الرئيسيةبحث

تفسير البحر المحيط أبي حيان الغرناطي/سورة النجم

{ وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ } * { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ } * { وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } * { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ } * { عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ } * { ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ } * { وَهُوَ بِٱلأُفُقِ ٱلأَعْلَىٰ } * { ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ } * { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } * { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } * { مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } * { أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ } * { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ } * { عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ } * { عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ } * { إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ } * { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } * { لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ ٱلْكُبْرَىٰ } * { أَفَرَأَيْتُمُ ٱللاَّتَ وَٱلْعُزَّىٰ } * { وَمَنَاةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلأُخْرَىٰ } * { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ } * { تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } * { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلأَنفُسُ وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ ٱلْهُدَىٰ } * { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } * { فَلِلَّهِ ٱلآخِرَةُ وٱلأُولَىٰ } * { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَآءُ وَيَرْضَىٰ } * { إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلاَئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلأُنْثَىٰ } * { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ ٱلْحَقِّ شَيْئاً } * { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ } * { وَلِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى } * { ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ ٱلإِثْمِ وَٱلْفَوَاحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ ٱلأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلاَ تُزَكُّوۤاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱتَّقَىٰ } * { أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِي تَوَلَّىٰ } * { وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ } * { أَعِندَهُ عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ } * { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَىٰ } * { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } * { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ } * { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ } * { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ } * { ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَآءَ ٱلأَوْفَىٰ } * { وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ } * { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ } * { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } * { وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } * { مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ } * { وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُخْرَىٰ } * { وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ } * { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشِّعْرَىٰ } * { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } * { وَثَمُودَ فَمَآ أَبْقَىٰ } * { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ } * { وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ } * { فَغَشَّاهَا مَا غَشَّىٰ } * { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكَ تَتَمَارَىٰ } * { هَـٰذَا نَذِيرٌ مِّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلأُوْلَىٰ } * { أَزِفَتِ ٱلآزِفَةُ } * { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ } * { أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ } * { وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ } * { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } * { فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ } المرّة: القوة من أمررت الحبل، إذا أحكمت فتله. وقال قطرب: تقول العرب لكلجزل الرأي خصيف العقل إنه لذو مرّة، قال:

وإني لذو مرّة مرّة     إذا ركبت خالة خالها

تدلى العذق تدلياً: امتد من علو إلى جهة السفل، فيستعمل في القرب من العلو، قاله الفراءوابن الأعرابي. قال أسامة الهذلي:

تدلى علينا وهو زرق حمامة     إذا طحلب في منتهى القيظ هامد

القاب والقيب، والقّادة والقيد: المقدار. القوس معروف وهو: آلة لرمي السهام، وتختلف أشكاله. السدرة: شجرة النبق. الضيزى: الجائرة من ضازهيضيزه إذا ضامه. قال الشاعر:

ضازت بنو أسد بحكمهم     إذ يجعلون الرأس كالذنب

وأصلها ضوزى على وزن فعلى، نحو: حبلى وأنثى وريا، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء، ولا يوجد فعلىبكسر الفاء في الصفات، كذا قال سيبويه. وحكى ثعلب: مشية جبكى، ورجل كيصى. وحكى غيره: امرأة عزمى، وامرأة سعلى؛ والمعروف:عزماة وسعلاة. وقال الكسائي: ضاز يضيز ضيزى، وضاز يضوز ضوزى، وضأز يضأز ضأزاً. اللمم: ما قل وصغر، ومنه اللمم: المسمن الجنون، وألمّ بالمكان: قل لبثه فيه، وألمّ بالطعام: قل أكله منه. وقال المبرد: أصل اللمم أن يلم بالشيء منغير أن يركبه، يقال: ألم بكذا، إذا قاربه ولم يخالطه. وقال الأزهري: العرب تستعمل الإلمام في المقاربة والدنو، يقال: ألميفعل كذا، بمعنى: كاد يفعل. قال جرير:

بنفسي من تجنيه عزيز     عليّ ومن زيارته لمام

وقال آخر:

لقــاء أخــلاء الصفــا لمــام    

الأجنة: جمع جنين، وهو الولد في البطن، سمي بذلك لاستتاره، والاجتنان:الاستتار. أكدى: أصله من الكدية، يقال لمن حفر بئراً ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيها حفر: قد أكدى،ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئاً فلم يبلغ آخره. قال الحطيئة:

فأعطى قليلاً ثم أكدى عطاءه     ومن يبذل المعروف في الناس يحمد

وقال الكسائي وغيره: أكدى الحافر، إذا بلغ كدية أو جبلاًولا يمكنه أن يحفر، وحفر فأكدى: إذا وصل إلى الصلب، ويقال: كديت أصابعه إذا كلت من الحفر، وكدا البيت: قلّريعه. وقال أبو زيد: أكدى الرجل: قلّ خيره. أقنى، قال الجوهري: قنى يقنى قنى، كغنى يغنى غنى، ويتعدّى بتغيير الحركة،فتقول: قنيت المال: أي كسبته، نحو شترت عين الرجل وشترها الله، ثم تعدى بعد ذلك بالهمزة أو التضعيف، فتقول: أقناهالله مالاً، وقناه الله مالاً، وقال الشاعر:

كم من غني أصاب الدهر ثروته     ومن فقير تقنى بعد الإقلال

أي: تقنى المال، ويقال: أقناه الله مالاً، وأرضاه من القنية. قال أبو زيد: تقول العرب لمن أعطى مائةمن المعز: أعطى القنى، ومن أعطى مائة من الضأن: أعطى الغنى، ومن أعطى مائة من الإبل: أعطى المنى. الشعرى: هوالكوكب المضيء الذي يطلع بعد الجوزاء، وطلوعه في شدة الحر، ويقال له: مرزم الجوزاء، وهما الشعريان: العبور التي في الجوزاء،والشعرى الغميصاء التي في الذراع، وتزعم العرب أنهما أختا سهيل. قال الزمخشري: وتسمى كلب الجبار، وهما شعريان: الغميصاء والعبور، ومنكذب العرب أن سهيلاً والشعرى كانا زوجين فانحدر سهيل وصار يمانياً، فاتبعته الشعرى العبور، فعبرت المجرة، فسميت العبور، وأقامت الغميصاءلأنها أخفى من الأخرى. أزف: قرب، قال كعب بن زهير:

بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا     ولا أرى لشباب بائن خلفا

وقال النابغة الذبياني:

أزف الترحل غير أن ركابنا     لما تزل برحالنا وكأن قد

ويروى: أفد الترحل. سمد: لهى ولعب، قال الشاعر:

ألا أيها الإنسان إنك سامد     كأنك لا تفنى ولا أنت هالك

وقال آخر:

قيل قم فانظر إليهم     ثم دع عنك السمودا

وقال أبو عبيدة: السمود: الغناء بلغة حمير، يقولون: يا جارية اسمدي لنا: أي غني لنا.{وَٱلنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَـٰحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌيُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَٱسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِٱلاْفُقِ ٱلاْعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَقَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ ٱلْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَـٰرُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ* وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ ٱلْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ *مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ ءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ * أَفَرَءيْتُمُ ٱللَّـٰتَ وَٱلْعُزَّىٰ * وَمَنَوٰةَ ٱلثَّالِثَةَ ٱلاْخْرَىٰ* أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ * إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ* أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَمَا تَهْوَى ٱلاْنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ٱلْهُدَىٰ * أَمْلِلإنسَـٰنِ مَا تَمَنَّىٰ * فَلِلَّهِ ٱلاْخِرَةُ وٱلاْولَىٰ }. هذه السورة مكية. ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة، لأنه قال: { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } : أي اختلق القرآن، ونسبوه إلى الشعر وقالوا: هو كاهن ومجنون؛ فأقسم تعالى أنه صلى الله عليهوسلم ما ضل، وأن ما يأتي به هو وحي من الله، وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليهوسلم بها في الحرم، والمشركون يستمعون، فيها سجد، وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب، فإنه رفع حفنةمن تراب إلى جبهته وقال: يكفي هذا. وسبب نزولها قول المشركين: إن محمداً ﷺ يختلق القرآن. وأقسمتعالى بالنجم، فقال ابن عباس ومجاهد والفراء والقاضي منذر بن سعيد: هو الجملة من القرآن إذا نزلت، وقد نزل منجماًفي عشرين سنة. وقال الحسن ومعمر بن المثنى: هو هنا اسم جنس، والمراد النجوم إذا هوت: أي غربت، قال الشاعر:

فباتت تعد النجم في مستجره     سريع بأيدي الآكلين حمودها

أي: تعد النجوم. وقال الحسن وأبو حمزةالثمالي: النجوم إذا انتثرت في القيامة. وقال ابن عباس أيضاً: هو انقض في أثر الشياطين، وهذا تساعده اللغة. وقال الأخفش:والنجم إذا طلع، وهويه: سقوطه على الأرض. وقال ابن جبير الصادق: هو النبي ﷺ، وهويه: نزوله ليلةالمعراج. وقيل: النجم معين. فقال مجاهد وسفيان: هو الثريا، وهويها: سقوطها مع الفجر، وهو علم عليها بالغلبة، ولا تقول العربالنجم مطلقاً إلا للثريا، ومنه قول العرب:

طلع النجم عشاء     فابتغى الراعي كساء طلع النجم غديه

وقيل: الشعرى، وإليها الإشارةبقوله: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ }، والكهان والمنجمون يتكلمون على المغيبات عند طلوعها. وقيل: الزهرة، وكانت تعبد. وقيل: {وَٱلنَّجْمِ }:هم الصحابة. وقيل: العلماء مفرد أريد به الجمع، وهو في اللغة خرق الهوى ومقصده السفل، إذ مصيره إليه، وإن لميقصد إليه. وقال الشاعر:

هـوى الـدلـو اسلمهـا الـرشا    

ومنه: هوى العقاب. {صَـٰحِبُكُمْ }: هو محمد رسول الله صلى الله عليهوسلم، والخطاب لقريش: أي هو مهتد راشد، وليس كما تزعمون من نسبتكم إياه إلى الضلال والغي. {وَمَا يَنطِقُ }: أيالرسول عليه الصلاة والسلام، {عَنِ ٱلْهَوَىٰ }: أي عن هوى نفسه ورأيه. {إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ } من عند الله،{يُوحَى } إليه. وقيل: {وَمَا يَنطِقُ }: أي القرآن، عن هوى وشهوة، كقوله: { هَـٰذَا كِتَـٰبُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقّ } . {إِنْهُوَ }: أي الذي ينطق به. أو {إِنْ هُوَ }: أي القرآن. {عِلْمِهِ }: الضمير عائد على الرسول صلى اللهعليه وسلم، فالمفعول الثاني محذوف، أي علمه الوحي. أو على القرآن، فالمفعول الأول محذوف، أي علمه الرسول صلى الله عليهوسلم. {شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ }: هو جبريل، وهو مناسب للأوصاف التي بعده، وقاله ابن عباس وقتادة والربيع. وقال الحسن: {شَدِيدُ ٱلْقُوَىٰ}: هو الله تعالى، وهو بعيد. {ذُو مِرَّةٍ }: ذو قوة، ومنه لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مرةسوى. وقيل: ذو هيئة حسنة. وقيل: هو جسم طويل حسن. ولا يناسب هذان القولان إلا إذا كان شديد القوى هوجبريل عليه السلام. {فَٱسْتَوَىٰ }: الضمير لله في قوله الحسن، وكذا {وَهُوَ بِٱلاْفُقِ ٱلاْعْلَىٰ } لله تعالى، على معنى العظمةوالقدرة والسلطان. وعلى قول الجمهور: {فَٱسْتَوَىٰ }: أي جبريل في الجو، {وَهُوَ بِٱلاْفُقِ ٱلاْعْلَىٰ }، إن رآه الرسول عليه الصلاةوالسلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح، وحينئذ دنا من محمد حتى كان قاب قوسين، وكذلك هو المرئي فيالنزلة الأخرى بستمائة جناح عند السدرة، قاله الربيع والزجاج. وقال الطبري: والفراء: المعنى فاستوى جبريل؛ وقوله: {وَهُوَ }، يعني محمداًﷺ، وفي هذا التأويل العطف على الضمير المرفوع من غير فصل، وهو مذهب الكوفيين. وقد يقال: الضميرفي استوى للرسول، وهو لجبريل، والأعلى لعمه الرأس وما جرى معه. وقال الحسن وقتادة: هو أفق مشرق الشمس. وقالالزمخشري: {فَٱسْتَوَىٰ }: فاستقام على صورة نفسه الحقيقية دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحي، وكان ينزل فيصورة دحية، وذلك أن الرسول ﷺ أحب أن يراه في صورته التي جبل عليها، فاستوى له بالأفقالأعلى، وهو أفق الشمس، فملأ الأفق. وقيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقية غير محمد صلى الله عليهوسلم، مرة في الأرض، ومرة في السماء. {ثُمَّ دَنَا } من رسول الله ﷺ، {فَتَدَلَّىٰ }: فتعلقعليه في الهوى. وكان مقدار مسافة قربه منه مثل {قَابَ قَوْسَيْنِ }، فحذفت هذه المضافات، كما قال أبو علي فيقوله:

وقـد جعلتنـي مـن خـزيمة أصبعـا    

أي: ذا مسافة مقدار أصبع، {أَوْ أَدْنَىٰ } على تقديركم، كقوله: { أَوْ يَزِيدُونَ } . {إِلَىٰ عَبْدِهِ}: أي إلى عبد الله، وإن لم يجر لاسمه عز وجل ذكر، لأنه لا يلبس، كقوله: { مَا تَرَكَ عَلَىٰ ظَهْرِهَا } . {مَا أَوْحَىٰ }: تفخيم للوحي الذي أوحي إليه قبل. انتهى. وقال ابن عطية: {ثُمَّ دَنَا }، قال الجمهور: أيجبريل إلى محمد عليهما الصلاة والسلام عند حراء. وقال ابن عباس وأنس في حديث الإسراء: ما يقتضي أن الدنو يستندإلى الله تعالى. وقيل: كان الدنو إلى جبريل. وقيل: إلى الرسول ﷺ، أي دنا وحيه وسلطانه وقدرته،والصحيح أن جميع ما في هذه الآيات هو مع جبريل بدليل قوله: {وَلَقَدْ رَءاهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ }، فإنه يقتضي نزلةمتقدمة. وما روي أن رسول الله ﷺ رأى ربه قبل ليلة الإسراء. ودنا أعم من تدلى، فبينهيئة الدنو كيف كانت قاب قدر، قال قتادة وغيره: معناه من طرف العود إلى طرفه الآخر. وقال الحسن ومجاهد: منالوتر إلى العود في وسط القوس عند المقبض. وقال أبو رزين: ليست بهذه القوس، ولكن قدر الذراعين. وعن ابن عباس:أن القوس هنا ذراع تقاس به الأطوال. وذكر الثعلبي أنه من لغة الحجاز. {فَأَوْحَىٰ }: أي الله، {إِلَىٰ عَبْدِهِ}: أي الرسول ﷺ، قاله ابن عباس. وقيل: {إِلَىٰ عَبْدِهِ } جبريل، {مَا أَوْحَىٰ }: إبهام علىجهة التعظيم والتفخيم، والذي عرف من ذلك فرض الصلوات. وقال الحسن: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد صلى الله عليهوسلم، ما أوحى، كالأول في الإبهام. وقال ابن زيد: فأوحى جبريل إلى عبد الله، محمد ﷺ، ماأوحاه الله تعالى إلى جبريل عليه السلام. وقال الزمخشري: {مَا أَوْحَىٰ }: أوحى إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتىتدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. {مَا كَذَبَ } فؤاد محمد ﷺ ما رآه ببصره من صورةجبريل: أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك، يعني أنه رآه بعينه وعرفه بقلبه، ولم يشك في أن مارآه حق. انتهى. وقرأ الجمهور: ما كذب مخففاً، على معنى: لم يكذب قلب محمد ﷺ الشيء الذيرآه، بل صدقه وتحققه نظراً، وكذب يتعدى. وقال ابن عباس وأبو صالح: رأى محمد ﷺ الله تعالىبفؤاده. وقيل: ما رأى بعينه لم يكذب ذلك قلبه، بل صدقه وتحققه، ويحتمل أن يكون التقدير فيما رأى. وعنابن عباس وعكرمة وكعب الأحبار: أن محمداً ﷺ رأى ربه بعيني رأسه، وأبت ذلك عائشة رضي اللهتعالى عنها، وقالت: أنا سألت رسول الله ﷺ عن هذه الآيات، فقال لي: هو جبريل عليه السلام فيها كلها . وقال الحسن: المعنى ما رأى من مقدورات الله تعالى وملكوته. وسأل أبو ذر رسول الله صلى الله عليهوسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نورانى أراه . وحديث عائشة قاطع لكل تأويل في اللفظ، لأن قول غيرها إنما هو منتزعمن ألفاظ القرآن، وليست نصاً في الرؤية بالبصر، بلا ولا بغيره. وقرأ أبو رجاء وأبو جعفر وقتادة والجحدري وخالد بنالياس وهشام عن ابن عامر: ما كذب مشدداً. وقال كعب الأحبار: إن الله قسم الرؤية والكلام بين محمد وموسى عليهماالصلاة والسلام، فكلم موسى مرتين، ورآه محمد ﷺ مرتين. وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها: لقد وقفشعري من سماع هذا، وقرأت: { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلاْبْصَـٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلاْبْصَـٰرَ } ، وذهبت هي وابن مسعود وقتادة والجمهور إلى أنالمرئي مرتين هو جبريل، مرة في الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى. وقرأ الجمهور: {أَفَتُمَـٰرُونَهُ }: أي أتجادلونه على شيءرآه ببصره وأبصره، وعدى بعلى لما في الجدال من المغالبة، وجاء يرى بصيغة المضارع، وإن كانت الرؤية قد مضت، إشارةإلى ما يمكن حدوثه بعد. وقرأ علي وعبد الله وابن عباس والجحدري ويعقوب وابن سعدان وحمزة والكسائي: بفتح التاء وسكونالميم، مضارع مريت: أي جحدت، يقال: مريته حقه، إذا جحدته، قال الشاعر:

لثن سخرت أخا صدق ومكرمةلقد مريت أخاً ما كان يمريكا    

وعدى بعلى على معنى التضمين. وكانت قريش حين أخبرهم ﷺبأمره في الإسراء، كذبوا واستخفوا، حتى وصف لهم بيت المقدس وأمر غيرهم، وغير ذلك مما هو مستقصى في حديث الإسراء.وقرأ عبد الله فيما حكى ابن خالويه، والشعبي فيما ذكر شعبة: بضم التاء وسكون الميم، مضارع أمريت. قال أبو حاتم:وهو غلط. {وَلَقَدْ رَءاهُ }: الضمير المنصوب عائد على جبريل عليه السلام، قال ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع. {نَزْلَةً أُخْرَىٰ}: أي مرة أخرى، أي نزل عليه جبريل عليه السلام مرة أخرى في في صورة نفسه، فرآه عليها، وذلك ليلةالمعراج. وأخرى تقتضي نزلة سابقة، وهي المفهومة من قوله: {ثُمَّ دَنَا } جبريل، {فَتَدَلَّىٰ }: وهو الهبوط والنزول من علو.وقال ابن عباس وكعب الأحبار: الضمير عائد على الله، على ما سبق من قولهما أن رسول الله صلى الله عليهوسلم رأى ربه مرتين. وانتصب نزلة، قال الزمخشري: نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل. وقالالحوفي وابن عطية: مصدر في موضع الحال. وقال أبو البقاء: مصدر، أي مرة أخرى، أو رؤية أخرى. {عِندَ سِدْرَةِٱلْمُنتَهَىٰ }، قيل: هي شجرة نبق في السماء السابعة. وقيل: في السماء السادسة، ثمرها كقلال هجر، وورقها كآذان الفيلة. تنبعمن أصلها الأنهار التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يسير الراكب في ظلها سبعين عاماً لا يقطعها. والمنتهى موضع الانتهاء،لأنه ينتهي إليها علم كل عالم، ولا يعلم ما وراءها صعداً إلا الله تعالى عز وجل؛ أو ينتهي إليها كلمن مات على الإيمان من كل جيل؛ أو ينتهي إليها ما نزل من أمر الله تعالى، ولا تتجاوزها ملائكة العلووما صعد من الأرض، ولا تتجاوزها ملائكة السفل؛ أو تنتهي إليها أرواح الشهداء؛ أو كأنها في منتهى الجنة وآخرها؛ أوتنتهي إليها الملائكة والأنبياء ويقفون عندها؛ أو ينتهي إليها علم الأنبياء ويغرب علمهم عن ما وراءها؛ أو تنتهي إليها الأعمال؛أو لانتهاء من رفع إليها في الكرامة، أقوال تسعة. {عِندَهَا جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }: أي عند السدرة، قيل: ويحتمل عندالنزلة. قال الحسن: هي الجنة التي وعدها الله المؤمنين. وقال ابن عباس: بخلاف عنه؛ وقتادة: هي جنة تأوي إليها أرواحالشهداء، وليست بالتي وعد المتقون جنة النعيم. وقيل: جنة: مأوى الملائكة. وقرأ علي وأبو الدرداء وأبو هريرة وابن الزبير وأنسوزر ومحمد بن كعب وقتادة: جنه، بهاء الضمير، وجن فعل ماض، والهاء ضمير النبي ﷺ، أي عندهاستره إيواء الله تعالى وجميل صنعه. وقيل: المعنى ضمه المبيت والليل. وقيل: جنه بظلاله ودخل فيه. وردّت عائشة وصحابة معهاهذه القراءة وقالوا: أجن الله من قرأها؛ وإذا كانت قراءة قرأها أكابر من أصحاب رسول الله ﷺ،فليس لأحد ردّها. وقيل: إن عائشة رضي الله تعالى عنها أجازتها. وقراءة الجمهور: {جَنَّةُ ٱلْمَأْوَىٰ }، كقوله في آية أخرى: { فَلَهُمْ جَنَّـٰتُ ٱلْمَأْوَىٰ نُزُلاً } . {إِذْ يَغْشَىٰ ٱلسّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ }: فيه بإبهام الموصول وصلته تعظيم وتكثير للغاشي الذييغشاه، إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى. وقيل: يغشاها الجم الغفير من الملائكة، يعبدون الله عندها. وقيل:ما يغشى من قدرة الله تعالى، وأنواع الصفات التي يخترعها لها. وقال ابن مسعود وأنس ومسروق ومجاهد وإبراهيم: ذلك جرادمن ذهب كان يغشاها. وقال مجاهد: ذلك تبدل أغصانها درّاً وياقوتاً. وروي في الحديث: رأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله تعالى . وأيضاً: يغشاها رفرف أخضر، وأيضاً: تغشاها ألوان لا أدري ما هي. وعن أبي هريرة: يغشاهانور الخلاق. وعن الحسن: غشيها نور رب العزة فاستنارت. وعن ابن عباس: غشيها رب العزة، أي أمره، كما جاء فيصحيح مسلم مرفوعاً، فلما غشيها من أمر الله ما غشي، ونظير هذا الإبهام للتعظيم: {فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ }،{وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ }. {مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ }، قال ابن عباس: ما مال هكذا ولا هكذا.وقال الزمخشري: أي أثبت ما رآه إثباتاً مستيقناً صحيحاً من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه، إذ ما عدل عنرؤية العجائب التي أمر برؤيتها ومكن منها، {وَمَا طَغَىٰ }: وما جاوز ما أمر برؤيته. انتهى. وقال غيره: {وَمَا طَغَىٰ}: ولا تجاوز المرئي إلى غيره، بل وقع عليه وقوعاً صحيحاً، وهذا تحقيق للأمر، ونفي للريب عنه. {لَقَدْ رَأَىٰ مِنْءايَـٰتِ رَبّهِ ٱلْكُبْرَىٰ }، قيل: الكبرى مفعول رأى، أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه، أي حينرقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت، وتلك بعض آيات الله. وقيل: {مِنْ آيَـٰتِ } هو في موضع المفعول، والكبرى صفةلآياته ربه، ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة، وحسن ذلك هنا كونها فاصلة، كما في قوله: { لِنُرِيَكَ مِنْ ءايَـٰتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } ، عند من جعلها صفة لآياتنا. وقال ابن عباس وابن مسعود: أي رفرف أخضر قد سد الأفق. وقال ابن زيد:رأي جبريل في الصورة التي هو بها في السماء. {أَفَرَءيْتُمُ }: خطاب لقريش. ولما قرر الرسالة أولاً، وأتبعه منذكر عظمة الله وقدرته الباهرة بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى، وقفهم على حقارة معبوداتهم، وهي الأوثان، وأنها ليستلها قدرة. واللات: صنم كانت العرب تعظمه. قال قتادة: كان بالطائف. وقال أبو عبيدة وغيره: كان في الكعبة. وقال ابنزيد: كان بنخلة عند سوق عكاظ. قال ابن عطية: وقول قتادة أرجح، ويؤيده قوله الشاعر:

وفرت ثقيف إلى لاتها     بمنقلب الخائب الخاسر

انتهى. ويمكن الجمع بأن تكون أصناماً سميت باسم اللات فأخبر كلعن صنم بمكانه. والتاء في اللات قيل أصلية، لام الكلمة كالباء من باب، وألفه منقلبة فيما يظهر من ياء، لأنمادة ليت موجودة. فإن وجدت مادة من ل و ت، جاز أن تكون منقلبة من واو. وقيل: التاء للتأنيث، ووزنهافعلة من لوى، قيل: لأنهم كانوا يلوون عليها ويعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها: أي يطوفون، حذفت لامها. وقرأ الجمهور: اللاتخفيفة التاء؛ وابن عباس ومجاهد ومنصور بن المعتمر وأبو صالح وطلحة وأبو الجوزاء ويعقوب وابن كثير في رواية: بشدها. قالابن عباس: كان هذا رجلاً بسوق عكاظ، يلت السمن والسويق عند صخرة. وقيل: كان ذلك الرجل من بهز، يلت السويقللحجاج على حجر، فلما مات، عبدوا الحجر الذي كان عنده، إجلالاً لذلك الرجل، وسموه باسمه. وقيل: سمي برجل كان يلتعنده السمن بالدب ويطمعه الحجاج. وعن مجاهد: كان رجل يلت السويق بالطائف، وكانوا يعكفون على قبره، فجعلوه وثناً. وفي التحرير:أنه كان صنماً تعظمه العرب. وقيل: حجر ذلك اللات، وسموه باسمه. وعن ابن جبير: صخرة بيضاء كانت العرب تعبدها وتعظمها.وعن مجاهد: شجيرات تعبد ببلادها، انتقل أمرها إلى الصخرة. انتهى ملخصاً. وتلخص في اللات، أهو صنم، أو حجر يلت عليه،أو صخرة يلت عندها، أو قبر اللات، أو شجيرات ثم صخرة، أو اللات نفسه، أقوال، والعزى صنم. وقيل: سموه لغطفان،وأصلها تأنيث الأعز، بعث إليها رسول الله ﷺ خالد بن الوليد فقطعها، وخرجت منها شيطانة، ناشرة شعرها،داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها؛ فجعل يضر بها بالسيف حتى قتلها، وهو يقول:

يا عز كفرانك لا سبحانك     إني رأيت الله قد أهانك

ورجع فأخبر رسول الله ﷺ، فقال عليهالصلاة والسلام: «تلك العزى ولن تعبد أبدأ». وقال أبو عبيدة: كانت العزى ومناة بالكعبة. انتهى. ويدل على هذا قول أبيسفيان في بعض الحروب للمسلمين: لنا عزى، ولا عزى لكم. وقال ابن زيد: كانت العزى بالطائف. وقال قتادة: كانت بنخلة،ويمكن الجمع، فإنه كان في كل مكان منها صنم يسمى بالعزى، كما قلنا في اللات، فأخبر كل واحد عن ذلكالصنم المسمى ومكانه. {وَمَنَوٰةَ }: قيل: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وعن ابن عباس: لثقيف. وقيل: بالمشكك من قديد بين مكةوالمدينة، وكانت أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عدداً، وكانت الأوس والخزرج تهل لها هذا اضطراب كثير في الأوثان ومواضعها، والذييظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة، لأن المخاطب بذلك في قوله: {أَفَرَءيْتُمُ } هم قريش. وقرأ الجمهور: ومناة مقصوراً، فقيل:وزنها فعلة، سميت مناة لأن دماء النسائك كانت تمنى عندها: أي تراق. وقرأ ابن كثير: ومناءة، بالمد والهمز. قيل: ووزنهامفعلة، فالألف منقلبة عن واو، نحو: مقالة، والهمزة أصل مشتقة من النوء، كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبركاً بها، والقصر أشهر.قال جرير:

أزيد مناة توعد بأس تيم     تأمل أين تاه بك الوعيد

وقال آخرفي المد والهمز:

ألا هل أتى تيم بن عبد مناءة     على النأي فيما بيننا ابن تميم

واللات والعزى ومناة منصوبة بقوله: {أَفَرَءيْتُمُ }، وهي بمعنى أخبرني، والمفعول الثاني الذي لها هو قوله: {أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ} على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعنى أخبرني، ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللاتوالعزى ومناة، لأن قوله: {وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ } هو في معنى: وله هذه الإناث، فأغنى عن الضمير. وكانوا يقولون في هذهالأصنام: هي بنات الله، فالمعنى: ألكم النوع المحبوب المستحسن الموجود فيكم، وله النوع المذموم بزعمكم؟ وهو المستثقل. وحسن إبراز الأنثىكونه نصاً في اعتقادهم أنهن إناث، وأنهن بنات الله تعالى، وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة،وألف التأنيث في العزى، ما يشعر بالتأنيث، لكنه قد سمى المذكر بالمؤنث، فكان في قوله: {ٱلاْنثَىٰ } نص على اعتقادالتأنيث فيها. وحسن ذلك أيضاً كونه جاء فاصلة، إذ لو أتى ضميراً، فكان التركيب ألكم الذكر وله هن، لم تقعفاصلة. وقال الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، فيقول: أخبروني عن آلهتكم، هل لها شيء من القدرة والعظمةالتي وصف بها رب العزة في الآي السالفة؟ انتهى. فجعل المفعول الثاني لأفرأيتم جملة الاستفهام التي قدرها، وحذفت لدلالة الكلامالسابق عليها، وعلى تقديره يبقى قوله: {أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلاْنثَىٰ } متعلقاً بما قبله من جهة المعنى، لا من جهةالمعنى الإعراب، كما قلناه نحن. ولا يعجبني قول الزجاج: وجه تلفيق هذه الآية مع ما قبلها، ولو قال: وجه اتصالهذه، أو وجه انتظام هذه مع ما قبلها، لكان الجيد في الأدب، وإن كان يعني هذا المعنى. وقال ابنعطية: {أَفَرَءيْتُمُ } خطاب لقريش، وهي من رؤية العين، لأنه أحال على أجرام مرئية، ولو كانت أرأيت التي هي استفتاءلم تتعد. انتهى. ويعني بالأجرام: اللات والعزى ومناة، وأرأيت التي هي استفتاء تقع على الأجرام، نحو: أرأيت زيداً ما صنع؟وقوله: ولو كانت أرأيت التي هي استفتاء، يعني الذي تقول النحاة فيه إنها بمعنى أخبرني، لم تتعد؛ والتي هي بمعنىالاستفتاء تتعدى إلى اثنين، أحدهما منصوب، والآخر في الغالب جملة استفهامية. وقد تكرر لنا الكلام في ذلك، وأوله في سورةالأنعام. ودل كلام ابن عطية على أنه لم يطالع ما قاله الناس في أرأيت إذا كانت استفتاء على اصطلاحه، وهيالتي بمعنى أخبرني. والظاهر أن {ٱلثَّالِثَةَ ٱلاْخْرَىٰ } صفتان لمناة، وهما يفيدان التوكيد. قيل: ولما كانت مناة هي أعظم هذهالأوثان، أكدت بهذين الوصفين، كما تقول: رأيت فلاناً وفلاناً، ثم تذكر ثالثاً أجل منهما فتقول: وفلاناً الآخر الذي من شأنه.ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات، وذلك نص في الآية، ومنه قول ربيعة بن مكرم:

ولقـد شفعتهمـا بـآخـر ثـالـث    

انتهى.وقول ربيعة مخالف للآية، لأن ثالثاً جاء بعد آخر. وعلى قول هذا القائل أن مناة هي أعظم هذه الأوثان،يكون التأكيد لأجل عظمها. ألا ترى إلى قوله: ثم تذكر ثالثاً أجل منهما وقال الزمخشري: والأخرى ذم، وهي المتأخرة الوضيعةالمقدار، كقوله تعالى: { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لاْولَـٰهُمْ } : أي وضعاؤهم لرؤسائهم وأشرافهم. ويجوز أن تكون الأولية والتقدم عندهم للات والعزى. انتهى.ولفظ آخر ومؤنثه أخرى لم يوضعا للذم ولا للمدح، إنما يدلان على معنى غير، إلا أن من شرطهما أن يكونامن جنس ما قبلهما. لو قلت: مررت برجل وآخر، لم يدل إلا على معنى غير، لا على ذم ولا علىمدح. وقال أبو البقاء: والأخرى توكيد، لأن الثالثة لا تكون إلا أخرى. انتهى. وقيل: الأخرى صفة للعزى، لأنها ثانية اللات؛والثانية يقال لها الأخرى، وأخرت لموافقة رؤوس الآي. وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير تقديره: والعزى الأخرى، ومناة الثالثةالذليلة، وذلك لأن الأولى كانت وثناً على صورة آدمي، والعزى صورة نبات، ومناة صورة صخرة. فالآدمي أشرف من النبات، والنباتأشرف من الجماد. فالجماد متأخر، ومناة جماد، فهي في أخريات المراتب. والإشارة بتلك إلى قسمتهم، وتقديرهم: أن لهم الذكران، وللهتعالى البنات. وكانو يقولون: إن هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى. قال ابن عباس وقتادة: ضيزى: جائرة؛ وسفيان: منقوصة؛وابن زيد: مخالفة؛ ومجاهد ومقاتل: عوجاء؛ والحسن: غير معتدلة؛ وابن سيرين: غير مستوية، وكلها أقوال متقاربة في المعنى. وقرأ الجمهور:{ضِيزَىٰ } من غير همز، والظاهر أنه صفة على وزن فعلى بضم الفاء، كسرت لتصح الياء. ويجوز أن تكون مصدراًعلى وزن فعلى، كذكرى، ووصف به. وقرأ ابن كثير: ضئزى بالهمز، فوجه على أنه مصدر كذكرى. وقرأ زيد بن علي:ضيزى بفتح الضاد وسكون الياء، ويوجه على أنه مصدر، كدعوى وصف به، أو وصف، كسكرى وناقة خرمى. ويقال: ضوزى بالواووبالهمز، وتقدّم في المفردات حكاية لغة الهمز عن الكسائي. وأنشد الأخفش:

فإن تنأ عنها تقتضيك وإن تغب     فسهمك مضؤوز وأنفك راغم

{إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَءابَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَـٰنٍ }: تقدّمتفسير نظيرها في سورة هود، وفي سورة الأعراف. وقرأ الجمهور: {إِن يَتَّبِعُونَ } بياء الغيبة؛ وعبد الله وابن عباس وابنوثاب وطلحة والأعمش وعيسى بن عمر: بتاء الخطاب، {إِلاَّ ٱلظَّنَّ }: وهو ميل النفس إلى أحد معتقدين من غير حجة،{وَمَا تَهْوَى }: أي تميل إليه بلذة، وإنما تهوى أبداً ما هو غير الأفضل، لأنها مجبولة على حب الملاذ، وإنمايسوقها إلى حسن العاقبة العقل. {وَلَقَدْ جَاءهُم مّن رَّبّهِمُ ٱلْهُدَىٰ }: توبيخ لهم، والذي هم عليه باطل واعتراض بين الجملتين،أي يفعلون هذه القبائح؛ والهدى قد جاءهم، فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا يجدي عبادته. {أَمْ لِلإنسَـٰنِمَا تَمَنَّىٰ }: هو متصل بقوله: {وَمَا تَهْوَى ٱلاْنفُسُ }، بل للإنسان، والمراد به الجنس، {مَا تَمَنَّىٰ }: أي ماتعلقت به أمانيه، أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني، بل لله الأمر. وقولكم: إن آلهتكم تشفع وتقرب زلفى، ليس لكمذلك. وقيل: أمنيتهم قولهم: { وَلَئِن رُّجّعْتُ إِلَىٰ رَبّى إِنَّ لِى عِندَهُ لَلْحُسْنَىٰ }. وقيل: قول الوليد بن المغيرة:{ لاَوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً }. وقيل: تمنى بعضهم أن يكون النبي. {فَلِلَّهِ ٱلاْخِرَةُ وٱلاْولَىٰ }: أي هو مالكهما، فيعطي منهما ما يشاء، ويمنعمن يشاء، وليس لأحد أن يبلغ منهما إلا ما شاء الله. وقدّم الآخرة على الأولى، لتأخرها في ذلك، ولكونها فاصلة،فلم يراع الترتيب الوجودي، كقوله: { وَإِنَّ لَنَا لَلاْخِرَةَ وَٱلاْولَىٰ } .

{وَكَمْ مّن مَّلَكٍ فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ *لاَ تُغْنِى شَفَـٰعَتُهُمْشَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ ٱللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَىٰ * إِنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ لَيُسَمُّونَ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلاْنثَىٰ* وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ٱلظَّنَّ وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً * فَأَعْرِضْ عَنمَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّعَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ * وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلاْرْضِ * لِيَجْزِىَ ٱلَّذِينَ أَسَاءواْ بِمَاعَمِلُواْ وَيِجْزِى ٱلَّذِينَ أَحْسَنُواْ بِٱلْحُسْنَى * ٱلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَـٰئِرَ ٱلإثْمِ وَٱلْفَوٰحِشَ إِلاَّ ٱللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْإِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ وَإِذْ }. {وَكَمْ }: هي خبرية، ومعناها هنا: التكثير، وهي في موضع رفع بالابتداء، والخبر{لاَ تُغْنِى }؛ والغنى: جلب النفع ودفع الضر، بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى. وكم لفظها مفرد، ومعناها جمع. وقرأالجمهور: {شَفَـٰعَتُهُمْ }، بإفراد الشفاعة وجمع الضمير؛ وزيد بن علي: شفاعته، بإفراد الشفاعة والضمير؛ وابن مقسم: شفاعاتهم، بجمعهما، وهو اختيارصاحب الكامل، أي القاسم الهذلي. وأفردت الشفاعة في قراءة الجمهور لأنها مصدر، ولأنهم لو شفع جميعهم لواحد، لم تغن شفاعتهمعنه شيئاً. فإذا كانت الملائكة المقربون لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذن الله ورضاه، أي يرضاه أهلاً للشفاعة، فكيف تشفعالأصنام لمن يعبدها؟ {ٱلْمَلَـٰئِكَةَ تَسْمِيَةَ ٱلاْنثَىٰ }: كونهم يقولون إنهم بنات الله، {وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلاْخِرَةِ }: هم العرب منكروالبعث. {وَإِنَّ ٱلظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ ٱلْحَقّ شَيْئاً }: أي ما يدركه العلم لا ينفع فيه الظن، وإنما يدرك بالعلمواليقين. قيل: ويحتمل أن يكون المراد بالحق هنا هو الله تعالى، أي الأوصاف الإلهية لا تستخرج بالظنون، ويدل عليه ذلكبأن الله هو الحق. {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا }، موادعة منسوخة بآية السيف. {وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ ٱلْحَيَوٰةَٱلدُّنْيَا }: أي لم تتعلق إرادته بغيرها، فليس له فكر في سواها، كالنضر بن الحارث والوليد بن المغيرة. والذكر هنا:القرآن، أو الإيمان، أو الرسول ﷺ، أقوال. {عَن مَّن تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا }: هو سبب الأعراض، لأنمن لا يصغي إلى قول، كيف يفهم معناه؟ فأمر ﷺ بالإعراض عن من هذه حاله، ثم ذكرسبب التولي عن الذكر، وهو حصر إرادته في الحياة الدنيا. فالتولي عن الذكر سبب للإعراض عنهم، وإيثار الدنيا سبب التوليعن الذكر، وذلك إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها. {مَبْلَغُهُمْ }: غايتهم ومنتهاهم من العلم، وهو ما تعلقت به علومهم منمكاسب الدنيا، كالفلاحة والصنائع، لقوله تعالى: { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا }. ولما ذكر ما هم عليه، أخبر تعالى بأنهعالم بالضال والمهتدي، وهو مجازيهما. وقال الزمخشري: وقوله: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مّنَ ٱلْعِلْمِ }: اعتراض. انتهى، وكأنه يقول: هو اعتراض بين{فَأَعْرَضَ } وبين {إِنَّ رَبَّكَ }، ولا يظهر هذا الذي يقوله من الاعتراض. وقيل: ذلك إشارة إلى جعلهم الملائكة بناتالله. وقال الفراء: صغر رأيهم وسفه أحلامهم، أي غاية عقولهم ونهاية علومهم أن آثروا الدنيا على الآخرة. وقيل: ذلك إشارةإلى الظن، أي غاية ما يفعلون أن يأخذوا بالظن. وقوله: {إِنَّ رَّبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ } في معرض التسلية، إذ كانمن خلقه عليه الصلاة والسلام الحرص على إيمانهم، وفي ذلك وعيد للكفار، ووعد للمؤمنين. {وَللَّهِ مَا فِى * ٱلسَّمَـٰوَاتِوَمَا فِي ٱلاْرْضِ }: أخبر أن من في العالم العلوي والعالم السفلي ملكه تعالى، يتصرف فيهما بما شاء. واللام في{لِيَجْزِىَ } متعلقة بما دل عليه معنى الملك، أي يضل ويهدي ليجزي. وقيل: بقوله: {بِمَن ضَلَّ }، و{بِمَنِ ٱهْتَدَىٰ }،واللام للصيرورة، والمعنى: إن عاقبة أمرهم جميعاً للجزاء بما علموا، أي بعقاب ما علموا، والحسنى: الجنة. وقيل: التقدير بالأعمال الحسنى،وحين ذكر جزاء المسيء قال: بما علموا، وحين ذكر جزاء المحسن أتى بالصفة التي تقتضي التفضل، وتدل على الكرم والزيادةللمحسن، كقوله تعالى: { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِى كَانُواْ يَعْمَلُونَ }، والأحسن تأنيث الحسنى. وقرأ زيد بن علي: لنجزي ونحزي بالنون فيهما.وتقدّم الكلام في الكبائر في قوله تعالى: { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ } في سورة النساء. والذنوب تنقسمإلى كبائر وصغائر، والفواحش معطوف على كبائر، وهي ما فحش من الكبائر، أفردها بالذكر لتدل على عظم مرتكبها. وقال الزمخشري:والكبائر: الذنوب التي لا يسقط عقابها إلا بالتوبة. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال. {إِلاَّ ٱللَّمَمَ }: استثناء منقطع، لأنه لميدخل تحت ما قبله، وهو صغار الذنوب، أو صفة إلى كبائر الإثم غير اللمم، كقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّٱللَّهُ }، أي غير الله { لَفَسَدَتَا }. وقيل: يصح أن يكون استثناء متصلاً، وهذا يظهر عند تفسير اللمم ما هو،وقد اختلفوا فيه اختلافاً، فقال الخدري: هو النظرة والغمزة والقبلة. وقال السدي: الخطرة من الذنب. وقال أبو هريرة وابن عباسوالشعبي والكلبي: كل ذنب لم يذكر الله تعالى عليه حداً ولا عذاباً. وقال ابن عباس أيضاً وابن زيد: ما ألموابه من الشرك والمعاصي في الجاهلية قبل الإسلام. وعن ابن عباس وزيد بن ثابت وزيد بن أسلم وابنه: أنسبب الآية قول الكفار للمسلمين: قد كنتم بالأمس تعملون أعمالنا، فنزلت، وهي مثل قوله: { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ ٱلاْخْتَيْنِ إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ }. وقيل: نزلت في نبهان التمار، وحديثه مشهور. وقال ابن عباس وغيره: العلقة والسقطة دون دوام، ثم يتوبمنه. وقال الحسن: والزنا والسرقة والخمر، ثم لا يعود. وقال ابن المسيب: ما خطر على القلب. وقال نفطويه: ما ليسبمعتاد. وقال الرماني: الهم بالذنب، وحديث النفس دون أن يواقع. وقيل: نظرة الفجأة. {إِنَّ رَبَّكَ وٰسِعُ ٱلْمَغْفِرَةِ }، حيث يكفرالصغائر باجتناب الكبائر. وقال الزمخشري: والكبائر بالتوبة. انتهى، وفيه نزغة الاعتزال. {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ }: قيل نزلت في قوممن اليهود عظموا أنفسهم، وإذا مات طفل لهم قالوا: هذا صديق عند الله. وقيل: في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم،والظاهر أنه خطاب عام، وأعلم على بابها من التفضيل. وقال مكي: بمعنى عالم بكم، ولا ضرورة إلى إخراجها عن أصلموضوعها. كان مكياً راعى عمل أعلم في الظرف الذي هو: {إِذْ أَنشَأَكُمْ مّنَ ٱلاْرْضِ }، والظاهر أن المراد بأنشأكم: أنشأأصلكم، وهو آدم. ويجوز أن يراد من فضلة الأغذية التي منشؤها من الأرض، {فَلاَ تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ }: أي لا تنسبوهاإلى زكاء الأعمال والطهارة عن المعاصي، ولا تثنوا عليها واهضموها، فقد علم الله منكم الزكي والتقي قبل إخراجكم من صلبآدم، وقبل إخراجكم من بطون أمهاتكم. وكثيراً ما ترى من المتصلحين، إذا حدثوا، كان وردنا البارحة كذا، وفاتنا منوردنا البارحة، أو فاتنا وردنا، يوهمون الناس أنهم يقومون بالليل. وترى لبعضه في جبينه سواداً يوهم أنه من كثرة السجود،ولبعضهم احتضار النية حالة الإحرام، فيحرك يديه مراراً، ويصعق حتى ينزعج من بجانبه، وكأنه يخطف شيئاً بيديه وقت التحريكة الأخيرة،يوهم أنه يحافظ على تحقيق النية. وبعضهم يقول في حلفه: وحق البيت الذي زرت، يعلم أنه حاج، وإذا لاح لهفلس يثب عليه وثوب الأسد على الفريسة، ولا يلحقه شيء من الواسوس، ولا من إحضار النية في أخذه، وتراه يحبالثناء عليه بالأوصاف الجميلة التي هو عارضها. وقيل: المعنى لا يزكي بعضكم بعضاً تزكية السمعة أو المدح للدنيا، أو تزكيةبالقطع. وأما التزكية لإثبات الحقوق فجائزة للضرورة. والجنين: ما كان في البطن، فإذا خرج سمي ولداً أو سقطاً. وقوله:{فِى بُطُونِ أُمَّهَـٰتِكُـمْ } تنبيه على كمال العلم والقدرة، فإن بطن الأم في غاية الظلمة، ومن علم حاله وهو مجنّ،لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر. {بِمَنِ ٱتَّقَىٰ }: قيل الشرك. وقال علي: عمل حسنة وارعوى عن معصية. قولهعز وجل: {أَفَرَأَيْتَ ٱلَّذِى تَوَلَّىٰ * وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ * عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ * أَمْ * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْبِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ * وَإِبْرٰهِيمَ ٱلَّذِى * وَفِي ٱلاْخِرَةِ * تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن * لَّيْسَ لِلإنسَـٰنِ إِلاَّمَا سَعَىٰ * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَىٰ * ثُمَّ يُجْزَاهُ ٱلْجَزَاء ٱلاوْفَىٰ * وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَأَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ ٱلذَّكَرَ وَٱلاْنثَىٰ * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ * وَأَنَّعَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاْخْرَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاْولَىٰ * وَثَمُودَاْ* فَمَا أَبْقَىٰ * وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَىٰ * وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَىٰ * فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ* فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَىٰ * هَـٰذَا نَذِيرٌ مّنَ ٱلنُّذُرِ ٱلاْوْلَىٰ * أَزِفَتِ ٱلاْزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِكَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلاَ تَبْكُونَ * وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ * فَٱسْجُدُواْ لِلَّهِ وَٱعْبُدُواْ }. {أَفَرَأَيْتَ} الآية، قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة، كان قد سمع قراءة رسول الله صلى اللهعليه وسلم، وجلس إليه ووعظه، فقرب من الإسلام، وطمع فيه رسول الله ﷺ. ثم إنه عاتبة رجلمن المشركين، فقال له: أتترك ملة آبائك؟ ارجع إلى دينك واثبت عليه، وأنا أتحمل لك بكل شيء تخافه في الآخرة،لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال. فوافقه الوليد على ذلك، ورجع عن ما هم به من الإسلام، وضلضلالاً بعيداً، وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل، ثم أمسك عنه وشح. وقال الضحاك: هو النضر بن الحرث، أعطى خمسفلايس لفقير من المهاجرين حتى ارتد عن دينه، وضمن له أن يحمل عنه مآثم رجوعه. وقال السدي: نزلت في العاصيبن وائل السهمي، كان ربما يوافق النبي ﷺ في بعض الأمور. وقال محمد بن كعب: في أبيجهل بن هشام، قال: والله ما يأمر محمد إلا بمكارم الأخلاق. وروي عن ابن عباس والسدي أنها نزلت في عثمانبن عفان، رضي الله تعالى عنه؛ كان يتصدق، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن سعد بن أبي سرحنحواً من كلام القائل للوليد بن المغيرة الذي بدأنا به. وذكر القصة بتمامها الزمخشري، ولم يذكر في سبب النزول غيرها.قال ابن عطية: وذلك كله عندي باطل، وعثمان رضي الله عنه منزه عن مثله. انتهى. وأفرأيت هنا بمعنى: أخبرني،ومفعولها الأول الموصول، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي: {عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ }. و{تَوَلَّىٰ }: أي أعرض عن الإسلام. وقال الزمخشري: {تَوَلَّىٰ}: ترك المركز يوم أحد. انتهى. لما جعل الآية نزلت في عثمان، فسر التولي بهذا. وإذا ذكر التولي غير مقيدفي القرآن، فأكثر استعماله أنه استعارة عن عدم الدخول في الإيمان. {وَأَعْطَىٰ قَلِيلاً وَأَكْدَىٰ }، قال ابن عباس: أطاع قليلاًثم عصى. وقال مجاهد: أعطى قليلاً من نفسه بالاستماع، ثم أكدى بالانقطاع. وقال الضحاك: أعطى قليلاً من ماله ثم منع.وقال مقاتل: أعطى قليلاً من الخير بلسانه ثم قطع. {عِلْمُ ٱلْغَيْبِ فَهُوَ }: أي أعلم من الغيب أن من تحملذنوب آخر، فإنه المتحمل عنه ينتفع بذلك، فهو لهذا الذي علمه يرى الحق وله فيه بصيره، أم هو جاهل؟ وقالالزمخشري: {فَهُوَ يَرَىٰ }: فهو يعلم أن ما قاله أخوه من احتمال أوزاره حق. وقيل: يعلم حاله في الآخرة. وقالالزجاج: يرى رفع مأثمه في الآخرة. وقيل: فهو يرى أن ما سمعه من القرآن باطل. وقال الكلبي: أنزل عليه قرآن،فرأى ما منعه حق. وقيل: {فَهُوَ يَرَىٰ }: أي الأجزاء، واحتمل يرى أن تكون بصرية، أي فهو يبصر ما خفيعن غيره مما هو غيب، واحتمل أن يكون بمعنى يعلم، أي فهو يعلم الغيب مثل الشهادة. {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ}: أي بل ألم يخبر؟ {بِمَا فِى صُحُفِ مُوسَىٰ }، وهي التوراة. {وَإِبْرٰهِيمَ }: أي وفي صحف إبراهيم التي أنزلتعليه، وخص هذين النبيين عليهما أفضل الصلاة والسلام. قيل: لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بأبيه وابنه وعمهوخاله، والزوج بامرأته، والعبد بسيده. فأول من خالفهم إبراهيم، ومن شريعة إبراهيم إلى شريعة موسى ﷺ عليهما،كانوا لا يأخذون الرجل بجريمة غيره. {ٱلَّذِى * وَفِى }، قرأ الجمهور: وفي بتشديد الفاء. وقرأ أبو أمامة الباهلي وسعيدبن جبير وأبو مالك الغفاري وابن السميفع وزيد بن علي: بتخفيفها، ولم يذكر متعلق وفي ليتناول كل ما يصلح أنيكون متعلقاً له، كتبليغ الرسالة والاستقلال بأعباء الرسالة، والصبر على ذبح ولده، وعلى فراق اسماعيل وأمه، وعلى نار نمروذ وقيامهبأضيافه وخدمته إياهم بنفسه. وكان يمشي كل يوم فرسخاً يرتاد ضيفاً، فإن وافقه أكرمه، وإلا نوى الصوم. وعن الحسن: ماأمره الله بشيء إلا وفى به. وعن عطاء بن السائب: عهد أن لا يسأل مخلوقاً. وقال ابن عباس والربيع: وفيطاعة الله في أمر ذبح ابنه. وقال الحسن وقتادة: وفي بتبليغ الرسالة والمجاهدة في ذات الله. وقال عكرمة: وفي هذهالعشر الآيات: {أَن لا * تَزِرُ } فما بعدها. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة: وفي ما افترض عليه من الطاعةعلى وجهها، وكملت له شعب الإيمان والإسلام، فأعطاه الله براءته من النار. وقال ابن عباس أيضاً: وفي شرائع الإسلام ثلاثينسهماً، يعني: عشرة في براءة التائبون الخ، وعشرة في قد أفلح، وعشرة في الأحزاب إن المسلمين. وقال أبو أمامة: ورفعهإلى النبي ﷺ، وفي أربع صلوات في كل يوم. وقال أبو بكر الوراق: قام بشرط ما ادّعى،وذلك أن الله تعالى قال له: أسلم، قال: أسلمت لرب العالمين، فطالبه بصحة دعواه، فابتلاه في ما له وولده ونفسه،فوجده وافياً. انتهى، وللمفسرين أقوال غير هذه. وينبغي أن تكون هذه الأقوال أمثلة لما وفي، لا على سبيل التعيين، وأنهي المخففة من الثقيلة، وهي بدل من ما في قوله: {بِمَا فِى صُحُفِ }، أو في موضع رفع، كأن قائلاًقال: ما في صحفهما، فقيل: {لا * تَزِرُ وٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ }، وتقدم شرح {لا * تَزِرُ وٰزِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}. {وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَـٰنِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ }: الظاهر أن الإنسان يشمل المؤمن والكافر، وأن الحصر في السعي، فليسله سعي غيره، وقال عكرمة: كان هذا الحكم في قوم إبراهيم وموسى، وأما هذه الأمّة فلها سعي غيرها، يدل عليهحديث سعد بن عبادة: هل لأمي، إن تطوعت عنها؟ قال: نعم. وقال الربيع: الإنسان هنا الكافر، وأما المؤمن فله ماسعى وما سعى له غيره. وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله: { وَٱللَّهُ يُضَـٰعِفُ لِمَن يَشَاء }، فقال: ليس له بالعدل إلا ما سعى، وله بالفضل ما شاء الله، فقبل عبد اللهرأس الحسين. وما روي عن ابن عباس أنها منسوخة لا يصح، لأنه خبر لم يتضمن تكليفاً؛ وعند الجمهور: إنها محكمة.قال ابن عطية: والتحرير عندي في هذه الآية أن ملاك المعنى هو اللام من قوله: {لِلإِنسَـٰنِ }. فإذا حققت الذيحق الإنسان أن يقول فيه لي كذا، لم تجده إلا سعيه، وما تم بعد من رحمة بشفاعة، أو رعاية أبصالح، أو ابن صالح، أو تضعيف حسنات، أو تعمد بفضل ورحمة دون هذا كله، فليس هو للإنسان، ولا يسعه أنيقول لي كذا وكذا إلا على تجوز وإلحاق بما هو حقيقة. واحتج بهذه الآية من يرى أنه لا يعمل أحدعن أحد بعد موته ببدن أو مال، وفرق بعض العلماء بين البدن والمال. انتهى. والسعي: التكسب، ويرى مبني للمفعول،أي سوف يراه حاضراً يوم القيامة. وفي عرض الأعمال تشريف للمحسن وتوبيخ للمسيء، والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان،والمنصوب عائد على السعي، والجزاء مصدر. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء، ثم فسره بقوله: {ٱلْجَزَاء ٱلاوْفَىٰ }. وإذاكان تفسيراً للمصدر المنصوب في يجزاه، فعلى ماذا انتصابه؟ وأما إذا كان بدلاً، فهو من باب بدل الظاهر من الضميرالذي يفسره الظاهر، وهي مسألة خلاف، والصحيح المنع. وقرأ الجمهور: {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ } وما بعدها من {وَأَنَّهُ }، وأنبفتح الهمزة عطفاً على ما قبلها. وقرأ أبو السمال: بالكسر فيهن، وفي قوله: {ٱلاوْفَىٰ } وعيد للكافر ووعد للمؤمن، ومنتهىالشيء: غايته وما يصل إليه، أي إلى حساب ربك والحشر لأجله، كما قال:

{ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } أي إلى جزائهوحسابه، أو إلى ثوابه من الجنة وعقابه من النار؛ وهذا التفسير المناسب لما قبله في الآية. وعن أبي، عن النبيﷺ في قوله تعالى: {وَأَنَّ إِلَىٰ رَبّكَ ٱلْمُنتَهَىٰ }، لا فكرة في الرب. وروى أنس عنه صلىالله عليه وسلم: «إذا ذكر الرب فانتهوا». {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }: الظاهر حقيقة الضحك والبكاء. قال مجاهد: أضحكأهل الجنة، وأبكى أهل النار. وقيل: كنى بالضحك عن السرور، وبالبكاء عن الحزن. وقيل: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.وقيل: أحيا بالإيمان، وأبكى بالكفر. وقال الزمخشري: {أَضْحَكَ وَأَبْكَىٰ }: خلق قوتي الضحك والبكاء. انتهى، وفيه دسيسة الاعتزال، إذ أفعالالعباد من الضحك والبكاء وغيرهما مخلوقة للعبد عندهم، لا لله تعالى، فلذلك قال: خلق قوتي الضحك والكباء. {وَأَنَّهُ خَلَقَ ٱلزَّوْجَيْنِ} المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان، {مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَىٰ }: أي إذا تدفق، وهو المني. يقال: أمنىالرجل ومنى. وقال الأخفش: إذا يمنى: أي يخلق ويقدر من مني الماني، أي قدر المقدر. {وَأَنَّ عَلَيْهِ ٱلنَّشْأَةَ ٱلاْخْرَىٰ }:أي إعادة الأجسام: أي الحشر بعد البلى، وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشيء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفاربولغ بقوله: {عَلَيْهِ } بوجودها لا محالة، وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه، وتقدم الخلاف في قراءة النشأة في سورةالعنكبوت. وقال الزمخشري: وقال {عَلَيْهِ }، لأنها واجبة عليه في الحكمة ليجازي على الإحسان والإساءة. انتهى، وهو على طريق الاعتزال.{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ وَأَقْنَىٰ }: أي أكسب القنية، يقال: قنيت المال: أي كسبته، وأقنيته إياه: أي أكسبته إياه، ولميذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى. وقد تكلم المفسرون على ذلك فقالوا اثني عشر قولاً،كقولهم: أغنى نفسه وأفقر خلقه إليه، وكل قول منها لا دليل على تعينه، فينبغي أن تجعل أمثلة. والشعرى التي عبدتهي العبور. وقال السدّي: كانت تعبدها حمير وخزاعة. وقال غيره: أول من عبدها أبو كبشة، أحد أجداد النبي صلى اللهعليه وسلم، من قبل أمهاته، وكان اسمه عبد الشعرى، ولذلك كان مشركو قريش يسمونه عليه السلام: ابن أبي كبشة، ومنذلك كلام أبي سفيان: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة. ومن العرب من كان يعظمها ولا يعبدها، ويعتقد تأثيرها فيالعالم، وأنها من الكواكب الناطقة، يزعم ذلك المنجمون ويتكلمون على المغيبات عند طلوعها، وهي تقطع السماء طولاً، والنجوم تقطعها عرضاً.وقال مجاهد وابن زيد: هو مرزم الجوزاء. {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً ٱلاْولَىٰ }: جاء بين أن وخبرها لفظ هو، وذلكفي قوله: {وَأَنْ * هُوَ أَضْحَكَ }، {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ }، {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَىٰ }، {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ }.ففي الثلاثة الأول، لما كان قد يدعي ذلك بعض الناس، كقول نمروذ: { أنا أحيي وأميت }، احتيج إلى تأكيد في أنذلك إنما هو لله لا غيره، فهو الذي يضحك ويبكي، وهو المميت المحيـي، والمغني، والمقني حقيقة، وإن ادّعى ذلك أحدفلا حقيقة له. وأما {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ ٱلشّعْرَىٰ }، فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى، نص على أنه تعالىهو ربها وموجدها. ولما كان خلق الزوجين، والإنشاء الآخر، وإهلاك عاد ومن ذكر، لا يمكن أن يدعي ذلك أحد، لميحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك. وعاد الأولى هم قوم هود، وعاد الأخرى إرم. وقيل: الأولى:القدماء لأنهم أول الأمم هلاكاً بعد قوم نوح عليه السلام. وقيل: الأولى: المتقدّمون في الدنيا الأشراف، قاله الزمخشري. وقال ابنزيد والجمهور: لأنها في وجه الدهر وقديمه، فهي أولى بالإضافة إلى الأمم المتأخرة. وقال الطبري: وصفت بالأولى، لأن عاداً الآخرةقبيلة كانت بمكة مع العماليق، وهو بنو لقيم بن هزال. وقال المبرد: عاد الأخيرة هي ثمود، والدليل عليه قول زهير:

كـأحـمر عـاد ثـم تـرضـع فتفـطم    

ذكره الزهراوي. وقيل: عاد الأخيرة: الجبارون. وقيل: قبل الأولى، لأنهم كانوا من قبل ثمود. وقيل:ثمود من قبل عاد. وقيل: عاد الأولى: هو عاد بن إرم بن عوص بن سام بن نوح؛ وعاد الثانية: منولد عاد الأولى. وقرأ الجمهور: {عَاداً ٱلاْولَىٰ }، بتنوين عاداً وكسره لالتقائه ساكناً مع سكون لام الأولى وتحقيق الهمزة بعداللام. وقرأ قوم كذلك، غير أنهم نقلوا حركة الهمزة إلى اللام وحذفوا الهمزة. وقرأ نافع وأبو عمرو: بإدغام التنوين فياللام المنقول إليها حركة الهمزة المحذوفة، وعاد هذه القراءة للمازني والمبرد. وقالت العرب في الابتداء بعد النقل: الحمر ولحمر، فهذهالقراءة جاءت على الحمر، فلا عيب فيها، وهمز قالون عين الأولى بدل الواو الساكنة. ولما لم يكن بين الضمة والواوحائل، تخيل أن الضمة على الواو فهمزها، كما قال:

أحـب المؤقـديـن إلـيّ مـؤسـى    

وكما قرأ بعضهم: على سؤقه، وهو توجيهشذوذ، وفي حرف أبي عاد غير مصروف جعله اسم قبيلة، فمنعه الصرف للتأنيث والعملية، والدليل على التأنيث وصفه بالأولى. وقرأالجمهور: وثمودا مصروفاً، وقرأه غير مصروف: الحسن وعاصم وعصمة. {فَمَا أَبْقَىٰ }: الظاهر أن متعلق أبقى يرجع إلى عاد وثمودمعاً، أي فما أبقى عليهم، أي أخذهم بذنوبهم. وقيل: {فَمَا أَبْقَىٰ }: أي فما أبقى منهم عيناً تطرف. وقال ذلكالحجاج بن يوسف حين قيل له إن ثقيفاً من نسل ثمود، فقال: قال الله تعالى: {وَثَمُودَاْ * فَمَا أَبْقَىٰ }،وهؤلاء يقولون: بقيت منهم بقية، والظاهر القول الأول، لأن ثمود كان قد آمن منهم جماعة بصالح عليه السلام، فما أهلكهمالله مع الذين كفروا به. {وَقَوْمَ نُوحٍ مّن قَبْلُ }: أي من قبل عاد وثمود، وكانوا أول أمة كذبتمن أهل الأرض، ونوح عليه السلام أول الرسل. والظاهر أن الضمير في {أَنَّهُمْ } عائد على قوم نوح، وجعلهم {أَظْلَمَوَأَطْغَىٰ } لأنهم كانوا في غاية العتو والإيذاء لنوح عليه السلام، يضربونه حتى لا يكاد يتحرك، ولا يتأثرون لشيء ممايدعوهم إليه. وقال قتادة: دعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، كلما هلك قرن نشأ قرن، حتى كان الرجل يأخذ بيدابنه يتمشى به إليه، يحذره منه ويقول: يا بني إن أبي مشى بي إلى هذا ولنا مثلك يومئذ، فإياك أنتصدقه، فيموت الكبير على الكفر، وينشأ الصغير على وصية أبيه. وقيل: الضمير في إنهم عائد على من تقدم عاد وثمودوقوم نوح، أي كانوا أكفر من قريش وأطغى، ففي ذلك تسلية لرسول الله ﷺ. وهم يجوز أنيكون تأكيداً للضمير المنصوب، ويجوز أن يكون فصلاً، لأنه واقع بين معرفة وأفعل التفضيل، وحذف المفضول بعد الواقع خبراً لكان،لأنه جار مجرى خبر المبتدأ، وحذفه فصيح فيه، فكذلك في خبر كان. {وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ }: هي مدائن قوم لوط بإجماعمن المفسرين، وسميت بذلك لأنها انقلبت، ومنه الإفك، لأنه قلب الحق كذباً، أفكه فأئتفك. قيل: ويحتمل أن يراد بالمؤتفكة: كلما انقلبت مساكنه ودبرت أماكنه. {أَهْوَىٰ }: أي خسف بهم بعد رفعهم إلى السماء، رفعها جبريل عليه السلام، ثم أهوىبها إلى الأرض. وقال المبرد: جعلها تهوي. وقرأ الحسن: والمؤتفكات جمعاً، والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة، وأخر العامل لكونه فاصلة.ويجوز أن يكون {وَٱلْمُؤْتَفِكَةَ } معطوفاً على ما قبله، و{أَهْوَىٰ } جملة في موضع الحال يوضح كيفية إهلاكهم، أي وإهلاكالمؤتفكة مهوياً لها. {فَغَشَّـٰهَا مَا غَشَّىٰ }: فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم، لما قلبها جبريل عليه السلام اتبعت حجارةغشيتهم. واحتمل أن يكون فعل المشدد بمعنى المجرد، فيتعدى إلى واحد، فيكون الفاعل ما، كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مّنَ ٱلْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ . {فَبِأَىّ الاء رَبّكَ تَتَمَارَىٰ }: الباء ظرفية، والخطاب للسامع، وتتمارى: تتشكك، وهو استفهام في معنى الإنكار، أيآلاؤه، وهي النعم لا يتشكك فيها سامع، وقد سبق ذكر نعم ونقم، وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم منالزجر والوعظ لمن اعتبر. وقرأ يعقوب وابن محيصن: ربك تمارى، بتاء واحدة مشددة. وقال أبو مالك الغفاري: إن قوله: {أَنلا * تَزِرُ } إلى قوله: {تَتَمَارَىٰ } هو في صحف إبراهيم وموسى عليهما الصلاة والسلام. {هَـٰذَا نَذِيرٌ }، قالقتادة ومحمد بن كعب وأبو جعفر: الإشارة إلى رسول الله ﷺ، افتتح أول السورة به، واختتم آخرهابه. وقيل: الإشارة إلى القرآن. وقال أبو مالك: إلى ما سلف من الأخبار عن الأمم، أي هذا إنذار من الإنذاراتالسابقة، والنذير يكون مصدراً أو اسم فاعل، وكلاهما من أنذر، ولا يتقاسان، بل القياس في المصدر إنذار، وفي اسم الفاعلمنذر؛ والنذر إما جمع للمصدر، أو جمع لاسم الفاعل. فإن كان اسم فاعل، فوصف النذر بالأولى على معنى الجماعة.ولما ذكر إهلاك من تقدّم ذكره، وذكر قوله: {هَـٰذَا نَذِيرٌ }، ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال: {أَزِفَتِٱلاْزِفَةُ }: أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله: { ٱقْتَرَبَتِ ٱلسَّاعَةُ }، وهي القيامة. {لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ ٱللَّهِ كَاشِفَةٌ }:أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه، قاله الطبري والزجاج. وقال القاضي منذر بن سعيد: هو من كشف الضر ودفعه، أيليس لها من يكشف خطبها وهو لها. انتهى. ويجوز أن تكون الهاء في كاشفة للمبالغة. وقال الرماني وجماعة: ويحتمل أنيكون مصدراً، {*كالعاقبة}، {وَتَلَذُّ ٱلاْعْيُنُ }، أي ليس لها كشف من دون الله. وقيل: يحتمل أن يكون التقدير حال كاشفة.{أَفَمِنْ هَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ }. وهو القرآن، {تَعْجَبُونَ } فتنكرون، {وَتَضْحَكُونَ } مستهزئين، {وَلاَ تَبْكُونَ } جزعاً من وعيده. {وَأَنتُمْ سَـٰمِدُونَ}، قال مجاهد: معرضون. وقال عكرمة: لاهون. وقال قتادة: غافلون. وقال السدّي: مستكبرون. وقال ابن عباس: ساهون. وقال المبرد: جامدون،وكانوا إذا سمعوا القرآن غنوا تشاغلاً عنه. وروي أنه عليه الصلاة والسلام لم ير ضاحكاً بعد نزولها. فاسجدوا: أيصلوا له، {وَٱعْبُدُواْ }: أي أفردوه بالعبادة، ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام. وخرّج البغوي بإسناد متصلإلى عبد الله، قال: أول سورة نزلت فيها السجدة النجم، فسجد رسول الله ﷺ، وسجد من خلفهإلا رجلاً رأيته أخذ كفاً من تراب فسجد عليه، فرأيته بعد ذلك قتل كافراً، والرجل أمية بن خلف. وروي أنالمشركين سجدوا مع رسول الله ﷺ. وفي حرف أبي وعبد الله: تضحكون بغير واو. وقرأ الحسن: تعجبونتضكحون، بغير واو وبضم التاء وكسر الجيم والحاء. وفي قوله: {وَلاَ تَبْكُونَ }، حض على البكاء عند سماع القرآن. والسجودهنا عند كثير من أهل العلم، منهم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، ووردت به أحاديث صحاح، وليس يراهامالك هنا. وعن زيد بن ثابت: أنه قرأ بها عند رسول الله ﷺ، فلم يسجد، والله تعالى أعلم.