الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة عبس

{ عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } * { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } * { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } * { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } * { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } * { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } * { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } * { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } * { وَهُوَ يَخْشَىٰ } * { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } * { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } * { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } * { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } * { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } * { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } * { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ } * { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } * { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } * { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } * { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } * { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } * { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } * { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً } * { ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } * { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً } * { وَعِنَباً وَقَضْباً } * { وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً } * { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } * { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } * { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } * { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلصَّآخَّةُ } * { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } * { وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } * { وَصَاحِبَتِهُ وَبَنِيهِ } * { لِكُلِّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } * { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ } * { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } * { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } * { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } * { أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ } تصدّى: تعرّض، قال الراعي:

تصدى لو ضاح كأن جبينه     سراج الدجى يجيء إليه الأساور

وأصله: تصدّد من الصدد، وهو ما استقبلك وصار قبالتك، يقال: داري صدد داره:أي قبالتها. وقيل: من الصدى، وهو العطش. وقيل: من الصدى، وهو الصوت الذي تسمعه إذا تكلمت من بعد في خلاءكالجبل، والمصاداة: المعارضة. السفرة: الكتبة، الواحد سافر، وسفرت المرأة: كشفت النقاب، وسفرت بين القوم أسفر سفارة: أصلحت بينهم، قاله الفراء،الواحد سفير، والجمع سفراء. قال الشاعر:

فما أدع السفارة بين قومي     وما أسعى بغش إن مشيت

القضب، قال الخليل، الفصفصة الرطبة، ويقال بالسين، فإذا يبست فهي القت. قال: والقضب اسم يقع على ما يقعمن أغصان الشجرة ليتخذ منها سهام أو قسي. الغلب جمع غلباء، يقال: حديقة غلباء: غليظة الشجر ملتفة، واغلولب العشب: بلغوالتف بعضه ببعض، ورجل أغلب: غليظ الرقبة، والأصل في هذا الوصف استعماله في الرقاب، ومنه قول عمرو بن معدي كرب:

يسعى بها غلب الرقاب كأنهم     بزل كسين من الشعور جلالا

الأبّ: المرعى لأنه يؤبّ،أي يؤم وينتجع، والأبّ والأم أخوان. قال الشاعر:

جذمنا قيس ونجد دارنا     ولنا الأبّ به والمكرع

وقيل: ما يأكله الآدميون من النبات يسمى الحصيد، وما أكله غيرهم يسمى الأب، ومنه قول الصحابةيمدح رسول الله ﷺ:

له دعوة ميمونة ريحها الصبا     بها ينبت الله الحصيدة والأبا

الصاخة، قال الخليل: صيحة تصخ الآذان صخاً، أي تصمها لشدة وقعتها. وقيل: مأخوذة من صخه بالحجر إذاصكه. وقال الزمخشري: أصاخ لحديثه مثل أصاخ له. الغبرة: الغبار. القترة: سواد كالدخان. وقال أبو عبيدة: القتر في كلام العرب:الغبار، جمع القترة. وقال الفرزدق:

متوّج برداء الملك يتبعه     فوج ترى فوقه الرايات والقترا

{عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءهُ ٱلاْعْمَىٰ * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذّكْرَىٰ * أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ* فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ * فَأَنتَ عَنْهُتَلَهَّىٰ * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَاء ذَكَرَهُ * فَى صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِى سَفَرَةٍ *كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ ٱلسَّبِيلَيَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَـٰنُ إِلَىٰطَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلاْرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناًوَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَـٰكِهَةً وَأَبّاً * مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَـٰمِكُمْ * فَإِذَا جَاءتِ ٱلصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْء مِنْأَخِيهِ * وَأُمّهِ وَأَبِيهِ * وَصَـٰحِبَتِهُ وَبَنِيهِ * لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَـٰحِكَةٌمُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَـئِكَ هُمُ ٱلْكَفَرَةُ ٱلْفَجَرَةُ }. هذه السورة مكية. وسببنزولها مجيء ابن أم مكتوم إليه/ ﷺ، وقد ذكر أهل الحديث وأهل التفسير قصته. ومناسبتها لما قبلها:أنه لما ذكر { إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا } ، ذكر في هذه من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار، وهمالذين كان رسول الله ﷺ يناجيهم في أمر الإسلام: عتبة بن ربيعة وأبو جهل وأبي وأمية، ويدعوهمإليه. {أَن جَاءهُ }: مفعول من أجله، أي لأن جاءه، ويتعلق بتولى على مختار البصريين في الأعمال، وبعبس علىمختار أهل الكوفة. وقرأ الجمهور؛ {عَبَسَ } مخففاً، {ءانٍ } بهمزة واحدة؛ وزيد بن علي: بشد الباء؛ وهو والحسن وأبوعمران الجوني وعيسى: أآن بهمزة ومدة بعدها؛ وبعض القراء: بهمزتين محققتين، والهمزة في هاتين القراءتين للاستفهام، وفيهما يقف على تولى.والمعنى: ألأن جاءه كاد كذا. وجاء بضمير الغائب في {عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } إجلالاً له عليه الصلاة والسلام، ولطفاً به أنيخاطبه لما في المشافهة بتاء الخطاب مما لا يخفى. وجاء لفظ {ٱلاْعْمَىٰ } إشعاراً بما يناسب من الرفق به والصغولما يقصده، ولابن عطية هنا كلام أضربت عنه صفحاً. والضمير في {لَعَلَّهُ } عائد على {ٱلاْعْمَىٰ }، أي يتطهر بمايتلقن من العلم، أو {يُذْكَرِ }: أي يتعظ، {فَتَنفَعَهُ } ذكراك، أي موعظتك. والظاهر مصب {يُدْرِيكَ } على جملة الترجي،فالمعنى: لا تدري ما هو مترجى منه من تزك أو تذكر. وقيل: المعنى وما يطلعك على أمره وعقبى حاله.ثم ابتدأ القول: {لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ }: أي تنمو بركته ويتطهر لله. وقال الزمخشري: وقيل: الضمير في {لَعَلَّهُ } للكافر، يعنيأنك طمعت في أن يتزكى بالإسلام، أو يذكر فتقر به الذكرى إلى قبول الحق، وما يدريك أن ما طمعت فيهكائن. انتهى. وهذا قول ينزه عنه حمل القرآن عليه. وقرأ الجمهور: {أَوْ يَذَّكَّرُ } بشد الذال والكاف، وأصله يتذكر فأدغم؛والأعرج وعاصم في رواية: أو يذكر، بسكون الذال وضم الكاف. وقرأ الجمهور: {فَتَنفَعَهُ }، برفع العين عطفاً على {أَوْ يَذَّكَّرُ}؛ وعاصم في المشهور، والأعرج وأبو حيوة أبي عبلة والزعفراني: بنصبهما. قال ابن عطية: في جواب التمني، لأن قوله: {أَوْيَذَّكَّرُ } في حكم قوله {لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ }. انتهى. وهذا ليس تمنياً، إنما هو ترج وفرق بين الترجي والتمني. وقالالزمخشري: وبالنصب جواباً للعل، كقوله: { فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِ مُوسَىٰ } . انتهى. والترجي عند البصريين لا جواب له، فينصب بإضمار أنبعد الفاء. وأما الكوفيون فيقولون: ينصب في جواب الترجي، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك في قوله: {فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَـٰهِمُوسَىٰ } في قراءة حفص، ووجهنا مذهب البصريين في نصب المضارع. {أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ }: ظاهره من كان ذاثروة وغنى. وقال الكلبي: عن الله. وقيل: عن الإيمان بالله. قيل: وكونه بمعنى الثروة لا يليق بمنصب النبوة، ويدل علىذلك أنه لو كان من الثروة لكان المقابل: وأما من جاءك فقيراً حقيراً. وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة والأعرج وعيسىوالأعمش وجمهور السبعة: {تَصَدَّىٰ } بخف الصاد، وأصله يتصدى فحذف؛ والحرميان: بشدها، أدغم التاء في الصاد؛ وأبو جعفر: تصدى، بضمالتاء وتخفيف الصاد، أي يصدك حرصك على إسلامه. يقال: تصدى الرجل وصديته، وهذا المستغنى هو الوليد، أو أمية، أو عتبةوشيبة، أو أمية وجميع المذكورين في سبب النزول، أقوال. قال القرطبي: وهذا كله غلط من المفسرين، لأنه أمية والوليد كانابمكة، وابن أم مكتوم كان بالمدينة ما حضر معهما، وماتا كافرين، أحدهما قبل الهجرة والآخر في بدر، ولم يقصد قطأمية المدينة، ولا حضر معه مفرداً ولا مع أحد. انتهى. والغلط من القرطبي، كيف ينفي حضور ابن أم مكتوم معهما؟وهو وهم منه، وكلهم من قريش، وكان ابن أم مكتوم بها: والسورة كلها مكية بالإجماع. وكيف يقول: وابن أم مكتومبالمدينة؟ كان أولاً بمكة، ثم هاجر إلى المدينة، وكانوا جميعهم بمكة حين نزول هذه الآية. وابن أم مكتوم هو عبدالله بن سرح بن مالك بن ربيعة الفهري، من بني عامر بن لؤي، وأم مكتوم أم أبيه عاتكة، وهو ابنخال خديجة رضي الله عنها. {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ }: تحقير لأمر الكافر وحض على الإعراض عنه وترك الاهتمامبه، أي: وأي شيء عليك في كونه لا يفلح ولا يتطهر من دنس الكفر؟ {وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَىٰ }: أييمشي بسرعة في أمر دينه، {وَهُوَ }: أي يخاف الله، أو يخاف الكفار وأذاهم، أو يخاف العثار والسقوط لكونه أعمى،وقد جاء بلا قائد يقوده. {عَنْهُ تَلَهَّىٰ }: تشتغل، يقال: لها عن الشيء يلهى، إذا اشتغل عنه. قيل: وليس مناللهو الذي هو من ذوات الواو. انتهى. ويمكن أن يكون منه، لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو وتنقلبواوه ياء لكسرة ما قبلها، نحو: شقي يشقى، فإن كان مصدره جاء بالياء، فيكون من مادة غير مادة اللهو. وقرأالجمهور: {تَلَهَّىٰ }؛ والبزي عن ابن كثير: عنه وتلهى، بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل؛ وأبو جعفر: بضمها مبنياً للمفعول،أي يشغلك دعاء الكافر للإسلام؛ وطلحة: بتاءين؛ وعنه بتاء واحدة وسكون اللام. {كَلاَّ إِنَّهَا }: أي سورة القرآن والآيات،{تَذْكِرَةٌ }: عظة ينتفع بها. {فَمَن شَاء ذَكَرَهُ }: أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره، أتى بالضمير مذكراًلأن التذكرة هي الذكر، وهي جملة معترضة تتضمن الوعد والوعيد، { فَمَن شَاء ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبّهِ سَبِيلاً } ، واعترضت بين تذكرةوبين صفته، أي تذكرة: كائنة. {فَى صُحُفٍ }، قيل: اللوح المحفوظ، وقيل: صحف الأولياء المنزلة، وقيل: صحف المسلمين، فيكون إخباراًبمغيب، إذ لم يكتب القرآن في صحف زمان، كونه عليه السلام بمكة ينزل عليه القرآن، مكرمة عند الله، ومرفوعة فيالسماء السابعة، قاله يحيـى بن سلام، أو مرفوعة عن الشبه والتناقض، أو مرفوعة المقدار. {مُّطَهَّرَةٍ }: أي منزهة عن كلدنس، قاله الحسن. وقال أيضاً: مطهرة من أن تنزل على المشركين. وقال الزمخشري: منزهة عن أيدي الشياطين، لا تمسها إلاأيدي ملائكة مطهرة. {سَفَرَةٍ }: كتبة ينسخون الكتب من اللوح المحفوظ. انتهى. {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ }، قال ابن عباس: هم الملائكةلأنهم كتبة. وقال أيضاً: لأنهم يسفرون بين الله تعالى وأنبيائه. وقال قتادة: هم القراء، وواحد السفرة سافر. وقال وهب: همالصحابة، لأن بعضهم يسفر إلى بعض في الخير والتعليم والعلم. {قُتِلَ ٱلإِنسَـٰنُ مَا أَكْفَرَهُ }، قيل: نزلت في عتبةبن أبي لهب، غاضب أباه فأسلم، ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالاً وجهزه إلى الشام، فبعث إلى رسول الله صلى اللهعليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى. وروي أنه ﷺ قال: اللهم ابعث عليه كلبك يأكله .فلما انتهى إلى الغاضرة ذكر الدعاء، فجعل لمن معه ألف دينار إن أصبح حياً، فجعلوه وسط الرفقة والمتاع حوله. فأقبلالأسد إلى الرجال ووثب، فإذا هو فوقه فمزقه، فكان أبوه يندبه ويبكي عليه، وقال: ما قال محمد شيئاً قط إلاكان، والآية، وإن نزلت في مخصوص، فالإنسان يراد به الكافر. وقتل دعاء عليه، والقتل أعظم شدائد الدنيا. {مَا أَكْفَرَهُ }،الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره، والتعجب بالنسبة للمخلوقين، إذ هو مستحيل في حق الله تعالى، أي هو ممن يقالفيه ما أكفره. وقيل: ما استفهام توقيف، أي: أي شيء أكفره؟ أي جعله كافراً، بمعنى لأي شيء يسوغ له أنيكفر. {مِنْ أَىّ شَىْء خَلَقَهُ }: استفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه. ثم بين ذلك الشيءالذي خلق منه فقال: {مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ }: أي فهيأه لما يصلح له. وقال ابن عباس: أي في بطنأمه، وعنه قدر أعضاءه، وحسناً ودميماً وقصيراً وطويلاً وشقياً وسعيداً. وقيل: من حال إلى حال، نطفة ثم علقة، إلى أنتم خلقه. {ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ }: أي ثم يسر السبيل، أي سهل. قال ابن عباس وقتادة وأبو صالح والسدي: سبيلالنظر القويم المؤدي إلى الإيمان، وتيسيره له هو هبة العقل. وقال مجاهد والحسن وعطاء وابن عباس في رواية أبي صالحعنه: السبيل العام اسم الجنس في هدى وضلال، أي يسر قوماً لهذا، كقوله: { إِنَّا هَدَيْنَـٰهُ ٱلسَّبِيلَ } الآية، وقوله تعالى: { وَهَدَيْنَـٰهُ ٱلنَّجْدَينِ } ؛ وعن ابن عباس: يسره للخروج من بطن أمه. {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ }: أي جعل له قبراً صيانةلجسده أن يأكله الطير والسباع. قبره: ذفنه، وأقبره: صيره بحيث يقبر وجعل له قبراً، والقابر: الدافن بيده. قال الأعشى:

لو أسندت ميتاً إلى قبرها     عاش ولم ينقل إلى قابر

{ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ }:أي إذا أراد إنشاره أنشره، والمعنى: إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله، وهو يوم القيامة. وفي كتاب اللوامح شعيببن الحبحاب: شاء نشره، بغير همز قبل النون، وهما لغتان في الأحياء؛ وفي كتاب ابن عطية: وقرأ شعيب بن أبيحمزة: شاء نشره. {كَلاَّ }: ردع للإنسان عن ما هو فيه من الكفر والطغيان. {لَمَّا يَقْضِ }: يفي من أولمدة تكليفه إلى حين إقباره، {مَا أَمَرَهُ } به الله تعالى، فالضمير في يقض للإنسان. وقال ابن فورك: لله تعالى،أي لم يقض الله لهذا الكافر ما أمره به من الإيمان، بل أمره بما لم يقض له. ولما عدّد تعالىنعمه في نفس الإنسان، ذكر النعم فيما به قوام حياته، وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامهحتى صار بصدد أن يطعم. والظاهر أن الطعام هو المطعوم، وكيف ييسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة من صب الماءوشق الأرض والإنبات، وهذا قول الجمهور. وقال أبيّ وابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: {إِلَىٰ طَعَامِهِ }: أي إذا صار رجيعاًليتأمل عاقبة الدنيا على أي شيء يتفانى أهلها. وقرأ الجمهور: إنا بكسر الهمزة؛ والأعرج وابن وثاب والأعمش والكوفيون ورويس: {أَنَاْ} بفتح الهمزة؛ والحسين بن عليّ رضي الله تعالى عنهما: أني بفتح الهمزة مما لا؛ فالكسر على الاستئناف في ذكرتعداد الوصول إلى الطعام، والفتح قالوا على البدل، ورده قوم، لأن الثاني ليس الأول. قيل: وليس كما ردوا لأن المعنى:فلينظر الإنسان إلى إنعامنا في طعامه، فترتب البدل وصح. انتهى. كأنهم جعلوه بدل كل من كل، والذي يظهر أنه بدلالاشتمال. وقراءة أبي ممالا على معنى: فلينظر الإنسان كيف صببنا. وأسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب،وصب الماء هو المطر. والظاهر أن الشق كناية عن شق الفلاح بما جرت العادة أن يشق به. وقيل: شق الأرضهو بالنبات. {حَبّاً }: يشمل ما يسمى حباً من حنطة وشعير وذرة وسلت وعدس وغير ذلك. {وَقَضْباً }، قال الحسن:العلف، وأهل مكة يسمون القت القضب. وقيل: الفصفصة، وضعف لأنه داخل في الأب. وقيل: ما يقضب ليأكله ابن آدم غضاًمن النبات، كالبقول والهليون. وقال ابن عباس: هو الرطب، لأنه يقضب من النخل، ولأنه ذكر العنب قبله. {غُلْباً }، قالابن عباس: غلاظاً، وعنه: طوالاً؛ وعن قتادة وابن زيد: كراماً؛ {وَفَـٰكِهَةٍ }: ما يأكله الناس من ثمر الشجر، كالخوخ والتين؛{وَأَبّاً }: ما تأكله البهائم من العشب. وقال الضحاك: التبن خاصة. وقال الكلبي: كل نبات سوى الفاكهة رطبها، والأب: يابسها.{ٱلصَّاخَّةُ }: اسم من أسماء القيامة يصم نبأها الآذان، تقول العرب: صختهم الصاخة ونابتهم النائبة، أي الداهية. وقال أبو بكربن العربي: الصاخة هي التي تورث الصمم، وأنها لمسمعة، وهذا من بديع الفصاحة، كقوله:

أصمهم سرّهم أيام فرقتهم     فهل سمعتم بسرّ يورث الصمما

وقول الآخر:

أصـم بـك الناعـي وإن كـان أسمعـا    

ولعمر الله إنصيحة القيامة مسمعه تصم عن الدنيا وتسمع أمور الآخرة. انتهى. {يَوْمَ يَفِرُّ }: بدل من إذا، وجواب إذا محذوف تقديره:اشتغل كل إنسان بنفسه، يدل عليه: {لِكُلّ ٱمْرِىء مّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ }، وفراره من شدّة الهول يوم القيامة، كماجاء من قول الرسل: «نفسي نفسي». وقيل: خوف التبعات، لأن الملابسة تقتضي المطالبة. يقول الأخ: لم تواسني بمالك، والأبوان قصرتفي برنا، والصحابة أطمتني الحرام وفعلت وصنعت، والبنون لم تعلمنا وترشدنا. وقرأ الجمهور: {يُغْنِيهِ }: أي عن النظر في شأنالآخر من الإغناء؛ والزهري وابن محيصن وابن أبي عبلة وحميد وابن السميقع: يعنيه بفتح الياء والعين المهملة، من قولهم: عنانيالأمر: قصدني. {مُّسْفِرَةٌ }: مضيئة، من أسفر الصبح: أضاء، و{تَرْهَقُهَا }: تغشاها، {قَتَرَةٌ }: أي غبار. والأولى ما يغشاه منالعبوس عند الهم، والثانية من غبار الأرض. وقيل: {غَبَرَةٌ }: أي من تراب الأرض، وقترة: سواد كالدخان. وقال زيد بنأسلم: الغبرة: ما انحطت إلى الأرض، والقترة: ما ارتفعت إلى السماء. وقرأ الجمهور: قترة، بفتح التاء؛ وابن أبي عبلة: بإسكانها.