{ وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } * { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } * { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } * { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } * { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } * { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } * { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } * { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } * { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } * { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } * { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } * { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } * { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } * { فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } * { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } * { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } * { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } * { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } * { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } * { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } * { فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } * { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } * { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ } * { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } * { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } * { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } * { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } * { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } * { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } * { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } * { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } * { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } * { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } * { فَإِذَا جَآءَتِ ٱلطَّآمَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ } * { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ مَا سَعَىٰ } * { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } * { فَأَمَّا مَن طَغَىٰ } * { وَآثَرَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا } * { فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } * { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } * { فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } * { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا } * { فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا } * { إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } * { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } * { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أغرق في الشيء: بالغ فيه وأنهاه، وأغرق النازع في القوس: بلغ غاية المدحتى ينتهي إلى النصل. والاستغراق: الاستيعاب، والغرقى: قشرة البيضة. نشط البعير والإنسان ربطه وأنشطه: حله، ومنه: وكأنما أنشط من عقال.ونشط: ذهب من قطر إلى قطر، ولذلك قيل لبقر الوحش النواشط، لأنهن يذهبن بسرعة من مكان إلى مكان، ومنه قولالشاعر، وهو هميان بن قحافة:
أرى همومي تنشط المناشطا | الشام بي طوراً وطوراً واسطا |
وكأن هذه اللفظة مأخوذة من النشاط. وقال أبو زيد: نشطت الحبل أنشطه نشطاً: عقدته أنشوطة، وأنشطته: حللته، وأنشطت الحبل: مددته.وقال الليث: أنشطته بأنشوطة: أي وثقته، وأنشطت العقال: مددت أنشوطته فانحلت، ويقال: نشط بمعنى أنشط، والأنشوطة: عقدة يسهل إنحلالها إذاجدبت كعقدة التكة. وجف القلب وجيفاً: اضطرب من شدّة الفزع، وكذلك وجب وجيباً. وفي كتاب لغات القرآن المروي عن ابنعباس، واجفة: خائفة، بلغة همدان. الحافرة، يقال: رجع فلان في حافرته: أي في طريقه التي جاء منها، فحفرها: أي أثرفيها بمشيه فيها، جعل أثر قدميه حفراً، وتوقعها العرب على أول أمر يرجع إليه من آخره، ومنه قول الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب | معاذ الله من سفه وعار |
أي: أأرجع إلى الصبا بعد الصلعوالشيب؟ الناخرة: المصوتة بالريح المجوّفة، والنخرة بمعناها، كطامع وطمع، وحاذر وحذر، قاله الفراء وأبو عبيد وأبو حاتم وجماعة. وقيل: النخرة:البالية المتعفنة الصائرة رميماً. نخر العود والعظم: بلي وتفتت، فمعناه مغاير للناخرة، وهو قول الأكثرين. وقال أبو عمرو بن العلاء:الناخرة: التي لم تنخر بعد، والنخرة: التي قد بليت. قال الراجز لفرسه:
أقدم أخانهم على الأساوره | ولا تهولنك رؤوس نادره فإنما قصرك ترب الساهره |
وقال الشاعر:
وأخليتها من مخها فكأنها | قوارير في أجوافها الريح تنخر |
ويروى: تصفر ونخرة الريح، بضم النون: شدّة هبوبها، والنخرة أيضاً: مقدم أنف الفرس والحمار والخنزير، يقال: هشم نخرته.الساهرة: وجه الأرض والفلاة، وصفت بما يقع فيها وهو السهر للخوف. وقال أمية بن أبي الصلت:
وفيها لحم ساهرة وبحر | وما فاهوا به لهم مقيم |
وقال أبو بكر الهذلي:
يرتدن ساهرة كأن جميمها | وعميمها أسداف ليل مظلم |
والساهور كالغلاف للقمر يدخل فيه إذا كسف. وقال أميةبن أبي الصلت:
وبث الخلق فيها إذ دحاها | فهم قطانها حتى التنادي |
وقيل: دحاها:سواها، قال زيد بن عمرو:
وأسلمت وجهي لمن أسلمت | له الأرض تحمل صخراً ثقالا دحاها فلما استوت شدّها |
الطامّة: الدّاهية التي تطم على الدّواهي، أيتعلو وتغلب. وفي أمثالهم: أجرى الوادي فطمّ على القرى، ويقال: طمّ السيل الركية إذا دفنها، والطم: الدّفن والعلو. {وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِغَرْقاً * وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ نَشْطاً * وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ سَبْحاً * فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ سَبْقاً * فَٱلْمُدَبّرٰتِ أَمْراً * يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ* قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ * أَبْصَـٰرُهَا خَـٰشِعَةٌ * يَقُولُونَ * أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ فِى ٱلْحَـٰفِرَةِ * أَءذَا كُنَّا عِظَـٰماً نَّخِرَةً *قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَـٰسِرَةٌ * فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وٰحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ *إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى * ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ *وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبّكَ فَتَخْشَىٰ * فَأَرَاهُ ٱلاْيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ * فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ * فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَأَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ * فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلاْخِرَةِ وَٱلاْوْلَىٰ * إِنَّ فِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ }. هذه السورةمكية. ولما ذكر في آخر ما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة، أقسم في هذه على البعث يوم القيامة. ولما كانتالموصوفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها، وكان لهذه الصفات تعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها، فقال عبد الله وابنعباس؛ {*النازعات}: الملائكة تنزع نفوس بني آدم، و{وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ غَرْقاً }: إغراقاً، وهي المبالغة في الفعل، أو غرق في جهنم، يعنينفوس الكفار، قاله عليّ وابن عباس. وقال الحسن وقتادة وأبو عبيدة وابن كيسان والأخفش: هي النجوم تنزع من أفق إلىأفق. وقال السدّي وجماعة: تنزع بالموت إلى ربها، وغرقاً: أي إغراقاً في الصدر. وقال السدي أيضاً: النفوس تحن إلى أوطانهاوتنزع إلى مذاهبها، ولها نزع عند الموت. وقال عطاء وعكرمة: القسي أنفسها تنزع بالسهام. وقال عطاء أيضاً: الجماعات النازعات بالقسيوغيرها إغراقاً. وقال مجاهد: المنايا تنزع النفوس. وقيل: النازعات: الوحش تنزع إلى الكلأ، حكاه يحيـى بن سلام. وقيل: جعل الغزاةالتي تنزع في أعنتها نزعاً تغرق فيه الأعنة لطول أعناقها لأنها عراب، والتي تخرج من دار الإسلام إلى دار الحرب،قاله في الكشاف. {وَٱلنَّـٰشِطَـٰتِ }، قال ابن عباس ومجاهد: الملائكة تنشط النفوس عند الموت، أي تخلها وتنشط بأمر اللهإلى حيث كان. وقال ابن عباس أيضاً وقتادة والحسن والأخفش: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، تذهب وتسير بسرعة. وقالمجاهد أيضاً: المنايا. وقال عطاء: البقر الوحشية وما جرى مجراها من الحيوان الذي ينشط من قطر إلى قطر. وقال ابنعباس أيضاً: النفوس المؤمنة تنشط عند الموت للخروج. وقيل: التي تنشط للإزهاق. {وَٱلسَّـٰبِحَـٰتِ }، قال عليّ ومجاهد: الملائكة تتصرّففي الآفاق بأمر الله، تجيء وتذهب. وقال قتادة والحسن: النجوم تسبح في الأفلاك. وقال أبو روق: الشمس والقمر والليل والنهار.وقال عطاء وجماعة: الخيل، يقال للفرس سابح. وقيل: السحاب لأنها كالعائمة في الهواء. وقيل: الحيتان دواب البحر فما دونها وذلكمن عظم المخلوقات، فيبدي أنه تعالى أمدّ في الدنيا نوعاً من الحيوان، منها أربعمائة في البر وستمائة في البحر. وقالعطاء أيضاً: السفن. وقال مجاهد أيضاً: المنايا تسبح في نفوس الحيوان. {فَٱلسَّـٰبِقَـٰتِ }، قال مجاهد: الملائكة سبقت بني آدمبالخير والعمل الصالح، وقاله أبو روق. وقال ابن مسعود: أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها، وقد عاينت السرور شوقاًإلى لقاء الله تعالى. وقال عطاء: الخيل، وقيل: النجوم، وقيل: المنايا تسبق الآمال. {فَٱلْمُدَبّرٰتِ }، قال ابن عطية لا أحفظخلافاً أنها الملائكة، ومعناه أنها التي تدبر الأمور التي سخرها الله تعالى وصرفها فيها، كالرياح والسحاب وسائر المخلوقات. انتهى. وقيل:الملائكة الموكلون بالأحوال: جبريل للوحي، وميكائيل للمطر، وإسرافيل للنفخ في الصور، وعزرائيل لقبض الأرواح. وقيل: تدبيرها: نزولها بالحلال والحرام. وقالمعاذ: هي الكواكب السبعة، وإضافة التدبير إليها مجاز، أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك. ولفقالزمخشري من هذه الأقوال أقوالاً اختارها وأدارها أولاً على ثلاثة: الملائكة أو الخيل أو النجوم. ورتب جميع الأوصاف على كلواحد من الثلاثة، فقال: أقسم سحابة بطوائف الملائكة التي هي تنزع الأرواح من الأجساد، وبالطوائف التي تنشطها، أي تخرجها مننشط الدلو من البئر إذا أخرجها، وبالطوائف التي تسبح في مضيها، أي تسرع فتسبق إلى ما أمروا به فتدبر أمراًمن أمور العباد مما يصلحهم في دينهم أو دنياهم؛ كما رسم لهم غرقاً، أي إغراقاً في النزع، أي تنزعها منأقاصي الأجساد من أناملها وأظافرها. أو أقسم بخيل الغزاة التي تنزع في أعنتها إلى آخر ما نقلناه؛ ثم قال: منقولك: ثور ناشط، إذا خرج من بلد إلى بلد، والتي تسبح في جريتها فتسبق إلى الغاية فتدبر أمر الغلبة والظفر،وإسناد التدبير إليها لأنها من أسبابه. أو أقسم بالنجوم التي تنزع من المشرق إلى المغرب، وإغراقها في النزع أن تقطعالفلك كله حتى تنحط من أقصى المغرب، والتي تخرج من برج إلى برج، والتي تسبح في الفلك من السيارة فتسبقفتدبر أمراً في علم الحساب. وقيل: النازعات: أيدي الغزاة أو أنفسهم تنزع القسي بإغراق السهام والتي تنشط الإرهاق. انتهى.والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء، وأن المعطوف بالواو وهو مغاير لما قبله،كما قرّرناه في المرسلات، على أنه يحتمل أن يكون المعطوف بالواو ومن عطف الصفات بعضها على بعض. والمختار في جوابالقسم أن يكون محذوفاً وتقديره: لتبعثن لدلالة ما بعده عليه، قاله الفراء. وقال محمد بن عليّ الحكيم الترمذي: الجواب: {إِنَّفِى ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىٰ }، والمعنى فيما اقتصصت من ذكر يوم القيامة وذكر موسى عليه السلام وفرعون. قال ابنالانباري: وهذا قبيح لأن الكلام قد طال. وقيل: اللام التي تلقى بها القسم محذوفة من قوله: {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ }،أي ليوم كذا، {تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ }، ولم تدخل نون التوكيد لأنه قد فصل بين اللام المقدرة والفعل؛ وقول أبي حاتمهو علي التقديم والتأخير، كأنه قال: {فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ }. {وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ }، قال ابن الأنباري: خطأ لأن الفاء لا يفتتحبها الكلام. وقيل: التقدير: {يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ }، {وَٱلنَّـٰزِعَـٰتِ } على التقديم والتأخير أيضاً وليس بشيء. وقيل:الجواب: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ }، لأنه في تقدير قد أتاك وليس بشيء، وهذا كله إعراب من لم يحكم العربية،وحذف الجواب هو الوجه، ويقرب القول بحذف اللام من {يَوْمَ تَرْجُفُ }. قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد: هما الصيحتان،أي النفختان، الأولى تميت كل شيء، وفي الثانية تحيـي. وقال مجاهد أيضاً: الواجفة: الزلزلة، والرادفة: الصيحة. وقال ابن زيد: الواجفة:الأرض، والرادفة: الساعة، والعامل في يوم اذكر مضمرة، أو لتبعثن المحذوف؛ واليوم متسع تقع فيه النفختان، وهم يبعثون في بعضذلك اليوم المتسع، وتتبعها حال. قيل: أو مستأنف. واجفة: مضطربة، ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق، ومنه قولقيس بن الخطيم:
إن بني حجباً وأسرتهم | أكبادنا من ورائهم تجف |
{قُلُوبٍ}: مبتدأ، {وَاجِفَةٌ }: صفة تعمل في {يَوْمَئِذٍ }، {أَبْصَـٰرُهَا }: أي أبصار أصحاب القلوب، {خَـٰشِعَةٌ }: مبتدأ وخبر فيموضع خبر {قُلُوبٍ }. وقال ابن عطية: رفع قلوب بالابتداء، وجاز ذلك، وهي نكرة لأنها قد تخصصت بقوله: {يَوْمَئِذٍ }.انتهى. ولا تتخصص الأجرام بظروف الزمان، وإنما تخصصت بقوله: {وَاجِفَةٌ }. {يَقُولُونَ }: حكاية حالهم في الدنيا، والمعنى: هم الذينيقولون. و{ٱلْحَـٰفِرَةِ }، قال مجاهد: فاعلة بمعنى مفعولة. وقيل: على النسب، أي ذات حفر، والمراد القبور، أي لمردودون أحياء فيقبورنا. وقال زيد بن أسلم: الحافرة: النار. وقيل: جمع حافرة بمعنى القدم، أي أحياء نمشي على أقدامنا ونطأ بها الأرض.وقال ابن عباس: الحياة الثانية هي أول الأمر، وتقول التجار: النقد في الحافرة، أي في ابتداء السوم. وقال الشاعر:
آليت لا أنساكم فاعلموا | حتى ترد الناس في الحافرة |
وقرأ أبو حيوة وأبو بحرية وابنأبي عبلة: في الحفرة بغير ألف؛ والجمهور: بالألف. وقيل: هما بمعنى واحد. وقيل: هي الأرض المنبتة المتغيرة بأجساد موتاها، منقولهم: حفرت أسنانه إذا تآكلت وتغيرت. وقرأ عمر وأبي وعبد الله وابن الزبير وابن عباس ومسروق ومجاهد والأخوان وأبو بكر:ناخرة بألف؛ وأبو رجاء والحسن والأعرج وأبو جعفر وشيبة والسلمي وابن جبير والنخعي وقتادة وابن وثاب وأيوب وأهل مكة وشبلوباقي السبعة: بغير ألف. {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً }: أي الردة إلى الحافرة إن رددنا، {كَرَّةٌ خَـٰسِرَةٌ }: أي قالوا ذلكلتكذيبهم بالغيب، أي لو كان هذا حقاً، لكانت ردتنا خاسرة، إذ هي إلى النار. وقال الحسن: خاسرة: كاذبة، أي ليستبكافية، وهذا القول منهم استهزاء. وروي أن بعض صناديد قريش قال ذلك. {فَإِنَّمَا هِىَ زَجْرَةٌ وٰحِدَةٌ } لما تقدم. {يَقُولُونَ* أَءنَّا لَمَرْدُودُونَ }: تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستضعاف أمرها، فجاء قوله: {فَإِنَّمَا } مراعاة لما دل عليه استبعادهم،فكأنه قيل: ليس بصعب ما تقولون، فإنما هي نفخة واحدة، فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض. قال ابن عباس:الساهرة أرض من فضة يخلقها الله تعالى. وقال وهب بن منبه: جبل بالشام يمده الله تعالى يوم القيامة لحشر الناس.وقال أبو العالية وسفيان: أرض قريبة من بيت المقدس. وقال ابن عباس: أرض مكة. وقال قتادة: جهنم، لأنه لا نوملمن فيها. رأى أن الضمائر قبلها إنما هي للكفار ففسرها بجهنم. وقيل: الأرض السابعة يأتي بها الله يحاسب عليها الخلائق.ولما أنكروا البعث وتمردوا، شق ذلك على رسول الله ﷺ، فقص تعالى عليه قصة موسى عليهالسلام، وتمرد فرعون على الله عز وجل حتى ادعى الربوبية، وما آل إليه حال موسى من النجاة، وحال فرعون منالهلاك، فكان ذلك مسلاة لرسول الله ﷺ وتبشيراً بهلاك من يكذبه، ونجاته هو من أذاهم. فقال تعالى:{هَلُ أَتَاكَ }، توقيفاً له على جمع النفس لما يلقيه إليه، وتقدم الكلام في الوادي المقدس، والخلاف في القراآت في{طُوًى }. {ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ }: تفسير للنداء، أو على إضمار القول، {فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ }: لطففي الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم، وتزكى: تتحلى بالفضائل وتتطهر من الرذائل، والزكاة هنا يندرج فيهاالإسلام وتوحيد الله تعالى. وقرأ الحرميان وأبو عمرو: بخلاف تزكى وتصدى، بشد الزاي والصاد؛ وباقي السبعة: بخفها. وتقول العرب: هللك في كذا، أو هل إلى كذا؟ فيحذفون القيد الذي تتعلق به إلى، أي هل لك رغبة أو حاجة إلىكذا؟ أو سبيل إلى كذا؟ قال الشاعر:
فهل لكم فيها إليّ فإنني | بصير بما أعيا النطاسي حذيما |
{وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبّكَ فَتَخْشَىٰ }: هذا تفسير للتزكية، وهي الهداية إلى توحيد الله تعالى ومعرفته، {فَتَخْشَىٰ }:أي تخافه، لأن الخشية لا تكون إلا بالمعرفة، { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاء } . وذكر الخشية لأنها ملاك الأمر،وفي الكلام حذف، أي فذهب وقال له ما أمره به ربه، وأتبع ذلك بالمعجزة الدالة على صدقه. {فَأَرَاهُ ٱلاْيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ}: وهي العصا واليد، جعلهما واحدة، لأن اليد كأنها من جملة العصا لكونها تابعة لها، أو العصا وحدها لأنها كانتالمقدمة، والأصل واليد تبع لها، لأنه كان يتقيها بيده. وقيل له { أدْخُلِ يَدَكَ فِى جَيْبِكَ } . {فَكَذَّبَ }: أيفرعون موسى عليه السلام وما أتى به من المعجز، وجعل ذلك من باب السحر، {وَعَصَىٰ } الله تعالى بعدما علمصحة ما أتى به موسى، وإنما أوهم أنه سحر. {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ }، قيل: أدبر حقيقة، أي قام من مكانهفاراً بنفسه. وقال الجمهور: هو كناية عن إعراضه عن الإيمان. {يَسْعَىٰ }: يجتهد في مكايدة موسى عليه السلام. {فَحَشَرَ }:أي جمع السحرة وأرباب دولته، {فَنَادَىٰ }: أي قام فيهم خطيباً، أو فنادى في المقام الذي اجتمعوا فيه معه. {فَقَالَأَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ }، قال ابن عطية: قول فرعون ذلك نهاية في المخرقة، ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم. انتهى.وإنما قال ذلك لأن ملك مصر في زمانه كان اسماعيلياً، وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم، وكأن أول من ملكهامنهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله، ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب الملعون بظهورالملكالناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن سادي، رحمه الله تعالى وجزاه عن الإسلام خيراً. {فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلاْخِرَةِوَٱلاْوْلَىٰ }، قال ابن عباس: الآخرة قوله: { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِى } ، والأولى قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ }.وقيل العكس، وكان بين قولتيه أربعون سنة. وقال الحسن وابن زيد: نكال الآخرة بالحرق، والأولى يعني الدنيا بالغرق. وقال مجاهد:عذاب آخرة حياته وأولادها. وقال أبو زرين: الأولى كفره وعصيانه، والآخرة قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلاْعْلَىٰ }. وقال مجاهد عبارة عنأول معاصيه، وآخرها: أي نكل بالجميع، وانتصب نكال على المصدر والعامل فيه {فَأَخَذَهُ } لأنه في معناه وعلى رأي المبرد:بإضمار فعل من لفظه، أي نكل نكال، والنكال بمعنى التنكيل، كالسلام بمعنى التسليم. وقال الزمخشري: {نَكَالَ ٱلاْخِرَةِ } هو مصدرمؤكد، كـ { وَعَدَ ٱللَّهُ } ، و { صِبْغَةَ ٱللَّهِ } ، كأنه قيل: نكل الله به نكال الآخرة والأولى. انتهى. والمصدر المؤكد لمضمونالجملة السابقة يقدر له عامل من معنى الجملة. {إِنَّ فِى ذَلِكَ }: فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذ، {لَعِبْرَةً }:لعظة، {لّمَن يَخْشَىٰ }: أي لمن يخاف عقوبة الله يوم القيامة وفي الدنيا. قوله عز وجل: {أَشَدُّ خَلْقاً أَمِٱلسَّمَاء بَنَـٰهَا رَفَعَ * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَـٰهَا * وَٱلاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَـٰهَا * أَخْرَجَ مِنْهَامَاءهَا وَمَرْعَـٰهَا * وَٱلْجِبَالَ أَرْسَـٰهَا * مَتَـٰعاً لَّكُمْ وَلاِنْعَـٰمِكُمْ * فَإِذَا جَاءتِ ٱلطَّامَّةُ ٱلْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ* وَبُرّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ * فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا * فَإِنَّ ٱلْجَحِيمَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ * وَأَمَّامَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ * فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِىَ ٱلْمَأْوَىٰ * يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ٱلسَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَـٰهَا *فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبّكَ مُنتَهَـٰهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُواْإِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَـٰهَا }. الخطاب الظاهر أنه عام، والمقصود الكفار منكر والبعث، وقفهم على قدرته تعالى. {أَشَدُّ خَلْقاً}: أي أصعب إنشاء، {أَمِ ٱلسَّمَاء }، فالمسؤول عن هذا يجيب ولا بد السماء، لما يرى من ديمومة بقائها وعدمتأثيرها. ثم بين تعالى كيفية خلقها. {رَفَعَ سَمْكَهَا }: أي جعل مقدارها بها في العلوّ مديداً رفيعاً مقدار خمسمائة عام،والسمك: الارتفاع الذي بين سطح السماء التي تليها وسطحها الأعلى الذي يلى ما فوقها، {فَسَوَّاهَا }: أي جعلها ملساء مستوية،ليس فيها مرتفع ولا منخفض، أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة. {وَأَغْطَشَ }: أي أظلم، {لَيْلَهَا }. {وَأَخْرَجَ}: أبرز ضوء شمسها، كقوله تعالى: { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَـٰهَا } ، وقولهم: وقت الضحى: الوقت الذي تشرق فيه الشمس. وأضيف الليل والضحىإلى السماء، لأن الليل ظلها، والضحى هو نور سراجها. {وَٱلاْرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ }: أي بعد خلق السماء وما فعلفيها، {دَحَـٰهَا }: أي بسطها، فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض. وقرأ الجمهور: {وٱلاْرْضِ }، {وَٱلْجِبَالَ } بنصبهما؛ والحسنوأبو حيوة وعمرو بن عبيد وابن أبي عبلة وأبو السمال: برفعهما؛ وعيسى: برفع الأرض. وأضيف الماء والمرعى إلى الأرض لأنهمايظهران منها. والجمهور: {مَّتَـٰعًا } بالنصب، أي فعل ذلك تمتيعاً لكم؛ وابن أبي عبلة: بالرفع، أي ذلك متاع. وقال الزمخشري:فإن قلت: فهلا أدخل حرف العطف على أخرج؟ قلت: فيه وجهان، أحدهما: أن يكون معنى {دَحَـٰهَا }: بسطها ومهدها للسكنى،ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها. والثاني: أنيكون أخرج حالاً بإضمار قد، كقوله: { أَوْ جَاءوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } . انتهى. وإضمار قد قول للبصريين ومذهب الكوفيين. والأخفش: أنالماضي يقع حالاً، ولا يحتاج إلى إضمار قد، وهو الصحيح. ففي كلام العرب وقع ذلك كثيراً. انتهى. {وَمَرْعَـٰهَا }: مفعلمن الرعي، فيكون مكاناً وزماناً ومصدراً، وهو هنا مصدر يراد به اسم المفعول، كأنه قيل: ومرعيها: أي النبات الذي يرعى.وقدم الماء على المرعى لأنه سبب في وجود المرعى، وشمل {وَمَرْعَـٰهَا } ما يتقوت به الآدمي والحيوان غيره، فهو فيحق الآدمي استعارة، ولهذا قيل: دل الله سبحانه وتعالى بذكر الماء والمرعى على عامة ما يرتفق به ويتمتع مما يخرجمن الأرض حتى الملح، لأنه من الماء. {فَإِذَا جَاءتِ ٱلطَّامَّةُ }، قال ابن عباس والضحاك: القيامة. وقال ابن عباسأيضاً والحسن: النفخة الثانية. وقال القاسم: وقت سوق أهل الجنة إليها، وأهل النار إليها، وهو معنى قول مجاهد. {يَوْمَ يَتَذَكَّرُٱلإِنسَـٰنُ مَا سَعَىٰ }: أي عمله الذي كان سعى فيه في الدنيا. وقرأ الجمهور: {وَبُرّزَتِ } مبني للمفعول مشدد الراء،{لِمَن يَرَىٰ } بياء الغيبة: أي لكل أحد، فيشكر المؤمن نعمة الله. وقيل: {لِمَن يَرَىٰ } هو الكافر؛ وعائشة وزيدبن علي وعكرمة ومالك بن دينار: مبنياً للفاعل مخففاً وبتاء، يجوز أن يكون خطاباً للرسول ﷺ، أيلمن ترى من أهلها، وأن يكون إخبار عن الجحيم، فهي تاء التأنيث. قال تعالى: { إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } .وقال أبو نهيك وأبو السمال وهارون عن أبي عمرو: وبرزت مبنياً ومخففاً، و{يَوْمَ يَتَذَكَّرُ }: بدل من {فَإِذَا }؛ وجوابإذا، قال الزمخشري: فإن الأمر كذلك. وقيل: عاينوا وعلموا. ويحتمل أن يكون التقدير: انقسم الراؤون قسمين، والأولى أن يكون الجواب:فأما وما بعده، كما تقول: إذا جاءك بنو تميم، فأما العاصي فأهنه، وأما الطائع فأكرمه. {طَغَىٰ }: تجاوز الحدفي عصيانه، {وَءاثَرَ ٱلْحَيَوٰةَ ٱلدُّنْيَا } على الآخرة، وهي مبتدأ أو فصل. والعائد على من من الخبر محذوف على رأيالبصريين، أي المأوى له، وحسن حذفه وقوع المأوى فاصلة. وأما الكوفيون فمذهبهم أن أل عوض من الضمير. وقال الزمخشري: والمعنىفإن الجحيم مأواه، كما تقول للرجل: غض الطرف، تريد طرفك؛ وليس الألف واللام بدلاً من الإضافة، ولكن لما علم أنالطاغي هو صاحب المأوى، وأنه لا يغض الرجل طرف غيره، تركت الإضافة. ودخول حرف التعريف في المأوى، والطرف للتحريف لأنهمامعرفان. انتهى. وهو كلام لا يتحصل منه الرابط العائد على المبتدأ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين، ولم يقدر ضميراً محذوفاً،كما قدره البصريون، فرام حصول الربط بلا رابط. {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ }: أي مقاماً بين يدي ربهيوم القيامة للجزاء؛ وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعاً عظيماً. قال ابن عباس:خافه عندما هم بالمعصية فانتهى عنها. {وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ }: أي عن شهوات النفس، وأكثر استعمال الهوى فيما ليسبمحمود. قال سهل: لا يسلم من الهوى إلا الأنبياء وبعض الصديقين. وقال بعض الحكماء: إذا أردت الصواب فانظر هواك فخالفه.وقال عمران الميرتليّ:
فخالف هواها واعصها إن من يطع | هوى نفسه تنزع به كل منزع ومن يطع النفس اللجوجة ترده وترم به في مصرع أي مصرع |
وقال الفضيل: أفضل الأعمال خلاف الهوى، وهذا التفضيل هوعام في أهل الجنة وأهل النار. وعن ابن عباس: نزل ذلك في أبي جهل ومصعب بن عمير العبدري، رضي اللهتعالى عنه. وعنه أيضاً: {فَأَمَّا مَن طَغَىٰ }، فهو أخ لمصعب بن عمير، أسر فلم يشدوا وثاقه، وأكرموه وبيتوه عندهم؛فلما أصبحوا حدثوا مصعباً، فقال: ما هو لي بأخ، شدوا أسيركم، فإن أمه أكثر أهل البطحاء حلياً ومالاً فأوثقوه. {وَأَمَّامَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ } فمصعب بن عمير، وقى رسول الله ﷺ بنفسه يوم أُحد حين تفرّقالناس عنه حتى نفذت المشاقص في جوفه، وهي السهام. فلما رآه رسول الله ﷺ متشحطاً في دمهقال: «عند الله أحتسبك»، وقال لأصحابه: «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما، وإن شراك نعله من ذهب». قيل: واسمأخيه عامر. وفي الكشاف، وقيل: الآيتان نزلتا في أبي عزير بن عمير ومصعب بن عمير، وقد قتل مصعب أخاه أباعزير يوم أُحد، ووقى رسول الله ﷺ بنفسه حتى نفذت المشاقص في جوفه. انتهى. {يَسْأَلُونَكَ }:أي قريش، وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة، إذ كان يتوعدهم بها ويكثر من ذلك، فنزلت هذه الآية. {أَيَّانَمُرْسَـٰهَا }: متى إقامتها؟ أي متى يقيهما الله ويثبتها ويكونها؟ وقيل: أيان منتهاها ومستقرها؟ كما أن مرسى السفينة ومستقرها حيثتنتهي إليه. {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا }، قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: كان رسول الله ﷺيسأل عن الساعة كثيراً، فلما نزلت هذه الآية. انتهى. والمعنى: في أي شيء أنت من ذكر تحديدها ووقتها؟ أي لستمن ذلك في شيء، {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ }. {إِلَىٰ رَبّكَ مُنتَهَـٰهَا }: أي انتهاء علم وقتها، لم يؤت علم ذلكأحداً من خلقه. وقيل: {فِيمَ } إنكار لسؤالهم، أي فيم هذا السؤال؟ ثم قال: {أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا }، وعلامة منعلاماتها، فكفاهم بذلك دليلاً على دنوها ومشارفتها ووجوب الاستعداد لها، ولا معنى لسؤالهم عنها. {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَـٰهَا}: أي لم تبعث لتعلمهم بوقت الساعة الذي لا فائدة لهم في علمه، وإنما بعثت لتنذر من أهوالها من يكونإنذارك لطفاً به في الخشية منها. انتهى. وهذا القول حكاه الزمخشري وزمكه بكثرة ألفاظه، وهو تفكيك للكلام وخروج عن الظاهرالمتبادر إلى الفهم، ولم يخله من دسيسة الاعتزال. وقرأ الجمهور: {مُنذِرُ مَن } بالإضافة. وقرأ عمر بن عبد العزيز وأبوجعفر وشيبة وخالد الحذاء وابن هرمز وعيسى وطلحة وابن محيصن وأبو عمر في رواية وابن مقسم: منذر بالتنوين. وقال الزمخشري:وقرىء منذرر بالتنوين، وهو الأصل والإضافة تخفيف، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال؛ فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، كقولك: هو منذرزيد أمس. انتهى. أما قوله: وهو الأصل، يعني التنوين، فهو قول قد قاله غيره ممن تقدم. وقد قررنا في هذاالكتاب، وفيما كتبناه في هذا العلم أن الأصل الإضافة، لأن العمل إنما هو بالشبه، والإضافة هي أصل في الأسماء. وأماقوله: فإذا أريد الماضي، فليس إلا الإضافة، فهذا فيه تفصيل وخلاف مذكور في علم النحو. وخص {مَن يَخْشَـٰهَا } لأنههو المنتفع بالإنذار. {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا }: تقريب وتقرير لقصر مقامهم في الدنيا. {لَمْ }: لم يقيموا في الدنيا، {يَلْبَثُواْإِلاَّ عَشِيَّةً }: يوم أو بكرته، وأضاف الضحى إلى العشية لكونها طرفي النهار. بدأ بذكر أحدهما، فأضاف الآخر إليه تجوّزاًواتساعاً، وحسن الإضافة كون الكلمة فاصلة، والله سبحانه وتعالى أعلم.