مسألة في إبطال قولهم بقدم العالم
مذهب الفلاسفة
تفصيل المذهب: اختلفت الفلاسفة في قدم العالم. فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه وأنه لم يزل موجوداً مع الله تعالى ومعلولاً له ومسوقاً له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان. وحكي عن أفلاطن أنه قال: العالم مكون ومحدث.
ثم منهم من أول كلامه وأبى أن يكون حدث العالم معتقداً له. وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سماه " ما يعتقده جالينوس رأياً " إلى التوقف في هذه المسألة. وأنه لا يدري العالم قديم أو محدث. وربما دل على أنه لا يمكن أن يعرف وأن ذلك ليس لقصور فيه بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقول ولكن هذا كالشاذ في مذهبهم وإنما مذهب جميعهم أنه قديم وأنه بالجملة لا يتصور أن يصدر حادث من قديم بغير واسطة أصلاً.
اختيار أشد أدلتهم وقعاً في النفس إيراد أدلتهم.
لو ذهبت أصف ما نقل عنهم في معرض الأدلة وذكر في الاعتراض عليه لسودت في هذه المسألة أوراقاً ولكن لا خير في التطويل. فلنحذف من أدلتهم ما يجري مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذي يهون على كل ناظر حله. ولنقتصر على إيراد ما له وقع في النفس مما لا يجوز أن ينهض مشككاً لفحول النظار فإن تشكيك الضعفاء بأدنى خبال ممكن.
وهذا الفن من الأدلة ثلاثة:
الأول يستحيل حدوث حادث من قديم مطلقاً قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقاً لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلاً فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكناً إمكاناً صرفاً فإذا حدث بعد ذلك لم يخل إما أن تجدد مرجح أو لم يتجدد فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما قبل ذلك وإن تجدد مرجح فمن محدث ذلك المرجح ولم حدث الآن ولم يحدث من قبل والسؤال في حدوث المرجح قائم. وبالجملة فأحوال القديم إذا كانت متشابهة فإما أن لا يوجد عنه شيء قط وإما أن يوجد على الدوام فأما أن يتميز حال الترك عن حال الشروع فهو محال. لم لم يحدث العالم قبل حدوثه... وتحقيقه أن يقال: لم لم يحدث العالم قبل حدوثه لا يمكن أن يحال على عجزه عن الأحداث ولا على استحالة الحدوث فإن ذلك يؤدي إلى أن ينقلب القديم من العجز إلى القدرة والعالم من الاستحالة إلى الإمكان وكلاهما محالان. ولا أمكن أن يقال: لم يكن قبله غرض ثم تجدد غرض ولا أمكن أن يحال على فقد آلة ثم على وجودها بل أقرب ما يتخيل أن يقال: لم يرد وجوده قبل ذلك. فيلزم أن يقال: حصل وجوده لأنه صار مريداً لوجوده بعد أن لم يكن مريداً فيكون قد حدثت الإرادة.
أو قبل حدوث الإرادة وحدوثه في ذاته محال لأنه ليس محل الحوادث وحدوثه لا في ذاته لا يجعله مريداً. ولنترك النظر في محل حدوثه. أليس الإشكال قائماً في أصل حدوثه! وأنه من أين حدث ولم حدث الآن ولم يحدث قبله أحدث الآن لا من جهة الله فإن جاز حادث من غير محدث فليكن العالم حادثاً لا صانع له وإلا فأي فرق بين حادث وحادث وإن حدث بإحداث الله فلم حدث الآن ولم يحدث من قبل ألعدم آلة أو قدرة أو غرض أو طبيعة فلما أن تبدل ذلك بالوجود وحدث عاد الإشكال بعينه. أو لعدم الإرادة فتفتقر الإرادة إلى إرادة وكذى الإرادة الأولى ويتسلسل إلى غير نهاية. فإذن قد تحقق بالقول المطلق أن صدور الحادث من القديم من غير تغير أمر من القديم في قدرة أو آلة أو وقت أو غرض أو طبع محال وتقدير تغير حال محال لأن الكلام في ذلك التغير الحادث كالكلام في غيره والكل محال ومهما كان العالم موجوداً واستحال حدثه ثبت قدمه لا محالة. وهذا أقوى أدلتهم فهذا أخبل أدلتهم. وبالجملة كلامهم في سائر مسائل الإلهيات أرك من كلامهم في هذه المسألة إذ يقدرون هاهنا على فنون من التخييل لا يتمكنون منه في غيرها. فلذلك قدمنا هذه المسألة وقدمنا أقوى أدلتهم.
لماذا يستحيل حدوث حادث بإرادة قديمة الاعتراض من وجهين: أحدهما أن يقال: بم تنكرون على من يقول: إن العالم حدث بإرادة قديمة اقتضت وجوده في الوقت الذي وجد فيه وأن يستمر العدم إلى الغاية التي استمر إليها وأن يبتدئ الوجود من حيث ابتدأ وأن الوجود قبله لم يكن مراداً فلم يحدث لذلك وأنه في وقته الذي حدث فيه مراد بالإرادة القديمة فحدث لذلك فما المانع لهذا الاعتقاد وما المحيل له قولهم: لكل حادث سبب... فإن قيل: هذا محال بين الإحالة لأن الحادث موجب ومسبب. وكما يستحيل حادث بغير سبب وموجب يستحيل وجود موجب قد تم بشرائط إيجابه وأركانه وأسبابه حتى لم يبق شيء منتظر البتة ثم يتأخر الموجب بل وجود الموجب عند تحقق الموجب بتمام شروطه ضروري وتأخره محال حسب استحالة وجود الحادث الموجب بلا موجب. فقبل وجود العالم كان المريد موجوداً والإرادة موجودة ونسبتها إلى المراد موجودة ولم يتجدد مريد ولم يتجدد إرادة ولا تجدد للإرادة نسبة لم تكن فإن كل ذلك تغير فكيف تجدد المراد وما المانع من التجدد قبل ذلك وحال التجدد لم يتميز عن الحال السابق في شيء من الأشياء وأمر من الأمور وحال من الأحوال ونسبة من النسب بل الأمور كما كانت بعينها. ثم لم يكن يوجد المراد وبقيت بعينها كما كانت فوجد المراد ما هذا إلا غاية الإحالة. وذلك في الأمور الوضعية أيضاً في الطلاق مثلاً وليس استحالة هذا الجنس في الموجب والموجب الضروري الذاتي بل وفي العرفي والوضعي فإن الرجل لو تلفظ بطلاق زوجته ولم تحصل البينونة في الحال لم يتصور أن تحصل بعده لأنه جعل اللفظ علة للحكم بالوضع والاصطلاح فلم يعقل تأخر المعلول إلا أن يعلق الطلاق بمجيء الغد أو بدخول الدار فلا يقع في الحال ولكن يقع عند مجيء الغد وعند دخول الدار فإنه جعله علة بالإضافة إلى شيء منتظر. فلما لم يكن حاضراً في الوقت وهو الغد والدخول توقف حصول الموجب على حضور ما ليس بحاضر فما حصل الموجب إلا وقد تجدد أمر وهو الدخول وحضور الغد حتى لو أراد أن يؤخر الموجب عن اللفظ غير منوط بحصول ما ليس بحاصل لم يعقل مع أنه الواضع وأنه المختار في تفصيل الوضع. فإذا لم يمكننا وضع هذا بشهوتنا ولم نعقله فكيف نعقله في الإيجابات الذاتية العقلية الضرورية المقصود فعله لا يتأخر إلا بمانع وأما في العادات فما يحصل بقصدنا لا يتأخر عن القصد مع وجود القصد إليه إلا بمانع فإن تحقيق القصد والقدرة وارتفعت الموانع لم يعقل تأخر المقصود وإنما يتصور ذلك في العزم لأن العزم غير كاف في وجود الفعل بل العزم على الكتابة لا يوقع الكتابة ما لم يتجدد قصد هو انبعاث في الإنسان متجدد حال الفعل فإن كانت الإرادة القديمة في حكم قصدنا إلى الفعل فلا يتصور تأخر المقصود إلا بمانع ولا يتصور تقدم القصد فلا يعقل قصد في اليوم إلى قيام في الغد إلا بطريق العزم. وإن كانت الإرادة القديمة في حكم عزمنا فليس ذلك كافياً في وقوع المعزوم عليه بل لا بد من تجدد انبعاث قصدي عند الإيجاد وفيه قول بتغير القديم. لماذا يحدث القصد ثم يبقى عين الإشكال في أن ذلك الانبعاث أو القصد أو الإرادة أو ما شئت سمه لم حدث الآن ولم يحدث قبل ذلك فإما أن يبقى حادث بلا سبب أو يتسلسل إلى غير نهاية. ورجع حاصل الكلام إلى أنه وجد الموجب بتمام شروطه ولم يبق أمر منتظر ومع ذلك تأخر الموجب ولم يوجد في مدة لا يرتقي الوهم إلى أولها بل آلاف سنين لا تنقص شيئاً منها ثم انقلب الموجب بغتة من غير أمر تجدد وشرط تحقق وهو محال في نفسه. قولنا: من أين تعرفون الأمر... والجواب أن يقال: استحالة إرادة قديمة متعلقة بإحداث شيء أي شيء كان تعرفونه بضرورة العقل أو نظره وعلى لغتكم في المنطق تعرفون الالتقاء بين هذين الحدين بحد أوسط أو من غير حد أوسط. فإن ادعيتم حداً أوسط وهو الطريق النظري فلا بد من إظهاره وإن ادعيتم معرفة ذلك ضرورة فكيف لم يشارككم في معرفته مخالفوكم والفرقة المعتقدة بحدث العالم بإرادة قديمة لا يحصرها بلد ولا يحصيها عدد ولا شك في أنهم لا يكابرون العقول عناداً مع المعرفة فلا بد من إقامة برهان على شرط المنطق يدل على استحالة ذلك إذ ليس في جميع ما ذكرتموه إلا الاستبعاد والتمثيل بعزمنا وإرادتنا وهو فاسد فلا تضاهي الإرادة القديمة القصود الحادثة وأما الاستبعاد المجرد فلا يكفي من غير برهان. ... من ضرورة العقل فإن قيل: نحن بضرورة العقل نعلم أنه لا يتصور موجب بتمام شروطه من غير موجب ومجوز ذلك مكابر لضرورة العقل. خصومكم يقولون القول نفسه في علم الله قلنا: وما الفصل بينكم وبين خصومكم إذا قالوا لكم: إنا بالضرورة نعلم إحالة قول من يقول: إن ذاتاً واحداً عالم بجميع الكليات من غير أن يوجب ذلك كثرة ومن غير أن يكون العلم زيادة على الذات ومن غير أن يتعدد العلم مع تعدد المعلوم وهذا مذهبكم في حق الله وهو بالنسبة إلينا وإلى علومنا في غاية الإحالة ولكن تقولون: لا يقاس العلم القديم بالحادث. وطائفة منكم استشعروا حالة هذا فقالوا: إن الله لا يعلم إلا نفسه فهو العاقل وهو العقل وهو المعقول والكل واحد. فلو قال قائل: اتحاد العقل والعاقل والمعقول معلوم الاستحالة بالضرورة إذ تقدير صانع للعالم لا يعلم صنعه محال بالضرورة والقديم إذا لم يعلم إلا نفسه - تعالى عن قولكم وعن قول جميع الزائغين علواً كبيراً - لم يكن يعلم صنعه البتة. بل لا نتجاوز إلزامات هذه المسألة. دورات الفلك: إن كان لا نهاية لأعدادها لا يكون لها أقسام فنقول: بم تنكرون على خصومكم إذ قالوا: قدم العالم محال لأنه يؤدي إلى إثبات دورات للفلك لا نهاية لأعدادها ولا حصر لآحادها مع أن لها سدساً وربعاً ونصفاً فإن فلك الشمس يدور في سنة وفلك زحل في ثلاثين سنة فتكون أدوار زحل ثلث عشر أدوار الشمس وأدوار المشتري نصف سدس أدوار الشمس فإنه يدور في اثني عشر سنة. ثم كما أنه لا نهاية لأعداد دورات زحل لا نهاية لأعداد دورات الشمس مع أنه ثلث عشره بل لا نهاية لأدوار فلك الكواكب الذي يدور في ستة وثلاثين ألف سنة مرة واحدة كما لا نهاية للحركة المشرقية التي للشمس في اليوم والليلة مرة. فلو قال قائل: هذا مما يعلم استحالته ضرورة فبماذا تنفصلون عن قوله بل لو قال قائل: أعداد هذه الدورات شفع أو وتر أو شفع ووتر جميعاً أو لا شفع ولا وتر. ولا تكون شفع أو وتر فإن قلتم: شفع ووتر جميعاً أو لا شفع ولا وتر فيعلم بطلانه ضرورةً. وإن قلتم: شفع فالشفع يصير وتراً بواحد فكيف أعوز ما لانهاية له واحد وإن قلتم: وتر فالوتر يصير بواحد شفعاً فكيف أعوز ذلك الواحد الذي به يصير شفعاً فيلزمكم القول بأنه ليس بشفع ولا وتر. قولهم: المتناهي وحده يوصف بالشفع والوتر فإن قيل: إنما يوصف بالشفع والوتر المتناهي وما لا يتناهى لا يوصف به. قولنا تكون هناك جملة آحاد قلنا: فجملة مركبة من آحاد لها سدس وعشر كما سبق ثم لا توصف بشفع ولا وتر يعلم بطلانه ضرورة من غير نظر فبماذا تنفصلون عن هذا قولهم: ليست هنالك جملة آحاد فإن قيل: محل الغلط في قولكم أنه جملة مركبة من آحاد فإن هذه الدورات معدومة. أما الماضي فقد انقرض وأما المستقبل فلم يوجد والجملة إشارة إلى موجودات حاضرة ولا موجود هاهنا!. قولنا لا بأس قلنا: العدد ينقسم إلى الشفع والوتر ويستحيل أن يخرج عنه سواء كان المعدود موجوداً باقياً أو فانياً. فإذا فرضنا عدداً من الأفراس لزمنا أن نعتقد أنه لا يخلو من كونه شفعاً أو وتراً سواء قدرناها موجودة أو معدمة. فإن انعدمت بعد الوجود لم تتغير هذه القضية. أمر نفس الإنسان على أنا نقول لهم: لا يستحيل على أصلكم موجودات حاضرة هي آحاد متغايرة بالوصف ولا نهاية لها وهي نفوس الآدميين المفارقة للأبدان بالموت فهي موجودات لا توصف بالشفع والوتر فبم تنكرون على من يقول: بطلان هذا يعرف ضرورة وهذا الرأي في النفوس هو الذي اختاره ابن سينا ولعله مذهب رسطاليس. قولهم: النفس واحدة فإن قيل: فالصحيح رأي أفلاطن وهو أن النفس قديمة وهي واحدة وإنما تنقسم في الأبدان فإذا فارقتها عادت إلى أصلها واتحدت. قولنا: هذا مما يخالف ضرورة العقل... قلنا: فهذا أقبح وأشنع وأولى بأن يعتقد مخالفاً لضرورة العقل. فإنا نقول: نفس زيد عين نفس عمرو أو غيره فإن كان عينه فهو باطل بالضرورة فإن كل واحد يشعر بنفسه ويعلم أنه ليس هو نفس غيره. ولو كان هو عينه لتساويا في العلوم التي هي صفات ذاتية للنفوس داخلة مع النفوس في كل إضافة. وإن قلتم: إنه غيره وإنما انقسم بالتعلق بالأبدان قلنا: وانقسام الواحد الذي ليس له عظم في الحجم وكمية مقدارية محال بضرورة العقل فكيف يصير الواحد اثنين بل ألفاً ثم يعود ويصير واحداً بل هذا يعقل فيما له عظم وكمية كماء البحر ينقسم بالجداول والأنهار ثم يعود إلى البحر. فأما ما لا كمية له فكيف ينقسم ولذا هم مفحمون والمقصود من هذا كله أن نبين أنهم لم يعجزوا خصومهم عن معتقدهم في تعلق الإرادة القديمة بالأحداث إلا بدعوى الضرورة وأنهم لا ينفصلون عمن يدعي الضرورة عليهم في هذه الأمور على خلاف معتقدهم وهذا لا مخرج عنه. قولهم: إن الله قبل خلق العالم... فإن قيل: هذا ينقلب عليكم في أن الله قبل خلق العالم كان قادراً على الخلق بقدر سنة أو سنتين - ولا نهاية لقدرته - فكأنه صبر ولم يخلق ثم خلق ومدة الترك متناه أو غير متناه. فإن قلتم: متناه صار وجود الباري متناهي الأول وإن قلتم: غير متناه فقد انقضى مدة فيها إمكانات لا نهاية لأعدادها. راجع الدليل الثاني قلنا: المدة والزمان مخلوق عندنا. وسنبين حقيقة الجواب عن هذا في الانفصال عن دليلهم الثاني. قولهم: ما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده... فإن قيل: فبم تنكرون على من يترك دعوى الضرورة ويدل عليه من وجه آخر وهو أن الأوقات متساوية في جواز تعلق الإرادة بها فما الذي ميز وقتاً معيناً عما قبله وعما بعده وليس محالاً أن يكون التقدم والتأخر مراداً بل في البياض والسواد والحركة والسكون فإنكم تقولون: يحدث البياض بالإرادة القديمة والمحل قابل للسواد قبوله للبياض فلم تعلقت الإرادة القديمة بالبياض دون السواد وما الذي ميز أحد الممكنين عن الآخر في تعلق الإرادة به ونحن بالضرورة نعلم أن الشيء لا يتميز عن مثله إلا بمخصص ولو جاز ذلك لجاز أن يحدث العالم وهو ممكن الوجود كما أنه ممكن العدم ويتخصص جانب الوجود المماثل لجانب العدم في الإمكان بغير مخصص. .. وما الذي خصص الإرادة وإن قلتم: إن الإرادة خصصت فالسؤال عن اختصاص الإرادة وأنها لم اختصت. فإن قلتم:
القديم لا يقال له لم فليكن العالم قديماً ولا يطلب صانعه وسببه لأن القديم لا يقال فيه: لم. فإن جاز تخصص القديم بالاتفاق بأحد الممكنين فغاية المستبعد أن يقال: العالم مخصوص بهيئات مخصوصة كان يجوز أن يكون على هيئات أخرى بدلاً عنها. فيقال: وقع كذلك اتفاقاً كما قلتم: اختصت الإرادة بوقت دون وقت وهيئة دون هيئة اتفاقاً. وإن قلتم: إن هذا السؤال غير لازم لأنه وارد على كل ما يريده وعائد على كل ما يقدره فنقول: لا بل هذا السؤال لازم لأنه عائد في كل وقت وملازم لمن خالفنا على كل تقدير. قولنا: الإرادة تميز الشيء عن مثله قلنا: إنما وجد العالم حيث وجد وعلى الوصف الذي وجد وفي المكان الذي وجد بالإرادة والإرادة صفة من شأنها تمييز الشيء عن مثله ولولا أن هذا شأنها لوقع الاكتفاء بالقدرة. ولكن لما تساوى نسبة القدرة إلى الضدين ولم يكن بد من مخصص يخصص الشيء عن مثله فقيل: للقديم وراء القدرة صفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله فقول القائل: لم اختصت الإرادة بأحد المثلين كقول القائل: لم اقتضى العلم الإحاطة بالمعلوم على ما هو به فيقال: لأن العلم عبارة عن صفة هذا شأنها فكذى الإرادة عبارة عن صفة هذا شأنها بل ذاتها تمييز الشيء عن مثله.
في الأمرين تناقض فإن قيل: إثبات صفة شأنها تمييز الشيء عن مثله غير معقول بل هو متناقض فإن كونه مثلاً معناه أنه لا تميز له وكونه مميزاً معناه أنه ليس مثلاً ولا ينبغي أن يظن أن السوادين في محلين متماثلان من كل وجه لأن هذا في محل وذاك في محل آخر وهذا يوجب التميز. ولا السوادان في وقتين في محل واحد متماثلان مطلقاً لأن هذا فارق ذلك في الوقت فكيف يساويه من كل وجه. وإذا قلنا: السوادان مثلان عنينا به في السوادية مضافاً إليه على الخصوص لا على الإطلاق وإلا فلو اتحد المحل والزمان ولم يبق تغاير لم يعقل سوادان ولا عقلت الإثنينية أصلاً. العطشان إذا كان بين يديه قدحان متساويان لا يمكن أن يأخذ أحدهما بدون تمييز يحقق هذا أن لفظ الإرادة مستعارة من إرادتنا ولا يتصور منا أن نميز بالإرادة الشيء عن مثله بل لو كان بين يدي العطشان قدحان من الماء يتساويان من كل وجه بالإضافة إلى غرضه لم يمكن أن يأخذ أحدهما بل إنما يأخذ ما يراه أحسن أو أخف أو أقرب إلى جانب يمينه إن كان عادته تحريك اليمين أو سبب من هذه الأسباب إما خفي وإما جلي وإلا فلا يتصور تمييز الشيء عن مثله بحال. إنكار الأمر في حق الله... الأول أن قولكم: إن هذا لا يتصور عرفتموه ضرورة أو نظراً ولا يمكن دعوى واحد منهما وتمثيلكم بإرادتنا مقايسة فاسدة تضاهي المقايسة في العلم وعلم الله يفارق علمنا في أمور قررناها فلم تبعد المفارقة في الإرادة بل هو كقول القائل: ذات موجودة لا خارج العالم ولا داخله ولا متصلاً ولا منفصلاً لا يعقل لأنا لا نعقله في حقنا. قيل: هذا عمل توهمك وأما دليل العقل فقد ساق العقلاء إلى التصديق بذلك فبم تنكرون على من يقول: دليل العقل ساق إلى إثبات صفة لله تعالى من شأنها تمييز الشيء عن مثله فإن لم يطابقها اسم الإرادة فلتسم باسم آخر فلا مشاحة في الأسماء. وإنما أطلقناها نحن بإذن الشرع وإلا فالإرادة موضوعة في اللغة لتعيين ما فيه غرض ولا غرض في حق الله وإنما المقصود المعنى دون اللفظ. .. وفي حق الإنسان فإنه إذا كانت بين يديه تمرتين متساويتين يأخذ إحداهما. على أنه في حقنا لا نسلم أن ذلك غير متصور فإنا نفرض تمرتين متساويتين بين يدي المتشوف إليهما العاجز عن تناولهما جميعاً فإنه يأخذ إحداهما لا محالة بصفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. وكل ما ذكرتموه من المخصصات من الحسن أو القرب أو تيسر الأخذ فإنا نقدر على فرض انتفائه ويبقى إمكان الأخذ. فأنتم بين أمرين: إما إن قلتم: إنه لا يتصور التساوي بالإضافة إلى أغراضه فقط وهو حماقة وفرضه ممكن وإما إن قلتم: التساوي إذا فرض بقي الرجل المتشوف أبداً متحيراً ينظر إليهما فلا يأخذ إحداهما بمجرد الإرادة والاختيار المنفك عن الغرض وهو أيضاً محال يعلم بطلانه ضرورةً. فإذن لابد لكل ناظر شاهداً أو غائباً في تحقيق الفعل الاختياري من إثبات صفة شأنها تخصيص الشيء عن مثله. لماذا اختص العالم ببعض الوجوه... الوجه الثاني في الاعتراض هو أنا نقول: أنتم في مذهبكم ما استغنيتم عن تخصيص الشيء عن مثله فإن العالم وجد من سببه الموجب له على هيئات مخصوصة تماثل نقائضها فلم اختص ببعض الوجوه واستحالة تميز الشيء عن مثله في الفعل أو في اللزوم بالطبع أو بالضرورة لا تختلف. .. قولهم: بضرورة النظام الكلي فإن قلتم: إن النظام الكلي للعالم لا يمكن إلا على الوجه الذي وجد وإن العالم لو كان أصغر أو أكبر مما هو الآن عليه لكان لا يتم هذا النظام وكذا القول في عدد الأفلاك وعدد الكواكب. وزعمتم أن الكبير يخالف الصغير والكثير يفارق القليل في ما يراد منه فليست متماثلة بل هي مختلفة إلا أن القوة البشرية تضعف عن درك وجوه الحكمة في مقاديرها وتفاصيلها وإنما تدرك الحكمة في بعضها كالحكمة في ميل فلك البروج عن معدل النهار والحكمة في الأوج والفلك الخارج المركز والأكثر لا يدرك السر فيها ولكن يعرف اختلافها ولا بعد في أن يتميز الشيء عن خلافه لتعلق نظام الأمر به. وأما الأوقات فمتشابهة قطعاً بالنسبة إلى الإمكان وإلى النظام ولا يمكن أن يدعي أنه لو خلق بعد ما خلق أو قبله بلحظة لما تصور النظام فإن تماثل الأحوال يعلم بالضرورة. قولنا: لا. مثلان...
فنقول: نحن وإن كنا نقدر على معارضتكم بمثله في الأحوال إذ قال قائلون: خلقه في الوقت الذي كان الأصلح الخلق فيه لكنا لا نقتصر على هذه المقابلة بل نفرض على أصلكم تخصصاً في موضعين لا يمكن أن يقدر فيه اختلاف: أحدهما اختلاف جهة الحركة والآخر تعين موضع القطب في الحركة عن المنطقة. ... مثل القطب الشمالي والقطب الجنوبي أما القطب فبيانه أن السماء كرة متحركة على قطبين كأنهما ثابتان وكرة السماء متشابهة الأجزاء فإنها بسيطة لا سيما الفلك الأعلى الذي هو التاسع فإنه غير مكوكب أصلاً وهما متحركان على قطبين شمالي و جنوبي. فنقول: ما من نقطتين متقابلتين من النقط التي لا نهاية لها عندهم إلا ويتصور أن يكون هو القطب. فلم تعينت نقطتا الشمال والجنوب للقطبية والثبات ولم لم يكن خط المنطقة ماراً بالنقطتين حتى يعود القطب إلى نقطتين متقابلتين على المنطقة فإن كان في مقدار كبر السماء وشكله حكمة فما الذي ميز محل القطب عن غيره حتى تعين لكونه قطباً دون سائر الأجزاء والنقط وجميع النقط متماثلة وجميع أجزاء الكرة متساوية وهذا لا مخرج عنه قولهم لعل ذلك الموضع يفارق غيره بخاصية فإن قيل لعل الموضع الذي عليه نقطة القطب يفارق غيره بخاصية تناسب كونه محلاً للقطب حتى يثبت فكأنه لا يفارق مكانه وحيزه ووضعه أو ما يفرض إطلاقه عليه من الأسامي وسائر مواضع الفلك يتبدل بالدور وضعها من الأرض ومن الأفلاك والقطب ثابت الوضع فلعل ذلك الموضع كان أولى بأن يكون ثابت الوضع من غيره. تقولون بتشابه السماء... قلنا: ففي هذا تصريح بتفاوت أجزاء الكرة الأولى في الطبيعة وأنها ليست متشابهة الأجزاء وهو على خلاف أصلكم إذ أحد ما استدللتم به على لزوم كون السماء كرى الشكل أنه بسيط الطبيعة متشابه لا يتفاوت وأبسط الأشكال الكرة فإن التربيع والتسديس وغيرهما يقتضي خروج زوايا وتفاوتها وذلك لا يكون إلا بأمر زائد على الطبع البسيط. ... ومن أين تلك الخاصية ولكنه وإن خالف مذهبكم فليس يندفع الإلزام به فإن السؤال في تلك الخاصية قائم إذ سائر الأجزاء هل كان قابلاً تلك الخاصية أم لا فإن قالوا نعم فلم اختصت الخاصية من بين المتشابهات ببعضها وإن قالوا: لم يكن ذلك إلا في ذلك الموضع وسائر الأجزاء لا تقبلها فنقول: سائر الأجزاء من حيث أنها جسم قابل للصور متشابه بالضرورة وتلك الخاصية التي يستحقها ذلك الموضع بمجرد كونه جسماً ولا بمجرد كونه سماء فإن هذا المعنى يشاركه فيه سائر أجزاء السماء فلا بد وأن يكون تخصيصه به بتحكم أو بصفة من شأنها تخصيص الشيء عن مثله وإلا فكما يستقيم لهم قولهم: إن الأحوال في قبول وقوع العالم فيها متساوية يستقيم لخصومهم أن أجزاء السماء في قبول المعنى الذي لأجله صار ثبوت الوضع أولى به من تبدل الوضع متساوية وهذا لا مخرج منه. ما سبب تباين حركات السماء الإلزام الثاني تعين جهة حركة الأفلاك بعضها من المشرق إلى المغرب وبعضها بالعكس مع تساوي الجهات ما سببها وتساوي الجهات كتساوي الأوقات من غير فرق قولهم: تلك المناسبات مبدأ الحوادث في العالم فإن قيل: لو كان الكل يدور من جهة واحدة لما تباينت أوضاعها ولم تحدث مناسبات الكواكب بالتثليث والتسديس والمقارنة وغيرها ولكان الكل على وضع واحد لا يختلف قط وهذه المناسبات مبدأ الحوادث في العالم. قلنا: لسنا نلزم اختلاف جهة الحركة بل نقول: الفلك الأعلى يتحرك من المشرق إلى المغرب والذي تحته بالعكس وكل ما يمكن تحصيله بهذا يمكن تحصيله بعكسه وهو أن يتحرك الأعلى من المغرب إلى المشرق وما تحته في مقابلته فيحصل التفاوت وجهات الحركة بعد كونها دورية وبعد كونها متقابلة متساوية فلم تميزت جهة عن جهة تماثلها قولهم: الجهتان متضادتان فإن قالوا: الجهتان متقابلتان متضادتان فكيف يتساويان قولنا: والأوقات! قلنا: هذا كقول القائل: التقدم والتأخر في وجود العالم يتضادان فكيف يدعي تشابههما ولكن زعموا أنه يعلم تشابه الأوقات بالنسبة إلى إمكان الوجود وإلى كل مصلحة يتصور فرضه في الوجود. فكذلك يعلم تساوي الأحياز والأوضاع والأماكن والجهات بالنسبة إلى قبول الحركة وكل مصلحة تتعلق بها. فإن ساغ لهم دعوى الاختلاف مع هذا التشابه كان لخصومهم دعوى الاختلاف في الأحوال والهيئات أيضاً. الاعتراض الثاني: صدور حادث من قديم الاعتراض الثاني على أصل دليلهم أن يقال: استبعدتم حدوث حادث من قديم ولا بد لكم من الاعتراف به فإن في العالم حوادث ولها أسباب. فإن استندت الحوادث إلى الحوادث إلى غير نهاية فهو محال وليس ذلك معتقد عاقل. ولو كان ذلك ممكناً لاستغنيتم عن الاعتراف بالصانع وإثبات واجب وجود هو مستند الممكنات. وإذا كانت الحوادث لها طرف ينتهي إليه تسلسلها فيكون ذلك الطرف هو القديم فلا بد إذن على أصلهم من تجويز صدور حادث من قديم.
قولهم: في حصول الاستعداد وحضور الوقت فإن قيل: نحن لا نبعد صدور حادث من قديم أي حادث كان بل نبعد صدور حادث هو أول الحوادث من القديم إذ لا يفارق حال الحدوث ما قبله في ترجح جهة الوجود لا من حيث حضور وقت ولا آلة ولا شرط ولا طبيعة ولا غرض ولا سبب من الأسباب. فأما إذا لم يكن هو الحادث الأول جاز أن يصدر منه عند حدوث شيء آخر من استعداد المحل القابل وحضور الوقت الموافق أو ما يجري هذا المجرى. قولنا: ومن أين ذلك قلنا: فالسؤال في حصول الاستعداد وحضور الوقت وكل ما يتجدد قائم فإما أن يتسلسل إلى غير نهاية أو ينتهي إلى قديم يكون أول حادث منه. قولهم: وجود الحركة الدورية... فإن قيل: المواد القابلة للصور والأعراض والكيفيات ليس شيء منها حادثاً والكيفيات الحادثة هي حركة الأفلاك أعني الحركة الدورية وما يتجدد من الأوصاف الإضافية لها من التثليث والتسديس والتربيع وهي نسبة بعض أجزاء الفلك والكواكب إلى بعض وبعضها نسبة إلى الأرض كما يحصل من الطلوع والشروق والزوال عن منتهى الارتفاع والبعد عن الأرض بكون الكوكب في الأوج والقرب بكونه في الحضيض والميل عن بعض الأقطار بكونه في الشمال والجنوب وهذه الإضافة لازمة للحركة الدورية بالضرورة فموجبها الحركة الدورية. وهي سبب الحوادث في العناصر... وأما الحوادث فيما يحويه مقعر فلك القمر وهو العناصر بما يعرض فيها من كون وفساد وامتزاج وافتراق واستحالة من صفة إلى صفة فكل ذلك حوادث مستند بعضها إلى بعض في تفصيل طويل وبالآخرة تنتهي مبادئ أسبابها إلى الحركة السماوية الدورية ونسب الكواكب بعضها إلى بعض أو نسبتها إلى الأرض. ... وهي قديمة... فيخرج من مجموع ذلك أن الحركة الدورية الدائمة الأبدية مستند الحوادث كلها ومحرك السماء حركتها الدورية نفوس السموات فإنها حية نازلة منزلة نفوسنا بالنسبة إلى أبداننا ونفوسها قديمة فلا جرم الحركة الدورية التي هي موجبها أيضاً قديمة. ولما تشابه أحوال النفس لكونها قديمة تشابه أحوال الحركات أي كانت دائرة أبداً. ولها أجزاء حادثة فإذن لا يتصور أن يصدر الحادث من قديم إلا بواسطة حركة دورية أبدية تشبه القديم من وجه فإنه دائم أبداً وتشبه الحادث من وجه فإن كل جزء يفرض منه كان حادثاً بعد أن لم يكن فهو من حيث أنه حادث بأجزائه وإضافاته مبدأ الحوادث ومن حيث أنه أبدي متشابه الأحوال صادر عن نفس أزلية. فإن كان في العالم حوادث فلا بد من حركة دورية وفي العالم حوادث فالحركة الدورية الأبدية ثابتة. قولنا: هذا كلام باطل! إذ لا بد من سبب آخر قلنا: هذا التطويل لا يغنيكم فإن الحركة الدورية التي هي المستند حادث أم قديم فإن كان قديماً فكيف صار مبدأ لأول الحوادث وإن كان حادثاً افتقر إلى حادث آخر وتسلسل. وقولكم: إنه من وجه يشبه القديم ومن وجه يشبه الحادث فإنه ثابت متجدد أي هو ثابت التجدد متجدد الثبوت. فنقول: أهو مبدأ الحوادث من حيث أنه ثابت أو من حيث أنه متجدد فإن كان من حيث أنه ثابت فكيف صدر من ثابت متشابه الأحوال شيء في بعض الأوقات دون بعض وإن كان من حيث أنه متجدد فما سبب تجدده في نفسه فيحتاج إلى سبب آخر ويتسلسل فهذا غاية تقرير الإلزام. سيأتي الكلام عن ذلك ولهم في الخروج عن هذا الإلزام نوع احتيال سنورده في بعض المسائل بعد هذه كيلا يطول كلام هذه المسألة بانشعاب شجون الكلام وفنونه. على أنا سنبين أن الحركة الدورية لا يصلح أن تكون مبدأ الحوادث وأن جميع الحوادث مخترعة لله ابتداءً ونبطل ما قالوه من كون السماء حيواناً متحركاً بالاختيار حركة نفسية كحركاتنا.
الثاني قولنا: ليس الله متقدماً بالذات فقط... زعموا أن القائل بأن العالم متأخر عن الله والله متقدم عليه ليس يخلو إما أن يريد به أنه متقدم بالذات لا بالزمان كتقدم الواحد على الاثنين فإنه بالطبع مع أنه يجوز أن يكون معه في الوجود الزماني وكتقدم العلة على المعلول مثل تقدم حركة الشخص على حركة الظل التابع له وحركة اليد مع حركة الخاتم وحركة اليد في الماء مع حركة الماء فإنها متساوية في الزمان وبعضها علة وبعضها معلول إذ يقال: تحرك الظل لحركة الشخص وتحرك الماء لحركة اليد في الماء ولا يقال تحرك الشخص لحركة الظل وتحرك اليد لحركة الماء وإن كانت متساوية. فإن أريد بتقدم الباري على العالم هذا لزم أن يكونا حادثين أو قديمين واستحال أن يكون أحدهما قديماً والآخر حادثاً. وإن أريد به أن الباري متقدم على العالم والزمان لا بالذات بل بالزمان فإذن قبل وجود العالم والزمان زمان كان العالم فيه معدوماً إذ كان العدم سابقاً على الوجود وكان الله سابقاً بمدة مديدة لها طرف من جهة الآخر ولا طرف لها من جهة الأول. فإذن قبل الزمان زمان لا نهاية له وهو متناقض ولأجله يستحيل القول بحدوث الزمان. وإذا وجب قدم الزمان وهو عبارة عن قدر الحركة وجب قدم الحركة ووجب قدم المتحرك الذي يدوم الزمان بدوام حركته. اعتراض: ليس قبل الخليقة زمان: القول بأن " كان الله ولا عالم " لا يدل إلا على أمرين... الاعتراض هو أن يقال: الزمان حادث ومخلوق وليس قبله زمان أصلاً ونعني بقولنا إن الله متقدم على العالم والزمان إنه كان ولا عالم ثم كان ومعه عالم. ومفهوم قولنا: كان ولا عالم وجود ذات الباري وعدم ذات العالم فقط ومفهوم قولنا: كان ومعه عالم وجود الذاتين فقط. فنعني بالتقدم انفراده بالوجود فقط والعالم كشخص واحد. ولو قلنا: كان الله ولا عيسى مثلاً ثم كان وعيسى معه لم يتضمن اللفظ إلا وجود ذات وعدم ذات ثم وجود ذاتين وليس من ضرورة ذلك تقدير شيء ثالث وإن كان الوهم لا يسكن عن تقدير ثالث فلا التفات إلى أغاليط الأوهام. فإن قيل لقولنا: كان الله ولا عالم مفهوم ثالث سوى وجود الذات وعدم العالم بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل كان وجود ذات وعدم ذات حاصلاً ولم يصح أن نقول: كان الله ولا عالم بل الصحيح أن نقول: يكون الله ولا عالم. ونقول للماضي: كان الله ولا عالم. فبين قولنا " كان " و " يكون " فرق إذ ليس ينوب أحدهما مناب الآخر. فلنبحث عن ما يرجع إليه الفرق: ولا شك في أنهما لا يفترقان في وجود الذات ولا في عدم العالم بل في معنى ثالث فإنا إذا قلنا لعدم العالم في المستقبل: كان الله ولا عالم قيل لنا: هذا خطأ فإن " كان " إنما يقال على ماض فدل أن تحت لفظ " كان " مفهوماً ثالثاً وهو الماضي والماضي بذاته هو الزمان والماضي بغيره هو الحركة فإنها تمضي بمضي الزمان. فبالضرورة يلزم أن يكون قبل العالم زمان قد انقضى حتى انتهى إلى وجود العالم. قولنا: ليس هو إلا نسبة إلينا قلنا: المفهوم الأصلي من اللفظين وجود ذات وعدم ذات. والأمر الثالث الذي فيه افتراق اللفظين نسبة لازمة بالإضافة إلينا بدليل أنا لو قدرنا عدم العالم في المستقبل ثم قدرنا لنا بعد ذلك وجوداً ثانياً لكنا عند ذلك نقول: كان الله ولا عالم. ويصح قولنا سواء أردنا به العدم الأول أو العدم الثاني الذي هو بعد الوجود وآية أن هذه نسبة أن المستقبل بعينه يجوز أن يصير ماضياً قبل المبتدأ نتوهم " قبلاً "... وهذا كله لعجز الوهم عن فهم وجود مبتدأ إلا مع تقدير " قبل " له وذلك " القبل " الذي لا ينفك الوهم عنه يظن أنه شيء محقق موجود هو الزمان. ... كما نتوهم وراء العالم " فوقاً " وهو كعجز الوهم عن أن يقدر تناهي الجسم في جانب الرأس مثلاً إلا على سطح له فوق فيتوهم أن وراء العالم مكاناً إما ملاء وإما خلاء. وإذا قيل: ليس فوق سطح العالم فوق ولا بعد أبعد منه كاع الوهم عن الإذعان لقبوله كما إذا قيل: ليس قبل وجود العالم " قبل " هو وجود محقق نفر عن قبوله وكما جاز أن يكذب الوهم في تقديره فوق العالم خلاء هو بعد لا نهاية له بأن يقال له: الخلاء ليس مفهوماً في نفسه وأما البعد فهو تابع للجسم الذي تتباعد أقطاره فإذا كان الجسم متناهياً كان البعد الذي هو تابع له متناهياً وانقطع الملاء والخلاء غير مفهوم فثبت أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء وإن كان الوهم لا يذعن لقبوله.
ولكن ذلك وهم فكذلك يقال: كما أن البعد المكاني تابع للجسم فالبعد الزماني تابع للحركة فإنه امتداد الحركة كما أن ذلك امتداد أقطار الجسم وكما أن قيام الدليل على تناهي أقطار الجسم منع من إثبات بعد مكاني وراءه. فقيام الدليل على تناهي الحركة من طرفيه يمنع من تقدير بعد زماني وراءه وإن كان الوهم متشبثاً بخياله وتقديره ولا يرعوى عنه. ولا فرق بين البعد الزماني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى " قبل " و " بعد " وبين البعد المكاني الذي تنقسم العبارة عنه عند الإضافة إلى فوق وتحت. فإن جاز إثبات " فوق " لا " فوق " فوقه جاز إثبات " قبل " ليس قبله " قبل " محقق إلا خيال وهمي كما في الفوق. وهذا لازم فليتأمل فإنهم اتفقوا على أنه ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. قولهم ليس هناك موازنة فالعالم ليس له " فوق " إلا بالاسم الإضافي المتبدل... فإن قيل: هذه الموازنة معوجة لأن العالم ليس له " فوق " ولا " تحت " بل هو كري وليس للكرة " فوق " و " تحت " بل إن سميت جهة " فوقاً " من حيث أنه يلي رأسك والآخر " تحتاً " من حيث أنه يلي رجلك فهو اسم تجدد له بالإضافة إليك والجهة التي هي " تحت " بالإضافة إليك " فوق " بالإضافة إلى غيرك إذا قدرت على الجانب الآخر من كر ة الأرض واقفاً يحاذي أخمص قدمه أخمص قدميك بل الجهة التي تقدرها فوقك من أجزاء السماء نهاراً هو بعينه تحت الأرض ليلاً وما هو تحت الأرض يعود إلى فوق الأرض في الدور. وأما الأول لوجود العالم لا يتصور أن ينقلب آخراً. وهو كما لو قدرنا خشبة أحد طرفيها غليظ والآخر دقيق واصطلحنا على أن نسمي الجهة التي تلي الدقيق فوقاً إلى حيث ينتهي والجانب الآخر تحتاً لم يظهر بهذا اختلاف ذاتي في أجزاء العالم بل هي أسامي مختلفة قيامها بهيئة هذه الخشبة حتى لو عكس وضعها انعكس الاسم والعالم لم يتبدل. فالفوق والتحت نسبة محضة إليك لا تختلف أجزاء العالم وسطوحه فيه. وأما العدم المتقدم على العالم والنهاية الأولى لوجوده ذاتي لا يتصور أن يتبدل فيصير آخراً ولا العدم المقدر عند إفناء العالم الذي هو عدم لاحق يتصور أن يصير سابقاً. فطرفا نهاية وجود العالم الذي أحدهما أول والثاني آخر طرفان ذاتيان ثابتان لا يتصور التبدل فيه بتبدل الإضافات البتة بخلاف الفوق والتحت. ولكن لوجود العالم " قبل " فإذن أمكننا أن نقول: ليس للعالم فوق ولا تحت ولا يمكنكم أن تقولوا: ليس لوجود العالم " قبل " ولا " بعد ". وإذا ثبت القبل والبعد فلا معنى للزمان سوى ما يعبر عنه بالقبل والبعد. قولنا: كما أن العالم ليس له " خارج " كذلك ليس له قبل قلنا: لا فرق فإنه لا غرض في تعيين لفظ الفوق والتحت بل نعدل إلى لفظ الوراء والخارج ونقول: للعالم داخل وخارج فهل خارج العالم شيء من ملاء أو خلاء فسيقولون: ليس وراء العالم لا خلاء ولا ملاء. وإن عنيتم بالخارج سطحه الأعلى فله خارج وإن عينتم غيره فلا خارج له. فكذلك إذا قيل لنا: هل لوجود العالم " قبل " قلنا: إن عني به: هل لوجود العالم بداية أي طرف منه ابتدأ فله " قبل " على هذا كما للعالم خارج على تأويل أنه الطرف المكشوف والمنقطع السطحي. وإن عنيتم بقبل شيئاً آخر فلا " قبل " للعالم كما أنه إذا عني بخارج العالم شيء سوى السطح قيل: لا خارج للعالم. فإن قلتم: لا يعقل مبتدأ وجود لا " قبل " له فيقال: ولا يعقل متناهى وجود من الجسم لا خارج له. فإن قلت: خارجه سطح الذي هو منقطعه لا غير قلنا: قبله بداية وجوده الذي هو طرفه لا غير. نسبة ذلك للمكان والزمان من عمل الوهم... بقي أنا نقول: لله وجود ولا عالم معه. وهذا القدر أيضاً لا يوجب إثبات شيء آخر والذي يدل على أن هذا عمل الوهم أنه مخصوص بالزمان والمكان. فإن الخصم وإن اعتقد قدم الجسم يذعن وهمه لتقدير حدوثه. ونحن وإن اعتقدنا حدوثه ربما أذعن وهمنا لتقدير قدمه. هذا في الجسم. فإذا رجعنا إلى الزمان لم يقدر الخصم على تقدير حدوث زمان لا " قبل " له وخلاف المعتقد يمكن وضعه في الوهم تقديراً وفرضاً. وهذا مما لا يمكن وضعه في الوهم كما في المكان فإن من يعتقد تناهي الجسم ومن لا يعتقد كل واحد يعجز عن تقدير جسم ليس وراءه لا خلاء ولا ملاء بل لا يذعن وهمه لقبول ذلك.
وهذا هو سبب الغلط ولكن قيل: صريح العقل إذا لم يمنع وجود جسم متناه بحكم الدليل لا يلتفت إلى الوهم. فكذلك صريح العقل لا يمنع وجوداً مفتتحاً ليس قبله شيء. وإن قصر الوهم عنه فلا يلتفت إليه لأن الوهم لما لم يألف جسماً متناهياً إلا وبجنبه جسم آخر أو هواء تخيله خلاء لم يتمكن من ذلك في الغائب. فكذلك لم يألف الوهم حادثاً إلا بعد شيء آخر فكاع عن تقدير حادث ليس له " قبل " هو شيء موجود قد انقضى. فهذا هو سبب الغلط والمقاومة حاصلة بهذه المعارضة. صيغة ثانية لهم في إلزام قدم الزمان قولهم: كان الله قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنين... قالوا: لا شك في أن الله عندكم كان قادراً على أن يخلق العالم قبل أن خلقه بقدر سنة ومائة سنة وألف سنة وإن هذه التقديرات متفاوتة في المقدار والكمية فلا بد من إثبات شيء قبل وجود العالم ممتد مقدر بعضه أمد وأطول من البعض. ... أو أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بقدر عدد أكثر من الدورات وإن قلتم: لا يمكن إطلاق لفظ سنين إلا بعد حدوث الفلك ودوره فلنترك لفظ سنين ولنورد صيغة أخرى فنقول: إذا قدرنا أن العالم من أول وجوده قد دار فلكه إلى الآن بألف دورة مثلاً فهل كان الله قادراً على أن يخلق قبله عالماً ثانياً مثله بحيث ينتهي إلى زماننا هذا بألف ومائة دورة فإن قلتم: لا فكأنه انقلب القديم من العجز إلى القدرة أو العالم من الاستحالة إلى الإمكان. وإن قلتم: نعم ولا بد منه فهل كان يقدر على أن يخلق عالماً ثالثاً بحيث ينتهي إلى زماننا بألف ومائتي دورة ولا بد من نعم. قولنا: فهناك مقدار معلوم... فنقول: هذا العالم الذي سميناه بحسب ترتيبنا في التقدير ثالثاً وإن كان هو الأسبق فهل أمكن خلقه مع العالم الذي سميناه ثانياً وكان ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة والآخر بألف ومائة دورة وهما متساويان في مسافة الحركة وسرعتها فإن قلتم: نعم فهو محال إذ يستحيل أن يتساوى حركتان في السرعة والبطء ثم تنتهيان إلى وقت واحد والأعداد متفاوتة. وإن قلتم: إن العالم الثالث الذي ينتهي إلينا بألف ومائتي دورة لا يمكن أن يخلق مع العالم الثاني الذي ينتهي إلينا بألف ومائة دورة بل لا بد وأن يخلقه قبله بمقدار يساوي المقدار الذي تقدم العالم الثاني على العالم الأول وسمينا الأول ما هو أقرب إلى وهمنا إذ ارتقينا من وقتنا إليه بالتقدير فيكون قدر إمكان هو ضعف إمكان آخر ولا بد من إمكان آخر هو ضعف الكل. ... فهناك زمان فهذا الإمكان المقدر المكمم الذي بعضه أطول من البعض بمقدار معلوم لا حقيقة له إلا الزمان فليست هذه الكميات المقدرة صفة ذات الباري تعالى عن التقدير ولا صفة عدم العالم إذ العدم ليس شيئاً حتى يتقدر بمقادير مختلفة والكمية صفة فتستدعى ذا كمية وليس ذلك إلا الحركة والكمية إلا الزمان الذي هو قدر الحركة. فإذن قبل العالم عندكم شيء ذو كمية متفاوتة وهو الزمان. فقبل العالم عندكم زمان. اعتراض: وكذلك فوراء العالم خلاء أو ملاء... الاعتراض أن كل هذا من عمل الوهم وأقرب طريق في دفعه المقابلة للزمان بالمكان. فإنا نقول: هل كان في قدرة الله أن يخلق الفلك الأعلى في سمكه أكبر مما خلقه بذراع فإن قالوا: لا فهو تعجيز. وإن قالوا: نعم فبذراعين وثلاثة أذرع وكذلك يرتقي إلى غير نهاية. ونقول: في هذا إثبات " بعد " وراء العالم له مقدار وكمية إذ الأكبر بذراعين ما كان يشغل ما يشغله الأكبر بذراع فوراء العالم بحكم هذا كمية فتستدعي ذاكم وهو الجسم أو الخلاء. فوراء العالم خلاء أو ملاء فما الجواب عنه ... فيكون الخلاء مقداراً وكذلك هل كان الله قادراً على أن يخلق كرة العالم أصغر مما خلقه بذراع ثم بذراعين وهل بين التقديرين تفاوت فيما ينتفي من الملاء والشغل للأحياز إذ الملاء المنتفي عند نقصان ذراعين أكثر مما ينتفي عند نقصان ذراع فيكون الخلاء مقدراً والخلاء ليس بشيء فكيف يكون مقدراً وجوابنا في تخييل الوهم تقدير الإمكانات الزمانية قبل وجود العالم كجوابكم في تخييل الوهم تقدير الإمكانات المكانية وراء وجود العالم ولا فرق. قولهم: كون العالم أكبر أو أصغر مما هو عليه ليس بممكن فإن قيل: نحن لا نقول: إن ما ليس بممكن فهو مقدور وكون العالم أكبر مما هو عليه ولا أصغر منه ليس بممكن فلا يكون مقدوراً. ولماذا وهذا العذر باطل من ثلاثة أوجه: أحدها أن هذا مكابرة العقل فإن العقل في تقدير العالم أكبر أو أصغر مما عليه بذراع ليس هو كتقديره الجمع بين السواد والبياض والوجود والعدم والممتنع هو الجمع بين النفي والإثبات وإليه ترجع المحالات كلها فهو تحكم بارد فاسد. وجود العالم يكون واجباً! الثاني أنه إذا كان العالم على ما هو عليه لا يمكن أن يكون أكبر منه ولا أصغر. فوجوده على ما هو عليه واجب لا ممكن والواجب مستغن عن علة. فقولوا بما قاله الدهريون من نفي الصانع ونفي سبب هو مسبب الأسباب وليس هذا مذهبكم. ووجوده قبل الوجود غير ممكن! الثالث هو أن هذا الفاسد لا يعجز الخصم عن مقابلته بمثله. فنقول: إنه لم يكن وجود العالم قبل وجوده ممكناً بل وافق الوجود الإمكان من غير زيادة ولا نقصان. فإن قلتم: فقد انتقل القديم من القدرة إلى العجز قلنا: لا لأن الوجود لم يكن ممكناً فلم يكن مقدوراً وامتناع حصول ما ليس بممكن لا يدل على العجز. وإن قلتم: إنه كيف كان ممتنعاً فصار ممكناً قلنا: ولم يستحيل أن يكون ممتنعاً في حال ممكناً في حال فإن قلتم: الأحوال متساوية قيل لكم: والمقادير متساوية فكيف يكون مقدار ممكناً وأكبر منه أو أصغر بمقدار ظفر ممتنعاً فإن لم يستحل ذلك لم يستحل هذا. فهذا طريقة المقاومة.
إن الله إذا أراد فعل والتحقيق في الجواب أن ما ذكروه من تقدر الإمكانات لا معنى لها وإنما المسلم أن الله قديم قادر لا يمتنع عليه الفعل أبداً لو أراد وليس في هذا القدر ما يوجب إثبات زمان ممتد إلا أن يضيف الوهم بتلبيسه إليه شيئاً آخر. الثالث قولهم: إمكان العالم كان موجوداً فالعالم أيضاً كان موجوداً تمسكوا بأن قالوا: وجود العالم ممكن قبل وجوده إذ يستحيل أن يكون ممتنعاً ثم يصير ممكناً وهذا الإمكان لا أول له أي لم يزل ثابتاً ولم يزل العالم ممكناً وجوده إذ لا حال من الأحوال يمكن أن يوصف العالم فيه بأنه ممتنع الوجود. فإذا كان الإمكان لم يزل فالممكن على وفق الإمكان أيضاً لم يزل فإن معنى قولنا أنه ممكن وجوده أنه ليس محالاً وجوده. فإذا كان ممكناً وجوده أبداً لم يكن محالاً وجوده أبداً وإلا فإن كان محالاً وجوده أبداً بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً وإن بطل قولنا إنه ممكن وجوده أبداً بطل قولنا إن الإمكان لم يزل وإن بطل قولنا إن الإمكان لم يزل صح قولنا إن الإمكان له أول وإذا صح أن له أولاً كان قبل ذلك غير ممكن فيؤدي إلى إثبات حال لم يكن العالم ممكناً ولا كان الله عليه قادراً. اعتراض: العالم لم يزل ممكن الحدوث الاعتراض أن يقال: العالم لم يزل ممكن الحدوث فلا جرم ما من وقت إلا ويتصور أحداثه فيه وإذا قدر موجوداً أبداً لم يكن حادثاً فلم يكن الواقع على وفق الإمكان بل خلافه. وهذا كقولهم في المكان وهو أن تقدير العالم أكبر مما هو أو خلق جسم فوق العالم ممكن وكذى آخر فوق ذلك الآخر وهكذا إلى غير نهاية. فلا نهاية لإمكان الزيادة ومع ذلك فوجود ملاء مطلق لا نهاية له غير ممكن. فكذلك وجود لا ينتهي طرفه غير ممكن بل كما يقال الممكن جسم متناهي السطح ولكن لا تتعين مقاديره في الكبر والصغر فكذلك الممكن الحدوث ومبادئ الوجود لا تتعين في الرابع
قولهم: كل حادث تسبقه مادة... وهو أنهم قالوا: كل حادث فالمادة التي فيه تسبقه إذ لا يستغني الحادث عن مادة فلا تكون المادة حادثة وإنما الحادث الصور والأعراض والكيفيات على المواد. ... ممكنة له وبيانه أن كل حادث فهو قبل حدوثه لا يخلوا إما أن يكون ممكن الوجود أو ممتنع الوجود أو واجب الوجود ومحال أن يكون ممتنعاً لأن الممتنع في ذاته لا يوجد قط ومحال أن يكون واجب الوجود لذاته فإن الواجب لذاته لا يعدم قط فدل أنه ممكن الوجود بذاته. فإذن إمكان الوجود حاصل له قبل وجوده وإمكان الوجود وصف إضافي لا قوام له بنفسه فلا بد له من محل يضاف إليه ولا محل إلا المادة فيضاف إليها كما نقول: هذه المادة قابلة للحرارة والبرودة أو السواد والبياض أو الحركة والسكون أي ممكن لها حدوث هذه الكيفيات وطريان هذه التغيرات فيكون الإمكان وصفاً للمادة. والمادة لا يكون لها مادة فلا يمكن أن تحدث إذ لو حدثت لكان إمكان وجودها سابقاً على وجودها وكان الإمكان قائماً بنفسه غير مضاف إلى شيء مع أنه معنى الإمكان لا يرجع إلى كونه مقدوراً... ولا يمكن أن يقال إن معنى الإمكان يرجع إلى كونه مقدوراً وكون القديم قادراً عليه لأنا لا نعرف كون الشيء مقدوراً إلا بكونه ممكناً. فنقول: هو مقدور لأنه ممكن وليس بمقدور لأنه ليس بممكن. فإن كان قولنا: هو ممكن يرجع إلى أنه مقدور فكأنا قلنا: هو مقدور لأنه مقدور وليس بمقدور لأنه ليس بمقدور وهو تعريف الشيء بنفسه. فدل أن كونه ممكناً قضية أخرى في العقل ظاهرة بها تعرف القضية الثانية وهو كونه مقدوراً. ... ولا إلى كونه معلوماً ويستحيل أن يرجع ذلك إلى علم القديم بكونه ممكناً فإن العلم يستدعي معلوماً. فالإمكان المعلوم غير العلم لا محالة ثم هو وصف إضافي فلا بد من ذات يضاف إليه وليس إلا المادة. فكل حادث فقد سبقه مادة فلم تكن المادة الأولى حادثة بحال. اعتراض: الإمكان هو قضاء العقل وهو يستدعي شيئاً موجوداً... الاعتراض أن يقال: الإمكان الذي ذكروه يرجع إلى قضاء العقل. فكل ما قدر العقل وجوده فلم يمتنع عليه تقديره سميناه ممكناً وإن امتنع سميناه مستحيلاً وإن لم يقدر على تقدير عدمه سميناه واجباً. فهذه قضايا عقلية لا تحتاج إلى موجود حتى تجعل وصفاً له. بدليل ثلاثة أمور: أحدها أن الإمكان لو استدعى شيئاً موجوداً يضاف إليه ويقال إنه إمكانه لاستدعى الامتناع شيئاً موجوداً يقال إنه امتناعه وليس للممتنع وجود في ذاته ولا مادة يطرى عليها المحال حتى يضاف الامتناع إلى المادة. إمكان السواد والثاني أن السواد والبياض يقضي العقل فيهما قبل وجودهما بكونهما ممكنين. فإن كان هذا الإمكان مضافاً إلى الجسم الذي يطريان عليه حتى يقال معناه إن هذا الجسم يمكن أن يسود وأن يبيض فإذن ليس البياض في نفسه ممكناً ولا له نعت الإمكان وإنما الممكن الجسم والإمكان مضاف إليه. فنقول: ما حكم نفس السواد في ذاته أو هو ممكن أو واجب أو ممتنع ولا بد من القول بأنه ممكن فدل أن العقل في القضية بالإمكان لا يفتقر إلى وضع ذات موجود يضيف إليه الإمكان. إمكان النفوس والثالث أن نفوس الآدميين عندهم جواهر قائمة بأنفسها ليس بجسم ومادة ولا منطبع في مادة. وهي حادثة على ما اختاره ابن سينا والمحققون منهم ولها إمكان قبل حدوثها وليس لها ذات ولا مادة. فإمكانها وصف إضافي ولا يرجع إلى قدرة القادر وإلى الفاعل فإلى ماذا يرجع قولهم: الإمكان ليس بقضاء العقل فإذا قدر عدم القضاء لم يزل الإمكان فإن قيل: رد الإمكان إلى قضاء العقل محال إذ لا معنى لقضاء العقل إلا العلم بالإمكان. فالإمكان معلوم وهو غير العلم بل العلم يحيط به ويتبعه ويتعلق به على ما هو والعلم لو قدر عدمه لم ينعدم المعلوم. والمعلوم إذا قدر انتفاؤه انتفى العلم. فالعلم والمعلوم أمران اثنان أحدهما تابع والآخر متبوع. ولو قدرنا إعراض العقلاء عن تقدير الإمكان وغفلتهم عنه لكنا نقول: لا يرتفع الإمكان بل الممكنات في أنفسها ولكن العقول غفلت عنها أو عدمت العقول والعقلاء. فيبقى الإمكان لا محالة. للامتناع موضوع... وأما الأمور الثلاثة فلا حجة فيها فإن الامتناع أيضاً وصف إضافي يستدعي موجوداً يضاف إليه. ومعنى الممتنع الجمع بين الضدين فإذا كان المحل أبيض كان ممتنعاً عليه أن يسود مع وجود البياض فلا بد من موضوع يشار إليه موصوف بصفة. فعند ذلك يقال: ضده ممتنع عليه فيكون الامتناع وصفاً إضافياً قائماً بموضوع مضافاً إليه. وأما الوجوب فلا يخفى أنه مضاف إلى الوجود الواجب. ولإمكان السواد موضوع وأما الثاني وهو كون السواد في نفسه ممكناً فغلط. فإنه إن أخذ مجرداً دون محل يحله كان ممتنعاً لا ممكناً وإنما يصير ممكناً إذا قدر هيئة في جسم. فالجسم مهيأ لتبدل هيئة والتبدل ممكن على الجسم وإلا فليس للسواد نفس مفردة حتى يوصف بإمكان. ولإمكان النفوس موضوع وأما الثالث وهو النفس فهي قديمة عند فريق ولكن ممكن لها التعلق بالأبدان فلا يلزم على هذا. ومن سلم حدوثه فقد اعتقد فريق منهم أنه منطبع في المادة تابع للمزاج على ما دل عليه كلام جالينوس في بعض المواضع فتكون في مادة وإمكانها مضاف إلى مادتها. وعلى مذهب من سلم أنها حادثة وليست منطبعة فمعناه أن المادة ممكن لها أن يدبرها نفس ناطقة فيكون الإمكان السابق على الحدوث مضافاً إلى المادة فإنها وإن لم تنطبع فيها فلها علاقة معها إذ هي المدبرة والمستعملة لها فيكون الإمكان راجعاً إليها بهذا الطريق. الجواب الإمكان هو قضاء العقل كما يصرح بأن الكليات موجودة والجواب أن رد الإمكان والوجوب والامتناع إلى قضايا عقلية صحيح وما ذكر بأن معنى قضاء العقل علم والعلم يستدعي معلوماً. فنقول له: معلوم كما أن اللونية والحيوانية وسائر قضايا الكلية ثابتة في العقل عندهم وهي علوم لا يقال لا معلوم لها ولكن لا وجود لمعلوماتها في الأعيان حتى صرح الفلاسفة بأن الكليات موجودة في الأذهان لا في الأعيان. وإنما الموجود في الأعيان جزئيات شخصية وهي محسوسة غير معقولة ولكنها سبب لأن ينتزع العقل منها قضية مجردة عن المادة عقلية. فإذن اللونية قضية مفردة في العقل سوى السوادية والبياضية ولا يتصور في الوجود لون ليس بسواد ولا بياض ولا غيره من الألوان ويثبت في العقل صورة اللونية من غير تفصيل ويقال: هي صورة وجودها في الأذهان لا في الأعيان. فإن لم يمتنع هذا لم يمتنع ما ذكرناه. لو قدر عدم العاقل... وأما قولهم: لو قدر عدم العقلاء أو غفلتهم ما كان الإمكان ينعدم فنقول: ولو قدر عدمهم هل كانت القضايا الكلية وهي الأجناس والأنواع تنعدم فإذا قالوا: نعم إذ لا معنى لها إلا قضية في العقول فكذلك قولنا في الإمكان ولا فرق بين البابين. وإن زعموا أنها تكون باقية في علم الله فكذى القول في الإمكان. فالإلزام واقع والمقصود إظهار تناقض كلامهم. امتناع وجود شريك لله وأما العذر عن الامتناع بأنه مضاف إلى المادة الموصوفة بالشيء إذ يمتنع عليه ضده فليس كل محال كذلك فإن وجود شريك لله محال وليس ثم مادة يضاف إليها الامتناع. فإن زعموا أن معنى استحالة الشريك أن انفراد الله تعالى بذاته وتوحده واجب والانفراد مضاف إليه فنقول: ليس واجب فإن العالم موجود معه فليس منفرداً. فإن زعموا أن انفراده عن النظير واجب ونقيض الواجب ممتنع وهو إضافة إليه قلنا: نعني أن انفراد الله عنها ليس كانفراده عن النظير فإن انفراده عن النظير واجب وانفراده عن المخلوقات الممكنة غير واجب فنتكلف إضافة الإمكان إليه بهذه الحيلة كما تكلفوه في رد الامتناع إلى ذاته بقلب عبارة الامتناع إلى الوجوب ثم بإضافة الانفراد إليه بنعت الوجوب.
السواد هو في العقل وأما العذر عن السواد والبياض بأنه لا نفس له ولا ذات منفرداً إن عني بذلك في الوجود فنعم وإن عني بذلك في العقل فلا فإن العقل يعقل السواد الكلي ويحكم عليه بالإمكان في ذاته. وهو في الحق يضاف إلى الفاعل وإلى المادة ثم العذر باطل بالنفوس الحادثة فإن لها ذواتاً مفردة وإمكاناً سابقاً على الحدوث وليس ثم ما يضاف إليه. وقولهم: إن المادة ممكن لها أن يدبرها النفس فهذه إضافة بعيدة. فإن اكتفيتم بهذا فلا يبعد أن يقال: معنى إمكان الحادث أن القادر عليها يمكن في حقه أن يحدثها فيكون إضافة إلى الفاعل مع أنه ليس منطبعاً فيه كما أنه إضافة إلى البدن المنفعل مع أنه لا ينطبع فيه. ولا فرق بين النسبة إلى الفاعل والنسبة إلى المنفعل إذا لم يكن انطباع في الموضعين. قولهم: قابلتم الإشكالات بالإشكالات فإن قيل: فقد عولتم في جميع الاعتراضات على مقابلة الإشكالات بالإشكالات ولم تحلوا ما أوردوه من الإشكال قولنا: المعارضة تبين فساد الكلام قلنا: المعارضة تبين فساد الكلام لا محالة وينحل وجه الإشكال في تقدير المعارضة والمطالبة. ونحن لم نلتزم في هذا الكتاب إلا تكدير مذهبهم والتغبير في وجوه أدلتهم بما نبين تهافتهم. ولم نتطرق الذب عن مذهب معين فلم نخرج لذلك عن مقصود الكتاب ولا نستقصي القول في الأدلة الدالة على الحدث إذ غرضنا إبطال دعواهم معرفة القدم.
إثبات المذهب الحق يكون في كتاب قواعد العقائد وأما إثبات المذهب الحق فسنصنف فيه كتاباً بعد الفراغ من هذا إن ساعد التوفيق إن شاء الله ونسميه قواعد العقائد ونعتني فيه بالإثبات كما اعتنينا في هذا الكتاب بالهدم والله أعلم. هذه المسألة فرع الأولى... ليعلم أن هذه المسألة فرع الأولى فإن العالم عندهم كما أنه أزلي لا بداية لوجوده فهو أبدي لا نهاية لآخره ولا يتصور فساده وفناؤه بل لم يزل كذلك ولا يزال أيضاً كذلك. والأدلة الأربعة التي ذكرت لا تزال جارية وأدلتهم الأربعة التي ذكرناها في الأزلية جارية في الأبدية والاعتراض كالاعتراض من غير فرق. فإنهم يقولون: إن العالم معلول علته أزلية أبدية فكان المعلول مع العلة. ويقولون: إذا لم تتغير العلة لم يتغير المعلول. وعليه بنوا منع الحدوث وهو بعينه جار في الانقطاع. وهذا مسلكهم الأول. الدليل الأول والمسلك الثاني ومسلكهم الثاني أن العالم إذا عدم فيكون عدمه بعد وجوده فيكون له بعد ففيه إثبات الزمان. الدليل الأول والمسلك الثالث وهو فاسد لأنه لا يستحيل بقاء العالم أبداً: ويعرف الواقع من الشرع ومسلكهم الثالث إن إمكان الوجود لا ينقطع. فكذلك الوجود الممكن يجوز أن يكون على وفق الإمكان. إلا أن هذا الدليل لا يقوى فإنا نحيل أن يكون أزلياً ولا نحيل أن يكون أبدياً لو أبقاه الله تعالى أبد إذاً ليس من ضرورة الحادث أن يكون له آخر ومن ضرورة الفعل أن يكون حادثاً وأن يكون له أول. ولم يوجب أن يكون للعالم لا محالة آخر إلا أبو الهذيل العلاف فإنه قال: كما يستحيل في الماضي دورات لا نهاية لها فكذلك في المستقبل وهو فاسد لأن كل المستقبل قط لا يدخل في الوجود لا متلاحقاً ولا متساوقاً والماضي قد دخل كله في الوجود متلاحقاً وإن لم يكن متساوقاً. وإذا تبين أنا لا نبعد بقاء العالم أبداً من حيث العقل بل نجوز بقاءه وإفناءه فإنما يعرف الواقع من قسمي الممكن بالشرع فلا يتعلق النظر فيه بالمعقول.
الدليل الأول والمسلك الرابع وأما مسلكهم الرابع فهو جار لأنهم يقولون: إذا عدم العالم بقي إمكان وجوده إذ الممكن لا ينقلب مستحيلاً وهو وصف إضافي. فيفتقر كل حادث بزعمهم إلى مادة سابقة وكل منعدم فيفتقر إلى مادة ينعدم عنها. فالمواد والأصول لا تنعدم وإنما تنعدم الصور والأعراض الحالة فيها. الجواب ما سبق ويضاف إليه دليلان آخران والجواب عن الكل ما سبق. الأول دليل جالينوس لا يظهر أن الشمس لا تقبل الانعدام ما تمسك به جالينوس إذ قال: لو كان الشمس مثلاً تقبل الانعدام لظهر فيها ذبول في مدة مديدة والأرصاد الدالة على مقدارها منذ آلاف سنين لا تدل إلا على هذا المقدار فلما لم تذبل في هذه الآماد الطويلة دل أنها لا تفسد. الاعتراض من الوجه الأول لعلها تفسد بغير طريق الذبول كما في حال البغتة الاعتراض عليه من وجوه: الأول إن شكل هذا الدليل أن يقال: إن كان الشمس تفسد فلا بد وأن يلحقها ذبول لكن التالي محال فالمقدم محال وهو قياس يسمى عندهم الشرطي المتصل وهذه النتيجة غير لازمة لأن المقدم غير صحيح ما لم يضف إليه شرط آخر وهو قوله: إن كان تفسد فلا بد وأن تذبل فهذا التالي لا يلزم هذا المقدم إلا بزيادة شرط وهو أن نقول: إن كان تفسد فساداً ذبولياً فلا بد وأن تذبل في طول المدة. أو يبين أنه لا فساد بطريق الذبول حتى يلزم التالي للمقدم. ولا نسلم أنه لا يفسد الشيء إلا بالذبول بل الذبول أحد وجوه الفساد. ولا يبعد أن يفسد الشيء بغتة وهو الاعتراض من الوجه الثاني الفساد لا يظهر للحس الثاني أنه لو سلم له هذا وأنه لا فساد إلا بالذبول فمن أين عرف أنه ليس يعتريها الذبول وأما التفاته إلى الأرصاد فمحال لأنها لا تعرف مقاديرها إلا بالتقريب. والشمس التي يقال إنها كالأرض مائة وسبعين مرة أو ما يقرب منه لو نقص منها مقدار جبال مثلاً لكان لا يبين للحس فلعلها في الذبول وإلى الآن قد نقص مقدار جبال وأكثر. والحس لا يقدر على أن يدرك ذلك لأن تقديره في علم المناظر لم يعرف إلا بالتقريب وهذا كما أن الياقوت والذهب مركبان من العناصر عندهم وهي قابلة للفساد ثم لو وضع ياقوته مائة سنة لم يكن نقصانه محسوساً فلعل نسبة ما ينقص من الشمس في مدة تاريخ الأرصاد كنسبة ما ينقص من الياقوت في مائة سنة. وذلك لا يظهر للحس فدل أن دليله في غاية الفساد. وباقي الأدلة ليست أكثر قوة وقد أعرضنا عن إيراد أدلة كثيرة من هذا الجنس يستركها العقلاء وأوردنا هذا الواحد ليكون عبرة ومثالاً لما تركناه واقتصرنا على الأدلة الأربعة التي يحتاج إلى تكلف في حل شبهها كما الثاني الدليل الثاني: لا يعقل سبب معدم... لهم في استحالة عدم العالم أن قالوا: العالم لا تنعدم جواهره لأنه لا يعقل سبب معدم له وما لم يكن منعدماً ثم انعدم فلا بد وأن يكون بسبب وذلك السبب لا يخلوا إما من أن يكون إرادة القديم وهو محال لأنه إذا لم يكن مريداً لعدمه ثم صار مريداً فقد تغير أو يؤدي إلى أن يكون القديم وإرادته على نعت واحد في جميع الأحوال والمراد يتغير من العدم إلى الوجود ثم من الوجود إلى العدم. وما ذكرناه من استحالة وجود حادث بإرادة قديمة يدل على استحالة العدم.
ولا فعله فإن الأقوال بهذا الأمر باطلة ويزيد هاهنا إشكال آخر أقوى من ذلك وهو أن المراد فعل المريد لا محالة وكل من لم يكن فاعلاً ثم صار فاعلاً فإن لم يتغير هو في نفسه فلا بد وأن يصير فعله موجوداً بعد أن لم يكن موجوداً. فإنه لو بقي كما كان إذ لم يكن له فعل والآن أيضاً لا فعل له فإذن لم يفعل شيئاً. والعدم ليس بشيء فكيف يكون فعلاً وإذا أعدم العالم وتجدد له فعل لم يكن فما ذلك الفعل أهو وجود العالم وهو محال إذا انقطع الوجود أو فعله عدم العالم وعدم العالم ليس بشيء حتى يكون فعلاً فإن أقل درجات الفعل أن يكون موجوداً وعدم العالم ليس شيئاً موجوداً حتى يقال: هو الذي فعله الفاعل وأوجده الموجد. ولإشكال هذا زعموا: افترق المتكلمون في التقصي عن هذا أربع فرق وكل فرقة اقتحمت محالاً. قول المعتزلة بخلق الفناء... أما المعتزلة فإنهم قالوا: فعله الصادر منه موجود وهو الفناء يخلقه لا في محل فينعدم كل العالم دفعة واحدة وينعدم الفناء المخلوق بنفسه حتى لا يحتاج إلى فناء آخر فيتسلسل إلى غير نهاية. وهو فاسد من وجوده أحدها أن الفناء ليس موجوداً معقولاً حتى يقدر خلقه ثم إن كان موجوداً فلم ينعدم بنفسه من غير معدم ثم لم يعدم العالم فإنه إن خلق في ذات العالم وحل فيه فهو محال لأن الحال يلاقي المحلول فيجتمعان ولو في لحظة فإذا جاز اجتماعهما لم يكن ضداً فلم يفنه. وإن خلقه لا في العالم ولا في محل فمن أين يضاد وجوده وجود العالم ثم في هذا المذهب شناعة أخرى وهو أن الله لا يقدر على إعدام بعض جواهر العالم دون بعض بل لا يقدر إلا على إحداث فناء يعدم العالم كله لأنها إذا لم تكن في محل كان نسبتها إلى الكل على وتيرة.
الفرقة الثانية الكرامية حيث قالوا: إن فعله الإعدام والإعدام عبارة عن موجود يحدثه في ذاته تعالى عن قولهم فيصير العالم به معدوماً. وكذلك الوجود عندهم بإيجاد يحدثه في ذاته فيصير الموجود به موجوداً. وهذا أيضاً فاسد إذ فيه كون القديم محل الحوادث ثم خروج عن المعقول إذ لا يعقل من الإيجاد إلا وجود منسوب إلى إرادة وقدرة. فإثبات شيء آخر سوى الإرادة والقدرة ووجود المقدور وهو العالم لا يعقل وكذى الإعدام. وقول الأشعرية بعدم خلق البقاء...
الفرقة الثالثة الأشعرية إذ قالوا: أما الأعراض فإنها تفنى بأنفسها ولا يتصور بقاءها لأنه لو تصور بقاءها لما تصور فناؤها لهذا المعنى. وأما الجواهر فليست باقية بأنفسها ولكنها باقية ببقاء زائد على وجودها فإذا لم يخلق الله البقاء انعدم لعدم المبقى. وهو أيضاً فاسد لما فيه من مناكرة المحسوس في أن السواد لا يبقى والبياض كذلك وأنه متجدد الوجود والعقل ينبوا عن هذا كما ينبوا عن قول القائل: إن الجسم متجدد الوجود في كل حالة والعقل القاضي بأن الشعر الذي على رأس الإنسان في يوم هو الشعر الذي كان بالأمس لا مثله يقضي أيضاً به في سواد الشعر. ثم فيه إشكال آخر وهو أن الباقي إذا بقي ببقاء فيلزم أن تبقى صفات الله ببقاء. وذلك وقول الفرقة الرابعة بعدم خلق الحركة أو السكون والفرقة الرابعة طائفة أخرى من الأشعرية إذ قالوا: إن الأعراض تفنى بأنفسها وأما الجواهر فإنها تفنى بأن لا يخلق الله فيها حركة ولا سكوناً ولا اجتماعاً ولا افتراقاً فيستحيل أن يبقى جسم ليس بساكن ولا متحرك فينعدم. وكأن فرقتي الأشعرية مالوا إلى أن الإعدام ليس بفعل إنما هو كف عن الفعل لما لم يعقلوا كون العدم فعلاً. وإذا بطلت هذه الطرق لم يبق وجه للقول بجواز إعدام العالم. وقولهم باستحالة انعدام النفس الحادثة... هذا لو قيل بأن العالم حادث فإنهم مع تسليمهم حدوث النفس الإنسانية يدعون استحالة انعدامها بطريق يقرب مما ذكرناه.
وباستحالة انعدام كل قائم بنفسه وبالجملة عندهم كل قائم بنفسه لا في محل لا يتصور انعدامه بعد وجوده سواء كان قديماً أو حادثاً. وإذا قيل لهم: مهما أغلي النار تحت الماء انعدم الماء قالوا لم ينعدم ولكن انقلب بخاراً ثم ماء. فالمادة وهي الهيولى باقية في الهواء وهي المادة التي كانت لصورة الماء وإنما خلعت الهيولى صورة المائية ولبست صورة الهوائية. وإذا أصاب الهواء برد كثف وانقلب ماء لا من مادة تجددت بل المواد مشتركة بين العناصر وإنما يتبدل عليها صورها. الجواب: الإعدام بإرادة الله الذي أجد العدم والجواب: أن ما ذكرتموه من الأقسام وإن أمكن أن نذب عن كل واحد ونبين أن إبطاله على أصلكم لا يستقيم لاشتمال أصولكم على ما هو من جنسه ولكنا لا نطول به ونقتصر على قسم واحد ونقول: بم تنكرون على من يقول: الإيجاد والإعدام بإرادة القادر فإذا أراد الله أوجد وإذا أراد أعدم وهذا معنى كونه قادراً على الكمال وهو في جملة ذلك لا يتغير في نفسه وإنما يتغير الفعل. وأما قولكم: إن الفاعل لا بد وأن يصدر منه فعل فما الصادر منه قلنا: الصادر منه ما تجدد وهو العدم إذ لم يكن عدم ثم تجدد العدم فهو الصادر عنه. قولهم: العدم ليس بشيء فإن قلتم: إنه ليس بشيء فكيف صدر منه قولنا: هو واقع فهو معقول... قلنا: وهو ليس بشيء فكيف وقع وليس معنى صدوره منه إلا أن ما وقع مضاف إلى قدرته فإذا عقل وقوعه لم لا تعقل إضافته إلى القدرة وما الفرق بينهم وبين من ينكر طريان العدم أصلاً على الأعراض والصور ويقول: العدم ليس بشيء فكيف يطرى وكيف يوصف بالطريان والتجدد ولا نشك في أن العدم يتصور طريانه على الأعراض فالموصوف بالطريان معقول وقوعه سمى شيئاً أو لم يسم فإضافة ذلك الواقع المعقول إلى قدرة القادر أيضاً معقول.
لا يقع العدم بل أضداد الطريان فإن قيل: هذا إنما يلزم على مذهب من يجوز عدم الشيء بعد وجوده فيقال له: ما الذي طرى وعندنا لا ينعدم الشيء الموجود وإنما معنى انعدام الأعراض طريان أضدادها التي هي موجودات لا طريان العدم المجرد الذي ليس بشيء فإن ما ليس بشيء كيف يوصف بالطريان فإذا ابيض الشعر فالطاري هو البياض فقط وهو موجود ولا نقول الطاري هو عدم السواد. قولنا: يقع العدم وهذا فاسد من وجهين: أحدهما أن طريان البياض هل تضمن عدم السواد أم لا فإن قالوا: لا فقد كابروا المعقول. وإن قالوا: نعم فالمتضمن غير المتضمن أم عينه فإن قالوا: هو عينه كان متناقضاً إذ الشيء لا يتضمن نفسه. وإن قالوا غيره فذلك الغير معقول أم لا فإن قالوا: لا قلنا: فبم عرفتم أنه متضمن والحكم عليه بكونه متضمناً اعتراف بكونه معقولاً. وإن قالوا: نعم فذلك المتضمن المعقول وهو عدم السواد قديم أو حادث. فإن قالوا: قديم فهو محال. وإن قالوا: حادث فالموصوف بالحدوث كيف لا يكون معقولاً وإن قالوا: لا قديم ولا حادث فهو محال لأنه قبل طريان البياض لو قيل: السواد معدوم كان كذباً وبعده إذا قيل: إنه معدوم كان صدقاً فهو طار لا محالة. فهذا الطاري معقول فيجوز أن يكون منسوباً إلى قدرة قادر.
الحركة وما إليها تنعدم دون وقوع أضدادها الوجه الثاني أن من الأعراض ما ينعدم عندهم لا بضده فإن الحركة لا ضد لها وإنما التقابل بينهما وبين السكون عندهم تقابل الملكة والعدم أي تقابل الوجود والعدم ومعنى السكون عدم الحركة. فإذا عدمت الحركة لم يطر سكون هو ضده بل هو عدم محض وكذلك الصفات التي هي من قبيل الاستكمال كانطباع أشباح المحسوسات في الرطوبة الجليدية من العين بل انطباع صور المعقولات في النفس فإنها ترجع إلى استفتاح وجود من غير زوال ضده وإذا عدم كان معناها زوال الوجود من غير استعقاب ضده. فزوالها عبارة عن عدم محض قد طرى فعقل قدرة القادر في إمكانها أن تحدث العدم كما تحدث الوجود. فتبين بهذا أنه مهما تصور وقوع حادث بإرادة قديمة لم يفترق الحال بين أن يكون الواقع عدماً أو وجوداً.