حورية النهر
حورية النهر المؤلف: بدر شاكر السياب |
نفوس معذبه هائمة
تخبط في الظلمة القاتمة
أجد لها الليل أحزانها
و تذكار أيامها الباسمة
فسارت تفتش عن حبها
و تنشد لذاتها الدائمة
و أسرى بها تحت جنح الظلام
زوارق في اللجة الغائمة
إذا ما تلوث على الشاطئين
من النهر أمواجه اللاطمه
و أرسى على مائه زورق
تؤرجحه النسمة الحالمة
أطلت على النهر حورية
فأغوته بالنظرة الساهمة
فأغواره و هي أوطانها
بواك على فقدها نادمة
و أمواجه و هي أترابها
جئت تحت أقدامها لاثمه
أحورية النهر غضي العيون
و كوني بملاحة راحمه
تسيرين في زورق من ظلال
فتدفعه النسمة الناعمة
و مجدافك اخترته من ضي
اء النجوم على اللجة القاتمة
و أطربت النهر و الضفتين
أغان و قيثارة ناغمة
لقد حق أن تسحر الكائنات
وتستل آهاتها الجاثمة
فأوتارها شعرك العسجدي
و أنت الموقعة الباسمة
رأى النهر مصرع ملاحه
بعينيك أيتها الظالمة
رآك فهيأ مجدافه
و أسلم زورقه للظلام
يثير إذا سار عزم الميا
ه فتطلق عن جانبيه السهام
طغى الموج و ارتد يطوي الظلال
فلم يبق للعين إلا القتام
فيا زورقا من ظلال تلاشى
بحورية ليس ترعى الذمام
أخلفت ملاحنا وحده
و للموج في الشاطئين احتدام
و حورية النهر ما خلفت
سوى أغنيات تثير الغرام
يجاري اختلاجاتها زورق
و موج و قلب حواه الهيام
و نهر تمازج أمواهه
و يحملها رغوة إذ تنام
و نجم يعشى الدجى ضوءه
كنبع على ثغره العشب نام
و يقتاف آثارها زورق
و ملاحه الشارد المستهام
يطالعه طيف حورية
من الموج يختال في الابتسام
فمن كل صوب سرى خالها
هناك و إن سار ألفى الظلام
أوهما يرى لا فذا صوتها
ينتهي فتعيد المياه الكلام
و لاحت له أعين مشفقات
محدقة من وراء الغمام
تنادي به ظللتك الخطوب
و قادتك نحو الردى و الحمام
و لكن أذنيه لم تسمعا
حديث السماوات حيث السلام
جرى وهو ليس له غاية
سوى أن يجدف حتى الصباح
و يقفو على الماء ضوء النجوم
و يصرع أشجانه بالنواح
لقد حطم الليل مجدافه
و هيض الشراع بعصف الرياح
وقد أطفأ الموج مصباحه
فصاح و لم يجد ذاك الصياح
تبرمت يا ليل بالبائسين
فزل و اترك الصبح يأسو الجراح
و نادى وقد مد كلتا يديه
لقد حان يا أرض عنك الرواح
فيا شاطئا كان مأوى الغريب
إذا مل طول السرى فاسترح
وداعا وداع الشقي الحزين
سيسر إلى الموت بعد الكفاح
و يا زمج الماء خدن السفين
سمير الشراع الطروب الصداح
كلانا يحن إلى تربه
فطر لي فإني مهيض الجناح
و يا أنجم الليل يا عودي
إذا القلب في الليل بالداء طاح
إذا ما خبا نوركن الوضيء
أسى و تألق نجم الصباح
فحدثنه عن فتى في الدجى
طواه العباب وحب الملاح
رأى -ويح عينيه- حورية
فجن بها ساعة ثم راح
فقد يخبر النجم عنه الرعاة
فيبكون حزنا و تبكي البطاح
و مات الشقي الحزين فعادت
تكفنه بالشراع الرياح