى الساكنان حشوا في كلامهم فحينئذ ما ينهضون بالألف بقوة الاعتماد عليها فيجعلون طولها ووفاء الصوت بها عوضاً مما كان يجب لالتقاء الساكنين: من تحريكها إذا لم يجدوا عليه تطرقاً ولا بالاستراحة إليه تعلقاً. وذلك نحو شابة ودابة وهذا قضيب بكر في قضيب بكر وقد تمود الثوب وقد قوص بما عليه. وإذا كان كذلك فكلما رسخ الحرف في المد كان حينئذ محفوظاً بتمامه وتمادى الصوت به وذلك الألف ثم الياء ثم الواو. فشابة إذاً أوفى صوتاً وأنعم جرسا من أختيها وقضيب بكر أنعم وأتم من قوص به. وتمود ثوبه لبعد الواو من أعرق الثلاث في المد - وهي الألف - وقرب الياء إليها. نعم وربما لم يكتف من تقوى لغته ويتعالى تمكينه وجهارته بما تجشمه من مد الألف في هذا الموضع دون ان يطغى به طبعه ويتخطى به اعتماده ووطؤه إلى أن يبدل من هذه الألف همزة فيحملها الحركة التي كان كلفا بها ومصانعاً بطول المدة عنها فيقول: شأبة ودأبة. وسنأتي بنحو هذا في بابه قال كثير. إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت وقال: وهذا الهمز الذي تراه أمر يخص الألف دون أختيها. وعلته في اختصاصه بها دونهما أن همزها في بعض الأحوال إنما هو لكثرة ورودها ساكنة بعدها الحرف المدغم فتحاملوا وحملوا أنفسهم على قلبها همزة تطرقاً إلى الحركة وتطاولا إليها إذ لم يجدوا إلى تحريكها هي سبيلاً لا في هذا الموضع ولا في غيره. وليست كذلك أختاها لأنهما وإن سكنتا في نحو هذا قضيب بكر وتمود الثوب فإنهما قد تحركان كثيراً في غير هذا الموضع. فصار تحركتهما في غير هذا الموضع عوضاً من سكونهما فيه. فاعرف ذلك فرقاً. وقد أجروا الياء والواو الساكنتين المفتوح ما قبلهما مجرى التابعتين لما هو منهما. وذلك نحو قولهم: هذا جيب بكر أي جيب بكر وثوب بكر أي ثوب بكر. وذلك أن الفتحة وإن كانت مخالفة الجنس للياء والواو فإن فيها سرا له ومن أجله جاز أن تمتد الياء والواو بعدها في نحو ما رأينا. وذلك أن أصل المد وأقواه وأعلاه وأنعمه وأنداه إنما هو للألف. وإنما الياء والواو في ذلك محمولان عليها وملحقان في الحكم بها والفتحة بعض الألف فكأنها إذا قدمت قبلهما في نحو بيت وسوط إنما قدمت الألف إذ كانت الفتحة بعضها فإذا جاءتا بعد الفتحة جاءتا في موضع قد سبقتهما إليه الفتحة التي هي ألف صغيرة فكان ذلك سبباً للأنس بالمد لا سيما وهما بعد الفتحة - لسكونهما - أختا الألف وقويتا الشبه بها فصار ثوب وشيخ نحواً من وأما مدها عند التذكر فنحو قولك: أخواك ضربا إذا كنت متذكرا للمفعول أو الظرف أو نحو ذلك أي ضربا زيدا ونحوه. وكذلك تمطل الواو إذا تذكرت في نحو ضربوا إذا كنت تتذكر المفعول أو الظرف أو نحو ذلك: أي ضربوا زيدا أو ضربوا يوم الجمعة أو ضربوا قياما فتتذكر الحال. وكذلك الياء في نحو اضربي أي اضربي زيدا ونحوه. وإنما مطلت ومدت هذه الأحرف في الوقف وعند التذكر من قبل أنك لو وقفت عليها غير ممطولة ولا ممكنة المدة. فقلت: ضربا وضربوا واضربي وما كانت هذه حاله وانت مع ذلك متذكر لم توجد في لفظك دليلا على أنك متذكر شيئاً ولأوهمت كل الإيهام أنك قد أتممت كلامك ولم يبق من بعده مطلوب متوقع لك لكنك لما وقفت ومطلت الحرف علم بذلك أنك متطاول إلى كلام تالٍ للأول منوطٍ به معقود ما قبله على تضمنه وخلطه بجملته. ووجه الدلالة من ذلك أن حروف اللين هذه الثلاثة إذا وقف عليهن ضعفن وتضاءلن ولم يف مدهن وإذا وقع بين الحرفين تمكن واعترض الصدى معهن. ولذلك قال أبو الحسن: إن الألف إذا وقعت بين الحرفين كان لها صدى. ويدل ذلك على أن العرب لما أرادت مطلهن للندبة وإطالة الصوت بهن في الوقف وعلمت أن السكوت عليهن ينتقصهن ولا يفي بهن أتبعتهن الهاء في الوقف توفية لهن وتطاولا إلى إطالتهن. وذلك قولك: وازيداه واجعفراه. ولابد من الهاء في الوقف فإن وصلت أسقطتها وقام التابع غيرها في إطالة الصوت مقامها. وذلك قولك: وازيدا واعمراه. وكذلك أختاها. وذلك قولهم: وانقطاع ظهرهيه وواغلامكيه وواغلامهوه وواغلامهموه. وتقول في الوصل: واغلامهمو لقد كان كريما! وانقطاع ظهرهى من هذا الأمر! والمعنى الجامع بين التذكر والندبة قوة الحاجة إلى إطالة الصوت في الموضعين. فلما كانت هذه حال هذه الأحرف وكنت عند التذكر كالناطق بالحرف المستذكر صار كأنه هو ملفوظ به. فتمت هذه الأحرف وإن وقعن أطرافا كما يتممن إذا وقعن حشوا لا أواخر. فاعرف ذلك. فهذه حال الأحرف الممطولة. وكذلك الحركات عند التذكر يمطلن حتى يفين حروفا. فإذا صرنها جرين مجرى الحروف المبتدأة توام فيمطلن أيضاً حينئذ كما تمطل الحروف. وذلك قولهم عند التذكر مع الفتحة في قمت: قمتا أي قمت يوم الجمعة ونحو ذلك ومع الكسرة: أنتى أي أنت عاقلة ونحو ذلك ومع الضمة: قمتو في قمت إلى زيد ونحو ذلك. فإن كان الحرف الموقوف عليه ساكنا فعل ضربين: صحيح ومعتل. فالصحيح في نحو هذا يكسر لأنه لا يجرى الصوت في الساكن فإذا حرك انبعث الصوت في الحركة ثم انتهى إلى الحرف ثم أشبعت ذلك الحرف ومطلته. وذلك قولك في نحو قد - وأنت تريد قد قام ونحوه إلا أنك تشك أو تتلوم لرأي تراه من ترك المبادرة بما بعد ذلك -: قدى وفي من: مني وفي هل: هلي وفي نعم: نعمي أي نعم قد كان أو نعم هو هو أو نحوه مما تستذكر أو تراخي بذكره. وعليه تقول في التذكر إذا وقفت على لام التعريف: إلى وأنت تريد: الغلام أو الخليل أو نحو ذلك. وإنما كانت حركة هذا ونحوه الكسرة دون أختيها من قبل أنه ساكن قد احتيج إلى حركته فجرت حركته إذاً مجرى حركة التقاء الساكنين في نحو " قل اللهم " و " قم الليل " وعليه أطلق المجزوم والموقوف في القوافي المطلقة إلى الكسر نحو قوله: وأنك مهما تأمرى القلب يفعل وقوله: لما تزل برحالنا وكأن قد ونحو مما نحن عليه حكاية الكتاب: هذا سيفنى وهو يريد: سيف من أمره كذا أو من حديثه كذا. فلما أراد الوصل أثبت التنوين ولما كان ساكنا صحيحا لم يجر الصوت فيه فلما لم يجر فيه حرّكة بالكسر - كما يجب في مثله - ثم أشبع كسرته فأنشا عنها ياء فقال: سيفنى. وأما الحرف المعتل فعلى ضربين: ساكن تابع لما قبله كقاما وقاموا وقومى وقد قدمنا ذكر هذا ومعتل غير تابع لما قبله وهو الياء والواو الساكنتان بعد الفتحة نحو أي وكي ولو وأو فإذا وقفت على شيء من ذلك مستذكرا كسرته فقلت: قمت كي أي كي تقوم ونحوه. وتقول في العبارة: قد فعل كذا أبي معناه: أي أنه كذا ونحو ذلك. ومن كان من لغته أن يفتح أو يضم لالتقاء الساكنين فقياس قوله أن يفتح أيضاً أو يضم عند التذكر. روينا ذلك عن قطرب: قم الليل وبع الثوب فإذا تذكرت قلت: قما وبعا وفي سر: سرا. وليس كذلك قراءة ابن مسعود فقلا له قولاً ليناً لأن الألف علم ضمير تثنية موسى وهرون عليهما السلام. وأيضاً فإنه لم يقف عليه ألا ترى أن بعده له قولاً ليناً وإنما هذه لغة لبعضهم يجري حركة ألف التثنية وواو الجمع مجرى حركة التقاء الساكنين فيقول في التثنية: بعا يا رجلان ويا رجال بعوا ويا غلامان قما. وعليه قراءة اين مسعود هذه وبيت الضبي: لم يهلعوا ولم يخموا يريد: يخيموا فجاء به على ما ترى. وروينا عن قطرب أن منهم من يقول: شم يا رجل. فإن تذكرت على هذه اللغة مطلت الضمة فوفيتها واوا فقلت: شمو. ومن العرب من يقرأ {اشْتَرُوُاْ الضَّلاَلَةَ} ومنهم من يكسر فيقول: اشتروا الضلالة. ومنهم من يفتح فيقول: اشتروا الضلالة. فإن مطلت متذكرا قلت على من ضم: اشترووا وعلى من كسر: اشتروى وعلى من فتح: اشتروا. . وروينا عن محمد بن محمد عن أحمد بن موسى عن محمد بن الجهم عن يحيى بن زياد قول الشاعر: فهم بطانتهم وهم وزراؤهم وهم القضاة ومنهم الحكام فإن وقفت على هم من قوله: وهم القضاة قلت: همى. وكذلك الوقوف على منهم الحكام: منهمى. فإن وقفت على هم من قوله: وهم وزراؤهم قلت: همو لأنك كذا رأيته فعل الشاعر لما قال في أول البيت: فهمو ففصلت بين حركة التقاء الساكنين وغيرها كما فصل وإن شئت قلت: وهمى تريد: وهم وزراؤهم وقلت: وهمو تريد: وهم القضاة حملا على قوله: فهم بطانتهم لأنك إذا فعلت ذلك لم تعد أن حملت على نظير. وكلما جاز شيء من ذلك عند وقفة التذكر جاز في القافية البتة على ما تقدم. وعليه تقول: عجبت منا إذا أردت: من القوم على من فتح النون. ومن كسرها فقال: من القوم قال: منى. فاعرف ذلك إلى ما يليه إن شاء الله.
باب في إنابة الحركة عن الحرف والحرف عن الحركة
الأول منهما أن تحذف الحرف وتقر الحركة قبله نائبةً عنه. ودليلةً عليه كقوله: كفاك كفٌ لا تليق درهما جوداً وأخرى تعط بالسيف الدما يريد: تعطى. وعليه بيت الكتاب: وأخو الغوان متى يشأ يصرمنه وبيته: دوامي الأيد يخبطن السريحا ومنه قول الله تعالى: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} وهو كثير في الكسرة. وقد جاء في الضمة منه قوله: إن الفقير بيننا قاضٍ حكم أن ترد الماء إذا غار النجم يزيد النجوم فحذف الواو وأناب عنها الضمة وقوله: حتى إذا بلت حلاقيم الحلق يريد الحلوق. وقال الأخطل: ومنه قول الله عز اسمه {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} و {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} وكتب ذلك بغير واو دليلا في الخط على الوقوف عليه بغير واو في اللفظ. وله نظائر وهذا في المفتوح قليل لخفة الألف قال: مثل النقا لبده ضرب الطلل ونحو منه قوله: ألا لا بارك الله في سهيلٍ إذا ما الله بارك في الرجال فحذف الألف من هذه اللفظة " الله ". ومنه بيت الكتاب: أو الفاً مكة من ورق الحمى يريد الحمام فحذف الألف فالتقت الميمان فغير على ما ترى. وقال أبو عثمان في قول الله سبحانه {يَا أَبتِ} أراد: يا أبتا فحذف الألف. وأنشد أبو الحسن وابن الإعرابي: فلست بمدرك ما فات منى بلهف ولا بليت ولا لو أني يريد بلهفى وقد مضى نحو هذا. الثاني منهما وهو إنابة الحرف عن الحركة. وذلك في بعض الآحاد وجمع التثنية وكثير من الجمع. فالآحاد نحو أبوك وأخوك وحماك وفاك وهنيك وذي مال. فالألف والياء والواو في جميع هذه الأسماء الستة دواخل على الفتح والكسر والضم. ألا تراها تفيد من الإعراب ما تفيده الحركات: الضمة والفتحة والكسرة. والتثنية نحو الزيدان والرجلين. والجمع نحو الزيدون والمسلمين. وأعربوا بالنون أيضاً. فرفعوا بها في الفعل: يقومان ويقومون وتقومين فالنون في هذا نائبة عن الضمة في يفعل. وكما أن ألف التثنية وواو الجمع نائبتان عن الضمة والياء فهما نائبتان عن الكسرة والفتحة وإنما الموضع في الإعراب للحركات فأما الحروف فدواخل عليها. وليس من هذا الباب إشباع الحركات في نحو منتزاح وأنظور والمطافيل لن الحركة في نحو هذا لم تحذف وأنيب الحرف عنها بل هي موجودة ومزيد فيها لا منتقص منها.
باب في هجوم الحركات على الحركات
وذلك على ضربين: أدهما كثير مقيس والآخر غير مقيس. الأول منهما وهو قسمان: أحدهما أن تتفق فيه الحركتان والآخر أن تختلفا فيه فيكون الحكم للطارىء منهما على ما مضى. فالمتفقان نحو قولك: هم يغزون ويدعون. وأصله يغزوون فأسكنت الواو الأولى التي هي اللام وحذفت لسكونها وسكون واو الضمير والجمع بعدها ونقلت تلك الضمة المحذوفة على اللام إلى الزاي التي هي العين فحذفت لها الضمة الأصلية في الزاي لطروء الثانية المنقولة من اللام إليها عليها. ولا بد من هذا التقدير في هجوم الثانية الحادثة على الأولى الراتبة اعتبارا في ذلك بحكم المختلفتين ألا تراك تقول في العين الكسورة بنقل الضمة إليها مكان كسرتها وذلك نحو يرمون ويقضون ألا تراك نقلت ضمة ياء يرميون إلى ميمها فابتزت الضمة الميم كسرتها وحلت محلها فصار: يرمون. فكما لا يشك في أن ضمة ميم يرمون غير كسرتها في يرميون لفظا فكذلك فلنحكم على أن ضمة زاي يغزون غير ضمتها في يغزون تقديرا وحكما. ونحو من ذلك قولهم في جمع مائة: مئون. فكسرة ميم مئون غير كسرتها في مائة اعتبارا بحال المختلفين في سنة وسنين. وبرة وبرين. ومثله ترخيم برثن ومنصور فيمن قال: يا حار إذا قلت: يا برث ويا منص فهذه الضمة في ثاء برث وصاد منص غير الضمة فيمن قال: يا برث ويا منص علي يا حار على يا حار اعتبارا بالمختلفتين. فكما لا شك في أن ضمة راء يا حار غير كسرة راء يا حار سماعا ولفظا فكذلك الضمة على يا حار في يا برث ويا منص غير الضمة فيهما على يا حار تقديرا وحكما. وعلى ذلك كسرة صاد صنو وقاف قنو غير كسرتها في قنوانٍ وصنوانٍ. وهذا باب وقد تقدم في فصله. وكذلك كسرة ضاد تقضين غير كسرتها المقدرة فيها في أصل حالها وهو تقضيين. والقول هنا هو ما تقدم في يدعون ويغزون. فهذا حكم الحركتين المتفقتين. وأما المختلفتان فأمرهما واضح. وذلك نحو يرمون ويقضون. والأصل: يرميون ويقضيون فأسكنت الياء استثقالا للضمة عليها ونقلت إلى ما قبلها فابتزته كسرته لطروئها عليها فصار: يرمون ويقضون. وكذلك قولهم: أنت تغزين أصله تغزوين فنقلت الكسرة من الواو إلى الزاي فابتزتها ضمتها فصار: تغزين. إلا أن منهم من يشم الضمة أرادة للضمة المقدرة ومنهم من يخلص الكسرة فلا يشم. ويدلك على مراعاتهم لتلك الكسرة والضمة المبتزتين عن هذين الموضعين أنهم إذا أمروا ضموا همزة الوصل وكسروها إرادة لهما وذلك كقولهم: اقضوا ابنوا وقولهم: اغزى ادعى. فكسرهم مع ضمة الثالث وضمهم مع كسرته يدل على قوة مراعاتهم للأصل المغير وأنه عندهم مراعىً معتد مقدر. ومن المتفقة حركاته ما كانت في الفتحتان نحو اسم المفعول من نحو اشتد واحمر وذلك قولهم: مشتد ومحمر ومن قولك: هذا رجل مشتد عليه وهذا مكان محمر فيه وأصله مشتددٌ ومحمررٌ فأسكنت الدال والراء الأوليان وادغمتا في مثلهما من بعدهما ولم ننقل الحركة إلى ما قبلها فتغلبه على حركته التي فيه كما تغلب في يغزون ويرمين. يدل على أنك لم تنقل الحركة هنا كما نقلتها هناك قولهم في اسم الفاعل أيضاً كذلك وهو مشتد ومحمر ألا ترى أن أصله مشتد ومحمرر. فلو نقلت هذا لوجب أن تقول: مشتّد ومحمرّ. فلما لم تقل ذلك وصح في المختلفين اللذين النقل فيهما موجود لفظا امتنعت من الحكم به فيما تحصل الصنعة فيه تقديرا ووهما. وسبب ترك النقل في المفتوح انفراد الفتح عن الضم والكسر في هذا النحو لزوال الضرورة فيه ومعه ألا ترى إلى صحة الياء والواو جميعا بعد الفتحة وتعذر الياء الساكنة بعد الضمة والواو الساكنة بعد الكسرة. وذلك أنك لو حذفت الضمة في يرميون ولم تنقلها إلى الميم لصار التقدير إلى يرمون ثم وجب قلب الواو ياء وأن تقول: هم يرمين فتصير إلى لفظ جماعة المؤنث. وكذلك لو لم تنقل كسرة الواو في تغزوين إلى الزاى لصار التقدير إلى تغزين. فوجب أن تقلب الياء لانضمام الزاى قبلها واوا فتقول للمرأة: أنت تغزون فيلتبس بجماعة المذكر. فهذا حكم المضموم مع المكسور. وليس كذلك المفتوح ألا ترى الواو والياء صحيحتين بعد الفتحة نحو هؤلاء يخشون ويسعون وأنت ترضين وتخشين. فلما لم تغير الفتحة هنا في المختلفين اللذين تغييرهما واجب لم تغير الفتحتان اللتان إنما هما في التغيير محمولتان على الضم مع الكسر. فإن قلت: فقد يقع اللبس أيضاً بحيث رُمت الفرق ألا تراك تقول للرجال: أنتم تغزون وللنساء: أنتنّ تغزون وتقول للمرأة: أنت ترمين ولجماعة النساء: أنتنّ ترمين. قيل: إنما احتُمل هذا النحو في هذه الأماكن ضرورة ولولا ذلك لما احتمل. ووجه الضرورة أن أصل أنتم تغزون: تغزوون فالحركتان - كما ترى - متفقتان لأنهما ضمتان. وكذلك أنت ترمين الأصل فيه ترميين فالحركتان أيضاً متفقتان لأنهما كسرتان. فإذا أنت أسكنت المضموم الأول ونقلت إليه ضمة الثاني وأسكنت المكسور الأول ونقلت إليه كسرة الثاني بقى اللفظ بحاله كأن لم تنقله ولم تغيّر شيئاً منه فوقع اللبس فاحتمل لما يصحب الكلام من أوله وآخره كأشياء كثيرة يقع اللبس في لفظها فيعتمد في بيانها على ما يقارنها كالتحقير والتكسير وغير ذلك فلما وجدت إلى رفع اللبس بحيث وجدته طريقا سلكتها ولما لم تجد إليه طريقا في موضع آخر احتملته ودللت بما يقارنه عليه. فهذه أحوال الحركات المنقولة وغير المنقولة فيما كان فيه الحرفان جميعا متحركين. فأما إن سكن الأول فإنك تنقل الحركات جُمع إليه. وذلك نحو أقام ومُقيم ومُقام وأسار ومُسِير ومُسَار ألا ترى أن أصل ذلك أقوَم وأسيَر ومُقوِم ومُسيِر ومُقوَم ومُسيَر وكذلك يقوم ويسير: أصلهما يَقوُم ويَسيِر فنقل ذلك كله لسكون الأول. والضرب الثاني مما هجمت فيه الحركة على الحركة من غير قياس. وهو كبيت الكتاب: وقال اضرب الساقين إمك هابل وأصله: امك هابل إلا أن همزة أمك كسرت لانكسار ما قبلها على حد قراءة من قرأ: {فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فصار: إمك هابل ثم أتبع الكسر الكسر فهجمت كسرة الإتباع على ضمة الإعراب فابتزتها موضعها فهذا شاذٌ لا يقاس عليه ألا تراك لا تقول: قدرك واسعة ولا عدلك ثقيل ولا بنتك عاقلة. ونحو من ذلك في الشذوذ قراءة الكسائي { بما أنزليك }. وقياسه في تخفيف الهمزة أن تجعل الهمزة بين بين فتقول: بما أنزل إليك لكنه حذف الهمزة حذفا وألقى حركتها على لام أنزل وقد كانت مفتوحة فغلبت الكسرة الفتحة على الموضع فصار تقديره: بما أنزلليك فالتقت اللامان متحركتين فأسكنت الأولى وادغمت في الثانية كقوله تعالى {لَّكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي}. ونحو منه ما حكاه لنا أبو علي عن أبي عبيدة أنه سمع: دعه في حر أمه. وذلك أنه نقل ضمة الهمزة - بعد أن حذفها - على الراء وهي مكسورة فنفى الكسرة وأعقب منها ضمة. ومنه ما حكاه أحمد بن يحيى في خبر له مع ابن الأعرابي بحضرة سعيد بن سلم عن امرأة قالت لبنات لها وقد خلون إلى أعرابي كان يألفهن: أفي السو تنتنه قال أحمد بن يحيى فقال لي ابن الأعرابي: تعالى إلى هنا اسمع ما تقول. قلت: وما في هذا! أرادت: أفي السوأة أنتنه! فألقت فتحة أنتن على كسرة الهاء فصارت بعد تخفيف همزة السوأة: أفي السو تنتنه. فهذا نحو مما نحن بسبيله. وجميعه غير مقيس لأنه ليس على حد التخفيف القياسي ألا ترى أن طريق قياسه أن يقول: في حرأمه فيقر كسرة الراء عليها ويجعل همزة أمه بين بين أي بين الهمزة والواو لأنها مضمومة كقول الله سبحانه: {يَسْتَهْزِئُون} فيمن خفف أو في حريمه فيبدلها ياء البتة على يستهزيون وهو رأي أبي الحسن وكذلك قياس تخفيف قولها: أفي السوأة أنتنه: أفي السوءة ينتنه فيخلص همزة أنتنه ياء البتة لانتفاخها وانكسار ما قبلها كقولك في تخفيف مئر: مير. وسنذكر شواذ الهمز في بابه بإذن الله. باب في شواذ الهمز وذلك في كلامهم على ضربين وكلاهما غير مقيس. أحدهما أن تقر الهمزة الواجبة تغييرها فلا تغيرها. والآخر أن ترتجل همزا لا أصل له ولا قياس يعضده. الأول من هذين ما حكاه عنهم أبو زيد وأبو الحسن من قولهم: غفر الله له خطائئه. وحكى أبو زيد وغيره: دريئة ودرائئ. وروينا عن قطرب: لفيئة ولفائئ. وأنشدوا: فإنك لا تدري متى الموت جائئٌ إليك ولا ما يحدث الله في غد وفيما جاء من هذه الأحرف دليل على صحة ما يقوله النحويون دون الخليل: من أن هذه الكلم غير مقلوبة وأنه قد كانت التقت فيها الهمزتان على ما ذهبوا إليه لا ما رآه هو. ومن شاذ الهمز عندنا قراءة الكسائي أئمة بالتحقيق فيهما. فالهمزتان لا تلتقيان في كلمة واحدة إلا أن تكونا عينين نحو سئال وسئار وجئار فأما التقاؤهما على التحقيق من كلمتين فضعيف عندنا وليس لحنا. وذلك نحو قرأ أبوك و {السُّفَهَاء أَلا} و {وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} و {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ} فهذا كله جائز عندنا على ضعفه لكن التقاؤهما في كلمة واحدة غير عينيين لحن إلا ما شذ مما حكيناه من خطائئ وبابه. وقد تقدم. وأنشدني بعض من ينتمي إلى الفصاحة شعرا لنفسه مهموزا يقول فيه: أشاؤهما وأدأؤها فنبهته عليه فلم يكد يرجع عنه وهذا مما لو كان همزه أصلا لوجب تركه وإبداله فكيف أن يرتجل همزا لا أصل له ولا عذر في إبداله من حرف لين ولا غيره. الثاني من الهمز. وهو ما جاء من غير أصل له ولا إبدال دعا قياس إليه وهو كثير. منه قولهم: مصائب. وهذا مما لا ينبغي همزه في وجه من القياس. وذلك أن مصيبة مفعلة. وأصلها مصوبة فعينها كما ترى متحركة في الأصل فإذا احتيج إلى حركتها في الجمع حملت الحركة. وقياسه مصاوب. وقد جاء ذلك أيضا قال: يصاحب الشيطان من يصاحبه وهو أذيٌّ جمة مصاوبه ويقال فيها أيضاً: مصوبة ومصابة. ومثله قراءة أهل المدينة: معائش بالهمز. وجاء أيضا في شعر الطرماح مزائد جمع مزادة وصوابها مزايد. قال: مزائد خرقاء اليدين مسيفةٍ وقالوا أيضا: منارة ومنائر وإنما صوابها: مناور لأن الألف عين وليست بزائدة. ومن الجيد وإني لقوام مقاوم لم يكن جريرٌ ولا مولى جريرٍ يقومها ومن شاذ الهمز ما أنشده ابن الأعرابي لابن كثوة: ولى نعام بني صفوان زوزأةً لما رأى أسدا في الغاب قد وثبا وإنما هي زوزاة: فعللة من مضاعف الواو بمنزلة االقوقاة والضوضاة. وأنشدوا بيت امرؤ القيس: كأني بفتخاء الجناحين لقوةٍ دفوفٍ من العقبان طاطات شئمالى يريد شماله أي خفضها بعنان فرسه. وقالوا: تأبلت القدر بالهمز. ومثله التأبل والخأتم والعألم. ونحو منه ما حكوه من قول بعضهم: بأز بالهمز وهي البئزان بالهمز أيضاً. وقرأ ابن كثير: {وكشفت عن سأقيها} وقيل في جمعه: سؤق مهموزا على فعل. وحكى أبو زيد: شئمة للخليقة بالهمز وأنشد الفراء: يا دارمي بدكاديك البرق صبرا فقد هيجت شوق المشتئق يريد المشتاق. وحكى أيضاً رجل مئل بوزن معل إذا كان كثير المال. وحكوا أيضا: الرئبال بالهمز. وأما شأمل وشمأل وجرائض وحطائط بطائط والضهيأ فمشهور بزيادة الهمز فيه. وحكى لنا أبو علي في النيدلان: النئدلان بالكسر ومثاله فئعلان. وأنشدوا لجرير: بالهمز في الموقدان وموسى. وحكى أنه وجد بخط الأصمعي: قطا جؤنى. وحكى عنه أيضاً فيه جوني. ومن ذلك قولهم: لبأت بالحج ورثأت زوجي بأبيات وحلأت السويق واستلأمت الحجر وإنما هو استلمت: افتعلت قال: يكاد يمسكه عرفان راحته ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم فوزن استلأم على ما ترى: افتعأل وهو مثال مبدع غريب. ونحو منه ما رويناه عن أحمد بن يحيى لبلال بن جرير جد عمارة: إذا ضفتهم أو سآيلتهم وجدت بهم علة حاضرة يريد: ساءلتهم. فإما زاد الياء وغير الصورة فصار مثاله: فعايلتهم. وإما أراد: ساءلتهم كالأول إلا أنه زاد الهمزة الأولى فصار تقديره: سئاءلتهم بوزن: فعاءلتهم فجفا عليه التقاء الهمزتين هكذا ليس بينهما إلا الألف فأبدل الثانية ياء كما أنه لما كره أصل تكسير ذؤابة - وهو ذآئب - أبدل الأولى واواً. ويجوز أن يكون أراد: ساءلتهم ثم أبدل من الهمزة ياء فصار: سايلتهم ثم جمع بين المعوض والمعوض منه فقال: سآيلتهم فوزنه الآن على هذا: فعاعلتهم. ومثله مما جمع فيه بين العوض والمعوض منه في العين ما ذهب إليه أبو إسحاق وأبو بكر في قول الفرزدق: هما نفثا في فيَّ من فمويهما فوزن " فمويهما " على قياس مذهبهما: فععيهما. وأنا أرى ما ورد عنهم من همز الألف الساكنة في بأز وسأق وتأبل ونحو ذلك إنما هو عن تطرق وصنعة وليس اعتباطاً هكذا من غير مسكة. وذلك أنه قد ثبت عندنا من عدة أوجه أن الحركة إذا جاورت الحرف الساكن فكثيراً ما تجريها العرب مجراها فيه فيصير لجواره إياها كأنه محرك بها. فإذا كان كذلك فكأن فتحة باء باز إنما هي في نفس الألف. فالألف لذلك وعلى هذا التنزيل كأنها محركة وإذا تحركت الألف انقلبت همزة. من ذلك قراءة أيوب السختياني: {غير المغضوب عليهم ولا الضألين}. وحكى أبو العباس عن أبي عثمان عن أبي زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ: { فيومئذٍ لا يسئل عن ذنبه إنسٌ ولا جأنٌ } فظننت أنه قد لحن إلى أن سمعت العرب تقول: شأبة ودأبة. وقال كثير: إذا ما العوالي بالعبيط احمأرت يريد احمارت وقال أيضاً: وأنشد قوله: يا عجباً لقد رأيت عجبا حمار قبان يسوق أرنبا خاطمها زأمها أن تذهبا وقال دكين: وجله حتى ابيأض ملببه فإن قلت: فما أنكرت أن يكون ذلك فاسدا لقولهم في جمع بأز: بئزان بالهمز. وهذا يدل على كون الهمزة فيه عيناً أصلاً كرأل ورئلانٍ. قيل: هذا غير لازم. وذلك أنه لما وجد الواحد - وهوبأز - مهموزاً - نعم وهمزته غير مستحكمة السبب - جرى عنده وفي نفسه مجرى ما همزته أصلية فصارت بئزان كرئلان. وإذا كانوا ما قويت علة قلبه مجرى الأصلي في قولهم: ميثاق ومياثق كان إجراء بأز مجرى رأل أولى وأحرى. وسيأتي نحو هذا في باب له. وعليه أيضاً قوله: لحب المؤقدان إلي مؤسى ألا ترى أن ضمة الميم في الموقدان وموسى لما جاورت الواو الساكنة صارت كأنها فيها والواو . فرأٌ متار يريد: متأرا فلما جاورت الفتحة في الهمزة التاء صارت كأنها فيها فجرى ذلك مجرى متأر فخفف على نحو من تخفيف رأس وبأس. وسيأتي ذلك في بابه بإذن الله.
باب في حذف الهمز وإبداله
قد جاء هذا الموضع في النثر والنظم جميعاً. وكلاهما غير مقيس عليه إلا عند الضرورة. فإن قلت: فهلا قست على ما جاء منه في النثر لأنه ليس موضع اضطرار قيل: تلك مواضع كثر استعمالها فعرفت أحوالها فجاز الحذف فيها - وسنذكرها - كما حذفت لم يك ولم يبل ولا أدر في النثر لكثرة الاستعمال ولم يقس عليها غيرها. فمما جاء من ذلك في النثر قولهم: ويلمه. وإنما أصله ويل لأمه. يدل على ذلك ما أنشده الأصمعي: لأم الأرض ويل! ما أجنت غداة أضر بالحسن السبيل فحذف لام ويل وتنوينه لما ذكرنا وحذفت همزة أم فبقي: ويلمه. فاللام الآن لام الجر ألا تراها مكسورة. وقد يجوز أن تكون اللام المحذوفة هي لام الجر كما حذف حرف الجر من قوله: الله أفعل وقول رؤبة: خيرٍ عافاك الله وقول الآخر: رسم دارٍ وقفت في طلله وهو من المقلوب أي طلل دار وقفت في رسمه وعليه قراءة الكسائي: بما أنزليك - وقد ذكرناه - وقراءة ابن كثير إنها لحدى الكبر وحكاية أحمد ابن يحيى قول المرأة لبناتها وقد خلا الأعرابي بهن: أفي السوتنتنه " تريد: أفي السوءة أنتنه " ومنه قولهم: الله في هذه الكلمة في أحد قولي سيبويه وهو أعلاهما. وذلك أن يكون أصله إلاه فحذفت الهمزة التي هي فاء. وكذلك الناس لأن أصله أناس قال: وإنا أناس لا نرى القتل سبة إذا ما رأته عامر وسلول ولا تكاد الهمزة تستعمل مع لام التعريف غير أن أبا عثمان أنشد: إن المنايا يطلع ن على الأناس الآمنينا ومنه قولهم: لن في قول الخليل. وذلك أن أصلها عنده لا أن فحذفت الهمزة عنده تخفيفا لكثرته في الكلام ثم حذفت الألف لسكونها وسكون النون بعدها. فما جاء من نحوه فهذه سبيله. وقد اطرد الحذف في كل وخذ ومر. وحكى أبو زيد: لاب لك " يريد: لا أب لك " وأنشد أبو الحسن: تضب لثات الخيل في حجراتها وتسمع من تحت العجاج لها ازملا وأنشدنا أبو علي: وحكي لنا عن أبي عبيدة: دعه في حرامه وروينا عن أحمد بن يحيى: هوي جند ابليسٍ المريد " وهو كثير " ومنه قوله: أرأيت إن جئت به أملودا وقوله: حتى يقول من رآه قد راه وهو كثير. فأما الإبدال على غير قياس فقولهم: قريت وأخطيت وتوضيت. وأنشدني بعض أصحابنا لابن هرمة: ليت السباع لنا كانت مجاورة وأننا لا نرى ممن نرى أحدا إن السباع لتهدا عن فرائسها والناس ليس بهادٍ شرهم أبدا ومن أبيات الكتاب لعبد الرحمن بن حسان: وكنت أذل من وتد بقاع يشجج رأسه بالفهرواجي يريد: واجئ كما أراد الأول: ليس بهادئ. ومن أبياته أيضاً: ومن حكاياته بيس في بئس أبدل الهمزة ياء. ونحوه قول ابن ميادة: فكان لها يومذٍ أمرها وقرأ عاصم في رواية حفص: أن تبويا في الوقف أي تبوءا. وقال: تقاذفه الرواد حتى رموا به ورا طرق الشأم البلاد الأقاصيا أراد: وراء طرق الشام فقصر الكلمة. فكان ينبغي إذ ذاك أن يقول: ورأ بوزن قرأ لأن الهمزة أصلية عندنا إلا أنه أبدلها ضرورة فقلبها ياء وكذلك ما كان من هذا النحو فإنه إذا أبدل " صار إلى أحكام ذوات الياء ألا ترى أن قريت مبدلة من قرأت بوزن قريت من قريت الضيف ونحو ذلك. ومن البدل البتة النبي في مذهب سيبويه. وقد ذكرناه. وكذلك البرية عند غيره. ومنه الخابية لم تسمع مهموزة. فإما أن يكون تخفيفا اجتمع عليه كيرى وأخواته وإما أن يكون بدلاً قال: أري عيني ما لم ترأياه كلانا عالمٌ بالترهات والنبوة عندنا مخففة لا مبدلة. وكذلك الحكم على ما جاء من هذا: أن يحكم عليه بالتخفيف إلى أن يقوم الدليل فيه على الإبدال. فاعرف ذلك مذهبا للعرب نهجا بإذن الله. وحدثنا أبو علي قال: لقي أبو زيد سيبويه فقال له: سمعت العرب تقول: قريت وتوضيت. فقال له سيبويه: كيف تقول في أفعل منه قال: أقرأ. وزاد أبو العباس هنا: فقال له سيبويه: فقد تركت مذهبك أي لو كان البدل قوياً للزم ووجب أن تقول: أقري كرميت أرمي. وهذا بيان.
باب في حرف اللين المجهول
وذلك مدة الإنكار نحو قولك في جواب من قال: رأيت بكرا: أبكرنيه وفي جاءني محمد: أمحمدنيه وفي مررت على قاسم: أقاسمنيه! وذلك أنك ألحقت مدة الإنكار وهي لا محالة ساكنة فوافقت التنوين ساكناً فكسر " لالتقاء الساكنين " فوجب أن تكون المدة ياء لتتبع الكسرة. وأي المدات الثلاث كانت فإنها لا بد أن توجد في اللفظ بعد كسرة التنوين ياء لأنها إن كانت في الأصل ياء فقد كفينا النظر في أمرها. وإن كانت ألفاً أو واواً فالكسرة قبلها تقلبها إلى الياء البتة. فإن قيل: أفتنص في هذه المدة على حرف معين: الألف أو الياء أو الواو. قيل: لم تظهر في شيء من الإنكار على صورة مخصوصة فيقطع بها عليها دون أختيها وإنما تأتي تابعة لما قبلها ألا تراك تقول في قام عمر: أعمروه وفي رأيت أحمد: أأحمداه وفي مررت بالرجل آلرجليه وليست كذلك مدة الندبة لأن تلك ألف لا محالة وليست مدة مجهولة مدبرة بما قبلها ألا تراها تفتح ما قبلها أبداً ما لم تحدث هناك لبساً ونحو ذلك نحو وا زيداه ولم يقولوا: وا زيدوه وإن كانت الدال مضمومة في وا زيد. وكذلك وا عبد الملكاه ووا غلام زيداه لما حذفت لها التنوين " من زيد " صادفت الدال مكسورة ففتحتها. غير أننا نقول: إن أخلق الأحوال بها أن تكون ألفاً من موضعين. أحدهما أن الإنكار مضاهٍ للندبة. وذلك أنه موضع أريد فيه معنى الإنكار والتعجب فمطل الصوت به وجعل ذلك أمارة لتناكره كما جاءت مدة الندبة إظهاراً للتفجع وإيذاناً بتناكر الخطب الفاجع والحدث الواقع. فكما أن مدة الندبة ألف فكذلك ينبغي أن تكون مدة الإنكار ألفا. والآخر أن الغرض في الموضعين جميعاً إنما هو مطل الصوت ومده وتراخيه والإبعاد فيه لمعنى الحادث هناك. وإن كان الأمر كذلك فالألف أحق به دون أختيها لأنها أمدهن صوتاً وأنداهن وأشدهن إبعادا " وأنآهن ". فأما مجيئها تارة واوا وأخرى ياء فثانٍ لحالها وعن ضرورة دعت " إلى ذلك " لوقوع الضمة والكسرة قبلها. ولولا ذلك لما كانت إلا ألفاً أبدا. فإن قلت: فهلا تبعها ما قبلها في الإنكار كما تبعها في الندبة فقلت في جاءني عمر: أعمراه كما تقول الندبة: واعمراه. قيل: فرق ما بينهما أن الإنكار جارٍ مجرى الحكاية ومعنى الجامع بينهما أنك مع إنكارك للأمر مستثبت ولذلك قدمت في أول كلامك همزة الاستفهام. فكما تقول في جواب رأيت زيدا: من زيدا كذلك قلت أيضاً في جواب جاءني عمر: أعمروه. وأيضاً فإن مدة الإنكار لا تتصل بما قبلها اتصال مدة الندبة بما قبلها ألا ترى التنوين فاصلا بينهما في نحو أزيدنيه ولا يفصل به بين المندوب ومدة الندبة في نحو وا غلام زيداه بل تحذفه لمكان مدة الندبة وتعاقب بينهما لقوة اتصالها به كقوة اتصال التنوين به فكرهوا أن يظاهروا بينهما في آخر الاسم لتثاقله عن احتمال زيادتين في آخره. فلما حذف التنوين لمدة الندبة قوى اتصالها بالمندوب فخالطته فأثرت فيه الفتح. ولما تأخرت عنه مدة الإنكار ولم تماسه مماسة مدة الندبة له لم تغيره تغييرها إياه. ويزيدك في علمك ببعد مدة الإنكار عن الاسم الذي تبعته وقوع إن بعد التنوين فاصلة بينهما نحو أزيدا إنيه! وأزيدٌ إنيه! وهذا ظاهر للإبعاد لها عنه. وأغرب من هذا أنك قد تباشر بعلامة الإنكار غير اللفظ الأول. وذلك في قول بعضهم وقد قيل له: أتخرج إلى البادية إن أخصبت فقال: أنا إنيه! فهذا أمر آخر أطم من الأول ألا تراك إذا ندبت زيدا ونحوه فإنما تأتي بنفس اللفظ الذي هو عبارة عنه لا بلفظ آخر ليس بعبارة عنه. وهذا تناهٍ في ترك مباشرة مدة الإنكار للفظ الاسم المتناكرة حاله وما أبعد هذا عن حديث الندبة! فإن قلت: فقد تقول في ندبة زيد " وا أبا محمداه " فتأتي بلفظ آخر وكذلك إذا ندبت جعفرا قلت: وا من كان كريماه! فتأتي بلفظ غير لفظ زيد وجعفر. قيل: أجل إلا أن " أبا محمد " و " من كان كريما " كلاهما عبارة عينيهما وقوله: أنا إنيه ليس باللفظ الأول ولا بعبارة عن معناه. وهذا كما تراه واضح جلي. ومثل مدة الإنكار هذه البتة في جهلها مدة التذكر في قولك إذا تذكرت الخليل ونحوه: الي وعني ومنا ومنذو أي الخليل وعن الرجل ومن الغلام ومنذ الليلة.
باب في بقاء الحكم مع زوال العلة
هذا موضع ربما أوهم فساد العلة. وهو مع التأمل بضد ذلك نحو قولهم فيما أنشده أبو زيد: حمىً لا يحل الدهر إلا بإذننا ولا نسأل الأقوام عقد المياثق ألا ترى أن فاء ميثاق - التي هي واو وثقت - انقلبت للكسرة قبلها ياء كما انقلبت في ميزان وميعاد فكان يجب على هذا لما زالت الكسرة في التكسير أن تعاود الواو فتقول على قول الجماعة: المواثيق كما تقول: الموازين والمواعيد. فتركهم الياء بحالها ربما أوهم أن انقلاب هذه الواو ياء ليس للكسرة قبلها بل هو لأمر آخر غيرها إذ لو كان لها لوجب زواله مع زوالها. ومثل ذلك ما أنشده خلف الأحمر من قول الشاعر: عداني أن أزورك أم عمرو دياوين تشقق بالمداد فللقائل أيضاً أن يقول: لو أن ياء ديوان إنما قلبت عن واو دوان للكسرة قبلها لعادت عند زوالها. وكذلك للمعترض فيي هذا أن يقول: لو كانت ألف باز إنما قلبت همزة في لغة من قال: بأز لأنها جاورت الفتحة فصارت الحركة كأنها فيها فانقلبت همزة كما انقلبت لما حركت في نحو شأبة ودأبة لكان ينبغي أن تزول الهمزة عند زوال الألف في قولهم: بئزان فقد حكيت أيضاً بالهمز إذ كانت الياء إذا تحركت لم تقلب همزة في نحو قول جرير: فيوماً يجازين الهوى غير ماضيٍ ويوماً ترى منهن غولاً تغول وكذلك لو كانت الواو إنما انقلبت في صبية وقنية وصبيان ولياح للكسرة قبلها لوجب إذا زالت الكسرة أن تعود الواو فتقول: صبوة وصبوان وقنوة ولواح لزوال الكسرة. والجواب عن هذا وغيره مما هذه حاله أن العلة في قلب هذه الأشياء هو ما ذكره القوم: من وقوع الكسرة قبلها لأشياء. منها أن أكثر اللغة وشائع الاستعمال هو إعادة الواو عند زوال الكسرة. وذلك قولهم: موازين ومواعيد وقولهم في ريح: أرواح وفي قيل: أقوال وفي ميثاق: مواثيق وفي ديوان: دواوين. فأما مياثق ودياوين فإنه لما كثر عندهم واطرد في الواحد القلب وكانوا كثيراً ما يحملون الجمع على حكم الواحد وإن لم يستوف لجمع جميع أحكام الواحد نحو ديمة وديم وقيمة وقيم صار الأثر في الواحد كأنه ليس عندهم مسبباً عن أمر ومعرضاً لانتقاله بانتقاله بل تجاوزوا به ذلك وطغوا به إلى ما وراءه حتى صار الحرف المقلوب إليه لتمكنه في القلب كأنه أصل في موضعه وغير مسبب عندهم عن علة فمعرضٍ لانتقاله بانتقالها حتى أجروا ياء ميثاق مجرى الياء الأصلية وذلك كبنائك من اليسر مفعالا وتكسيرك إياه على مفاعيل كميسار ومياسير فمكنوا قدم الياء في ميثاق أنسابها واسترواحاً إليها ودلالة على تقبل الموضع لها. وكذلك - عندي - قياس تحقيره على هذه اللغة أن تقول: مييثيق. ومنها أن الغرض في هذا القلب إنما هو طلب للخفة فمتى وجدوا طريقاً أو شبهة في الإقامة عليها والتعلل بخفتها سلكوها واهتبلوها. وليس غرضهم وإن كان قلبها مسبباً عن الكسرة أن يتناهوا في إعلامنا ذلك بأن يعيدوها واواً مع زوالها. وإنما غالب الأمر ومجموع الغرض القلب لها لما يعقب من الاسترواح إلى انقلابها. فكأنهم قنعوا أنفسهم بتصور القلب في الواحد لما انتقلوا عنه إلى الجمع ملاحظة لأحواله ومحافظة على أحكامه واسترواحاً إلى خفة المقلوب إليه ودلالة على تمكن القلب في الواحد حتى ألحقوه بما أصله الياء. وعندي مثل يوضح الحال في إقرار الحكم مع زوال العلة على قلة ذلك في الكلام وكثرة ضده في الاستعمال. وهو العود تقطعه من شجرته غضاً رطيباً فيقيم على ذلك زمانا ثم يعرض له فيما بعد من الجفوف واليبس ما يعرض لما هذه سبيله فإذا استقر على ذلك اليبس وتمكن فيه حتى ينخر لم يغن عنه فيما بعد أن تعيده إلى قعر البحر فيقيم فيه مائة عام لأنه قد كان بعد فهذه حال إقرار الحكم مع زوال العلة وهو الأقل في كلامهم. وعلى طرف من الملامحة له قول الله عز وجل: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ}. ومنها أنهم قد قلبوا الواو ياء قلباً صريحاً لا عن علة مؤثرة أكثر من الاستخفاف نحو قولهم: رجل غديان وعشيان والأريحية ورياح ولا كسرة هناك ولا اعتقاد كسرة فيه قد كانت في واحده لأنه ليس جمعاً فيحتذى به ويقتاس به على حكم واحده. وكذلك قول الآخر: جول التراب فهو جيلاني فإذا جنحوا إلى الياء هذا الجنوح العاري من السبب المؤثر سوى ما فيه من الاسترواح إليه كان قلب الأثقل إلى الأخف وبقاؤه على ذلك لضرب من التأول أولى وأجدر. نعم وإذا كانوا قد أقروا حكم الواحد على تكسيره مع ثقل ما صاروا إليه مراعاة لأحكامه نحو بأز وبئزان حتى شبهوه برأل ورئلان كان إقرار قلب الأثقل إلى الأخف عند التكسير أولى وأجدر ألا ترى أن الهمزة أثقل من الياء. وكذلك قولهم لياح - وإنما هو فعال من لاح يلوح لبياضه - قد راعوا فيه انقلاب عينه مع الكسرة في لياح على ضعف هذا الأثر لأنه ليس بجمع كحياض ورياض ولا مصدر كقيام وصيام. فإقرار الحكم القوي الوجوب في الواحد عند تكسيره أجدر بالجواز. وكذلك حديث قنية وصبيان وصبية في إقرار الياء بحالها مع زوال الكسرة في صبيان وقنية. وذلك أن القلب مع الكسرة لم يكن له قوة في القياس وإنما كان مجنوحاً به إلى الاستخفاف. وذلك أن الكسرة لم تل الواو ألا ترى أن بينهما حاجزاً وإن كان ساكناً فإن مثله في أكثر اللغة يحجز. وذلك نحو جرو وعلوٍ وصنو وقنو ومجولٍ ومقولٍ وقرواح وجلواخ وقرواش ودرواس وهذا كثير فاشٍ. فلما أعلوا في صبية وبابه علم أن أقوى سببي القلب إنما هو طلب الاستخفاف لا متابعة الكسر مضطراً إلى الإعلال. فلما كان الأمر كذلك أمضوا العزمة في ملازمة الياء لأنه لم يزل من الكسرة مؤثر يحكم القياس له بقوة فيدعو زواله إلى المصير إلى ضد الحكم الذي كان وجب به. وليس هذا كمياثق من قبل أن القلب في ميثاق واجب والقلب في قنية وصبية ليس بواجب. فكأن باب ميثاق أثرّ في النفس أثراً قوي الحكم فقرره هناك فلما زال بقي حكمه دالاً على قوة الحكم الذي كان به وباب صبية وعلية أقر حكمه مع زوال الكسرة عنه اعتذاراً في ذلك بأن الأول لم يكن عن وجوب فيزال عنه لزوال ما دعا إليه وإنما كان استحساناً فليكن مع زوال الكسر أيضاً استحساناً. أفلا ترى إلى اختلاف حال الأصلين في الضعف والقوة كيف صرت له بهما إلى فرع واحد وهو القلب. فإنه جيد في معناه ونافع في سواه مما شرواه. ومن بعد فقد قالوا أيضاً: صبوان وصبوة وقنوة وعلى أن البغداديين قالوا: قنوت وقنيت وإنما كلامنا على ما أثبته اصحابنا وهو قنوت لا غير. ومن بقاء الحكم مع زوال علته قول الراجز: لما رأى أن لادعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقفٍ فالطجع وهو افتعل من الضجعة. وأصله: فاضتجع فأبدلت التاء طاء لوقوع الضاد قبلها فصارت: فاضطجع ثم أبدل الضاد لاماً. وكان سبيله إذ أزال جرس الضاد أن تصح التاء فيقال: فالتجع كما يقال: التحم والتجأ لكنه أقرت الطاء بحالها إيذاناً بأن هذا القلب الذي دخل الضاد إلى اللام لم يكن عن استحكام ولا عن وجوب كما أن صحة الواو في قوله: وكحل العينين بالعواور إنما جاء لإرادة الياء في العواوير وليعلم أن هذا الحرف ليس بقياس ولا منقاد. فهذه طريق بقاء الأحكام مع زوال العلل والأسباب. فاعرف ذلك فإنه كثير جداً.
باب في توجه اللفظ الواحد إلى معنيين اثنين
وذلك في الكلام على ضربين: أحدهما - وهو الأكثر - أن يتفق اللفظ البتة ويختلف في تأويله. وعليه عامة الخلاف نحو قولهم: هذا أمر لا ينادى وليده فاللفظ غير مختلف فيه لكن يختلف في تفسيره. فقال قوم: إن الإنسان يذهل عن ولده لشدته فيكون هذا كقول الله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} وقوله سبحانه: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ} والآي في هذا المعنى كثيرة. وقال قوم: أي هو أمر عظيم فإنما ينادى فيه الرجال والجلة لا الإماء والصبية. وقال آخرون: الصبيان إذا ورد الحي كاهن أو حواء أو رقاء حشدوا عليه واجتمعوا له. أي ليس هذا اليوم بيوم أنس ولهو إنما هو يوم تجرد وجد. وقال آخرون - وهم أصحاب المعاني -: أي لا وليد فيه فينادي " وإنما فيه الكفاة والنهضة " ومثله قوله: أي لا منار فيه فيهتدى به وقوله أيضاً: لا تفزع الأرنب أهوالها ولا ترى الذئب بها ينجحر أي لا أرنب بها فتفزعها أهوالها. ونحوه - عندي - بيت الكتاب: وقدرٍ ككف القرد لا مستعيرها يعار ولا من يأتها يتدسم أي لا مستعير يستعيرها فيعارها لأنها - لصغرها ولؤمها - مأبية معيفة. وكذلك قوله: زعموا أن كل من ضرب العي ر مولٍ لنا وأنا الولاء على ما فيه من الخلاف. وعلى ذلك عامة ما جاء في القرآن وفي حديث النبي ﷺ ومن بعده رضوان الله عليهم وما وردت به الأشعار وفصيح الكلام. وهذا باب في نهاية الانتشار وليس عليه عقد هذا الباب. وإنما الغرض الباب الآخر الأضيق الذي ترى لفظه على صورة ويحتمل أن يكون على غيرها كقوله: نطعنهم سلكى ومخلوجةً كرك لامين على نابل فهذا ينشد على أنه ما تراه: كرك لامين " أي ردك لامين " - وهما سهمان - على نابل. ذلك أن تعترض من صاحب النبل شيئاً منها فتتأمله ترده إليه فيقع بعضه كذا وبعضه كذا. فكذلك قوله: كرك لامين أي طعناً مختلفاً: بعضه كذا وبعضه كذا. ويروى أيضاً على أنه: كر كلامين أي كرك كلامين على صاحب النبل كما تقول له: ارم ارم تريد السرعة والعجلة. ونحو من ذلك - وإن كان فيه أيسر خلافٍ - بيت المثقب العبدي: أفاطم قبل بينك نوليني ومنعك ما سألت كأن تبيني فهذه رواية الأصمعي: أي منعك كبينك وإن كنت مقيمة. ومثله: " قول الطائي " الكبير: لا أظلم النأي قد كانت خلائقها من قبل وشك النوى عند نوىً قدفا ورواه ابن الأعرابي: ومنعك ما سألتك أن تبيني أي منعك إياي ما سألتك هو بينك. ورواية الأصمعي أعلى وأذهب في معاني الشعر. ومن ذلك ما أنشده أبو زيد: وأطلس يهديه إلى الزاد أنفه أطاف بنا والليل داجي العساكر فقلت لعمرو صاحبي إذ رأيته ونحن على خوص دقاق عواسر أي عوى هذا الذئب فسر أنت. خليلي لا يبقى على الدهر فادر بتيهورة بين الطخا فالعصائب أي بين هذين الموضعين وأنشدناه أيضاً: بين الطخاف العصائب. وأنشد أيضاً: أقول للضحاك والمهاجر إنا ورب القلص الضوامر إنا أي تعبنا من الأين وهو التعب والإعياء. وأنشد أبو زيد: هل تعرف الدار ببيدا إنه دار لخود قد تعفت إنه فانهلت العينان تسفحنه مثل الجمان جال في سلكنه لاتعجبي مني سليمى إنه إنا لحلالون بالثغرنه وهذه أبيات عملها أبو علي في المسائل البغدادية. فأجاز في جميع قوافيها أن يكون أراد: إن وبين الحركة بالهاء وأطال فيها هناك. وأجاز أيضاً أن يكون أراد: ببيداء ثم صرف وشدد التنوين للقافية وأراد: في سلك فبنى منه فعلناً كفرسن ثم شدده لنية الوقف فصار: سلكن. وأراد: بالثغر فبنى منه للضرورة فعلنا وإن لم يكن هذا مثالاً معروفاً لأنه أمر ارتجله مع الضرورة إليه وألحق الهاء في سلكنه والثغرنه كحكاية الكتاب: أعطني أبيضه. وأنشدوا وإنما هو: ها من لم تنله سيوفنا. فها تنبيه ومن لم تنله سيوفنا نداء أي يا من لم ننله سيوفنا خفنا فإنا من عادتنا أن نفلق بسيوفنا هام الملوك فكيف من سواهم. ومنه المثل السائر: زاحم بعود أو دع أي زاحم بقوة أو فاترك ذلك حتى توهمه بعضهم: بعود أو دع فذهب إلى أن أودع صفة لعود كقوله: بعود أو قص أو أوطف أو نحو ذلك مما جاء على أفعل وفاؤه واو. ومن ذلك قول الله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}. فذهب الخليل وسيبويه فيه إلى أنه وي مفصول وهو اسم سمي به الفعل في الخبر وهو معنى أعجب ثم قال مبتدئاً: كأنه لا يفلح الكافرون وأنشد فيه: وي كأن من يكن له نشب يح بب ومن يفتقر يعش عيش ضر وذهب أبو الحسن فيه إلى أنه: ويك أنه لا يفلح الكافرون أراد ويك أي أعجب أنه لا يفلح الكافرون أي أعجب لسوء اختيارهم ونحو ذلك فعلق أن بما في ويك من معنى الفعل وجعل الكاف حرف خطاب بمنزلة كاف ذلك وهنالك. قال أبو علي ناصراً لقول سيبويه: قد جاءت كأن كالزائدة وأنشد بيت عمر: كأنني حين أمسي لا تكلمني ذو بغية يشتهى ما ليس موجودا أي أنا كذلك. وكذلك قول الله سبحانه {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي { هم لا يفلحون }. وقال الكسائي: أراد: ويلك ثم حذف اللام. ومن ذلك بيت الطرماح: وما جلس أبكار أطاع لسرحها جنى ثمر بالواديين وشوع قيل فيه قولان: وشوع أي كثير. ومنه قوله: إني امرؤ لم أتوشع بالكذب أي لم أتحسن به ولم أتكثر به. وقيل: إنها واو العطف والشوع: ضرب من النبت. ونحو من ذلك ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: خالت خويلة أني هالك ودأ قيل: إنه واو عطف أي إني هالك وداء من قولهم: رجل داءٌ أي دوٍ ثم قلب. وحدثنا عن ابن سلام أن أعرابياً قال للكحال: كحلني بالمكحال الذي تكحل به العيون الداءة. وأجاز أيضاً في قوله: ودأ أن يكون فعلا من قوله: وللأرض كم من صالح قد تودأت عليه فوارته بلماعةٍ قفر أي غطته وثقلت عليه. فكذلك يكون قوله: إني هالك كداً وثقلاً وكان يعتمد التفسير الأول ويقول: إذا كانت الواو للعطف كان المعنى أبلغ وأقوى وأعلى كأنه ذهب إلى ما يراه أصحابنا من قولهم في التشهد: التحيات لله والصلوات لله والطيبات. قالوا: لأنه إذا عطف كان أقوى له وأكثر لمعناه من أن يجعل الثاني مكرراً على الأول بدلاً أو وصفاً. وقال الأصمعي في قوله: وأخلفوك عدا الأمر الذي وعدوا أراد جمع عدة. وقال الفراء: أراد عدة الأمر فلما أضاف حذف الهاء كقول الله سبحانه { وإقام الصلاة } وهذا يجيء في قول الأصمعي على القلب فوزنه على قوله: علف الأمر. وهذا باب واسع. وأكثره في الشعر. فإذا مر بك فتنبه عليه ومنه قوله: وغلت بهم سجحاء جارية تهوي بهم في لجة البحر يكون: فعلت من التوغل. وتكون الواو أيضاً عاطفة فيكون من الغليان. ومنه قوله: غدوت بها طياً يدي برشائها يكون فعلى من طويت. ويجوز أن يكون تثنية طي أي طيا يدي وأراد: طياها بيدي فقلب. ومنه بيت أوس: فملك بالليط الذي تحت قشرها كغرقئ كنه بيض القيض من عل " الأصمعي: هو من الملك وهو التشديد. وقال ابن الأعرابي ": أراد: من لك بهذا الليط. أبعد ابن عمرو من آل الشري د حلت به الأرض أثقالها هو من الحلية أي زينت به موتاها. وقال ابن الأعرابي: هو من الحل كأنه لما مات انحل به عقد الأمور.
باب في الاكتفاء بالسبب من المسبب وبالمسبب من السبب
هذا موضع من العربية شريف لطيف وواسع لمتأمله كثير. وكان أبو علي - رحمه الله - يستحسنه ويعنى به. وذكر منه مواضع قليلة. ومر بنا نحن منه مالا نكاد نحصيه. فمن ذلك قول الله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ} وتأويله - والله أعلم -: فإذا أردت قراءة القرآن فاكتفى بالمسبب الذي هو القراءة من السبب الذي هو الإرادة. وهذا أولى من تأول من ذهب إلى أنه أراد: فإذا استعذت فاقرأ لأن فيه قلباً لا ضرورة بك إليه. وأيضاً فإنه ليس كل مستعيذ بالله واجبةً عليه القراءة ألا ترى إلى قوله: أعوذ بالله وبابن مصعب الفرع من قريشٍ المهذب وليس أحد أوجب عليه من طريق الشرع القراءة في هذا الموضع. وقد يكون على ما قدمنا قوله عز اسمه: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} أي إذا أردتم القيام لها والانتصاب فيها. ونحو منه ما أنشده أبو بكر: يعني امرأته. يقول: إن لم أجد من يعينني على سقي الإبل قامت فاستقت معي فوقع الطين على خلوق يديها. فاكتفى بالمسبب الذي هو اختلاط الطين بالخلوق من السبب الذي هو الاستقاء معه. ومثله قول الآخر: يا عاذلاتي لا تردن ملامتي إن العواذل لسن لي بأمير أراد لا تلمنني فاكتفى بإرادة اللوم منه وهو تالٍ لها ومسبب عنها. وعليه قول الله تعالى {فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} أي فضرب فانفجرت فاكتفى بالمسبب الذي هو الانفجار من السبب الذي هو الضرب. وإن شئت أن تعكس هذا فتقول: اكتفى بالسبب الذي هو القول من المسبب الذي هو الضرب. ومثله قوله: إذا ما الماء خالطها سخينا إن شئت قلت: اكتفى بذكر مخالطة الماء لها - وهو السبب - من الشرب وهو المسبب. وإن شئت قلت اكتفى بذكر السخاء - وهو المسبب - من ذكر الشرب وهو السبب. ومثله قول الله عز اسمه {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} أي فحلق فعليه ومنه قول رؤبة: يا رب إن أخطأت أو نسيت فأنت لا تنسى ولا تموت وذلك أن حقيقة الشرط وجوابه أن يكون الثاني مسبباً عن الأول نحو قوله: إن زرتني أكرمتك فالكرامة مسببة عن الزيارة وليس كون الله سبحانه غير ناس ولا مخطئا أمرا مسببا عن خطأ رؤبة ولا عن إصابته إنما تلك صفة له - عز اسمه - من صفات نفسه. لكنه كلام محمول على معناه أي إن أخطأت أو نسيت فاعف عنى لنقصي وفضلك. فاكتفى بذكر الكمال والفضل - وهو السبب - من العفو وهو المسبب. ومثله بيت الكتاب: إني إذا ما جئت نار لمرملة ألفى بأرفع تل رافعا نارى وذلك أنه إنما يفخر ببروز بيته لقرى الضيف وإجارة المستصرخ كما أنه إنما يذم من أخفى بيته وضاءل شخصه بامتناعه من ذلك. فكأنه قال إذاً: إني إذا منع غيري وجبن أعطيت وشجعت. فاكتفى بذكر السبب - وهو التضاؤل والشخوص - من المسبب وهو المنع والعطاء. ومنه بيت الكتاب: أي إن بخلت تركناها وانصرفنا عنها. فاكتفى بذكر طيب الريح المعين على الارتحال عنها. ومنه قول الآخر: فإن تعافوا العدل والإيمانا فإن في أيماننا نيرانا يعنى سيوفا أي فإنا نضركم بسيوفنا. فاكتفى بذكر السيوف من ذكر الضرب بها. وقال: يا ناق ذات الوخد والعنيق أما ترين وضح الطريق أي فعليك بالسير. وأنشد أبو العباس: ذر الآكلين الماء ظلما فما أرى ينالون خيرا بعد أكلهم الماء وقال: هؤلاء قوم كانوا يبيعون الماء فيشترون بثمنه ما يأكلون فقال: الآكلين الماء لأن ثمنه سبب أكلهم ما يأكلونه. ومر بهذا الموضع بعض مولدى البصرة فقال: جزت بالساباط يوما فإذا القينة تلجم وهذا إنسان كانت له جارية تغنى فباعها واشترى بثمنها برذونا فمر به هذا الشاعر وهو يلجم فسماه قينة إذ كان شراؤه مسبباً عن ثمن القينة. وعليه قول الله سبحانه: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} وإنما يعصر عنبا يصير خمرا فاكتفى بالمسبب الذي هو الخمر من السبب الذي هو العنب. وقال الفرزدق: وإنما قتل حيا يصير بعد قتله قتيلا فاكتفى بالمسبب من السبب. وقال: قد سبق الأشقر وهو رابض فكيف لا يسبق إذا يراكض يعنى مهرا سبقت أمه وهو في جوفها فاكتفى بالمسبب الذي هو المهر من السبب الذي هو الأم. وهو كثير جداً. فإذا مر بك فاضممه إلى ما ذكرنا منه: كثرة الثقيل وقلة الخفيف باب في كثرة الثقيل وقلة الخفيف هذا موضوع من كلامهم طريف. وذلك أنا قد أحطنا علما بأن الضمة أثقل من الكسرة وقد ترى مع ذلك إلى كثرة ما توالت فيه الضمتان نحو طُنُب وعُنُق وفُنُق وحُشُد وجُمُد وسُهُد وطُنُف وقلة نحو إبل. وهذا موضع محتاج إلى نظر. وعلة ذلك عندى أن بين المفرد والجملة أشباها. منها وقوع الجملة موقع المفرد من الصفة والخبر والحال. فالصفة نحو مررت برجل وجهُه حسن. والخبر نحو زيد قام أخوه. والحال كقولنا: مررت بزيد فرسه واقفة. ومنها أن بعض الجمل قد تحتاج إلى جملة ثانية احتياج المفرد إلى المفرد. وذلك في الشرط وجزائه والقسم وجوابه. فالشرط نحو قولك: إن قام زيد قام عمرو. والقسم نحو قولك: أقسم ليقومن زيد. فحاجة الجملة الأولى إلى الجملة الثانية كحاجة الجزء الأول من الجملة إلى الجزء الثاني نحو زيد أخوك وقام أبوك. ومنها أن المفرد قد أوقع موقع الجملة في مواضع كنعم ولا لأن كل واحد من هذين الحرفين نائب عن الجملة ألا ترى إلى قولك: نعم في موضع قد كان ذاك ولا في موضع لم يكن ذاك وكذلك صه ومه وإيه وأف وآوتاه وهيهات: كل واحد منها جزء مفرد وهو قائم برأسه وليس للضمير الذي فيه استحكام الضمير في الفعل. يدل على ذلك أنه لما ظهر في بعض أحواله ظهر مخالفا للضمير في الفعل وذلك قول الله سبحانه: {هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ} وأنت لا تقول في الفعل: اضربُم ولا ادخلُم ولا اخرجُم ولا نحو ذلك. فلما كانت بين المفرد وبين الجملة هذه الأشباه والمقاربات وغيرها شبهوا توالي الضمتين في نحو سُرُح وعُلُط بتواليهما في نحو زيد قائم ومحمد سائر. وعلى ذلك قال بعضهم: الحمدُ لُله فضم لام الجر إتباعا لضمة الدال وليس كذلك الكسر في نحو إبل لأنه لا يتوالى في الجملة الجرّان كما يتوالى الرفعان. فإن قلت: فقد قالوا: الحمدِ لِله فوالوا بين الكسرتين كما والوا بين الضمتين قيل: الحمدُ لُله هو الأصل ثم شبه به الحمد لله ألا ترى أن إتباع الثاني للأول - نحو مُد وفِر وضَن - أكثر من إتباع الأول للثاني نحو: اُقتُل. وإنما كان كذلك لأن تقدم السبب أولى من تقدم المسبب لأنهما يجريان مجرى العلة والمعلول وعلى أن ضمة الهمزة في نحو: اقتل لا تعتد لأن الوصل يزيلها فإنما هي عارضة وحركة نحو مُد وفِر وعَض ثابتة مستمرة في الوصل الذي هو العيار وبه الاعتبار. وأيضا فإنه إذا انضم الأول وأريد تحريك الثاني كانت الضمة أولى به من الكسرة والفتحة. أما الكسرة فلأنك تصير إلى لفظ فُعِل وهذا مثال لا حظَّ فيه للاسم وإنما هو أمر يخصّ الفعل. وأما دُئل فشاذّ. وقد يجوز أن يكون منقولا أيضا كبَدَّر وعَثَّر. فإن قيل: فإن دئلا نكرة غير علم وهذا النقل إنما هو أمر يخص العلم نحو يشكر ويزيد وتغلب. قيل: قد يقع النقل في النكرة أيضاً. وذلك الينجلب. فهذا منقول من مضارع انجلب الذي هو مطاوع جلبته ألا ترى إلى قولهم في التأخيذ: أخذته بالينجلب فلم يحر ولم يغب. ومثله رجل أباترٌ. وهو منقول من مضارع باترت فنقل فوصف به. وله نظائر. فهذا حديث فعل. وأما فعل فدون فعل أيضاً. وذلك أنه كثيراً ما يعدل عن أصول كلامهم نحو عمر وزفر وجشم وقثم وثعل وزحل. فلما كان كذلك لم يتمكن عندهم تمكن فعل الذي ليس معدولا. ويدلك على انحراف فعل عن بقية الأمثلة الثلاثية غير ذوات الزيادة انحرافهم بتكسيره عن جمهور تكاسيرها. وذلك نحو جعلٍ وجعلان وصرد وصردان ونغر ونغران وسلك وسلكان فاطراد هذا في فعل مع عزته في غيرها يدلك على أن له فيه خاصية انفرد بها وعدل عن نظائره إليها. نعم وقد ذهب أبو العباس إلى أنه كأنه منقوص من فعالٍ. واستدل على ذلك باستمراره علىفعلان قال: فجرذان وصردان في بابه كغراب وغربان وعقاب وعقبان. وإذا كان كذلك ففيه تقوية لما نحن عليه ألا ترى أن فعُالأ أيضاً مثال قد يؤلف العدل نحو أحاد وثناء وثلاث ورباع. وكذلك إلى عشار قال: ولم يستريثوك حتى علو ت فوق الرجال خصالا عشارا ومما يسال عنه من هذا الباب كثرة الواو فاءً وقلة الياء هناك. وذلك نحو وعد ووزن وورد ووقع ووضع ووفد على قلة باب يمن ويسر. وذلك أن سبب كثرة الواو هناك أنك قادر متى انضمت أو انكسرت أن تقلبها همزة. وذلك نحو أعد وأجوهٍ وأرقة واصلة وإسادة وإفادة. وإذا تغير الحرف الثقيل فكان تارة كذا وأخرى كذا كان أمثل من أن يلزم محجة واحدة. والياء إذا وقعت أولا و انضمت أو انكسرت لم تقلب همزة ولا غيرها. فإن قلت فقد قالوا: باهلة بن أعصر ويعصر وقالوا: طاف والركب بصحراء يسر قيل: أما أعصر فهمزته هي الأصل والياء في يعصر بدل منها. يدل على هذا أنه إنما بذلك لبيت قاله وهو: أبني إن أباك شيب رأسه كر الليالي واختلاف الأعصر فالياء في يعصر إذاً بدل من همزة أعصر. وهذا ضد ما أردته وبخلاف ما توهمته. وأما أسر ويسر فأصلان كل واحد منهما قائم بنفسه كيتن وأتن وألملم ويلملم. وأما أديه ويديه فلعمري إن الهمزة فيه بدل من الياء بدلالة يديت إليه وأيدٍ ويدي ونحو ذلك لكنه ليس البدل من ضرب إبدال الواو همزة. وذلك أن الياء مفتوحة والواو إذا كانت مفتوحة شذ فيها البدل نحو أناة وأجم. فإذا كان هذا حديث الواو التي يطرد إبدالها فالياء حرى ألا يكون البدل فيها إلا لضرب من الاتساع وليس طريقه الاستخفاف والاستثقال. فإن قلت: فالهمزة على كل حال أثقل من الواو فكيف عدل عن الأثقل إلى ما هو أثقل منه. قيل الهمزة وإن كانت أثقل من الواو على الإطلاق فإن إذا انضمت كانت أثقل من الهمزة لأنه ضمتها تزيدها ثقلا. فأما إسادة فإن الكسرة فيهما محمولة على الضمة في أقنت فلذلك قل نحو إسادة وكثر نحو أجوه وأرقة حتى أنهم قالوا في الوجنة: الأجنة فأبدلوها مع الضمة البتة ولم يقولوا: وجنة. وأيضاً فإن الواو إذا وقعت بين ياء وكسرة في نحو يعد ويرد ويرد حذفت والياء ليست كذلك ألا ترى إلى صحتها في نحو ييعر وييسر وكأنهم إنما استكثروا مما هو معرض تارة للقلب. أخرى للحذف وهذا غير موجود في الياء. فلذلك قلت بحيث كثرت الواو. فإن قلت: فقد كثر عنهم توالي الكسرتين في نحو سدراتٍ وكسراتٍ وعجلاتٍ. قيل: هذا إنما احتمل لمكان الألف والتاء كما احتمل لها صحة الواو في نحو خطوات وخطوات. ولأجل ذلك ما أجاز في جمع ذيت إذا سميت بها ذياتٍ بتخفيف الياء وإن كان يبقى معك من الاسم حرفان والثاني منهما حرف لين. ولأجل ذلك ما صح في لغة هذيل قولهم: جوزات وبيضات لما كان التحريك أمرا عرض مع تاء جماعة المؤنث قال: أبو بيضات رائح متأوب رفيق بمسح المنكبين سبوح فهذا طريق من الجواب عما تقدم من السؤال في هذا الباب. وإن شئت سلكت فيه مذهب الكتاب فقلت: كثر فعل وقل فعل وكثرت الواو فاء وقلت الياء هنالك لئلا يكثر في كلامهم ما يستثقلون. ولعمري إن هذه محافلة في الجواب وربما أتعبت وترامت ألا ترى أن لقائل أن يقول: فإذا كان الأمر كذلك فهلا كثر أخف الأثقلين لاأثقلهما فكان يكون أقيس المذهبين لا أضعفهما. وكذلك قولهم: سرت سوورا وغارت عينه غوورا وحال عن العهد حوولا هذا مع عزة باب سوك الإسحل وفي غوور وسوور فضل واو وهي فعول. وجواب هذا أن الواو وإن زادت في عدة المعتد فإن الصوت أيضاً بلينها يلذ وينعم ألا ترى أن غوورا وحوولا وإن كان أطول من سوك وسور فإنه ليس فيه قلق سوك وسور فتوالي الضمتين مع الواو غير موف لك بلين الواو المنعمة للصوت. يدل على ذلك أنهم إذا أضافوا إلى نحو أسيد حذفوا الياء المحركة فقالوا: أسيدي كراهية لتقارب أربع ياءات فإذا أضافوا إلى نحو مهييم لم يحذفوا فقالوا مهييمي فقاربوا بين خمس ياءات لما مطل الصوت فلان بياء المد. وهذا واضح. فمذهب الكتاب - على شرفه وعلو طريقته - يدخل عليه هذا. وما قدمناه نحن فيه لا يكاد يعرض شيء من هذا الدخل له. فاعرفه وقسه وتأت له ولا تحرج صدرا به. باب القول على فوائت الكتاب اعلم أن الأمثلة المأخوذة على صاحبه سنذكرها ونقول فيها ما يدحض عنه ظاهر معرتها لو صحت عليه. ولو لم تكن فيها حيلة تدرأ شناعة إخلاله بها عنه لكانت معلاة له لا مزراة عليه وشاهدة بفضله ونقص المتتبع له بها لا نقصه إن كان أوردها مريداً بها حط رتبته والغض من فضيلته. وذلك لكلفة هذا الأمر وبعد أطرافه وإيعار أكنافه أن يحاط بها أو يشتمل تحجر عليها. وإن إنساناً أحاط بقاصي هذه اللغات المنتشرة وتحجر أذراءها المترامية على سعة البلاد وتعادي ألسنتها اللداد وكثرة التواضع بين أهليها من حاضر وباد حتى اغترق جميع كلام الصرحاء والهجناء والعبيد والإماء في أطرار الأرض ذات الطول والعرض ما بين منثور إلى منظومٍ ومخطوب به إلى مسجوع حتى لغات الرعاة الأجلاف والواعي ذوات صرار الأخلاف وعقلائهم والمدخولين وهذاتهم الموسوسين في جدهم وهزلهم وحربهم وسلمهم وتغاير الأحوال عليهم فلم يخلل من جميع ذلك - على سعته وانبثاثه وتناشره واختلافه - إلآ بأحرف تافهة المقدار متهافتةٍ على البحث والاعتبار - ولعلها أو أكثرها مأخوذة عمن فسدت ولنذكر ما أورد عليه معقباً به ولنقل فيه ما يحضرنا من إماطة الفحش به عنه بإذن الله. ذكر الأمثلة الفائتة للكتاب وهي: تلقامة وتلعابة فِرناس فُرانس تنوفى ترجمان شحم أمهج مهوأن عياهم ترامز وتماضر ينابعات دحندح عفرين ترعاية الصنبر زيتون ميسون كذبذب وكذبذب هزنبزان عفزران هديكر هندلع درداقس خزرانق شمنصير مؤقٍ مأقٍ جبروة مسكين منديل حوريت ترقؤة خلبوت حيوت سمرطول قرعبلانة عقربان مألك إصري إزلزل إصبع خرفع زئبر ضئبل خرنباش زرنوق صعفوق كنادر الماطرون خزعال قسطال ويلمة فرنوس سراوع ضهيد عتيد الحبليل الأربعاوى مقبئن يرنأ تعفرت. أما تلقامة وتلعابة فإنه وإن لم يذكر ذلك في الصفات فقد ذكر في المصادر تفعّلت تِعِفّالاً نحو تحملت تِحمالاً ومثله تقربت تِقراباً. ولو أردت الواحدة من هذا لوجب أن تكون تِحمالة. فإذا ذكر تفعالاً فكأنه قد ذكره بالهاء. وذلك لأن الهاء زائدة أبداً في تقدير الانفصال على غالب الأمر. وعلى الجملة فإن هذه الفوائت عند أكثر الناس إذا فحص عن حالها وتؤملت حق تأملها فمنها ما ليس قائله فصيحاً عنده. ومنها لم يسمع إلا في الشعر. والشعر موضع إضطرار وموقف اعتذار. وكثيراً ما يحرف فيه الكلم عن أبنيته وتحال فيه المثل عن أوضاع صيغها لأجله ألا ترى قوله: أبوك عطاء ألأم الناس كلهم يريد عطية. وقالت امرأة ترثي ابناً لها يقال له حازوق: أقلب طرفي في الفوارس لا أرى حزاقاً وعيني كالحجاة من القطر وأمثاله كثيرة. وقد ذكرناها في فصل التحريف. ومنها ما هو لازم له. وعلى أنا قد قلنا في ذلك ودللنا به على أنه من مناقب هذا الرجل ومحاسنه: أن يستدرك عليه من هذه اللغة الفائضة السائرة المنتشرة ما هذا قدره وهذه حال محصوله. وليس لقائل أن يدعى أن تِلِقامة وتلعابة في الأصل المرة الواحدة ثم وصف بها على حد ما يقال في المصدر يوصف به نحو قول الله سبحانه: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} أي غائراً ونحو قولها: فإنما هي إقبالٌ وإدبار وما كان مثله من قبل أن من وصف بالمصدر فقال: هذا رجل زور وصوم ونحو ذلك فإنما ساغ ذلك لأنه أراد المبالغة وأن يجعله هو نفسه الحدث لكثرة ذلك منه والمرة الواحدة هي أقل القليل من ذلك الفعل فلا يجوز أن يريد معنى غاية الكثرة فيأتي لذلك بلفظ غاية القلة. ولذلك لم يجيزوا: زيد إقبالة وإدبارة قياساً على زيد إقبال وإدبار. فعلى هذا لا يجوز أن يكون قولهم: تِلِقامة على حد قولك: هذا رجل صوم لكن الهاء فيه كالهاء في علامة ونسابة للمبالغة. وإذا كان كذلك فإنه قد كاد يفارق مذهب الصفة ألا ترى أن من شرط الصفة أن تطابق موصوفها في تذكيره وتأنيثه فوصف المذكر بالمؤنث ووصف المؤنث بالمذكر ليس متمكناً في الوصف تمكن وصف المونث بالمؤنث والمذكر بالمذكر. فقولك إذاً: هذا رجل عليم أمكن في الوصف من قولك: هذا رجل علامة كما أن قولك: مررت بامرأة كافرة أمكن في الوصف من قولك: مررت بامرأة كفور. وإذا كان كذلك جرى تِلِقامة من قولك مررت برجل تلقامة نحواً من مجرى مررت بنسوة أربع في أن أربعاً ليس بوصف متمكن ولذلك صرفته وإن كان صفة وصف على أفعل. فكأن تلقامة بعد ذلك كله اسم لا صفة وإذا كان اسما أو كالاسم سقط الاعتذار منه لأن سيبويه قد ذكر في المصادر تفعّلت تِفِعالاً فإذا ذكره أغنى عن ذكره في الأبنية ولم يجز لقائل أن يذكره مثالاً معتداً عليه. كما أن ترعاية في الصفات تسقط عنه أيضاً من هذا الوجه ألا تراه صفة مؤنثة جرت على موصوف مذكر فأوحش ذلك منها في الوصف وجرى لذلك مجرى: مررت برجال أربعة في أن أربعة ليس وصفاً محضاً وإنما هو اسم عدد بمنزلة نسوة أربع كما أن أربعة لما لم يخص المؤنث دون المذكر جرى لذلك مجرى الاسم فلذلك قالوا في جمعه: ربعات فحركوا كما يحركون الاسم نحو قصعات. وإذا كان كذلك سقط عنه أيضاً أن لم يذكر تِفِعالا في الصفة. وكذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم ناقة تضراب لأنها لما كانت صفة مذكرة جارية على مؤنث لم تستحكم في الصفة. وأما فِرناس فقد ذكره في الأبنية في آخر ما لحقته الألف رابعة مع غيرها من الزوائد. وأما فُرانس فلعمري إنه لم يذكره. وظاهر أمره أنه فُعانل من لفظ الفرس قال: أأن رأيت أسداً فرانساً الوجه كرهاً والحبين عابسا وأما تنوفى فمختلف في أمرها. وأكثر أحوالها ضعف روايتها والاختلاف الواقع في لفظها. وإنما رواها السكري وحده. وأسندها إلى امرىء القيس في قوله: كأن دثاراً حلقت بلبونه عقاب تنوفى لا عقاب الفواعل والذي رويته عن أحمد بن يحيى: وقال القواعل إكام حولها وقال أبو حاتم: هي ثنية طيىء وهي مرتفعة. وكذا رواها ابن الأعرابي وأبو عمرو الشيباني. ورواية أبي عبيدة: تنوفى. وأنا أرى أن تنوف ليست فعولاً بل هي تفعل من النوف وهو الارتفاع. سميت بذلك لعلوها. ومنه أناف على الشيء إذا ارتفع عليه والنيف في العدد من هذا هو فَيعَل بمنزلة صيب وميت. ولو كسرت النيف على مذهب أبي الحسن لقلت: نياوف فأظهرت عينه. فتنوف - في أنه علم على تفعل - بمنزلة يشكر ويعصر. وقلت مرة لأبي علي - وهذا الموضع يقرأ عليه من كتاب أصول أبي بكر رحمه الله -: يجوز أن يكون تنوفى مقصورة من تنوفاء بمنزلة بروكاء فسمع ذلك وعرف صحته. وكذلك القول عندي في مسولي في بيت المرار: فأصبحت مهموماً كأن مطيتي بجنب مسولي أو بوجرة ظالع ينبغي أن تكون مقصورة من مسولاء بمنزلة جلولاء. فإن قلت: فإنا لم نسمع بتنوفى ولا مسولى ممدودين ولو كانا أو أحدهما ممدوداً لخرج ذلك إلى الاستعمال. قيل: ولم يكثر أيضاً استعمال هذين الاسمين وإنما جاءا في هذين الموضعين. بل لو كثر استعمالها مقصورين لصح ما أردته ولزم ما أوردته فإنه يجوز أن يكون ألف تنوفى إشباعاً للفتحة لا سيما وقد رويناه تنوف مفتوحاً كما ترى وتكون هذه الألف ملحقة مع الإشباع لإقامة الوزن ألا تراها مقابلة لياء مفاعيلن كما أن الألف في قوله: ينباع من ذفرى غضوب جسرة إنما هي إشباع للفتحة طلباً لإقامة الوزن ألا ترى أنه لو قال: ينبع من ذفرى لصح الوزن إلا أن فيه زحافاً هو الخزل كما أنه لو قال: تنوف لكان الجزء مقبوضاً. فالإشباع إذاً في الموضعين إنما هو مخافة الزحاف الذي مثله جائز. وأما ترجمان فقد حكى فيه ترجمان بضم أوله. ومثاله فُعلُلان كعُترُفان ودُحمُسان وكذلك التاء أيضاً فيمن فتحها أصليةٌ وإن لم يكن في الكلام مثال جعفر لأنه قد يجوز مع الألف والنون من الأمثلة ما لولاهما لم يجز. ومن ذلك عُنفُوان ألا ترى أنه ليس في الكلام فُعلُوٌ. وكذلك خِنظِيان لأنه ليس في الكلام فِعلِيٌ إلا بالهاء نحو حِدرِية وعِفرِية كما أنه ليس فيه فُعلُو إلا بالهاء نحو عُنصُوة. وكذلك الريهقان لأنه ليس في الكلام فَيعُل. ونظير ذلك كثير. فكذلك يكون ترجمان فَعلُلاناً وإن لم يكن في الكلام فَعلُل ومثله قوله: وما أيبلىٌ على هيكلٍ هو فَيعُلي لأنه قد يجىء مع ياءي الإضافة ما لولاهما لم يجىء نحو قولهم: تحوى في الإضافة إلى تحية وهو تفلى. وأما شحم أمهج فلعمري إن سيبويه قد حظر في الصفة أفعل. وقد يمكن أن يكون محذوفاً من أمهوج كأسكوب. وجدت بخط أبي علي عن الفراء: لبن أمهوج. فيكون أمهج هذا مقصوراً منه لضرورة الشعر وأنشد أبو زيد: يطعمها اللحم وشحماً أمهجا ولم نسمعه في النثر أمهجا. وقد يقال: لبن أمهجان وماهج قال هميان بن قحافة: وعرضوا المجلس محضا ماهجا ويروى: وأروت المجلس وكنت قلت لأبي علي - رحمه الله - وقت القراءة: يكون أمهج محذوفاً من أمهوج فقبل ذلك ولم يأبه. وقد يجوز أن يكون أمهج في الأصل اسماً غير صفة إلا أنه وصف به لما فيه من معنى الصفاء والرقة كما يوصف بالأسماء الضامنة لمعاني الأوصاف كما أنشد أبو عثمان من قول الراجز: مئبرة العرقوب إشفى المرفق فلولا الله والمهر المفدى لرحت وأنت غربال الإهاب فهذا كقولك: وأنت مخرق الإهاب وله نظائر. وأما مهوأن ففائت للكتاب. وذهب بعضهم إلى أنه بمنزلة مطمأن. وهذا سهو ظاهر. وذلك لأن الواو لا تكون أصلاً في ذوات الأربعة إلا عن تضعيف. فأما ورنتل فشاذ. فمهوأن إذاً مفوعل. كأنه جارٍ على اهوأن. وقد قالوا: اكوهد واقوهد وهو افوعل ونحوه قول الهذلي: فشايع وسط ذودك مقبئناً لتحسب سيداً ضبعاً تبول مقبئناً: منصباً. فهذا مفعلل كما ترى. وشبه هذا المجوز لأن يكون مهوأن بمنزلة مطمأن الواو فيه بالواو في غوغاء وضوضاء وليس هذا من خطأ أهل الصناعة لأن غوغاء وضوضاء من ذوات تضعيف الواو بمنزلة ضوضيت وقوقيت. وقد يجوز من وجه آخر أن يكون واو مهوأن أصلاً. وذلك بأن يكون سيبويه قد سأل جماعة من الفصحاء عن تحقير مهوأن على الترخيم فحذفوا الميم وإحدى النونين ولم يحذفوا الواو البتة مع حذفهم واو كوثر على الترخيم في قولهم: كثير وحذفهم واو جدول وقولهم: جديل وامتنعوا من حذف واو مهوأن فقطع سيبويه بأنها أصل فلم يذكره. وإذا كان هذا جائزاً وعلى مذهب إحسان الظن به سائغاً كان فيه نصرة له و تجميل لأثره فاعرفه فتكون الواو مثلها في ورنتلٍ. وكذلك يمكن أن يحتج بنحو هذا في فرانسٍ وكنادر فتكون النون فيهما أصلاً. وأما عياهم فحاكيه صاحب العين وهو مجهول. وذاكرت أبا علي - رحمه الله - يوماً بهذا الكتاب فأساء نثاه. فقلت له: إن تصنيفه أصح وأمثل من تصنيف الجمهرة فقال: الساعة لو صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفاً جيداً أكانت تعتد عربية لجودة تصنيفها أو كلاهما هذا نحوه. وعلى أن صاحب العين أيضاً إنما قال فيها: وقال بعضهم: عياهمة وعياهم كعذافرة وعذافر. فإن صح فهو فُياعل ملحق بعذافر وقلت فيه لأبي علي: يجوز أن تكون العين فيه بدلاً من همزة كأنه أياهم كأباتر وأحامر فقبل ذلك. وأما تماضر وترامز فذهب أبو بكر إلى أن التاء فيهما زائدة. ولا وجه لذلك لأنها في موضع عين عذافر فهذا يقضى بكونها أصلاً وليس معنا اشتقاق فيقطع بزيادتها. قال أبو زيد: وهو الجمل القوي الشديد وأنشد: إذا أردت طلب المفاوز فاعمد لكل بازلٍ ترامز وذهب بعضهم في تماضر إلى أنه تُفاعل وأنه فعل منقول: كيزيد وتغلب. ولا حاجة به إلى ذلك بل تماضر رباعي وتاؤه فاء كترامز. فإن توهم ذلك لامتناع صرفه في قوله: فليس شيئا لأن تماضر علم مؤنث وهو اسم الخنساء الشاعرة. وإنما منع الصرف لاجتماع التأنيث والتعريف كامرأة سميتها بعذافر وعماهج. وهذا واضح. وأما ينابعات فما أظرف أبا بكر أن أورده على أنه أحد الفوائت! ألا يعلم أن سيبويه قد قال: ويكون على يفاعل نحو اليحامد واليرامع. فأما لحاق علم التأنيث والجمع به فزائد على المثال وغير محتسب به فيه وإن رواه راوٍ ينابعات فينابع يفاعل كيضارب ويقاتل نقل وجمع. وأما دحندح فإنه صوتان: الأول منهما منون: دحٍ والآخر منهما غير منون: دح وكأن الأول نون للوصل. ويؤكد ذلك قولهم في معناه: دح دح فهذا كصهٍ صهٍ في النكرة وصه صه في المعرفة. فظنته الرواة كلمة واحدة. ومن هنا قلنا: إن صاحب اللغة إن لم يكن له نظر أحال كثيراً منها وهو يرى أنه على صواب. ولم يؤت من أمانته وإنما أتي من معرفته. ونحو هذا الشاهد إذا لم يكن فقيها: يشهد بما لا يعلم وهو يرى أنه يعلم. ولذلك ما استد عندنا أبو عمرو الشيباني. لملازمته ليونس وأخذه عنه. ومعنى هذه الكلمة فيما ذكر محمد بن الحسن أبو بكر: قد أقررت فاسكت وذكر محمد بن حبيب أن دحندح دويبة صغيرة: يقال: هو أهون علي من دحندح ومثل هذين الصوتين عندي قول الآخر: إن الدقيق يلتوى بالجنبخ حتى يقول بطنه جخٍ جخ وأما عفرين فقد ذكر سيبويه فعلا كطمر وحبر. فكأنه ألحق علم الجمع كالبرحين والفتكرين. إلا أن بينهما فرقاً. وذلك أن هذا يقال فيه: البرحون والفتكرون ولم يسمع في عفرين الواو. وجواب هذا أنه لم يسمع عفرين في الرفع يالياء وإنما سمع في موضع الجر وهو قولهم: ليث عفرين. فيجب أن يقال فيه في الرفع: هذا عفرون. لكن لو سمع في موضع الرفع بالياء لكان أشبه بأن يكون فيه النظر. فأما وهو في موضع الجر فلا يستنكر فيه الياء. وأما ترعاية فقد قيل فيه أيضا: رجل ترعية وترعاية. وكان أبو علي صنع ترعاية فقال: أصلها ترعية ثم أبدلت الياء الأولى للتخفيف ألفا كقولهم في الحيرة: حارى. وإذا كان ذاك أمرا محتملا لم يقطع بيقين على أنه مثال فائت في الصفات. ولكن قد حكى الأصمعي: ناقة تضراب إذا ضربها الفحل. فظاهر هذا أنه تفعال في الصفة كما ترى. وقد ذكرنا ما فيه في أول الباب. وأما الصنبر فقد كنت قلت فيه في هذا الكتاب في قول طرفة: بجفان تعترى نادينا وسديف حين هاج الصنبر ما قد مضى وإنه يرجع بالصنعة إلى أنه من نحو مررت ببكر. وذهب بعضهم إلى أنه كسر الباء لسكونها وسكون الراء. وفيه ضعف. وذلك أن الساكنين إذا التقيا من كلمة واحدة حرك الآخر منهما نحو أمس وجير وأين وسوف ورب. وإنما يحرك الأول منهما إذا كانا من فإن قلت: فالوزن اقتضى تحريك الأول قيل: أجل إلا أنه لم يقتضك فساد الاعتلال. فإذا قلت ما قلنا نحن في هذا فيما مضى من كتابنا سلم على يديك وثلج به صدرك إن شاء الله. فإن قلت: فقد قالوا في الوقف: ضربته. قيل: هذا أمر يخص تاء التأنيث رغبة في الكسرة الدالة على التأنيث. وأيضاً فإن التاء آخر الكلمة والهاء زائدة من بعدها ليست منها. وكذلك القول في ادعه واغزه ألا ترى أن الهاء زائدة من بعد الكلمة. وعلى أنه قد يجوز أن تكون الكسرة فيهما إنما هي على حد قولك: ادع واغز ثم لحقت الهاء. ونحوه ما أنشده أبو سهل أحمد بن زياد القطان: كأن ريح دبرات خمس وظربانا بينهن يفسى ريح ثناياها بعيد النعس أراد: يفسو ثم حذف الواو استخفافا وأسكن السين والفاء قبلها ساكنة فكسر السين لالتقائهما ثم أشبع للإطلاق فقال: يفسى. فاعرف ذلك. وأما هزنبزان وعفزران فقد ذكرا في بعض نسخ الكتاب. والهزنبزان السيء الخلق قال: لقد منيت بهزنبران لقد نسيت غفل الزمان وعفزران: اسم رجل. وقد يجوز أن يكون أصله: عفزر كشعلع وعديس ثم ثنى وسمى به وجعلت النون حرف إعراب كما حكى أبو الحسن عنهم في اسم رجل: خليلان. وكذلك أيضاً ذهب في قوله: ألا يا ديار الحي بالسبعان إلى أنه تثنية سبع وجعل النون حرف إعراب. وليس لك مثل هذا التأويل في هزنبزان لأنه نكرة وصفة للواحد. وهذا يبعده عن العلمية والتثنية. وأما هديكر فقال أبو علي: سألت محمد بن الحسن عن الهيدكر فقال: لا أعرفه وأعرف الهيدكور. قال أبو بكر: وإن سمع فلا يمتنع. هذا حديث الهيدكر وأما الهديكر فغير محفوظ عنهم وأظنه من تحريف النقلة ألا ترى إلى بيت طرفة: فهى بداء إذا ما أقبلت فخمة الجسم رداح هيدكر وكأن الواو حذفت من هيدكور ضرورة. فإذا جاز أن تحذف الواو الأصلية لذلك في قول الأسود بن يعفر. فألحقت أخراهم طريق ألاهم كان حذف الزيادة أولى. ويقال: تهدكرت المرأة تهدكرا في مشيها. وذلك إذا ترجرجت. وأما زيتون فأمره واضح وأنه فعلون ومثال فائت. والعجب أنه في القرآن وعلى أفواه الناس للاستعمال. وقد كان بعضهم قد تجشم أن أخذه من الزتن وإن كان أصلا مماتا فجعله فيعولا. وصاحب هذا القول ابن كيسان أو ابن دريد: أحد الرجلين. ومثل زيتون - عندي - ميسون بنت بحدل الكلبية أم يزيد بن معاوية. وكان سمعها تهجوه فقال لها: الحقي بأهلك. وأما قيطون فإنه فيعول من قطنت بالمكان لأنه بيت في جوف بيت. وأما الهندلع فبقلة وقيل: إنها غريبة ولا تنبت في كل سنة. وما كانت هذه سبيله كان الإخلال بذكره قدرا مسموحا به ومعفوا عنه. وإذا صح أنه من كلامهم فيجب أن تكون نونه زائدة لأنه لا أصل بإزائها فتقابله. فهى إذا كنون كنتأل. ومثال الكلمة على هذا: فنعلل. ومن ادعى أنها أصل وأن الكلمة بها خماسية فلا دلالة له ولا برهان معه. ولا فرق بين أن يدعى أصلية هذه النون وبين ادعائه أصلية نون كنتأل وكنهبل. وأما كذبذب خفيفا وكذبذب ثقيلا ففائتان. ونحوهما ما رويته عن بعض أصحابنا من قول بعضهم: ذرحرح في هذا الذرحرح بفتح الرائين أنشد أبو زيد: وإذا أتاك بأنني قد بعتها بوصال غانية فقل كذبذب ولسنا نعرف كلمة فيها ثلاث عينات غير كذبذب وذرحرح. وقد أنشد بعض البغدادين قول الشاعر: بات يقاسي ليلهن زمام والفقعسي حاتم بن همام مسترعفات ليصللخم سام اللام الأولى هي الزائدة هنا لأنه لا يلتقي عينان إلا والأولى ساكنة وهذا مصنوع للضرورة يريد: لصلخم فاحتاج لإقامة الوزن فزاد على العينين أخرى فصار من فعل إلى فععل. وأما الدرداقس فقيل فيه: إنه أعجمي وقال الأصمعي: أحسبه روميا وهو طرف العظم الناتئ فوق القفا. وأنشد أبو زيد: من زل عن قصد السبيل تزايلت بالسيف هامته عن الدرداقس وكذلك الخزرانق أعجمي أيضا. وهو فارسي يعنى به ضرب من ثياب الديباج. ويجب أن تكون نونه زائدة إن كان الدرداقس أعجميا. فإن كان عربيا فيجب أن تكون نونه أصلا لمقابلتها قاف درداقس العربي. وأما شمنصير ففائت أيضا إن كان عربيا. قال الهذلي: لعلك هالك إما غلام تبوأ من شمنصير مقاما وأما مؤقٍ فظاهر أمره أنه فعلٍ وفائت. وقد يجوز أن يكون مخففاً من فعلي كأنه في الأصل مؤقي بمعنى مؤقٍ وزيدت الياء لا للنسب بل كزيادتها في كرسي وإن كانت في كرسي لازمة وفي مؤقي غير لازمة لقولهم فيه: مؤقٍ. لكنها في أحمري وأشقري غير لازمة. وأنشدنا أبو علي: كان حداء قراقريا يريد قراقرا وأنشدنا أيضاً للعجاج: غضف طواها لأمس كلابي أي كلاب يعنى صاحب كلاب وأنشدنا أيضاً له: والدهر بالإنسان دواري أي دوار إلا أن زيادة هذه الياء في الصفة أكثر منها في الاسم لأن الغرض فيها توكيد الوصف. ومثل مؤقٍ في هذه القضية ما رواه الفراء من قول بعضهم فيه: ماقٍ. فيجب أيضاً أن يكون مخففاً من ثقيله. وأما ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: يا من العين لم تذق تغميضا وماقيين اكتحلا مضيضا فمقلوب. وذلك أنه أراد من المأق مثال فاعل فكان قياسه ماق إلا أنه قد قلبه إلى فالع فصار: مأقٍ بمنزلة شاكٍ ولاثٍ في شائك ولائث. ومثله قوله: وأمنع عرسي أن يزن بها الخالى أراد: الخائل: فاعلا من الخيلاء. وجبروة من قبل الكوفيين. وهو فائت. ومثاله فعلوة. وأما مسكين ومنديل فرواهما اللحياني. وذاكرت يوماً أبا علي بنوادره فقال: كناش. وكان أبو بكر - رحمه الله - يقول: إن كتابه لا تصله به رواية قدحاً فيه وغضاً منه. وأما حوريت فدخلت يوماً على أبي علي - رحمه الله - فحين رأنى قال: أين أنت! أنا أطلبك. قلت: وما هو قال: ما تقول في حوريت فخضنا فيه فرأيناه خارجاً عن الكتاب. وصانع أبو علي عنه بأنه قال: إنه ليس من لغة ابني نزار فأقل الحفل به لذلك. وأقرب ما ينسب إليه أن يكون فعليتا قريباً من عفريت. ونحوه ما أخبرنا به أبو علي من قول بعضهم في الخلبوت: الخلبوت وأنشد: ويأكل الحية والحيوتا وهو ذكر الحيات فهذان فعلوت. وأما ترقؤة فبادي أمرها أنها فائتة لكونها فعلؤة. ورويناها عن قطرب وذكر أنها لغة لبعض عكل. ووجه القول عليها - عندي - أن تكون مما همز من غير المهموز بمنزلة استلأمت الحجر واستنشأت الرائحة - وقد ذكرنا ذلك في بابه - وأصلها ترقوة ثم همزت على ما قلناه. وأما سمرطول فأظنه تحريف سمرطول بمنزلة عضرفوط ولم نسمعه في نثر. قال: على سمرطولٍ نيافٍ شعشع وإذا استكرهوا في الشعر لإقامة الوزن خلطوا فيه قال: بسحبل الدفين عيسجور أراد سبحلا فغير كما ترى. وله نظائر قد ذكرت في باب التحريف. وقرعبلانة كأنها قرعبل ولا اعتداد بالألف والنون وما بعدهما. ويدلك على إقلالهم الحفل بهما ادغامهم الإمدان كما يدغم أفعل من المضاعف نحو أرد وأشد ولو كانت الألف والنون معتدة لخرج بهما المثال عن وزن الفعل فوجب إظهاره كما يظهر ما خرج عن مثاله نحو حضض وسُرر وسَرر. وعلى أن هذه اللفظة لم تسمع إلا من كتاب العين. وهي - فيما ذكر - دويبة. وفيه وجه آخر. وهو أن الألف والنون قد عاقبتا تاء التأنيث وجرتا مجراها. وذلك في حذفهم لهما عند إرادة الجمع كما تحذف ألا تراهم قالوا في استخلاص الواحد من الجمع بالهاء وذلك شعير وشعيرة وتمر وتمرة وبط وبطة وسفرجل وسفرجلة. فكذلك انتزعوا الواحد من الجمع بالألف والنون أيضاً. وذلك قولهم: إنس فإذا أرادوا الواحد قالوا: إنسان وظرب فإذا أراد الواحد قالوا: ظربان قال: قبحتم يا ظربا مجحره وكذلك أيضاً حذفوا الألف والنون لياءي الإضافة كما حذف التاء لهما قالوا في خراسان: خراسي كما يقولون في خراشة: خراشي. وكسروا أيضاً الكلمة على حذفهما كما يكسرونها على حذف التاء. وذلك قولهم: كَروان وكِروان وشَقذان وشِقذان كما قالوا: بَرق وبِرقان وخرب خربان. فنظير هذا قولهم: نعمة وأنعم. وشدة وأشد عنده سيبويه. فهذا نظير ذئب وأذؤب وقطع وأقطع وضرس وأضرس قال: وقرعن نابك قرعة بالأضرس وقالوا أيضاً: رجل كذبذب وكذبذبان حتى كأنهما مثال واحد كما أن دماً ودمة وكوكباً وكوكبة مثال واحد. ومثله الشعشع والشعشان والهزنبر والهزنبران والفرعل والفرعلان. فلما تراسلت الألف والنون والتاء في هذه المواضع وغيرها جرتا مجرى المتعاقبتين فإذا التقتا في مثال واحد ترافعتا أحكامهما على ما قدمناه في ترافع الأحكام. فكذلك قرعبلانة لما اجتمعت عليه التاء مع الألف والنون ترافعتا أحكامهما فكأن لا تاء هناك ولا ألف ولا نوناً فبقى الاسم على هذا كأنه قرعبل. وذلك ما أردنا بيانه. فاعرفه. وأما عقربان مشدد الباء فلك فيه أمران: إن شئت قلت: إنه لا اعتداد بالألف والنون فيه - على ما مضى - فيبقى حينئذ كأنه عقرب بمنزلة قسقب وقسحب وطرطب. وإن شئت ذهبت مذهبا أصنع من هذا. وذلك أنه قد جرت الألف والنون من حيث ذكرنا في كثير من كلامهم مجرى ما ليس موجوداً على بيننا. وإذا كان كذلك كانت الباء لذلك كأنها حرف الإعراب وحرف الإعراب قد يلحقه التثقيل في الوقف نحو هذا خالد وهو يجعل. ثم إنه قد يطلق ويقر تثقيله عليه نحو الأضخما وعيهل. فكأن عقرباناً لذلك عقرب ثم لحقتها التثقيل لتصور معنى الوقف عليها عند اعتقاد حذف الألف و النون من بعدها فصارت كأنها عقرب ثم لحقها الألف والنون فبقي على تثقيله كما بقى الأضخما عند إطلاقه على تثقيله إذا أجرى الوصل مجرى الوقف فقيل: عقربان على ما شرحنا وأوضحنا. فتأمله ولا يجف عليك ولا تنب عنه فإن له نظيراً بل نظراء ألا تراهم قالوا في الواحد: سيد فإذا أرادوا الواحدة قالوا سيدانة فألحقوا علم التأنيث بعد الألف والنون وإنما يجب أن يلحق بعد حرف إعراب المذكر كذئب وذئبة وثعلب وثعلبة وقد ترى إلى قلة اعتدادهم بالألف والنون في سيدانة حتى كأنهم قالوا: سيدة. وهذا تناهٍ في إضعاف حكم الألف والنون. وقد قالوا: الفرعل والفرعلان والشعشع والشعشعان والصحصح والصحصحان بمعنى واحد فكأن اللفظ لم يتغير. ومثل التثقيل في الحشو لنية الوقف ما أنشده أبو زيد من قول الشاعر: غضٌ نجارى طيب عنصري فثقل الراء من عنصري وإن كانت الكلمة مضافة إلى مضمر. وهذا يحظر عليك الوقوف على الراء كما يثقلها في عنصر نفسه. ومثله أيضاً قول الآخر: ياليتها قد خرجت من فمه فثقل آخر الكلمة وهي مضافة إلى مضمر فكذلك حديث عقربان. فاعرفه فإنه غامض. وأما مألك فإنه أراد: مألكة فحذف الهاء ضرورة كما حذفها الآخر من قوله: إنا بنو عمكم لا أن نباعلكم لا نصالحكم إلا على ناح أراد: ناحية. وكذلك قوله الآخر: ليوم روع أو فعال مكرم أراد: مكرمة وقول الآخر: أراد: أي معونة فحذف التاء. وقد كثر حذفها في غير هذا. وأما أصرى فإن أبا العباس استدركها. وقال: وقد جاءت أيضا إصبع. وحدثنا أبو علي قال: قال إبراهيم الحربي: في إصبع وأنملة جميع ما يقول الناس. ووجدت بخط أبي علي: قال الفراء: لا يلتفت إلى ما رواه البصريون من قولهم: إصبع فإنا بحثنا عنها فلم نجدها. وقد حكيت أيضا: زئبر وضئبل وخرفع وجميع ذلك شاذ لا يلتفت إلى مثله لضعفه في القياس وقلته في الاستعمال. ووجه ضعف قياسه خروجك من كسر إلى ضم بناء لازما وليس بينهما إلا الساكن. ونحو منه ما رويناه عن قطرب من قول بعضهم في الأمر: اقتل اعبد. ونحو منه في الشذوذ عن الاستعمال قول بعضهم: إزلزل وهي كلمة تقال عند الزلزلة. وينبغي أن تكون من معناها وقريبة من لفظها ولا تكون من حروف الزلزلة. وإنما حكمنا بذلك لأنها لو كانت منها لكانت إفعلل فهو مع أنه مثال فائت فيه بلية من جهة أخرى. وذلك أن ذوات الأربعة لا تدركها الزيادة من أولها إلا في الأسماء الجارية على أفعالها نحو مدحرج وليس إزلزل من ذلك. فيجب أن تكون من لفظ الأزل ومعناه. ومثاله فعلعل نحو كذبذب فيما مضى. وأما مد المقصور وقصر الممدود والإشباع والتحريف فلا تعتد أصولا ولا تثبت بها مثل وقال: الفعلال لا يأتي إلا مضاعفا نحو القلقال والزلزال. وحكى الفراء: ناقة بها خزعال أي داء. وقال أوس: ولنعم مأوى المستضيف إذا دعا والخيل خارجة من القسطال وقد يمكن أن يكون أراد: القسطل فاحتاج فأشبع الفتحة على قوله: ينباع من ذفرى. وقد جاء في شعر ابن ذريح سراوع اسم مكان قال: عفا سرفٌ من أهله فسراوع وقالوا: جلس الأربعاوي. وجاء الفرنوس في أسماء الأسد. والحبليل: دويبة يموت فإذا أصابه المطرعاش. وقالوا: رجل ويلمة وويلم للداهية. وهذا خارج على الحكاية أي يقال له من دهائه: ويلمه ثم ألحقت الهاء للمبالغة كداهية ومنكرة. وقد رووا قوله: وجلنداء في عمان مقيما وإنما هو: جلندى مقصورا. وكذلك ما أنشده من قول رؤبة: حملوه على فيعل مما اعتلت عينه. وهو شاذ. وأوفق من هذا - عندي - أن يكون: فوعلا أو فعولا حتى لا يرتكب شذوذه. وكأن الذي سوغهم هذا ظاهر الأمر وأنه أيضا قد روى العين بكسر العين. وكذلك طيلسان مع الألف والنون: فيعل في الصحيح على أن الأصمعي قد أنكر كسر اللام. وذهب أحمد بن يحيى وابن دريد في يستعور إلى أنه يفتعول. وليس هذا من غلط أهل الصناعة. وكذلك ذهب ابن الأعرابي في يوم أرونانٍ إلى أنه أفوعال من الرنة وهذا كيستعورٍ في الفساد. ونحوه في الفساد قول أحمد بن يحيى في أسكفة: إنها من استكف وقوله في تواطخ القوم: إنه من الطيخ وهو الفساد. وقد قال أمية: إن الأنام رعايا الله كلهم هو السليطيط فوق الأرض مستطر ويروى السلطليط وكلاهما شاذ. وأما صعفوق فقيل: إنه أعجمي. وهم خول باليمامة قال العجاج: من آل صعفوقٍ وأتباعٍ أخر وقد جاء في شعر أمية بن أبي عائذ: مطاريح بالوعث مر الحشو ر هاجرن رماحه زيزفونا يعنى قوسا. وهي في ظاهر الأمر: فيفعول من الزفن لأنه ضرب من الحركة مع صوت. وقد يجوز أن يكون زيزفون رباعيا قريبا من لفظ الزفن. ومثله من الرباعي ديدبون. وأما الماطرون فذهب أبو الحسن إلى أنه رباعي. واستدل على ذلك بكسر النون مع الواو ولو كانت زائدة لتعذر ذلك فيها. ومثله الماجشون وهي ثياب مصبغة قال: طال ليلى وبت كالمحزون واعترتني الهموم بالماطرون وقال أمية الهذلي أيضا: ويخفى بفيحاء مغبرة تخال القتام به الماجشونا وينبغي أن يكون السقلاطون على هذا خماسيا لرفع النون وجرها مع الواو. وكذلك أيضا نون أطرنون قال: وإن يكن أطربون قطعها فإن فيها بحمد الله منتفعا والكلمة بها خماسية كعضرفوط. وضهيد: اسم موضع. ومثله عتيد. وكلاهما مصنوع. وقيل: الخرنباش: نبت طيب الريح قال: وقد يمكن أن يكون في الأصل خرنبش ثم أشيعت فتحته فصار: خرنباش. وحكى أبو عبيدة القهو باة. وقد قال سيبويه: ليس في الكلام فعولى. وقد يمكن أن يحتج له فيقال: قد يأتي مع الهاء ما لولا هي لما أتى نحو ترقوة وحذرية. وأنشد ابن الأعرابي: إن تك ذا بز فإن بزى سابغةٌ فوق وأي إوز قال أبو علي: لا يكون إوز من لفظ الوز لأنه قد قال: ليس في الكلام إفعل صفة. وقد يمكن - عندى - أن يكون وصف به لتضمنه معنى الشدة كقوله: لرحت وأنت غربال الإهاب وقد مضى ذكره. ويجوز أيضا أن يكون كقولك: مررت بقائمٍ رجلٍ. وقال أبو زيد: الزونك: اللحيم القصير الحياك في مشيه. زاك يزوك زوكانا. فهذا يدل على أنه فعنل. وقيل: الضفنط من الضفاطة وهو الرجل الضخم الرخو البطن. وأما زونزك فإنه فونعل فيجب أن يكونا من أصلين. وأما زوزى فإنه من مضاعف الواو. وهو فعلل كعدبس. وحكى أبو زيد زرنوق بفتح الزاى فهذا فعنول. وهو غريب. وجميع هذا شاذ. وقد تقدم في أول الباب وصف حاله ووضوح العذر في الإخلال به وقالوا: تعفرت الرجل. فهذا تفعلت. وقالوا: يرنأ لحيته إذا صبغها باليرنأ وهو الحناء وهذا يفعل في الماضي. وما أغربه وأظرفه.
باب في الجوار
وذلك في كلامهم على ضربين: أحدهما تجاور الألفاظ والآخر تجاور الأحوال. فاما تجاور الألفاظ فعلى ضربين: أحدهما في المتصل والآخر في المنفصل. فأما المتصل فمنه مجاورة العين للام بحملها على حكمها. وذلك قولهم في صوم: صيم ألا تراه قال: إنهم شبهوا باب صوم بباب عصى فقلبه بعضهم. ومثله قولهم في جوع: جيع قال: بادرت طبختها لرهط جيع وأنشدوا: لولا الإله ما سكنا خضما ولا ظللنا بالمشاء قيما وعليه ما أنشده محمد بن حبيب من قوله: بريذينة بل البراذين ثفرها وقد شربت من آخر الصيف أيلا أجاوز فيه أن يكون أراد: جمع لبن آئل أي خاثر من قولهم: آل اللبن يئول إذا خثر فقلبت العين حملا على قلب اللام كما تقدم. لحب لمؤقدان إلي مؤسى وقد ذكرنا أنه تصور الضمة - لمجاورتها الواو - أنها كأنها فيها فهمزها كما تهمز في أدؤرٍ والنؤور ونحو ذلك. وعليه أيضا أجازوا النقل لحركة الإعراب إلى ما قبلها في الوقف نحو هذا بكر ومررت ببكر ألا تراها لما جاورت اللام بكونها في العين صارت لذلك كأنها في اللام لم تفارقها. وكذلك أيضا قولهم: شابة ودابة صار فضل الاعتماد بالمد في الألف كأنه تحريك للحرف الأول المدغم حتى كأنه لذلك لم يجمع بين ساكنين. فهذا نحو من الحكم على جوار الحركة للحرف. ومن جوار المتصل استقباح الخليل نحو العقق مع الحمق مع المخترق. وذلك لأن هذه الحركات قبل الروى المقيد لما جاورته وكان الروى في أكثر الأمر وغالب العرف مطلقا لا مقيدا صارت الحركة قبله كأنها فيه فكاد يلحق ذلك بقبح الإقواء. وقد تقدم ذكر نحو هذا. وله نظائر. وأما الجوار في المنفصل فنحو ما ذهبت الكافة إليه في قولهم: هذا حجر ضب خرٍب وقول الحطيئة: فإياكم وحية بطن واد هموز الناب ليس لكم بسى كأن نسج العنكبوت المرمل وإنما صوابه المرملا وأما قوله: كبير أناس في بجاد مزمل فقد يكون أيضا على هذا النحو من الجوار. فأما عندنا نحن فإنه أراد: مزمل فيه فحذف حرف الجر فارتفع الضمير فاستتر في اسم المفعول. وقد ذكرنا هذا أيضا. وتجد في تجاور المنفصلين ما هو لاحق بقبيل المنفصل الذي أجرى مجرى المتصل في نحو قولهم: ها الله ذا أجروه في الادغام مجرى دابة وشابة ومنه قراءة بعضهم: { فلا تناجوا } و {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا} بإثبات الألف في ذا ولا. ومنه ما رأيته أنا في إنشاد أبي زيد: من أي يومى من الموت أفر أيوم لم يقدر أم يوم قدر أعنى فتح راء يقدر. وقد ذكرته. فهذا طريق تجاور الألفاظ وهو باب. وأما تجاور الأحوال فهو غريب. وذلك أنهم لتجاور الأزمنة ما يعمل في بعضها ظرفا ما لم يقع فيه من الفعل وإنما وقع فيما يليه نحو قولهم: أحسنت إليه إذا أطاعني وأنت لم تحسن إليه في أول وقت الطاعة وإنما أحسنت إليه في ثاني ذلك ألا ترى أن الإحسان مسبب عن الطاعة وهي كالعلة له ولا بد من تقدم وقت السبب على وقت المسبب كما لا بد من ذلك مع العلة. لكنه لما تقارب الزمانان وتجاورت الحالان في الطاعة والإحسان أو الطاعة واستحقاق الإحسان صارا كأنهما إنما وقعا في زمان واحد. ودليل ذلك أن لما من قولك: لما أطاعني أحسنت إليه إنما هي منصوبة بالإحسان وظرف له كقولك: أحسنت إليه وقت طاعته وأنت لم تحسن إليه لأول وقت الطاعة وإنما كان الإحسان في ثاني ذلك أو ما يليه ومن شرط الفعل إذا نصب ظرفا أن يكون واقعا فيه أو في بعضه كقولك: صمت يوما وسرت فرسخا وزرتك يوم الجمعة وجلست عندك. فكل واحد من هذه الأفعال واقع في الظرف الذي نصبه لا محالة ونحن نعلم أنه لم يحسن إليه إلا بعد أن أطاعه لكن لما كان الثاني مسببا عن الأول وتاليا له فاقتربت الحالان وتجاور الزمانان صار الإحسان كأنه إنما هو والطاعة في زمان واحد فعمل الإحسان في الزمان الذي يجاور وقته كما يعمل في الزمان الواقع فيه هو نفسه. فاعرفه. ومثله: لما شكرني زرته ولما استكفاني كفيته وزرته إذ استزارني وأثنيت عليه حين أعطاني وإذا أتيته رحب بي وكلما استنصرته نصرني أي كل وقت أستنصره فيه ينصرني وإنما ينصرك فيما بعد زمان الاستنصار. ويؤكد عندك حال إتباع الثاني للأول وأنه ليس معه في وقته دخول الفاء في هذا النحو من الكلام كقولك: إذا سألته فإنه يعطيني وإذا لقيته فإنه يبش بي. فدخول الفاء هنا أول دليل على التعقيب وأن الفعلين لم يقعا معا في زمان واحد. وقد ذكرنا هذا ليزداد القول به وضوحا وإن كان ما مضى كافيا. ولما اطرد هذا في كلامهم وكثر على ألسنتهم وفي استعمالهم تجاوزوه واتسعوا فيه إلى ما تناءت حالاه وتفاوت زماناه. وذلك كأن يقول رجل بمصر في رجل آخر بخراسان: لما ساءت حاله حسنتها ولما اختلت معيشته عمرتها. ولعله أن يكون بين هاتين الحالين السنة والسنتان. فإن قلت فلعل هذا مما اكتفى فيه بذكر السبب - وهو الاختلال - من ذكر المسبب عنه وهو المعرفة بذلك فيصير كأنه قال: لما عرفت اختلال حاله عمرتها. قيل: لو كان الأمر على ذلك لما عدوت ما كنا عليه ألا ترى أنه قد يعرف ذلك من حال صاحبه وهو معه في بلد واحد بل منزل واحد فيكون بين المعرفة بذلك والتغيير له الشهر والشهران والأكثر. فكيف بمن بينه وبينه الشقة الشاسعة المحتاجة إلى المدة المتراخية. فإن قيل: فيكون الثاني من هذا كالأول أيضا في الاكتفاء فيه بالمسبب من السبب أي لما عرفت ذلك فكرت في إصلاحه فاكتفى بالمسبب الذي هو العمارة من السبب الذي هو الفكر فيه قيل: هذا وإن كان مثله مما يجوز فإنه ترك للظاهر وإبعاد في المتناول. ومع هذا فإنك كيف تصرفت بك الحال إنما أوقعت الفكر في عمارة حاله بعد أن عرفت ذلك منها. فوقعت العمارة إذاً بعد وقت المعرفة. فإذا كان كذلك ركبت سمت الظاهر فغنيت به عن التطال والتطاول. وعلى هذا يتوجه عندى قول الله - سبحانه -: {وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وذلك أن تجعل إذ بدلا من قوله اليوم وإلا بقيت بلا ناصب. وجاز إبدال إذ - وهو ماض في الدنيا - من قوله: اليوم وهو حينئذ حاضر في الآخرة لما كان عدم الانتفاع بالاشتراك في العذاب إنما هو مسبب عن الظلم وكانت أيضا الآخرة تلى الدنيا بلا وقفة ولا فصل صار الوقتان على تباينهما وتنائيهما كالوقتين المقترنين الدانيين المتلاصقين نحو أحسنت إليه إذ شكرني وأعطيته حين سألني. وهذا أمر استقر بيني وبين أبي علي - رحمه الله - مع الباحثة. وقد يجوز أيضا أن تنصب اليوم بما دل عليه قوله تعالى: {مُشْتَرِكُونَ} فيصير معناه لا إعرابه: ولن ينفعكم إذ ظلمتم اشتراككم اليوم في العذاب فينتزع من معنى {مُشْتَرِكُونَ} ما يعمل في اليوم على حد قولنا في قوله - سبحانه - {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} في أحد الأقوال الثلاثة فيه وعلى قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} وإذ أنت فعلت هذا أيضا لم تخرج به من أن يكون إذ ظلمتم في اللفظ معمولا لقوله لن ينفعكم لما ذكرنا من الجوار وتلو الآخرة الأولى بلا فصل. وكأنه إنما جاء هذا النحو في الأزمنة دون الأمكنة من حيث كان كل جزء من الزمان لا يجتمع مع جزء آخر منه إنما يلي الثاني الأول خالفا له وعوضا منه. ولهذا قيل - عندى - للدهر عوض - وقد ذكرت هذا في كتابي في التعاقب - فصار الوقتان كأنهما واحد وليس كذلك المكان لأن المكانين يوجدان في الوقت الواحد بل في أوقات كثيرة غير منقضية. فلما كان المكانان بل الأمكنة كلها تجتمع في الوقت الواحد والأوقات كلها لم يقم بعضها مقام بعض ولم يجر مجراه. فلهذا لا نقول: جلست في البيت من خارج أسكفته وإن كان ذلك موضعا يجاور البيت ويماسه لأن البيت لا يعدم فيكون خارج بابه نائبا عنه وخالفا في الوجود له كما يعدم الوقت فيعوض منه ما بعده. فإن قلت: فقد تقول: سرت من بغداد إلى البصرة نهر الدير قيل: ليس هذا من حديث الجوار في شيء وإنما هو من باب بدل البعض لأنه بعض طريق البصرة يدل على ذلك أنك لا تقول: سرت من بغداد إلى البصرة نهر الأمير لأنه أطول من طريق البصرة زائدة عليه والبدل لا يجوز إذا كان الثاني أكثر من الأول كما يجوز إذا كان الأول أكثر من الثاني ألا ترى أنهم لم يجيزوا أن يكون ربع من قوله: اعتاد قلبك من سلمى عوائده وهاج أهواءك المكنونة الطلل بدلا من الطلل من حيث كان الربع أكثر من الطلل. ولهذا ما حمله سيبويه على القطع والابتداء دون البدل والإتباع هذا إن أردت بالبصرة حقيقة نفس البلد. فإن أردت جهتها وصعقها جاز: انحدرت من بغداد إلى البصرة نهر الأمير. وغرضنا فيما قدمناه أن تريد بالبصرة نفس البلد البتة. وهذا التجاور الذي ذكرناه في الأحوال والأحيان لم يعرض له أحد من أصحابنا. وإنما ذكروا تجاور الألفاظ فيما مضى. وقد مر بنا شيء من هذا النحو في المكان قال: وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها وإنما يجول الراكب في صهوة الفرس لا في كاثبته لكنهما لما تجاورا جريا مجرى الجزء الواحد.
باب في نقض الأصول وإنشاء أصول غيرها
منها رأيت أبا علي - رحمه الله - معتمدا هذا الفصل من العربية ملما به دائم التطرق له والفزع فيما يحدث إليه. وسنذكر من أين أنس به حتى عول في كثير من الأمر عليه. وذلك كقولنا: بأبأت بالصبى بأبأة وبئباء إذا قلت له: بئبا. وقد علمنا أن أصل هذا أن الباء حرف جر والهمزة فاء الفعل فوزن هذا على هذه المقدمة: بفبفت بفبفة وبفبافا إلا أنا لا نقول مع هذا: إن هذه المثل على ما ترى لكن نقول: إن بأبأت الآن بمنزلة رأرأت عيناه وطأطأت رأسي ونحو ذلك مما ليس متنزعا ولا مركبا. فمثاله إذا: فعللت فعللة وفعلالا كدحرجت دحرجة ودحراجا. ومن ذلك قولهم: الخاز باز. فالألف عندنا فيهما أصل بمنزلة ألف كافٍ ودال. وذلك لأنها أسماء مبينة وبعيدة عن التصرف والاشتقاق. فألفاتها إذاً أصول فيها كألفات ما ولا وإذا وألا وإلا وكلا وحتى. ثم إنه قال: ورمت لهازمها من الخزباز فالخزباز الآن بمنزلة السربال والغربال وألفه محكوم عليها بالزيادة كألفهما ألا ترى الأصل كيف استحال زائدا كما استحالت باء الجر الزائدة في بأبي أنت فاء في بأبأت بالصبى. وكذلك أيضا استحالت ألف قافٍ ودالٍ ونحوهما وأنت تعتقد فيها كونها أصلا غير منقلبة إلى اعتقادك فيها القلب لما اعتزمت فيها الاشتقاق. وذلك قولك: قوفت قافا ودولت دالا. وسألني أبو علي - رحمه الله - يوما عن إنشاد أبي زيد: فخير نحن عند الناس منكم إذا الداعي المثوب قال يالا فقال: ما تقول في هذه الألف من قوله: بالا يعنى الأولى. فقلت: أصل لأنها كألف ما ولا ونحوهما. فقال: بل هي الآن محكوم عليها بالانقلاب كألف باب ودار. فسألته عن علة ذلك فقال: لما خلصت بها لام الجر من بعدها وحسن قطعها والوقوف عليها والتعليق لها في قوله: يا لا أشبهت يال هذه الكلمة الثلاثية التي عينها ألف فأوجب القياس أن يحكم عليها بأنها كباب وساق ونحو ذلك. فأنقت لذلك وذهب بي استحساني إياه كل مذهب. وهذا الحديث الذي نحن الآن عليه هو الذي سوغ عندى أن يكتب نحو قوله: يال بكر أنشروا لي كليبا ونحو ذلك مفصولة اللام الجارة عما جرته. وذلك أنها حيزت إلى يا من قبلها حتى صارت يال كباب ودار وحكم على ألفها من الانقلاب بما يحكم به على العينات إذا كن ألفات. وبهذا أيضا نفسه يستدل على شدة اتصال حروف الجر بما تدخل عليه من الأفعال لتقويه فتعديه نحو مررت بزيد ونظرت إلى جعفر ألا ترى أن لام الجر في نحو يالزيد دخلت موصلة ليا إلى المنادى كما توصل الباء الفعل في نزلت بك وظفرت به. وقد تراها محوزة إلى يا حتى قال يالا فعلق حرف الجر ولو لم يكن لاحقا بيا وكالمحتسب جزءا منها لما ساغ تعليقه دون مجروره نحو قوله: يال بكر ويال الرجال ويال الله و: يالك من قبرة بمعمر ونحو ذلك. فاعرفه غرضا اعتن فيما كنا فيه فقلنا عليه. وإن فسح في المدة أنشأنا كتابا في الهجاء وأودعناه ما هذه سبيله وهذا شرحه مما لم تجر عادة بإيداع مثله. ومن الله المعونة. ومما كنا عليه ما حكاه الأصمعي من أنهم إذا قيل لهم هلم إلى كذا فإذا أرادوا الامتناع منه قالوا: لا أهلم فجاءوا بوزن أهريق وإنما هاء هلم ها في التنبيه في نحو هذا وهذه ألا ترى إلى قول الخليل فيها: إن أصلها هالم بنا ثم حذفت الألف تخفيفا وهاء أهريق إنما هي بدل من همزة أرقت لما صارت إلى هرقت وليست من حديث التنبيه في قبيل ولا دبير. ومن ذلك قولهم في التصويت: هاهيت وعاعيت وحاحيت فهذه الألف عندهم الآن في موضع العين ومحكوم عليها بالانقلاب وعن الياء أيضا وإن كان أصلها ألفا أصلا في قولهم: هاء وعاء وحاء. فهي هنا كألف قاف وكاف ودال ولام أصل غير زائدة ولا منقلبة وهي في هاهيت وأختيها عين منقلبة عن ياء عندهم أفلا ترى إلى استحالة التقدير فيها وتلعب الصنعة بها. ونحو من ذلك قولهم: دعدعت بالغنم إذا قلت لها: داع داع وجهجهت بالإبل إذا قلت لها: جاه جاه فجرى دعدعت وجهجهت عندهم الآن مجرى قلقلت وصلصلت ولو راعيت أصولها وعملت على ملاحظة أوائل أحوالها لكانت فلفلت لأن الألف التي هي عين عند تجشم التمثيل في داع وجاه قد حذفت ودعدعت وجهجهت. وقد كنت عملت كتاب الزجر عن ثابت بن محمد وشرحت أحوال تصريف ألفاظه واشتقاقها فجاء منه شيء صالح وطريف. وإذا ضممته إلى هذا الفصل كثر به وأنس بانضمامه إليه.
باب في الامتناع من نقض الغرض
اعلم أن هذا المعنى الذي تحامته العرب - اعنى امتناعها من نقض أغراضها - يشبه البداء الذي تروم اليهود إلزامنا إياه في نسخ الشرائع وامتناعهم منه إلا أن الذي رامته العرب من ذلك صحيح على السبر والذي ذهبوا هم إليه فاسد غير مستقيم. وذلك أن نسخ الشرائع ليس ببداءٍ عندنا لأنه ليس نهيا عما أمر الله تعالى به وإنما هو نهى عن مثل ما أمر الله تعالى به في وقت آخر غير الوقت الذي كان - سبحانه - أمر بالأول فيه ألا ترى أنه - عز اسمه - لو قال لهم: صوموا يوم كذا ثم نهاهم عن الصوم فيه فيما بعد لكان إنما نهاهم عن مثل ذلك الصوم لا عنه نفسه. فهذا ليس بداء. لكنه لو قال: صوموا يوم الجمعة ثم قال لهم قبل مضيه: لا تصوموه لكان - لعمري - بداء وتنقلا والله - سبحانه - يجل عن هذا لأن فيه انتكاثا وتراجعا واستدراكا وتتبعا. فكذلك امتناع العرب من نقض أغارضها هو في الفساد مثل ما نزهنا القديم - سبحانه - عنه من البداء. فمن ذلك امتناعهم من ادغام الملحق نحو جلبب وشملل وشربب ورمدد ومهدد وذلك أنك إنما أردت بالزيادة والتكثير البلوغ إلى مثال معلوم فلوا ادغمت في نحو شربب فقلت: شرب لا تنقض غرضك الذي اعتزمته: من مقابلة الساكن بالساكن والمتحرك بالمتحرك فأدى ذلك إلى ضد ما اعتزمته ونقض ما رمته. فاحتمل التقاء المثلين متحركين لما ذكرنا من حراسة هذا الموضع وحفظه. ومن ذلك امتناعهم من تعريف الفعل. وذلك أنه إنما الغرض فيه إفادته فلابد من أن يكون منكورا لا يسوغ تعريفه لأنه لو كان معرفة لما كان مستفادا لأن المعروف قد غنى بتعريفه عن اجتلابه ليفاد من جملة الكلام. ولذلك قال أصحابنا: اعلم أن حكم الجزء المستفاد من الجملة أن يكون منكورا والمفاد هو الفعل لا الفاعل. ولذلك لو أخبر بما لا شك فيه لعجب منه وهزئ من قوله. فلما كان كذلك لم يجز تعريف ما وضعه على التنكير ألا تراه يجرى وصفا على النكرة وذلك نحو مررت برجل يقرأ فهذا كقولك: قارئٍ ولو كان معرفة لاستحال جريه وصفا على النكرة. ومن ذلك امتناعهم من إلحاق من بأفعل إذا عرفته باللام نحو الأحسن منه والأطول منه. وذلك أن من - لعمري - تكسب ما يتصل به: من أفعل هذا تخصيصا ما ألا تراك لو قلت: دخلت البصرة فرأيت أفضل من ابن سيرين لم يسبق الوهم إلا إلى الحسن رضي الله عنه فبمن ما صحت لك هذه الفائدة وإذا قلت: الأحسن أو الأفضل أو نحو ذلك فقد استوعبت اللام من التعريف أكثر مما تفيده من حصتها من التخصيص فكرهوا أن يتراجعوا بعد ما حكموا به من قوة التعريف إلى الاعتراف بضعفه إذا هم أتبعوه من الدالة على حاجته إليها وإلى قد ما تفيده: من التخصيص المفاد منه. فأما ما ظن أبو عثمان الجاحظ من أنه يدخل على قول أصحابنا في هذا من قول الشاعر: فلست بالأكثر منهم حصىً وإنما العزة للكاثر فساقط عنهم. وذلك أن من هذه ليست هي التي تصحب أفعل هذا لتخصيصه فيكون ما رامه أبو عثمان من جمعها مع لام التعريف. وذلك لأنها إنما هي حال من تاء لست كقولك: لست فيهم بالكثير مالا ولا أنت منهم بالحسن وجها أي لست من بينهم وفي جملتهم بهذه الصفة كقولك: أنت والله من بين الناس حر وزيد من جملة رهطه كريم. ومن ذلك امتناعهم من إلحاق علم التأنيث لما فيه علمه حتى دعاهم ذلك إلى أن قالوا: مسلمات ولم يقولوا مسلمتات لئلا يلحقوا علامة تأتيث مثلها. وذلك أن إلحاق علامة التأنيث إنما هو ليخرج المذكر قبله إليه وينقله إلى حكمه فهذا أمر يجب عنه وله أن يكون ما نقل إلى التأنيث قبل نقله إليه مذكرا كقائم من قائمة وظريف من ظريفة. فلو ذهبت تلحق العلامة العلامة لنقضت الغرض. وذلك أن التاء في قائمة قد أفادت تأنيثه وحصلت له حكمه فلو ذهبت تلحقها علامة أخرى فتقول: قائمتات لنقضت ما أثبت من التأنيث الأول بما تجشمته من إلحاق علم التأنيث الثاني له لأن في ذلك إيذانا بأن الأول به لم يكن مؤنثا وكنت أعطيت اليد بصحة تأنيثه لحصول ما حصل فيه من علمه وهذا هو النقض والبداء البتة. ولذلك أيضا لم يثن الاسم المثنى لأن ما حصل فيه من علم التثنية مؤذن بكونه إثنين وما يلحقه من علم التثنية ثانيا يؤذن بكونه في الحال الأولى مفردا وهذا هو الانتقاض والانتكاث لا غير. فإن قلت: فقد يجمع الجمع نحو أكلب وأكالب وأسقية وأساقٍ فكيف القول في ذلك قيل له: فرق بينهما أن علمي التأنيث في مسلمات لو قيل مسلمتات لكانا لمعنى واحدٍ وهو التأنيث فيهما جميعاً وليس كذلك معنيا التكسير في أكلب وأكالب. وذلك أن معنى أكلب أنها دون العشرة ومعنى أكالب أنها للكثرة التي أول رتبتها فوق العشرة. فهذان معنيان - كما تراهما - اثنان فلم ينكر اجتماع لفظيهما لاختلاف معنييهما. فإن قلت: فهلا أجازوا - على هذا - مسلمتات فكانت التاء الأولى لتأنيث الواحد والتاء الثانية لتأنيث الجماعة قيل: كيف تصرفت الحال فلم تفد واحدة من التاءين شيئاً غير التأنيث البتة. فأما عدة المؤنث في إفراده وجمعه فلم يفده العلمان فيجوز اجتماعهما كما جاز تكسير التكسير في نحو أكلب وأكالب. فإن قلت: فقد يجمع أيضاً الكثرة نحو بيوت وبيوتات وحُمُر وحُمُرات ونحو قولهم: صواحبات يوسف ومواليات العرب وقوله: قد جرت الطير أيامنينا فهذا جمع أيامن وأنشدوا: فهن يعلكن حدائداتها وكسروا أيضا مُثُل الكثرة قال: عقابين يوم الدجن تعلو وتسفل وقال آخر: ستشرب كأسا مرة تترك الفتى تليلا لفيه للغرابين والرخم وأجاز أبو الحسن في قوله: في ليلة من جمادى ذات أندية أن يكون كسر ندى على نداء كجبل وجبال ثمم كسر نداء على أندية كرداء وأردية. قيل: جميع ذلك وما كان مثله - وما أكثره! - إنما جاز لأنه لا ينكر أن يكون جمعان أحدهما أكثر من صاحبه وكلاهما مثال الكثرة ألا ترى أن مائة للكثرة وألفا أيضا كذلك وعشرة آلاف أيضا كذلك ثم على هذا ونحوه. فكأن بيوتا مائة وبيوتات مائة ألف وكأن عقبانا خمسون وعقابين أضعاف ذلك. وإذا كان ذلك علمت اختلاف المعنيين لاختلاف اللفظين. وإذا آل بك الأمر إلى هذا لم تبق وراءه مضطربا فهذا قول. وجواب ثان: أنك إنما تكسر نحو أكلب وعقبان ونداء لمجئ كل واحد من ذلك على أمثلة الآحاد وفي طريقها فلما جاءت هذا المجئ جرت مجرى الآحاد فجاز تكسيرها كما يجوز تكسيرها ألا ترى أن لذلك ما جاز صرفها وترك الاعتداد بمعنى الجمعية فيها لما جاءت مجئ الآحاد فصرف كلاب لشبهه بكتاب وصرف بيوت لشبهه بأتى وسدوس ومرور وصرف عقبان لشبهه بعصيان وضبعان. وصرف قضبان لأنه على مثال قرطان. وصرف أكلب لأنه قد جاء عنهم أصبع وأرز وأسنمة ولأنه أيضا لما كان لجمع القلة أشبه في المعنى الواحد لأن محل مثال القلة من مثال الكثرة في المعنى محل الواحد من الجمع فكما كسروا الواحد كذلك كسروا ما قاربه من الجمع. وفي هذا كاف. فإن قلت: فهلا ثنيت التثية كما جمعت الجمع قيل: قد كفتنا العرب بقولهم: أربعة عن قولهم اثنانان. وأيضا فكرهوا أن يجمعوا في اثنانان ونحوه بين إعرابين متفقين كانا أو مختلفين ومن ذلك ما قال أصحابنا: إن وصف العلم جارٍ مجرى نقض الغرض. وذلك أن العلم إنما وضع ليغنى عن الأوصاف الكثيرة ألا ترى أنك إذا قلت: قال الحسن في هذه المسئلة كذا فقد استغنيت بقولك: الحسن عن قولك: الرجل الفقيه القاضي العالم الزاهد البصري الذي كان من حاله كذا ومن أمره كذا فلما قلت: الحسن أغناك عن جميع ذلك. فإذا وصف العلم فلأنه كثر المسمون به فدخله اللبس فيما بعد فلذلك وصف ألا ترى أن ما كان من الأعلام لا شريك له في العلمية فإنه لا يوصف. وذلك كقولنا: الفرزدق فإنه لا يوصف فيقال: التميمي ولا نحو ذلك لأنه لم يسم به أحد غيره. وإذا ذكرته باسمه الذي هو همام جاز وصفه فقلت همام بن غالب لأن هماما شورك فيه فجاز لذلك لحاق الوصف له. فإن قلت: فقد يكثر في الأنساب وصف كثيرٍ من الأعلام التي لا شركة فيها نحو قولهم: فلان بن يشجب بن يعرب بن قحطان ونظائره كثيرة قيل: ليس الغرض إلا التنقل به والتصعد إلى فوق وإعلام السامع وجه النسب وأن فلانا اسم أبيه كذا واسم جده كذا واسم أبي جده كذا. فإنما البغية بذلك استمرار النسب وذكر الآباء شيئا فشيئا على توالٍ. وعلى هذا يجوز أيضا أن يقال: الفرزدق بن غالب فأما على التخليص والتخصيص فلا. ومن ذلك امتناعهم من تنوين الفعل. وذلك أنه قد استمر فيه الحذف والجزم بالسكون لثقله. وإن شئت قلت: إن التنوين إنما لحق في الوقف مؤذنا بالتمام والفعل أحوج شيء إلى الفاعل فإذا كان من الحاجة إليه من بعده على هذه الحال لم يلق به التنوين اللاحق للإيذان بالتكامل والتمام فالحالان إذاً كما ترى ضدان. ولأجل ذلك ما امتنعوا من لحاق التنوين للمضاف. وذلك أن المضاف على غاية الحاجة إلى المضاف إليه من بعده. فلو ألحقته التنوين المؤذن بالوقف وهو متناهٍ في قوة الحاجة إلى الوصل جمعت بين الضدين. وهذا جلي غير خاف. وأيضا فإن التنوين دليل التنكير والإضافة موضوعة للتخصيص فكيف لك باجتماعهما مع ما ذكرنا من حالهما. فإن قلت: فإذا كان الأمر كذلك فما بالهم نونوا الأعلام كزيد وبكر. قيل: جاز لك لأنها ضارعت بألفاظها النكرات إذ كان تعرفها معنويا لا لفظيا لأنه لا لام تعريف فيها ولا إضافة كما صرفوا من الجمع ما ضارع الواحد ببنائه نحو كلاب لأنه ككتاب وشيوخ لأنه كسدوس ودخول وخروج. وهذا باب مطرد فاعرفه.
باب في التراجع عند التناهي
هذا معنى مطروق في غير صناعة الإعراب كما أنه مطروق فيها. وإذا تشاهدت حالاهما كان أقوى لها وأذهب في الأنس بها. فمن ذلك قولهم: إن الإنسان إذا تناهى في الضحك بكى وإذا تناهى في الغم ضحك وإذا تناهى في العظة أهمل وإذا تناهت العداوة استحالت مودة. وقد قال: وكل شيء بلغ الحد انتهى وأبلغ من هذا قول شاعرنا: ولجدت حتى كدت تبخل حائلا للمنتهى ومن السرور بكاء والطريق في هذا ونحوه معروفة مسلوكة. وأما طريق صناعة الإعراب في مثله فقول أبي إسحاق في ذكر العلة التي امتنع لها أن يقولوا: مازال زيد إلا قائماً: نفى و نفى النفي إيجاب. وعلى نحو هذا ينبغي أن يكون قولهم: ظلمة وظلم وسدرة وسدر وقصعة وقصاع وشفرة وشفار. وذلك أن الجمع يحدث للواحد تأنيثاً نحو قولهم: هذا جمل وهذه جمال وهذا رجل وهذه رجال قد أقبلت. وكذلك بكر وبكارة وعير وعيورة وجريب وأجربة وصبى وصبية ونحو ذلك. فلما كانت ظلمة وسدرة وقصعة مؤنثاتٍ - كما ترى - وأردت أن تكسرها صرت كأنك أردت تأنيث المؤنث: فاستحال بك الأمر إلى التذكير فقلت ظلم وسدر وقصاع وشفار. فتراحعت الإيغال في التأنيث إلى لفظ التذكير. فعلى هذا النحو لو دعا داع أو حمل حامل على تأنيث نحو قائمة ومسلمة لكان طريقه - على ما رأينا - أن نعيده إلى التذكير فنقول: قائم ومسلم. هذا لو سوغ مسوغ تأنيث نحو قائمة وكريمة ونحو ذلك. فإن قيل: فليزم على هذا أن لو أريد تذكير المذكر أن يؤنث قيل: هذا تقرير فاسد ووضع غير متقبل. وذلك أن التذكير هو الأول والأصل. فليس لك التراجع عن الأصول لأنها أوائل وليس تحت الأصل ما يرجع إليه. وليس كذلك التأنيث لأنه فرع على التذكير. وقد يكون الأصل واحداً وفروعه متضعفة ومتصعدة ألا ترى أن الاشتقاق تجد له أصولاً ثم تجد لها فروعاً ثم تجد لتلك الفروع فروعاً صاعدة عنها نحو قولك: نبت فهو الأصل لأنه جوهر ثم يشتق منه فرع هو النبات وهو حدث ثم يشتق من النبات الفعل فتقول: نبت. فهذا أصل. وفرع وفرع فرع. فلذلك جار تصور تأنيث المؤنث ولم يجز تصور تذكير المذكر. نعم ولو جاز تصور تذكير المذكر لأوجب فيه القياس أن يعاد به إلى التأنيث. كذا وجه النظر. وما في هذا من المنكر!. فعلى هذا السمت لو ساغ تذكير قائم لوجب أن يقال فيه: قائمة. فاعرف ذلك وأنس به. ولا تنب عنه. فإن قلت: فلسنا نجد كل المذكر إذا أريد تكسيره أنث ألا تراك تقول: رجل ورجال. وغلام وغلمان وكلب وأكلب. فهذا بخلاف ذكر وذكارة وذكورة وفحل وفحالة وفحولة. قيل: لم ندع أن كل مذكر كسر فلا بد في مثال تكسيره من علم تأنيث وإنما أرينا أن هذا المعنى قد يوجد فيه فاستدللنا بذلك على صحة ما كنا عليه وبسبيله. وكيف تصرفت الحال فأنت قد تلاحظ تأنيث الجماعة في نحو رجال فتقول: قامت الرجال وإذا عاديت الرجال فاصبر لها أي للرجال وإن شئت كانت الهاء للمعاداة. وعلى نحو مما نحن بصدده ما قالوا: ثلاثة رجال وثلاث نسوة فعكسوا الأمر على ما تراه. ولأجل ذلك ما قالوا: امرأة صابرة وغادرة فألحقوا علم التأنيث فإذا تناهوا في ذلك قالوا: صبور وغدور فذكروا. وكذلك رجل ناكح فإذا بالغوا قالوا: رجل فكمة. ونحو من ذلك سواءً اطراد التصرف في الأفعال نحو قام ويقوم وقم وما كان مثله. فإذا بالغوا وتناهوا منعوه التصرف فقالوا: نعم الرجل وبئس الغلام فلم يصرفوهما وجعلوا ترك التصرف في الفعل الذي هو أصله وأخص الكلام به أمارة للأمر الحادث له وأن حكماً من أحكام المبالغة قد طرأ عليه كما تركوا لذلك أيضاً تأنيثه دليلاً عليه في نحو قولهم: نعم المرأة وبئس الجارية. فإن قلت: فما بالهم منعوا هذين الفعلين التصرف البتة ولم يمنعوهما علم التأنيث البتة ألا تراك أيضاً قد تقول: نعمت المرأة وبئست الجارية وأنت لا تصرف واحداً منهما على وجه قيل: إنما حظروا عليهما ما هو أخص الأوصاف بهما - أعني التصرف - ليكون حظره عليهما أدل شيء على حدوث عائق لهما وليست كذلك علامة التأنيث لأن الفعل لم يكن في القياس تأنيثه ألا تراه مفيداً للمصدر الدال على الجنس والجنس أسبق شيء إلى التذكير وإنما دخل علم التأنيث في نحو قامت هند وانطلقت جمل لتأنيث فاعله ولو كان تأنيث الفعل لشيء يرجع إليه هو لا إلى فاعله لجاز قامت زيد وانطلقت جعفر فلأجل ذلك ما اعتزموا الدلالة على خروج هذين الفعلين إلى معنى المبالغة بترك تصرفهما الذي هو أقعد من غيره فيهما دون الاقتصار على ترك تأنيثهما إذ التأنيث فيهما ليس في الأصل مستحقاً لهما ولا راجعاً إليهما وإنما هو مراعىً به تأنيث فاعليهما. ويؤكد ذلك عندك ما رواه الأصمعي عنهم من قوله: إذا فاق الشيء في بابه سموه خارجياً وأنشد بيت طفيل الغنوي: فقولهم في هذا المعنى: خارجي واستعمالهم فيه لفظ خرج من أوثق ما يستدل له على هذا المعنى وهو الغاية فيه. فاعرفه واشدد يدك به. باب فيما يؤمنه علم العربية من الاعتقادات الدينية اعلم أن هذا الباب من أشرف أبواب هذا الكتاب وأن الانتفاع به ليس إلى غاية ولا وراءه من نهاية. وذلك أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها وحاد عن الطريقة المثلى إليها فإنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الكريمة الشريفة التي خوطب الكافة بها وعرضت عليها الجنة والنار من حواشيها وأحنائها وأصل اعتقاد التشبيه لله تعالى بخلقه منها وجاز عليهم بها وعنها. وذلك أنهم لما سمعوا قول الله - سبحانه وعلا عما يقول الجاهلون علوا كبيراً - {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} وقوله - " عز اسمه - {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} وقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وقوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} وقوله: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وقوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} ونحو ذلك من الآيات الجارية هذا المجرى وقوله في الحديث: خلق الله آدم على صورته حتى ذهب بعض هؤلاء الجهال في قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} أنها ساق ربهم - ونعوذ بالله من ضعفة النظر وفساد المعتبر - ولم يشكوا أن هذه أعضاء له وإذا كانت أعضاء كان هو لا محالة جسماً معضىً على ما يشاهدون من خلقه عز وجهه وعلا قدره وانحطت سوامى الأقدار والأفكار دونه. ولو كان لهم أنس بهذه اللغة الشريفة أو تصرف فيها أو مزاولة لها لحمتهم السعادة بها ما أصارتهم الشقوة إليه بالبعد عنها. وسنقول في هذا ونحوه ما يجب مثله. ولذلك ما قال رسول الله صلى اله عليه وسلم لرجل لحن: أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل فسمي اللحن ضلالاً وقال عليه السلام: رحم الله امرأ أصلح من لسانه وذلك لما علمه ﷺ مما يعقب الجهل لذلك من ضد السداد. وزيغ الاعتقاد. وطريق ذلك أن هذه اللغة أكثرها جارٍ على المجاز وقلما يخرج الشيء منها على الحقيقة. وقد قدمنا ذكر ذلك في كتابنا هذا وفي غيره. فلما كانت كذلك وكان القوم الذين خوطبوا بها أعرف الناس بسعة مذاهبها وانتشار أنحائها جرى خطابهم بها مجرى ما يألفونه ويعتادونه منها وفهموا أغراض المخاطب لهم بها على حسب عرفهم وعادتهم في استعمالها. وذلك أهم يقولن: هذا الأمر يصغر في جنب هذا أي بالإضافة إليه وقرنه به. فكذلك قوله تعالى: {يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أي فيما بيني وبين الله إذا أضفت تفريطي إلى أمره لي ونهيه أياي. وإذا كان أصله اتساعاً جرى بعضه مجرى بعض. وكذلك قوله - صلى اله عليه وسلم -: كل الصيد في جنب الفرأ وجوف الفرأ أي كأنه يصغر بالإضافة إليه وإذا قيس به. وكذلك قوله - سبحانه -: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} إنما هو الاتجاه إلى الله ألا ترى إلى بيت الكتاب: أستغفر الله ذنبا لست محصيه رب العباد إليه الوجه والعمل أي الاتجاه. فإن شئت قلت: إن الوجه هنا مصدر محذوف الزيادة كأنه وضع الفعل موضع الافتعال كوحده وقيد الأوابد - في أحد القولين - ونحوهما. وإن شئت قلت: خرج مخرج الاستعارة. وذلك أن وجه الشيء أبدا هو أكرمه وأوضحه فهو المراد منه والمقصود إليه. فجرى استعمال هذا في القديم - سبحانه - مجرى العرف فيه والعادة في أمثاله. أي لو كان - تعالى - مما يكون له وجه لكان كل موضع توجه إليه فيه وجها له إلا أنك إذا جعلت الوجه في القول الأول مصدرا كان في المعنى مضافا إلى المفعول دون الفاعل لأن المتوجه إليه مفعول في المعنى فيكون إذاً من باب قوله - عز وجل - {لَا يَسْأَمُ الْإِنسَانُ مِن دُعَاء الْخَيْرِ} و {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} ونحو ذلك مما أضيف فيه المصدر إلى المفعول به. وقوله تعالى { مما عملته أيدينا } إن شئت قلت: لما كان العرف أن يكون أكثر الأعمال باليد جرى هذا مجراه. وإن شئت قلت: الأيدي هنا جمع اليد التي هي القوة فكأنه قال: مما عملته قوانا أي القوى التي أعطيناها الأشياء لا أن له - سبحانه - جسما تحله القوة أو الضعف. ونحوه قولهم في القسم: لعمر الله إنما هو: وحياة الله أي والحياة التي آتانيها الله لا أن القديم سبحانه محل للحياة كسائر الحيوانات. ونسب العمل إلى القدرة وإن كان في الحقيقة للقادر لأن بالقدرة ما يتم له العمل كما يقال: قطعه السيف وخرقه الرمح. فيضاف الفعل إليهما لأنه إنما كان بهما. وقوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي تكون مكنوفا برأفتي بك وكلاءتي لك كما أن من يشاهده الناظر له والكافل به أدنى إلى صلاح أموره وانتظام أحواله ممن يبعد عمن يدبره ويلي أمره قال المولد: شهدوا وغبنا عنهم فتحكموا فينا وليس كغائب من يشهد وهو باب واسع. وقوله: {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} إن شئت جعلت اليمين هنا الجارحة فيكون على ما ذهبنا إليه من المجاز والتشبيه أي حصلت السموات تحت قدرته حصول ما تحيط اليد به في يمين القابض عليه وذكرت اليمين هنا دون الشمال لأنها أقوى اليدين وهو من مواضع ذكر الاشتمال والقوة. وإن شئت جعلت اليمين هنا القوة كقوله: إذا ما رايةٌ رفعت لمجد تلقاها عرابة باليمين أي بقوته وقدرته. ويجوز أن يكون أراد بيد عرابة: اليمنى على ما مضى. وحدثنا أبو علي سنة إحدى وأربعين قال: في قول الله - جل اسمه - {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} ثلاثة أقوال: أحدها: باليمين التي هي خلاف الشمال. والاخر باليمين التي هي القوة. والثالث باليمين التي هي قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} فإن جعلت يمينه من قوله: {مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} هي الجارجة مجازا وتشبيها كانت الباء هنا ظرفا أي مطويات في يمينه وتحت يمينه. وإن جعلتها القوة لم تكن الباء ظرفا لكنها تكون حرفا معناه الإلصاق والاستعانة به على التشبيه بما يستعان به كقولهم: ضرب بالسيف وقطع بالسكين وحفر بالفأس. هذا هو المعنى الظاهر وإن كان غيره جائزا على التشبيه والسعة. وقوله في الحديث: خلق الله آدم على صورته يحتمل الهاء فيه أن تكون راجعة على اسم الله تعالى وأن تكون راجعة على آدم. فإذا كانت عائدة على اسم الله تعالى كان معناه: على الصورة التي أنشأها الله وقدرها. فيكون المصور حينئذ مضافا إلى الفاعل لأنه - سبحانه - هو المصدر لها لا أن له - عز اسمه - صورة ومثالا كما أن قولهم: لعمر الله إنما معناه: والحياة التي كانت بالله والتي آتانيها الله لا أن له - تعالى - حياة تحله ولا أنه - عز وجهه - محل للآعراض. وإن جعلتها عائدة على آدم كان معناه: على صورة آدم أي على صورة أمثاله ممن هو مخلوق ومدبر فيكون هذا حينئذ كقولك في السيد والرئيس: قد خدمته خدمته أي الخدمة التي تحق لأمثاله وفي العبد والمبتذل: قد استخدمته استخدامه أي استخدام أمثاله ممن هو مأمور بالخفوف والتصرف فيكون إذاً كقوله - عز وجل - {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} وكذلك نظائر هذا: هذه سبيله. فأما قول من طغى به جهله وغلبت عليه شقوته حتى قال في قول الله تعالى {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ}: إنه أراد به عضو القديم وإنها جوهر كهذه الجواهر الشاغلة للأماكن وإنها ذات شعر وكذا وكذا مما تتايعوا في شناعته وركسوا في غوايته فأمر نحمد الله على أن نزهنا عن الإلمام بحراه. وإنما الساق هنا يراد بها شدة الأمر كقولهم: قد قامت الحرب على ساق. ولسنا ندفع من ذلك أن الساق إذا أريدت بها الشدة فإنما هي مشبهة بالساق هذه التي تعلق القدم وأنه إنما قيل ذلك لأن الساق هي الحاملة للجملة المنهضة لها. فذكرت هنا لذلك تشبيها وتشنيعا. فأما أن تكون للقديم - تعالى - جارحة: ساق أو غيرها فنعوذ بالله من اعتقاده أو الاجتياز بطواره. وعليه بيت الحماسة: كشفت لهم عن ساقها وبدا من الشر الصراح وأما قول ابن قيس في صفة الحرب والشدة فيها: فإنه وجه آخر وطريق من طرق الشدة غير ما تقدم. وإنما الغرض فيه أن الروع قد بز العقيلة - وهي المرأة الكريمة - حياءها حتى ابدت عن ساقها للحيرة والهرب كقول الآخر: لما رايت نساءنا يفحصن بالمعزاء شدا وبدت محاسنها التي تخفى وكان الأمر جدا وقوله: إذا أبرز الروع الكعاب فإنهم مصادٌ لمن يأوى إليهم ومعقل وهو باب. وضده ما أنشده أبو الحسن: أرفعن أذيال الحقي واربعن مشى حيياتٍ كأن لم يفزعن إن تمنع اليوم نساء تمنعن وأذكر يوما وقد خطر لي خاطر مما نحن بسبيله فقلت: لو أقام إنسان على خدمة هذا العلم ستين سنة حتى لايحظى منه إلا بهذا الموضع لما كان مغبونا فيه ولا منتقص الحظ منه ولا السعادة به. وذلك قول الله - عز اسمه {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} ولن يخلو أغفلنا هنا من أن يكون من باب أفعلت الشيء أي صادفته ووافقته كذلك كقوله: أي صادفها هائجة النبات وقوله: فمضى وأخلف من قتيلة موعدا أي صادفه محلفا وقوله: أصم دعاء عاذلتي تحجى بأخرنا وتنسى أولينا أي صادف قوما صما وقول الآخر: فأصممت عمرا وأعميته عن الجواد والمجد يوم الفخار أي صادفته أعمى. وحكى الكسائي: دخلت بلدة فأعمرتها أي وجدتها عامرة ودخلت بلدة فأخربتها أي وجدتها خرابا ونحو ذلك أو يكون ما قاله الخصم: أن معنى أغفلنا قلبه: منعنا وصددنا نعوذ بالله من ذلك. فلو كان الأمر على ما ذهبوا إليه منه لوجب أن يكون العطف عليه بالفاء دون الواو وأن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا فاتبع هواه. وذلك أنه كان يكون على هذا الأول علة للثاني والثاني مسببا عن الأول ومطاوعا له كقولك: أعطيته فأخذ وسألته فبذل لما كان الأخذ مسببا عن العطية والبذل مسببا عن السؤال. وهذا من مواضع الفاء لا الواو ألا ترى أنك إنما تقول: جذبته فانجذب ولا تقول: وانجذب إذا جعلت الثاني مسبباً عن الأول. وتقول: كسرته فانكسر واستخبرته فأخبر كله بالفاء. فمجئ قوله تعالى واتبع هواه بالواو ودليل على أن الثاني ليس مسببا عن الأول على ما يعتقده المخالف. وإذا لم يكن عليه كان معنى أغفلنا قلبه عن ذكرنا أي صادفناه غافلا على ما مضى وإذا صودف غافلا فقد غفل لا محالة. فكأنه - والله أعلم -: ولا تطع من غفل قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا أي لا تطع من فعل كذا وفعل كذا. وإذا صح هذا الموضع ثبت به لنا أصل شريف يعرفه من يعرفه. ولولا ما تعطيه العربية صاحبها من قوة النفس ودربة الفكر لكان هذا الموضع ونحوه مجوزا عليه غير مأبوه له. وأنا أعجب من الشيخين أبوى علي رحمهما الله وقد دوخا هذا الأمر وجولاه وامتخضاه وسقياه ولم يمرر واحد منهما ولا من غيرهما - فيما علمته به - على قربه وسهولة مأخذه. ولله قطرب! فإنه قد أحرز عندي أجرا عظيما فيما صنفه من كتابه الصغير في الرد على الملحدين وعليه عقد أبو علي - رحمه الله - كتابة في تفسير القرآن. وإذا قرأته سقطت عنك الشبهة في هذا الأمر بإذن الله وعونه.
باب في تجاذب المعاني والإعراب
هذا موضع كان أبو علي - رحمه الله - يعتاده ويلم كثيرا به ويبعث على المراجعة له وإلطاف النظر فيه. وذلك أنك تجد في كثير من المنثور والمنظوم الإعراب والمعنى متجاذبين: هذا يدعوك إلى أمر وهذا يمنعك منه. فمتى اعتورا كلاما ما أمسكت بعروة المعنى وارتحت لتصحيح الإعراب. فمن ذلك قول الله تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} فمعنى هذا: إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر فإن حملته في الإعراب على هذا كان خطأ لفصلك بين الظرف الذي هو يوم تبلى وبين ما هو معلق به من المصدر الذي هو الرجع والظرف من صلته والفصل بين الصلة والموصول الأجنبي أمر لا يجوز. فإذا كان المعنى مقتضيا له والإعراب مانعا منه احتلت له بأن تضمر ناصبا يتناول الظرف ويكون المصدر الملفوظ به دالاً على ذلك الفعل حتى كأنه قال فيما بعد: يرجعه يوم تبلى السرائر. ودل رجعه على يرجعه دلالة المصدر على فعله. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِن مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} فإذا هذه في المعنى متعلقة بنفس قوله: لمقت الله أي يقال لهم: لمقت الله إياكم وقت دعائكم إلى الإيمان فكفركم أكبر من مقتكم أنفسكم الآن إلا أنك إن حملت الأمر على هذا كان فيه الفصل بين الصلة التي هي إذ وبين الموصول الذي هو لمقت الله. فإذا كان المعنى عليه ومنع جانب الإعراب منه أضمرت ناصبا يتناول الظرف ويدل المصدر عليه حتى كأنه قال بأخرة: مقتكنم إذ تدعون. وإذا كان هذا ونحوه وقد جاء في القرآن فما أكثره وأوسعه في الشعر! فمن ذلك ما أنشده أبو الحسن من قوله: لسنا كمن حلت إيادٍ دارها تكريت ترقب حبها أن يحصدا فإيادٍ بدل مِن مَن وإذا كان كذلك لم يمكنك أن تنصب دارها بحلت هذه الظاهرة لما فيه من الفصل فحينئذ ما تضمر له فعلا يتناوله فكأنه قال فيما بعد: حلت دارها. وإذا جازت دلالة المصدر على فعله والفعل على مصدره كانت دلالة الفعل على الفعل الذي هو مثله أدنى إلى الجواز وأقرب مأخذا في الاستعمال. ومثله قول الكميت في ناقته: كذلك تيك وكالناظرات صواحبها ما يرى المسحل أي وكالناظرات ما يرى المسحل صواحبها. فإن حملته على هذا كان فيه الفصل المكروه. فإذا كان المعنى عليه ومنع طريق الإعراب منه أضمر له ما يتناوله ودل " الناظرات " على ذلك المضمر. فكأنه قال فيما بعد: نظرن ما يرى المسحل ألا تراك لو قلت: كالضارب زيدٌ جعفرا وأنت تريد: كالضارب جعفرا زيد لم يجز كما أنك لو قلت: إنك على صومك لقادر شهر رمضان وأنت تريد: إنك على صومك شهر رمضان لقادر لم يجز شيء من ذلك للفصل. وما أكثر استعمال الناس لهذا الموضع في محاوراتهم وتصرف الأنحاء " في كلامهم "! وأحد من اجتاز به البحتري في قوله: لا هناك الشغل الجديد بحزوى عن رسوم برامتين قفار فعن في المعنى متعلقة " بالشغل " أي لا هناك الشغل عن هذه الأماكن إلا أن الإعراب مانع منه وإن كان المعنى متقاضيا له. وذلك أن قوله " الجديد " صفة للشغل والصفة إذا جرت على الموصوف آذنت بتمامه وانقضاء أجزائه. فإن ذهبت تعلق " عن " بنفس الشغل على ظاهر المعنى كان فيه الفصل بين الموصول وصلته وهذا فاسد ألا تراك لو قلت: عجبت من ضربك الشديد عمرا لم يجز لأنك وصفت المصدر وقد بقيت منه بقية فكان ذلك فصلا بين الموصول وصلته بصفته. وصحتها أن تقول: عجبت من ضربك الشديد عمرا لأنه مفعول الضرب وتنصب عمرا بدلا من الشديد كقولك: مررت بالظريف عمروٍ ونظرت إلى الكريم جعفر. فإن أردت أن تصف المصدر بعد إعمالك إياه قلت: عجبت من ضربك الشديد عمرا الضعيف أي عجبت من أن ضربت هذا الشديد ضربا ضعيفا. هذا تفسير المعنى. وهذا الموضع من هذا العلم كثير في الشعر القديم والمولد. فإذا اجتاز بك شيء منه فقد عرفت طريق القول فيه والرفق به إلى أن يأخذ مأخذه بإذن الله تعالى. ومنه قول الحطيئة: أزمعت يأساً مبينا من نوالكم ولن ترى طاردا للحر كالياس أي يأساً من نوالكم مبينا. فلا يجوز أن يكون قوله " من نوالكم " متعلقا بيأس وقد وصفه بمبين وإن كان المعنى يقتضيه لأن الإعراب مانع منه. لكن تضمر له حتى كأنك قلت: يئست من نوالكم. ومن تجاذب الإعراب والمعنى ما جرى من المصادر وصفا نحو قولك: هذا رجل دنف وقوم رضا ورجل عدل. فإن وصفته بالصفة الصريحة قلت: رجل دنف وقوم مرضيون ورجل عادل. هذا هو الأصل. وإنما انصرفت العرب عنه في بعض الأحوال إلى أن وصفت بالمصدر لأمرين: أحدهما صناعي والآخر معنوي. أما الصناعي فليزيدك أنسا بشبه المصدر للصفة التي أوقعته موقعها كما أوقعت الصفة موقع المصدر في نحو قولك: أقائماً والناس قعود " أي وأما المعنوي فلأنه إذا وصف بالمصدر صار الموصوف كأنه في الحقيقة مخلوق من ذلك الفعل. وذلك لكثرة تعاطيه له واعتياده إياه. ويدل على أن هذا معنى لهم ومتصور في نفوسهم قوله - فيما أنشدناه -: ألا أصبحت أسماء جاذمة الحبل وضنت علينا والضنين من البخل أي كأنه مخلوق من البخل لكثرة ما يأتي به منه. ومنه قول الآخر: وهن من الإخلاف والولعان وقوله: وهن من الإخلاف بعدك والمطل وأصل هذا الباب عندي قول الله - عز وجل - {خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ}. وقد ذكرنا هذا الفصل فيما مضى. فقولك إذاً: هذا رجل دنف - بكسر النون - أقوى إعرابا لأنه هو الصفة المحضة غير المتجوزة. وقولك: رجل دنف أقوى معنى لما ذكرناه: من كونه كأنه مخلوق من ذلك الفعل. وهذا معنى لا تجده ولا تتمكن منه مع الصفة الصريحة. فهذا وجه تجاذب الإعراب والمعنى فاعرفه وأمض الحكم فيه على أي الأمرين شئت. التفسير على المعنى دون اللفظ باب في التفسير على المعنى دون اللفظ اعلم أن هذا موضع قد أتعب كثيراً من الناس واستهواهم ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتابعوا فيه حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة إنما دعا إليها القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سر معانيها ومعاقد أغراضها. فمن ذلك قول سيبويه في بعض ألفاظه: حتى الناصبة للفعل يعني في نحو قولنا: اتق الله حتى يدخلك الجنة. فإذا سمع هذا من يضعف نظره اعتدها في جملة الحروف الناصبة للفعل وإنما النصب بعدها بأن مضمرة. وإنما جاز أن يتسمح بذلك من حيث كان الفعل بعدها منصوبا بحرف لا يذكر معها فصارت في اللفظ كالخلف له والعوض منه وإنما هي في الحقيقة جارة لا ناصبة. ومنه قوله أيضاً في قول الشاعر: أنا اقتسمنا خطيتنا بيننا فحملت برة واحتملت فجار إن فجار معدولة عن الفجرة. وإنما غرضه أنها معدولة عن فجرة " معرفة علما " على ذا يدل هذا الموضع من الكتاب. ويقويه ورود برة معه في البيت وهي - كما ترى - علم. لكنه فسره على المعنى دون اللفظ. وسوغه ذلك أنه لما أراد تعريف الكلمة المعدول عنها مثل ذلك " بما تعرف " باللام لأنه لفظ معتاد وترك لفظ فجرة لأنه لا يعتاد ذلك علما وإنما يعتاد نكرة وجنسا نحو فجرت فجرة كقولك: تجرت تجرة ولو عدلت برة هذه على هذا الحد لوجب أن يقال فيها: برار كفجار. ومنه قولهم: أهلك والليل فإذا فسروه قالوا: أراد: الحق أهلك قبل الليل. وهذا - لعمري - تفسير المعنى لا تقدير الإعراب فإنه على: الحق أهلك وسابق الليل. ومنه ما حكاه الفراء من قولهم: معي عشرة فاحدهن أي اجعلهن أحد عشر. وهذا تفسير المعنى أي أتبعهن ما يليهن وهو من حدوث الشيء إذا جئت بعده. وأما اللفظ فإنه من " و ح د " لأن أصل أحد وحد ألا ترى إلى قول النابغة: كأن رحلي وقد زال النهار بنا بذي الجليل على مستأنس وحد أي منفرد وكذلك الواحد إنما هو منفرد. وقلب هذه الواو المفتوحة المنفردة شاذ ومذكور في التصريف. وقال لي أبو علي - رحمه الله - بحلب سنة ست وأربعين: إن الهمزة في قولهم: ما بها أحد ونحو ذلك مما أحد فيه للعموم ليست بدلا من واو بل هي أصل في موضعها. قال: وذلك أنه ليس من معنى أحد في قولنا: أحد عشر وأحد وعشرون. قال: لأن الغرض في هذه الانفراد والذي هو نصف الاثنين قال: وأما أحد في نحو قولنا: ما بها أحد وديار فإنما هي للإحاطة والعموم. " والمعنيان " - كما ترى - مختلفان. وهكذا قال وهو الظاهر. ومنه قول المفسرين في قول الله تعالى: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ} أي مع الله ليس أن " إلى " في اللغة بمعنى مع ألا تراك لا تقول: سرت إلى زيد وأنت تريد: سرت مع زيد هذا لا يعرف في كلامهم. وإنما جاز هذا التفسير في هذا الموضع لأن النبي إذا كان له أنصار فقد انضموا في نصرته إلى الله فكأنه قال: من أنصاري منضمين إلى الله كما تقول: زيد إلى خير وإلى دعة وستر أي آوٍ إلى هذه الأشياء ومنضم إليها. فإذا انضم إلى الله فهو معه لا محالة. فعلى هذا فسر المفسرون هذا الموضع. ومن ذلك قول الله - عز وجل - {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} قالوا معناه: قد امتلأت وهذا أيضاً تفسير على المعنى دون اللفظ و " هل " مبقاة على استفهامها. وذلك كقولك للرجل لا تشك في ضعفه عن الأمر: هل ضعفت عنه وللإنسان " يحب الحياة " هل تحب الحياة أي فكما تحبها فليكن حفظك نفسك لها وكما ضعفت عن هذا الأمر فلا تتعرض لمثله مما تضعف عنه. وكأن الاستفهام إنما دخل هذا الموضع ليتبع الجواب عنه بأن يقال: نعم فإن كان كذلك فيحتج عليه باعترافه به فيجعل ذلك طريقا إلى وعظه أو تبكيته. ولو لم يعترف في ظاهر الأمر به لم يقو توقيفه عليه وتحذيرة من مثله قوته إذا اعترف به لأن الاحتجاج على المعترف أقوى منه على المنكر أو المتوقف فكذلك قوله سبحانه: هل امتلأت فكأنها قالت: لا فقيل لها: بالغي في إحراق المنكر " كان لك " فيكون هذا خطابا في اللفظ لجهنم وفي المعنى للكفار. " وكذلك " جواب هذا من قولها: هل من مزيد أي أتعلم يا ربنا أن عندي مزيدا. فجواب هذا منه - عز اسمه - لا أي فكما تعلم أن لامزيد فحسبي ما عندي. فعليه قالوا في تفسيره: قد امتلأت فتقول: ما من مزيد. فاعرف هذا ونحوه. ويالله التوفيق.
باب في قوة اللفظ لقوة المعنى
هذا فصل من العربية حسن. منه قولهم: خشن واخشوشن. فمعنى خشن دون معنى اخشوشن لما فيه من تكرير العين وزيادة الواو. ومنه قول عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا وتمعددوا: أي اصلبوا وتناهوا في الخشنة. وكذلك قولهم: أعشب المكان فإذا أرادوا كثرة العشب فيه قالوا: اعشوشب. ومثله حلا واحلولي وخلق واخلولق وغدن واغدودن. ومثله باب فعل وافتعل نحو قدر واقتدر. فاقتدر أقوى معنى من قولهم: قدر. كذلك قال أبو العباس وهو محض القياس قال الله سبحانه: {أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ} فمقتدر هنا أوفق من قادر من حيث كان الموضع لتفخيم الأمر وشدة الأخذ. وعليه - عندي - قول الله - عز وجل -: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} وتأويل ذلك أن كسب الحسنة بالإضافة إلى اكتساب السيئة أمر يسير ومستصغر. وذلك لقوله - عز اسمه -: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا} أفلا ترى أن الحسنة تصغر بإضافتها إلى جزائها صغر الواحد إلى العشرة ولما كان جزاء السيئة إنما هو بمثلها لم تحتقر إلى الجزاء عنها فعلم بذلك قوة فعل السيئة على فعل الحسنة ولذلك قال - تبارك وتعالى -: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} فإذا كان فعل السيئة ذاهبا بصاحبه إلى هذه الغاية البعيدة المترامية عظم قدرها وفخم لفظ العبارة عنها فقيل: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فزيد في لفظ فعل السيئة وانتقص من لفظ فعل الحسنة لما ذكرنا. ومثله سواءً بيت الكتاب: أنا اقتسمنا خطتينا بيننا فحملت برة واحتملت فجار فعبر عن البر بالحمل وعن الفجرة بالاحتمال. وهذا هو ما قلناه في قوله - عز اسمه -: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} لا فرق بينهما. وذاكرت بهذا الموضع بعض أشياخنا من المتكلمين فسر به وحسن في نفسه. ومن ذلك أيضاً قولهم: رجل جميل ووضئ فإذا أرادوا المبالغة في ذلك قالوا: وضاء وجمال فزادوا في اللفظ " هذه الزيادة " لزيادة معناه قال: والمرء يلحقه بفتيان الندى خلق الكريم وليس بالوضاء وقال: تمشى بجهم حسن ملاح أجم حتى هم بالصياح منه صفيحة وجه غير جمال وكذلك حسن وحسان قال: دار الفتاة التي كنا نقول لها يا ظبيةً عطلا حسانة الجيد وكأن أصل هذا إنما هو لتضعيف العين في نحو المثال نحو قطع وكسر وبابهما. وإنما جعلنا هذا هو الأصل لأنه مطرد في بابه أشد من اطراد باب الصفة وذلك نحو قولك: قطع وقطّع وقام الفرس وقومت الخيل ومات البعير وموتت الإبل ولأن العين قد تضعف في الاسم الذي ليس بوصف نحو قبر وتمر وحمر. فدل ذلك على سعة زيادة العين. فأما قولهم: خطاف وإن كان اسماً فإنه لاحق بالصفة في إفادة معنى الكثرة ألا تراه موضوعا لكثرة الاختطاف به. وكذلك سكين إنما هو موضوع لكثرة تسكين الذابح به. وكذلك البزار والعطار والقصار ونحو ذلك إنما هي لكثرة تعاطي هذه الأشياء وإن لم تكن مأخوذة من الفعل. وكذلك النساف لهذا الطائر كأنه قيل له ذلك لكثرة نسفه بجناحيه. وكذلك الخضارى للطائر أيضاً كأنه قيل له ذلك لكثرة خضرته والحوارى لقوة حوره وهو بياضه. وكذلك الزمل والزميل والزمال إنما كررت عينه لقوة حاجته إلى أن يكون تابعا وزميلا. وهو باب منقاد. ونحو من تكثير اللفظ لتكثير المعنى العدول عن معتاد حاله. وذلك فعال في معنى فعيل نحو طوال فهو أبلغ " معنى من " طويل وعراض فإنه أبلغ معنى من عريض. وكذلك خفاف من خفيف وقلال من قليل وسراع من سريع. ففعال - لعمري - وإن كانت أخت فعيل في باب الصفة فإن فعيلا أخص بالباب من فعال ألا تراه أشد انقياداً منه تقول: جميل ولا تقول: جمال وبطىء ولا تقول: بطاء وشديد ولا تقول: شداد ولحم غريض ولا يقال غراض. فلما كانت فعيل هي الباب المطرد وأريدت المبالغة عدلت إلى فعال. فضارعت فعال بذلك فعالا. والمعنى الجامع بينهما خروج كل واحد منهما عن أصله أما فعال فبالزيادة وأما فعال فبالانحراف به عن فعيل. وبعد فإذا كانت الألفاظ أدلة المعاني ثم زيد فيها شيء أوجبت القسمة له زيادة المعنى به. وكذلك إن انحرف به عن سمته وهديته كان ذلك دليلاً على حادث متجدد له. وأكثر ذلك أن يكون ما حدث له زائداً فيه لا منتقصاً منه ألا ترى أن كل واحد من مثالي التحقير والتكسير عارضان للواحد إلا أن أقوى التغييرين هو ما عرض لمثال التكسير. وذلك أنه أمر عرض للإخراج عن الواحد والزيادة في العدة فكان أقوى من التحقير لأنه مبقًّ للواحد على إفراده. ولذلك لم يعتد التحقير سبباً مانعاً من الصرف كما اعتد التكسير مانعاً منه ألا تراك تصرف دريهما ودنينيرا ولا تصرف دراهم ولا دنانير لما ذكرنا من هنا حمل سيبويه مثال التحقير على مثال التكسير فقال تقول: سريحين لقولك: سراحين وضبيعين لقولك: ضباعين: وتقول سكيران: لأنك لا تقول سكارين. هذا معنى قوله وإن لم يحضرنا الآن حقيقة لفظه. وسألت أبا علي عن رد سيبويه مثال التحقير إلى مثال التكسير فأجاب بما أثبتنا آنفاً. فاعرف ذلك إلى ما تقدمه. نقض الأوضاع إذا ضامها طارىء باب في نقض الأوضاع إذا ضامها طارىء عليها من ذلك لفظ الاستفهام إذ ضامه معنى التعجب استحال خبراً. وذلك قولك: مررت برجل أي رجل. فأنت الآن مخبر بتناهي الرجل في الفضل ولست مستفهماً. وكذلك مررت برجل إيما رجل لأن ما زائدة. وإنما كان كذلك لأن أصل الاستفهام الخبر والتعجب ضرب من الخبر. فكأن التعجب لما طرأ على الاستفهام إنما أعاده إلى أصله: من الخبرية. ومن ذلك لفظ الواجب إذا لحقته همزة التقرير عاد نفياً وإذا لحقت لفظ النفي عاد إيجاباً. وذلك كقول الله سبحانه: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} أي ما قلت لهم وقوله: {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ} أي لم يأذن لكم. وأما دخولها على النفي فكقوله - عز وجل -: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} أي أنا كذلك وقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا أي أنتم كذلك. وإنما كان الإنكار كذلك لأن منكر الشيء إنما غرضه أن يحيله إلى عكسه وضده. فلذلك استحال به الإيجاب نفياً والنفي إيجاباً. ومن ذلك أن تصف العلم فإذا أنت فعلت ذلك فقد أخرجته به عن حقيقة ما وضع له فأدخلته معنى لولا الصفة لم تدخله إياه. وذلك أن وضع العلم أن يكون مستغنياً بلفظه عن عدة من الصفات فإذا أنت وصفته فقد سلبته الصفة له ما كان في أصل وضعه مراداً فيه: من الاستغناء بلفظه عن كثير من صفاته. وقد ذكرنا هذا الموضع فيما مضى. فتأمل هذه الطريق حتى إذا ورد شيء منها عرفت مذهبه.
باب في الاستخلاص من الأعلام معاني الأوصاف
من ذلك ما أنشدناه أبو علي - رحمه الله - من قول الشاعر: أنا أبو المنهال بعض الأحيان ليس علي حسبي بضؤلان أنشدنيه - رحمه الله - ونحن في دار الملك. وسألني عما يتعلق به الظرف الذي هو بعض الأحيان فخضنا فيه إلى أن برد في اليد من جهته أنه يحتمل أمرين: أحدهما أن يكون أراد: أنا مثل أبي المنهال فيعمل في الظرف على هذا معنى التشبيه أي أشبه أبا المنهال في بعض الأحيان. والآخر أن يكون قد عرف من أبي المنهال هذا الغناء والنجدة فإذا ذكر فكأنه قد ذكرا فيصير معناه إلى أنه كأنه قال: أنا المغنى في بعض الأحيان أو أنا النجد في بعض تلك الأوقات. أفلا تراك كيف انتزعت من العلم الذي هو أبو المنهال معنى الصفة والفعلية. ومنه قولهم في الخبر. إنما سميت هانئاً لنهنأ. وعليه جاء نابغة لأنه نبغ فسمي بذلك. فهذا - لعمري - صفة غلبت فبقي عليها بعد التسمية بها بعض ما كانت تفيده من معنى الفعل من قبل. وعليه مذهب الكتاب في ترك صرف أحمر إذا سمي به ثم نكر. وقد ذكرنا ذلك في غير موضع إلا أنك على الأحوال قد انتزعت من العلم معنى الصفة. وقد مر بهذا الموضع الطائي الكبير فأحسن فيه واستوفى معناه فقال: فلا تحسباً هنداً لها الغدر وحدها سجية نفسٍ كل غانية هند فقوله كل غانية هند مثناه في معناه وآخذ لأقصى مداه ألا ترى أنه كأنه قال: كل غانية غادرة أو قاطعة أو خائنة أو نحو ذلك. ومنه قول الآخر: إن الذئاب قد اخضرت براثنها والناس كلهم بكر إذا شبعوا أى إذا شبعوا تعادوا وتغادروا لأن بكراً هكذا فعلها. ونحو من هذا - وإن لم يكن الاسم المقول عليه علماً - قول الآخر: ما أمك اجتاحت المنايا كل فؤادٍ عليك أم كأنه قال: كل فؤاد عليك حزين أو كئيب إذ كانت الأم هكذا غالب أمرها لا سيما مع المصيبة وعند نزول الشدة. ومثله في النكرة أيضاً قولهم: مررت برجل صوفٍ تكته أي خشنة ونظرت إلى رجل خز قميصه أي ناعم ومررت بقاع عرفجٍ كله أي جافٍ وخشن. وإن جعلت كله توكيداً لما في ومن العلم أيضاً قوله: أنا أبو بردة إذ جد الوهل أي أنا المغني والمجدي عند اشتداد الأمر. وقريب منه قوله: أنا أبوها حين تستبغي أبا أي أنا صاحبها وكافلها وقت حاجتها إلى ذلك. ومثله وأحسن صنعة منه: لا ذعرت السوام في فلق الصب ح مغيراً ولا دعيت يزيدا أي لا دعيت الفاضل المغنى هذا يريد وليس يتمدح بأن اسمه يزيد لأن يزيد ليس موضوعاً بعد النقل عن الفعلية إلا للعلمية. فإنما تمدح هنا بما عرف من فضله وغنائه. وهو كثير. فإذا مر بك شيء منه فقد عرفتك طريقه.
باب في أغلاط العرب
كان أبو علي - رحمه الله - يرى وجه ذلك ويقول: إنما دخل هذا النحو في كلامهم لأنهم ليست لهم أصول يراجعونها ولا قوانين يعتصمون بها. وإنما تهجم بهم طباعهم على ما ينطقون به فربما استهواهم الشيء فزاغوا به عن القصد. هذا معنى قوله وإن لم يكن صريح لفظه. فمن ذلك ما أنشده أحمد بن يحيى: غدا مالك يرمي نسائي كأنما نسائي لسهمي مالكٍ غرضان فيا رب فاترك لي جهينة أعصرا فمالك موتٍ بالقضاء دهاني هذا رجل مات نساؤه شيئاً فشيئاً فتظلم من ملك الموت عليه السلام. وحقيقة لفظه غلط وفساد. وذلك أن هذا الأعرابي لما سمعهم يقولون: ملك الموت وكثر ذلك في الكلام سبق إليه أن هذه اللفظة مركبة من ظاهر لفظها فصارت عنده كأنها فعل لأن ملكاً في اللفظ على صورة فلك فبني منها فاعلاً فقال: مالك موتٍ وغدا مالك. فصار في ظاهر لفظه كأنه فاعل وإنما مالك هنا على الحقيقة والتحصيل مافل كما أن ملكاً على التحقيق مفل وأصله ملأك فألزمت همزته التخفيف فصار ملكاً. واللام فيه فاء والهمزة عين والكاف لام هذا أصل تركيبه وهو " ل أ ك " وعليه تصرفه ومجيء الفعل منه في الأمر الأكثر قال: ألكني إليها وخير الرسو ل أعلمهم بنواحي الخبر وأصله: ألئكني فخففت همزته. وقال: ألكني إليها عمرك الله يا فتى بآية ما جاءت إلينا تهاديا وقال: ألكني إلى قومي السلام رسالة بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلا " وقال يونس: ألك يألك ". فإذا كان كذلك فقول لبيد: بألوكٍ فبذلنا ما سأل إنما هو عفول قدمت عينه على فائه. وعلى أنه قد جاء عنهم ألك يألك من الرسالة إلا أنه قليل. وعلى ما قلنا فقوله: أبلغ أبا دختنوس مألكةً غير الذي قد يقال ملكذب إنما هي معفلة. وأصلها ملئكة فقلب على ما مضى. وقد ذكرنا هذا الموضع في شرح تصريف أبي عثمان رحمه الله. فإن قلت: فمن أين لهذا الأعرابي - مع جفائه وغلظ طبعه - معرفة التصريف حتى بنى من " ظاهر لفظ " ملكٍ فاعلا فقال: مالك. قيل: هبه لا يعرف التصريف " أتراه لا " يحسن بطبعه وقوة نفسه ولطف حسه هذا القدر! هذا ما لا يجب أن يعتقده عارف بهم أو آلف لمذاهبهم لأنه وإن لم يعلم حقيقة تصريفه بالصنعة فإنه يجده بالقوة ألا ترى أن أعرابياً بايع أن يشرب علبة لبن ولا يتنحنح فلما شرب بعضها كظه الأمر فقال: كبش أملح. فقيل له: ما هذا! تنحنحت. فقال: من تنحنح فلا أفلح. أفلا تراه كيف استعان لنفسه ببحة الحاء واستروح إلى مسكة النفس بها وعللها بالصويت اللاحق " لها في الوقف " ونحن مع هذا نعلم أن هذا الأعرابي لا يعلم أن في الكلام شيئاً يقال له حاء فضلاً عن أن يعلم أنها من الحروف المهموسة وأن الصوت يلحقها في حال سكونها والوقف عليها ما لا يلحقها في حال حركتها أو إدراجها في حال سكونها في نحو بحر ودحر إلا أنه وإن لم يحسن شيئاً من هذه الأوصاف صنعة ولا علماً فإنه يجدها طبعا ووهماً. فكذلك الآخر: لما سمع ملكاً وطال ذلك عليه أحس من ملك في اللفظ ما يحسه من حلك. فكما أنه يقال: أسود حالك قال هنا من لفظة ملك: مالك وإن لم يدر أن مثال ملك فعل أو مفل ولا أن مالكاً هنا فاعل أو مافل. ولو بني من ملك على حقيقة الصنعة فاعل لقيل: لائك كبائك وحائك. وإنما مكنت القول في هذا الموضع ليقوى في نفسك قوة حس هؤلاء القوم وأنهم قد يلاحظون بالمنة والطباع ما لا نلاحظه نحن عن طول المباحثة والسماع. فتأمله فإن الحاجة إلى مثله ظاهرة. ومن ذلك همزهم مصائب. وهو غلط منهم. وذلك أنهم شبهوا مصيبة بصحيفة " فكما همزوا صحائف همزوا أيضاً مصائب وليست ياء مصيبة زائدة كياء صحيفة " لأنها عين ومنقلبة عن واو هي العين الأصلية. وأصلها مصوبة لأنها اسم الفاعل من أصاب كما أن أصل مقيمة مقومة وأصل مريدة مرودة فنقلت الكسرة من العين إلى الفاء فانقلبت الواو ياء على ما ترى. وجمعها القياسي مصاوب. وقد جاء ذلك قال: يصاحب الشيطان من يصاحبه فهو أذي جمة مصاوبه وقالوا في واحدتها: مصيبة ومصوبة ومصابة. وكأن الذي استهوى في تشبيه ياء مصيبة بياء صحيفة أنها وإن لم تكن زائدة فإنها ليست على التحصيل بأصل وإنما هي بدل من الأصل والبدل من الأصل ليس أصلاً وقد عومل لذلك معاملة الزائد حكى سيبويه عن أبي الخطاب أنهم يقولون في راية: راءة. فهؤلاء همزوا بعد الألف وإن لم تكن زائدة وكانت بدلاً كما يهمزون بعد الألف الزائدة في فضاء وسقاء. وعلة ذلك أن هذه الألف وإن لم تكن زائدة فإنها بدل والبدل مشبه للزائد. والتقاؤهما أن كل واحد منهما ليس أصلاً. ونحو منه ما حكوه في قولهم في زاي: زاء. وهذا أشد " وأشد " من راءة لأن الألف في راءة على كل حال بدل وهي أشبه بالزائد وألف زاي ليست منقلبة بل هي أصل لأنها في حرف فكان ينبغي ألا تشبه بالزائد إلا أنها وإن لم تكن منقلبة فإنها وقعت موقع المنقلبة لأن الألف هنا في الأسماء لا تكون أصلاً. فلما كان كذلك شبهت ألف زاي لفظاً بألف باب ودار كما أنهم لما احتاجوا إلى تصريف أخواتها قالوا: قوفت قافا ودولت دالا وكوفت كافا ونحو ذلك. وعلى هذا " أيضاً قالوا " زويت زايا وحكى: إنها زاي فزوها. فلما كان كذلك انجذب حكم زاي إلى حكم راءة. وقد حكيت عنهم منارة ومنائر ومزادة ومزائد. وكأن هذا أسهل من مصائب لأن الألف أشبه بالزائد من الياء. ومن البدل الجاري مجرى الزائد - عندي لا عند أبي علي - همزة وراء. ويجب أن تكون مبدلة من حرف علة لقولهم: تواريت عنك إلا أن اللام لما أبدلت همزة أشبهت الزائدة التي في ضهيأة فكما أنك لو حقرت ضهيأة لقلت: ضهيئة فأقررت الهمزة فكذلك قالوا في تحقير وراء: وريئة. ويؤكد ذلك قول بعضهم فيها: ورية كما قالوا في صلاءة: صلية. فهذا ما أراه أنا وأعتقده في " وراء " هذه. وأما أبو علي - رحمه الله - فكان يذهب إلى أن لامها في الأصل همزة وأنها من تركيب " ورأ " وأنها ليست من تركيب " ورى ". واستدل على ذلك بثبات الهمزة في التحقير على ما ذكرنا. وهذا - لعمري - وجه من القول إلا أنك تدع معه الظاهر والقياس جميعاً. أما الظاهر فلأنها في معنى تواريت وهذه اللام حرف علة لا همزة وأن تكون ياء واجب لكون الفاء واواً. وأما القياس فما قدمناه: من تشبيه البدل بالزائد. فاعرف ما رأيناه في هذا. ومن أغلاطهم قولهم: حلأت السويق ورثأت زوجي بأبيات واستلأمت الحجر ولبأت بالحج وقوله: كمشترئٍ بالحمد أحمرة بترا وأما مسيل فذهب بعضهم في قولهم في جمعه: أمسلة إلى أنه من باب الغلط. وذلك لأنه أخذه من سال يسيل " فهو عندهم على مفعل كالمسير والمحيض " وهو عندنا غير غلط لأنهم قد قالوا فيه: مسل وهذا يشهد بكون الميم فاء. فأمسلة ومسلان: أفعلة وفعلان كأجربة وجربان. ولو كانت أمسلة ومسلان من السيل لكان مثالهما: أمفلة ومفلان والعين منهما محذوفة وهي ياء السيل. وكذلك قال بعضهم في معين لأنه أخذه من العين لأنه من ماء العيون فحمله على الغلط لأنهم قد قالوا: قد سالت معنانه وإنما هو عندنا من قولهم أمعن له بحقه إذا طاع له به. وكذلك الماء إذا جرى من العين فقد أمعن بنفسه وطاع بها. ومنه الماعون لأنه " ما من ": العادة المسامحة به والانقياد إلى فعله. وأنشدني " أبو عبد الله الشجري " لنفسه من قصيدة: ترود ولا ترى فيها أريبا سوى ذي شجة فيها وحيد " كذا أنشدني هذه القصيدة مقيدة " فقلت له: ما معنى أريبا فقال: من الريبة. وأخبرنا أبو علي " عن الأصمعي أنه " كان يقول في قولهم للبحر: المهرقان: إنه من قولهم: هرقت الماء. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى بقول بلال بن جرير: إذا ضفتهم أو سآيلتهم وجدت بهم علة حاضره أراد: ساءلتهم " فاعلتهم " من السؤال ثم عن له أن يبدل الهمزة على قول من قال: سايلتهم فاضطرب عليه الموضع فجمع بين الهمزة والياء فقال: سآيلتهم. فوزنه على هذا: فعاعلتهم. ومن أغلاطهم ما يتعايبون به في الألفاظ والمعاني من نحو قول ذي الرمة: والجيد من أدمانةٍ عنود وقوله: حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجي نفسه الهرب وسنذكر هذا ونحوه في باب سقطات العلماء لما فيه من الصنعة. وكذلك غمز بعضهم على بعض في معانيهم كقول بعضهم لكثير في قوله: فما روضة بالحزن طيبة الثرى يمج الندى جثجاثها وعرارها بأطيب من أردان عزة موهناً وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها والله لو فعل هذا بأمة زنجية لطاب ريحها ألا قلت كما قال سيدك: ألم ترأني كلما جئت طارقا وجدت بها طيباً وإن لم تطيب وكقول بشار في قول كثير: ألا إنما ليلى عصا خيزرانة إذا غمزوها بالأكف تلين لقد قبح بذكره العصا في لفظ الغزل هلا قال كما قلت: وحوراء المدامع من معد كأن حديثها " قطع الجمان " وكان الأصمعي يعيب الحطيئة ويتعقبه فقيل له في ذلك فقال: وجدت شعره كله جيداً فدلني على أنه كان يصنعه. وليس هكذا الشاعر المطبوع: إنما الشاعر المطبوع الذي يرمي بالكلام على عواهنه: جيده على رديئه. وهذا باب في غاية السعة. وتقصيه يذهب بنا كل مذهب. وإنما ذكرت طريقة " وسمته " لتأتم بذلك وتحقق سعة طرقات القوم في القول. فاعرفه بإذن الله تعالى.
باب في سقطات العلماء
حكي عن الأصمعي أنه صحف قول الحطيئة: وغررتني وزعمت أن ك لابن في الصيف تامر فأنشده: لاتني بالضيف تامر أي تأمر بإنزاله وإكرامه. وتبعد هذه الحكاية " في نفسي " لفضل الأصمعي وعلوه وغير أني رأيت أصحابنا على القديم يسندونها إليه ويحملونها عليه. وحكي أن الفراء " صحف فقال " الجر: أصل الجبل يريد الجراصل: الجبل. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد عن أبي عبد الله محمد بن العباس اليزيدي عن الخليل بن اسد النوشجاني عن التوزي قال قلت لأبي زيد الأنصاري: أنتم تنشدون قول الأعشى: بساباط حتى مات وهو محزرق وأبو عمرو الشيباني ينشدها: محرزق فقال: إنها نبطية وأم أبي عمرو نبطية فهو أعلم بها وذهب أبو عبيدة في قولهم: لي عن هذا الأمر مندوحة أي متسع إلى أنه من قولهم: انداح بطنه أي اتسع. وليس هذا من غلط أهل الصناعة. وذلك أن انداح: انفعل وتركيبه من دوح ومندوحة: مفعولة وهي من تركيب " ن د ح " والندح: جانب الجبل وطرفه وهو إلى السعة وجمعه أنداح. أفلا ترى إلى هذين الأصلين: تبايناً وتباعداً فكيف يجوز أن يشتق أحدهما من صاحبه على بعد بينهما وتعادي وضعهما. وذهب ابن الأعرابي في قولهم: يوم أرونان إلى أنه من الرنة. وذلك أنها تكون مع البلاء والشدة. وقال أبو علي - رحمه الله -: ليس هذا من غلط أهل الصناعة لأنه ليس في الكلام أفوعال وأصحابنا يذهبون إلى أنه أفعلان من الرونة وهي الشدة في الأمر. وذهب أبو العباس أحمد بن يحيى في قولهم: أسكفة الباب إلى أنها من قولهم: استكف أي اجتمع. وهذا أمر ظاهر الشناعة. وذلك أن أسكفة: أفعلة والسين فيها فاء وتركيبه من " س ك ف وأما استكف فسينه زائدة لأنه استفعل وتركيبه من " ك ف ف. فأين هذان الأصلان حتى يجمعا ويدانى من شملهما. ولو كانت أسكفة من استكف لكانت أسفعلة وهذا مثال لم يطرق فكرا ولا شاعر - فيما علمناه - قلبا. وكذلك لو كانت مندوحة من انداح بطنه - كما ذهب إليه أبو عبيدة - لكانت منفعلة. وهذا أيضاً في البعد والفحش كأسفعلة. ومع هذا فقد وقع الإجماع على أن السين لا تزاد إلا في استفعل وما تصرف منه. وأسكفة ليس من الفعل في قبيل ولا دبير. وذهب أحمد أيضاً في تنور إلى أنه تفعول من النار - ونعوذ بالله من عدم التوفيق. هذا على سداد هذا الرجل وتميزه من أكثر أصحابه - ولو كان تفعولاً من النار لوجب أن يقال فيه: تنوور كما أنك لو بنيته من القول لكان: تقوولا ومن العود: تعوودا. وهذا في نهاية الوضوح. وإنما تنور: فعول من لفظ " ت ن ر " وهو أصل لم يستعمل إلا في هذا الحرف وبالزيادة كما ترى. ومثله مما يستعمل إلا بالزيادة كثير. منه حوشب وكوكب " وشعلع " " وهزنبران " ودودري " ومنجنون " وهو واسع جداً. ويجوز في التنور أن يكون فعنولاً من " ت ن ر " فقد حكى أبو زيد في زرنوق: زرنوقا. ويقال: إن التنور لفظة اشترك فيها جميع اللغات من العرب وغيرهم. فإن كان كذلك فهو طريف إلا أنه على كل حال فعول أو فعنول لأنه جنس ولو كان أعجمياً لا غير لجاز تمثيله " لكونه جنساً ولاحقاً " بالعربي فكيف وهو أيضاً عربي لكونه في لغة العرب غير منقول إليها وإنما هو وفاق وقع ولو كان منقولاً " إلى اللغة العربية من غيرها " لوجب أن يكون أيضاً وفاقاً بين جميع اللغات غيرها. ومعلوم سعة اللغات " غير العربية " فإن جاز أن يكون مشتركاً في جميع ما عدا العربية جاز أيضاً أن يكون وفاقاً وقع فيها. ويبعد في نفسي أن يكون في الأصل للغةٍ واحدة ثم نقل إلى جميع اللغات لأنا لا نعرف له في ذلك نظيرا. وقد يجوز أيضاً أن يكون وفاقاً وقع بين لغتين أو ثلاث أو نحو ذلك ثم انتشر بالنقل في جميعها. وما أقرب هذا في نفسي ! لأنا لا نعرف شيئاً من الكلام وقع الاتفاق عليه في كل لغة وعند كل أمة: هذا كله إن كان في جميع اللغات هكذا. وإن لم يكن كذلك كان الخطب فيه أيسر. وروينا هذه المواضع عن أحمد بن يحيى. وروينا عنه أيضاً أنه قال: التواطخ من الطيخ وهو الفساد. وهذا - على إفحاشه - مما يجمل الظن به لأنه من الوضوح بحيث لا يذهب على أصغر صغير من أهل هذا العلم. وإذا كان كذلك وجب أن يحسن الظن به ويقال إنه " أراد به ": كأنه مقلوب منه. هذا أوجه عندي من أن يحمل عليه هذا الفحش والتفاوت كله. ومن هذا ما يحكى عن خلف أنه قال: أخذت على المفضل الضبي في مجلس واحد ثلاث سقطات: أنشد لامرئ القيس: تمس بأعراف الجياد أكفنا إذا نحن قمنا عن شواء مضهب فقلت له: عافاك الله! إنما هو نمش: أي نمسح ومنه سمى منديل الغمر مشوشا وأنشد للمخبل السعدي: فقلت: عافاك الله! إنما هو طرفت وأنشد للأعشى: ساعةً أكبر النهار كما ش د محيل لبونه إعتاما فقلت: عافاك الله! إنما هو مخيل بالخاء المعجمة " وهو الذي " رأى خال السحابة فأشفق منها على بهمه فشدها. وأما ما تعقب به أبو العباس محمد بن يزيد كتاب سيبويه في المواضع التي سماها مسائل الغلط فقلما يلزم صاحب الكتاب منه إلا الشيء النزر. وهو أيضاً - مع قلته - من كلام غير أبي العباس. وحدثنا أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس أنه قال: إن هذا كتاب كنا عملناه في أوان الشبيبة والحداثة واعتذر أبو العباس منه. وأما كتاب العين ففيه من التخليط والخلل والفساد ما لا يجوز أن يحمل على أصغر أتباع الخليل فضلاً " عن نفسه " ولا محالة أن " هذا تخليط لحق " هذا الكتاب من قبل غيره رحمه الله. وإن كان للخليل فيه عمل فإنما هو أنه أومأ إلى عمل هذا الكتاب إيماء ولم يله بنفسه ولا قرره ولا حرره. ويدل على أنه قد كان نحا نحوه أني أجد فيه معاني غامضة ونزوات للفكر لطيفة وصنعة في بعض الأحوال مستحكمة. وذاكرت به يوماً أبا علي - رحمه الله - فرأيته منكراً له. فقلت له: إن تصنيفه منساق متوجه وليس فيه التعسف الذي في كتاب الجمهرة فقال: الآن إذا صنف إنسان لغة بالتركية تصنيفاً جيداً أيؤخذ به في العربية! أو كلاماً هذا نحوه. وأما كتاب الجمهرة ففيه أيضاً من اضطراب التصنيف وفساد التصريف ما أعذر واضعه فيه لبعده عن معرفة هذا الأمر. ولما كتبته وقعت في متونه وحواشيه جميعا من التنبيه على هذه المواضع ما استحييت من كثرته. ثم إنه لما طال علي أومأت إلى بعضه وأضربت البتة عن بعضه. وكان أبو علي يقول: لما هممت بقراءة رسالة هذا الكتاب على محمد بن الحسن قال لي: يا أبا علي: لا تقرأ هذا الموضع علي فأنت أعلم به مني. وكان قد ثبت في نفس أبي علي على أبي العباس في تعاطيه الرد على سيبويه ما كان لا يكاد يملك معه نفسه. ومعذورا كان " عندي في ذلك " لأنه أمر وضع من أبي العباس وقدح فيه وغض كل الغض منه. وذكر النضر عند الأصمعي فقال: قد كان يجيئني وكان إذا أراد أن يقول: ألف قال: إلف. ومن ذلك اختلاف الكسائي وأبي محمد اليزيدي عند أبي عبيد الله في الشراء أممدود هو أم مقصور. فمدة اليزيدي وقصره الكسائي فتراضيا ببعض " فصحاء العرب و " كانوا بالباب فمدوه على قول اليزيدي. وعلى كل حال فهو يمد ويقصر. وقولهم: أشرية دليل المد " كسقاء " وأسقية. ومن ذلك ما رواه الأعمش في حديث عبد الله بن مسعود: أن رسول الله ﷺ كان يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة. وكان أبو عمرو بن العلاء قاعداً عنده بالكوفة فقال " الأعمش: يتخولنا وقال أبو عمرو يتخوننا " فقال الأعمش: وما يدريك فقال أبو عمرو: إن شئت أن أعلمك أن الله - عز وجل - لم يعلمك " حرفاً من العربية " أعلمتك. فسأل عنه الأعمش فأخبر بمكانه من العلم. فكان بعد ذلك يدنيه ويسأله عن الشيء إذا أشكل عليه. هذا ما في الحكاية. وعلى ذلك فيتخولنا صحيحة. وأصحابنا يثبتونها. ومنها - عندي - قول البرجمي: يساقط عنه روقه ضارياتها سقاط حديد القين أخول أخولا أي شيئاً بعد شيء. وهذا هو معنى قوله: يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة أي يفرقها ولا يتابعها. ومن ذلك اجتماع الكميت مع نصيب وقد استنشده نصيب من شعره فأنشده الكميت: هل أنت عن طلب الأيفاع منقلب حتى إذا بلغ إلى قوله: أم هل ظعائن بالعلياء نافعة وإن تكامل فيها الدل والشنب عقد نصيب بيده واحداً فقال الكميت: ما هذا فقال أحصي خطأك. تباعدت في قولك: الدل والشنب ألا قلت كما قال ذو الرمة: لمياء في شفتيها حوة لعس وفي اللثات وفي أنيابها شنب ثم أنشده: أبت هذه النفس إلا ادكارا حتى إذا بلغ إلى قوله: كأن الغطامط من غليه أراجيز أسلم تهجو غفارا قال نصيب: ما هجت أسلم غفاراً قط. فوجم الكميت. وسئل الكسائي في مجلس يونس عن أولقٍ: ما مثاله من الفعل فقال: أفعل. فقال له يونس: استحييت لك يا شيخ! والظاهر عندنا من أمر أولق أنه فوعل من قولهم: ألق الرجل فهو مألوق أنشد أبو زيد: تراقب عيناها القطيع كأنما يخالطها من مسه مس أولق وقد يجوز أن يكون: أفعل من ولق يلق إذا خف وأسرع قال: يتبعن سامية العينين تحسبها مجنونة أو ترى ما لا ترى الإبل والأولق: الحنون. ويجوز أيضاً أن يكون فوعلا من ولق هذه. وأصلها - على هذا - وولق. فلما التقت الواوان في أول الكلمة همزوا الأولى منهما على العبرة في ذلك. وسئل الكسائي أيضاً في مجلس يونس عن قولهم: لأضربن أيهم يقوم لم لا يقال: لأضربن أيهم. فقال: أي هكذا خلقت. ومن ذلك إنشاد الأصمعي لشعبة بن الحجاج قول فروة بن مسيك المرادي: فما جبنوا أني أشد عليهم ولكن رأوا ناراً تحس وتسفع فقال شعبة: ما هكذا أنشدنا سماك بن حرب. إنما أنشدنا: " تحش " بالشين معجمة. قال الأصمعي: فقلت: تحس: تقتل من قول الله - تعالى - {إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ} أي تقتلونهم وتحش: توقد. فقال لي شعبة: لو فرغت للزمتك. وأنشد رجل من أهل المدينة أبا عمرو بن العلاء قول ابن قيس الرقيات: إن الحوادث بالمدينة قد أوجعنني وقرعن مروتيه فانتهره أبو عمرو فقال: ما لنا ولهذا الشعر الرخو! إن هذه الهاء لم توجد في شيء من الكلام إلا أرخته. فقال له المديني: قاتلك الله! ما أجهلك بكلام العرب! قال الله - عز وجل - في كتابه: { مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} وقال: {يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ} فانكسر أبو عمرو انكساراً شديداً. قال أبو هفان: وأنشد هذا الشعر عبد الملك بن مروان فقال: أحسنت يا ابن قيس لولا أنك خنثت قافيته. فقال يا أمير المؤمنين ما عدوت قول الله - عز وجل - في كتابه {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} فقال له عبد الملك: أنت في هذه أشعر منك في شعرك. قال أبو حاتم: قلت للأصمعي: أتجيز: إنك لتبرق لي وترعد فقال: لا إنما هو تبرق وترعد. فقلت له: فقد قال الكميت: أبرق وأرعد يا يزي د فما وعيدك لي بضائر فقال: هذا جرمقاني من أهل الموصل ولا آخذ بلغته. فسألت عنها أبا زيد الأنصاري فأجازها. فنحن كذلك إذ وقف علينا أعرابي محرم فأخذنا نسأله. فقال " أبو زيد ": لستم تحسنون أن تسألوه. ثم قال له: كيف تقول: إنك لتبرق لي وترعد. فقال له الأعرابي: أفي الجخيف تعني أي التهدد. فقال: نعم. فقال الأعرابي: إنك لتبرق لي وترعد. فعدت إلى الأصمعي فأخبرته فأنشدني: إذا جاوزت من ذات عرق ثنيةً فقل لأبي قابوس: ما شئت فارعد وقال أبوحاتم أيضاً: قرأت على الأصمعي رجز العجاج حتى وصلت إلى قوله: جأباً ترى بليته مسحجا فقال:. . . تليله فقلت: بليته. فقال: تليله مسحجا فقلت له: أخبرني به من سمعه من فلق في رؤبة أعني أبا زيد الأنصاري فقال: هذا لا يكون " فقلت: جعل " مسحجا " مصدراً أي تسحيجاً. فقال: هذا لا يكون ". فقلت: قال جرير: ألم تعلم مسرحي القوافي أي تسريحي. فكأنه توقف. فقلت: قد قال الله - تعالى - {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} فأمسك. ومن ذلك إنكار أبي حاتم على عمارة بن عقيل جمعه الريح على أرياح. قال: فقلت له فيه: إنما هي أرواح. فقال: قد قال - عز وجل - {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} وإنما الأرواح جمع روح. فعلمت بذلك أنه ممن لا يجب أن يؤخذ عنه. وقال أبو حاتم: كان الأصمعي ينكر زوجة ويقول: إنما هي زوج. ويحتج بقول الله - تعالى - {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} قال: فأنشدته قول ذي الرمة: أذو زوجة في المصر أم ذو خصومة أراك لها بالبصرة العام ثاويا فقال: ذو الرمة طالما أكل المالح والبقل في حوانيت البقالين. قال: وقد قرأنا عليه " من قبل " لأفصح الناس فلم ينكره: فبكى بناتي شجوهن وزوجتي والطامعون إلي ثم تصدعوا وقال آخر: من منزلي قد أخرجتني زوجتي تهر في وجهي هرير الكلبة وقد كان يعاب ذو الرمة بقوله: حتى إذا دومت في الأرض راجعه كبر ولو شاء نجى نفسه الهرب فقيل: إنما يقال: دوى في الأرض ودوم في السماء. وعيب أيضاً في قوله: والجيد من أدمانة عنود فقيل: إنما يقال: أدماء وآدم. والأدمان جمع كأحمر وحمران وأنت لا تقول: حمرانة ولا صفرانة. وكان أبو علي يقول: بني من هذا الأصل فعلانة كخمصانة. وهذا ونحوه مما يعتد في أغلاط العرب إلا أنه لما كان من أغلاط هذه الطائفة القريبة العهد جاز أن نذكره في سقطات العلماء. ويحكى أن أبا عمرو رأى ذا الرمة في دكان طحان بالبصرة كأنما عينها منها وقد ضمرت وضمها السير في بعض الأضى ميم فقيل له: من أين عرفت الميم فقال: والله ما أعرفها إلا أني رأيت معلماً خرج إلى البادية فكتب حرفاً فسألته عنه فقال: هذا الميم فشبهت به عين الناقة. وقد أنشدوا: كما بينت كاف تلوح وميمها وقد قال أبو النجم: أقبلت من عند زياد كالخرف تخط رجلاي بخط مختلف تكتبان في الطريق لام ألف وحكى أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي عن أحمد بن يحيى عن سلمة قال: حضر الأصمعي وأبو عمرو الشيباني عند أبي السمراء فأنشده الأصمعي: بضرب كآذان الفراء فضوله وطعنٍ كتشهاق العفا هم بالنهق ثم ضرب بيده إلى فرو كان بقربه يوهم أن الشاعر أراد فرواً. فقال أبو عمرو: أراد الفرو. فقال الأصمعي: هكذا راويتكم!. ويحكى عن رؤبة في توجهه إلى قتيبة بن مسلم أنه قال: جاءني رجلان فجلسا إلي وأنا أنشد شيئاً من شعري فهمسا بينهما فتفقت عليهما فهمدا. ثم سألت عنهما فقيل لي: الطرماح والكميت. فرأيتهما ظريفين فأنست بهما. ثم كانا يأتياني فيأخذان الشيء بعد الشيء من شعري فيودعانه أشعارهما. وقد كان قدماء أصحابنا يتعقبون رؤبة وأباه ويقولون: تهضما اللغة وولداها وتصرفا فيها غير تصرف الأقحاح فيها. وذلك لإيغالهما في الرجز وهو مما يضطر إلى كثير من التفريع والتوليد لقصره ومسابقة قوافيه. وأخبرنا أبو صالح السليل بن أحمد بإسناده عن الأصمعي قال: قال لي الخليل: جاءنا رجل فأنشدنا: ترافع العز بنا فارفنععا فقلنا: هذا لا يكون. فقال: كيف جاز للعجاج أن يقول: تقاعس العز بنا فاقعنسسا فهذا ونحوه يدلك على منافرة القوم لهما وتعقبهم إياهما وقد ذكرنا هذه الحكاية فيما مضى من هذا الكتاب وقلنا في معناها: ما وجب هناك. وحكى الأصمعي قال: دخلت على حماد بن سلمة وأنا حدث فقال لي: كيف تنشد قول الحطيئة: " أولئك قوم إن بنوا أحسنوا ماذا. فقلت ": فقال: يا بنى أحسنوا البنا. يقال: بنى يبنى بناء في العمران وبنا يبنوُ بناً في الشرف. هكذا هذه الحكاية رويناها عن بعض أصحابنا. وأما الجماعة فعندها أن الواحد من ذلك: بنية وبنية فالجمع على ذلك: البنى والبنى. وأخبرنا أبو بكر محمد بن علي بن القاسم الذهبى بإسناده عن أبي عثمان أنه كان عند أبي عبيدة فجاءه رجل فسأله فقال له: كيف تأمر من قولنا: عنيت بحاجتك فقال له أبو عبيدة: أعن بحاجتى. فأومأت إلى الرجل: أى ليس كذلك. فلما خلونا قلت له: إنما يقال: لتعن بحاجتى. قال: فقال لى أبو عبيدة: لا تدخل إلي. فقلت: لم. فقال: لأنك كنت مع رجل خوزى سرق منى عاما أول قطيفة لى. فقلت: لا والله ما الأمر كذلك: ولكنك سمعتنى أقول ما سمعت أو كلاما هذا معناه. وحدثنا أبو بكر محمد بن علي المراغي قال: حضر الفراء أبا عمر الجرمي فأكثر سؤاله إياه. قال: فقيل لأبي عمر: قد أطال سؤالك أفلا تسأله! فقال له أبو عمر: يا أبا زكرياء ما الأصل في قم فقال: اقوم. قال: فصنعوا ماذا قال: استثقلوا الضمة على الواو فأسكنوها ونقلوها إلى القاف. فقال له أبو عمر: هذا خطأ: الواو إذا اسكن ما قبلها جرت مجرى الصحيح ولم تستثقل الحركات فيها. ويدل على صحة قول أبي عمر إسكانهم إياها وهى مفتوحة في نحو يخاف وينام ألا ترى أن أصلهما: يخوف وينوم. وإنما إعلال المضارع هنا محمول على إعلال الماضى. وهذا مشروح في موضعه. ومن ذلك حكاية أبي عمر مع الأصمعى وقد سمعه يقول: أنا أعلم الناس بالنحو فقال له الأصمعى: يا أبا عمر كيف تنشد قول الشاعر: قد كن يخبأن الوجوه تسترا فالآن حين بدأن للنظار بدأن أو بدين فقال أبو عمر: بدأن. فقال الأصمعى: يا أبا عمر أنت أعلم الناس بالنحو! - يمازحه - إنما هو بدون أى ظهرن. فيقال: إن أبا عمر تغفل الأصمعى فجاءه يوما وهو في مجلسه فقال له أبو عمر: كيف تحقر مختارا. فقال الأمصعى: مخيتير. فقال له أبو عمر: أخطأت إنما هو مخير أو مخيير تحذف التاء لأنها زائدة. حدثني أبو علي قال: اجتمعت مع أبي بكر بن الخياط عند أبي العباس المعمرى بنهر معقل في حديث حدثنيه طويل. فسألته عن العامل في إذا من قوله - سبحانه -: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} قال: فسلك فيها مسلك الكوفيين. فكلمته إلى أن أمسك. وسألته عن غيرها وعن غيرها. وافترقنا. فلما كان الغد اجتمعت معه عند أبي العباس وقد أحضر جماعة من أصحابه فسألونى فلم أر فيهم طائلا. فلما انقضى سؤالهم قلت لأكبرهم: كيف تبنى من سفرجل مثل عنكبوت فقال: سفرروت. فلما سمعت ذلم قمت في المسجد قائما وصفقت بين الجماعة: سفرروت! سفرروت! فالتفت إليهم أبو بكر فقال: لا أحسن الله جزاءكم! ولا أكثر في الناس مثلكم! وافترقنا فكان آخر العهد به. قال أبو حاتم: قرأ الأخفش: - يعنى أبا الحسن -: { وقولوا للناس حسنى } فقلت: هذا لا يجوز لأن حسنى مثل فعلى وهذا لا يجوز إلا بالألف واللام. قال: فسكت. قال أبو الفتح: هذا عندى غير لازم لأبي الحسن لأن حسنى هنا غير صفة وإنما هو مصدر بمنزلة الحسن كقراءة غيره: { قولوا للناس حسنا } ومثله في الفعل والفعلى: الذكر والذكرى وكلاهما مصدر. ومن الأول البؤس والبؤسى. والنعم والنعمى. ولذلك نظائر. وروينا - فيما أظن - عن محمد بن سلام الجمحى قال: قال لى يونس ابن حبيب: كان عيسى بن عمر يتحدث في مجلس فيه أبو عمر بن العلاء. فقال عيسى في حديثه: ضربه فحشت يده. فقال أبو عمرو: ما تقول يا أبا عمر! فقال عيسى: فحشت يده. فقال أبو عمرو: فحشت يده. قال يونس: التي رده عنها جيدة. يقال حشت يده - بالضم - وحشت يده - بالفتح - وأحشت. وقال يونس: وكانا إذا اجتمعا في مجلس لم يتكلم أبو عمرو مع عيسى الزيادى عن الأصمعى قال: حضر الفرزدق مجلس ابن أبي إسحق فقال له: كيف تنشد هذا البيت: وعينان قال الله كونا فكانتا فعولان بالألباب ما تفعل الخمر فقال الفرزدق: كذا أنشد. فقال ابن أبي إسحق: ما كان عليك لو قلت: فعولين! فقال الفرزدق: لو شئت أن تسبح لسبحت. ونهض فلم يعرف أحد في المجلس ما أراد بقوله: لو شئت أن تسبح لسبحت أى لو نصب لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما أن تفعلا ذلك وإنما أراد: أنهما تفعلان بالألباب ما تفعل الخمر قال أبو الفتح: كان هنا تامة غير محتاجة إلى الخبر فكأنه قال: وعينان قال الله: احدثا فحدثتا أو اخرجا إلى الوجود فخرجتا. وأخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال: سأل رجل سيبويه عن قول الشاعر: يا صاح ياذا الضامر العنس فرفع سيبويه الضامر فقال له الرجل: إن فيها والرحل ذى الاقتاد والحلس فقال سيبويه: من هذا هربت. وصعد في الدرجة. فقال أبو الفتح: هذا عندنا محمول على معناه دون لفظه. وإنما أراد: ياذا العنس الضامر والرحل ذى الاقتاد فحمله على معناه دون لفظه. قال أبو العباس: حدثني أبو عثمان قال: جلست في حلقة الفراء فسمعته يقول لأصحابه: لا يجوز حذف لام الأمر إلا في شعر. وأنشد: من كان لا يزعم أنى شاعر فيدن منى تنهه المزاجر قال: فقلت له: لم جاز في الشعر ولم يجز في الكلام. فقال: لأن الشعر يضطر فيه الشاعر فيحذف. قال: فقلت: وما الذى اضطره هنا وهو يمكنه أن يقول: فليدن منى قال: فسأل عنى فقيل له: المازنى فأوسع لى. قال أبو الفتح: قد كان يمكن الفراء أن يقول له: إن العرب قد تلزم الضرورة في الشعر في حال السعة أنساً بها واعتياداً لها وإعداداً لها لذلك عند وقت الحاجة إليها ألا ترى إلى قوله: قد أصبحت أم الخيار تدعى على ذنبا كله لم أصنع فرفع للضرورة ولو نصب لما كسر الوزن. وله نظائر. فكذلك قال: " فيدن منى وهو قادر على أن يقول: فليدن منى لما ذكرت. والمحفوظ في هذا قول أبي عمرو لأبي خيرة وقد قال: استأصل الله عرقاتهم - بنصب التاء -: هيهات أبا خيرة لان جلدك! ثم رواها أبو عمرو فيما بعد. وأجاز أيضاً أبو خيرة: حفرت إراتك جمع إرة. وعلى نحوه إنشاد الكوفيين: ألا يزجر الشيخ الغيور بناته وإنشادهم أيضاً: فلما جلاها بالإيام تحيزت ثباتاً عليها ذلها واكتئابها وأصحابنا لا يرون فتح هذه التاء في موضع النصب. وأما عرقاتهم فواحدة كسعلاة. وكذلك إراة: علفة وأصلها وئرة: فعلة فقلبت الفاء إلى موضع اللام فصار: إروة ثم قلبت الواو ألفا فصار إراة مثل الحادى وأصله: الواحد فقلبت الفاء إلى موضع اللام فصار وزنه على اللفظ: عالفا ومثله قول القطامى: ولا تقضى بواقى دينها الطادى أصله: الواطد ثم قلب إلى عالف. وأنا ثباة ففعلة من الثبة وأما بناته ففعلة كقناة كما أن ثباة وسمعت لغاتهم إنما هي واحدة كرطبة. هذا كله إن كان مارووه - من فتح هذه التاء - صحيحا ومسموعا من فصيح يؤخذ بلغته ولم يجز أصحابنا فتح هذه التاء في الجماعة إلا شيئا قاسه أبو عثمان فقال: أقول: لا مسلمات لك - بفتح التاء - قال: لأن الفتحة الآن ليست لمسلمات وحدها وإنما لها وللا قبلها. وإنما يمتنع من فتح هذه التاء ما دامت الحركة في آخرها لها وحدها. فإذا كانت لها ولغيرها فقد زال طريق ذلك الحظر الذي كان عليها. وتقول على هذا: لا سمات بإبلك - بفتح التاء - على ما مضى. وغيره يقول: لا سمات بها - بكسر التاء - على كل حال. وفي هذا مسألة لأبي على - رحمه الله - طويلة حسنة. وقال الرياشي: سمعت أبا زيد يقول: قال المنتجمع: أعمى على المريض وقال أبو خيرة: غمى عليه. فأرسلوا إلى أم أبى خيرة فقالت: غمى على المريض. فقال لها المنتجع: أفسدك ابنك. وكان وراقا. وقال أبو زيد: قال منتجع: كمء واحدة وكمأة للجميع. وقال أبو خيرة: كمأة واحدة وكمء للجميع مثل تمرة وتمر قال: فمر بهما رؤبة فسألوه فقال كما قال منتجع. وقال أبو زيد: قد يقال: كمأة وكمء كما قال أبو خيرة. وأخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي علي بن بشر بن موسى الأسدى عن الأصمعى قال: اختلف رجلان فقال أحدهما: الصقر وقال الآخر: السقر. فتراضيا بأول وارد يرد عليهما فإذا رجل قد أقبل فسألاه فقال: ليس كما قلت أنت ولا كما قلت أنت وقال الرياشي: حدثني الأصمعى قال: ناظرى المفضل عند عيسى بن جعفر فأنشد بيت أوس: وذات هدم عارٍ نواشرها تصمت بالماء تولبا جذعا فقلت: هذا تصحيف لا يوصف التولب بالإجذاع وإنما هو: جدعا وهو السىء الغذاء. قال: فجعل المفضل يشغب فقلت له: تكلم كلام النمل وأصب. لو نفخت في شبور يهودى ما نفعك شيئا. ومن ذلك إنكار الأصمعى على ابن الأعرابى ما كان رواه ابن الأعرابى لبعض ولد سعيد بن سلم بحضرة سعيد بن سلم لبعض بنى كلاب: سمين الضواحى لم تؤرقه ليلة وأنعم أبكار الهموم وعونها فرفع ابن الأعرابي ليلة ونصبها الأصمعى وقال: إنما أراد: لم تؤرقه أبكار الهموم وعونها ليلةً وأنعم أى زاد على ذلك. فأحضر ابن الأعرابي وسئل عن ذلك فرفع ليلة فقال الأصمعى لسعيد: من لم يحسن هذا القدر فليس بموضع لتأديب ولدك فنحاه سعيد فكان ذلك سبب طعن ابن الأعرابي على الأصمعى. محمد بن يزيد قال: حدثني أبو محمد التوزى عن أبى عمرو الشيبانى قال: عنناً باطلا وظلما كما تع نز عن حجرة الربيض الظباء فقلت: يا سبحان الله! تعتر من العتيرة. فقال الأصمعى: تعنز أى تطعن بعنزة. فقلت: لو نفخت في شبور اليهودى وصحت إلى التنادى ما كان إلا تعتر ولا ترويه بعد اليوم إلا تعتر. قال أبو العباس قال لى التوزى قال لى أبو عمرو: فقال: والله لا أعود بعده إلى تعنز. وأنشد الأصمعى أبا توبة ميمون بن حفص مؤدب عمرو بن سعيد بن سلم بحضرة سعيد: واحدةٌ أعضلكم شأنها فكيف لو قمت على أربع! قال: ونهض الأصمعى فدار على أربع يلبس بذلك على أبي توبة. فأجابه أبو توبة بما يشاكل فعل الأصمعى. فضحك سعيد وقال لأبي توبة: ألم أنهك عن مجاراته في المعانى هذه صناعته. وروى أبو زيد: ما يعوز له شيء إلا أخذه فأنكرها الأصمعى وقال: إنما هو يعور - بالراء -. وهو كما قال الأصمعى. وقال الأثرم على بن المغيرة: مثقل استعان بدفيه ويعقوب بن السكيت حاضر. فقال يعقوب: هذا تصحيف إنما هو: مثقل استعان بذقنه. فقال الأثرم: إنه يريد الرياسة بسرعة ودخل بيته هذا في حديث لهما. وقال أبو الحسن لأبي حاتم: ما صنعت في كتاب المذكر والمؤنث قال: قلت: قد صنعت فيه شيئا. قال: فما تقول في الفردوس قال: ذكر. قال فإن الله - عز وجل - يقول: {الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} قال: قلت: ذهب إلى الجنة فأنث. قال أبو حاتم: فقال لى التوزى: يا عاقل ! أما سمعت قول الناس: أسألك الفردوس الأعلى فقلت يا نا ئم: الأعلى هنا أفعل لا فعلى! قال أبو الفتح: لا وجه لذكره هنا لأن الأعلى لا يكون أبدا فعلى. أبو عثمان قال: قال لى أبو عبيدة: ما أكذب النحويين! يقولون: إن هاء التأنيث لا تدخل على ألف التأنيث وسمعت رؤبة ينشد: فكر في علقى وفي مكور فقلت له: واحد العلقى فقال: علقاة. قال أبو عثمان: فلم أفسر له لأنه كان أغلظ من أن يفهم مثل هذا. وقد ذكرنا نحو هذا فيما قبل أو شرحناه. قال أبو الفتح: قد أتينا في هذا الباب من هذا الشأن على أكثر مما يحتمله هذا الكتاب تأنيسا به وبسطا للنفس بقراءته. وفيه أضعاف هذا إلا أن في هذا كافيا من غيره بعون الله. باب في صدق النقلة وثقة الرواة والحملة هذا موضع من هذا الأمر لا يعرف صحته إلا من تصور أحوال السلف فيه تصورهم ورآهم من الوفور والجلالة بأعيانهم واعتقد في هذا العلم الكريم ما يجب اعتقاده له وعلم أنه لم يوفق لاختراعه وابتداء قوانينه وأوضاعه إلا البر عند الله سبحانه الحظيظ بما نوه به وأعلى شأنه. أو لا يعلم أن أمير المؤمنين عليا - رضى الله عنه - هو البادئه والمنبه عليه والمنشئه والمرشد إليه. ثم تحقق ابن عباس رضى الله عنه به واكتفال ابي الأسود - رحمه الله - إياه. هذا بعد تنبيه رسول الله - ﷺ - عليه وحضه على الأخذ بالحظ منه ثم تتالى السلف - رحمهم الله - عليه واقتفائهم - آخرا على أول - طريقه. ويكفى من بعد ما تعرف حاله ويتشاهد به من عفة أبي عمرو بن العلاء ومن كان معه ومجاورا زمانه. حدثنا بعض أصحابنا - يرفعه - قال: قال أبو عمرو بن العلاء - رحمه الله -: مازدت في شعر العرب إلا بيتا واحدا. يعنى مايرويه للأعشى من قوله: وأنكرتنى وما كان الذى نكرت من الحوادث إلا الشيب والصلعا أفلا ترى إلى هذا البدر الطالع الباهر والبحر الزاخر الذي هو أبو العلماء وكهفهم وبدء الرواة وسيفهم كيف تخلصه من تبعات هذا العلم وتحرجه وتراجعه فيه إلى الله وتحوبه حتى أنه لما زاد فيه - على سعته وانبثاقه وتراميه وانتشاره - بيتا واحدا وفقه الله للاعتراف به وجعل ذلك عنوانا على توفيق ذويه وأهليه. وهذا الأصمعى - وهو صناجة الرواة والنقلة وإليه محط الأعباء والثقلة ومنه تجنى الفقر والملح وهو ريحانة كل مغتبق ومصطبح - كانت مشيخة القراء وأماثلهم تحضره - وهو حدث - لأخذ قراءة نافع عنه. ومعلوم كم قدر ما حذف من اللغة فلم يثبته لأنه لم يقو عنده إذ لم يسمعه. وقد ذكرنا في الباب الذي هذا يليه طرفا منه. فأما إسفاف من لا علم له وقول من لا مسكة به: إن الأصمعى كان يزيد في كلام العرب ويفعل كذا ويقول كذا فكلام معفو عنه غير معبوء به ولا منقوم من مثله حتى كأنه لم يتأد إليه توقفه عن تفسير القرآن وحديث رسول الله - ﷺ - وتحوبه من الكلام في الأنواء. ويكفيك من ذا خشنة أبى زيد وأبى عبيدة. وهذا أبو حاتم بالأمس وما كان عليه من الجد والانهماك والعصمة والاستمساك. وقال لنا أبو علي - رحمه الله - يكاد يعرف صدق أبى الحسن ضرورة. وذلك أنه كان مع هذا إلى ما يعرف عن عقل الكسائى وعفته وظلفه ونزاهته حتى إن الرشيد كان يجلسه ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما ألا ينزعجا لنهضته. وحكى أبو الفضل الرياشي قال: جئت أبا زيد لأقرأ عليه كتابه في النبات فقال: لا تقرأه علي فإني قد أنسيته. وحسبنا من هذا حديث سيبويه وقد حطب بكتابه - وهو ألف ورقة - علما مبتكرا ووضعا متجاوزا لما يسمع ويرى قلما تسند إليه حكاية أو توصل به رواية إلا الشاذ الفذ الذي لا حفل به ولا قدر. فلولا تحفظ من يليه ولزومه طريق ما يعنيه لكثرت الحكايات عنه ونيطت أسبابها به لكن أخلد كل إنسان منهم إلى عصمته وأدرع جلباب ثقته وحمى جانبه من صدقه وأمانته ما أريد من صون هذا العلم الشريف له به. فإن قلت: فإنا نجد علماء هذا الشأن من البلدين والمتحلين به في المصرين كثيرا ما يهجن بعضهم بعضا ولا يترك له في ذلك سماء ولا أرضا. قيل له: هذا أول دليل على كرم هذا الأمر ونزاهة هذا العلم ألا ترى أنه إذا سبقت إلى أحدهم ظنة أو توجهت نحوه شبهة سب بها وبرئ إلى الله منه لمكانها. ولعل أكثر من يرمى بسقطة في رواية أو غمز في حكاية محمى جانب الصدق فيها برئ عند ذكره من تبعتها لكن أخذت عليه إما لاعتنان شبهة عرضت له أو لمن أخذ عنه وإما لأن ثالبه ومتعيبه مقصر عن مغزاه مغضوض الطرف دون مداه. وقد تعرض الشبه للفريقين وتعترض على كلتا الطريقتين. فلولا أن هذا العلم في نفوس أهله والمتفيئين بظله كريم الطرفين جدد السمتين لما تسابوا بالهجنة فيه ولا تنابزوا بالألقاب في تحصين فروجه ونواحيه ليطووا ثوبه على أعدل غروره ومطاويه. نعم وإذا كانت هذه المناقضات والمثقافات موجودة بين السلف القديم ومن باء فيه بالمنصب والشرف العميم ممن هم سرج الأنام والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه ولا غاضا منه ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له ولا يكاد يعدم أهله الأنق به والارتياح لمحاسنه. ولله أبو العباس أحمد بن يحيى وتقدمه في نفوس أصحاب الحديث ثقةً وأمانة وعصمة وحصانة. وهم عيار هذا الشان وأساس هذا البنيان. وهذا أبو علي رحمه الله كأنه بعد معنا ولم تبن به الحال عنا كان من تحو به وتأنيه وتحرجه كثير التوقف فيما يحكيه دائم الاستظهار لإيراد ما يرويه. فكان تارة يقول: أنشدت لجرير فيما أحسب وأخرى: قال لي أبو بكر فيما أظن وأخرى: في غالب ظنى كذا وأرى أني قد هذا جزء من جملة وغصن من دوحة وقطرة من بحر مما يقال في هذا الأمر. وإنما أنسنا بذكره ووكلنا الحال فيه إلى تحقيق ما يضاهيه. باب في الجمع بين الأضعف والأقوى في عقد واحد وذلك جائز عنهم وظاهر وجه الحكمة في لغتهم قال الفرزدق: كلاهما حين جد الجرى بينهما قد أقلعا وكلا أنفيهما رابى فقوله: كلاهما قد أقلعا ضعيف لأنه حمل على المعنى وقوله: وكلا أنفيهما رابى قوى لأنه حمل على اللفظ. وأنشد أبو عمرو الشيباني: كلا جانبيه يعسلان كلاهما كما اهتز خوط النبعة المتتابع فإخباره بيعسلان عن كلا جانبيه ضعيف على ما ذكرنا. وأما كلاهما فإن جعلته توكيدا لكلا ففيه ضعيف لأنه حمل على المعنى دون اللفظ. ولو كان على اللفظ لوجب أن يقول: كلا جانبيه يعسل كله أو قال: يعسلان كله فحمل يعسلان على المعنى وكله على اللفظ وإن كان في هذا ضعف لمراجعة اللفظ بعد الحمل على المعنى. وإن جعلت كلاهما توكيدا للضمير في يعسلان فإنه قوى لأنهما في اللفظ اثنان كما أنهما في المعنى كذلك. وقال الله - سبحانه -: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فحمل أول الكلام على اللفظ وآخره على المعنى والحمل على اللفظ أقوى. وتقول: أنتم كلكم بينكم درهم. فظاهر هذا أن يكون كلكم توكيدا لأنتم والجملة بعده خبر عنه. ويجوز أن يكون كلكم مبتدأ ثانيا والجملة بعده خبر عن كلكم. وكان أجود من ذلك أن يقال: بينه درهم لأنه لفظ كل مفرد ليكون كقولك أنتم غلامكم له مال. ويجوز أيضا: أنتم كلكم بينهم درهم فيكون عود الضمير بلفظ الغائب حملا على اللفظ وجمعه حملا على المعنى. كل ذلك مساغ عندهم ومجاز بينهم. وقال ابن قيس: لئن فتنتني لهى بالأمس أفتنت سعيدا فأضحى قد قلى كل مسلم وفتن أقوى من أفتن حتى إن الأصمعي لما أنشد هذا البيت شاهدا لأفتن قال: ذلك مخنث ولست آخذ بلغته. وقد جاء به رؤبة إلا أنه لم يضممه إلى غيره قال: يعرضن إعراضا لدين المفتن ولسنا ندفع أن في الكلام كثيرا من الضعف فاشيا وسمتا منه مسلوكا متطرقا. وإنما غرضنا هنا أن نرى إجازة العرب جمعها بين قوى الكلام وضعيفه في عقد واحد وأن وأما قوله: أما ابن طوق فقد أوفى بذمته كما وفى بقلاص النجم حاديها فلغتان قويتان. وقال: لم تتلفع بفضل مئزرها دعدٌ ولم تسق دعد في العلب فصرف ولم يصرف. وأجود اللغتين ترك الصرف. وقال: إني لأكنى بأجبال عن اجبلها وبآسم أودية عن اسم واديها وأجبال أقوى من أجبل وهما - كما ترى - في بيت واحد. ومثله في المعنى لا في الصنعة قول الاخر: أبكي إلى الشرق ما كانت منازلها مما يلي الغرب خوف القيل والقال وأذكر الخال في الخد اليمين لها خوف الوشاة وما في الخد من خال قال صاحب الكتاب: أراد: يا معاوية فرخمه على يا حارُ فصار يا معاوى ثم رخّمه ثانيا على قولك: يا حارِ فصار: يامعاوِ كما ترى. أفلا تراه كيف جمع بين الترخيمين: أحدهما على يا حارُ وهو الضعيف والآخر على يا حارِ وهو القوىّ ووجه الحكمة في الجمع بين اللغتين: القويّة والضعيفة في كلام واحد هو: أن يُروك أن جميع كلامهم - وإن تفاوت أحواله فيما ذكرنا وغيره - على ذكر منهم وثابت في نفوسهم. نعم وليؤنِّسك بذاك حتى إنك إذا رأيتهم وقد جمعوا بين ما يقوى وما يضعف في عقد واحد ولم يتحاموه ولم يتجنبوه ولم يقدح أقواهما في أضعفهما كنت إذا أفردت الضعيف منهما بنفسه ولم تضممه إلى القوىّ فيتبين به ضعفه وتقصيره عنه آنس به وأقل احتشاما لاستعماله فقد عرفت ما جاء عنهم من نحو قولهم: كل مجرٍ بالخلاء يسر. وأنشد الأصمعي: فلا تصلى بمطروق إذا ما سرى في القوم أصبح مستكينا إذا شرب المرضة قال: أوكى على ما في سقائك قد روينا وغرضه في هذين البيتين أن يريك خفضة في حال دعته. وقريب منه قول لبيد: يا عين هلا بكيت أربد إذ قمنا وقام الخصوم في كبد أي: هناك يُعرف قد الإنسان لا في في حال الخلوة والخفيضة. وعليه قولها: أي وقتى الإغارة والإضافة. وقد كثر جدا. وآخر ما جاء به شاعرنا قال: وإذا ما خلا الجبان بأرض طلب الطعن وحده والنزالا ونظير هذا الإنسان يكون له ابنان أو أكثر من ذلك فلا يمنعه نجابة النجيب منهما الاعتراف بأدونهما وجمعه بينهما في المقام الواحد إذا احتاج إلى ذلك. وقد كنا قدمنا في هذا الكتاب حكاية أبي العباس مع عمارة وقد قرأ: ولا الليل سابق النهار فقال له أبو العباس: ما أردت فقال: أردت: سابق النهار. فقال: فهلا قلته! فقال عمارة: لو قلته لكان أوزن. وهذا يدلك على أنهم قد يستعملون من الكلام ما غيره آثر في نفوسهم منه سعة في التفسح وإرخاء للتنفس وشحا على ما جشموه فتواضعوه أن يتكارهوه فيلغوه ويطرحوه. فاعرف ذلك مذهبا لهم ولا تطعن عليهم متى ورد عنهم شيء منه.
باب في جمع الأشباه من حيث يغمض الاشتباه
هذا غور من اللغة بطين يحتاج مجتابه إلى فقاهة في النفس ونصاعة من الفكر ومساءلة خاصية ليست بمبتذلة ولا ذات هجنة. ألقيت يوما على بعض من كان يعتادني فقلت: من أين تجمع بين قوله: لدن بهز الكف يعسل متنه فيه كما عسل الطريق الثعلب وبين قولنا: اختصم زيد وعمرو فأجبل ورجع مستفهما. فقلت: اجتماعهما من حيث وضع كل واحد منهما في غير الموضع الذي بدئ له. وذلك أن الطريق خاص وضع موضع العام. وذلك أن وضع هذا أن يقال: كما عسل أمامه الثعلب وذلك الأمام قد كان يصلح لأشياء من الأماكن كثيرة: من طريق وعسف وغيرهما. فوضع الطريق - وهو بعض ما كان يصلح للأمام أن يقع عليه - موضع الأمام. فنظير هذا أن واو العطف وضعها لغير الترتيب وأن تصلح للأوقات الثلاثة نحو جاء زيد وبكر. فيصلح أن يكونا جاءا معا وأن يكون زيد قبل بكر وأن يكون بكر قبل زيد. ثم إنك قد تنقلها من هذا العموم إلى الخصوص. وذلك قولهم: اختصم زيد وعمرو. فهذا لا يجوز أن يكون الواو فيه إلا لوقوع الأمرين في وقت واحد. ففى هذا أيضا إخراج الواو عن أول ما وضعت له في ألأصل: من صلاحها للأزمنة الثلاثة والاقتصار بها على بعضها كما اقتصر على الطريق من بعض ما كان يصلح له الأمام. ومن ذلك أن يقال لك: من أين تجمع بين قول الله سبحانه: { يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ } من قول الشاعر: زمان عليّ غراب غداف فطيره الدهر عنى فطارا فالجواب: أن في كل واحد من الآية والبيت دليلا على قوة شبه الظرف بالفعل. أما الآية فلأنه عطف الظرف في قوله: {فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ} على قوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} والعطف نظير التثنية وهو مؤذن بالتماثل والتشابه. وأما البيت فلأنه عطف الفعل فيه على الظرف الذي هو قوله: علي غراب غداف. وهذا واضح. وبهذا يقوى عندي قول مبرمان: إن الفاء في نحو قولك: خرجت فإذا زيد عاطفة وليست زائدة كما قال أبو عثمان ولا للجزاء كما قال الزيادي. ومن ذلك أن يقال: من أين تجمع قول الله سبحانه: { ولم يكن له ولى من الذل } مع قول امرىء القيس: والجواب أن معنى قوله: { ولم يكن له ولى من الذل }: لم يذل فيحتاج إلى ولى من الذل كما أن هذا معناه: لا منار به فيهتدى به. ومثله قول الآخر: لا تفزع الأرنب أهوالها ولا يرى الضب بها ينجحر وعليه قول الله تعالى: {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} أى لا يشفعون لهم فينتفعوا بذلك. يدل عليه قوله عز اسمه: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} وإذا كان كذلك فلا شفاعة إلا للمرتضى. فعلمت بذلك أن لو شفع لهم لا ينتفعون بذلك. ومنه قولهم: هذا أمر لا ينادى وليده أى لا وليد فيه فينادى. فإن قيل: فإذا كان لا منار به ولا وليد فيه ولا أرنب هناك فما وجه إضافة هذه الأشياء إلى ما لا ملابسة بينها وبينه قيل: لا بل هناك ملابسة لأجلها ما صحت الإضافة. وذلك أن العرف أن يكون في الأرض الواسعة منا يهتدى به وأرنب تحلها. فإذا شاهد الإنسان هذا البساط من الأرض خاليا من المنار والأرنب ضرب بفكره إلى ما فقده منهما فصار ذلك القدر من الفكر وصلة بين الشيئين وجامعا لمعتاد الأمرين. وكذلك إذا عظم الأمر واشتد الخطب على أنه لا يقوم له ولا يحضر فيه إلا الأجلاد وذوو البسالة دون الولدان وذوى الضراعة. فصار العلم بفقد هذا ومن ذلك أن يقال: من أين تجمع قول الأعشى: ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وبت كما بات السليم مسهدا مع قول الآخر - فيما رويناه عن ابن الأعرابي -: وطعنة مستبسل ثائر ترد الكتيبة نصف النهار ومع قول العجاج: ولم يضع جاركم لحم الوضم ومع قوله أيضاً: حتى إذا اصطفوا له جدارا والجواب: أن التقاء هذه المواضع كلها هو في أن نصب في جميعها على المصدر ما ليس مصدرا. وذلك أن قوله: ليلة أرمدا انتصب ليلة منه على المصدر وتقديره: ألم تغتمض عيناك اغتماض ليلة أرمد فلما حذف المضاف الذي هو اغتماض أقام ليلة مقامه فنصبها على المصدر كما كان الاغتماض منصوبا عليه. فالليلة إذاً ههنا منصوبة على المصدر لا على الظرف. كذا قال أبو على لنا. وهو كما ذكر لما ذكرنا. فكذلك إذاً قوله: إنما نصف النهار منصوب على المصدر لا على الظرف ألا ترى أن ابن الأعرابي قال في تفسيره: إن معناه: ترد الكتيبة مقدار نصف اليوم أى مقدار مسيرة نصف يوم. فليس إذاً معناه: تردها في وقت نصف النهار بل: الرد الذي لو بدىء أول النهار لبلغ نصف يوم. وكذلك قول العجاج: ولم يضع جاركم لحم الوضم فلحم الوضم منصوب على المصدر أى ضياع لحم الوضم. وكذلك قوله أيضاً: حتى إذا اصطفوا له جدارا فجدارا الوضم منصوب على المصدر. هذا هو الظاهر ألا ترى أن معناه: حتى إذا اصطفوا له اصطفاف جدار ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه على ما مضى. وقد يجوز أن يكون جدارا حالا أي مثل الجدار وأن يكون أيضاً منصوبا على فعل آخر أى صاروا جدارا أى مثل جدار فنصبه في هذا الموضع على أنه خبر صاروا. والأول أظهر وأصنع. ومن ذلك أن يقال: من أين يجمع قول الله سبحانه: {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} مع قوله تعالى: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ}. والتقاؤهما أن أبا علي - رحمه الله - كان يقول: إن عين استكانوا من الياء وكان يأخذه من لفظ الكين ومعناه وهو لحم باطن الفرج أى فما ذلوا وما خضعوا. وذلك لذل هذا الموضع ومهانته. وكذلك قوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ} إنما هو من لفظ الحياء ومعناه أى الفرج أى يطئوهن وهذا واضح. ومن ذلك أن يقال: من أين يجمع بين قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} و بين قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ}. والتقاءهما من قبل أن الفاء في قوله سبحانه: {فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} إنما دخلت لما في الصفة التي هي قوله: {الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ} من معنى الشرط أى إن فررتم منه لاقاكم - فجعل - عز اسمه - هربهم منه سببا للقيه إياهم على وجه المبالغة حتى كأن هذا مسبب عن هذا كما قال زهير: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه فمعنى الشرط إذاً إنما هو مفاد من الصفة لا الموصوف. وكذلك قوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} إنما استحقوا الويل لسهوهم عن الصلاة لا للصلاة نفسها والسهو مفاد من الصفة لا من الموصوف. فقد ترى إلى اجتماع الصفتين في أن المستحق من المعنى إنما هو لما فيهما من الفعل الذي هو الفرار والسهو وليس من نفس الموصوفين اللذين هما الموت والمصلون. وليس كذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِم} من قبل أن معنى الفعل المشروط به هنا إنما هو مفاد من نفس الاسم الذي وقال لى أبو علي - رحمه الله -: { إنى لم أودع كتابى } في الحجة شيئا من انتزاع أبي العباس غير هذا الموضع أعنى قوله: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} مع قوله: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه وكان - رحمه الله - يستحسن الجمع بينهما. ومن ذلك أن يقال: من أين يجمع قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} مع قول الأعشى: حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر والتقاؤهما أن معناه: فاجلدوا كل واحد منهم ثمانين جلدة وكذلك قوله: حتى يقول الناس أى حتى يقول كل واحد من الناس: يا عجبا! ألا ترى أنه لولا ذلك لقيل: يا عجبنا. ومثل ذلك ما حكاه أبز ويد من قولهم: أتينا الأمير فكسانا كلنا حلة وأعطانا كلنا مائة أى كسا كل واحد منا حلة وأعطاه مائة. ومثل قوله سبحانه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ} أى: أو لم نعمر كل واحد منكم ما يتذكر فيه من تذكر. ومن ذلك أن يقال: من أين يجمع قول العجاج: وكحل العينين بالعواور لما رأى أن لادعه ولا شبع مال إلى أرطاة حقف فالطجع واجتماعهما أنه صحح الواو في العواور لإرادة الياء في العواوير كما أنه أراد: فاضطجع ثم أبدل من الضاد لا ما. فكان قياسه إذ زالت الضاد وخلفتها اللام أن تظهر تاء افتعل فيقال: التجع كما يقال: التفت والتقم والتحف. لكن أقرت الطاء بحالها ليكون اللفظ بها دليلا على إرادة الضاد التي هذه اللام بدل منها كما دلت صحة الواو في العواور على إرادة الياء في العواوير وكما دلت الهمزة في أوائيل - إذا مددت مضطرا - على زيادة الياء فيها وأن الغرض إنما هو أفاعل لا أفاعيل. ونحو من الطجع في إقرار الطاء لإرادة الضاد ما حكى لنا أبو علي عن خلف من قولهم: التقطت النوى واستقطته واضتقطته. فصحة التاء مع الضاد في اضتقطته دليل على إرادة اللام في التقطته وإن هذه الضاد بدل من تلك اللام كما أن لام الطجع بدل من ضاد اضطجع: هذا هنا كذلك ثمة. ونحو من ذلك ما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: لا أكلمك حيرى دهرٍ بإسكان الياء في الكلام وعن غير ضرورة من الشعر. وذلك أنه أراد: حيرى دهر - أى امتداد الدهر وهو من الحيرة لأنها مؤذنة بالوقوف والمطاولة - فحذف الياء الأخيرة وبقيت الياء الأولى على سكونها وجعل بقاؤها ساكنة على الحال التي كانت عليها قبل حذف الأخرى من بعدها دليلا على إرادة هذا المعنى فيها وأنها ليست مبنية على التخفيف في أول أمرها إذ لو كانت كذلك لوجب تحريكها بالفتح فيقال: لا أكلمك حيرى دهر كقولك: مدة الدهر وأبد الأبد ويد المسند و: بقاء الوحى في الصم الصلاب ونحو ذلك. وهذا يدل على أن المحذوف من الياءين في قوله: بكى بعينك واكف القطر ابن الحوارى العالى الذكر إنما هو الياء الثانية في الحوارى كما أن المحذوف من حيرى دهر إنما هو الثانية في حيرى. فاعرفه. ومثله إنشاد أبي الحسن: ارهن بنيك عنهم أرهن بنى يريد بنىّ فحذف الياء الثانية للقافية ولم يعد النون التي كان حذفها للإضافة فيقول: بنين لأنه نوى الياء الثانية فجعل ذلك دليلا على إرادتها ونيته إياها. فهذا شرح من خاصى السؤال لم تكد تجرى به عادة في الاستعمال. وقد كان أبو علي رحمه الله - وإن لم يكن تطرقه - يعتاد من الإلقاء نحوا منه فيتلو الآية وينشد البيت ثم يقول: ما في هذا مما يسأل عنه من غير أن يبرز نفس حال المسئول عنه ولا يسمح بذكره من جهته ويكله إلى استنباط المسئول عنه حتى إذا وقع له غرض أبي علي فيه أخذ في الجواب عليه.
باب في المستحيل وصحة قياس الفروع على فساد الأصول
اعلم أن هذا الباب وإن ألانه عندك ظاهر ترجمته وغض منه في نفسك بذاذة سمته فإن فيه ومن ورائه تحصينا للمعاني وتحريرا للألفاظ وتشجيعا على مزاولة الأغراض. والكلام فيه من موضعين: أحدهما: ذكر استقامة المعنى من استحالته والآخر: الاستطالة على اللفظ بتحريفه والتعلب به ليكون ذلك مدرجة للفكر ومشجعة للنفس وارتياضا لما يرد من ذلك الطرز. وليس لك أن تقول: فما في الاشتغال بإنشاء فروع كاذبة عن أصول فاسدة! وقد كان في التشاغل بالصحيح مغنٍ عن التكلف للسقيم. هذا خطأ من القول من قبل أنه إذا أصلح الفكر وشحذ البصر وفتق النظر كان ذلك عونا لك وسيفا ماضيا في يدك ألا ترى إلى ما كان نحو هذا من الحساب وما فيه من التصرف والاعتمال. وذلك قولك: إذا فرضت أن سبعة في خمسة أربعون فكم يجب أن يكون على هذا ثمانية في ثلاثة فجوابه أن تقول: سبعة وعشرون وثلاثة أسباع. وبابه - على الاختصار - أن تزيد على الأربعة والعشرين سُبُعها وهو ثلاثة وثلاثة أسباع كما زدت على الخمسة والثلاثين سبعها - وهو خمسة - حتى صارت: أربعين. وكذلك لو قال: لو كانت سبعة في خمسة ثلاثين كم كان يجب أن تكون ثمانية في ثلاثة لقلت: عشرين وأربعة أسباع نقصت من الأربعة والعشرين سبعها كما نقصت من الخمسة والثلاثين سبعها. وكذلك لو كان نصف المائة أربعين لكان نصف الثلاثين اثنى عشر. وكذلك لو كان نصف المائة ستين لكان نصف الثلاثين ثمانية عشر. ومن المحال أن يقول لك: ما تقول في مال نصفه ثلثاه كم ينبغي أن يكون ثلثه فجوابه أن تقول: أربعة أتساعه. وكذلك لو قال: ما تقول في مال ربعه وخمسه نصفه وعشره كم ينبغي أن يكون نصفه وثلثه فجوابه أن يكون: جميعه وتسعه. وكذلك لو قال: ما تقول في مال نصفه ثلاثة أمثاله كم يجب أن تكون سبعة أمثاله فجوابه أن تقول: اثنين وأربعين مثلا له. وكذلك لو قال: ما تقول في مال ضعفه ثلثه كم ينبغي أن يكون أربعة أخماسه وجوابه أن تقول: عشره وثلث عشره. وكذلك لو قال لك: إذا كانت أربعة وخمسة ثلاثة عشر فكم يجب أن يكون تسعة وستة فجوابه أن تقول: أحدا وعشرين وثلثين. وكذلك طريق الفرائض أيضا ألا تراه لو قال: مات رجل وخلف ابنا وثلاث عشرة بنتا فأصاب الواحدة ثلاثة أرباع ما خلفه المتوفى كم يجب أن يصيب الجماعة فالجواب أنه يصيب جميع الورثة مثل ما خلفه المتوفى إحدى عشرة مرة وربعا. وكذلك لو قال: امرأة ماتت وخلفت زوجا وأختين لأب وأم فأصاب كل واحدة منهما أربعة أتساع ما خلفته المتوفاة كم ينبغي أن يصيب جميع الورثة والجواب أنه يصيبهم ما خلفته المرأة وخمسة أتساعه. فهذه كلها ونحوه من غير ما ذكرنا أجوبة صحيحة على أصول فاسدة. ولو شئت أن تزيد وتغمض في السؤال لكان ذلك لك. وإنما الغرض في هذا ونحوه التدرب به والارتياض بالصنعة فيه. وستراه بإذن الله. فمن المحال أن تنقض أول كلامك بآخره. وذلك كقولك: قمت غدا وسأقوم أمس ونحو هذا. فإن قلت: فقد تقول إن قمت غدا قمت معك وتقول: لم أقم أمس وتقول: أعزك الله وأطال بقاءك فتأتى بلفظ الماضي ومعناه الاستقبال وقال: ولقد أمر على اللئيم يسبنى فمضيت ثمت قلت لا يعنيني أي: ولقد مررت. وقال: وإنى لآتيكم تشكر ما مضى من الأمر واستيجاب ما كان في غد أوديت إن لم تحب حبو المعتنك أي أودى - وأمثاله كثيرة -. قيل: ما قدمناه على ما أردنا فيه. فأما هذه المواضع المتجوزة وما كان نحوها فقد ذكرنا أكثرها فيما حكيناه عن أبي علي وقد سأل أبا بكر عنه في نحو هذا فقال أبو بكر كان حكم الأفعال أن تأتي كلها بلفظ واحد لأنها لمعنى واحد غير أنه لما كان الغرض في صناعتها أن تفيد أزمنتها خولف بين مُثُلها ليكون ذلك دليلا على المراد فيها. قال: فإن أمن اللبس فيها جاز أن يقع بعضها موقع بعض. وذلك مع حرف الشرط نحو إن قمت جلست لأن الشرط معلوم أنه لا يصح إلا مع الاستقبال. وكذلك لم يقم أمس وجب لدخول لم ما لولا هي لم يجز. قال: ولأن المضارع أسبق في الرتبة من الماضي فإذا نفى الأصل كان الفرع أشد انتفاء. وكذلك أيضا حديث الشرط في نحو إن قمت قمت جئت فيه بلفظ الماضي الواجب تحقيقا للأمر وتثبيتا له أي إن هذا وعد موفى به لا محالة كما أن الماضي واجب ثابت لا محالة. ونحو من ذلك لفظ الدعاء ومجيئة على صورة الماضي الواقع نحو أيدك الله وحرسك الله إنما كان ذلك تحقيقا له وتفؤلا بوقوعه أن هذا ثابت بإذن الله وواقع غير ذي شك. وعلى ذلك يقول السامع للدعاء إذا كان مريدا لمعناه: وقع إن شاء الله ووجب لا محالة أن يقع ويجب. ولقد أمر على اللئيم يسبني فإنما حكى فيه الحال الماضية والحال لفظها أبدا في بالمضارع نحو قولك: زيد يتحدث ويقرأ أي هو في حال تحدث وقراءة. وعلى نحو من حكاية الحال في نحو هذا قولك: كان زيد سيقوم أمس أي كان متوقعا منه القيام فيما مضى. وكذلك قول الطرماح: واستيجاب ما كان في غد يكون عذره فيه: أنه جاء بلفظ الواجب تحقيقا له وثقة بوقوعه أي إن الجميل منكم واقع متى أريد وواجب متى طلب. وكذلك قوله: أوديت إن لم تحب حبو المعتنك جاء به بلفظ الواجب لمكان حرف الشرط الذي معه أي إن هذا كذا لا شك فيه فالله الله في أمرى يؤكد بذلك على حكم في قوله: يا حكم الوارث عن عبد الملك أي إن لم تتداركني هلكت الساعة غير شك هكذا يريد. فلأجله ما جاء بلفظ الواجب الواقع غير المرتاب به ولا المشكوك في وقوعه. وقد نظر إلى هذا الموضع أبو العتاهية فاتبعه عتب الساعة الساعه أموت الساعة الساعه وهذا - على نذالة لفظه - وفق ما نحن على سمته. وهذا هذا. وليس كذلك قولك: قمت غدا وسأقوم أمس لأنه عارٍ من جميع ما نحن فيه إلا أنه لو دل دليل من لفظ أو حال لجاز نحو هذا. فأما على تعرية منه وخلوه مما شرطناه فيه فلا. ومن المحال قولك: زيد أفضل إخوته ونحو ذلك. وذلك أن أفضل: أفعل وأفعل هذه التي معناها المبالغة والمفاضلة متى أضيفت إلى شيء فهى بعضه كقولك: زيد أفضل الناس فهذا جائز لأنه منهم والياقوت أنفس الأحجار لأنه بعضها. ولا تقول: زيد أفضل الحمير ولا الياقوت أنفس الطعام لأنهما ليسا منهما. وهذا مفاد هذا. فعلى ذلك لم يجيزوا: زيد أفضل إخوته لأنه ليس واحد من إخوته وإنما هو واحد من بنى أبيه ألا ترى أنه لو كان له إخوة بالبصرة وهو ببغداد وكان بعضهم وهم بالبصرة لوجب من هذا أن يكون من ببغداد البتة في حال كونه بها مقيما بالبصرة البتة في تلك الحال. وأيضا فإن الإخوة مضافون إلى ضمير زيد وهي الهاء في إخوته فلو كان واحدا منهم وهم مضافون إلى ضميره كما ترى لوجب أيضا أن يكون داخلا معهم في إضافته إلى ضميره وضمير الشيء هو الشيء البتة والشيء لا يضاف إلى نفسه. وأما قول الله تعالى {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} فإن الحق هنا غير اليقين وإنما هو خالصه وواضحه فجرى مجرى إضافة البعض إلى الكل نحو هذا ثوب خز. ونحوه قولهم: الواحد بعض العشرة. ولا يلزم من حيث كان الواحد بعض العشرة أن يكون بعض نفسه لأنه لم يضف إلى نفسه وإنما أضيف إلى جماعة نفسه بعضها وليس كذلك زيد أفضل إخوته لأن الإخوة مضافة إلى نفس زيد وهي الهاء التي هي ضميره. ولو كان زيد بعضهم وهم مضافون إلى ضميره لكان هو أيضا مضافا إلى ضميره الذي هو نفسه وهذا محال. فاعرف ذلك فرقا بين الموضعين فإنه واضح. فأما قولنا: أخذت كل المال وضربت كل القوم فليس الكل هو ما أضيف إليه. قال أبو بكر: إنما الكل عبارة عن أجزاء الشيء وكما جاز أن يضاف أجزاء الجزء الواحد إلى الجملة جاز أيضا أن تضاف الأجزاء كلها إليه. فإن قيل: فالأجزاء كلها هي الجملة فقد عاد الأمر إلى إضافة الشيء إلى نفسه. قيل: هذا فاسد وليس أجزاء الشيء هي الشيء وإن كان مركبا منها. بل الكل في هذا جارٍ مجرى البعض في أنه ليس بالشيء نفسه كما أن البعض ليس به نفسه. يدل على ذلك وأن حال البعض متصورة في الكل قولك: كل القوم عاقل أي كل واحد منهم على انفراده عاقل. هذا هو الظاهر وهو طريق الحمل على اللفظ قال تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} وقال تعالى: كلا أبويكم كان فرع دعامة فلم يقل: كانا وهو الباب. ومثله قول الأعشى أيضا: حتى يقول الناس مما رأوا يا عجبا للميت الناشر أي حتى يقول كل واحد منهم: يا عجبا. وعليه قول الآخر: تفوقت مال ابنى حجير وما هما بذى حطمة فانٍ ولا ضرع غمر أي: وما كل واحد منهما كذلك. فأما قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} و {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} فمحمول على المعنى دون اللفظ. وكأنه إنما حمل عليه هنا لأن كلا فيه غير مضافة فلما لم تضف إلى جماعة عوض من ذلك ذكر الجماعة في الخيبر. ألا ترى أنه لو قال: وكل له فانت لم يكن فيه لفظ الجمع البتة ولما قال: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} فجاء بلفظ الجماعة مضافا إليها استغنى به عن ذكر الجماعة في الخبر. وتقول - على اللفظ -: كل نسائك قائم ويجوز: قائمة إفرادا على اللفظ أيضا وقائمات على المعنى البتة قال الله - سبحانه -: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء} ولم يقل: كواحدة لأن الموضع موضع عموم فغلب فيه التذكير وإن كان معناه: ليست كل واحدة منكن وصواب المسألة أن تقول: زيد أفضل بني أبيه وأكرم نجل أبيه وعترة أبيه ونحو ذلك وأن تقول: زيد أفضل من إخوته لأن بدخول مِن ارتفعت الإضافة فجازت المسألة. ومن المحال قولك: أحق الناس بمال أبيه ابنه. وذلك أنك إذا ذكرت الأبوة فقد انطوت على البنوة فكأنك إذاً إنما قلت: أحق الناس بمال أبيه أحق الناس بمال أبيه. فجرى ذلك مجرى قولك: زيد زيد والقائم القائم ونحو ذلك مما ليس في الجزء الثاني منه إلا ما في الجزء الأول البتة وليس على ذلك عقد الإخبار لأنه يجب أن يستفاد من الجزء الثاني ما ليس مستفادا من الجزء الأول. ولذلك لم يجيزوا: ناكح الجارية واطئها ولا رب الجارية مالكها لأن الجزء الأول مستوف لما انطوى عليه الثاني. فإن قلت: فقد قال أبو النجم: أنا أبو النجم وشعرى شعرى وقال الآخر: إذ الناس ناسٌ والبلاد بغرة وإذ أم عمار صديقٌ مساعف وقال آخر: بلاد بها كنا وكنا نحلها إذ الناس ناس والبلاد بلاد هذه رجائي وهذى مصر عامرةً وأنت أنت وقد ناديت من كثب وأنشد أبو زيد: رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع فقلت وأنكرت الوجوه هُم هُم وأمثاله كثيرة. قيل: هذا كله وغيره مما هو جار مجراه محمول عندنا على معناه دون لفظه ألا ترى أن المعنى: وشعرى متناهٍ في الجودة على ما تعرفه وكما بلغك وقوله: إذ الناس ناس أي: إذ الناس أحرار والبلاد أحرار وأنت أنت أي: وأنت المعروف بالكرم وهم هم أي: هم الذين أعرفهم بالشر والنكر لم يستحيلوا ولم يتغيروا. فلولا هذه الأغراض وأنها مرادة معتزمة لم يجز شيء من ذلك لتعرى الجزء الآخر من زيادة الفائدة على الجزء الأول. وكأنه إنما أعيد لفظ الأول لضرب من الإدلال والثقة بمحصول الحال. أي أنا أبو النجم الذي يكتفى باسمه من صفته ونعته. وكذلك بقية الباب كما قال: أنا الحباب الذي يكفى سمى نسبي ونظر إليه شاعرنا وقلبه فقال: ولكن صحة المسألة أن تقول: أحق الناس بماله أبيه أبرهم به وأقومهم بحقوقه. فتزيد في الثاني ما ليس موجودا في الأول. فهذه طريقة استحالة المعنى. وهو باب. وأما صحة قياس الفروع على فساد الأصول فكأن يقول لك قائل: لو كانت الناقة من لفظ القنو ما كان يكون مثالها من الفعل. فجوابه أن تقول: علفة. وذلك أن النون عين والألف منقلبة عن واو والواو لام القنو والقاف فاؤه. ولو كان القنو مشتقا من لفظ الناقة لكان مثاله لفع. فهذان أصلان فاسدان والقياس عليهما آوٍ بالفرعين إليهما. وكذلك لو كانت الأسكفة مشتقة من استكف الشيء - على ما قال وذهب إليه أحمد بن يحيى لكانت أسفعلة - ولو كان استكف مشتقا من الأسكفة لكان على اللفظ: افتعل بتشديد اللام وعلى الأصل: افتعلل لأن أصله على الحقيقة: استكفف. ومن ذلك أن لو كان ماهان عربيا فكان من لفظ هوم أو هيم لكان لعفان. ولو كان من لفظ الوهم لكان لفعان. ولو كان من لفظ همى لكان: علفان. ولو وجد في الكلام تركيب و م ه فكان ماهان من لفظه لكان مثاله: عفلان. ولو كان من لفظ النهم لكان: لاعافا. ولو كان من لفظ المهيمن لكان: عافالا. ولو كان في الكلام تركيب م ن ه فكان ماهان منه لكان: فالاعا. ولو كان فيه تركيب ن م ه فكان منه لكان: عالافا. وذهب أبو عبيدة في المندوحة إلى أنها من قولهم: انداح بطنه إذا اتسع. وذلك خطأ فاحش. ولو كانت منه لكانت: منفعلة. وقد ذكرنا ذلك في باب سقطات العلماء. نعم ولو كانت من لفظ الواحد لكانت: منلفعة. ولو كانت من لفظ حدوت لكانت: منعلفة. ولو كانت من دحوت لكانت: منفلعة. ولو كان في الكلام تركيب و د ح فكانت مندوحة منه لكانت: منعفلة. ولو كان قولهم: انداح بطنه من لفظ مندوحة لكانت: افعال بألف موصولة واللام مخففة. وذهب بعض أشياخ اللغة في يستعور إلى أنه: يفتعول وأخذه من سعر. وهذا غلط. ولو كان من قولهم: عَّرس بالمكان لكان: يلتفوعا. ولو كان من سَرُع لكان: يفتلوعا. ولو كان من عسر لكان: يعتفولا. ولو كان من لفظ رسع لكان: يعتلوفا. ولو كان من لفظ رعس لكان: يلتعوفا. وأما تيهورة فلو كانت من تركيب ه ر ت لكانت: ليفوعة. ولو كانت من لفظ ت ر ه لكانت: فيلوعة. ولو كانت من لفظ ه ت ر لكانت: عيفولة. ولو كانت من لفظ ر ه ت لكانت: ليعوفة. ولو كانت من لفظ ر ت ه لكانت: عيلوفة. ومع هذا فليست من لفظ ت ه ر وإن كانت - في الظاهر وعلى البادى - منه بل هي عندنا من لفظ ه و ر. وقد ذكر ذلك أبو على في تذكرته فغنينا عن إعادته. وإنما غرضنا هنا مساق الفروع على فساد الأصول لما يعقب ذلك من قوة الصنعة وإرهاف الفكرة. وأما مرمريس فلو كانت من لفظ س م ر لكانت: علعليف. ولو كانت من لفظ ر س م: لكانت لفلفيع ولو كانت من لفظ ر م س لكانت: عفعفيل. ولو كانت من لفظ س ر م لكانت: لعلعيف. ولو كانت من لفظ م س ر لكانت: فلفليع. لكنها عندنا من لفظ م ر س وهي على الحقيقة فعفعيل منه. وأما قرقرير لقرقرة الحمام فإنها فعلليل وهو رباعي وليست من هذا الطرز الذي مضى. وأما قندأو فإنها فنعلو من لفظ ق د أ ولو كانت من لفظ ق د و لكانت: فنعأل. ولو كانت من لفظ د و ق لكانت: لنفأع. ولو كانت من لفظ ن ق د لكانت: عفلأو. ولو كانت من لفظ ن د ق لكانت: لفعأو. ولو كانت من لفظ الندأة لكانت قفلعو فحكمت بزيادة القاف وهذا أغرب مما قبله. ولو كانت من لفظ النآدى لكانت: قفلعو بزيادة القاف أيضا. والمسائل من هذا النجر تمتد وتنقاد إلا أن هذا طريق صنعتها. فاعرفه وقسه بإذن الله تعالى