→ خطبة الكتاب | حياة النفس في حضرة القدس المقدمة المؤلف: أحمد بن زين الدين الأحسائي |
الباب الأول ← |
أما المقدمة، فاعلم أن الله سبحانه لم يخلق العباد عبثاً لأنه حكيم والحكيم لا يفعل ما لا فائدة فيه، ولمّا كان غنياً غير محتاج - لأن المحتاج محدث -؛ كانت فائدة خلقه للخلق راجعة إليهم ليوصلهم إلى السعادة الأبدية، وذلك متوقف على تكاليفهم بما يكون سبباً لاستحقاق السعادة الأبدية، ولو لم يكلفهم لمااستحقوا شيئاً ولو أعطاهم بغير عمل كان عبثاً وقد ثبت أنه حكيم لا يفعل العبث. قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}، و لما أراد خلقهم أنعم عليهم كرماً لأنهم لا يكونون شيئاً إلا بنعمته، فلما أنعم عليهم وجب عليهم شكر النعم، ولا يمكنهم شكر نعمه حتى يعرفوه لئلا يفعلوا ما لا يجوز عليه، فشكر نعمه متوقف على معرفته ومعرفته متوقفة على النظر والتفكر في آثار صنعه، والنظر والتفكر متوقف على الصمت يعني الإعراض بالقلب عن الخلق؛ فأول الواجبات على المكلفين الصمت كما روي عن أمير المؤمنين "عليه السلام" فإذا صمت عن الخلق تمكن من النظر، وهو الواجب الثاني، وبه يتمكن من المعرفة، فمن ترك الواجب الأول من المكلفين فقد ترك الواجب الثاني، ومن تركه فقد ترك معرفة الله وتوحيده وعدله ونبوة أنبيائه وإمامة خلفاء أنبيائه عليهم السلام ومعرفة المعاد ورجوع الأرواح إلى الأجساد ومن ترك ذلك فليس بمؤمن، بل ولا مسلم وكان في زمرة الكافرين واستحق العذاب الأليم الدائم المقيم، والمراد بالمعرفة التي لا يثبت الإسلام إلا بها اعتقاد وجود صانع ليس بمصنوع وإلا لكان له صانع ومعرفة الصفات التي تثبت لذاته وهي ذاته، وإلا لتعددت القدماء والصفات التي تثبت لأفعاله ومعرفة الصفات التي لا تجوز عليه لأنها صفات خلقه والصفات التي لا تجوز على أفعاله لأنها صفات أفعال خلقه ومعرفة عدله لأنه سبحانه غني مطلق فلا يحتاج إلى شيء وعالم مطلق فلا يجهل شيئاً ومعرفة نبوة نبينا محمد ﷺ ونبوة جميع الأنبياء عليهم السلام، لأنهم الوسائط بين الله سبحانه وبين عباده والمبلغون عنه تعالى إليهم، ومعرفة خلفائهم عليهم السلام لأنهم حفظة شرائعهم، فهم حجج الله بعدهم، ومعرفة بعث المكلفين وحشرهم إلى مالك يوم الدين، وذلك على ما نذكره من تعليم الله تعالى لعباده معرفة ذلك على ألسن حججه عليهم السلام؛ كل ذلك بالدليل، ولو مجملاً كما يأتي إن شاء الله تعالى.