جوعان في القبر بلا غذاء
جوعان في القبر بلا غذاء المؤلف: بدر شاكر السياب |
جوعان في القبر بلا غذاء
عريان في الثلج بلا رداء
صرخت في الشتاء
أقضّ يا مطر
مضاجع العظام و الثلوج و الهباء
مضاجع الحجر
و أنبت البذور و لتفتح الزّهر
و أحرق البيادر العقيم بالبروق
و فجّر العروق
و أثقل الشجر
و جئت يا مطر
تفجّرت تنثك السماء و الغيوم
و شقّق الصخر
و فاض من هباتك الفرات و اعتكر
و هبّت القبور هزّ موتها و قام
و صاحت العظام
تبارك الإله واهب الدّم المطر
فآه يا مطر
نودّ لو ننام من جديد
نودّ لو نموت من جديد
فنومنا براعم انتباه
و موتنا يخبّئ الحياة
نود لو أعادنا الإله
إلى ضمير غيبة الملبّد العميق
نود لو سعى بنا الطريق
إلى الوراء حيث بدؤه البعيد
من أيقظ العازر من رقاده الطويل
ليعرف الصباح و الأصيل
و الصيف و الشتاء
لكي يجوع أو يحسّ جمرة الصدى
و يحذر الردى
و يحسب الدقائق الثّقال و السّراع
و يمدح الرعاع
و يسفك الدماء
من الذي أعادنا أعاد ما نخاف
من الإله في ربوعنا
تعيش ناره على شموعنا
يعيش حقده على دموعنا
-2-
أهذا أدونيس هذا الحواء
و هذا الشحوب و هذا الجفاف
أهذا أودنيس أين الضياء
و أين القطاف
مناجل لا تحصد
أزاهر لا تعقد
مزارع سوداء من غير ماء
أهذا انتظار السنين الطويلة
أهذا صراخ الرجولة
أهذا أنين النساء
أودنيس يا لاندحار البطولة
لقد حطم الموت فيك الرجاء
و أقبلت بالنظرة الزائغة
و بالقبضة الفارغة
بقبضة تهدّد
و منجل لا يحصد
سوى العظام و الدم
اليوم و الغد
متى سيولد
متى سنولد
-3-
الموت في الشوارع
و العقم في المزارع
و كل ما نحبّه يموت
الماء قيّدوه في البيوت
و ألهث الجداول الجفاف
هم التتار أقبلوا ففي المدى رعاف
و شمسنا دم و زادنا دم على الصّحاف
محمد اليتيم أحرقوه فالمساء
يضيء من حريقه و فارت الدماء
من قدميه من يديه من عيونه
و أحرق الإله في جفونه
محمّد النبيّ في حراء قيّدوه
فسمّر النهار حيث سمّروه
غدا سيصلب المسيح في العراق
ستأكل الكلاب من دم البراق
-4-
يا أيها الربيع
يا أيها الربيع ما الذي دهاك
جئت بلا مطر
جئت بلا زهر
جئت بلا ثمر
و كان منتهاك مثل مبتداك
يلفه النجيع
و أقبل الصيف علينا أسود الغيوم
نهاره هموم
و ليله نسهر فيه نحسب النجوم
حتى إذا السنابل
نضجن للحصاد
و غنت المناجل
و غطت البيادر الوهاد
خيّل للجياع أنّ ربّة الزّهر
عشتار قد أعادت الأسير للبشر
و كللت جبينه الغضير بالثمر
خيّل للجياع أنّ كاهل المسيح
أزاح عن مدفنه الحجر
فسار يبعث الحياة في الضّريح
و يبرئ الأبرص أو يجدّد البصر
من الذي أطلق من عقالها الذئاب
من الذي سقى من السّراب
و خبأ الوباء في المطر
الموت في البيوت يولد
يولد قابيل لكي ينتزع الحياة
من رحم الأرض و من منابع المياه
فيظلم الغد
و تجهض النساء في المجازر
و يرقص اللهيب في البيادر
و يهلك المسيح قبل العازر
دعوه يرقد
دعوه فالمسيح ما دعاه
ما تبتغون لحمه المقدّد
يباع في مدينة الخطاة
مدينة الحبال و الدماء و الخمور
مدينة الرصاص و الصخور
أمس أزيح من مداها فارس النّحاس
أمس أزيح فارس الحجر
فران في سمائها النعاس
و رنق الضجر
و جال في الدروب فارس من البشر
يقتل النساء
و يصبغ المهود بالدماء
و يلعن القضاء و القدر
-5-
كأن بابل القديمة المسوّرة
تعود من جديد
قبابها الطوال من حديد
يدق فيها جرس كأنّ مقبرة
تئن فيه و السماء ساح مجزرة
جنانها المعلقات زرعها الرؤوس
تجرها قواطع الفؤوس
و تنقر الغربان من عيونها
و تغرب الشموس
وراء شعرها الخصيب في غصونها
أهذه مدينتي؟ أهذه الطلول
خطّ عليها عاشت الحياة
من دم قتلاها فلا إله
فيها و لا ماء و لا حقول
أهذه مدينتي؟ خناجر التتر
تغمد فوق بابها و تلهث الفلاة
حول دروبها و لا تزورها القمر
أهذه مدينتي أهذه الحفر
و هذه العظام
يطلّ من بيوتها الظلام
و تصبغ الدماء بالقتام
لكي تضيع لا يراها قاطع الأثر
أهذه مدينتي جريحة القباب
فيها يهوذا أحمر الثياب
يسلّط الكلاب
على مهود إخوتي الصغار و البيوت
تأكل من لحومهم و في القرى تموت
عشتار عطشى ليس في جبينها زهر
و في يديها سلة ثمارها حجر
ترجم كل زوجة به و للنخيل
في شطّها عويل