الرئيسيةبحث

تفسير القرآن الحكيم/سورة الفاتحة


سورة الفاتحة (1) هذه السورة مكية وآياتها سبع . والفرق بين السور المكية والمدنية : هو أن المكية أكثر إيجازا ؛ لأن المخاطبين بها هم أبلغ العرب وأفصحهم ، وعلى الإيجاز مدار البلاغة عندهم ، ثم إن معظمها تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال . وقد قلت في مقدمة الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول في أسلوب السور المكية ما نصه : إن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان ، وتصدع الوجدان ، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف ، وتدع العقول إلى إطالة الفكر في الخطبين الغائب والعتيد ، والخطرين القريب والبعيد ، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال ، أو الفتح الذاهب بالاستقلال ، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى ، وأنكى وأخزى - بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذ أصروا على شركهم ، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم ، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة ، التي هي الحنيفية السمحة السهلة ، وليست بالشيء الذي ينكره العقل ، أو يستثقله الطبع ، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد ، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد . راجع تلك السور العزيزة ، ولا سيما قصار المفصل منها كـ (الحاقة ما الحاقة) ، و (القارعة ما القارعة) ، و (إذا وقعت الواقعة) ، و (إذا الشمس كورت) ، و (إذا السماء انفطرت) ، و (إذا السماء انشقت) ، و (إذا زلزلت الأرض زلزالها) ، (والذاريات ذروا) ، (والمرسلات عرفا) ، (والنازعات غرقا) . تلك السور التي كانت بنذرها ، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها ، وتفزعهم من سماع القرآن ، حتى يفروا من الداعي - ﷺ - من مكان إلى مكان (كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) (74 : 50 - 51) - (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) (11 : 5) ثم إلى السور المكية الطوال ، فلا نجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال ، كقوله - عز وجل - : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (17 : 23 - إلى - 37 منها) وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريم الطيبات من الرزق (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) (7 : 33)

وأما السور المدنية ففي أسلوبها شيء من الإسهاب ، ولا سيما في مخاطبة أهل الكتاب ، لأنهم أقل بلاغة وفهما من العرب الأصلاء ، ولا سيما قريش وما فيها من الكلام في أصول الدين أكثره محاجة لهم - لأهل الكتاب - ونعي عليهم ، وإثبات لتحريفهم ما نزل إليهم ، وابتداعهم فيه وإعراضهم عن هدايته ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به ، ودعوة لهم إلى التوحيد الخالص توحيد الألوهية والربوبية ، وبيان لكون الإسلام الذي جاء به القرآن ، هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وفي هذه السور المدنية أيضا بيان لما لا بد منه من الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والسياسية والحربية ، ولأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ، كما تراه في طوال المفصل منها ، كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة . وقد اختلف العلماء في المكي والمدني من السور . فقيل : المكي ما نزل في شأن أهل مكة ، وإن كان نزوله في أهل المدينة . والمدني غيره ، وقيل : المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، كالذي نزل في عام الفتح وفي حجة الوداع ، والصحيح الذي عليه الجمهور : أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بالمدينة نفسها أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح وعام حجة الوداع ، أو في غزوة من الغزوات . فالسور المكية : هي التي نزلت في أول الإسلام لأجل الدعوة إليه ، ولبيان أساس الدين وكلياته من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ومن ترك الشرور والمعاصي والمنكرات المعروفة للناس بعقولهم وفطرتهم ، وفعل الخيرات والمعروف بحسب الرأي والاجتهاد الموكول إلى القلوب والضمائر . والسور المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة ، وكثرة المسلمين وتكون جماعتهم ، ببيان الأحكام التفصيلية كما قلنا آنفا ، وسترى ذلك مفصلا في القسمين تفصيلا . والسورة : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر ، لها اسم معروف بالتوقيف والرواية الثابتة بالأحاديث والآثار ، قيل : إن اسمها مشتق من السور الذي يحيط بالبلد . وقيل : من السؤر المهموز ، ومعناه البقية ، وبقية كل شيء جزء منه فالمراد بها جزء معين من القرآن . وقيل : من التسور ، وهو العلو والارتفاع . وقد رويت أسماء السور عن الصحابة مرفوعة وموقوفة ، لكنهم لم يكتبوها في مصاحفهم ، لأنهم لم يكتبوا فيها إلا ألفاظ التنزيل ، لئلا يتوهم أحد من الناس إذا هم زادوا شيئا - كأسماء السور أو لفظ " آمين " بعد الفاتحة - أنه من التنزيل . هذا - ولفظ " الفاتحة " صفة ، مؤنث الفاتح . قال الأستاذ الإمام : سميت الفاتحة فاتحة ؛ لأنها أول القرآن في هذا الترتيب (وتكلم عن لفظ الفاتحة وعن التاء فيه) وتسمى أم الكتاب . وقالوا : إن حديث النهي عن تسميتها هذا الاسم موضوع . ثم قال : يتكلمون عند الكلام

عن السور على المكي والمدني ، وهو يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ ، وهي مكية خلافا لمجاهد ، فالإجماع على أن الصلاة كانت بالفاتحة لأول فرضيتها . ولا ريب أن ذلك كان في مكة . وقالوا : هي المراد بالسبع المثاني : (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (15 : 87) وهو مكي بالنص . وقال بعضهم : إنها نزلت مرتين ، مرة بمكة عند فرضية الصلاة ، وأخرى بالمدينة حين حولت القبلة ، وكأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين . وليس بشيء . وقال كثيرون إنها أول سورة أنزلت بتمامها . أقول الآن ذكر الحافظ السيوطي في الإتقان أربعة أقوال في أول ما أنزل : - أحدها : (اقرأ باسم ربك) (96) رواه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة . ثانيها: (ياأيها المدثر) (74) رواه الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله . وجمعوا بين القولين بأن الأول هو أول ما نزل على الإطلاق ، وهو صدر سورة اقرأ . والثاني أول سورة نزلت بتمامها ، أو الثاني أول ما نزل بعد فترة الوحي آمرا بتبليغ الرسالة . وقيل في الجمع غير ذلك كما في " الإتقان " . ثالثها : سورة الفاتحة ، قال في الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت (اقرأ) وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب (قال السيوطي) وقال ابن حجر : والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول . وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول . وحجته ما أخرجه البيهقي في " الدلائل " والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله - ﷺ - قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا . فقالت : معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث " - وفي الحديث أنه أخبر ورقة بن نوفل بذلك ، وأن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء ، وأنه - ﷺ - لما خلا ناداه - أي الملك - " يا محمد قل : (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين) - حتى بلغ - (ولا الضالين) قال السيوطي في الحديث : هذا مرسل ، رجاله ثقات ، ونقل عن البيهقي احتمال أن هذا بعد نزول صدر (اقرأ باسم ربك) . هذا - وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أنها أول ما نزل على الإطلاق ، ولم يستثن قوله تعالى : " (اقرأ باسم ربك " ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله . ومن آية ذلك : أن السنة الإلهية في هذا الكون - سواء أكان كون إيجاد أو كون تشريع - أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجا ، وما مثل الهدايات الإلهية

إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة ، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها ثم تجود عليك بثمرها . والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن ، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف ، كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة . وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ، فإن هذا لم يثبت عن النبي - ﷺ - وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان . (قال) : وبيان ما أريد هو أن ما نزل القرآن لأجله أمور : (أحدها) : التوحيد لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدعي التوحيد . (ثانيها) : وعد من أخذ به وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به وإنذاره بسوء العقوبة . والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما ، والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما ، فقد وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض ، والعزة والسلطان والسيادة ، وأوعد المخالفين بالخزي والشقاء في الدنيا ، كما وعد بالنعيم . وأوعد بنار الجحيم في الآخرة . (ثالثها) : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس . (رابعها) : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة . (خامسها) : قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين ومعرفة سنن الله في البشر . هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب ، فأما التوحيد ففي قوله تعالى : (الحمد لله رب العالمين) لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد . ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى ، فصرح به بقوله : (رب العالمين) . ولفظ (رب) ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء ، وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه - عز وجل - ، فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالإشقاء والإسعاد سواه .

التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ، ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه بل استكمله بقوله : (إياك نعبد وإياك نستعين) فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ، ويدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم في قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى . وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال . وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوي في (بسم الله الرحمن الرحيم) فذكر الرحمة في أول الكتاب - وهي التي وسعت كل شيء - وعد بالإحسان ، وقد كررها مرة ثانية تنبيها لنا على أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا ، وقوله تعالى (مالك يوم الدين) يتضمن الوعد والوعيد معا لأن معنى الدين : الخضوع . أي أن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها - لا حقيقة ولا ادعاء - وأن العالم كله يكون خاضعا لعظمته ظاهرا وباطنا يرجو رحمته ويخشى عذابه وهذا يتضمن الوعد والوعيد . أو معنى الدين : الجزاء ، وهو إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعد ووعيد . وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك (الصراط المستقيم) وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد . وأما العبادة فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : (إياك نعبد وإياك نستعين) أوضح معناها بعض الإيضاح في بيان الأمر الرابع الذي يشملها ويشمل أحكام المعاملات وسياسة الأمة بقوله تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم) أي إنه قد وضع لنا صراطا سيبينه ويحدده وتكون السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاوة في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ، ويشبه هذا قوله تعالى : (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها ، وروح العبادة هي : إشراب القلوب خشية الله وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعل وكف وحركات اللسان والأعضاء ، وقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا هذه الأعمال البدنية وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما ، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة . وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : (صراط الذين أنعمت عليهم) تصريح بأن هناك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم . وصائح يصيح : ألا فانظروا في الشئون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها . كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله

من الأنبياء : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) حيث بين أن القصص إنما هي للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) تصريح بأن غير المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفا بالغضب الإلهي والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق عنادا ، والذين ضلوا فيه ضلالا . وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله . فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا ، فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى (أم الكتاب) كما نقول إن النواة أم النخلة ، فإن النواة مشتملة على شجرة النخلة كلها حقيقة ، لا كما قال بعضهم : إن المعنى في ذلك أن الأم تكون أولا ويأتي بعدها الأولاد . وأقول الآن : هذا ما قاله الأستاذ الإمام مبسوطا موضحا ، ويمكن أن يقال : إن نزول أول سورة العلق قبل الفاتحة لا ينافي هذه الحكم التي بينها ؛ لأنه تمهيد للوحي المجمل والمفصل ، خاص بحال النبي - ﷺ - وإعلام له بأنه يكون - وهو أمي - قارئا بعناية الله تعالى ومخرجا للأميين من أميتهم إلى العلم بالقلم ، أي الكتابة ، وفي ذلك استجابة لدعوة إبراهيم (ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم) (2 : 129) فسر الأستاذ الإمام الكتاب ، بالكتابة ، ثم كانت الفاتحة أول سورة نزلت كاملة ، وأمر النبي بجعلها أول القرآن ، وانعقد على ذلك الإجماع .

(بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . لا أذكر ما قاله الأستاذ الإمام في البسملة ، من حيث لفظها وإعرابها ، وهل هي آية أو جزء آية من الفاتحة أو ليست منها ؟ فإن الخلاف في ذلك مشهور ، وقد اختصر الأستاذ القول فيه اختصارا وقال : إنها على كل حال من القرآن فنتكلم عليها كسائر الآيات . وأقول الآن : أجمع المسلمون على أن البسملة من القرآن وأنها جزء آية من سورة النمل . واختلفوا في مكانها من سائر السور ، فذهب إلى أنها آية من كل سورة علماء السلف من أهل مكة فقهائهم وقرائهم ومنهم ابن كثير ، وأهل الكوفة ومنهم عاصم والكسائي من القراء ، وبعض الصحابة والتابعين من أهل المدينة ، والشافعي في الجديد وأتباعه ، والثوري وأحمد في أحد قوليه ، والإمامية ، ومن المروي عنهم ذلك من علماء الصحابة : علي وابن عباس وابن عمر وأبو هريرة ، ومن علماء التابعين سعيد بن جبير ، وعطاء ، والزهري ، وابن المبارك ، وأقوى حججهم في ذلك إجماع الصحابة ومن بعدهم على إثباتها في المصحف أول كل سورة سوى سورة براءة (التوبة) مع الأمر بتجريد القرآن عن كل ما ليس منه ، ولذلك لم يكتبوا (آمين) في آخر الفاتحة ، وأحاديث منها ما أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أنس قال : قال رسول الله - ﷺ - : " أنزلت علي آنفا سورة فقرأ : بسم الله الرحمن الرحيم " وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس " أن رسول الله - ﷺ - كان لا يعرف فصل السورة - وفي رواية انقضاء السورة - حتى ينزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم " . وأخرجه الحاكم في المستدرك ، وقال صحيح على شرط الشيخين . وروى الدارقطني من حديث أبي هريرة قال : " قال رسول الله - ﷺ - : إذا قرأتم الحمد لله (أي سورة " الحمد لله ") فاقرأوا (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها أم القرآن والسبع المثاني ، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى

آياتها " وذهب مالك وغيره من علماء المدينة ، والأوزاعي وغيره من علماء الشام ، وأبو عمرو ويعقوب من قراء البصرة إلى أنها آية مفردة أنزلت لبيان رءوس السور والفصل بينها ، وعليه الحنفية ، وقال حمزة من قراء الكوفة وروي عن أحمد : أنها آية من الفاتحة دون غيرها ، وثمة أقوال أخرى شاذة . هذا - وقد قال الأستاذ الإمام : القرآن إمامنا وقدوتنا ، فافتتاحه بهذه الكلمة إرشاد لنا بأن نفتتح أعمالنا بها فما معنى هذا ؟ ليس معناه أن نفتتح أعمالنا باسم من أسماء الله تعالى بأن نذكره على سبيل التبرك أو الاستعانة به ، بل أن نقول هذه العبارة : (بسم الله الرحمن الرحيم) فإنها مطلوبة لذاتها . أقول الآن : الاسم هو اللفظ الذي يدل على ذات من الذوات كحجر وخشب وزيد ، أو معنى من المعاني كالعلم والفرح . وقال ابن سيده : هو اللفظ الموضوع على الجوهر أو العرض . وقال الراغب : الاسم ما يعرف به ذات الشيء وأصله . وقال كثيرون : إنه مشتق من السمو ، وإن أصله سمو ؛ لأن تصغيره سمي وجمعه أسماء . والسمو : العلو ، كأن الاسم يعلو مسماه بكونه عنوانا له ودليلا عليه . وقال آخرون : إنه من السمة ، وهي العلامة ، وأصله وسم . وقال بعض الباحثين في الكلام والفلسفة : إن الاسم يطلق على نفس الذات والحقيقة والوجود والعين - وهي عندهم أسماء مترادفة - وهذا القول ليس من اللغة في شيء ، ولا هو من الفلسفة النافعة ، بل من الفلسفة الضارة ، وإن قال الألوسي بعد نقله عن ابن فورك والسهيلي : " وممن يعض عليه بالنواجذ " بل لا ينبغي أن يذكر مثل هذا القول إلا لأجل النهي عن إضاعة الوقت في قراءة ما بني عليه من السفسطة في إثبات قول القائلين : إن الاسم عين المسمى . وقد كتبوا لغوا كثيرا في هذه المسألة ، وقلما ترى أحدا رضي كلام غيره فيها ، ولكن قد يرضيه كلام نفسه الذي يؤيد به ما لم يفهمه من كلام غيره . والحق أن الاسم : هو اللفظ الذي ينطق به لسانك ويكتبه قلمك ، كقولك : الشمس أو زيد أو مكة . والمسمى : هو الكوكب المعروف أو الشخص المعين أو البلد المحدد ، وقد يكون بعيدا عنك عند إطلاق الاسم . ولفظ " اسم " اسم لهذا النوع من اللفظ الذي يدل على الجواهر والأعراض ، دون الأحداث التي تسمى في النحو أفعالا . ومدلوله مثل مدلول لفظ إنسان يطلق على أفراد كثيرة كلفظ " الشمس " الذي تنطق به وتكتبه ، ولفظ " زيد " ولفظ " مكة " ، وغير ذلك من أسماء الموجودات . فالاسم غير المسمى في اللغة ، وقد أخطأ من نسب إلى سيبويه غير هذا كما قال ابن القيم ، بل قال في كتابه (بدائع الفوائد) : ما قال نحوي قط ولا عربي إن الاسم عين المسمى ، وذكر بعض من قال باتحاد الاسم والمسمى بالتسمية وبين الخطأ في ذلك . وأن معنى " (سبح اسم ربك الأعلى " سبح ربك ذاكرا اسمه الأعلى ، ومعنى " سبح باسم ربك " سبحه ناطقا باسمه العظيم .

ومنشأ الاشتباه عند بعضهم أن الله تعالى أمرنا بذكره و تسبيحه في آيات ، وبذكر اسمه وتسبيح اسمه في آيات أخرى ، فقال تعالى : (واذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا) (73 : 89) (واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا) (76 : 25) (ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا) (22 : 40) (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين) (6 : 118) (وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه) (6 : 119) (فاذكروا اسم الله عليها صواف) (22 : 36) أي البدن عند نحرها ، وقال تعالى : (ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا) (33 : 41 - 42) . (فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم) (2 : 198) . (فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا 2) (: 200) . (الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض) (3 : 191) . (فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم) (4 : 103) . وقال تعالى في التسبيح : (إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون) (7 : 206) أي يسبحون ربك فعدى التسبيح بنفسه إلى ضمير الرب كما عداه بنفسه إلى اسم الرب في قوله تعالى : (سبح اسم ربك الأعلى) (87 : 1) وبالباء في قوله : (فسبح باسم ربك العظيم) (56 : 74 ، 96) . وقال (سبح لله ما في السماوات والأرض) (57 : 1) ومثله كثير . وقال تعالى : (فتبارك الله) (23 : 14) . (تبارك الذي نزل الفرقان) (25 : 1) كما قال : (تبارك اسم ربك) (55 : 78) . رأى بعضهم أن يجمع بين هذه الآيات بجعل الاسم عين المسمى ، وأن ذكر الله وذكر اسمه وتسبيحه وتسبيح اسمه واحد ؛ لأن اسمه عين ذاته ، وأن هذا خير من القول بأن لفظ " اسم " مقحم زائد . والصواب أن الذكر في اللغة ضد النسيان ، وهو ذكر القلب ، ولذلك قرنه بالتفكر في سورة آل عمران (3 : 191) وهما عبادتان قلبيتان ، وقال : (واذكر ربك إذا نسيت) (18 : 24) ويطلق الذكر أيضا على النطق باللسان ؛ لأنه دليل على ذكر القلب وعنوان وسبب له ، وإنما يذكر اللسان اسم الله تعالى كما يذكر من كل الأشياء أسماءها ، دون ذوات مسمياتها ، فإذا قال : " نار " لا يقع جسم النار على لسانه فيحرقه ، وإذا قال الظمآن : " ماء " لا يحصل مسمى هذا اللفظ في فيه فينقع غلته ، فذكر الله تعالى في القلب هو تذكر عظمته وجلاله وجماله ونعمه ، وورد التصريح بالأمر بذكر نعمة الله وآلاء الله . وذكره باللسان هو ذكر أسمائه الحسنى وإسناد الحمد والشكر والثناء إليها ، وكذلك تسبيحه تعالى ، فالقلب يسبحه باعتقاد كماله وتذكر تنزيهه عما لا يليق به ، واللسان يسبحه بإضافة التسبيح إلى أسمائه من غير ذكر للفظ الاسم . روى أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم في " مستدركه " وابن حبان في " صحيحه " عن عقبة بن عامر قال : لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم " قال لنا رسول الله - ﷺ - : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت (سبح اسم ربك الأعلى " قال : " اجعلوها في سجودكم " والمراد أن يقولوا : " سبحان ربي العظيم " لا "

سبحان اسم ربي العظيم " فقد روى أحمد وأصحاب السنن الأربعة وصححه الترمذي عن حذيفة قال : صليت مع النبي - ﷺ - فكان يقول في ركوعه : " سبحان ربي العظيم " وفي سجوده " سبحان ربي الأعلى " . ولهذا ورد في الكلام عن الذبائح ذكر اسم الله عليها " (فكلوا مما ذكر اسم الله عليه " وتقدم آنفا ذكر عدة آيات في هذا - فعلم من هذا التحقيق : أن الاسم غير المسمى ، وأن ذكر الاسم مشروع ، وذكر المسمى مشروع . والفرق بينهما ظاهر كالصبح ، وكذلك التسبيح والتبارك ، فكما يعظم الله يعظم اسمه الكريم ، فيذكر مقرونا بالحمد والشكر والثناء والتقديس . وقد صرحوا بأن تعمد إهانة أسماء الله تعالى في اللفظ والكتابة كفر ؛ لأنه لا يمكن أن يأتي من مؤمن . ا هـ . ما زدته الآن . وقال الأستاذ الإمام ما معناه عندما تقول : إنني أذكر اسم الله تعالى كالعزيز والحكيم ، لا تعني أنك تذكر لفظ " اسم " فلو كان قولهم : إن المراد من الابتداء بالكلمة " بسم الله " التبرك باسم الله هو الصواب لكان ينبغي أن يكون قولك : " بالله الرحمن الرحيم " مثل " (بسم الله الرحمن الرحيم " وقوله تعالى : " (بسم الله مجراها ومرساها " وقد قال بعضهم : إن الإضافة هاهنا للبيان ، أي أفتتح كلامي بسم الله ، ولكن يقتضي أن يكون لفظ " الرحمن الرحيم " واردا على اللفظ وهو غير صحيح . وإرادة أن الأسماء الثلاثة هي المبينة للفظ الاسم تمحل ظاهر ، فما المقصود إذا من هذا التعبير ؟ مثل هذا التعبير مألوف عند جميع الأمم ، ومنهم العرب ، وهو أن الواحد منهم إذا أراد أن يفعل أمرا ما لأجل أمير أو عظيم بحيث يكون متجردا من نسبته إليه ومنسلخا عنه ، يقول : أعمله باسم فلان ، ويذكر اسم ذلك الأمير أو السلطان ؛ لأن اسم الشيء دليل وعنوان عليه ، فإذا كنت أعمل عملا لا يكون له وجود ولا أثر ، لولا السلطان الذي به أمر ، أقول إن عملي هذا باسم السلطان أي إنه معنون باسمه ولولاه لما عملته . فمعنى أبتدئ عملي (بسم الله الرحمن الرحيم) أنني أعمله بأمره وله لا لي ، ولا أعمله باسمي مستقلا به على أنني فلان . فكأني أقول : إن هذا العمل لله لا لحظ نفسي . وفيه وجه آخر وهو : أن القدرة التي أنشأت بها العمل هي من الله تعالى ، فلولا ما منحني منها لم أعمل شيئا ، فلم يصدر عني هذا العمل إلا باسم الله ولم يكن باسمي ، إذ لولا ما آتاني من القوة عليه لم أستطع أن آتيه . وقد تم هذا المعنى بلفظ (الرحمن الرحيم) كما هو ظاهر . وحاصل المعنى أنني أعمل عملي متبرئا من أن يكون باسمي ، بل هو باسمه تعالى ، لأنني استمد القوة والعناية منه وأرجو إحسانه عليه ، فلولاه لم أقدر عليه ولم أعمله ، بل وما كنت عاملا له على تقدير القدرة عليه ، لولا أمره ورجاء فضله ، فلفظ الاسم معناه مراد ، ومعنى لفظ الجلالة مراد أيضا ، وكذلك كل من لفظ (الرحمن الرحيم . وهذا الاستعمال معروف مألوف في كل اللغات . وأقربه إليكم اليوم ما ترونه في المحاكم النظامية حيث يبتدئون الأحكام قولا وكتابة باسم السلطان فلان أو الخديوي فلان .

ومعنى البسملة في الفاتحة أن جميع ما يقرر في القرآن من الأحكام والآيات وغيرها هو لله ومنه ، ليس لأحد غير الله فيه شيء ا هـ . أقول : هذا صفوة ما قرره في متعلق " (بسم الله " ومعناها ، وهاهنا نظر آخر فيه ، وهو أن القرآن كان وحيا يلقيه الروح الأمين في قلب النبي - ﷺ - وكل سورة منه مبتدأة ببسملة ، فمتعلق البسملة من ملك الوحي تعلم من أول آية نزل بها وهي قوله تعالى : " (اقرأ باسم ربك " فمعنى البسملة الذي كان يفهمه النبي - ﷺ - من روح الوحي : اقرأ يا محمد هذه السورة (بسم الله الرحمن الرحيم على عباده ، أي اقرأها على أنها منه تعالى لا منك ، فإنه برحمته بهم أنزلها عليك لتهديهم بها إلى ما فيه الخير لهم في الدنيا والآخرة . وعلى هذا كان يقصد النبي - ﷺ - من متعلق البسملة أنني أقرأ السورة عليكم أيها الناس باسم الله لا باسمي ، وعلى أنها منه لا مني ، فإنما أنا مبلغ عنه - عز وجل - (وأمرت لأن أكون أول المسلمين) (39 : 12) . (وأن أتلو القرآن) (2 : 92) إلخ . اختصر الأستاذ الإمام في الكلام على لفظ اسم ولفظ الجلالة ؛ لأن الكلام فيهما مشهور . وقد تكلمنا على اللفظ الأول ، وهاك جملة صالحة في اللفظ الآخر العظيم : لفظ الجلالة (الله) علم على ذات واجب الوجود ، قال ابن مالك : وضع معرفا ، وقيل : أصله " إله " فحذفت همزته وأدخلت عليه الألف واللام ، وقيل : أصله الإله ، والإله في اللغة : يطلق على كل معبود ، ولذلك جمعوه على آلهة ، وما كل معبود سموه إلها يطلقون عليه اسم (الله) فإن هذا الاسم الكريم كان خاصا في لغتهم بخالق السماوات والأرض وكل شيء . فالتعريف فيه خصصه بالواحد الفرد الكامل ، كما جعلوا لفظ " النجم " بالتعريف خاصا بالثريا . فكان العربي في الجاهلية إذا سئل من خلقك أو من خلق السماوات والأرض ؟ يقول : " الله " وإذا سئل عن بعض آلهتهم : هل خلقت اللات والعزى شيئا من هذه الموجودات ؟ يقول : " لا " وقد احتج القرآن عليهم باعتقادهم هذا كما يأتي في محله . وإنما كانوا يتوسلون بها إلى الله ويعتقدون شفاعتها عنده . قال بعض العلماء : إن لفظ " إله " من أله بمعنى عبد فهو بمعنى معبود ككتاب بمعنى المكتوب ، يقال : أله يأله إلاهة وألوهة وألوهية ، كما يقال عبد يعبد عبادة وعبودة وعبودية فهو صفة بمعنى اسم المفعول ، وقيل : هو من أله بمعنى تحير ، وقيل : من وله بمعنى تحير . وهو إذا استشكل من جهة اللفظ - لأنه تعالى منزه عن الحيرة - يصح أن يقال من جهة المعنى ، والمراد أنه سبب الحيرة . لأن الناظرين إذا ارتقوا في سلم أسباب التكوين ينتهون عند درجة الحيرة في معرفة الموجد الأول الذي هو موجود بنفسه لا بسبب ولا علة سابقة عليه ، وبه وجد كل ما عداه ، لا يستطيعون الوصول إلى حقيقة هذا الموجود العظيم الذي لا يعقل وجود هذه

الكائنات الممكنة إلا بوجوده حتى إن الملاحدة الماديين لما بحثوا في أصل الموجودات ، وارتقوا إلى معرفة البسائط التي تركبت منها الكائنات ، قالوا : إنه لا بد أن يكون لها منشأ وحده مجهول الذات ، ذو قوة وحياة . والحاصل أن اسم الجلالة " الله " علم على ذات الباري سبحانه وتعالى تجري عليه الصفات ولا يوصف به . ولفظ " الإله " صفة . والجمهور على أن معناه الشرعي : المعبود بحق ، ولذلك أنكر القرآن عليهم تسمية أصنامهم آلهة ، والتحقيق أنه أنكر عليهم تأليهها وعبادتها ، لا مجرد تسميتها ، وقد سماها هو آلهة في قوله : (وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب) (11 : 101) ولا يظهر في هذه الآية قصد الحكاية . ومما يترتب على قولنا : أن لفظ الجلالة (الله) علم يوصف ولا يوصف به أن أسماء الله الحسنى صفات تجري على هذا الاسم العظيم ، ولكونها صفات وصفت بالحسنى . قال تعالى : (ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه) (7 : 180) وتسند إليه تعالى أفعال هذه الصفات ، ويقال : رحم الله فلانا ، ويرحمه الله ، واللهم ارحم فلانا ، وتضاف إليه مصادرها فيقال : رحمة الله وربوبيته ومغفرته (إن رحمة الله قريب من المحسنين) (7 : 56) وهذه الأسماء المشتقة كل منها يدل على ذات الله تعالى وعلى الصفة التي اشتق منها معا بالمطابقة ، وعلى الذات وحدها أو الصفة بالتضمن ، ولكل منها لوازم يدل عليها بالالتزام ، كدلالة الرحمن على الإحسان والإنعام ، ودلالة الحكيم على الإتقان والنظام ، ودلالة الرب على البعث والجزاء ؛ لأن الرب الكامل لا يترك مربوبيه سدى ، ومن عرف الأسماء الحسنى ، والصفات العليا ، عرف أن اسم الجلالة الأعظم (الله) يدل عليها كلها وعلى لوازمها الكمالية وعلى تنزهه عن أضدادها السلبية ، فدل هذا الاسم الأعلى على اتصاف مسماه بجميع صفات الكمال ، وتنزهه عن جميع النقائص ، فسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ، ا هـ ما أحببت زيادته الآن . قال الأستاذ الإمام ما معناه : والرحمن الرحيم مشتقان من الرحمة وهي معنى يلم بالقلب فيبعث صاحبه ويحمله على الإحسان إلى غيره ، وهو محال على الله تعالى بالمعنى المعروف عند البشر ؛ لأنه في البشر ألم في النفس شفاؤه الإحسان والله تعالى منزه عن الآلام والانفعالات ، فالمعنى المقصود بالنسبة إليه من الرحمة أثرها وهو الإحسان . وقد مشى الجلال في تفسيره وتبعه الصبان على أن الرحمن والرحيم بمعنى واحد ، وأن الثاني تأكيد للأول . ومن العجيب أن يصدر مثل هذا القول عن عالم مسلم وما هي إلا غفلة نسأل الله أن يسامح صاحبها .

(قال) : وأنا لا أجيز لمسلم أن يقول في نفسه أو بلسانه : إن في القرآن كلمة تغاير أخرى ، ثم تأتي لمجرد تأكيد غيرها بدون أن يكون لها في نفسها معنى تستقل به . نعم قد يكون في معنى الكلمة ما يزيد معنى الأخرى تقريرا أو إيضاحا ، ولكن الذي لا أجيزه هو أن يكون معنى الكلمة هو عين معنى الأخرى بدون زيادة ، ثم يؤتى بها لمجرد التأكيد لا غير بحيث تكون من قبيل ما يسمى بالمترادف في عرف أهل اللغة . فإن ذلك لا يقع إلا في كلام من يرمي في لفظه إلى مجرد التنميق والتزويق . وفي العربية طرق للتأكيد ليس هذا منها ، وأما ما يسمونه بالحرف الزائد الذي يأتي للتأكيد فهو حرف وضع لذلك ، ومعناه هو التأكيد وليس معناه معنى الكلمة التي يؤكدها ، الباء في قوله تعالى : " (وكفى بالله شهيدا " تؤكد معنى اتصال الكفاية بجانب الله جل شأنه بذاتها ومعناها الذي وضعت له . ومعنى وصفها بالزيادة أنها كذلك في الإعراب ، وكذلك معنى " من " في قوله " (وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله " ونحو ذلك . أما التكرار للتأكيد أو التقريع أو التهويل فأمر سائغ في أبلغ الكلام عندما يظهر ذلك القصد منه كتكرار جملة " (فبأي آلاء ربكما تكذبان " ونحوها عقب ذكر كل نعمة ، وهي عند التأمل ليست مكررة ، فإن معناها عند ذكر كل نعمة : أفبهذه النعمة تكذبان . وهكذا كل ما جاء في القرآن على هذا النحو . والجمهور على أن معنى " الرحمن " المنعم بجلائل النعم ، ومعنى " الرحيم " المنعم بدقائقها ، وبعضهم يقول: إن الرحمن هو المنعم بنعم عامة تشمل الكافرين مع غيرهم ، والرحيم هو المنعم بالنعم الخاصة بالمؤمنين . وكل هذا تحكم في اللغة مبني على أن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى . ولكن الزيادة تدل على زيادة الوصف مطلقا ، فصفة الرحمن تدل على كثرة الإحسان الذي يعطيه سواء كان جليلا أو دقيقا . وأما كون أفراد الإحسان الذي يدل عليها اللفظ الأكثر حروفا أعظم من أفراد الإحسان التي يدل عليها اللفظ الأقل حروفا فهو غير معني ولا مراد . وقد قارب من قال : إن معنى الرحمن المحسن بالإحسان العام ، ولكنه أخطأ في تخصيص مدلول الرحيم بالمؤمنين ، ولعل الذي حمل من قال : إن الثاني مؤكد للأول على قوله هذا هو عدم الاقتناع بما قالوه من التفرقة مع عدم التفطن لما هو أحسن منه . قال الأستاذ الإمام : والذي أقول إن صيغة " فعلان " تدل على وصف " فعلى " فيه معنى المبالغة كفعال وهو في استعمال اللغة للصفات العارضة كعطشان وغرثان وغضبان ، وأما صيغة فعيل فإنها تدل في الاستعمال على المعاني الثابتة كالأخلاق والسجايا في الناس كعليم وحكيم وحليم وجميل . والقرآن لا يخرج عن الأسلوب العربي البليغ في الحكاية عن صفات الله - عز وجل - التي تعلو عن مماثلة صفات المخلوقين . فلفظ الرحمن يدل على من تصدر عنه آثار الرحمة بالفعل وهي إفاضة النعم والإحسان ، ولفظ الرحيم يدل على منشأ هذه الرحمة والإحسان

وعلى أنها من الصفات الثابتة الواجبة . وبهذا المعنى لا يستغنى بأحد الوصفين عن الآخر ولا يكون الثاني مؤكدا للأول ، فإذا سمع العربي وصف الله جل ثناؤه بالرحمن وفهم منه أنه المفيض للنعم فعلا لا يعتقد منه أن الرحمة من الصفات الواجبة له دائما . لأن الفعل قد ينقطع إذا لم يكن عن صفة لازمة ثابتة وإن كان كثيرا ، فعندما يسمع لفظ الرحيم يكمل اعتقاده على الوجه الذي يليق بالله تعالى ويرضيه سبحانه . ويعلم أن لله صفة ثابتة هي الرحمة التي عنها يكون أثرها ، وإن كانت تلك الصفة على غير مثال صفات المخلوقين ، ويكون ذكرها بعد الرحمن كذكر الدليل بعد المدلول ليقوم برهانا عليه ا هـ . أقول قد سبق العلامة ابن القيم إلى مثل هذه التفرقة ، ولكنه عكس في دلالة الاسمين الكريمين . قال : وأما الجمع بين الرحمن والرحيم ففيه معنى بديع ، وهو أن الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه ، والرحيم دال على تعلقها بالمرحوم ، وكأن الأول الوصف والثاني الفعل ، فالأول دال على أن الرحمة صفته أي صفة ذات له سبحانه ، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته ، أي صفة فعل له سبحانه ، فإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى : (وكان بالمؤمنين رحيما) ، (إنه بهم رءوف رحيم) ولم يجيء قط رحمن بهم ، فعلمت أن رحمن هو الموصوف بالرحمة . ورحيم هو الراحم برحمته . قال رحمه الله تعالى: هذه النكتة لا تكاد تجدها في كتاب ، وإن تنفست عندها مرآة قلبك لم تنجل لك صورتها . وقال في كتاب آخر عند ذكر الاسمين الكريمين : وكرر أذانا (أي إعلاما) بثبوت الوصف وحصول أثره وتعلقه بمتعلقاته ، فالرحمن : الذي الرحمة وصفه ، والرحيم : الراحم لعباده ، ولهذا يقول تعالى : (وكان بالمؤمنين رحيما) . (إنه بهم رءوف رحيم) ولم يجيء رحمن بعباده ولا رحمن بالمؤمنين ، مع ما في اسم الرحمن الذي هو على وزن (فعلان) من سعة هذا الوصف وثبوت جميع معناه للموصوف به ، ألا ترى أنهم يقولون : غضبان للممتلئ غضبا ، وندمان وحيران وسكران ولهفان لمن ملئ بذلك ، فبناء فعلان للسعة والشمول المراد منه . ا هـ . أقول : إن هذه الأمثلة تؤيد ما قاله الأستاذ الإمام من أن صيغة (فعلان) تدل على الصفة العارضة ، ولا تدل على الدائمة ، فاحتيج إلى صيغة أخرى تدل على الصفة الثابتة الدائمة وهي صيغة (فعيل) فهذا أقوى ما قيل في نكتة الجمع بين الاسمين الكريمين بالصيغتين . ويليه دلالة أحدهما على الرحمة بالقوة ، والآخر دلالته عليها بالفعل ، وهذا معنى آخر ألم به هذان الإمامان ، ولكن ابن القيم جعل لفظ الرحيم هو الدال على الرحمة بالفعل بدليل الآيتين

اللتين أوردهما ، ولفظ الرحمن هو الدال عليها بالقوة لعدم تعلق مثل ذلك الظرف به ، وهو قوي . وعكس (محمد عبده) وجعل ذلك من مدلول الصيغة باللزوم . (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم قالوا : إن معنى الحمد الثناء باللسان ، وقيدوه بالجميل ؛ لأن كلمة " ثناء " تستعمل في المدح والذم جميعا ، يقال : أثنى عليه شرا ، كما يقال : أثنى عليه خيرا . ويقولون : إن " أل " التي في الحمد هي للجنس في أي فرد من أفراده لا للاستغراق ولا للعهد المخصوص ؛ لأنه لا يصار إلى كل منهما في فهم الكلام إلا بالبديل ، وهو غير موجود في الآية ، ومعنى كون الحمد لله تعالى بأي نوع من أنواعه ، هو أن أي شيء يصح الحمد عليه فهو مصدره ، وإليه مرجعه ، فالحمد له على كل حال . وهذه الجملة خبرية ولكنها استعملت لإنشاء الحمد - فأما معنى الخبرية فهو إثبات أن الثناء الجميل في أي أنواعه تحقق ، فهو ثابت له تعالى وراجع إليه ؛ لأنه متصف بكل ما يحمد عليه الحامدون فصفاته أجل الصفات ، وإحسانه عم جميع الكائنات ، ولأن جميع ما يصح أن يتوجه إليه الحمد مما سواه فهو منه جل ثناؤه ، إذ هو مصدر الكون كله ، فيكون له ذلك الحمد أولا وبالذات . والخلاصة : أن أي حمد يتوجه إلى محمود ما فهو لله تعالى ، سواء لاحظه الحامد أو لم يلاحظه . وأما معنى الإنشائية فهو أن الحامد جعلها عبارة عما وجهه من الثناء إلى الله تعالى في الحال . هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام ، وأقول الآن : التعريف المشهور بين العلماء للحمد : أنه الثناء باللسان على الجميل الاختياري . أي الفعل الجميل الصادر عن فاعله باختياره ، أي سواء أسدى هذا الجميل إلى الحامد أم لا . ا هـ وأزيد عليهم : أنه قد يحمد غير الفاعل المختار تنزيلا له منزلة الفاعل في نفعه ، ومنه : " إنما يحمد السوق من ربح " . وهذا هو المتبادر من استعمال اللغة . وحذف بعضهم قيد الاختيار ليدخل في الحمد الثناء على صفات الكمال ولذلك وصف بعضهم الجميل الاختياري بقوله : سواء كان من الفضائل - أي الصفات الكمالية لصاحبها -

أو الفواضل ، وهي ما يتعدى أثره من الفضل إلى غير صاحب الفضل . والظاهر أن الحمد على الفضائل وصفات الكمال إنما يكون باعتبار ما يترتب عليها من الأفعال الاختيارية ، ما عدا هذا من الثناء تسميه العرب مدحا . يقال : مدح الرياض ، ومدح المال ، ومدح الجمال ، ولا يطلق الحمد على مثل هذه الأشياء ، وقيل : هما مترادفان . والمقام المحمود للنبي - ﷺ - وهو ما يحمد فيه لما يناله الناس كلهم من خير دعائه وشفاعته على المشهور . وسيأتي تفسيره في موضعه إن شاء الله تعالى . وقد يقال : إن ما ذكر هو الحمد الذي يكون من بعض الناس لبعض ، وأما الله - عز وجل - فإنه يحمد لذاته باعتبار أنها مصدر جميع الوجود الممكن وما فيه من الخيرات والنعم ، أو مطلقا خصوصية له ، إذ ليست ذات أحد من الخلق كذاته ، ويحمد لصفاته باعتبار تعلقها وآثارها كما سترى بيانه في تفسير الرب والرحمن والرحيم . (رب العالمين يشعر هذا الوصف ببيان وجه الثناء المطلق ، ومعنى الرب : السيد المربي الذي يسوس مسوده ويربيه ويدبره ، ولفظ " العالمين " جمع عالم بفتح اللام جمع جمع المذكر العاقل تغليبا ، وأريد به جميع الكائنات الممكنة ، أي : إنه رب كل ما يدخل في مفهوم لفظ العالم . وما جمعت العرب لفظ العالم هذا الجمع إلا لنكتة تلاحظها فيه ، وهي أن هذا اللفظ لا يطلق عندهم على كل كائن وموجود كالحجر والتراب ، وإنما يطلقونه على كل جملة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العاقل الذي جمعت جمعه ، إن لم تكن منه فيقال : عالم الإنسان ، وعالم الحيوان ، وعالم النبات . ونحن نرى أن هذه الأشياء هي التي يظهر فيها معنى التربية الذي يعطيه لفظ " رب " ؛ لأن فيها مبدأها وهو الحياة والتغذي والتولد ، وهذا ظاهر في الحيوان . ولقد كان السيد (أي جمال الدين الأفغاني) رحمه الله تعالى يقول : الحيوان شجرة قطعت رجلها من الأرض فهي تمشي ، والشجرة حيوان ساخت رجلاه في الأرض ، فهو قائم في مكانه يأكل ويشرب ، وإن كان لا ينام ولا يغفل . هذا ملخص ما قاله الأستاذ الإمام . وأزيد الآن أن بعض العلماء قال : إن المراد بالعالمين هنا أهل العلم والإدراك من الملائكة والإنس والجن ، ويؤثر عن جدنا الإمام جعفر الصادق عليه الرضوان . أن المراد به الناس فقط كما يدل على هذا وذاك استعمال القرآن في مثل : " (أتأتون الذكران من العالمين) (26 : 165) أي الناس ، ومثل " (ليكون للعالمين نذيرا) (25 : 1) " ويرى بعضهم : أنه على هذا مشتق من العلم . ومن قال : يعم جميع أجناس المخلوقات يرى أنه مشتق من العلامة ، وربوبية الله للناس تظهر بتربيته إياهم ، وهذه التربية قسمان :

تربية خلقية بما يكون به نموهم ، وكمال أبدانهم وقواهم النفسية والعقلية - وتربية شرعية تعليمية وهي ما يوحيه إلى أفراد منهم ليكمل به فطرتهم بالعلم والعمل إذا اهتدوا به . فليس لغير رب الناس أن يشرع للناس عبادة ، ولا أن يحرم عليهم ويحل لهم من عند نفسه بغير إذن منه تعالى . (الرحمن الرحيم تقدم معناهما وبقي الكلام في إعادتهما ، والنكتة فيها ظاهرة وهي أن تربيته تعالى للعالمين ليست لحاجة به إليهم كجلب منفعة أو دفع مضرة ، وإنما هي لعموم رحمته وشمول إحسانه . وثم نكتة أخرى وهي أن البعض يفهم من معنى الرب : الجبروت والقهر ، فأراد الله تعالى أن يذكرهم برحمته وإحسانه ليجتمعوا بين اعتقاد الجلال والجمال ، فذكر الرحمن وهو المفيض للنعم بسعة وتجدد لا منتهى لهما ، والرحيم الثابت له وصف الرحمة لا يزايله أبدا . فكأن الله تعالى أراد أن يتحبب إلى عباده ، فعرفهم أن ربوبيته ربوبية رحمة وإحسان ليعلموا أن هذه الصفة هي التي ربما يرجع إليها معنى الصفات ، وليتعلقوا به ويقبلوا على اكتساب مرضاته ، منشرحة صدورهم ، مطمئنة قلوبهم ، ولا ينافي عموم الرحمة وسبقها ما شرعه الله من العقوبات في الدنيا ، وما أعده من العذاب في الآخرة للذين يتعدون الحدود ، وينتهكون الحرمات ، فإنه وإن سمي قهرا بالنسبة لصورته ومظهره فهو في حقيقته وغايته من الرحمة ؛ لأن فيه تربية للناس وزجرا لهم عن الوقوع فيما يخرج عن حدود الشريعة الإلهية ، وفي الانحراف عنها شقاؤهم وبلاؤهم ، وفي الوقوف عندها سعادتهم ونعيمهم ، والوالد الرءوف يربي ولده بالترغيب فيما ينفعه والإحسان عليه إذا قام به ، وربما لجأ إلى الترهيب والعقوبة إذا اقتضت ذلك الحال ، ولله المثل الأعلى لا إله إلا هو وإليه يرجعون . أقول الآن : إنني لا أرى وجها للبحث في عد ذكر " الرحمن الرحيم " في سورة الفاتحة تكرارا أو إعادة مطلقا ، أما على القول بأن البسملة ليست آية منها فظاهر ، وأما على القول بأنها آية منها فيحتاج إلى بيان ، وهو أن جعلها آية منها ومن كل سورة يراد به ما تقدم شرحه آنفا من أن النبي - ﷺ - كان يلقنها ويبلغها للناس على أنها (أي السورة) منزلة من عند الله تعالى أنزلها برحمته لهداية خلقه ، وأنه - ﷺ - لا كسب له فيها ولا صنع ، وإنما هو مبلغ لها بأمر الله تعالى . فهي مقدمة للسور كلها إلا سورة براءة المنزلة بالسيف ، وكشف الستار عن نفاق المنافقين ، فهي بلاء على من أنزل أكثرها في شأنهم لا رحمة بهم . وإذا كان المراد ببدء الفاتحة بالبسملة أنها منزلة من الله رحمة بعباده فلا ينافي ذلك أن يكون من موضوع هذه السورة بيان رحمة الله تعالى مع بيان ربوبيته للعالمين ، وكونه الملك الذي يملك وحده جزاء العاملين على أعمالهم ، وأنه بهذه الأسماء والصفات كان

مستحقا للحمد من عباده ، كما أنه مستحق له في ذاته ، ولهذا نسب الحمد إلى اسم الذات ، الموصوف بهذه الصفات . والحاصل : أن معنى الرحمة في بسملة كل سورة ، هو أن السورة منزلة برحمة الله وفضله فلا يعد ما عساه يكون في أول السورة أو أثنائها من ذكر الرحمة مكررا مع ما في البسملة ، وإن كان مقرونا بذكر التنزيل كأول سورة فصلت (حم تنزيل من الرحمن الرحيم) (41 : 1 - 2) لأن الرحمة في البسملة للمعنى العام في الوحي والتنزيل ، وفي السور للمعنى الخاص الذي تبينه السورة ، وقد لاحظ هذا المعنى من قال : إن البسملة آية مستقلة فاصلة بين السور . وأما من قال : إنها آية من كل سورة فمراده أنها تقرأ عند الشروع في قراءتها ، وأن من حلف ليقرأن سورة كذا لا يبرأ إلا إذا قرأ البسملة معها ، وأن الصلاة لا تصح إلا بقراءتها أيضا . هذا - وأما حظ العبد من وصف الله بالربوبية فهو أن يحمده تعالى ويشكره باستعمال نعمه التي تتربى بها القوى الجسدية والعقلية فيما خلقت لأجله ، فليحسن تربية نفسه وتربية من يوكل إليه تربيته من أهل وولد ومريد وتلميذ ، وباستعمال نعمته بهداية الدين في تربية نفسه الروحية والاجتماعية ، وكذا تربية من يوكل إليه تربيتهم وألا يبغي كما بغى فرعون فيدعي أنه رب الناس ، وكما بغى فراعنة كثيرون ولا يزالون يبغون بجعل أنفسهم شارعين يتحكمون في دين الناس بوضع العبادات التي لم ينزلها الله تعالى ، وبقولهم : هذا حلال وهذا حرام من عند أنفسهم أو من عند أمثالهم ، فيجعلون أنفسهم شركاء لله في ربوبيته . قال تعالى : (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) (42 : 21) وفسر النبي - ﷺ - اتخاذ أهل الكتاب أحبارهم ورهبانهم أربابا بمثل هذا . وأما حظ العبد من وصف الله بالرحمة فهو أن يطالب نفسه بأن يكون رحيما بكل من يراه مستحقا للرحمة من خلق الله تعالى حتى الحيوان الأعجم ، وأن يتذكر دائما أنه يستحق بذلك رحمة الله تعالى ، قال - ﷺ - : " إنما يرحم الله من عباده الرحماء " رواه الطبراني عن جرير بسند صحيح ، وقال : " الراحمون يرحمهم الرحمن تبارك وتعالى ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء " رواه أحمد وأبو داود والترمذي والحاكم من حديث ابن عمر ، ورويناه مسلسلا بالأولية من طريق الشيخ أبي المحاسن محمد القاوقجي الطرابلسي الشامي . وقال - ﷺ - : " من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة " رواه البخاري في الأدب المفرد والطبراني عن أبي أمامة ، وأشار السيوطي في الجامع الصغير إلى صحته . ومما يدل على الترغيب في رحمة الحيوان والرفق به بغير لفظ الرحمة حديث : " في كل ذات كبد حرى أجر " رواه أحمد وابن ماجه عن سراقة بن مالك ، وأحمد أيضا عن عبد الله بن عمرو . وهو حديث صحيح .

ومن مباحث اللغة أن لفظ الرحمن خاص بالله تعالى كلفظ الجلالة . قالوا : لم يسمع عن أحد من العرب أنه أطلقه على غير الله تعالى ، وكذلك لفظ " رحمن " غير معرف ، قالوا : لم يرد إطلاقه على غير الله تعالى إلا في شعر لبعض الذين فتنوا بمسيلمة الكذاب قال فيه : " وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا " وقيل : إن هذا تعنت وغلو لا من الاستعمال المعروف عند العرب ، وأما العرب فكانت تطلق لفظ رب على الناس ، يقولون : رب الدار ورب هذه الأنعام مثلا لا رب الأنعام مطلقا . قال عبد المطلب في يوم الفيل : أما الإبل فأنا ربها ، وأما البيت فإن له ربا يحميه ، وقال تعالى في حكاية قول يوسف عليه السلام في مولاه عزيز مصر : (إنه ربي أحسن مثواي) (12 : 23) ويرى بعض العلماء أن هذا الاستعمال ممنوع في الإسلام ، واستدل بالنهي في الحديث عن قول المملوك لسيده " ربي " والصواب أن يمنع ما ورد النص به كهذا الاستعمال ، وما من شأنه ألا يقال إلا في البارئ تعالى كلفظ الرب بالتعريف مطلقا ، ولفظ رب الناس ، رب المخلوقات ، رب العالمين ، وما أشبه ذلك . (مالك يوم الدين قرأ عاصم والكسائي ويعقوب : " مالك " والباقون " ملك " وعليها أهل الحجاز والفرق بينهما أن المالك ذو الملك بكسر الميم ، والملك ذو الملك بضمها ، والقرآن يشهد للأولى بمثل قوله : (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا) (82 : 19) وللثانية بقوله : (لمن الملك اليوم) (40 : 16) قال بعضهم : إن قراءة ملك أبلغ ؛ لأن هذا اللفظ يفهم منه معنى السلطان والقوة والتدبير . قال آخرون : إن القراءة الأخرى أبلغ ؛ لأن الملك هو الذي يدبر أعمال رعيته العامة ، ولا تصرف له بشيء من شئونهم الخاصة ، والمالك سلطته أعم ، فلا ريب أن مالكه هو الذي يتولى جميع شئونه دون سلطانه . وأقول الآن : الظاهر أن قراءة " ملك " أبلغ ؛ لأن معناها المتصرف في أمور العقلاء المختارين بالأمر والنهي والجزاء ، ولهذا يقال : (ملك الناس) ولا يقال ملك الأشياء . قاله الراغب . وقال في (ملك يوم الدين) تقديره الملك في يوم الدين ؛ لقوله : (لمن الملك اليوم لله الواحد القهار) ا هـ . وإنما كان هذا أبلغ ؛ لأن السياق يدلنا على أن المراد بالآية تذكير المكلفين بما ينتظرهم من الجزاء على أعمالهم رجاء أن تستقيم أحوالهم ، ومعنى (مالك يوم الدين) قد يستفاد من قوله " (رب العالمين " على أن مجموع القراءتين يدل على المعنيين فكلاهما ثابت ، ولكن القراءة في الصلاة بملك يوم الدين تثير من الخشوع ما لا تثيره القراءة الأخرى التي يفضلها بعضهم ؛ لأنها تزيد حرفا في النطق . وورد في الحديث أن للقارئ بكل

حرف كذا حسنة ، ولكن فاتهم أن حسنة واحدة تكون أكبر تأثيرا في القلب خير من مائة حسنة يكن دونها في التأثير . و (الدين) يطلق في اللغة على الحساب وعلى المكافأة ، وورد " كما تدين تدان " وقال الشاعر : ولم يبق سوى العدوا ... ن دناهم كما دانوا وعلى الجزاء وهو قريب من معنى المكافأة ، وعلى الطاعة ، وعلى الإخضاع ، وعلى السياسة ؛ يقال : دنته ، ودينته فلانا (بالتشديد) أي وليته سياسته ، وهو قريب من معنى الإخضاع ، وعلى الشريعة : ما يؤخذ العباد به من التكاليف . والمناسب هنا من هذه المعاني الجزاء والخضوع وإنما قال " يوم الدين " ولم يقل " الدين " لتعريفنا بأن للدين يوما ممتازا عن سائر الأيام ، وهو اليوم الذي يلقى فيه كل عامل عمله ويوفى جزاءه . ولسائل أن يسأل : أليست كل الأيام أيام جزاء . وكل ما يلاقيه الناس في هذه الحياة من البؤس هو جزاء على تفريطهم في أداء الحقوق والقيام بالواجبات التي عليهم ؟ والجواب : بلى إن أيامنا التي نحن فيها قد يقع فيها الجزاء على أعمالنا ، ولكن ربما لا يظهر لأربابه إلا على بعضها دون جميعها . والجزاء على التفريط في العمل الواجب إنما يظهر في الدنيا ظهورا تاما بالنسبة إلى مجموع الأمة لا إلى كل فرد من الأفراد ، فما من أمة انحرفت عن صراط الله المستقيم ولم تراع سننه في خليقته إلا وأحل بها العدل الإلهي ما تستحق من الجزاء كالفقر والذل وفقد العزة والسلطة . وأما الأفراد فإننا نرى كثيرا من المسرفين الظالمين يقضون أعمارهم منغمسين في الشهوات واللذات ، نعم إن ضمائرهم توبخهم أحيانا وإنهم لا يسلمون من المنغصات ،

وقد يصيبهم النقص في أموالهم ، وعافية أبدانهم ، وقوة عقولهم . ولكن هذا كله لا يقابل بعض أعمالهم القبيحة ، لا سيما الملوك والأمراء الذين تشقى بأعمالهم السيئة أمم وشعوب . كذلك نرى من المحسنين في أنفسهم وللناس من يبتلى بهضم حقوقه ، ولا ينال الجزاء الذي يستحقه على عمله ، فإن كان قد ينال رضاء نفسه وسلامة أخلاقه وصحة ملكاته ، فما ذلك كل ما يستحق ، وفي ذلك اليوم يوفى كل فرد من أفراد العالمين جزاءه كاملا لا يظلم شيئا منه ، كما قال تعالى : (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره) (99 : 7 - 8) علمنا الله أنه رحمن رحيم ليجذب قلوبنا إليه ، ولكن هل يشعر كل عباده بهذه المنة فينجذبوا إليه الانجذاب المطلوب ؟ أليس فينا من يسلك كل سبيل لا يبالي بمستقيم ومعوج ؟ بلى ، ولهذا أعقب سبحانه ذكر الرحمة بذكر الدين ، فعرفنا أنه يدين العباد ويجازيهم على أعمالهم فكان من رحمته بعباده أن رباهم بنوعي التربية كليهما : الترغيب والترهيب ، كما تشهد بذلك آيات القرآن الكثيرة (نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم) (15 : 49 - 50) . (إياك نعبد وإياك نستعين ما هي العبادة ؟ يقولون هي الطاعة مع غاية الخضوع ، وما كل عبارة تمثل المعنى تمام التمثيل ، وتجليه للأفهام واضحا لا يقبل التأويل ، فكثيرا ما يفسرون الشيء ببعض لوازمه ويعرفون الحقيقة برسومها ، بل يكتفون أحيانا بالتعريف اللفظي ويبينون الكلمة بما يقرب من معناها ، ومن ذلك هذه العبارة التي شرحوا بها معنى العبادة ، فإن فيها إجمالا وتساهلا . وإننا إذا تتبعنا آي القرآن وأساليب اللغة واستعمال العرب لـ " عبد " وما يماثلها ويقاربها في المعنى - كخضع وخنع وأطاع وذل - نجد أنه لا شيء من هذه الألفاظ يضاهي " عبد " ويحل محلها ويقع موقعها ، ولذلك قالوا : إن لفظ " العباد " مأخوذ من العبادة ، فتكثر إضافته إلى الله تعالى ، ولفظ " العبيد " تكثر إضافته إلى غير الله تعالى ؛ لأنه مأخوذ من العبودية بمعنى الرق ، وفرق بين العبادة والعبودية بذلك المعنى ، ومن هنا قال بعض العلماء : إن العبادة لا تكون في اللغة إلا لله تعالى ، ولكن استعمال القرآن يخالفه . يغلو العاشق في تعظيم معشوقه والخضوع له غلوا كبيرا حتى يفنى هواه في هواه ، وتذوب إرادته في إرادته ، ومع ذلك لا يسمى خضوعه هذا عبادة بالحقيقة ، ويبالغ كثير من الناس في تعظيم الرؤساء والملوك والأمراء ، فترى من خضوعهم لهم وتحريهم مرضاتهم ما لا تراه من المتحنثين القانتين ، دع سائر العابدين ، ولم يكن العرب يسمون شيئا من هذا الخضوع عبادة ، فما هي العبادة إذا ؟

تدل الأساليب الصحيحة ، والاستعمال العربي الصراح على أن العبادة ضرب من الخضوع بالغ حد النهاية ، ناشئ عن استشعار القلب عظمة للمعبود لا يعرف منشأها ، واعتقاده بسلطة له لا يدرك كنهها وماهيتها . وقصارى ما يعرفه منها أنها محيطة به ، ولكنها فوق إدراكه ، فمن ينتهي إلى أقصى الذل لملك من الملوك لا يقال إنه عبده وإن قبل موطئ أقدامه ، ما دام سبب الذل والخضوع معروفا وهو الخوف من ظلمه المعهود ، أو الرجاء بكرمه المحدود ، اللهم إلا بالنسبة إلى الذين يعتقدون أن الملك قوة غيبية سماوية أفيضت على الملوك من الملأ الأعلى ، واختارتهم للاستعلاء على سائر أهل الدنيا ، لأنهم أطيب الناس عنصرا ، وأكرمهم جوهرا ، وهؤلاء هم الذين انتهى بهم هذا الاعتقاد إلى الكفر والإلحاد ، فاتخذوا الملوك آلهة وأربابا وعبدوهم عبادة حقيقية . للعبادة صور كثيرة في كل دين من الأديان شرعت لتذكير الإنسان بذلك الشعور بالسلطان الإلهي الأعلى الذي هو روح العبادة وسرها ، ولكل عبادة من العبادات الصحيحة أثر في تقويم أخلاق القائم بها وتهذيب نفسه ، والأثر إنما يكون عن ذلك الروح ، والشعور الذي قلنا إنه منشأ التعظيم والخضوع ، فإذا وجدت صورة العبادة خالية من هذا المعنى لم تكن عبادة ، كما أن صورة الإنسان وتمثاله ليس إنسانا . خذ إليك عبادة الصلاة مثلا ، وانظر كيف أمر الله بإقامتها دون مجرد الإتيان بها ، وإقامة الشيء : هي الإتيان به مقوما كاملا يصدر عن علته وتصدر عنه آثاره . وآثار الصلاة ونتائجها هي ما أنبأنا الله تعالى بها بقوله : (إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) (29 : 45) وقوله - عز وجل - : (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين) (70 : 19 - 22) وقد توعد الذين يأتون بصورة الصلاة من الحركات والألفاظ مع السهو عن معنى العبادة وسرها فيها المؤدي إلى غايتها بقوله: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون ويمنعون الماعون) (107 : 4 - 7) فسماهم مصلين ، لأنهم أتوا بصورة الصلاة ، ووصفهم بالسهو عن الصلاة الحقيقية التي هي توجه القلب إلى الله تعالى المذكر بخشيته ، والمشعر للقلوب بعظم سلطانه ، ثم وصفهم بأثر هذا السهو وهو الرياء ومنع الماعون . وذكر الأستاذ الإمام أن الرياء ضربان : رياء النفاق وهو العمل لأجل رؤية الناس ، ورياء العادة وهو العمل بحكمها من غير ملاحظة معنى العمل وسره وفائدته ، ولا ملاحظة من يعمل له ويتقرب إليه به ، وهو ما عليه أكثر الناس ، فإن صلاة أحدهم في طور الرشد والعقل هي عين ما كان يحاكي به أباه في طور الطفولية عندما يراه يصلي - يستمر على ذلك بحكم العادة من غير فهم ولا عقل ، وليس لله شيء في هذه الصلاة ، وقد ورد في بعض الأحاديث : أن " من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا " وأنها تلف كما يلف

الثوب البالي ويضرب بها وجهه " وأما الماعون فهو المعونة والخير الذي تقدم في الآية الأخرى أن من شأن الإنسان أن يكون منوعا له إلا المصلين . والاستعانة : طلب المعونة ، وهي إزالة العجز والمساعدة على إتمام العمل الذي يعجز المستعين عن الاستقلال به بنفسه . ثم تكلم الأستاذ الإمام على حصر العبادة والاستعانة في الله تعالى الذي دل عليه تقديم المفعول (إياك) على الفعل (نعبد) و (نستعين) فقال ما مثاله : أمرنا الله تعالى بألا نعبد غيره ؛ لأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب ليست إلا له دون غيره ، فلا يشاركه فيها أحد فيعظم تعظيم العبادة ، وأمرنا بألا نستعين بغيره أيضا ، وهذا يحتاج إلى البيان ؛ لأنه أمرنا أيضا في آيات أخرى بالتعاون : (وتعاونوا على البر والتقوى) (5 : 2) فما معنى حصر الاستعانة به مع ذلك ؟ الجواب : أن كل عمل يعمله الإنسان تتوقف ثمرته ونجاحه على حصول الأسباب التي اقتضت الحكمة الإلهية أن تكون مؤدية إليه وانتفاء الموانع التي من شأنها بمقتضى الحكمة أن تحول دونه وقد مكن الله تعالى الإنسان بما أعطاه من العلم والقوة من دفع بعض الموانع وكسب بعض الأسباب ، وحجب عنه البعض الآخر ، فيجب علينا أن نقوم بما في استطاعتنا من ذلك . ونبذل في إتقان أعمالنا كل ما نستطيع من حول وقوة ، وأن نتعاون ويساعد بعضنا بعضا على ذلك . ونفوض الأمر فيما وراء كسبنا إلى القادر على كل شيء ، ونلجأ إليه وحده ، ونطلب المعونة المتممة للعمل والمواصلة لثمرته منه سبحانه دون سواه ، إذ لا يقدر على ما وراء الأسباب الممنوحة لكل البشر على السواء إلا مسبب الأسباب ، ورب الأرباب ، فقوله تعالى : " (وإياك نستعين " متمم لمعنى قوله : " (إياك نعبد " لأن الاستعانة بهذا المعنى فزع من القلب إلى الله وتعلق من النفس به ، وذلك من مخ العبادة ، فإذا توجه العبد بها إلى غير الله تعالى كان ضربا من ضروب العبادة الوثنية التي كانت ذائعة في زمن التنزيل وقبله ، وخصت بالذكر لئلا يتوهم الجهلاء أن الاستعانة بمن اتخذوهم أولياء من دون الله ، واستعانوا بهم فيما وراء الأسباب المكتسبة لعامة الناس ، هي كالاستعانة بسائر الناس في الأسباب العامة ، فأراد الحق جل شأنه أن يرفع هذا اللبس عن عباده ببيان أن الاستعانة بالناس فيما هو في استطاعة الناس إنما هو ضرب من استعمال الأسباب المسنونة ، وما منزلتها إلا كمنزلة الآلات فيما هي آلات له ، بخلاف الاستعانة بهم في شئون تفوق القدرة والقوى الموهوبة لهم ، والأسباب المشتركة بينهم ، كالاستعانة في شفاء المرض بما وراء الدواء ، وعلى غلبة العدو بما وراء العدة والعدة ، فإن ذلك مما لا يجوز الفزع والتوجه فيه إلى غير الله تعالى صاحب السلطان الأعظم ، على ما لا يصل إليه سلطان أحد من العالم :

ضرب الأستاذ الإمام مثلا لذلك ، الزارع يبذل جهده في الحرث والعزق وتسميد الأرض وريها ، ويستعين بالله تعالى على إتمام ذلك بمنع الآفات والجوائح السماوية أو الأرضية ، ومثل بالتاجر يحذق في اختيار الأصناف ، ويمهر في صناعة الترويج ، ثم يتوكل على الله فيما بعد ذلك . ثم قال : ومن هنا تعلمون أن الذين يستعينون بأصحاب الأضرحة والقبور على قضاء حوائجهم ، وتيسير أمورهم ، وشفاء أمراضهم ، ونماء حرثهم وزرعهم ، وهلاك أعدائهم ، وغير ذلك من المصالح ، هم عن صراط التوحيد ناكبون ، وعن ذكر الله معرضون . أرشدتنا هذه الكلمة الوجيزة " (وإياك نستعين " إلى أمرين عظيمين هما معراج السعادة في الدنيا والآخرة : (أحدهما) : أن نعمل الأعمال النافعة ، ونجتهد في إتقانها ما استطعنا ؛ لأن طلب المعونة لا يكون إلا على عمل بذل فيه المرء طاقته فلم يوفه حقه ، أو يخشى ألا ينجح فيه ، فيطلب المعونة على إتمامه وكماله ، فمن وقع من يده القلم على المكتب لا يطلب المعونة من أحد على إمساكه ، ومن وقع تحت عبء ثقيل يعجز عن النهوض به وحده ، يطلب المعونة من غيره على رفعه ، ولكن بعد استفراغ القوة في الاستقلال به ، وهذا الأمر هو مرقاة السعادة الدنيوية ، وركن من أركان السعادة الأخروية . (ثانيهما) : ما أفاده الحصر من وجوب تخصيص الاستعانة بالله تعالى وحده فيما وراء ذلك ، وهو روح الدين ، وكمال التوحيد الخالص الذي يرفع نفوس معتقديه ويخلصها من رق الأغيار ، ويفك إرادتهم من أسر الرؤساء الروحانيين ، والشيوخ الدجالين ، ويطلق عزائمهم من قيد المهيمنين الكاذبين ، من الأحياء والميتين ، فيكون المؤمن مع الناس حرا خالصا وسيدا كريما ، ومع الله عبدا خاضعا (ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما) (33 : 71) . وأقول أيضا : عبادة الله تعالى هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لألوهيته ، واستعانته هي غاية الشكر له في القيام بما يجب لربوبيته ، أما الأول فظاهر ؛ لأنه هو الإله الحق فلا يعبد بحق سواه ، وأما الثاني : فلأنه هو المربي للعباد الذي وهب لهم جميع ما تكمل به تربيتهم الصورية والمعنوية ، ومن هنا تعلم أن إيراد ذكر العبادة والاستعانة بعد ذكر اسم الجلالة الأعظم ، واسم الرب الأكرم ، إنما هو لترتبهما عليهما من قبيل ترتيب النشر على اللف . والاستعانة بهذا المعنى ترادف التوكل على الله وتحل محله ، وهو كمال التوحيد والعبادة الخالصة ، ولذلك جمع القرآن بينهما في مثل قوله تعالى : (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه) (11 : 123) . فهذه الاستعانة هي ثمرة التوحيد واختصاص الله تعالى بالعبادة ، فإن من معنى العبادة : الشعور بأن السلطة الغيبية التي هي وراء الأسباب العامة ، الموهوبة من الله تعالى لعباده كافة ، هي لله وحده ، كما تنطق به الآية التي استشهدنا بها آنفا على قرن العبادة بالتوكل ، فمن كان

موحدا خالصا لا يستعين بغير الله تعالى قط ، فما كان من أنواع المعونة داخلا في حلقات سلسلة الأسباب كان طلبه بسببه طلبا من الله تعالى ولكنه يحتاج في تحقق ذلك إلى قصد وملاحظة وشهود قلبي ، وما كان غير داخل فيها يتوجه في طلبه إلى الله تعالى بلا واسطة ولا حجاب ، وبهذا البيان تعلم أنه لا منافاة بين التوحيد والتوكل وبين الأخذ بالأسباب وإقامة سنن الله تعالى فيها ، بل الكمال والأدب في الجمع بينهما ، فالسيد المالك إذا نصب لعبده وخدمه مائدة يأكلون منها غدوا وعشيا ، وجعل لهم خدما يقومون بأمرها ، لا يكون طلب الطعام منه إلا بالاختلاف إلى المائدة ، وإنما ينبغي ألا يغفلوا بها وبخدمها عن ذكر صاحب الفضل الذي أنشأها بماله وسخر أولئك الخدم للآكلين عليها ، ولا عن حمده وشكره ، فهذا مثال مائدة الكون بأسبابه ومسبباته ، والعبد إذا احتاج شيئا من الأشياء التي لم يجعلها سيده مبذولة لجميع عبيده في كل وقت ، طلبه منه دون سواه ، فإن أظهر الحاجة إلى غيره كان ذلك من قلة ثقته بمولاه ، وجعل ذلك الغير في مرتبته أو أجدر منه بالفضل . هذا في العبيد مع السادة الذين لهم نظراء وأنداد ، فكيف إذا كان العبد الذي يتوجه إلى غير مولاه ، لا يجد من يتوجه إليه سواه ، إلا أمثاله من العبيد المحتاجين إلى المولى مثله ؛ لأنه هو السيد الصمد الذي ليس له كفوا أحد ؟ ثم إن لفظ الاستعانة يشعر بأن يطلب العبد من الرب تعالى الإعانة على شيء له فيه كسب ليعينه على القيام به ، وفي هذا تكريم للإنسان بجعل عمله أصلا في كل ما يحتاج إليه لإتمام تربية نفسه وتزكيتها ، وإرشاد له إلى أن ترك العمل والكسب ، ليس من سنة الفطرة ولا من هدي الشريعة ، فمن تركه كان كسولا مذموما لا متوكلا محمودا ، وبتذكيره من جهة أخرى بضعفه لكيلا يغتر ، فيتوهم أنه مستغن بكسبه عن عناية ربه ، فيكون من الهالكين في عاقبة أمره . إذا تدبرت هذا فهمت منه نكتة من نكت تقديم العبادة على الاستعانة ، وهي أن الثانية ثمرة للأولى ، ولا ينافي هذا أن العبادة نفسها مما يستعان عليه بالله تعالى ليوفق العابد للإتيان بها على الوجه المرضي له - عز وجل - . لا منافاة بين الأمرين ؛ لأن الثمرة التي تخرج من الشجرة تكون حاوية للنواة التي تخرج منها شجرة أخرى . فالعبادة تكون سببا للمعونة من وجه ، والمعونة تكون سببا للعبادة من وجه آخر ، كذلك الأعمال تكون الأخلاق التي هي مناشئ الأعمال ، فكل منهما سبب ومسبب وعلة ومعلول ، والجهة مختلفة فلا دور في المسألة . وأقول أيضا إن نكتة تقديم " إياك " على الفعلين " نعبد ، ونستعين " هي إفادة الاختصاص والحصر على المشهور الذي جرى عليه الأستاذ الإمام كغيره فالمعنى إذا : نعبدك ولا نعبد غيرك ونستعينك ولا نستعين بسواك . وقد استخرج له بعض الغواصين على المعاني

نكتا أخرى (منها) أن " إياك " ضمير راجع إلى الله تعالى ، وقيل إن " إيا " اسم ظاهر مضاف إلى الضمير الذي هو الكاف ، فتقديمه على الوجهين يؤذن بالاهتمام به الذي هو العلة الأصلية العامة للتقديم في هذه اللغة (ومنها) أنه من الأدب أيضا ، (ومنها) أن إفادة الحصر بهذا الاسم أو " الضمير " المقدم على الفعل أبلغ من إفادة الحصر بالضمير المتصل الذي يقرن به ما يدل على ذلك من الكلم ، كقولك : إنما نعبدك وإنما نستعينك ، أو نستعين بك وحدك وإعادة ، إياك مع الفعل الثاني يفيد أن كلا من العبادة والاستعانة مقصود بالذات فلا يستلزم كل منهما الآخر . ذلك بأن الاستعانة بالله تعالى يجب أن تكون عامة في كل شيء ، ومن الناس من لا يستعين بالله على شيء من أعماله الاختيارية ، زعما منهم أنهم يستقلون بذلك بدون إعانة خاصة منه تعالى كالقدرية . وأفضل الاستعانة ما كان على الطاعة والخير ، وقد أخذ النبي - ﷺ - بيد معاذ يوما وقال : " والله إني لأحبك ، أوصيك يا معاذ لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول : " اللهم أعني على ذكرك وشكرك عبادتك " وقد روينا هذا المعنى في الأحاديث المسلسلة . قال لي شيخنا أبو المحاسن محمد القاوقجي في طرابلس الشام : " إني أحبك فقل : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " ، قال لي شيخنا محمد عابد السندي في الحرم النبوي الشريف : " إني أحبك " إلخ وذكر سنده إلى النبي - ﷺ - . (اهدنا الصراط المستقيم ذكر الأستاذ الإمام أولا ما قالوه في معنى الهداية لغة من أنها : الدلالة بلطف على ما يوصل إلى المطلوب ، ثم بين أنواعها ومراتبها فقال ما مثاله : منح الله تعالى الإنسان أربع هدايات يتوصل بها إلى سعادته . (أولاها) : هداية الوجدان الطبيعي والإلهام الفطري . وتكون للأطفال منذ ولادتهم ، فإن الطفل بعد ما يولد يشعر بألم الحاجة إلى الغذاء فيصرخ طالبا له بفطرته ، وعندما يصل الثدي إلى فيه يلهم التقامه وامتصاصه . (الثانية) : هداية الحواس والمشاعر ، وهي متممة للهداية الأولى في الحياة الحيوانية ، ويشارك الإنسان فيهما الحيوان الأعجم ، بل هو فيهما أكمل من الإنسان ، فإن حواس الحيوان وإلهامه يكملان له بعد ولادته بقليل ، بخلاف الإنسان فإن ذلك يكمل فيه بالتدريج في زمن غير قصير ، ألا تراه عقب الولادة لا تظهر عليه علامات إدراك الأصوات والمرئيات ، ثم بعد مدة يبصر ، ولكنه لقصر نظره يجهل تحديد المسافات ، فيحسب البعيد قريبا فيمد يديه إليه ليتناوله وإن كان قمر السماء ولا يزال يغلط حسه حتى في طور الكمال : (الهداية الثالثة) : العقل ، خلق الله الإنسان ليعيش مجتمعا ولم يعط من الإلهام والوجدان ما يكفي مع الحس الظاهر لهذه الحياة الاجتماعية كما أعطي النحل والنمل ، فإن الله قد منحها

من الإلهام ما يكفيها ، لأن تعيش مجتمعة يؤدي كل واحد منها وظيفة العمل لجميعها ، ويؤدي الجميع وظيفة العمل للواحد ، وبذلك قامت حياة أنواعها كما هو مشاهد . أما الإنسان فلم يكن من خاصة نوعه أن يتوفر له مثل ذلك الإلهام ، فحباه الله هداية هي أعلى من هداية الحس والإلهام ، وهي العقل الذي يصحح غلط الحواس والمشاعر ويبين أسبابه ، وذلك أن البصر يرى الكبير على البعد صغيرا ، ويرى العود المستقيم في الماء معوجا ، والصفراوي يذوق الحلو مرا . والعقل هو الذي يحكم بفساد مثل هذا الإدراك . (الهداية الرابعة) : الدين ، يغلط العقل في إدراكه كما تغلط الحواس ، وقد يهمل الإنسان استخدام حواسه وعقله فيما فيه سعادته الشخصية النوعية ويسلك بهذه الهدايات مسالك الضلال ، فيجعلها مسخرة لشهواته ولذاته حتى تورده موارد الهلكة . فإذا وقعت المشاعر في مزالق الزلل ، واسترقت الحظوظ والأهواء العقل فصار يستنبط لها ضروب الحيل ، فكيف يتسنى للإنسان مع ذلك أن يعيش سعيدا ؟ وهذه الحظوظ والأهواء ليس لها حد يقف الإنسان عنده وما هو بعائش وحده ، وكثيرا ما تتطاول به إلى ما في يد غيره ، فهي لهذا تقتضي أن يعدو بعض أفراده على بعض ، فيتنازعون ويتدافعون ، ويتجادلون ويتجالدون ، ويتواثبون ويتناهبون حتى يفني بعضهم بعضا ، ولا تغني عنهم تلك الهدايات شيئا فاحتاجوا إلى هداية ترشدهم في ظلمات أهوائهم ، إذا هي غلبت على عقولهم ، وتبين لهم حدود أعمالهم ليقفوا عندها ويكفوا أيديهم عما وراءها . ثم إن مما أودع في غرائز الإنسان الشعور بسلطة غيبية متسلطة على الأكوان ينسب إليها كل ما لا يعرف له سببا . لأنها هي الواهبة كل موجود ما به قوام وجوده ، وبأن له حياة وراء هذه الحياة المحدودة ، فهل يستطيع أن يصل بتلك الهدايات الثلاث إلى تحديد ما يجب عليه لصاحب تلك السلطة الذي خلقه وسواه ، ووهبه هذه الهدايات وغيرها ، وما فيه سعادته في تلك الحياة الثانية ؟ كلا إنه في أشد الحاجة إلى هذه الهداية الرابعة - الدين - وقد منحه الله تعالى إياها . أشار القرآن إلى أنواع الهداية التي وهبها الله تعالى للإنسان في آيات كثيرة منها قوله تعالى : (وهديناه النجدين 90 : 10) أي طريقي السعادة والشقاوة والخير والشر . قال الأستاذ الإمام : وهذه تشمل هداية الحواس الظاهرة والباطنة ، وهداية العقل وهداية الدين ، ومنها قوله تعالى : (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) (41 : 17) أي دللناهم على طريقي الخير والشر ، فسلكوا سبل الشر المعبر عنه بالعمى . وذكر غير هاتين الآيتين مما في معناهما ثم قال : بقي معنا هداية أخرى وهي المعبر عنها بقوله تعالى : (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) (6 : 90) فليس المراد من هذه الهداية ما سبق ذكره ، فالهداية في الآيات السابقة

بمعنى الدلالة ، وهي بمنزلة إيقاف الإنسان على رأس الطريقين : المهلك ، والمنجي ، مع بيان ما يؤدي إليه كل منهما ، وهي مما تفضل الله به على جميع أفراد البشر . وأما هذه الهداية فهي أخص من تلك ، والمراد بها إعانتهم وتوفيقهم للسير في طريق الخير والنجاة مع الدلالة ، وهي لم تكن ممنوحة لكل أحد كالحواس والعقل وشرع الدين . ولما كان الإنسان عرضة للخطأ والضلال في فهم الدين وفي استعمال الحواس والعقل على ما قدمنا ، كان محتاجا إلى المعونة الخاصة ، فأمرنا الله بطلبها منه في قوله (اهدنا الصراط المستقيم) فمعنى " (اهدنا الصراط المستقيم " دلنا دلالة تصحبها معونة غيبية من لدنك تحفظنا بها من الضلال والخطأ ، وما كان هذا أول دعاء علمنا الله إياه ، إلا لأن حاجتنا إليه أشد من حاجتنا إلى كل شيء سواه . ثم بين معنى الصراط (وهو الطريق) واشتقاقه ، وقراءة الصراط بالسين المهملة واشتقاقها على نحو ما في كتب اللغة والتفسير ، ومعنى المستقيم : وهو ضد المعوج ، وقال : ليس المراد بمقابل المستقيم المعوج ذا التموج والتعاريج ، بل المراد : كل ما فيه انحراف عن الغاية التي يجب أن ينتهي سالكه إليها . والمستقيم في عرف الهندسة : أقرب موصل بين طرفين ، وهذا المعنى لازم للمعنى اللغوي كما هو ظاهر بالبداهة . وإنما قلنا : إن المراد بمقابل المستقيم كل ما فيه انحراف ؛ لأن كل من يميل وينحرف عن الجادة يكون أضل عن الغاية ممن يسير عليها في خط ذي تعاريج ؛ لأن هذا الأخير قد يصل إلى الغاية بعد زمن طويل . ولكن الأول لا يصل إليها أبدا . بل يزداد عنها بعدا كلما أوغل في السير وانهمك فيه . وقد قالوا : إن المراد بالصراط المستقيم ، الدين ، أو الحق ، أو العدل ، أو الحدود . ونحن نقول : إنه جملة ما يوصلنا إلى سعادة الدنيا والآخرة من عقائد وآداب وأحكام وتعاليم . لم سمي الموصل إلى السعادة من ذلك صراطا وطريقا ؟ خذ الحق مثلا وهو العلم الصحيح بالله وبالنبوة وبأحوال الكون والناس ، ترى معنى الصراط فيه واضحا ؛ لأن السبيل أو الصراط ما أسلكه وأسير فيه لبلوغ الغاية التي أقصدها ، كذلك الحق الذي يبين لي الواقع الثابت في العقيدة الصحيحة هو كالجادة بين السبل المتفرقة المضلة ، فالطريق الواضح للحس ، يشبه الحق للعقل والنفس ، سير حسي ، وسير معنوي ، كذلك إذا اعتبرت

هذا المعنى في الحدود والأحكام تجده واضحا - قسمت أحكام الأعمال إلى : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومحرم ومكروه ، فكان هذا مريحا لنا من تمييز الخير من الشر بأنفسنا واجتهادنا ، فبيان الأحكام بالهداية الكبرى وهي الدين كالطريق الواضح يسلك بالعمل . ومع هذا تجد الشهوات تتلاعب بالأحكام وترجعها إلى أهوائها كما يصرف السفهاء عقولهم وحواسهم فيما يرديهم . وهذا التلاعب بالدين إنما يصدر من علمائه . وضرب الأستاذ الإمام لذلك مثلا أحد الشيوخ المتفقهين ، سرق كتابا من وقف أحد الأروقة في الأزهر مستحلا له بحجة أن قصد الواقف الانتفاع به ، وهو يحصل بوجود الكتاب عنده ، وأنه قد يفوت النفع ببقائه في الرواق حيث وضعه الواقف ، إذ لا يوجد فيه من يفهمه مثله بزعمه ! ! واستحلال المحرمات بمثل هذا التأويل ليس بقليل ، ولذلك كان الإنسان محتاجا أشد الاحتياج إلى العناية الإلهية الخاصة لأجل الاستقامة والسير في تلك الهدايات الأربع سيرا مستقيما يوصل إلى السعادة . لهذا نبهنا الله جل شأنه أن نلجأ إليه ، ونسأله الهداية ليكون عونا لنا ينصرنا على أهوائنا وشهواتنا ، وأن تكون استعانتنا في ذلك به لا بسواه ، بعد أن نبذل ما نستطيع من الفكر والجهاد في معرفة ما أنزل إلينا من الشريعة والأحكام وأخذ أنفسنا بما نعلم من ذلك . وهذا أفضل ما نطلب فيه المعونة منه جل شأنه لاشتماله على خيري الدنيا والآخرة . فهو بهذه الآية يعلمنا كيف نستعين بعد أن علمنا اختصاصه بالاستعانة في قوله : " وإياك نستعين " . (صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين (قال الأستاذ) : الصراط المستقيم : هو الطريق الموصل إلى الحق ، ولكنه تعالى ما بينه بذلك كما بينه في نحو سورة العصر وإنما بينه بإضافته إلى من سلك هذا الصراط كما قال في سورة الأنعام : (فبهداهم اقتده) وقد قلنا : إن الفاتحة مشتملة على إجمال ما فصل في القرآن حتى من الأخبار ، التي هي مثل الذكرى والاعتبار ، وينبوع العظة والاستبصار ، وأخبار القرآن كلها تنطوي في إجمال هذه الآية . (قال) : فسر بعضهم المنعم عليهم بالمسلمين ، والمغضوب عليهم : باليهود ، والضالين بالنصارى ، ونحن نقول إن الفاتحة أول سورة نزلت كما قال الإمام علي رضي الله عنه ، وهو أعلم بهذا من غيره ؛ لأنه تربى في حجر النبي - ﷺ - ، وأول من آمن به ، وإن لم تكن أول سورة على الإطلاق فلا خلاف في أنها من أوائل السور (كما مر في المقدمة)

ولم يكن المسلمون في أول نزول الوحي بحيث يطلب الاهتداء بهداهم ، وما هداهم إلا من الوحي ثم هم المأمورون بأن يسألوا الله أن يهديهم هذه السبيل ، سبيل من أنعم الله عليهم من قبلهم ، فأولئك غيرهم ، وإنما المراد بهذا ما جاء في قوله تعالى : " (فبهداهم اقتده " وهم الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأمم السالفة . فقد أحال على معلوم أجمله في الفاتحة وفصله في سائر القرآن بقدر الحاجة ، فثلاثة أرباع القرآن تقريبا قصص . وتوجيه للأنظار إلى الاعتبار بأحوال الأمم ، في كفرهم وإيمانهم ، وشقاوتهم وسعادتهم ، ولا شيء يهدي الإنسان كالمثلات والوقائع . فإذا امتثلنا الأمر والإرشاد ، ونظرنا في أحوال الأمم السالفة ، وأسباب علمهم وجهلهم ، وقوتهم وضعفهم ، وعزهم وذلهم ، وغير ذلك مما يعرض للأمم - كان لهذا النظر أثر في نفوسنا يحملنا على حسن الأسوة والاقتداء بأخبار تلك الأمم فيما كان سبب السعادة والتمكن في الأرض ، واجتناب ما كان سبب الشقاوة أو الهلاك والدمار . ومن هنا ينجلي للعاقل شأن علم التاريخ وما فيه من الفوائد والثمرات ، وتأخذه الدهشة والحيرة إذا سمع أن كثيرا من رجال الدين من أمة هذا كتابها يعادون التاريخ باسم الدين ويرغبون عنه ، ويقولون : إنه لا حاجة إليه ولا فائدة له . وكيف لا يدهش ويحار والقرآن ينادي بأن معرفة أحوال الأمم من أهم ما يدعو إليه هذا الدين ؟ (ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة وقد خلت من قبلهم المثلات) (13 : 6) . وهاهنا سؤال وهو : كيف يأمرنا الله تعالى باتباع صراط من تقدمنا وعندنا أحكام وإرشادات لم تكن عندهم ، وبذلك كانت شريعتنا أكمل من شرائعهم ، وأصلح لزماننا وما بعده ؟ والقرآن يبين لنا الجواب وهو أنه يصرح بأن دين الله في جميع الأمم واحد ، وإنما تختلف الأحكام بالفروع التي تختلف باختلاف الزمان ، وأما الأصول فلا خلاف فيها . قال تعالى : (قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) (3 : 64) الآية ، وقال تعالى : (إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده) (4 : 163) الآية . فالإيمان بالله وبرسله وباليوم الآخر ، وترك الشر وعمل البر ، والتخلق بالأخلاق الفاضلة مستو في الجميع . وقد أمرنا الله بالنظر فيما كانوا عليه والاعتبار بما صاروا إليه : لنقتدي بهم في القيام على أصول الخير . وهو أمر يتضمن الدليل على أن في ذلك الخير والسعادة . على حسب طريقة القرآن في قرن الدليل بالمدلول والعلة بالمعلول ، والجمع بين السبب والمسبب . وتفصيل الأحكام التي هذه كلياتها بالإجمال ، نعرفه من شرعنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام ا هـ بتفصيل وإيضاح . وأزيد هنا أن في الإسلام من ضروب الهداية ما قد يعد من الأصول الخاصة بالإسلام ، ويرى أنه مما يستدرك على ما قرره الأستاذ الإمام ، كبناء العقائد في القرآن على البراهين العقلية والكونية ، وبناء الأحكام الأدبية والعملية على قواعد المصالح والمنافع ودفع المضار والمفاسد ، وكبيان أن للكون سننا مطردة تجري عليه عوالمه العاقلة وغير العاقلة ، وكالحث

على النظر في الأكوان ، للعلم والمعرفة بما فيها من الحكم والأسرار التي يرتقي بها العقل وتتسع بها أبواب المنافع للإنسان ، وكل ذلك مما امتاز به القرآن . والجواب عن هذا أنه تكميل لأصول الدين الثلاثة التي بعث بها كل نبي مرسل لجعل بنائه رصينا مناسبا لارتقاء الإنسان . وأما تلك الأصول وهي : الإيمان الصحيح ، وعبادة الله تعالى وحده ، وحسن المعاملة مع الناس ، فهي التي لا خلاف فيها . وأما وصفه تعالى الذين أنعم عليهم بأنهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ، فالمختار فيه أن المغضوب عليهم هم الذين خرجوا عن الحق بعد علمهم به ، والذين بلغهم شرع الله ودينه فرفضوه ولم يتقبلوه ، انصرافا عن الدليل ، ورضاء بما ورثوه من القيل ، ووقوفا عند التقليد ، وعكوفا على هوى غير رشيد ، وغضب الله يفسرونه بلازمه : وهو العقاب ، ووافقهم الأستاذ الإمام ، والذي ينطبق على مذهب السلف أن يقال : إنه شأن من شئونه تعالى يترتب عليه عقوبته وانتقامه ، وإن الضالين هم الذين لم يعرفوا الحق ألبتة ، أو لم يعرفوه على الوجه الصحيح الذي يقرن به العمل كما سيأتي تفصيله . وقرن المعطوف في قوله " (ولا الضالين " بلا لما في " غير " من معنى النفي ، أي وغير الضالين ، ففيه تأكيد للنفي . وهو يدل على أن الطوائف ثلاث : المنعم عليهم ، والمغضوب عليهم ، والضالون . ولا شك أن المغضوب عليهم ضالون أيضا لأنهم بنبذهم الحق وراء ظهورهم قد استدبروا الغاية واستقبلوا غير وجهتها ، فلا يصلون منها إلى المطلوب ، ولا يهتدون فيها إلى مرغوب ، ولكن فرقا بين من عرف الحق فأعرض عنه على علم ، وبين من لم يظهر له الحق فهو تائه بين الطرق ، لا يهتدي إلى الجادة الموصلة منها ، وهم من لم تبلغهم الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لم يتبين لهم فيه الحق . فهؤلاء هم أحق باسم الضالين ، فإن الضال حقيقة : هو التائه الواقع في عماية لا يهتدي معها إلى المطلوب ، والعماية في الدين : هي الشبهات التي تلبس الحق بالباطل وتشبه الصواب بالخطأ . الأستاذ الإمام : الضالون على أقسام : - القسم الأول من لم تبلغهم الدعوة إلى الرسالة ، أو بلغتهم على وجه لا يسوق إلى النظر . فهؤلاء لم يتوفر لهم من أنواع الهداية سوى ما يحصل بالحس والعقل ، وحرموا رشد الدين ، فإن لم يضلوا في شئونهم الدنيوية ضلوا لا محالة فيما تطلب به نجاة الأرواح وسعادتها في الحياة الأخرى . على أن من شأن الدين الصحيح أن يفيض على أهله من روح الحياة ما به يسعدون في الدنيا والآخرة معا ، فمن حرم الدين حرم السعادتين ، وظهر أثر التخبط والاضطراب في أعماله المعاشية ، وحل به من الرزايا ما يتبع الضلال والخبط عادة ، سنة الله في هذا العالم ولن تجد لسنته تبديلا . أما أمرهم في الآخرة فعلى أنهم لن يساووا المهتدين في منازلهم ، وقد يعفو الله عنهم وهو الفعال لما يريد .

وأزيد في إيضاح كلام الأستاذ : أن الذين حرموا هداية الدين لا يعقل أن يؤاخذوا في الآخرة على ترك شيء مما لا يعرف إلا بهذه الهداية . وهذا هو معنى كونهم غير مكلفين ، وعليه جمهور المتكلمين لقوله تعالى في سورة الإسراء (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) (17 : 15) ومن قال : إنهم مكلفون بالعقل لا يظهر وجه لقوله إلا إذا أراد أن حالهم في الآخرة تكون على حسب ارتقاء أرواحهم بهداية العقل وسلامة الفطرة ، إذ لا شك أن من لم يبعث فيهم رسول يتفاوتون في إدراكهم وأعمالهم بتفاوت استعدادهم الفطري وما يصادفون من حسن التربية وقبحها . وبهذا يجمع بين القولين في تكليفهم وعدمه أو يفصل بينها . وما يعطيهم الله تعالى إياه في الآخرة على حسب حالهم في الخير والشر والفضيلة والرزيلة - يكون جزاء عادلا على أعمالهم الاختيارية ويزيدهم من فضله إن شاء وسأفصل هذا المعنى في تفسير الآيات المنزلة فيه إن شاء الله تعالى . وأعود الآن إلى إتمام سياق الأستاذ ، قال : (القسم الثاني) : من بلغته الدعوة على وجه يبعث على النظر ، فساق همته إليه ، واستفرغ جهده فيه ، ولكن لم يوفق إلى الإيمان بما دعي إليه ، وانقضى عمره وهو في الطلب ، وهذا القسم لا يكون إلا أفرادا متفرقة في الأمم ، ولا يعم حاله شعبا من الشعوب ، فلا يظهر له أثر في أحوالها العامة ، وما يكون لها من سعادة وشقاء في حياتها الدنيا أما صاحب هذه الحالة فقد ذهب بعض الأشاعرة إلى أنه ممن ترجى له رحمة الله تعالى ، وينقل صاحب هذا الرأي مثله عن أبي الحسن الأشعري وأما على رأي الجمهور فلا ريب أن مؤاخذته أخف من مؤاخذة الجاحد الذي أنكر التنزيل ، واستعصى على الدليل ، وكفر بنعمة العقل ، ورضي بحظه من الجهل . (القسم الثالث) : من بلغتهم الرسالة وصدقوا بها ، بدون نظر في أدلتها ولا وقوف على أصولها ، فاتبعوا أهواءهم في فهم ما جاءت به من أصول العقائد ، وهؤلاء هم المبتدعة في كل دين ، ومنهم المبتدعون في دين الإسلام ، وهم المنحرفون في اعتقادهم عما تدل عليه جملة القرآن وما كان عليه السلف الصالح وأهل الصدر الأول ، ففرقوا الأمة إلى مشارب ، يغص بمائها الوارد ، ولا يرتوي منها الشارب ، (قال) : وإني أشير إلى طرف من آثارهم في الناس : يأتي الرجل إلى دوائر القضاء فيستحلف بالله العلي العظيم ، أو بالمصحف الكريم وهو كلام الله القديم ، - أنه ما فعل كذا ، فيحلف وعلامة الكذب بادية على وجهه ، فيأتيه المستحلف من طريق آخر ويحمله على الحلف بشيخ من المشايخ الذين يعتقد لهم الولاية ، فيتغير لونه ، وتضطرب أركانه ، ثم يرجع في أليته ويقول الحق ، ويقر بأنه فعل ما حلف أولا أنه لم يفعله ، تكريما لاسم ذلك الشيخ ، وخوفا منه أن يسلب عنه نعمة أو يحل به نقمة إذا حلف

باسمه كاذبا . فهذا ضلال في أصول العقيدة ، يرجع إلى الضلال في الإيمان بالله تعالى وما يجب له من الوحدانية في الأفعال ، ولو أردنا أن نسرد ما وقع فيه المسلمون من الضلال في العقائد الأصلية بسبب البدع التي عرضت على دين الإسلام لطال المقال ، واحتيج إلى وضع مجلدات في وجوه الضلال ، ومن أشنعها أثرا ، وأشدها ضررا ، خوض رؤساء الفرق منهم في مسائل القضاء والقدر ، والاختيار والجبر ، وتحقيق الوعد والوعيد ، وتهوين مخالفة الله على نفوس العبيد . إذا وزنا ما في أدمغتنا من الاعتقادات بكتاب الله تعالى من غير أن ندخلها أولا فيه يظهر لنا كوننا مهتدين أو ضالين . وأما إذا أدخلنا ما في أدمغتنا في القرآن وحشرناها فيه أولا فلا يمكننا أن نعرف الهداية من الضلال لاختلاط الموزون بالميزان . فلا يدرى ما هو الموزون من الموزون به - أريد أن يكون القرآن أصلا تحمل عليه المذاهب والآراء في الدين لا أن تكون المذاهب أصلا والقرآن هو الذي يحمل عليها ، ويرجع بالتأويل أو التحريف إليها ، كما جرى عليه المخذولون ، وتاه فيه الضالون . (القسم الرابع) : ضلال في الأعمال ، وتحريف للأحكام عما وضعت له ، كالخطأ في فهم معنى الصلاة والصيام وجميع العبادات ، والخطأ في فهم الأحكام التي جاءت في المعاملات ، ولنضرب لذلك مثلا : الاحتيال في الزكاة بتحويل المال إلى ملك الغير قبل حلول الحول ثم استرداده بعد مضي قليل من الحول الثاني ، حتى لا تجب الزكاة فيه ، ويظن المحتال أنه بحيلته قد خلص من أداء الفريضة ، ونجا من غضب من لا تخفى عليه خافية ، ولا يعلم أنه بذلك قد هدم ركنا من أهم أركان دينه ، وجاء بعمل من يعتقد أن الله قد فرض فرضا وشرع بجانب ذلك الفرض ما يذهب به ويمحو أثره ، وهو محال عليه جل شأنه . ثلاثة أقسام من هذا الضلال أولها وثالثها ورابعها يظهر أثرها في الأمم فتختل قوى الإدراك فيها ، وتفسد الأخلاق ، وتضطرب الأعمال ، ويحل بها الشقاء ، عقوبة من الله لا بد من نزولها بهم ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنته تحويلا . ويعد حلول الضعف ونزول البلاء بأمة من الأمم من العلامات والدلائل على غضب الله تعالى عليها لما أحدثته في عقائدها وأعمالها مما لا يخالف سننه ، ولا يتبع فيه سننه . لهذا علمنا الله تعالى كيف ندعوه بأن يهدينا طريق الذين ظهرت نعمته عليهم بالوقوف عند حدوده ، وتقويم العقول والأعمال بفهم ما هدانا إليه ، وأن يجنبنا طرق أولئك الذين ظهرت فيهم آثار نقمه بالانحراف عن شرائعه ، سواء كان ذلك عمدا وعنادا ، أو غواية وجهلا . إذا ضلت الأمة سبيل الحق ولعب الباطل بأهوائها ، ففسدت أخلاقها واعتلت أعمالها ،

وقعت في الشقاء لا محالة ، وسلط الله عليها من يستذلها ويستأثر بشئونها ولا يؤخر لها العذاب إلى يوم الحساب ، وإن كانت ستلاقي نصيبها منه أيضا ، فإذا تمادى بها الغي وصل بها إلى الهلاك ، ومحا أثرها من الوجود ، هكذا علمنا الله تعالى كيف ننظر في أحوال من سبقنا ، ومن بقيت آثارهم بين أيدينا من الأمم ، لنعتبر ونميز بين ما به تسعد الأقوام وما به تشقى . أما في الأفراد فلم تجر سنة الله بلزوم العقوبة لكل ضال في هذه الحياة الدنيا ، فقد يستدرج الضال من حيث لا يعلم ، ويدركه الموت قبل أن تزول النعمة عنه ، وإنما يلقى جزاءه (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله) (82 : 19) ا هـ .

فوائد في تفسير الفاتحة كان غرضنا الأول من كتابة تفسير الفاتحة ونشره في المنار هو بيان ما نستفيده من دروس شيخنا الأستاذ الإمام ، مع شيء مما يفتح الله به علينا بالاختصار ، فلذلك اختصرنا فيما كتبناه أولا ، ثم لما طبعنا تفسير الفاتحة على حدته مرة ثانية زدنا فيه بعض زيادات ، وكان بدا لنا أن نجعل هذا التفسير مطولا مستوفى . ولهذا زدنا في تفسير الفاتحة هنا زيادات كثيرة كما نبهنا على ذلك في المقدمة . وبعد الفراغ من طبعه رأينا أن نعززه بالفوائد الآتية : (حكمة إيثار ذكر الربوبية والرحمة في أول الفاتحة على سائر الصفات) قد علمت أن اسم الجلالة (الله) هو اسم الذات الجامع لمعاني الصفات العليا ، وسائر الأسماء الحسنى ، والأصول من هذه الأسماء والصفات التي ترجع إليها غيرها ، وتعود إليها معانيها ولو بطريق اللزوم أربعة : اثنان منها ذاتيان وهما (الحي القيوم) والاثنان الآخران : فعليان وهما الرب والرحمن الرحيم ، وبتعبير أظهر أو أصح اثنان منهما لا يتعلقان بتدبير الخلق ، واثنان يتعلقان به ، فالحي ذو الحياة وهي بأعم معانيها الصفة الوجودية التي هي الأصل في معقولنا لجميع صفات الكمال في الوجود من صفات ذات وصفات أفعال كالعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، وهي الصفات التي يسميها علماء الكلام صفات المعاني . ويجعلون عليها مدار معرفة الله تعالى مع الصفات السلبية التي يراد بها تنزيهه سبحانه وتعالى عما لا يليق من النقص ومشابهة الخلق كالرحمة والحلم والغضب والعدل والعزة والخالقية والرازقية إلخ ، وكمال الحياة يستلزم الاتصاف بهذه الصفات وبغيرها من صفات الكمال . والحياة في الخلق قسمان : حسية ومعنوية ، فالأولى : الحياة النباتية ، والحياة الحيوانية ، ولكل منها صفات لازمة لها أعلاها في الحياة الثانية حياة الإنسان التي من خواصها العلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام وغير ذلك مما يفقده بالموت . والثانية الحياة العقلية والعلمية والروحية الدينية . ومن الشواهد القرآنية على هذه الحياة قوله تعالى : (لينذر من كان حيا) (36 : 70) وقوله : (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) (8 : 28) وكمال هذه الحياة للبشر لا يكون إلا في الآخرة وإنما يكون الاستعداد له في الدنيا بتزكية النفس بالعلم والعمل . وحياة الخالق تعالى أعلى وأكمل من حياة جميع خلقه من الجن والإنس والملائكة

وهي لا تشبهها (ليس كمثله شيء) . وإنما نفهم من إطلاقها اللغوي مع التنزيه أنها الصفة الذاتية الواجبة الأزلية الأبدية التي يلزمها اتصافه بما وصف به نفسه من صفات الكمال ، بدونها ، فهي لا يتوقف تعقلها على غيرها من الصفات ، ويتوقف تعقل جميع الصفات عليها ، وعبر عنها بعضهم بأنها تصحح له الاتصاف بصفات المعاني . وأما " القيوم " فأحسن ما قيل في تفسيرها في معجم (لسان العرب) وهو القائم (أي الثابت المتحقق) بنفسه مطلقا لا بغيره وهو مع ذلك يقوم به كل موجود حتى لا يتصور وجود شيء ولا دوام وجوده إلا به اهـ . وسبقه إلى مثله غيره . وقولهم : " القائم بنفسه " بمعنى قول المتكلمين " واجب الوجود " أي الذي وجوده ثابت لذاته غير مستمد من وجود آخر فهو يستلزم القدم الذي لا أول له ، والبقاء الذي لا آخر له (هو الأول والآخر) وقولهم : الذي يقوم به كل موجود ، معناه أنه لا وجود لشيء غيره ابتداء ولا بقاء إلا به ، فكل وجود سواه مستمد منه وباق ببقائه إياه (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده) (35 : 41) ومن كان هذا وصفه كان بالضرورة قادرا مريدا عليما حكيما ، فإذا كانت الحياة تصحح لصاحبها الاتصاف بهذه الصفات وغيرها وتدل عليها بقيد الكمال دلالة التزام ، فالقيومية تدل عليها دلالة بغير قيد . ولجمع هذين الاسمين الكريمين هذه المعاني وغيرها من معاني الكمال الأعلى كان القول بأنهما مع اسم الجلالة - ما يعبر عنه بالاسم الأعظم - هو القول الراجح المختار عندنا ، وإنما فسرنا الاسمين الكريمين هنا وذكرهما استطرادي لا يدخل في تفسير الفاتحة ؛ لأن أكثر القراء لا يفهم معانيهما التي يدل عليها لفظهما بطرق الدلالة الثلاث : المطابقة والتضمن والالتزام . وأما صفتا الربوبية والرحمة فهما الصفتان الدالتان على أن الله تعالى هو المالك المدبر لأمور العالم كلها ، وعلى أن رحمته تعالى تغلب غضبه ، وإحسانه الذي هو أثر رحمته يغلب انتقامه ، ومعنى الانتقام لغة : الجزاء على السيئات ، فإذا كان جزاء على السيئة بمثلها كان انتقام حق وعدل ، وإن كان بأكثر من ذلك كان انتقام باطل وجور ، والله تعالى منزه عن الباطل والجور (ولا يظلم ربك أحدا) (18 : 49) بل يتجاوز عن بعض السيئات ، ويضاعف جزاء الحسنات (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون) (25 : 42) ، (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (30 : 42) ، (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما) (4 : 40) والآيات في الجزاء على السيئة بمثلها وعلى الحسنة بعشر أمثالها معروفة ، وكذا آية المضاعفة سبعمائة ضعف وما شاء الله تعالى . فمن شأن الرب المالك للعباد المدبر لأمورهم المربي لهم أن يجازي كل عامل بعمله ،

وينتقم للمظلوم من ظالمه ، والجزاء بالعدل مخيف لأكثر الناس بل لجميع الناس ، فإنه ما من أحد إلا ويقصر فيما يجب عليه لربه ولنفسه ولأهله ولولده بله من دونهم حقا عليه ومكانة عنده ، ومن حقهم أن يغلب الخوف على الرجاء في قلوبهم ، ولذلك قرن سبحانه صفة الربوبية بصفة الرحمة ، وعبر عنها باسمين لا باسم واحد : اسم الرحمن الدال على منتهى الكمال في اتصافه بها ، واسم الرحيم الدال على أنها من الصفات النفسية المعنوية مع تعلقها بالحق تعلقا تنجيزيا كقوله تعالى : (إن الله كان بكم رحيما) (4 : 29) ، (وكان بالمؤمنين رحيما) (33 : 34) وبهذا التفسير ضممنا في التفرقة بين الاسمين ما قاله المحقق ابن القيم إلى ما قاله شيخنا رحمهما الله . وأما دلالة صفتي الربوبية والرحمة على جميع معاني صفات الأفعال الإلهية فظاهر ؛ فإن رب العباد هو الذي يسدي إليهم كل ما يتعلق بخلقهم ورزقهم وتدبير شئونهم من فعل دلت عليه أسماؤه الحسنى كالخالق البارئ المصور القهار الوهاب الرزاق الفتاح القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم الرقيب المقيت الباعث الشهيد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت المقدم المؤخر المغني المانع الضار النافع وأمثالها . والرحمن في ذاته الرحيم بعباده لا بد أن يكون توابا غفورا عفوا رءوفا شكورا حليما وهابا . إذا علمنا هذا تجلت لنا حكمة وصف الله تعالى في أول فاتحة الكتاب العزيز بالربوبية والرحمة الدالتين على جميع صفات الأفعال دون الحياة والقيومية الدالتين على صفات الذات وغيرها ، وهي - والله أعلم بمراده - أن الفاتحة ينظر فيها من وجهين (أحدهما) : ما دل عليه اسمها هذا ؛ أعني كونها فاتحة ومبدأ للقرآن (وثانيهما) : أنها قد شرعت للقراءة في الصلوات كل يوم ، وكل منهما يناسبه البدء بذكر ربوبية الله ورحمته . ذلك بأن القرآن كما قال الله في أول سورة البقرة (هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة) (2 : 2 - 3) إلخ . الآيات . فهم الذين يتلونه حق تلاوته ، وهم الذين يتدبرونه ويتعظون به ، وهم (الذين يخشون ربهم بالغيب وهم من الساعة مشفقون) (21 : 49) فالمناسب في حقهم أن تكون السورة الأولى وهي المثاني التي يثنونها دائما في صلاتهم وفي بدء أورادهم القرآنية المسماة بالختمات مبدوءة بذكر الصفتين الجامعتين لمعاني الصفات التي تتعلق بتدبير الله سبحانه لشئونهم ، وبعدله في الحكم بينهم فيما يختصمون فيه ، وبمجازاتهم على أعمالهم ، وبرحمته لهم وإحسانه إليهم الدالتين على ما يجب عليهم من شكره وتخصيصه بالعبادة والاستعانة ، والتوجه إليه في طلب كمال الهداية ، وهاتان الصفتان هما الربوبية والرحمة . فبدء فاتحة القرآن بذكرهما في البسملة ثم أثناء السورة مرشد لما ذكر ، مذكر للمصلي وللتالي به . وكذا بدء كل سورة بالبسملة التي لم يوصف اسم الذات (الله) فيها بغير الرحمة الكاملة الشاملة ، هو إعلام منه سبحانه بأنه أنزله رحمة للعالمين ، كما قال مخاطبا لمن أنزله

عليه : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (21 : 107) ولذلك لم تنزل البسملة في أول سورة التوبة التي فضحت آياتها المنافقين ، وبدئت بنبذ عهود المشركين ، وشرع فيها القتال بصفة أعم مما أنزله فيما قبلها من أحكامه . وهذا الذي شرحناه يفند زعم بعض المتعصبين الغلاة في ذم الإسلام بالهوى الباطل أن رب المسلمين رب غضوب منتقم قهار ، ودينهم دين رعب وخوف ، بخلاف دين النصرانية الذي يسمي الرب أبا للإعلام بأنه يعامل عباده كمعاملة الأب لأولاده ، وقد أشار شيخنا إلى هذا الزعم وفنده في تفسير اسم الرب . وسنذكر في فائدة أخرى المقابلة بين صلاة المسلمين بقراءة الفاتحة وصلاة النصارى بالصيغة المعروفة عندهم بالصلاة الربانية ، وثبت في الحديث الصحيح أن الرب أرحم بعباده من الأم بولدها الرضيع ، وأن جميع ما أودعه في قلوب خلقه من الرحمة جزء من مائة جزء من رحمته تبارك وتعالى ، ويجد القارئ تفصيل القول في سعة الرحمة الإلهية في تفسير قوله - عز وجل - : (ورحمتي وسعت كل شيء) (7 : 156) من سورة الأعراف . تفسير صفة الرحمة على مذهب السلف ما نقلناه عن شيخنا في معنى الرحمة (ص 38) . تبع فيه متكلمي الأشاعرة والمعتزلة ومفسريهم كالزمخشري والبيضاوي ذهولا . ومحصله أن الرحمة ليست من صفات الذات أو صفات المعاني القائمة بذاته تعالى لاستحالة معناها اللغوي عليه فيجب تأويلها بلازمها وهو الإحسان فتكون من صفات الأفعال كالخالق الرزاق . وقال بعضهم : يمكن تأويلها بإرادة الإحسان فترجع إلى صفة الإرادة فلا تكون صفة مستقلة . وهذا القول من فلسفة المتكلمين الباطلة المخالفة لهدي السلف الصالح . والتحقيق : أن صفة الرحمة كصفة العلم والإرادة والقدرة وسائر ما يسميه الأشاعرة صفات المعاني ويقولون إنها صفات قائمة بذاته تعالى خلافا للمعتزلة . فإن معاني هذه الصفات كلها بحسب مدلولها اللغوي واستعمالها في البشر محال على الله تعالى إذ العلم بحسب مدلوله اللغوي هو صورة المعلومات في الذهن ، التي استفادها من إدراك الحواس أو من الفكر ، وهي بهذا المعنى محال على الله تعالى ، فإن علمه تعالى قديم بقدمه غير عرض منتزع من صور المعلومات . وكذلك يقال في سمعه تعالى وبصره وقد عدوهما من صفات المعاني القائمة بنفسه ، والرحمة مثلها في هذا . فقاعدة السلف في جميع الصفات التي وصف الله تعالى بها نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله أن نثبتها له ونمرها كما جاءت مع التنزيه عن صفات الخلق الثابت عقلا ونقلا بقوله - عز وجل - (ليس كمثله شيء) فنقول : إن لله علما حقيقيا هو وصف له ، ولكنه لا يشبه علمنا ، وإن له سمعا حقيقيا هو وصف له لا يشبه سمعنا ، وإن له رحمة حقيقية هي وصف له لا تشبه رحمتنا التي هي انفعال في النفس ، وهكذا نقول في سائر صفاته تعالى فنجمع بذلك بين النقل والعقل ،

وأما التحكم بتأويل بعض الصفات وجعل إطلاقها من المجاز المرسل . أو الاستعارة التمثيلية كما قالوا في الرحمة والغضب وأمثالهما دون العلم والسمع والبصر وأمثالهما ، فهو تحكم في صفات الله وإلحاد فيها ، فأما أن تجعل كلها من باب الحقيقية مع الاعتراف بالعجز عن إدراك كنه هذه الحقيقة والاكتفاء بالإيمان بمعنى الصفة العامة مع التنويه عن التشبيه ، وإما أن تجعل كلها من باب المجاز اللغوي باعتبار أن واضع اللغة وضع هذه الألفاظ لصفات المخلوقين فاستعملها الشرع في الصفات الإلهية المناسبة لها مع العلم بعدم شبهها بها من باب التجوز . وقد عبر الشيخ أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى عن هذا المعنى أفصح تعبير ، فقال في كتاب الشكر من الإحياء : إن الله - عز وجل - في جلاله وكبريائه صفة يصدر عنها الخلق والاختراع وتلك الصفة أعلى وأجل من أن تلمحها عين واضع اللغة حتى تعبر عنها بعبارة تدل على كنه جلالها وخصوص حقيقتها ، فلم يكن لها في العالم عبارة لعلو شأنها وانحطاط رتبة واضعي اللغات عن أن يمتد طرف فهمهم إلى مبادئ إشراقها ، فانخفضت عن ذروتها أبصارهم كما تنخفض أبصار الخفافيش عن نور الشمس ، لا لغموض في نور الشمس ، ولكن لضعف أبصار الخفافيش ، فاضطر الذين فتحت أبصارهم لملاحظة جلالها إلى أن يستعيروا من حضيض عالم المتناطقين باللغات عبارة تفهم من مبادئ حقائقها شيئا ضعيفا جدا ، فاستعاروا لها اسم القدرة فتجاسرنا بسبب استعارتهم على النطق فقلنا : إن لله تعالى صفة هي القدرة ، عنها يصدر الخلق والاختراع اهـ . وقد رجع الإمام أبو الحسن الأشعري شيخ المتكلمين والنظار إلى مذهب السلف في نهاية أمره ، وصرح في آخر كتبه وهو (الإبانة) بذلك ، وأنه متبع للإمام أحمد بن حنبل شيخ السنة والمدافع عنها رحمهم الله أجمعين . معارضة نصرانية سخيفة ، للفاتحة الشريفة عرف كل من ذاق طعم البلاغة العربية من مؤمن وكافر أن القرآن أبلغ الكلام وأفصحه ، لم يكابر في ذلك مكابر ، ولم يجادل فيه مجادل ، وأن الفاتحة من أعلاه فصاحة وبلاغة وجمعا للمعاني الكثيرة في الألفاظ القليلة ، واشتمالا على مهمات الدين من صفات الله التي تجذب قلب من تدبرها إلى حبه ، وتنطق لسانه بحمده ، وتعلي همته بتوحيده . وتهذب نفسه بمعاني أسمائه وصفاته ، وإحاطة ربوبيته وملكه ، وتذكره يوم الدين الذي يجزى فيه على عمله ، وتوجه وجهه إلى السير على الصراط المستقيم في خاصة نفسه ، وفي معاملة الله ومعاملة خلقه ، وتذكره بالقدوة الصالحة في ذلك بإضافة الصراط الذي يتحرى الاستقامة عليه ، ويسأل الله توفيقه دائما له ، إلى من أسبغ الله عليهم نعمه ، ومنحهم رضوانه ، وجعلهم هداة خلقه بأقوالهم ،

وأسوتهم الحسنة في أفعالهم ، ومثل الكمال في آدابهم وأخلاقهم ، من النبيين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، وتحذره من شرار الخلق الذين يؤثرون الباطل على الحق ، ويفضلون الشر على الخير ، على علم منهم بذلك . وهم المغضوب عليهم - أو على جهل به كالذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، وهم الضالون . وهذا التحذير يتضمن حث المسلم المتعبد بالفاتحة المكرر لها في صلاته على العناية بتكميل نفسه بتحري التزام الحق وعمل الخير ، بأحكام العلم وتربية النفس والتمرن على العمل الصالح . هذه السورة الجليلة التي ذكرناك أيها القارئ بمجمل مما فصلناه في تفسيرها يزعم أحد دعاة النصرانية في هذا العصر أنها بمعزل من البلاغة بأن ما بعد الصراط المستقيم فيها " حشو وتحصيل حاصل " وما قبله يمكن اختصاره بما لا يضيع شيئا من معناه ، كما فعله بعضهم ، قال هذا القول داعية من المبشرين المأجورين من قبل جمعيات التبشير الإنكليزية والأميركانية في كتاب لفقه في إبطال إعجاز القرآن بزعمه ، بل أنكر بلاغته من أصلها ؛ قال : " وما أحسن قول بعضهم أنه لو قال : الحمد للرحمن ، رب الأكوان ، الملك الديان ، لك العبادة وبك المستعان ، اهدنا صراط الإيمان ، لأوجز وجمع كل المعنى وتخلص من ضعف التأليف والحشو والخروج عن الرديء كما بين الرحيم ونستعين " أ هـ . أقول لقد كان خيرا لهذا المتعصب المأجور لإضلال عوام المسلمين على شرط ألا يذكر اسمه في كتيبه ، ولا يفضح نفسه بين قومه ، أن يختصر لمستأجريه آلهتهم وكتبهم التي صدت جميع مستقلي الفكر من أقوامهم وشعوبهم عن دينهم بل صدت بعضهم عن كل دين ، فإن اختصار الدراري السبع في السماء ، أهون من اختصار آيات الفاتحة السبع في الأرض . وحسب العالم من فضيحته إيراد سخافته هذه وتشهيره بها لو كان حيا يمشي بين الناس . وأما العامي الجاهل ، الذي قد يغتر بقول كل قائل ، ولا سيما إذا كان في الطعن بغير دينه ، فربما يحتاج إلى التنبيه لبعض فضائح هذا الاختصار ، وإن كانت لا تخفى على أولي الأبصار ونكتفي منه بما يلي : (1) إن أول شيء اختصره هذا الجاهل المتعصب وجعل ذكره مطعنا في فاتحة القرآن اسم الجلالة الأعظم (الله) الذي لا يغني عنه سرد جميع أسماء الله الحسنى ! فإنه هو اسم الذات الملاحظ معه اتصاف تلك الذات بجميع صفات الكمال إجمالا . (2) أنه اختصر اسم الرحيم وقد بينا فائدته وأن اسم الرحمن لا يغني عنه ، وأنى لمثله أن يعلمه ؟ ويراجع الفرق بينهما فيما تقدم . (3) أنه استبدل الأكوان بالعالمين وليس في هذا اختصار ، وإنما فيه استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير وأولى ، فإن الأكوان جمع كون ، وهو في الأصل مصدر لا يجمع ،

وله معان لا يصح إضافة اسم الرب إليها ، منها الحدث والصيرورة والكفالة ، ويطلقه عرب الجزيرة على الحرب لعلهم لا يستعملونه في غيرها ، وأما العالمون فجمع عالم ، وفي اشتقاقه التذكير بكونه علامة ودليلا على وجود خالقه ، وفي جمعه جمع العقلاء تذكير للقارئ بما في كلمة رب من معنى تربيته جل جلاله وعم نواله للأحياء ولا سيما الناس ، وكونهم يشكرونه عليها بقدر استعمال عقولهم ، ولذلك قال بعض الأعلام : إن لفظ العالمين عام مستعمل هنا في الخاص ، وهو عالم البشر ، وراجع سائر تفسيره المتقدم . (4) أنه استبدل كلمة (الديان) بكلمة (يوم الدين) وهي لا تقوم مقامها ، ولا تفيد ما فيها من المعاني المطلوبة لذاتها ، فإن للديان في اللغة معاني منها القاضي والحاسب أو المحاسب والقاهر . وغاية ما يفيده وصف الرب بأنه حاكم يدين عباده ويجزيهم . وأما يوم الدين : فإنه اسم ليوم معين موصوف في كتاب الله بأوصاف عظيمة هائلة ، يحاسب الله فيه الخلائق ويحكم بينهم ويجزيهم ، والإيمان بهذا اليوم ركن من أركان الدين ، وإضافة ملك ومالك إليه تفيد أن الأمر كله في ذلك اليوم له وحده فلا يملك أحد لأحد فيه شيئا من نفع ولا من كشف ضر كما تقدم تفصيله في تفسير الآية - فاستحضار هذه المعاني في النفس له من التأثير المقوي لعقيدة التوحيد المرغب في العمل الصالح المرهب الزاخر عن الشر ، ما ليس لاسم الديان وحده ، ويكفي الإنسان في الجزم بهذا مشاورة فكره ، ومراجعة وجدانه ، وإن لم يكن يعلم من فنون البلاغة شيئا ، وهل لهذا المبشر المتعصب فكر ووجدان يهديانه إلى ما يجهل من بلاغة القرآن ؟ (5 ، 6) أنه اختصر قوله تعالى : (إياك نعبد وإياك نستعين) بقوله هو : لك العبادة وبك المستعان . وهو أغرب ما جاء به وسماه إيجازا ، فإنه استبدل أربعا بأربع ، ولكنها أطول منها بزيادة حرف ، وتنقص عنها في المعنى ، فأين الإيجاز ؟ إنه مفقود لفظا ومعنى . إذا أراد بقوله : لك العبادة - أنها كلها له تعالى في الواقع ونفس الأمر ، فالجملة غير صحيحة ؛ لأن الذين لا يعبدونه وحده من البشر هم الأكثرون . ومنهم النصارى قوم الطاعن في دين التوحيد وكتاب التوحيد الأعظم (القرآن) المبدلين لآية التوحيد البليغة . وإن أراد أن العبادة مستحقة لله تعالى وحده فالمعنى صحيح ، لكنه لا يدل على أن القارئ ، ولا واضع الجملة من القائمين بهذا الحق له تعالى . وأما " إياك نعبد " فإنها تفيد عرض عبادة القارئ مع عبادة جميع المؤمنين الموحدين عليه جل جلاله ، وتقربهم إليه بأنهم يعبدونه ولا يعبدون غيره . وأحيلك في الفرق بين تأثير هذا وذاك على الوجدان الذي ذكرتك به في النقد الذي قبله ، دع ما في عرض المؤمن عبادته واستعانته على ربه في ضمن عبادة جميع المؤمنين واستعانتهم

من ملاحظة أخوة الإيمان وتكافل أهله ، ومن هضم الفرد لنفسه ، ورجاء القبول في ضمن الجماعة ، وغير ذلك مما يعلم من تفسير الآية . ومثل هذا يقال في مسألة الاستعانة ، ويمكن الزيادة عليه من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، ومنه اختياره المصدر الميمي الذي هو صيغة اسم المفعول (المستعان) على المصدر الأصلي وهو الاستعانة المناسب للفظ العبادة ، ومن جهة ارتباطه بما بعده ، فإن طلبنا للهداية من الاستعانة التي أسندناها إلى أنفسنا . (7) استبداله " صراط الإيمان " بالصراط المستقيم ، وهذا أعم منه وأشمل ؛ لأنه يشمل الإيمان والإسلام والإحسان ، من العقائد والعبادات والآداب ، مع وصفه بالمستقيم الذي لا عوج فيه . فإن بعض الطرق الموصلة إلى المقاصد التي يسمى سالكها مهتديا إلى مقصده في الجملة ، قد يكون فيها عوج يعوق هذا السالك ، والمستقيم هو أقرب موصل بين طرفين فسالكه يصل إلى مقصده في أسرع وقت ، كذلك الطرق المعنوية ، منها الموصل إلى الغاية وغير الموصل ، ومن الموصل ما يوصل بسرعة لعدم العائق ، وما يعتري سالكه الموانع واقتحام لعقبات واتقاء العثرات . (8) أن وصف الصراط المستقيم بكونه الصراط الذي سلكه خيار عباد الله المفلحين ، من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، مذكر لقارئه بأولئك الأئمة الوارثين ، الذين يجب التأسي بهم ، والسعي للانتظام في سلكهم ، والتصريح بكونه غير صراط المغضوب عليهم من المعاندين للحق ، وغير الضالين الزائغين عن القصد ، مذكر للقارئ بوجوب اجتناب سبلهم ، لئلا يتردى في هاويتهم . أين من هذه المقاصد السامية الهادية إلى تزكية النفس وإعدادها لسعادتي الدنيا والآخرة ، صيغة الصلاة في ملة هذا المختصر المستأجر ، وهي كما في إنجيل متى (أبانا الذي في السماوات ، ليتقدس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض ، خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا ، ولا تدخلنا في تجربة ، ولكن نجنا من الشرير آمين) (6 : 9 - 13) أهـ . زاد في نسخة الأميركان : (لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد) وجعلوا هذه الزيادة بين علامتي الكلام الدخيل هكذا () فمن ذا الذي زادها على كلام المسيح ؟ وقد يقول لهم من لا يؤمن بأن هذه الصيغة منقولة نقلا صحيحا عن المسيح - عليه السلام - ، أو من لا يؤمن به نفسه : إنها صلاة ليس فيها من الثناء على الله تعالى ما في فاتحة المسلمين ولا بعضه ، وطلب تقديس اسم الأب وإتيان ملكوته تحصيل حاصل ، فهو لغو لا يليق بالعاقل ،

وذكره بصيغة الأمر باللام غير لائق - إن لم نقل في انتقاده ما هو أشد من ذلك - وأبعد من ذلك عن اللياقة والأدب مع الرب تبارك وتعالى طلب كون مشيئته على الأرض كمشيئته في السماء . وكونها بصيغة الأمر باللام أيضا ، فمشيئته تعالى نافذة في جميع خلقه من سمائه وأرضه بالضرورة ، فلا معنى لطلبها ، وطلب المساواة بين السماء والأرض فيها إن أريد به من كل وجه ، فهو تحكم لا يخفى ما يترتب عليه . وأما طلب الخبز الكفاف في كل يوم بصيغة الحصر فهو يفيد أن كل همهم وكل مطلبهم من ربهم ولو لدنياهم هو الخبز الذي يكفيهم ، فأين هذا المطلب من طلب الهداية إلى الصراط المستقيم الموصل إلى سعادتي الدنيا والآخرة على أكمل وجه ، لكونه نفس صراط خيار الناس دون شرارهم . وأما مطلب المغفرة - فهو على كونه يليق أن يطلب منه تعالى - ينتقد منه تشبيهها بمغفرة الطالب للمذنب المسيء إليه من وجهين : (أحدهما) أن مغفرة الله لعبده أجل وأعظم وأعم من مغفرة العبد لمثله . (ثانيهما) أن الذي يغفر لجميع المسيئين إليه نادر ، ومن المشاهد أن أكثر الناس يجزون على السيئة إما بمثلها ، وإما بأكثر منها ، فكيف يكلف هؤلاء بمخاطبة ربهم بالكذب عليه ، الذي حاصله أنهم يطلبون ألا يغفر لهم ، لأنهم لا يغفرون للمسيئين إليهم . قد يقولون : نعم نحن نلتزم هذا ؛ لأن ديننا يوجب علينا أن نغفر لجميع من أذنب وأساء إلينا ، ونعتقد أن ربنا لا يغفر لنا إذا لم نغفر لهم ؛ لأن من علمنا هذه الصلاة قال بعدها : (فإنه إن غفرتم للناس زلاتهم يغفر لكم أيضا أبوكم السماوي ، وإن لم تغفروا للناس زلاتهم لا يغفر لكم أبوكم أيضا زلاتكم) (متى 6 : 14) . فنقول : هذا التعبير يدل على وجوب مغفرة جميع الذنوب لجميع الناس عامة كانت أو خاصة ، فأين منكم يا معشر النصارى من يفعل ذلك ؟ وهل يوجد في الألف أو الألوف منكم واحد كذلك ؟ ألسنا نرى أكثركم ومن تعدونهم أرقاكم وتفتخرون بهم كالإفرنج لا يغفرون لأحد أدنى زلة ، بل لا يكتفون بعقاب من يسئ إلى أحد منهم إذا كان من غيرهم بمثل ذنبه ، وإنما يضاعفون له العقاب أضعافا ، بل ينتقمون من أمته كلها إذا كانت ضعيفة لا يمكنها أن تصدهم بالقوة ، فهم لا يمنعهم من الجزاء على السيئة بأضعافها من السيئات ولا من ابتداء الظلم والعدوان إلا العجز .

وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة ، والبسملة منها في وجوب قراءة الفاتحة في الصلاة أحاديث قولية صحيحة صريحة ، وجرى عليها العمل من أول الإسلام إلى اليوم ، وإن تنازع بعض أهل الخلاف والجدل في تسمية هذا الواجب فرضا وعده شرطا ، وأصح ما ورد وأصرحه فيه ما رواه الجماعة كلهم من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن النبي - ﷺ - قال : (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وفي لفظ رواه الدارقطني بإسناد صحيح (لا تجزئ صلاة من لم يقرأ بفاتحة الكتاب) وهو تفسير للفظ الجماعة ، فإن نفي الصلاة فيه نفي صحتها ووجهه : أن الحقيقة المؤلفة من عدة أركان ذاتية تنتفي بانتفاء ركن منها ، كقولك : لا وضوء لمن لم يغسل يديه إلى المرفقين ، وقد أجمع المسلمون على العمل بهذا ، فلم يصل النبي - ﷺ - ولا خلفاؤه وأصحابه ولا التابعون ولا غيرهم من الخلفاء وأئمة العلم صلاة بدون قراءة الفاتحة فيها ، وإنما بحث الحنفية في تسمية قراءتها فرضا وعدها ركنا بناء على اصطلاحات لهم ردها الجمهور بأدلة صحيحة لا محل لتلخيصها هنا وأجابوا عن شبهاتهم النقلية بأجوبة سديدة ، وأقواها قوله - ﷺ - للمسيء صلاته : " ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " قالوا في الجواب عنه : إنه ثبت رواية أخرى أنه قال له : " ثم اقرأ بأم القرآن " فهذا مفسر لما تيسر من القرآن ، وأن الفاتحة هي التي كانت متيسرة لجميع المسلمين ، لأنهم كانوا يلقنونها كل من يدخل في الإسلام ، وقال بعضهم : المراد بما يتيسر منه هنا ما زاد عن الفاتحة ، وفي البخاري عن أبي قتادة : " أن النبي - ﷺ - كان يقرأ الفاتحة في كل ركعة " والأحاديث المصرحة بأنه كان يقرأ في الركعة الأولى أم القرآن وسورة كذا ، وفي الثانية بعد أم القرآن كذا في صلاة كذا ، كثيرة . وأما كون البسملة آية في الفاتحة ، فأقوى الحجج المثبتة له : كتابتها في المصحف الإمام الرسمي الذي وزع نسخه الخليفة الثالث على الأمصار برأي الصحابة وأجمعت عليه الأمة ، وكذا جميع المصاحف المتواترة إلى اليوم ، والخط حجة عليه ، كما قال العلامة العضد ، وعليه جميع شعوب العلم والمدنية في هذا العصر ، لا حجة عندهم أقوى من حجة الكتابة الرسمية ، ثم إجماع القراء على قراءتها في أول الفاتحة . وإن زعم بعضهم أنها آية مستقلة ، فإن هذا رأي ، والعبرة بالعمل ، وهو إذا كان عاما مطردا من أقوى الحجج . على أن تواترها عن واحد منهم تقوم به الحجة على باقيهم وعلى سائر الناس ، فإنه إثبات بالتواتر لا يعارضه نفي ما . وقد كنا ذكرنا هذه المسألة وآراء أهل الخلاف فيها ونزيدها إيضاحا فنقول : وقد وردت أحاديث آحادية في إثبات ذلك ونفيه ترتب عليها اختلاف الفقهاء الذين جعلوا المسألة مسألة مذاهب ، ينصر كل حزب منهم أهل المذهب الذي ينسبون إليه

(كل حزب بما لديهم فرحون) ولولا ذلك لاتفقوا ؛ لأن لإثبات البسملة في أول الفاتحة في جميع المصاحف المجمع عليها المتواترة حجة قطعية لا تعارض بأحاديث الآحاد وإن صح سندها . وأصرح الأحاديث التي استدلوا بها على كون البسملة ليست آية من الفاتحة ما رواه أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج " يقولها ثلاثا - أي كلمة " فهي خداج " أي ناقصة غير تامة كالناقة تلد لغير التمام - فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ؟ فقال : اقرأ بها في نفسك ، فإني سمعت رسول الله - ﷺ - يقول : " قال الله - عز وجل - : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : (الحمد لله رب العالمين) قال الله : حمدني عبدي ، فإذا قال : (الرحمن الرحيم) قال الله : أثنى علي عبدي . فإذا قال : (مالك يوم الدين) قال : مجدني عبدي . وقال مرة : فوض إلي عبدي . وإذا قال (إياك نعبد وإياك نستعين) قال : هذا بيني وبين عبدي ، ولعبدي ما سأل . فإذا قال : (اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل " . قال النافون : إن الحديث يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة ؛ لأنها لو كانت منها لذكرت في الحديث ، وهو استدلال سلبي لا يعارض القطعي المتواتر وهو إثباتها في المصحف وإجماع القراء على قراءتها عند البدء بالختمات ، وثبوت التواتر بذلك ، على أن عدم ذكرها في الحديث قد يكون لسبب اقتضى ذلك . ومما يخطر على البال بداهة : أنه كما اكتفى من قسمة الصلاة بالفاتحة دون سائر التلاوة والأذكار والأفعال اكتفى من الفاتحة بما لا يشاركها فيه غيرها من السور ، إذ البسملة آية من كل سورة غير (براءة) على التحقيق الذي يدل عليه خط المصحف ، وثم سبب آخر لعدم ذكر البسملة في القسمة ، وهو أنه ليس فيها إلا الثناء على الله تعالى بوصفه بالرحمة ، وهو معنى مكرر في الفاتحة وذكر في القسمة . والعمدة في عدم المعارضة أن دلالة الحديث ظنية سلبية ، وإثبات البسملة إيجابي وقطعي كما تقدم ، وإذا كان من علل الحديث المانعة من وصفه بالصحة : مخالفة راويه لغيره من الثقات فمخالفة القطعي من القرآن المتواتر أولى بسلب وصف الصحة عنه . على أن هذا الحديث هو المعارض بالأحاديث المثبتة لكون البسملة من الفاتحة . واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة المرفوع عند أحمد وأصحاب السنن قال : " إن

سورة من القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غفر له ، وهي : " تبارك الذي بيده الملك " قالوا : وإنما هي ثلاثون بدون البسملة . وأجيب بمثل ما قلنا آنفا من أن عدد آيات السور باعتبار ما هو خاص بالسورة وهو ما دون البسملة . ويؤيده ما روي عن أبي هريرة من أن سورة الكوثر ثلاث آيات . وقد روى أحمد ومسلم والنسائي من حديث أنس قال : " بينا رسول الله - ﷺ - ذات يوم بين أظهرنا في المسجد إذ أغفى إغفاءة ، ثم رفع رأسه مبتسما ، فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال : نزلت علي آنفا سورة ، فقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر) . وهذا الحديث ناطق بأن البسملة من سورة الكوثر مع عدم عدها من آياتها لما ذكرنا ، فكونها آية من الفاتحة أولى وهو أصح في حديث أبي هريرة في سورة الملك ؛ لأن البخاري أعله بأن عباسا الحشمي راويه لا يعرف سماعه من أبي هريرة . واستدلوا بالأحاديث الواردة في عدم قراءة النبي - ﷺ - وخلفائه لها في الصلاة وأصرحها قول عبد الله بن مغفل : " صليت مع رسول الله - ﷺ - ومع أبي بكر ، ومع عمر ومع عثمان . فلم أسمع أحدا منهم يقولها " يعني البسملة رواه أحمد والترمذي وحسنه النسائي وابن ماجه عن ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول ، فقد كان له سبعة أولاد وهذه علة تمنع صحة الحديث . قالوا : وقد تفرد به الحريري وقيل : إنه قد اختلط بآخره . وقد يفسر بما ترى فيما قالوه في الحديث الذي بعده . وفي معناه حديث أنس في إحدى الروايات قال : " صليت مع النبي - ﷺ - وأبي بكر ، وعمر ، وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ : (بسم الله الرحمن الرحيم) . رواه أحمد ومسلم . قال في المنتقى : وفي لفظ " صليت مع النبي - ﷺ - وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فكانوا لا يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم " . رواه أحمد والنسائي بإسناد على شرط الصحيح . ولأحمد ومسلم : " صليت خلف النبي - ﷺ - وأبي بكر وعمر وعثمان ، وكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها " . ولعبد الله بن أحمد في مسند أبيه عن شعبة عن قتادة عن أنس قال : " صليت خلف رسول الله وخلف أبي بكر وعمر وعثمان فلم يكونوا يستفتحون القراءة ببسم الله الرحمن الرحيم " قال شعبة قلت لقتادة : أنت سمعت من أنس ؟ قال : نعم نحن سألناه عنه . وللنسائي عن منصور بن زازان عن أنس قال : " صلى بنا رسول الله - ﷺ - فلم يسمعنا قراءة بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى بنا أبو بكر وعمر فلم نسمعها منهما " اهـ .

قال الشوكاني في شرح الحديث : ورواية " فكانوا لا يجهرون " أخرجها أيضا ابن حبان والدارقطني ، والطحاوي والطبراني . وفي لفظ لابن خزيمة : " كانوا يسرون " - وقوله : " كانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين " هذا متفق عليه . وإنما انفرد مسلم بزيادة : " لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم " وقد أعل هذا اللفظ بالاضطراب وفسر بأن جماعة من أصحاب شعبة رووه عنه به ، وجماعة رووه عنه بلفظ : " فلم أسمع أحدا منهم قرأ بسم الله الرحمن الرحيم " . ثم نقل عن الحافظ أن بعضهم رواه باللفظين وقد خرج كل رواية . أقول : وقد جمعوا بين الروايات بأن المراد بالاستفتاح بالحمد لله الاستفتاح بهذه السورة فقد صح التعبير عنها في حديث آخر بجملة : " الحمد لله " . وبأن عدم سماعها سببه عدم الجهر بها ، وقد يكون له سبب آخر وهو البعد عن أول الصف . ومن العادة أن يكون صوت القارئ خافتا في أول القراءة . وسبب ثالث وهو اشتغال المأموم عند السماع بالتحرم ودعاء الافتتاح . وقد عورض وأعل حديث أنس على اضطراب متنه بما يأتي عنه من مخالفته له في صفة قراءة النبي - ﷺ - وبما رواه الدارقطني وصححه عن أبي سلمة ، قال : سألت أنس بن مالك : " أكان رسول الله ﷺ يستفتح بالحمد لله رب العالمين ، أو ببسم الله الرحمن الرحيم ؟ فقال : إنك سألتني عن شيء ما أحفظه وما سألني عنه أحد قبلك فقلت : أكان رسول الله - ﷺ - يصلى في النعلين ؟ قال : نعم " . قالوا : وعروض النسيان في مثل هذا غير مستنكر فقد حكى الحازمي عن نفسه أنه حضر جامعا وحضره جماعة من أهل التمييز المواظبين في ذلك الجامع ، فسألهم عن حال إمامهم في الجهر والإخفات قال : - وكان صيتا يملأ صوته الجامع - فاختلفوا في ذلك فقال بعضهم : يجهر ، وقال بعضهم يخفت أ هـ . أقول : ولم يختلف هؤلاء المصلون في صلاة واحدة ، بل في جميع الصلوات ، وسبب ذلك الغفلة والناس عرضة لها ، ولا سيما الغفلة عن أول صلاة الإمام . إذ يكون المأمومون مشغولين بمثل ما يشغله من الدخول فيها وقراءة دعاء الافتتاح كما تقدم آنفا . وأما أحاديث إثبات كون البسملة من الفاتحة ، فمنها : ما رواه البخاري عن قتادة قال : سئل أنس " كيف كانت قراءة النبي - ﷺ - ؟ فقال كانت مدا ، ثم قرأ : بسم الله الرحمن الرحيم . ويمد بالرحمن وبالرحيم " . وروى عنه الدارقطني من طريقين " أن النبي - ﷺ - كان يجهر بالبسملة " .

ومنها : حديث أم سلمة أم المؤمنين - رضي الله عنها - أنها سئلت عن قراءة النبي - ﷺ - فقالت : " كان يقطع قراءته آية آية : (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) رواه أحمد وأبو داود بهذا اللفظ وغيرهما . ومنها ما رواه النسائي وغيره عن نعيم المجمر . قال : " صليت وراء أبي هريرة فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم . ثم قرأ بأم القرآن " . وفيه يقول إذا سلم : والذي نفسي بيده إني لأشبهكم صلاة برسول الله - ﷺ - " . وقد صحح هذا الحديث ابن خزيمة وابن حبان والحاكم ، قال : على شرط البخاري ومسلم وأقره الحافظ الذهبي . وقال البيهقي : صحيح الإسناد وله شواهد . وقال أبو بكر الخطيب فيه : ثابت صحيح لا يتوجه عليه تعليل ، وروي عن أبي هريرة حديثان آخران بمعناه ، وثق بعضهم جميع رجالهما وتكلم بعضهم في بعضهم . ومنها : حديث علي - رضي الله عنه - سئل عن السبع المثاني فقال : (الحمد لله رب العالمين) قيل : إنما هي ست فقال : (بسم الله الرحمن الرحيم) . ورواه الدارقطني وإسناده كلهم ثقات لم يطعنوا في أحد منهم ، وله حديثان آخران عنه وعن عمار بن ياسر في إثبات جهر النبي - ﷺ - بالبسملة في صلاته قد تكلموا في سندها . ومنها حديث أنس : " سمعت رسول الله - ﷺ - يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم " رواه الحاكم وقال : ورواته عن آخرهم ثقات ، وأقره الحافظ الذهبي . وقد أورد الشوكاني في نيل الأوطار هذه الأحاديث الصحيحة وغيرها من الروايات الضعيفة الأسانيد الصحيحة المتون ، وذكر حمل الروايات الصحيحة من أحاديث النفي المعارضة لها على عدم الجهر بالبسملة من باب حمل المطلق على المقيد وهو ترك الجهر ، ثم قال : " إذا كان محصل أحاديث نفي البسملة هو نفي الجهر بها ، فمتى وجدت رواية فيها إثبات الجهر قدمت على نفيه . قال الحافظ - ابن حجر - لا بمجرد تقديم رواية المثبت على النافي - أي كما هي القاعدة - لأن أنسا يبعد جدا أن يصحب النبي - ﷺ - مدة عشر سنين ويصحب أبا بكر وعمر وعثمان خمسا وعشرين سنة فلا يسمع منهم الجهر بها في صلاة واحدة ، بل لكون أنس اعترف بأنه لا يحفظ هذا الحكم ، كأنه لبعد عهده به لم يذكر منه إلا الجزم بالافتتاح بالحمد لله جهرا ، فلم يستحضر الجهر بالبسملة ، فيتعين الأخذ بحديث من أثبت الجهر أ هـ . أقول : وقد تقدم نص الرواية عنه بنسيان هذا الحكم آنفا فعد حديثه مضطربا لا يحتج به .

قال الحافظ ابن عبد البر بعد سرده روايات حديثه في الاستذكار : هذا الاضطراب لا تقوم معه حجة . وقد سئل عن ذلك أنس فقال : كبرت سني ونسيت . أ هـ وقد روى الطبراني في الكبير والأوسط في سبب ترك النبي - ﷺ - للجهر بالبسملة في الصلاة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس " أنه - ﷺ - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، وكان المشركون يهزءون بمكاء وتصدية ، ويقولون : محمد يذكر إله اليمامة - وكان مسيلمة الكذاب يسمى رحمن - فأنزل الله (ولا تجهر بصلاتك) فتسمع المشركين فيهزءوا بك (ولا تخافت بها) عن أصحابك فلا تسمعهم . وقد قال في مجمع الزوائد : إن رجاله موثقون . وقال الحكيم الترمذي . فبقي ذلك إلى يومنا هذا على ذكر الرسم وإن زالت العلة . وجمع به القرطبي بين الروايات . وقال ابن القيم في زاد المعاد : " إن النبي - ﷺ - كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم تارة ويخفتها أكثر مما جهر بها إلخ " . وهذا القول معقول ، وإذا صح أن سببه ما رواه الطبراني واعتمده القرطبي والنيسابوري والحكيم الترمذي يكون ترك الجهر في أول الإسلام بمكة وأوائل الهجرة ، والجهر فيما بعده ، وقد علمت ما في حديثي أنس وأبي قتادة المخالفين لهذا . ولا يغرن أحدا قول العلماء إن منكر البسملة من الفاتحة أو من كل سورة لا يكفر ومثبتها لا يكفر فيظن أن سبب هذا عدم ثبوتها بالدليل القطعي ، كلا إنها ثابتة ولكن منكرها لا يكفر لتأويله الدليل القطعي بشبه المعارضة التي تقدمت وبينا ضعفها ، وسنزيده بيانا والشبهة تدرأ حد الردة . وجملة القول أن اختلاف الروايات الآحادية في الإسرار بالبسملة والجهر بها قوي ، وأما الاختلاف في كونها من الفاتحة أو ليست منها فضعيف جدا جدا وإن قال به بعض كبار العلماء ذهولا عن رسم المصحف الإمام القطعي المتواتر والقراءات المتواترة التي لا يصح أن تعارض بروايات أحادية ، أو بنظريات جدلية ، وأصحاب الجدل يجمعون بين الغث والسمين وبين الضدين والنقيضين ، وصاحب الحق منهم يشتبه بغيره ، وربما يظهر عليه المبطل بخلابته ، إذا كان ألحن بحجته . وقد ذكر الرازي في تفسيره سبع عشرة حجة على إثبات كون البسملة من الفاتحة منها القوية والضعيفة ، وتصدى له الألوسي محاولا دحضها تعصبا لمذهبه الذي تنحله في الكبر إذ كان شافعيا فتحول حنفيا تقربا إلى الدولة وصرح بهذا التعصب إذ قال هنا : " على المرء نصرة مذهبه والذب عنه " إلخ . وهذه كبرى زلاته المثبتة لعدم استقلاله بعدم طلبه الحق

لذاته ، حتى إنه مارى في حجة لإثبات البسملة في أولها بخط المصحف المتواتر فجعلها دليلا على كونه من القرآن دون كونها من الفاتحة ، وهو من تمحل الجدل ، فلا معنى لكونها آية مستقلة في القرآن ألحقت بسوره كلها إلا واحدة وليست في شيء منها ولا في فاتحته التي اقتدوا بها في بدء كتبهم كلها ، إنه لقول واه تبطله عبادتهم وسيرتهم ، وينبذه ذوقهم ، لولا فتنة الروايات والتقليد . فتعارض الراويات اغتر به أفراد مستقلون ، وبالتقليد فتن كثيرون ، ولله في خلقه شئون . على أن الألوسي حكم وجدانه واستفتى قلبه في بعض فروع المسألة ، فأفتاه بوجوب قراءة الفاتحة والبسملة في الصلاة ، وخانه في كونها آية منها ، وأورد في حاشية تفسيره على ذلك إشكالا استكبره جد الاستكبار وما هو بكبير ، فنحن نذكر عبارتيه ، ونقفي عليهما بالرد عليه . قال في تفسيره " روح المعاني " : " وبالجملة يكاد أن يكون اعقتاد كون البسملة جزءا من سورة (1) من الفطريات ! ! كما لا يخفى على من سلم له وجدانه (! !) فهي آية من القرآن مستقلة ولا ينبغي لمن وقف على الأحاديث أن يتوقف في قرآنيتها . أو ينكر وجوب قراءتها ويقول بسنيتها ، فوالله لو ملئت لي الأرض ذهبا لا أذهب إلى هذا القول وإن أمكنني بفضل الله توجيهه (! !) كيف وكتب الأحاديث ملأى بما يدل على خلافه . وهو الذي صح عندي عن الإمام - يعني إمامه الجديد أبا حنيفة رحمه الله تعالى - والقول بأنه لم ينص بشيء ليس بشيء ، وكيف لا ينص إلى آخر عمره في مثل هذا الأمر الخطير الدائر عليه أمر الصلاة من صحتها أو استكمالها ، ويمكن أن يناط به بعض الأحكام الشرعية ، وأمور الديانات كالطلاق والحلف والعتق . وهو الإمام الأعظم ، والمجتهد الأقدم ، رضي الله عنه " ؟ وكتب في حاشيته عند قوله : فهي آية من القرآن مستقلة ما نصه : استشكل بعضهم الإثبات والنفي ، فإن القرآن لا يثبت بالظن ولا ينفى به . وهو إشكال كالجبل العظيم (؟) وأجيب عنه أن حكم البسملة في ذلك حكم الحروف المختلف فيها بين القراء السبعة قطعية الإثبات والنفي معا (! !) ولهذا قرأ بعضهم بإثباتها وبعضهم بإسقاطها ، وإن اجتمعت المصاحف على الإثبات ، فإن من القراءات ما جاء على خلاف خطها كالصراط ومصيطر فإنهما قرئا بالسين ولم يكتبا إلا بالصاد (وما هو على الغيب بضنين) تقرأ بالظاء

ولم تكتب إلا بالضاد ففي البسملة التخيير ، وتتحتم قراءتها في الفاتحة عند الشافعي احتياطيا (! !) وخروجا من عهدة الصلاة الواجبة بيقين لتوقف صحتها على ما أسماه الشرع فاتحة الكتاب فافهم ، والله أعلم بالصواب " ا هـ أقول : نعم . إن الله أعلم بالصواب ، وقد وفق لعلمه أولي الألباب ، وهم (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب) دون الذين يستمعون القول فيتبعون منه ما وافق رواية فلان ورأي فلان ، ويوجبون على أنفسهم نصره ولو بتأويل ما مضت به السنة العملية وثبت بنص القرآن ، ولولا عصبية المذاهب عند المقلدين ، والغرور بظواهر بعض الروايات عند الأثريين ، لما اختلف أحد من الفريقين في هذه المسألة ، ونحمد الله تعالى أن اختلافهم فيها قولي جدلي لا عملي . سبحان الله ! ما أعجب صنع الله في عقول البشر ! أيقول السيد محمود الألوسي العالم الذكي النزاع إلى استقلال الفكر في كثير من مسائل التفسير . وبالرغم من رضائه بمهانة جهالة التقليد : إن استشكال الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين في مسألة البسملة " إشكال كالجبل العظيم " ؟ ثم يرضى بالجواب عنه بما يقرر به الجمع بين الإثبات والنفي القطعيين . سبحان الله ! إن الجمع بين النفي والإثبات هو التناقض الحقيقي الذي يعز إيراد مثال للمحال العقلي مثله ، فكيف يصدر القول به عن عالم أو عن عاقل ؟ إن الإشكال الذي نظر إليه المفسر بعيني التقليد العمياوين فرآه كالجبل العظيم ، هو في نفسه صغير حقير ضئيل قميء خفي كالذرة من الهباء ، أو كالجزء لا يتجزأ من حيث كونه لا يرى ولا يثبت إلا بطريقة الفرض ، أو كالعدم المحض . والجواب الحق : أنه لم ينف أحد من القراء كون البسملة من الفاتحة نفيا حقيقيا برواية متواترة عن المعصوم - ﷺ - تصرح بأنها ليست من الفاتحة - كما يقول بعض الناس بشبهة عدم رواية القراء لها ، وشبه تعارض الروايات الآحادية التي ذكرنا أقواها والمخرج منها - أو ليست إلا جزء آية من سورة النمل ، كما زعم من لا شبهة لهم على النفي تستحق أن يجاب عنها . وإنما أثبت بعض القراء بالروايات المتواترة : أن البسملة آية من الفاتحة وبعضهم لم يرو ذلك بأسانيده المتواترة ، وعدم نقل الإثبات للشيء ليس نفيا لذلك الشيء ، لا رواية ولا دراية . وأعم من هذا ، ما قال العلماء ، من أن بين عدم إثبات الشيء وبين إثبات عدمه بونا بعيدا كما هو معلوم بالضرورة . ولو فرضنا أن بعضهم روى التصريح بالنفي لجزمنا بأن روايته باطلة سببها أن بعض رجال سندها اشتبه عليه عدم الإثبات بإثبات النفي ، إذ يستحيل عقلا

أن يكون الأمران المتناقضان قطعيين معا ، ورواية الإثبات لا يمكن الطعن فيها ، وناهيك وقد عززت بخط المصحف الذي هو بتواتره خطا وتلقينا أقوى من جميع الروايات القولية وأعصى على التأويل والاحتمال ، وأما القول بأنها آية مستقلة بين كل سورتين للفصل بينهما ما عدا الفصل بين سورتي الأنفال وبراءة ، فما هو إلا رأي للجمع بين الروايات الآحادية الظنية المتعارضة ، ويمكن الجمع بغيره مما لا إشكال فيه ، إذ لو كانت البسملة للفصل بين السور لم توضع في أول الفاتحة ولم تحذف من أول براءة للعلة التي ذكرناها عنهم في هذا البحث فهي لا تتحقق إلا إذا كانت البسملة من السورة ، ورد على ذلك ما أوردناه من المعاني والحكم في بدء القرآن بها ، وما صح مرفوعا من كونها هي السبع المثاني . وأما الجواب الذي نقله الألوسي وارتضاه فلا يستغرب صدوره ولا إقراره ممن يثبت الجمع بين النقيضين المنطقيين ويفتخر بأنه يمكنه توجيه ما يعتقد بطلانه على أنه جواب عن إشكال غير وارد ، وبعبارة أخرى ليس جوابا عن إشكال إذ لا إشكال . والخلاف بين القراء في مثل السراط و الصراط ، ومسيطر ومصيطر ، وضنين ، وظنين ، ليس خلافا بين النفي والإثبات كمسألة البسملة بل هي قراءات ثابتة بالتواتر ، فأما ضنين وظنين فهما قراءتان متواترتان - كمالك وملك في الفاتحة - كتبت قراءة الضاد في مصحف أبي وهو الذي وزع في الأمصار وقرأ بها الجمهور ، وقراءة الظاء في مصحف عبد الله بن مسعود وقرأ بها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ولكل منهما معنى وليستا من قبيل تسهيل القراءة لقرب المخرج كما سيأتي في بيان الفرق بين مخرجي الحرفين قريبا ، وأما السراط والصراط ومسيطر ومصيطر فلا فرق بينهما إلا تفخيم السين وترقيقه وبكل منهما نطق بعض العرب وثبت به النص فهو من قبيل ما صح من تحقيق الهمزة و تسهيلها ، ومن الإمالة وعدمها ، فلا تنافي بين هذه القراءات فنعد إثبات إحداها نفيا لمقابلتها كما هو بديهي . على أن خط المصحف أقوى الحجج فلو فرضنا تعارض هذه القراءات لكان هو المرجح ، ولكن لا تعارض ولله الحمد . نكتفي بهذا ردا لما في كلام الألوسي وأمثاله من الخطأ ، فإن غيره لا يعنينا في موضوعنا ولا سيما ما رجحه عن إمامه وخالف فيه غيره ، وعلله بإطلاقهم عليه لقب الإمام الأعظم ، وزيادته هو عليهم لقب المجتهد الأقدم ، مع علمه بأن علماء الصحابة والتابعين أقدم منه اجتهادا ، وأن هذه الألقاب وإن صح معناها لا تقتضي عدم الخطأ ولا عدم النسيان ولا إهمال بعض المسائل المهمة . ونحن يسرنا أن يصح ما ذكره ، وأن يخطئ ما أنكره ، فإن من المصائب أن يوجد في المسلمين عالم ينكر ما ثبت في خط المصحف المتواتر كتابة ورواية . وقد نقل الرازي أن أبا حنيفة ليس له نص في المسألة ، وإنما قال : يقرأ البسملة ويسر بها ، ولم يقل إنها آية من أول السورة أم لا . (قال الرازي) : وسئل محمد بن الحسن عن بسم الله الرحمن الرحيم ؟

فقال : ما بين الدفتين كلام الله ، قال (أي السائل له) : فلم تسره ؟ قال : فلم يجبني . وقال الكرخي : لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدمي أصحابنا ، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة . وقال بعض فقهاء الحنفية : تورع أبو حنيفة وأصحابه عن الوقوع في هذه المسألة ؛ لأن الخوض في أن البسملة من القرآن أو ليست منه أمر عظيم ، فالأولى السكوت عنه ا هـ . أقول : من الخطأ البين الاستدلال بأمر بعض الفقهاء بإخفاء البسملة على كونها ليست من القرآن ، مع الإجماع على أن ما بين دفتي المصحف قرآن منزل من الله . على أن الروايات الصحيحة في الأحاديث فيها الجهر بالبسملة والإسرار ، وروايات الجهر أقوى وأبعد عن التعليل والتأويل . وصفوة القول : أن دلالة المصحف أقوى الدلالات ، ترجح على كل ما عارضها من الروايات ، ودلالتها قطعية ، تؤيدها الروايات المتواترة في إثباتها ، والإجماع العملي على قراءتها ، ولا ينافيها عدم رواية بعضهم لها . فالمسألة قطعية في نفسها ، وإنما جعلوها اجتهادية باختلاف الروايات الآحادية في قراءتها ، وقد علمت ما فيها والله الموفق للصواب . فضل الفاتحة وكونها هي السبع المثاني قال الله تعالى في سورة الحجر مخاطبا خاتم الأنبياء والمرسلين : (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) (15 : 87) وقد ثبت في الحديث الصحيح والآثار الصحيحة عن الصحابة والتابعين : أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة ، ومعنى كونها مثاني : أنها تثنى وتعاد في كل ركعة من الصلاة لفرضيتها فيها كما تقدم ، وقيل معناه : أنها يثنى فيها على الله تعالى بما أمره ، وقيل غير ذلك : فأما الحديث المرفوع في تفصيلها وكونها هي المرادة بالسبع المثاني فهو ما رواه البخاري في مواضع من صحيحه ، وأصحاب السنن عن أبي سعيد بن المعلى ، وروى نحوه مالك والترمذي والحاكم من حديث أبي هريرة . ذكر أبو سعيد بن المعلى : أن النبي - ﷺ - قال له وهما في المسجد : " لأعلمنك سورة هي أعظم السور في القرآن قبل أن نخرج من المسجد - وفي رواية : قبل أن أخرج - (قال) : أخذ بيدي فلما أراد أن يخرج قلت له : ألم تقل " لأعلمنك سورة هي أعظم سورة في القرآن ؟ " فقال : الحمد لله رب العالمين ، هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته " وفي حديث أبي هريرة أنه - ﷺ - قال لأبي بن كعب : " أتحب أن أعلمك سورة لم تنزل في التوراة ولا الإنجيل ولا في الفرقان مثلها ؟ قال أبي : ثم أخذ بيدي يحدثني وأنا أتباطأ مخافة أن يبلغ الباب قبل أن ينقضي الحديث ولما سأله عن السورة قال : " كيف نقرأ في الصلاة ؟ " فقرأت عليه أم الكتاب فقال : " إنها السبع المثاني

والقرآن العظيم الذي أوتيته " . وفيه إزالة إشكال في حديث أبي سعيد بن المعلى ، وهو أن ظاهره يوهم أنه لم يكن يعرف الفاتحة مع أنه كان يصلي في ذلك اليوم وقبله فهو من الأنصار - وقد علم من حديث أبي هريرة : أن المراد بتعليمه هذه السورة تعليمه ما فيها من الفضيلة على غيرها ، وكونها هي المرادة بآية سورة الحجر . وأما عطف القرآن على " سبعا من المثاني " فهو من عطف الكل على الجزء أو العام على الخاص ، وقيل في توجيهه غير ذلك . وقد تعلق برواية " الحمد لله رب العالمين هي السبع المثاني " من قالوا : إن البسملة ليست من الفاتحة . وعكس الآخرون قائلين : إن المراد بالجملة الأولى لفظها على أنه اسم السورة وإلا ما صح قوله : هي السبع المثاني ؛ لأنها آية واحدة ، وإنما السبع المثاني : هي آيات الفاتحة السبع ، وهي ليست سبعا إلا بالبسملة آية منها ، فكونها منها ثابت بالقرآن أي بآية سورة الحجر ، كما فسرها أعلم الناس به وهو الرسول الذي أنزله الله عليه ، وكبار أصحابه والتابعين والحديث يدل على تسميتها بالحمد لله رب العالمين ، إذ لا يصح معناه إلا بذلك . وأما الآثار فقد فصلها السيوطي في الدر المنثور ، وأجملها الحافظ في الفتح مع بيان درجة أسانيدها بقوله : وقد روى الطبري بإسنادين جيدين عن عمر ثم عن علي قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب - زاد عن عمر " تثنى في كل ركعة " " وبإسناد منقطع عن ابن مسعود مثله ، وبإسناد حسن عن ابن عباس : أنه قرأ الفاتحة ، ثم قال : (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم) قال : هي فاتحة الكتاب ، وبسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة ومن طريق جماعة من التابعين : السبع المثاني فاتحة الكتاب . ومن طريق أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال : السبع المثاني فاتحة الكتاب : قلت للربيع : إنهم يقولون : إنها السبع الطول (جمع طولى مؤنث أطول) قال : لقد أنزلت هذه الآية وما نزل من الطول شيء . ا هـ . يقول محمد رشيد : يعني أن سورة الحجر التي فيها هذه الآية قد نزلت بمكة قبل السور السبع الطول وهن : البقرة ، وآل عمران ، والنساء ، والمائدة - المدنيات - والأنعام والأعراف ، ويونس - المكيات - كذا قال بعضهم في السابعة : إنها سورة يونس ، قال آخرون : هي الأنفال ، وبراءة - وعدهما سورة واحدة - وقال بعضهم : إن الراوي نسي السابعة عن ابن عباس . والقول بأنها السبع الطول ، رواه النسائي والطبري والحاكم عن ابن عباس بإسناد قوي كما قال الحافظ . ولا حاجة إلى التفصيل فيه فإنه مردود لمخالفته للحديث الصحيح المرفوع ، ولا قول لأحد من قول الرسول - ﷺ - ، ومنه يعلم أن قوة الإسناد لا قيمة لها تجاه الدليل القوي على بطلان متن الرواية .

استدراك على تفسير المغضوب عليهم والضالين ورد في الحديث المرفوع تفسير (المغضوب عليهم) باليهود ، و (الضالين) بالنصارى ، رواه أحمد والترمذي وحسنه ابن حبان وصححه غيرهم ، ونقلنا عن شيخنا الأستاذ الإمام (ص 55) عزوه إلى بعضهم ، أي بعض المفسرين وهو يريد أن بعض المفسرين اختار أن هذا هو المعنى المراد ، وهو لم يكن يجهل أن هذا روي مرفوعا ، ولكنه كان يعلم ـ مع هذا ـ أن أكثر المفسرين فسروا اللفظين بما يدلان عليه لغة حتى بعض أهل الحديث منهم ، وكأنهم لم يروا أن الحديث صحيح ، فقد قال البغوي الملقب بمحيي السنة في تفسيره (معالم التنزيل) بعد تفسيرهما بمدلولهما اللغوي ، " قيل : المغضوب عليهم هم اليهود ، والضالون هم النصارى ؛ لأن الله تعالى حكم على اليهود بالغضب فقال : (من لعنه الله وغضب عليه) وحكم على النصارى بالضلال فقال : (ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل) وقال سهل بن عبد الله : غير المغضوب عليهم بالبدعة ، ولا الضالين عن السنة ا هـ . فعبر عن هذا القول بقيل الدال على ضعفه عنده ولم يستدل عليه بالحديث . وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره : غير صراط المغضوب عليهم ، وهم الذين فسدت إرادتهم فعلموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين ، وهم الذين فقدوا العلم ، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام بـ " لا " ليدل على أن ثم مسلكين فاسدين وهما : طريقة اليهود والنصارى . ا هـ . وبعد كلام طويل في إعراب " غير " و " لا " إنما جيئ بـ " لا " لتأكيد النفي لئلا يتوهم أنه معطوف على (الذين أنعمت عليهم) وللفرق بين الطريقتين لتجتنب كل واحدة منهما ، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل بالحق والعمل به ، واليهود فقدوا العمل والنصارى فقدوا العلم ، ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ـ واستشهد بالآيتين اللتين استشهد بهما البغوي ، ثم ذكر الحديث ورواياته وهو عند أحمد والترمذي وكذا ابن حبان من طريق سماك بن حرب عن عدي بن حاتم ، قال الترمذي ، حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديثه ، وسماك ضعفه جماعة ووثقه آخرون ، واتفقوا على أنه تغير في آخر عمره بل خرف ، فما رواه في هذه الحال فلا جدال في رده بالاتفاق ، وأخرجه

ابن مردويه عن أبي ذر أيضا بسند ، قال الحافظ في الفتح ، إنه حسن ، وقال ابن أبي حاتم : إنه لا يعرف في تفسيرهما بما ذكر خلافا يعني المأثور ، ومع هذا نقول : إن ما ذكره المحققون من الوجوه الأخرى لا يعد مخالفة للمأثور الذي هو من قبيل تفسير العام ببعض أفراده ، من قبيل التمثيل لا التخصيص ، ولا الحصر بالأولى . (التأمين بعد الفاتحة) عن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال : " إذا أمن الإمام فأمنوا فإن من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " وقال ابن شهاب : كان رسول الله - ﷺ - يقول : آمين . رواه الجماعة ، إلا أن الترمذي لم يذكر قول ابن شهاب ، وفي رواية : " إذا قال الإمام : (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقولوا : آمين ، فإن الملائكة تقول : آمين ، وإن الإمام يقول : آمين ، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه " رواه أحمد والنسائي . وعن أبي هريرة قال : " كان رسول الله - ﷺ - إذا تلا (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) قال : آمين . حتى يسمع من يليه من الصف الأول " رواه أبو داود وابن ماجه وقال : " حتى يسمعها أهل الصف الأول فيرتج بها المسجد " وعن وائل بن حجر قال : " سمعت رسول الله - ﷺ - قرأ (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) فقال : آمين . يمد بها صوته ، رواه أحمد وأبو داود والترمذي . اهـ (منتقى الأخبار) . وهذه الأحاديث كلها صحيحة وأخرجها غير من ذكر ، وزاد أبو داود في الأخير منها " ورفع بها صوته " قال الحافظ ابن حجر : وسنده صحيح ، وخطأ ابن القطان في إعلانه إياه بجهالة حجر بن عنبس وقال : إنه ثقة معروف ، قيل : إن له صحبة . وهنالك أحاديث أخرى في المسألة تبلغ مع هذه سبعة عشر حديثا ، وهذه أصحها . قال الشوكاني في نيل الأوطار عند شرح حديث أبي هريرة الأول : والحديث يدل على مشروعية التأمين . قال الحافظ : وهذا الأمر عند الجمهور للندب ، وحكى ابن بزيزة عن بعض أهل العلم وجوبه عملا بظاهر الأمر ، وأوجبته الظاهرية على كل من يصلي ، والظاهر من الحديث وجوبه على المأموم فقط ، لكن لا مطلقا بل مقيدا بأن يؤمن الإمام ، وأما الإمام والمنفرد فمندوب فقط . (قال) : وحكى المهدي في البحر عن العترة جميعا ، أن التأمين بدعة ـ وقد عرفت ثبوته عن علي - رضي الله عنه - من فعله وروايته عن النبي - ﷺ - في كتب أهل البيت وغيرهم ـ على أنه قد حكى السيد العلامة الإمام محمد بن إبراهيم الوزير عن الإمام المهدي .

محمد بن المطهر وهو أحد أئمتهم المشاهير أنه قال في كتابه (الرياض الندية) : إن رواة التأمين جم غفير ، قال : وهو مذهب زيد بن علي وأحمد بن عيسى . ا هـ . وقد استدل صاحب البحر على أن التأمين بدعة بحديث معاوية بن الحكم السلمي " إن هذه صلاتنا لا يصلح فيها شيء من كلام الناس " ولا شك أن أحاديث التأمين خاصة وهذا عام ، وإن كانت أحاديثه الواردة عن جمع من الصحابة لا يقوى بعضها على تخصيص حديث واحد من الصحابة ـ مع أنها مندرجة تحت تلك العمومات القاضية بمشروعية مطلق الدعاء في الصلاة ؛ لأن التأمين دعاء ، فليس في الصلاة تشهد ، وقد أثبته العترة ، فما هو جوابهم في إثباته فهو الجواب في إثبات ذلك . على أن المراد بكلام الناس في الحديث هو تكليمهم ؛ لأنه اسم مصدر كلم لا تكلم ويدل على ذلك السبب المذكور في الحديث . والمراد بقوله السبب المذكور في الحديث : هو أن معاوية بن الحكم السلمي شمت عاطسا في الصلاة مع النبي - ﷺ - فرماه القوم بأبصارهم فقال : وا ثكل أماه ، مالكم تنظرون إلي ؟ إلخ . وجملة القول : أن التأمين في الصلاة مشروع بنص الأحاديث الصحيحة الصريحة ، فلا وجه لمنعه بعموم أحاديث أخرى لا تنافيها ، ولو عارضتها لوجب ترجيحها عليها . واختلف في موضعه بالنسبة إلى المأموم ، هل هو بعد قول الإمام : (ولا الضالين) أم عند قوله : " آمين " ؟ وهو مبني على أن بين الحديثين في ذلك تعارضا ، وهو غفلة عن كون الإمام إنما يؤمن بعد قوله : (ولا الضالين) كما صرح به في رواية أحمد والنسائي لحديث أبي هريرة فمعنى الحديثين متفق ، وقوله - ﷺ - : " إذا أمن الإمام فأمنوا " مبني على أن من شأن الإمام أن يؤمن عقب إتمام الفاتحة اتباعا للسنة فلا مفهوم للشرط فيه . (فائدة في مخرجي الضاد والظاء وحكم تحريف الأول) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره : والصحيح من مذاهب العلماء أنه يغتفر الإخلال بتحرير ما بين الضاد والظاء لقرب مخرجيهما ، وذلك أن الضاد مخرجها من أول حافة اللسان وما يليها من الأضراس ، ومخرج الظاء من طرف اللسان وأطراف الثنايا العليا ، ولأن كلا من الحرفين من الحروف المجهورة ومن الحروف الرخوة ومن الحروف المطبقة ، فلهذا كله اغتفر استعمال أحدهما مكان الآخر لمن لا يميز ذلك ، والله أعلم . وأما الحديث : " أنا أفصح من نطق بالضاد " فلا أصل له . ا هـ . وأقول : إن أكثر أهل الأمصار العربية قد أرادوا الفرار من جعل الضاد ظاء ، كما يفعل الترك وغيرهم من الأعاجم ، فجعلوها أقرب إلى الطاء منها إلى الضاد حتى القراء المجودون منهم ،

إلا أهل العراق وأهل تونس فهم على ما نعلم أفصح أهل الأمصار نطقا بالضاد ، وإننا نجد أعراب الشام وما حولها ينطقون بالضاد فيحسبها السامع ظاء لشدة قربها منها وشبهها بها . وهذا هو المحفوظ عن فصحاء العرب الأولين حتى اشتبه نقلة العربية عنهم في مفردات كثيرة قالوا : إنها سمعت بالحرفين وجمعها بعضهم في مصنف مستقل ، والأشبه أنه قد اشتبه عليهم أداؤها منهم فلم يفرقوا ، والفرق ظاهر ولكنه غير بعيد . وقد قرئ قوله تعالى في سورة التكوير : (وما هو على الغيب بضنين) بكل من الضاد والظاء ، والضنين : البخيل ، والظنين : المتهم ، وفائدتهما نفي كل من البخل والتهمة . والمعنى : ما هو ببخيل في تبليغه فيكتم ، ولا بمتهم فيكذب ، قال في الكشاف : وهو في مصحف عبد الله بالظاء ، وفي مصحف أبي بالضاد ، وكان رسول الله - ﷺ - يقرأ بهما . وإتقان الفصل بين الضاد والظاء واجب ، ومعرفة مخرجيهما مما لا بد منه للقارئ ، فإن أكثر العجم لا يفرقون بين الحرفين ، وإن فرقوا ففرقا غير صواب وبينهما بون بعيد ، فإن مخرج الضاد من أصل حافة اللسان وما يليها من الأضراس من يمين اللسان ويساره ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أضبط : يعمل بكلتا يديه ، وكان يخرج الضاد من جانبي لسانه ، وهي أحد الأحرف الشجرية أخت الجيم والشين ، وأما الظاء فمخرجها من طرف اللسان وأصول الثنايا العليا . وهي أحد الأحرف الذولقية ، أخت الذال والثاء ، ولو استوى الحرفان لما ثبتت في هذه الكلمة قراءتان اثنتان ، واختلاف بين جبلين من جبال العلم والقراءة . ولما اختلف المعنى والاشتقاق والتركيب . ا هـ . وأقول : صدق أبو القاسم الزمخشري في تحقيقه هذا كله إلا قوله : إن البون بين الحرفين بعيد ، فالفرق ثابت ولكنه قريب ، وهو يحصل بإخراج طرف اللسان بالظاء بين الثنايا كأختيه الثاء والذال ، ولا شركة بينه وبينهما إلا في هذا . (التوسع في الاستنباط من معنى الفاتحة) إن ما أوردناه في تفسير الفاتحة من تلخيص لما فهمناه من دروس شيخنا ومما قرأناه في الكتب ، ثم ما زدناه عليه في أصله وفي هذه الفوائد الزوائد ، فالغرض منه التفقه في معاني القرآن والاهتداء به ، وقد اقتصدنا فيه ، فاقتصرنا على ما لا يشغل القارئ عن المقصد ، وقد أطال الفخر الرازي في استطرادات عديدة ، ومسائل مستنبطة من لوازم للمعاني قريبة أو بعيدة ، ولكنها تشغل مريد الاهتداء بالقرآن ، وأطال ابن القيم في أول كتابه " مدارج السالكين " القول في استنباط المسائل منها من طريق الدلالات الثلاثة : المطابقة ، والتضمن ، والالتزام ، وأخذ في الثالثة باللزوم البين بالمعنى الأعم وبالمعنى الأخص باللزوم غير البين أيضا ، بل سمى كتابه " مدارج السالكين ، بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " وأجمل ذلك .

بقوله : في خطبة الكتاب ، إنه ينبه " على بعض ما تضمنته هذه السورة من هذه المطالب ، وما تضمنته من الرد على جميع طوائف أهل البدع والضلال ، وما تضمنته من : منازل السائرين ، ومقامات العارفين ، والفرق بين وسائلها وغاياتها ، ومواهبها وكسبياتها ، وبيان أنه لا يقوم غير هذه السورة مقامها ولا يسد مسدها ، ولذلك لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في القرآن مثلها " ا هـ . ومما ذكره في تفصيل ذلك : فصول في الرد على أهل الوحدة ، والمجوس ، والقدرية ، والجهمية ، والجبرية ، ومنكري النبوات ، والقائلين بقدم العالم . والفرق بين هذه المستنبطات ، ومستنبطات الرازي : أن أكثر تلك في المصطلحات العربية والعقلية والكلامية والفقهية ، وأكثر هذه في المقاصد الروحية التعبدية لتلك المصطلحات والعلوم ، فهي تزيد قارئها دينا وإيمانا وتقوى ، ولكن لا يصح أن يسمى شيء منهما تفسيرا للفاتحة ، ولو كنا نعده تفسيرا لاقتبسناه أو لخصناه في هذه الفوائد . وللصوفية منازع فيها أبعد عن اللغة والنقل والعقل من كل ذلك ، جرأت مثل الدجال ميرزا غلام أحمد القادياني ، الذي ادعى النبوة والوحي في هذا العصر ، وزعم أنه المسيح الذي ينتظره أهل الملل في آخر الزمان - جرأته على ادعاء دلالة البسملة على دعواه الباطلة ! ! وقد فندنا شبهة أمثال هؤلاء في تفسير قوله تعالى : (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (6 : 38) . وقد ذهب بعض المعاصرين مذهبا أبعد من هذا وذاك في تفسير الفاتحة وغيرها من القرآن ، فهو يرى أن تفسير لفظ العالمين ـ مثلا ـ يقتضي بيان كل ما وصل إليه علم البشر من مدلول هذا اللفظ ، وأن تفسير لفظي (الرحمن) و (الرحيم) يقتضي بيان كل ما يعرف من نعم الله وإحسانه بخلقه وإلى خلقه من كل وجه ، فاتباع هذا المذهب في تفسير الفاتحة أو آية أو كلمة منها لا يكمل إلا بكتابة ألوف من المجلدات يدون فيها كل ما وصل إليه علم جميع علماء الأرض في أعيان العالم ، وصفاتها وأحوالها من أدنى الحشرات إلى أرقى البشر من حكماء الصديقين ، والأنبياء المرسلين ، وإن عد مثل هذا من التفسير إضلال عن القرآن ، وإنما يحسن في التفسير تذكير المؤمن بألا يغفل عن ذكر الله والتفكر في آياته ورحمته ونعمه في كل نوع من مخلوقاته ، عند النظر فيها ، والتفكر في آيات الله الدالة عليها . ونزع بعض الدجالين والمخرفين منزعا آخر سبقهم إليه اليهود ، وهو استنباط المعاني من أعداد حروف الهجاء بحساب الجمل ، قال بعضهم : إن القرآن يدل على قيام الساعة سيكون في سنة 1407 للهجرة ، وهو عدد حروف " بغتة " من قوله تعالى : (لا تأتيكم إلا بغتة) ولهؤلاء في الحروف المقطعة في أوائل السور وفي أعدادها ضلالات لا نضيع الوقت بكتابتها ، فلدلالة الألفاظ على المعاني طرق في اللغة لا تخرج عنها ، وليس هذا منها .

ما ينبغي تدبره واستحضاره من معاني الفاتحة وغيرها في الصلاة إذا قمت أيها المسلم إلى الصلاة فوجه كل قلبك فيها إلى استحضار كل ما يتحرك به لسانك من ذكر وتلاوة . فإذا قلت : " الله أكبر " فحسبك أن تذكر في قلبك أن الله تعالى أعظم من كل عظيم ، وأكبر من كل شيء ، فلا يصح أن يشغلك عن الصلاة له أو فيها شيء دونه ، وكل شيء دونه . وإذا قرأت ما ورد في ذكر الافتتاح فلا تشغل نفسك بغير معناه وهو ظاهر ، وإذا استعذت بالله تعالى قبل القراءة عملا بعموم قوله تعالى : (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم) (16 :98) فتصور من معنى صيغة الاستعاذة أنك تلجأ إلى الله تعالى وتعتصم به من وسوسة الشيطان الشاغلة عن الصلاة وما يجب فيها من التدبر لكتابه والخشوع والإخلاص له تعالى . وإذا قرأت البسملة فاستحضر من معناها :إنني أصلي (بسم الله) ولله الذي شرع الصلاة وأقدرني عليها (الرحمن الرحيم) ذي الرحمة العامة التي وسعت كل شيء والخاصة بمن شاء من عباده المخلصين . وإذا قلت : (الحمد لله رب العالمين) فاستحضر من معناها أن كل ثناء جميل بالحق فهو لله تعالى استحقاقا وفعلا ، من حيث إنه الرب خالق العالمين ومدبر جميع أمورهم (الرحمن) في نفسه (الرحيم) بخلقه (مالك يوم الدين) ذي الملك والتصرف دون غيره يوم محاسبة الخلق ومجازاتهم بأعمالهم فلا يرجى غيره ، وإذا قلت : (إياك نعبد) إلخ فتذكر أنك تخاطب هذا الرب العظيم كفاحا بما يجب أن تكون صادقا فيه ، ومعناه نعبدك وحدك دون سواك بدعائك والتوجه إليك (وإياك نستعين) نطلب معونتك وحدك على عبادتك وعلى جميع شئوننا ، بالعلم بما أعطيتنا من الأسباب ، وبالتوكل عليك وحدك عند العجز عنها (اهدنا الصراط المستقيم) دلنا وأوصلنا بتوفيقك ومعونتك إلى طريق الحق في العلم والعمل ، الذي لا عوج فيه ولا زلل (صراط الذين أنعمت عليهم) بالإيمان الصحيح والعمل الصالح وثمرتهما وهي سعادة الدارين ، وتذكر إجمالا أولئك المنعم عليهم " من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين " وأن حظك من هذه الهداية لصراطهم إنما يكون بالتأسي والاقتداء بهم في الدنيا ، ومرافقتهم في الآخرة ، وحسن أولئك رفيقا " (صراط الذين أنعمت عليهم) فضلا وإحسانا منك (غير المغضوب عليهم) بإيثارهم الباطل على الحق ، وترجيحهم

الشر على الخير (ولا الضالين) عن طريق الحق والخير بجهلهم (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) . وأنصح لك أيها التالي للقرآن في الصلاة وفي غير الصلاة ، أن تقرأه على مكث وتمهل ، بخشوع وتدبر ، وأن تقف على رءوس الآيات ، وتعطي القراءة حقها من التجويد والنغمات ، مع اجتناب التكلف والتطريب ، واتقاء الاشتغال بالألفاظ عن المعاني ، فإن قراءة آية واحدة مع التدبر والخشوع ، خير لك من قراءة ختمة مع الغفلة ، ومن المجربات : أن تغميض العينين في الصلاة يثير الخواطر ، ولذلك كان مكروها ، وأن رفع الصوت المعتدل في الصلاة الجهرية ولا سيما صلاة الليل يطرد الغفلة ، ويوقظ راقد الخشية ، وإعطاء كل أسلوب حقه من الأداء والصوت يعين على الفهم ، ويستفيض ما غاض بطول الغفلة من شآبيب الدمع . (راجع بحث تأثير التلاوة في أول تفسير سورة الأعراف في الكلام على الحروف المفردة)